موسوعة فقه القلوب

التويجري، محمد بن إبراهيم

المقدمة

المقدمة إن الحمد للهِ نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ. إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته .. ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الصحيح الذي يرضيه إلَّا بعد معرفة ربه عزَّ وجلَّ .. ومعرفة أسمائه وصفاته .. ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة ثوابه وعقابه. إن التوحيد والإيمان، والعبادة والطاعة، أعظم حقوق الله على عباده، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق جميعاً، ليؤدوه لربهم جميعاً. وكما أن أعضاء الإنسان لا تتحرك إلا بوجود روحه، فكذلك هذا الكون وما فيه لا يتحرك إلا بأمر الله سبحانه، فهو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده أمر كل شيء، وفي قبضته كل شيء. وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله ومعرفته، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، ولا تمكن محبته المحبة الكاملة إلا بعد معرفته

والإعراض عن كل محبوب سواه. وكل من أحب الله أنِسَ به، ومن أحب غير الله عُذب به. وحاجات القلوب في الدنيا إلى التوحيد والإيمان أعظم من حاجة الأبدان للطعام والشراب، بل لا نسبة بينهما. وكل نقص خارجي في العمل سببه نقص الإيمان داخل القلب، لذلك فالذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة، لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة. والقلب إذا زاد نوره ينيب إلى الله، ويحب الطاعات، ويكره المعاصي، وبالإيمان بالله، وامتثال أوامره في كل حال يزداد نور القلب، وبالكفر والمعاصي يزيد ظلام القلب، فيحب المعاصي، ويكره الطاعات. والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وتلذذ بعبادة الله، وظهرت شعب الإيمان في حياته، وتعلقت روحه بحياة الملأ الأعلى، فأحبه الله، وأحبه من في السماء، وجعل الله له القبول في الارض. إن فقه القلوب هو الأصل الذي يقوم عليه فقه الجوارح، وفقه الجوارح بالنسبة لفقه القلوب كالذرة بالنسبة للجبل، وإن كان كلاهما مهماً، وكل واحد يكمل الآخر، فلا قبول لأي عمل إلا باجتماعهما. إلا أن فقه القلوب وهو التوحيد والإيمان وشعبه لم يجمع في كتاب شامل مستقل، بينما فقه الجوارح امتلأت به بطون الكتب ولله الحمد، فتعلم أكثر الناس الأحكام، ولكنهم قعدوا عن الأعمال بسبب ضعف الإيمان في القلوب، فكثر الجدل والخلاف، وقل العمل والإخلاص، وضعف اليقين. وسبب ذلك الجهل بفقه القلوب من التوحيد والإيمان .. والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعظمة خزائنه .. والعلم بوعده ووعيده .. وثوابه وعقابه. وهذه الموسوعة محاولة لسد هذا النقص، ورفع لذلك الجهل، وتكميل لذلك الفقه.

وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم الإيمان .. ثم تعلم الفضائل .. ثم تعلم الأحكام .. ثم العمل على وجه الإخلاص لله، والمتابعة لسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويرافق ذلك دعوة الناس إلى الله .. وتعليم المسلمين الإيمان والأحكام .. والتحلي بأحسن الأخلاق .. وكثرة التوبة والاستغفار: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى الله، كانت هذه الأعمال سبباً لدخول الجنة، وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى غير الله، كانت هذه الإعمال سبباً لدخول النار. وامتثال أوامر الله ورسوله في الظاهر فيها المشقة، ولكن هذه المشقة مثل القطرة، والراحة المخفية وراءها مثل البحر. واتباع الشهوات، وترك أوامر الله ورسوله، في الظاهر فيها الراحة، ولكن هذه الراحة مثل القطرة، والعذاب والمشقة المخفية وراءها كالبحر. ونور العلم، ونور الهداية، لا يحصلان إلا بالمجاهدة، أما المعلومات فيحصل عليها الإنسان بأي طريقة. ونور الإيمان كالكشاف يميز به المسلم بين الدنيا والآخرة .. وبين ما ينفع وما يضر .. وبين ما يحبه الله ويبغضه .. وحسب قوة النور تكون قوة الأعمال .. وحسن الأخلاق .. وتنوع الأعمال .. والشوق والرغبة في كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق. وقلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، فمن أقبل على الله أحبه الله، وأقبل بقلوب عباده إليه، ومن أعرض عنه أبغضه، وأعرض بقلوبهم عنه. وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وأحسن صفاته الإيمان والأعمال الصالحة، وشر صفاته الكفر والأعمال السيئة. والعلم غذاء العقول .. والذكر غذاء القلوب .. والعمل الصالح ثمرتهما ..

والعلم بدون الجهد يورث الجدل .. والعلم مع الجهد يورث العمل والوجل في القلب. والله عزَّ وجلَّ خلقنا لعبادته، وتكميل الإيمان، والأعمال، والأخلاق، والسنن، والواجبات، ولم يخلقنا لتكميل الأموال والشهوات والأشياء. وقد بين الله في القرآن أن أي أمة اعتمدت على الأسباب بدون الإيمان، أذلّها الله ودمرها كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والإحسان والتقوى والتوبة والأعمال الصالحة، أكمل الله له محبوباته في الآخرة من دخول الجنة، والفوز برضى الله ورؤيته، وظفر هناك في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ولا يمكن لأحد أن يعبر الصراط إلى الجنة إلا إذا اتصف بثلاث صفات وهي: أن يرضى بالله ربّاً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً. وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للخلائق كلها بيد الله وحده لا شريك له، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا. والدنيا كالظل للإنسان لا يمكن أن يدركه المرء ولو مشى الدهر كله، وقد فرغ الله من رزق كل مخلوق وقسمه: كمية ونوعية .. ومكاناً وزماناً .. لا زيادة ولا نقصاً. فنطمئن ونأخذه بالوجه الشرعي، ولا نطلبه بمعصية الله. والدنيا دار الحاجات، والجنة دار الشهوات، فنأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونقوم بأداء أوامر الله حسب الطاقة، والله سبحانه يكمل شهواتنا يوم القيامة في الجنة دار كمال النعيم. وفكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلق في هداية البشرية، وفكر أكثر المسلمين اليوم محدود في الأكل والشرب، والمسكن والمركب، والملبس والمنكح.

ونحن نتفكر في أحوال البيت ونصلح أحواله، ولا نتفكر في أحوال العالم، وكيف يأتي الدين الكامل في حياتهم .. ؟ وسوق الدنيا عمارته بالأموال والأشياء، والبيع والشراء، وسوق الدين عمارته بالإيمان والأعمال الصالحة التي ثمرتها السعادة في الدنيا والآخرة. وأخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله ودينه بشهوات نفسه، وأخسر منه من اشتغل عن ربه ونفسه بالناس ذماً وظلماً، وتجريحاً واحتقاراً. وإذا أكرمك الله بنعمة فاستعملها في طاعة الله قبل أن تفارقها أو تفارقك، وإذا وضع الإنسان جهده وماله تحت شجرة الطاعة كبرت وزادت، وإذا وضع جهده وماله تحت شجرة المعصية كبرت وزادت، فهل يستويان مثلاً؟. وإذا زاد الإيمان .. قويت الأعمال .. ثم صلحت الأحوال .. وإذا نقص الإيمان .. ضعفت الأعمال .. ثم ساءت الأحوال. وإذا قامت الأعمال في المساجد اختفت الجرائم من الأسواق، وسبب كثرة الجرائم أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في أبغض البقاع إلى الله وهي الأسواق التي يركز الشيطان فيها رايته. والمطلوب من كل مسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات التي أعطاه الله لنشر الهداية والدعوة إلى الله، حتى يعبد الله وحده لا شريك له. والواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كاملة لتستقيم على أوامر الله، وتتعلم جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتقيم العالم على الاستقامة على دين الله عزَّ وجلَّ. وبسبب ضعف الإيمان، وترك الدعوة إلى الله، صارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله جل جلاله .. وتقدم جهد الدنيا على جهد الدين .. ومحبوبات النفس على محبوبات الرب .. وتؤثر الشهوات على فعل الأوامر، وتطيع المخلوق وتعصي الخالق. وحين كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله، كانت كل يوم تنزل الهداية، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، وينتشر التوحيد، وينحسر الشرك.

والله عزَّ وجلَّ أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة، وأكثر المسلمين اليوم ترك الدعوة إلى الله، لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح، فالعابد ميدانه نفسه .. والداعي ميدانه كل الناس .. وكلاهما على خير .. لكن القطرة لا تقارن بالبحر، وكلاهما لازم. فالعبادة واجب الأمة، والدعوة وظيفة الأمة. ورحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع من في الأرض، وكيف نكون رحمة للعالمين وقد تركنا الكفار والمشركين والعصاة تائهين ضالين، منحدرين في أودية الكفر والفسق والفساد؟. ومن العجيب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من الهلاك، وهذا واجب، ونترك ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يغرقون في أودية الكفر والفسوق والعصيان، ويذهبون إلى النار بعد موتهم. إن من الخسارة الفادحة أن ينفق المسلم أوقاته وأمواله، وفكره ونشاطه، في سبيل الدنيا الفانية، غافلاً عن إصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والعمل بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة. والمسلم إذا لم يسلك طريق الأنبياء والمرسلين، لم يبق له إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين. ومن المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في شأن المخلوق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، فهلا ندعوه إلى الله، ونعلمه الدين، ليرضى عنه رب العالمين، ويكرمه بالجنة دار المتقين. إن جميع مشاكل العالم البشري تعود إلى عدم طاعة الله ورسوله .. ولحل جميع هذه المشاكل يجب علينا تحكيم القرآن والسنة، وأخذ العلاج منهما: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17]. إن الآيات الكونية .. والآيات القرآنية .. والسيرة النبوية .. وقصص الأنبياء

والرسل وأتباعهم .. من أقوى مصادر القوة الإيمانية .. وتحريك العاطفة الدينية لدى الإنسان. ولا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشعل بها مجامر القلوب، وتنير بها المظلم من الصدور التي انطفأ نورها وخمد في مهب الرياح والعواصف المادية. وإذا أقفرت قلوب الأمة من الإيمان بالله، وانقطعت عن مصدره، عاشت في الظلمات، وأصبحت جثة هامدة، تلعب بها الأمم ولا تبالي، لأنها فقدت روحها ومكانتها، وانقطعت عن مصدر عزها ومجدها. فصارت لا تقدم ولا تؤخر .. ولا تأمر ولا تنهى .. وترمى في أحضانها مزابل الأمم وقاذوراتها .. ولشدة سكرها تطير به فرحاً .. وتعتز بتملكه .. وتفخر بالتظاهر به .. وتربي أجيالها عليه .. وتبذل كل شيء في سبيل الدعوة إليه .. وتسقي فلذات أكبادها السم رطباً ويابساً، ظاهراً وباطناً، مع أن فيه حتفها وهلاكها، وفساد أحوالها، وغضب ربها ومولاها. إن طوفان الكفر .. وطوفان الشرك .. وطوفان البدع .. وطوفان المعاصي .. وطوفان اللهو واللعب .. وطوفان المال والشهوات .. قد عمّ مشارق الأرض ومغاربها .. وضرب بجرانه بين العامة والخاصة .. وأهل الحاضرة والبادية .. ونُزع لباس الإسلام، وأُجهز على روحه في كثير من أنحاء الأرض. وخاض كثير من المسلمين في مستنقعات العفن والرذيلة، وتمرغوا في وحل الفسق والفجور والفواحش بلا خوف ولا حياء ولا خجل. وأحسب أن أكثر الأرض قد فسد، وتلوث بالدم المسفوح، والجيف القذرة، والملاهي العفنة، وراجت البدع المحدثة، وفتحت أسواق اللهو واللعب والمعاصي والفجور في كثير من ديار المسلمين، ووفرت لها الأموال والطاقات، حتى ملأت البر والبحر، والسهل والجبل، وسقط ما لا يحصى من المسلمين قتلى وجرحى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

فوا أسفاه .. على ضياع الأوقات، وبعثرة العمر، وبعثرة الفكر، وبعثرة الجهد في الشهوات والمخازي، والقبائح والكبائر والفواحش، واتباع الشياطين. واحسرتاه .. لقد ظلت هذه الأمة تعاني من الجروح الدامية ما تعاني، وكلما التأم جرح انفجر جرح آخر. فهل يكفي أن تسكب العَبرات على مثل هذا الواقع الأليم؟. فمتى تؤوب هذه الأمة المسكينة إلى ربها؟. وماذا يبقى للأمة إذا تجردت من لباس الدين والأخلاق والحياء؟. واليوم نظرة عابرة إلى العالم الإنساني كافية لإلقاء الرعب في القلوب لو كانت هناك قلوب، فقد أسفر الصبح عن جيل راكع لشهواته لا لربه إلا ما رحم ربك، وكسرت أوامر الدين في كثير من البلاد. فهل يُترك الناس بلا واعظ ولا مذكر، يتردون في بحار الظلمات، ويسقطون في أودية الغي والفساد والشهوات، وينحدرون في آبار الضلال والظلام والهلاك، ويعيشون كالحيوانات والشياطين؟. وهل لهذا الوباء الذي عمّ وطمّ من سبب؟. وإذا عرفنا سببه فهل من علاج لهذا الجرح الذي انفجر؟ .. وهذا الوباء الذي انتشر؟ .. وهذا القصر الذي انهدم؟ .. وهذه القلعة التي تصدعت؟ .. وهذه السفينة التي أوشكت على الغرق .. ؟. أما لهذا الجرح من طبيب .. ؟. أما لهذا القصر من مالك .. ؟. أما لهذا البيت من حراس .. ؟. ألا يستحي البشر من كفران النعم؟ .. ألا يخافون من بطش الجبار .. ؟. أما لهم في سوق الدين من أرباح .. ؟. أنسوا أن الله خلقهم وكرمهم، وهداهم واشتراهم .. ؟. فما بالهم جفوا باب سيدهم ومالكهم، وتعلقوا بأذيال عدوهم .. ؟.

إن الأنبياء والرسل وأتباعهم لما عرفوا الحق آمنوا به، وعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، وهانت عليهم أنفسهم وأموالهم وأولادهم وشهواتهم وديارهم في سبيل دعوة الناس إلى ما أمرهم الله به، من الدين العظيم، والحق المبين، والصراط المستقيم. إن البشرية كافة كما يحتاجون إلى الهواء والماء والطعام كل آن، ولا يستثنى من ذلك أحد، ولا تستقيم لهم حياة إلا بذلك، فكذلك الناس كلهم أشد حاجة إلى الدين الحق الذي يبين علاقة المخلوقات بخالقها، وينظم علاقة المخلوق بالمخلوق، ويوفر لهم السعادة في الدنيا والآخرة، إذا حققوا مراد الله من خلقه بالإيمان به وعبادته وطاعته، واتبعوا كتابه الذي أنزله عليهم، ورسوله الذي أرسله إليهم، واستقاموا على دينه: في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. ولما عرف الأنبياء والرسل وأتباعهم قيمة الدين الحق، وأدركوا حاجتهم الماسة إليه، وحاجة البشرية إليه، هان عليهم كل شيء من أجله، واستطابوا المرارات والمكاره من أجله، وتسابقوا في سبيل الدعوة إليه، ونشر سننه وأحكامه، وسيطر ذلك على قلوبهم وعقولهم، واستغرق ذلك جل أوقاتهم. فصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب .. وأحسن العبادات والمعاملات .. وأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .. وحب الله ورسوله .. ورحمة المؤمنين .. والشدة على الكافرين .. وإيثار الإيمان والأعمال على الأموال والأشياء .. وإيثار الآخرة على الدنيا .. وتقديم أوامر الله على شهوات النفس .. وإيثار الآجل على العاجل، والهداية على الضلالة .. والحرص على دعوة الناس .. وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. واستهانوا بزخارف الدنيا وحطامها حين اشتاقت نفوسهم إلى لقاء الله، وقصور الجنة، وعلو الهمة.

فنشروا الإسلام في ربوع الأرض، وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها مبلغين لدين ربهم، متخلقين بأخلاقه وسننه. وبذلوا من أجل نشر الإيمان والهداية في العالم كل ما يملكون، حتى ألقى الإسلام بجرانه في الأرض، وأقبلت القلوب إلى ربها مؤمنة منقادة طائعة. وهبت رياح الإيمان عاصفة قوية طيبة مباركة في قلوب الناس، وقامت دولة التوحيد والإيمان والأعمال والأخلاق في نفوس البشر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وحققت الأمة بذلك مراد ربها منها بالإيمان به وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، والدعوة إليه، وتعليم دينه وشرعه، واستقاموا على ذلك حتى رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ضعف فيه إيمانهم، وقل فيه علمهم، ونقصت فيه أعمالهم، فأقبلوا على الدنيا، وزهدوا في الدين، فقصر بعضهم في العبادات، وظلم في المعاملات، وأساء في المعاشرات، وزهد في سنن الدين وآدابه وأخلاقه، وتخلق بأخلاق البهائم والشياطين. وانصرف بعضهم عن الاستفادة من أحكام الكتاب والسنة إلى أخبار الزهاد التي شغلت مجالس الوعظ والإرشاد، وامتلأت بها الكتب والأوراق. ثم انحدروا إلى القاع حين أقبل بعضهم على دراسة علوم الدنيا، وعلوم وآداب الأمم الكافرة الأخرى، وهجروا علوم القرآن والسنة، فضلوا عن طريق الحق والهدى، وساروا في دروب الغي والهوى. ثم جرفهم سيل الشهوات، واستعبدهم حب المال، وشغلهم ذلك عن امتثال أوامر الله، والعمل بشرعه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله. وسار كثير من المسلمين خلف اليهود والنصارى، يتكلمون بلسانهم،

ويقلدونهم في حياتهم، ويقتدون بفساقهم، ويتخلقون بأخلاقهم، ويشدون الرحال إلى ديارهم، ويتعلمون علومهم، ثم يرجعون بأخلاقهم وصفاتهم وطريقة حياتهم .. ويضعونها في صحن الإسلام، ويزرعونها في بستان الإيمان، لتكون قدوة للأنام، فتعلق الناس بها، وتسابق الأبناء والبنات إلى التخلق بها. فهل يكفي أن تذرف الدموع السخية على هذا السقوط المشين .. ؟. يا حسرة على العباد .. كم لعب الشيطان بعقولهم وأوقاتهم وأموالهم؟. وا أسفاه .. إلى متى يزحف الورى إلى الوراء، إلى جهنم وهم لا يشعرون؟. من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى إلى الورى؟. إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه، وعبادته، والدعوة إليه، وتعليم شرعه لعباده. إن مخالفة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم فيها منفعة ومصلحة لنا نحن المسلمين، حتى فيما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضراً بآخرتنا، أو بما هو أهم من أمور ديننا. ماذا يفيد الأمة علم كالبحار في السعة، وكالجبال في العظمة، والقلوب منه فارغة، والجوارح منه خالية، وأثره في الحياة مفقود؟. ماذا ينفع البشرية من علوم كالجبال، وأعمال كالذر، وسبب ذلك: التفقه لغير الدين .. والتعلم لغير العمل .. وأكل الدنيا بالدين .. والتجمل بالعلم أمام الناس .. وفقد الإخلاص. إن العلم الإلهي أعز شيء في الحياة، اصطفى الله له رسله، وعلمهم إياه، وأمرهم بتعليمه الناس، ليعبدوا الله وحده على بصيرة، فلا يؤخذ عليه أجر، ولا يكون حرفة يؤكل به حطام الدنيا، ويباع في الأسواق الرخيصة، وتقتل به الأوقات الثمينة، ويقدم للناس جسماً بلا روح، وإناءً بلا ماء، وألفاظاً بلا معنى. فمتى يشد العبد ركائبه إلى الرحمن وقد أفسد الأعداء عليه نيته وأعماله وأوقاته؟.

إنما الدنيا سوق واحد خرج الناس منها بما يضرهم أو ينفعهم، وخير المكاسب الطاعات، وشر المكاسب المعاصي، والناس في ذلك راتعون. والله عزَّ وجلَّ أرسل إلى الأمم السابقة أنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة، فكان منهم المؤمن والكافر. ثم إنه سبحانه بعث نبيه المصطفى المختار من جميع ولد آدم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وأرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن. فختم به الرسل .. ونسخ بملته جميع الملل .. وأرسله إلى خير الأمم .. وهي هذه الأمة .. بأحسن الشرائع وهي الإسلام .. وأنزل عليه أحسن الكتب .. بأحسن اللغات وهي العربية. وخصه سبحانه بهذا الدين الكامل .. والنعمة التامة .. واصطفاه على جميع الأنبياء والرسل .. فهو سيد الأولين والآخرين .. واتخذه خليلاً ورسولاً .. فلا نبي بعده .. ولا شريعة بعد شريعته إلى يوم القيامة. ولما كانت الدنيا ليست بدار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار، ومجاز إلى دار الخلود، وتبين أنه لا فائدة في الدنيا إلا بالإيمان بالله، والعلم بما أمر الله ورسوله به، والعمل به، وتعليمه الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ودعوة الخلق إليه، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. لذا فكل ما يتنافس فيه الناس من أمور الدنيا، وملاحقة الشهوات، واتباع الأهواء، وعبادة المال، كله غرور وباطل، يعرِّض العبد للعقوبة والألم، ويملأ قلبه بالوحشة والحسرة في الدنيا والآخرة. وأكثر ما يطالعه الناس سوى القرآن والسنة، وكلام سلف الأمة، من المكتوب والمسموع والمرئي، أكثره لغو وغثاء، وشغل للأوقات بما لايفيد، وليس فيه إلا تضييع الزمان، وتشتيت الأذهان، وجلب العداوة بين الإخوان، ومزاحمة كلام الرحمن، وسنة سيد الأنام، وعمارة الدنيا، والزهد في أعمال الآخرة، ونقل عوام المسلمين من اليقين والرغبة في العمل الصالح، إلى الشك والحيرة

والنفرة والسأم والملل، والعكوف على اللهو والشهوات، وإضاعة أوامر الله. لذا كان أفضل ما تُنفق فيه الأنفاس، وتشتغل به الأمة، وتصرف له الأفكار والأوقات، هو طاعة الله ورسوله، وإحياء سنن الحق في كل مكان، وإماتة طوالع الفجور والبدع: ببيان ما يرجو به المرء العاقل هدى الخلق .. وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل .. وإخراجهم بإذن الله من الظلمات إلى النور .. ببيان الحق الذي أمر الله به .. وهداية الناس إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً» أخرجه مسلم (¬1). ومن وفقه الله تبارك وتعالى لبيان ما تضاعف فيه الأجور، ويهتدي بسببه الجاهل والمغرور، ويستنير بنوره العاقل الرزين، فقد عرضه الكريم لخير كثير، وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم. وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، ولا يتأخر عن المنافسة في أرباحه إلا جاهل بالسلع وقيمتها. يا نائماً على فراش التقصير متى تفيق من هذا المرض؟. يا حسرة على العباد .. كم يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب، واللذات والشهوات؟. يا حسرة على المفرطين .. كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا؟. ما أكثر الغافلين عن ذكر الله .. وما أكثر المعرضين عن شرعه .. وما أكثر المخالفين لأمره .. وما أكثر من يستعملون نعمه في معصيته .. وما أكثر الراكعين ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

لشهواتهم .. الساجدين لأهوائهم .. المتعرضين لسخط ربهم. ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزاً عنيفاً حتى لا يتردى في أودية الهلاك والخسران لفعلنا، ولو كنا نملك أن نفتح العيون المغمضة جفونها عن طريق الحق حتى لا تسقط في الحفر لفعلنا. ولكن القلوب بيد الله .. يقلبها كيف يشاء .. وهو العالم وحده بمن يصلح للكرامة .. ومن يصلح للإهانة .. وحسبنا الدعوة والإشارة، والتصريح بالمودة والمحبة، والتلويح بالنصيحة، مع حسن الأدب، وخالص الدعاء بالهداية، والله بكل شيء عليم، يختص برحمته من يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. إن من البلاء العظيم أن ينثر الأعداء في ساحة المسلمين علوماً مسمومة .. وأفكاراً متباينة .. علوم كلها غث هزيل .. عسر الهضم .. يأكل الوقت .. ويميت القلب .. ويورث الشك والحيرة والجدل، ويدعو إلى الفسوق والعصيان. فهي بين علوم لا خير فيها .. وبين علوم لا ثقة بها .. وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئاً .. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها .. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها مع قلة نفعها .. فهي كلحم جمل غث على رأس جبل وعر .. لا سهل فيرتقى .. ولا سمين فينتقى. وقد نظرت بفضل الله في كثير من أمهات كتب الدين المعروفة النسب، فوجدتها عظيمة النفع جداً، ولكنها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا تظفر بكل المقصود منه، والمتوسط منها مبعثر الفوائد، عديم الترتيب، ناقص الأبواب. وأكثر الكتب التي نبتت في الساحة عدا كتب السلف الأخيار، والمتقين الأبرار، جلها كحاطب ليل، يجمع الغث والسمين، والصحيح والسقيم .. والمليح والقبيح .. بعضها تمحض للخير .. وأكثرها تمحض للشر واللهو والباطل .. وغيرها مما شاع وذاع .. وملأ الأسماع والأبصار. منها ما يهتم بالغرائب وشواذ المسائل .. ومنها ما يهتم بوجوه التفسير .. ومنها ما يهتم بسرد الأقوال في كل مسألة .. ومنها ما يهتم بالنحو والصرف .. ومنها ما

يعنى باللغة والأدب .. ومنها ما يعنى بالتاريخ والسير والقصص .. ومنها ما يهتم بالمنطق والقواعد .. ومنها ما يهتم بأحوال الرجال والجرح والتعديل .. إلخ. وهذا كله وإن كان في بعضه منافع وزيادة معلومات، إلا أن المقصود الأعلى، ومقاصد الشريعة العظمى من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله .. ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة وعده ووعيده .. وثوابه وعقابه .. وعبادته وطاعته .. وتعليم المسلمين أحكام دينهم .. ودعوة الخلق إلى الله .. كل هذا فوق ذلك بكثير، وأولى منه، بل هو أجل مقصود وما بينهما كما بين السماء والأرض. والمملوك ليس له أن يتصرف بنفسه ووقته إلا بإذن مالكه. والمؤسف أن كثيراً ممن يدعي العلم والفقه محترف أكول، هزيل في معرفة الأصول والفروع، يسير في تقريرها وهو راجل، يقول ما لا يفعل، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، تسبق أقواله أفعاله، لأنه مصاب بداء الجهل والعصبية. وقل من ركب متن الفقه فصار فارساً، وما أكثر ما حملت بطون الكتب من الغث والسمين، والذهب والطين، وملأت الساحة بالجيد والرديء، والحسن والقبيح، والطيب والخبيث. والناس يغرفون من هذا وهذا، وتظهر صفاتهم بموجب هذا وذاك، وتأتيهم النعم والمصائب بحسب هذا وذاك. وما أكثر المصنفات التي تصدع الرؤوس، وتفسد العقول، لا تزيد في الإيمان، ولا تبعث لطاعة الرحمن، فهي لا تساوي الورق الذي كتبت عليه، لأنها سيل من الأقوال والحكايات والشبهات التي تدع المسلم تائهاً حيراناً، تولد الغفلة والخصومة والتناحر، ولا تحرك القلوب والجوارح للطاعة والعبادة. هذا لون من العلم مكروه مرفوض يورث العلل والأسقام، وكثير من الناس راتع فيه، يجني منه كل فتنة وشر وسم، فيضر نفسه، ويضل أمته. فأما علم أصول الدين .. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله .. ومعرفة عظمته وجلاله .. ومعرفة آلائه ونعمه .. ومعرفة وعده ووعيده .. ومعرفة قضائه وقدره ..

ومعرفة دينه وشرعه .. ومعرفة اليوم الآخر، وما فيه من البعث والحشر .. والحساب والجزاء .. والجنة والنار .. ومعرفة قصص أنبياء الله ورسله، ونحو ذلك مما سماه الله في كتابه فقهاً وحكمة .. وعلماً وضياءً .. ونوراً وهدى .. ورحمة وشفاء ورشداً .. فقد أصبح بين أكثر الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً .. وجفاه أكثر الخلق إلا من رحم الله .. ومن عرفه عرفه معرفة مجملة لا توقظ القلوب الغافلة .. ولا تحرك الجوارح الساكنة. ولما كان هذا ثلماً في الدين، ونقصاً في اليقين، تولد بسبب الجهل به ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بالدين، ثم ضعف الدعوة إلى الله، ثم فشو الشر، ثم ركوب مطايا الباطل، ثم نزول المصائب، وتوالي الكوارث. لذا رأيت سده بما استطعت جمعه وتأليفه، وترتيبه وتهذيبه، ليكون منار هدى، وخزانة مملوءة بما لذ وطاب من غذاء القلوب والأرواح، وسلسيبلاً يزيل العطش والظمأ، وحادياً يحرك القلوب والجوارح، ويشوقها للعبادة، ويبعثها للطاعة، ويدفعها للتوبة من المعاصي. وهذا باب عظيم من العبودية، لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه وحلاوته ولذته، بكى على أيامه الأول. وأحسن ما ركبه الله في العقول والقلوب والفطر حسن التوحيد والإيمان بالله، وأحسن ما ركبه على الجوارح حسن الأخلاق والعمل الصالح. والناس في الدنيا والدين، والعلم والعمل، مستقل ومستكثر ومحروم. وأحسن ما تجمل به الخلق في الدنيا الإيمان والإحسان والتقوى، والعلم النافع، والعمل الصالح. وقد فاضت من كثير من أئمة العلم والدين في مختلف العصور علوم نافعة، وكلمات جامعة، ومسائل فريدة، وقواعد محكمة، وأصول نافعة مباركة، إلا أنها منثورة في بطون الكتب، مفرقة في الصحف، مغمورة بعيدة عن متناول من يريد الانتفاع بها عند الحاجة إليها، وهي غذاء لازم لكل إنسان، لا يتم نعيمه

وسروره وشفاؤه إلا بمجموعها. وقد يسّر الله لنا بمنّه وكرمه التقاط هذه الثمار اليانعة .. وجمع هذه الجواهر النفيسة .. وجلب هذه الحلي الثمينة .. من خزائن العلماء الربانيين .. وأهل التقوى والصلاح .. الذين قالوا وفعلوا .. ووصفوا واتصفوا .. وجاهدوا وصبروا. علماء أبرار يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه .. كل منهم يستنير بالكتاب والسنة .. ويعمل بالحق ويدعو إليه .. ليرى الناس الدين سهلاً ميسراً .. نقياً صافياً .. لم تكدره آراء أهل البدع والأهواء .. ولم تحرفه أيدي أهل السوء والنفاق. علماء أتقياء لكل منهم مواعظ وكلمات جامعة نافعة، قطفنا من أزهارهم، وجمعنا من ثمارهم، واقتبسنا من أنوارهم، وزينا الكتاب بما اصطاده الذهن من جواهر كلامهم، وما وعاه القلب من ألفاظهم، فعليهم رحمة الله وبركاته ما تعاقب الليل والنهار. وقد حرصنا على التقاط جواهر الفقه الأكبر المنثورة، واستخراج القول الأهدى سبيلاً، والأقوم قيلاً، بدلاً من عرض الأقوال التي يُغشى بها العوام، وتفتن الخاص والعام، ويضل بها ضعفة العقول والأفهام. إلى جانب ما في سردها وعرضها من الإطالة، وإضاعة الزمان، وإتعاب الفكر واليد واللسان، وفتح باب المراء والجدل، وتذكية أوار الفرقة والخلاف، وتسويق الآراء الشاذة التي مزقت الأمة، وجمعت بين التخليط والتخبيط، وركوب دابة العصبية والهوى. ولتمام الفائدة، وحصول المقصود، فقد جمعنا جواهر كل موضوع في مكان واحد، وألّفنا بينها في عقد واحد، حتى استوت مستقيمة تؤدي وظيفتها في خدمة الدين والعلم، تستلذ بها العقول، وتطمئن بها القلوب، وتعمل بها الجوارح.

وقد مزجنا كلامنا بكلام خيارنا من سلفنا الصالح، من علمائنا وعبادنا وزهادنا، وأهل التقوى والصلاح، حسب ما يقتضيه المقام، من تفصيل مجمل، أو اختصار مطول، أو تقديم أو تأخير أو تهذيب، أو استدلال أو تعليل. وجهدنا بالنسبة لعلومهم كالوعاء الذي يحمل المجوهرات والحلي والنفائس، ويهديها إلى الناس على مدى الدهور والأزمان. والعلم بحر لا ساحل له، والله يعلم أنني من أعجز الخلق عن ركوبه، والسير بأمان في دروبه، خاصة العلم الإلهي الذي بعث الله به رسله، وأمرنا بتعلمه وتعليمه والعمل به. ولكن الله برحمته بعث الهمة لجمع ما بين يديك، وهيأ الوقت لتحصيله، وشرح الصدر لطلبه، وحرك اليد لتحريره، ونشط العقل والفكر لجمعه وحسن عرضه. فله الحمد على ما قضى وقدر .. وله الحمد على ما خلق وأمر .. وله الحمد على ما يسر وأعان .. وله الحمد على ما يسر لمن كتب .. وساق من قرأ .. ووهب الأجر لهذا وهذا .. والله واسع عليم .. شكور حليم. يقبل التوبة من عباده .. ويرضى بالقليل من العمل .. وينعم بالثواب الجزيل من الأجر. أحمد ربي كثيراً على عظيم جوده وكرمه، ورحمته وإحسانه، إذ وفقني لإيثار ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الرب على ما تحبه النفس، وهداني لعبادته وطاعته، وساقني بأمره وكرمه ورحمته إلى ما تسرح في رياضه، وتتجول بين أزهاره وثماره، وتشرب من عذب مائه صافياً نقياً من الأكدار. فله الحمد كثيراً، كما ينعم كثيراً، ويعطي كثيراً، ويرحم كثيرًا. ولما جمعته وهذبته وحررته، جعلت أفكر باسمه، وبماذا أدعوه إذ وضعته أمه، فهداني من وفقني لرسمه بوسمه بـ (موسوعة فقه القلوب). أسأله تبارك وتعالى أن يجعله مباركاً خالصاً لوجهه، مطابقاً لاسمه. وقد جمعت فيه بفضل الله أقوال سلف الأمة في أصول الدين، ومقاصد الشريعة

العظمى، ليستبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والرشد من الغي، والخير من الشر. وقد توجت مسائله بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وزينتها بالبراهين العقلية، وبينتها بالأمثلة الحسية. ولم نذكر في هذه الموسوعة من الأحاديث إلا ما ثبتت صحته ونسبته إلى النبي (، وأعرضنا عن كل حديث ضعيف، أو موضوع، أو باطل، أو منكر، أو شاذ، ولا أصل له، ليبقى الذهب خالصاً، والمشرب صافياً، والبناء متيناً، والسلعة ثمينة. فجاء الكتاب بفضل الله محكم الفصول، محذوف الفضول، مقوياً للإيمان، محركاً للأعمال، مرغباً في أحسن الأخلاق، يطلق العقول من عقال الجهل والشك، ويطلق الجوارح لتعمل في ميادين الأعمال الصالحة. وقد يسر الله لي ولك هذا المختصر اليسير، منطوياً على العلم الغزير، وقد اجتهدت في جمعه وتيسير عرضه، فاجتهد وفقك الله في مطالعته وحفظه، والعمل بما فيه بعد فهمه، فلا خير في علم بلا عمل. وأحسب أن هذا المجموع المختار هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، لمن يريد الله والدار الآخرة، لما فيه من الآيات والأحاديث، وخلاصة أقوال العلماء الربانيين من سلفنا الأخيار. وهذا الكتاب محض فضل الله عزَّ وجلَّ، فهو سبحانه وحده الذي بعث الهمة لكتابته، ووفق وأعان على إخراجه، ويسر وصوله إلى الناس. يستهدي بإذن الله بسببه من ضل الطريق .. ويطمئن به الحائر التائه عن الصراط المستقيم .. يرتع في رياضه .. ويقطف من أزهاره وثماره .. فيعيش بين الخلق مسروراً .. ولربه عارفاً عابداً شكوراً. وقد أمضيت أكثر من ربع قرن، وأتبعت الليل بالنهار، والوقت بعد الوقت، في جمع وتحصيل وتحرير ما بين يديك، وآثرت ذلك على جميع اللذات التي

تميل إليها النفوس، وقيدت نفسي من أجله عن كثير من المناسبات، وجمعته واعتصرته من أكثر من ألف مرجع، وأطلت فيه فكري، وأتعبت نفسي، لينفع الله به من يشاء من عباده ممن يصل إليه. وقد بوبت أبوابه .. وفصلت مسائله .. وبسطت مجمله .. وحققت مشكله .. وعزوت آياته .. وخرجت أحاديثه .. وسلمته لكل مسلم. ليأخذ منه ما يحب وما يريد .. عفواً صفواً من غير كدر .. وأهديته إليه هنيئاً مريئاً .. ولعله أفضل له من كنوز المال إذا تدبره .. ويسره الله تعالى لاستعماله والانتفاع به. وأنا راجٍ بعد ذلك كله من الله سبحانه عفوه ورحمته، وعظيم الأجر، لمحبتي لله، ورغبتي في نفع عباده، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، وتقويم ما اعوج من حياتهم، والله عليم بذات الصدور، وهو الموفق والمعين إنه نِعم المولى ونِعم النصير. ولعلك تسعد وأنت تقلب هذه الموسوعة بما يسرك من علوم نافعة .. تم عرضها بألفاظ عذبة جميلة .. وجمل محكمة رصينة .. تحمل أفضل غذاء للقلوب .. وأحسن معانٍ للعقول .. تقبل بك إلى طاعة الرحمن .. وترغبك في الجنة والرضوان .. في جو مليح .. يسرك جماله .. ويبهرك برهانه. بعيداً عن كل ما تكرهه النفس، أو يجفل منه العقل، أو ينفر منه الطبع، من كلام هزيل، أو عرض سقيم، أو حشو ممل، أو نقص مخل، أو كلام له روائح كريهة، يؤلم القلوب والجوارح، ويمزق الأسر والقبائل، ويتركها إما أنعاماً لاهية، أو سباعاً جارحة، أو وحوشاً متناطحة، ليست من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة. وما بين يديك ذرة من جبل، وقطرة من بحر، تطلعك على عظمة الله جل جلاله، وعظمة ملكه، وعظيم إحسانه، وتكشف لك عظمة هذا الدين وجماله وكماله، ولعل في ولادته سعادة كاتبه وقارئه، ومستمعه وناشره: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

ولولا أن الله بعث الهمة لجمعه، ويسر تأليفه وتحريره، ما تجولت في حقوله، ولا تمتعت برياضه، فاحمد الله أن جعلك من عباده المؤمنين، واغتنم علماً سطره لك علماء الأمة الأخيار، ما ركضت رجلك لتحصيله، ولا بسطت يدك لتحريره، ولا سهرت عينك في تدوينه، ولا اعتل بدنك في طلبه، ولا تعب عقلك في جمعه وترتيبه وتحريره. وما أكثر غوامض المسائل التي تحتاج إلى التحرير والتقرير والنشر. مسائل كالجبال في العظمة .. وكالبحار في الظلمة .. وكالذر في الدقة .. كشف الله لك بهذه الموسوعة عن سرها .. فأشرقت بنورها .. وفاح عليك عبيرها وأريجها. فصار الجو صحواً .. والماء صفواً .. والمر حلواً .. والظلام نوراً .. والشك يقيناً. قد لاح النور من خلاله .. وفاح المسك من أركانه. فيا لها من نعمة ما أعظمها من الرب الكريم وحده، وهنيئاً لمن اغتنمها فتعلمها، وعمل بها، وعلمها: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. أسأله سبحانه أن ينفعني به، وينفع به الخاصة والعامة، وسائر المسلمين في أنحاء الأرض، وأن يجعله قرة للعيون، وبهجة للناظرين، ومسرة للطالبين. وقد منَّ الله علينا وعليك، فيسر لنا جمعه وتأليفه .. ويسر لك تملكه ومطالعته .. فدونك خمسة عشر قصراً .. لا من قصور الدنيا الفانية، بل من قصور الدين النافعة الباقية. ولكل قصر باب .. وفي كل قصر غرف واسعة .. مملوءة بما لذ وطاب من الأغذية النافعة .. والأدوية الشافية بإذن الله للعقل والقلب والجوارح. علوم تبعث الهمة والرغبة في النفس .. وتسكب الإيمان والطمأنينة في القلب .. وتحرك الجوارح للطاعة والعبادة .. وتثمر للعبد تعظيم الله ومحبته .. وحمده وشكره .. ودوام ذكره .. وحسن عبادته .. ورحمة الخلق .. والإحسان إليهم.

تم عرضها وتقديمها في عبارة موجزة .. جلية المعنى .. سهلة الفهم .. يزكو بها العقل .. ويطمئن بها القلب .. وينشرح لها الصدر. وهي أغلى من الدر والياقوت، ساقها الله إلينا من علماء أتقياء بررة، بذلوا من أجل إعلاء كلمة الله كل ما يملكون، فصار لكلامهم نور، وسُرَّ الخلق وانتفعوا بما يقولون. علماء ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الناس أطايب الثمار. وهذه نعمة .. وتلك نعمة .. وبينهما من المنافع والفضل كما بين السماء والأرض. ونظراً لكثرة الجمع والتأليف .. والتشذيب والتهذيب .. والتقديم والتأخير .. والبسط والاختصار .. والتقريب والتفهيم .. فقد تم نظم الفوائد والفرائد والمسائل .. لتكون عقداً من الجواهر في كل باب .. مما يتعذر معه نسبة كل قول إلى قائله، ويعسر نسبة كل مكتوب إلى كاتبه، لكثرة المسائل وتنوعها، وتداخلها وتكرارها، وبسطها واختصارها. وقد تكون من ذلك بفضل الله خمسة عشر عقداً من الجواهر النفيسة، والحلى الثمينة .. وهي هديتنا إليك .. وها هي بين يديك: الباب الأول: فقه أسماء الله وصفاته. الباب الثاني: فقه الخلق والأمر. الباب الثالث: فقه الفكر والاعتبار. الباب الرابع: فقه الإيمان. الباب الخامس: فقه التوحيد. الباب السادس: فقه القلوب. الباب السابع: فقه العلم والعمل. الباب الثامن: فقه قوة الأعمال الصالحة. الباب التاسع: فقه العبودية.

الباب العاشر: فقه النبوة والرسالة. الباب الحادي عشر: فقه الأخلاق. الباب الثاني عشر: فقه الشريعة. الباب الثالث عشر: فقه الطاعات والمعاصي. الباب الرابع عشر: فقه أعداء الإنسان. الباب الخامس عشر: فقه الدنيا والآخرة. وليس جمع ما بين يديك بالسهل اليسير، ولكن الله أعان عليه، فقد جمعناه بعون الله من بقاع شتى، واعتصرناه من فواكه شتى، واستخلصناه من بحار شتى .. ونحتناه من صخور شتى. ووفرت له أوقات .. وانبعثت له همم .. وتحركت له طاقات .. حتى كمل بناؤه .. وصار ماثلاً بين عينيك. ولولا توفيق الله وعونه ما تحركت له همة، ولا خطته اليد، أما وقد وصل إليك بفضل الله، فلا يكون حظك منه الإعجاب بأسلوبه وعرضه، والإعراض عن قلبه ولبه. فهو لعموم المسلمين .. لكنك المخاطب به .. وأنت المقصود منه .. وما كتب لأحد سواك، فأكرم الضيف الذي حل بك، وأكرم نزله بأداء حقه بما فيه، ونشره ونفع المسلمين به، رفع الله درجاتك في الجنان، وزينك بالتقوى والإيمان، ونفع بك المسلمين في كل مكان. وإنك سترى في الباب الواحد أحياناً من الأفكار والمسائل ما ترى أنه لو كان مفرقاً لكان أحسن، ليسهل فهمه وحفظه والعمل به، ولكنها طريقة القرآن في السور والآيات، أحكام مختلفة، وسنن متنوعة، جمعها الله في سورة واحدة، أو آية واحدة، لنفس واحدة، وهذا كما أنه موجود في العقليات فهو موجود في الحسيات كذلك. فإنك ترى بلا تكلف أنه يجمع لك ألوان الطعام في صحن واحد، وتقدم لك

ألوان الفواكه في سلة واحدة، فتقبل ذلك النفس وتتلذذ به، ويتغذى بذلك البدن، ويولد فيه كامل الطاقة البدنية. وكذلك العلوم والمعارف يستقبلها العقل، ويتلذذ بها على اختلاف أنواعها، ثم يحولها إلى القلب، ثم يدفعها القلب طاقة علمية وعملية إلى الجوارح، فجمع العلوم في الذهن كجمع ألوان الطعام في البطن، كلاهما شهي يولد الطاقة بحسب طيبه ونفعه. هذا يولد الطاقة البدنية .. وذلك يولد الطاقة العلمية والعملية. وقد لا يظهر لك المعنى أحياناً لأول وهلة، وقد تفهم منه خلاف المراد فيما يظهر، وقد تحملك قوة العاطفة وشدة الغيرة على الدين، على نبذ الكتاب كله، والشماتة بصاحبه، وتحذير الناس من مقولته. وقد يستخفك الشيطان، ويركض بك إلى النار وأنت لا تدري، فيدفعك لتحمل الآيات والأحاديث على ما لا تحتمله، وتستدل بها في غير موضعها، اتباعاً لهواك، وانتصاراً لرأيك، فتثور منك عجاجة من القول لها غبار ودخان. ولو صبرت قليلاً حتى تتم القراءة لزال اللبس، وبان لك الصواب، فما لا يظهر بنور الكوكب يظهر بنور القمر، وما لايظهر بنور القمر يظهر بضياء الشمس، وما قد يخفى على الإنسان في البداية قد يظهر له في النهاية، وإذا تجولت في المدينة عرفتها، وعرفت ما فيها من الطرق والسلع، ووصلت إلى ما تريد بأقصر طريق، لكن مع الصبر الجميل. وهكذا إذا أتم القارئ قراءة الكتاب أو المقال انكشف له ما التبس عليه، وهذه سنة كونية وشرعية، فإياك والعجلة فإنها تعقب الحسرة والندم: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114]. والخطأ والزلل، والضعف والتقصير، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، والكمال في كل شيء لله الواحد القهار. وقد هاجت حين إعداد هذه الموسوعة رياح عاصفة شديدة من الأعمال

والصوارف والطوارق، وأدركني التعب والسأم والملل لطول الطريق، وبعد المسافة، وكثرة المزالق، فضعفت العزيمة، وزادت الحسرة والألم، فيا لها من مصيبة وقعت في وسط هذا البحر الأعظم، أصابت مسكيناً لا يحسن الترحال بين جزائر هذا البحر الكبير، وليس معه نفقة تبلغه إلى مقصوده، فيا ليته عند أهله، وما اقتحم ما اقتحم. فما أحوج هذا المسكين إلى رحمة ربه وعونه وتوفيقه، وما أحوجه إلى أن يستغفر ربه من ذنوبه وعيوبه، ويتوب إليه من زلاته وعثراته. وما أجدره بشكر ربه على نعمه وآلائه وإحسانه، لعله يقبل فيعان، ويواصل السير، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، ويسلم البضاعة إلى أصحابها. هذا وإن الإخلاص عزيز .. وتحقيقه في كل عمل أعز .. خاصة فيما يجلب الشهرة للعبد من رئاسة أو مال أو علم، فهذه مطايا يبتلى بها الناس، وأهلها أول من تسعر بهم النار إن فقدوا الإخلاص الذي هو روح الأعمال. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في كل قول وعمل. ولولا أنه لا بد لكل شيء من مسمى .. ولكل مجموع من جامع .. ولكل مرسوم من راسم .. لتكمل الفائدة بالمقروء والمسموع .. وتتم النصيحة في الزلل والخطأ .. ويحصل الاتصال بين الكاتب والقارئ .. ويتحقق التعاون على البر والتقوى .. لولا ذلك لما قلدناه وأشعرناه بما يدل الناس علينا .. ويجعلهم ينسبون تأليفه وجمعه إلينا. فذلك كله محض فضل الله تبارك وتعالى، ولسنا علم الله له بأهل ولا كفؤ، ولكن الله كريم يجود بالخير على المقصرين، ويثيب على ذلك بالثواب المضاعف الجزيل، ولولا ذلك لما تجشمناه حتى صار مولوداً. نسأله عزَّ وجلَّ أن يقبله، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عموم الخلق في شتى الأقطار والديار، وأن يعفو عنا ما وقع فيه من زلل وخطأ ونقص غير مقصود، سببه الجهل والقصور البشري الذي طبع الله عليه كل إنسان.

ونسأله سبحانه أن يمحو زللنا بعفوه .. ويتجاوز عن سيئاتنا بمغفرته، وأن يعاملنا بإحسانه لا بعدله، إنه جواد كريم. ووددت أني خليت بين المطي وحاديها .. وتركت القوس وباريها .. وما تجهمت ما لست له بأهل .. وما ليس لي فيه ناقة ولا جمل .. ولكني رأيت سوق الباطل رائجة، وساحة الحق راكدة، فألقيت حسب استطاعتي بذرة طيبة .. في أرض زاكية .. لعلها تؤتي أكلها كل حين .. حتى يبعث الله من يزرع البساتين .. ويفجر الأنهار في العالمين. ولولا واجب النصيحة، وأداء للأمانة، وخوفاً من كتمان العلم عن طالبيه والراغبين فيه، لما تجشمنا لك ما بين يديك، ولسعينا في كسب الأجور من أبواب أخرى، سهلة المرتقى، سهلة الأداء، ولا يلحقها تبعات. وما نرجوه بأداء الأمانة النجاة والسلامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160]. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرقينا وإياكم من العلم إلى العمل، ومن الوصف إلى الاتصاف، وأن يزينّا بزينة الإيمان، ويرزقنا عالي الجنان. وما أودع بفضل الله في هذه الموسوعة من الجواهر والنفائس، فللقارئ غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وله ثمرته ومنفعته، ولصاحبه كدره ومشقته، مع تعرضه لطعن الطاعنين، وسهام الراشقين، وأستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين، والله المستعان، وعليه التكلان. وكل ما نرجوه بهذا العمل أن يعرف الناس ربهم .. ويعرفوا حقه .. ويعبدوه حق عبادته .. ويطيعوا الله ورسوله .. ويسيروا على هداه .. ليفوزوا برضاه، ويدخلوا الجنة. نسأل الله الملك الوهاب أن ينفع به عموم الناس في سائر الأقطار، وأن يجعله

خالصاً لوجهه الكريم. ولا ندعي أن هذا الكتاب نور يبدد كل الظلمات .. ولا بستان فيه من كل الثمرات .. فهو وإن كان فيه بعض ذلك .. إلا أنه يبقى جهد مخلوق ضعيف ظلوم جهول، يسر الله له وضع أساسه، حتى يأتي من يكمله إلى شرفاته. ولولا فضل الله ورحمته ما ظهر لك نوره، وإن كانت بين يديك سطوره، ولكن نسأله سبحانه أن يجعله قبساً من نور، وشجرة مباركة تثمر على مر الدهور، وشمساً تضيء على مر العصور، ونهراً يشرب منه كل عطشان في كل زمان ومكان، ومعولاً يتصدع به جدار الباطل، وتتهدم به حصون الشهوات والشبهات والشكوك. فيزداد المؤمن الموحد إيماناً، فيعظم ربه كثيراً، ويذكره كثيراً، ويحمده كثيراً. ويحصل للكافر الإيمان بعد الكفر، واليقين بعد الشك، والهدى بعد الضلال. ويقبل العاصي على ربه فرحاً مسروراً، وعلى معاصيه نادماً، وإلى طاعة ربه مسارعاً. وفي الختام أحمد ربي وأشكره على جزيل نعمه، وأستغفره من كل زلل وخطأ وقع في بعض المسائل المسطورة من غير قصد، إنه هو الغفور الرحيم. وأعوذ بالله العلي العظيم من شر كل حاسد يريد أن يطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ونعوذ بالله من شر كل جاهل غشوم .. ومن شر كل حاسد إذا حسد .. ومن شر النفاثات في العقد .. ومن شر كل ما خلق .. ومن شر ساكن البلد .. ومن شر كل والد وما ولد. ونعوذ به سبحانه أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو نقول على الله بلا علم، أو ندعو إلى غير الحق، أو نقول ما لا نفعل. ونعوذ بالله ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، فهو دائماً يبدي في الملامة ويعيد، ويكرر العذل فلا يفيد ولا يستفيد.

وعياذاً بك اللهم من كل شيطان في جثمان إنسان، ومن كل عدو في صورة ناصح، ومن كل لئيم في صورة كريم، ومن كل سبع ضارٍ في صورة إنسان بار. فالله سبحانه قد ركب في النفس الإنسانية قوىً مختلفة: فمنها قوة العدل الذي يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق. ومنها قوة الغضب والشهوة اللذان يزينان لها الجور والظلم، ويعميانها عن طريق الرشد. ومنها قوة الفهم الذي يليح لها الحق من قريب، وينير لها ما في الظلمات، فترى الحق واضحاً جلياً. ومنها جهل يطمس عليها الطريق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتقلب، ويهجم بها على الطرق المجانبة للحق والهدى. ومنها قوة التمييز الذي به تفهم الخطاب، وتعرف به الأشياء على ما هي عليه. ومنها قوة العقل الذي يعين النفس المميزة على نصرة العدل، وإيثار الحق، وكراهية الباطل، ورفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية. وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. ومن عثر على شيء مما طغى به القلم، أو زلت به القدم، فليبادر إلى النصيحة .. ويدرأ بالحسنة السيئة .. ويعفو ويصفح عن عثرات الضعاف .. ويحضر بقلبه أن الإنسان مهما كان هو محل الخطأ والنسيان، والضعف والنقصان .. وأن الحسنات يذهبن السيئات .. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. واحذر من الشيطان أن ينقلك من روضة الدعاء والنصيحة إلى بحر العداوة، وسكين الغيبة والنميمة، وسوء الظن، فتلدغ لدغ العقرب، وتلسع لسع الحية، وتنهش نهش الأسد. وتقذف بهذه السموم في مقال مقروء، أو بيان متلو، يوهمك الشيطان أنك ناصح، ويركبك وأنت لا تدري، ويسوقك إلى جهنم بعصا الكبر والخديعة،

لتقول على لله بلا علم، وتذم الخلق بما ليس فيهم، فتزيد آثامك، ويأخذ الناس حسناتك، وتقدم على الله مفلساً نادماً. وكل ما نرجوه ونسعى إليه .. أن يرضى الله عنا وعن جميع الخلق .. وأن يستعملنا فيما يحبه ويرضاه .. وأن يرزقنا جميعاً الاستقامة على عبادته وطاعته والعمل بشرعه .. وأن يدخل الناس في دين الله أفواجاً .. ويعرفوا ربهم .. ويتعلموا أحكام دينهم .. ويعبدوا ربهم مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .. وأن يرزقنا بعد ذلك الجنة .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]. هذا وإني ذاكر وشاكر لكل مخلص وناصح من المؤمنين والمؤمنات، وراغب إليهم أن يستفيدوا من هذا الروض المبارك، الذي وفقنا الله لجمعه من أقوال علماء سلف الأمة عليهم رحمة الله، جمعنا فيه ما تفرق في غيره من فقه القلوب، من التوحيد والإيمان، والأعمال والأخلاق، وفقه الدنيا والآخرة. فخرج الكتاب بفضل الله وعونه مملوءاً بالخيرات .. محبباً للطاعات .. دافعاً للشبهات .. مرغباً في الصالحات .. متوجاً بالآيات القرآنية .. مزيناً بالأحاديث النبوية. يستريح المسلم في ظلاله، ويأكل من ثماره، ويقدم على مولاه بما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأعمال والأخلاق. وما بي أن أثني على الكتاب، فليس لي حق في ذلك، ولكنه الترغيب والتشويق حتى يركض الفارس في الميدان، ويسارع لطاعة ربه الرحمن، ثم يحكم بما ظهر له وبان، ويستقيم على ما يحبه ربه ويرضاه مع السابقين الأبرار. وذلك ما نتمناه ونحبه لكل إنسان من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، على مر الأيام والدهور. فالحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى .. والحمد لله على كل حال .. والحمد لله الذي يسر الجمع والتأليف .. وبعث الهمة لذلك .. وشرح الصدر

للبدء والختام. وقد جاء الكتاب بفضل الله وحده جامعاً نافعاً، لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب، فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك مغفرة وعذراً، فكلنا مطبوع على الخطأ، وخير الخطائين التوابون. وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، وكلنا ظلوم جهول، ولله يعفو عنا وعنكم، والله سبحانه وحده الذي استأثر بالكمال والجمال، واختص بالحمد والثناء، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وهو عالم السر والخفيات، ودافع الشر والبليات. نحمده جل وعلا على آلائه وإنعامه وإحسانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السموات والأرض وما بينهما، حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه. ونستغفره عزَّ وجلَّ من كل ما زلت به القدم، أو طغى به القلم .. ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا .. ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه ثم خالطه غيره .. ونستغفره من كل وعد وعدناه من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به. ونستغفره سبحانه من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته .. ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف أمام الناس. ونرجوه بعد الاستغفار من ذلك كله أن يغفر لنا ولوالدينا، وأزواجنا وذرياتنا، ولمن طالع كتابنا هذا أو سمعه أو نشره، ولكل مسلم ومسلمة، وأن يتجاوز عن سيئاتنا جميعاً، إنه جواد كريم. كما نرجوه سبحانه أن لا يعاملنا بما نستحقه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا وأعمالنا طرفة عين، وأن يتفضل علينا بما هو أهله من جوده وكرمه ورحمته، إنه شكور حليم غفور رحيم. اللهم كما بعثت الهمة لتأليفه وجمعه .. ووفقتنا لعرضه ونشره .. فأسألك اللهم بأسمائك الحسنى .. وصفاتك العليا .. وبكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وأن تتقبل هذا

العمل، وتكتب له الأثر في القلوب، وتشرح له الصدور. وأن تحرك بما فيه من خير ألسنة العباد بذكرك وشكرك، وتعليم شرعك، والدعوة إلى دينك، وتملأ قلوبهم بتعظيمك وتكبيرك وحمدك، وتزين جوارحهم بعبادتك وطاعتك، وفعل كل ما يرضيك. فأنت أحق مَن عُبد .. وأحق من شكر .. وأرحم من ملك .. وأجود من سئل .. فلك الحمد في الأولى والآخرة .. ولك الشكر على عظيم نعمك، وجزيل عطائك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على هديهم إلى يوم الدين. كتبه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري المملكة العربية السعودية: بريدة 0555144300 - 0504953332

الباب الأول فقه أسماء الله وصفاته

الباب الأول فقه أسماء الله وصفاته ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته 2 - فقه عظمة الرب 3 - فقه قدرة الرب 4 - فقه رحمة الرب 5 - فقه علم الرب 6 - فقه جمال الرب 7 - فقه أسماء الله الحسنى 8 - فقه صفات الله وأفعاله 9 - فقه أحكام الأسماء والصفات 10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته

1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة: 98، 99]. العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأجلها وأعظمها على الإطلاق. والعلم بالله تبارك وتعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من أسمائه وصفاته على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، وعلى ما يأمر به من السنن والآداب، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته. فأفعاله كلها دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة. والإيمان بالله أحد أركان الإيمان، بل هو أفضلها وأصلها، وأعظمها، وليس الإيمان مجرد قول باللسان من غير معرفة بالرب وأسمائه وصفاته. بل حقيقة الإيمان: أن يعرف العبد الرب الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه وإحسانه، حتى يبلغ درجة اليقين، وكلما ازداد معرفة بربه زاد إيمانه، وكلما نقص نقص إيمانه. والله عزَّ وجلَّ خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه ويوحدوه، وهذه هي الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد، وتركه إهمال لما خلق له. ولا يليق بالعبد الذي لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه، أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. إن معرفة الله تبارك وتعالى تدعو إلى محبته وتعظيمه، وخوفه ورجائه، وخشيته، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد.

ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، وفقه معانيها. والاشتغال بهذا العلم، وبذل الجهد لفهمه، والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أعظم وأشرف المواهب. فينبغي للعبد أن يعرف أن ربه هو الواحد الأحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ... [الشورى: 11] وأنه سبحانه الرب ... وكل ما سواه مربوب وهو الملك ... وكل ما سواه مملوك وهو الخالق ... وكل ما سواه مخلوق وهو القوي ... وكل ما سواه ضعيف وهو العزيز ... وكل ما سواه ذليل وهو الغني ... وكل ما سواه فقير وهو الرزاق ... وكل ما سواه مرزوق فله سبحانه الاسماء الحسنى، والصفات العلى، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعالة: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. وله جل جلاله صفات الكمال .. وصفات الجلال .. وصفات الجمال {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وهذه المعرفة هي غذاء القلوب، وبها تزكو النفوس، وتطمئن القلوب، وتنشط لطاعة الله بذكره ومحبته وعبادته، وتعظيمه وتكبيره، وحمده وشكره.

2 - فقه عظمة الرب

2 - فقه عظمة الرب قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]. الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته، العظيم في أسمائه، العظيم في صفاته، العظيم في خلقه وأمره، العظيم في دينه وشرعه، العظيم في ملكه وسلطانه. وهو سبحانه العظيم الذي خلق المخلوقات، وأوجد الموجودات، وصور الكائنات، وخلق الأرض السموات. وهو سبحانه القدير الذي قدر الأقدار في السموات والأرض، وكل شيء عنده بمقدار: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]. وهو سبحانه القوي الذي خضعت الأعناق لعظمته، وخشعت الأصوات لهيبته، وذل الأقوياء لقوته، وقهر الخلائق بقدرته. وهو سبحانه الملك المتفرد بالخلق والإيجاد، والتصريف والتدبير، كل يوم هو في شأن، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وهو سبحانه الغني الذي يرزق الخلائق، ويهب الأولاد، ويقسم الأرزاق، ويرسل الرياح، وينزل المياه، ويجيب المضطر، ويكشف السوء، ويطعم

الخلق، ويدبر الأمر. يفعل ذلك كله متى شاء .. وفي أي وقت شاء .. وبأي قدر شاء. وهو سبحانه الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، الجبار الذي قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بعظمته، القاهر فوق عباده، القاهر لهم على ما أراد، الفعال لما يشاء. وهو سبحانه القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه شيء، ولا يعزب عنه شيء، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، المحيط بكل شيء، العالم بكل شيء، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. له الخلق والأمر، وأمره بين الكاف والنون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. والله تبارك وتعالى له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو الغني الذي له خزائن السموات والأرض، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. مالك الملك، يعز من يشاء، ويذل من يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26، 27]. وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، لا إله غيره ولا رب سواه، مالك كل شيء، ورب كل شيء. له وحده ربوبية الخلق والإيجاد والتدبير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ

شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وله وحده ربوبية التعليم والإرشاد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]. وله وحده ربوبية التمليك والإمداد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وله وحده ربوبية التسخير: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} ... [لقمان: 20]. وله وحده ربوبية التكريم والاستخلاف: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]. فما أعظم هذا الرب العظيم الكريم الرحيم الذي هذا فعله .. وهذا خلقه .. وهذا فضله .. وما أكرمه .. وما أرحمه بعباده. وهذا عطاؤه في الدنيا لمن أطاعه وعصاه، ومن آمن به ومن كفر به، فكيف يكون عطاؤه وإكرامه في الآخرة لأهل طاعته؟. {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. وكيف يكون عذابه وجزاؤه في الآخرة لمن عصاه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. وهو سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، والعظمة والكبرياء من خصائص الرب عزَّ وجلَّ، والكبرياء أعلى من العظمة، ولهذا جعلها سبحانه بمنزلة الرداء، كما جعل العظَمة بمنزلة الإزار.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ» أخرجه مسلم (¬1). والله جل جلاله عظيم لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]. وحين جاء موسى - صلى الله عليه وسلم - لميقات ربه، تشوفت روحه واشتاقت نفسه لرؤية ربه، فطلب من ربه أن ينظر إليه، فأعلمه الله أنه لا يطيق أن يراه، وأمره أن ينظر إلى الجبل الذي هو أمكن وأثبت وأكبر من الإنسان، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً. ومن رهبة الموقف خرّ موسى صعقاً، فغُشي عليه، وغاب عن وعيه كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: 143]. سبحانك تنزهت وتعاليت أن تُرى بالأبصار وتُدرك، تبت إليك من تجاوز المدى في سؤالك، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك، وبما أنزلته من كلمات. والله سبحانه هو الخلاق العليم، الذي خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، وخلق البر والبحر، وخلق السهول والجبال، وخلق الإنس والجن، وخلق الروح والملائكة، وخلق الجبال والرياح: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. والله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء، خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وهو مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه، ويسمع كلامهم، ويعلم أحوالهم، ويدبر أمورهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2620).

مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} ... [المجادلة: 7]. فهذه المعية العامة لعموم الخلق. أما المعية الخاصة فهي لعباده المؤمنين، وتكون بالنصرة لهم، والتأييد والمعونة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل:128]. وهو سبحانه العلي العظيم، الذي علوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل عُلُوَّه، وكلاهما حق، فمعيته لعموم العباد بالعلم والإحاطة، ومعيته للمؤمنين معية القرب التي تتضمن الموالاة والنصر، والحفظ والإعانة. والله جل جلاله هو مالك الملك وحده، ومالك الكون بلا شريك، يُملِّك من شاء من ملكه تمليك العارية، يستردها مالكها ممن يشاء، عندما يشاء، فليس لأحد مُلكية أصيلة يتصرف فيها على هواه، إنما هي ملكية معارة له، خاضعة لشروط المملِّك الأول وتعليماته، فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً حسناً موافقاً لأمر الله أسعده الله في الدنيا والآخرة. وإن تصرف في الملك تصرفاً سيئاً مخالفاً لأمر الله وقع هذا التصرف باطلاً، يحاسب ويعاقب عليه ممن ملّكه إياه. والله وحده هو الذي يدبر أمر الكون كله، وأمر البشر كلهم، في كل مكان، وفي كل زمان: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} ... [آل عمران: 26، 27]. والله سبحانه بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، فالخسوف والكسوف، والبراكين والزلازل، والرياح والعواصف، وسائر القوى الكونية كلها بيد الله وحده، وليس في أيدي البشر منها شيء، وكل ما يبنيه الناس على ظهر الأرض

تذهب به رجفة من رجفاتها، أو إعصار من أعاصيرها بأمر الله الواحد القهار. إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه بيد خالقه، وقواه من إمداده، وهذه القوى تسير وفق أمره سبحانه، ويقف الإنسان أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيراً، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى، ويتطلع إلى عونه في مواجهتها. وحين ينسى الإنسان هذا، ويغتر وينخدع بما قسم الله له من العلم والقدرة على تسخير بعض قوى الكون، فإنه يصبح مخلوقاً مسيخاً مقطوعاً عن العلم الحقيقي، ويخلد إلى الأرض، بينما العالم المؤمن كله راكع لربه الجليل. إن جميع قوى الكون الهائلة تلجئ الإنسان الجاءً إلى موقف العجز والتسليم للخالق العظيم. إن الله مالك الملك، استخلف هذا الإنسان في هذه الأرض، ووهبه من القوة والقدرة والعلم ما يشاء، والله كالئه وحاميه، والله رازقه ومعطيه، ولو تخلت عنه يد الله لحظة لسحقته أقل القوى المسخرة له، ولأكله الذباب، وما هو أصغر من الذباب، ولكنه بإذن الله مكلوء محفوظ مكرم من بارئه وفاطره. والله تبارك وتعالى هو العظيم وحده، والعظيم هو الموصوف بكل صفة كمال، ولا يستحق ذلك إلا الله وحده. ومن عظمته سبحانه أن السموات السبع والأرضين السبع في يد الرحمن أصغر من الخردلة، فهو سبحانه العظيم الذي يستحق من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وذلك لا يكون إلا بعد معرفته بأسمائه وصفاته. ومن تعظيمه سبحانه أن يُتقى حق تقاته، فيُطاع ولا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. ومن تعظيمه سبحانه تعظيم كل ما شرعه من زمان ومكان وأقوال وأعمال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. ومن تعظيمه سبحانه ألا يعترض على شيء مما خلقه وشرعه، ولا على شيء

مما قضاه وقدره، ولا على شئ مما أحله وحرمه. ومن تعظيمه سبحانه توقير رسله، والعمل بما جاءوا به. ومن تعظيمه سبحانه تعظيم حرماته: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. ومن تعظيم الله معرفة عظمته وجلاله، وجبروته وكبريائه، وآلائه وإحسانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]. ومن تعظيمه سبحانه عبادته وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والذي يُّحمد ويُمدح ويعظّم في الدنيا لأحد وجوه أربعة: إما لكونه كاملاً في ذاته وأسمائه وصفاته، منزهاً عن النقائص والآفات .. وإما لكونه محسناً إليك .. وإما لكونك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل .. وإما لأنك خائف من قهره وقوته وكمال سطوته. فهذه الجهات الموجبة للتعظيم بين البشر. والله وحده هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، وهو المحسن إلى جميع خلقه، وهو الذي يرجى دوام إحسانه، وهو القاهر فوق عباده، القاهر لجميع مخلوقاته. فحقه سبحانه أن يُعبد وحده لا شريك له، وأن يُطاع أمره، وأن تُطاع رسله، وأن يُعمل بشرعه، وأن يُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. وإذا أردت أن تقف على معرفة شيء من مبادئ عظمة الله وجلاله وكبريائه، فانظر في آياته ومخلوقاته في السماء والأرض، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق سبحانه، واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام وعالم الأرواح، وعالم الغيب، وعالم الشهادة، وما تبصره، وما لا

تبصره، وما خلقه الله في الدنيا، وما خلقه الله في الآخرة. وذلك بأن تبدأ من نفسك فتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة، والظاهرة والباطنة، وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية التي وهبك الله سبحانه. ثم استحضر في عقلك جميع ما في هذا العالم من أنواع المعادن والتراب، والنبات والحيوان، والإنس والجان. ثم ضم إليه ما خلق الله سبحانه من البحار والجبال، والمفاوز والتلال، وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء. ثم ترقَّ منها إلى بحر الهواء وما فيه من الطيور السابحات كما تسبح الأسماك في بحر الماء، غادية ورائحة، صاعدة وهابطة. ثم ترقَّ منها إلى السماء الدنيا، وانظر إلى عظمتها وجمالها واتساعها، وكيف زينها الله عزَّ وجلَّ بالنجوم والكواكب المنثورة التي لا تحصى، فهل ترى فيها من فطور: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. ثم ترقَّ من سماء إلى سماء لترى عظمة صنع الله الذي أتقن كل شيء. ثم ترقَّ بعقلك وفكرك حتى تصل إلى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، وما يطوف به من الملائكة، واللوح والقلم، والجنة والنار، والعرش والكرسي ترى مَلكاً لا أعظم منه، ومُلكاً لا أعظم منه، وخلقاً لا أعظم منه. ثم انتقل من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح، واستحضر في عقلك جميع الأرواح العلوية والسفلية، البشرية وغير البشرية. ثم استحضر جميع الأرواح المتعلقة بالوحي والنبات والجبال والبحار والمياه والأرحام والأقوال والأفعال. ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا، وملائكة جميع السموات السبع، تجد ما في السموات السبع موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد لربه: {وَلَهُ

مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} ... [الأنبياء: 19، 20]. ثم استحضر جميع الملائكة الذين يطوفون بالبيت المعمور فوق السماء السابعة، ولكثرتهم من طاف به منهم لا يعود إليه. ثم استحضر ملائكة الجنة، وخزنة النار، وكثرتهم وعظمة خلقهم. ثم استحضر جميع الملائكة المقربين، والحافين حول العرش، وجميع حملة العرش، وانظر إلى عظمتهم، وعظمة العرش الذي يحملون، وعظمة التسبيح والتقديس الذي به يتلذذون: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. والعرش أعظم المخلوقات وأعلاها وأوسعها، وما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة، والعرش لا يقدر قدره أحد، ولا يعرف عظمته إلا الذي خلقه، والله بعظمته وجلاله وكبريائه مستوٍ على العرش بأعظم الصفات وأوسعها وهي صفة الرحمة كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وإذا عرفنا أن عظمة العرش في مقابل عظمة الله كالذرة بالنسبة للجبل، علمنا أن خالق هذا الكون، وفاطر هذا العالم، هو الله العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الغني الذي لا أغنى منه، لا إله إلا هو رب العرش العظيم. فأعظم الطاعات معرفة الله سبحانه، وعبادته وحده لا شريك له، وحسن الظن به كما قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. وأعظم المعاصي الجهل بالله عزَّ وجلَّ، وسوء الظن به، فالمسيء به الظن قد

ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، فأي ضلال وجهل وسوء فوق هذا؟. ولهذا توعد الله سبحانه هؤلاء بما لم يتوعد به غيرهم: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]. وقال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 85 - 87]. أي فما ظنكم بربكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟. وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟. وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبادة غيره؟. فلو ظننتم به ما هو أهله سبحانه من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، لما عبدتم معه غيره. ولو علمتم أن الله قائم بالقسط على خلقه وحده، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور كلها فلا يخفى عليه خافية من خلقه، لما عبدتم معه غيره. ولو علمتم أن الله وحده هو الكافي لعباده فلا يحتاج إلى معين، وهو الرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، لما توكلتم إلا عليه، ولما عبدتم معه غيره. إن الملوك والرؤساء والأمراء لعجزهم وجهلهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يستعطفهم ويسترحمهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم. أما القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، الرحمن

الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه ينقص بحق ربوبيته وألوهيته وتوحيده وكماله، وظن به ظن السوء. إن الله تبارك وتعالى وحده هو الرب العظيم، الذي يستحق لذاته كمال التعظيم والإجلال، وكمال التأله والخضوع، وهذا خالص حقه سبحانه. فمن أقبح الظلم أن يُعطى حقه لغيره، أو يُشرك معه فيه غيره، لا سيما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال سبحانه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} ... [الروم: 28]. فما قدر الله حق قدره من جهل عظمته وقدرته وكبرياءه، وأشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه. وما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]. وما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ممن لا يقدر على خلق شيء، ولا خلق أضعف شيء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73، 74]. وما قدر الله حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل عليهم كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ولا يحسن به، من إهمال خلقه، وإضاعتهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]. ولا قدر الله حق قدره من جعل له صاحبةً وولداً، أو جعله سبحانه يحل في

مخلوقاته، أو نسبه إلى الفقر، وهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض. ولم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين من أجله المشاق بأفضل كرامته: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]. ولم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، وهان عليه نهيه فارتكبه، وهان عليه حقه فضيعه، وهان عليه ذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه فلم يذكره، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أهم من طاعته، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل جوارحه وقلبه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 13 - 16]. وما قدر الله حق قدره من يستحي من الناس، ولا يستحيي من الله، فيسكن في أرضه، ويأكل من رزقه، ويبارزه بالمعاصي ليلاً ونهاراً. ولا قدر الله حق قدره من يخشى الناس ولا يخشى الله، فيخاف من العاجز الذليل، ولا يبالي بالقوي العزيز الذي له ملك السموات والأرض. ولا قدر الله حق قدره من يعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، ويعامل الله بأهون ما عنده، إن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد والإتقان، وإن قام في حق ربه قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يعطيه مخلوقاً مثله. فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدر الله حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه، من الإجلال

والتعظيم، والطاعة والمحبة، والخضوع والذل، والرجاء والخوف؟. فلو جعل لله من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك، لكان ذلك جرأةً وتوثباً على محض حقه، واستهانةً به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه. فكيف إذا أشرك بينه وبين أبغض الخلق إليه، وأهونهم عليه، وأمقتهم عنده، وهو الشيطان الذي حذرنا الله منه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61]. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الغني عما سواه. وسبحان الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير. وسبحان من بيده الإيجاد والإنشاء، والإماتة والإحياء، والإعادة والإبداء، وكل يوم هو في شأن. وسبحان العظيم الذي خلق العظمة والقوة في جميع المخلوقات، فكل عظمة وقوة في المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والأرض، والجبال والبحار، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات فمن عظمته وقوته سبحانه. وعظمة جميع الكائنات بالنسبة لعظمته كالذرة بالنسبة للجبل وخزائنة مملوءة بكل شيء لا تنقص مع كثرة الإنفاق. فهو سبحانه العلي العظيم الذي لا عظيم سواه، ولا منتهى لعظمته وجلاله وكبريائه الذي «يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه العظيم .. الذي خلق كل عظيم .. المالك لكل عظيم .. وخزائنه ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري برقم (4811) ومسلم برقم (2786) واللفظ له.

مملوءة بكل عظيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. واذا عرف الإنسان أن ربه العظيم بيده كل شيء أحبه وعظمه .. وتوكل عليه .. وخافه ورجاه .. وأقبل على طاعته .. واجتنب معاصيه .. وتلذذ بعبادته: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3].

3 - فقه قدرة الرب

3 - فقه قدرة الرب قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة:120]. وقال الله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]. وقال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} ... [الملك: 1]. الله جل جلاله هو الخالق الذي خلق المخلوقات، المصور الذي صور الكائنات، القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، العالم بكل شيء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} ... [الطلاق: 12] وهوسبحانه القادر الذي خلق جميع المخلوقات، القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، المقتدر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وكل ما نراه في الكون من آثار قدرته: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} ... [ق: 6 - 8]. وهو سبحانه القادر على كل شيء، الحكيم في خلقه وأمره، الذي يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد. كبر بعض المخلوقات كالعرش والكرسي، والسموات والأرض. وصغر بعضها كالذرة والبعوضة، والنملة والنطفة. وجعل لكل من الصغير والكبير حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة. وكثّر سبحانه بعض المخلوقات كالتراب والنبات والذرات، وقلّل بعضها كالذهب والفضة، والمعادن. وجعل سبحانه لكل من الكثير والقليل حكمة، وفي كل واحد منهما آية وعِبرة.

وقوّى سبحانه بعض المخلوقات كجبريل الذي خلق الله له ستمائة جناح، جناح منها يسد الأفق، وأَضعف بعض المخلوقات كالإنسان والبعوض. وله سبحانه في خلق القوي والضعيف حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة. وهو سبحانه القادر الذي رفع بعض المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والجبال والأشجار، ووضع بعضها كالأرض وما فيها وما عليها، والبحار والأنهار. وهو سبحانه القادر الذي جمع بعض المخلوقات كالجبال والبحار، وفرق بعضها كالنجوم والرمال، والثمار والأوراق. وهو سبحانه العليم القدير الذي أظهر بعض مخلوقاته وأخفى بعضها .. فأظهر الدنيا وأخفى الآخرة .. وأظهر الأبدان وأخفى الأرواح .. وأظهر الأجساد وأخفى العقول .. وأظهر قيمة الأشياء وأخفى قيمة الأعمال .. وأظهر المخلوقات وحجب نفسه عن خلقه. فسبحان الخلاق العليم الذي فاوت بين مخلوقاته، فخلق الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والثقيل والخفيف، وأحيا بعضها وأمات بعضها، وخلق المخلوقات وفرقها في ملكه في السماء والأرض. ففي البر خلائق لا تحصى، وفي الجو خلائق لا تحصى، وفي البحر خلائق لا تحصى، وفي السماء خلائق لا تحصى. وفاوت القدير العليم بين صفاتها فمنها ثابت لا يتحرك، ومنها متحرك لا يسكن، ومنها حار وبارد، وأبيض وأسود، وناطق وصامت، ورطب ويابس، وعذب وملح، ولين وخشن، وسائل وجامد. وأحياء لا تعيش إلا في البحار ولو خرجت لماتت، وأحياء لا تعيش إلا في البر ولو أدخلت البحر لماتت، وملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} ... [لقمان: 11].

وهو سبحانه الخلاق العليم الذي خلق الرياح الشديدة، والصواعق المهلكة، والزلازل المدمرة، والبراكين المفزعة، والخسوف التي تبلع الأشجار والبيوت والبشر، يصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، من مؤمن وكافر، ومحسن وظالم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. وخلق سبحانه الجنة وما فيها من النعيم لأهل طاعته، وخلق النار وما فيها من العذاب لأهل معصيته، وخلد هؤلاء وهؤلاء. والله سبحانه على كل شيء قدير، وقدرته مطلقة. أحياناً يفعل بالأسباب كما جعل الماء سبباً للحياة، والوطء سبباً للإنجاب .. وأحياناً يظهر قدرته سبحانه بضد الأسباب كما جعل سبحانه النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. وأحياناً يظهر قدرته بدون الأسباب كما خلق السموات والأرض: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. فسبحانه ما أعظمه من إله، وما أعظم قدرته، وما أكرمه، وما أحلمه. فيا أيها الإنسان: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} [الأعلى: 1 - 5]. إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، الخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، وهو الفعال لما يريد. خلق الماء والنار، وجعل وظيفة الماء الإرواء والإحياء والإغراق، وجعل وظيفة النار الإنارة والإنضاج والإحراق. وإذا اجتهد الإنسان على الإيمان، وقام بالأعمال الصالحة، وجاء عنده كمال الإيمان والتقوى، فالله يسخر له المخلوقات، ويغير أحوالها بقدرته، فيجعل النافع ضاراً بقدرته، كما جعل الماء الذي هو سبب الحياة سبباً لهلاك فرعون وقومه، وسبباً لنجاة موسى وقومه، في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد.

وكما جعل الماء سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه، وسبباً لهلاك قوم نوح في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد. وهو سبحانه قادر على جعل الضار نافعاً كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وكما ربى موسى - صلى الله عليه وسلم - في قصر عدوه فرعون. والله عزَّ وجلَّ خلقنا وخلق الدنيا، واستخلفنا فيها لينظر كيف نستخدمها؟. هل نستخدامها حسب أوامر الله؟ .. أم نستخدمها على حسب هوى النفس والشيطان. فاستخدامها حسب أمر الله عزَّ وجلَّ يأتي بعده الابتلاء، ثم السعادة في الدنيا والآخرة واستخدامها حسب مراد النفس والشيطان يأتي بعده الشقاء في الدنيا والآخرة. كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 123 - 124]. والله جل جلاله هو القوي العزيز، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، يقدم من يشاء، ويؤخر من يشاء، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، ويكرم من يشاء، ويهين من يشاء، ويفعل ما يشاء، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. يعز سبحانه بأسباب الذلة كما أعز موسى - صلى الله عليه وسلم - وأذل فرعون، وكما أعز محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأذل قريشاً. ويذل سبحانه بأسباب العزة كما أذل فرعون مع ملكه، وأذل قارون مع ماله. ويرحم سبحانه بأسباب العذاب كما أنجى الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في النار. ويعذب بأسباب الرحمة كما دمّر عاداً بالريح العقيم، وأغرق قوم نوح بالماء. وينجي سبحانه بأسباب الهلاك كما أنجى الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في النار، وأنجى يونس - صلى الله عليه وسلم - في بطن الحوت. ويهلك سبحانه بأسباب النجاة كما أهلك فرعون وقومه في طريق البحر اليابس

الآمن حين تبعوا موسى - صلى الله عليه وسلم -. ويحفظ سبحانه بأسباب الهلاك كما أنجى موسى من الغرق حين ألقي في البحر في التابوت، وحين رباه في بيت عدوه فرعون. ويهلك سبحانه بأسباب الحفظ كما أهلك قوم ثمود في بيوتهم بالصيحة. والله تبارك وتعالى له قدرة ... وله سنة: فبقدرته سبحانه خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الجنة والنار، وخلق الدنيا والآخرة. خلق الدنيا للابتلاء والزوال والعمل، وخلق الآخرة للبقاء والأبد، وخلق الجنة للنعيم، وخلق النار للعذاب. وسنن الله نوعان: سنن كونية .. وسنن شرعية. فسنة الله الكونية أن يخرج بأمره سبحانه النور من الشمس، ويخرج الثمر من الشجر، ويخرج الولد من الرحم، والماء من السحب، والكلام من اللسان، والحليب من البقر، والعسل من النحل وهكذا، فهو سبحانه الخالق وما سواه مخلوق، وقدرته مخفية وراء الأسباب: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وسنة الله الشرعية أن من آمن وعمل صالحاً أدخله الله الجنة، ومن كفر أدخله الله النار، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن أطاع الله ورسوله سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصى الله ورسوله شقي في الدنيا والآخرة. والله عزَّ وجلَّ خلق الكون بقدرته، ونظمه وسيره بسننه الكونية والشرعية، فتعودنا على السنن الجارية، وغفلنا عن قدرة الله المطلقة، وقدرته سبحانه فوق سنته، ومن قدرته سبحانه يستفيد المؤمنون خاصة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا

فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} ... [الأعراف: 96]. وكل ما خلقه الله في هذا الكون من كبير وصغير، وناطق وصامت، وكل متحرك وساكن، وكل معلوم ومجهول، وكل حاضر وغائب، خلقه الله بقدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد وظيفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49] وفوق هذا التقدير قدرة الله المطلقة، التي يفعل بها ما يشاء في ملكه، والتي تفعل أعظم الأحداث بأيسر أمر كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50]. فهي كلمة واحدة من الله يتم بها كل أمر، الصغير والكبير على حد سواء، واحدة تنشئ هذا الوجود العظيم، وواحدة تبدل وتغير فيه، وواحدة تذهب به كما يشاء الله، وواحدة ترده إلى الموت، وواحدة تبعثه في صورة من الصور، وواحدة تبعث الخلائق جميعاً، وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]. وسنة الله جارية أن الإنسان إذا تأثر بالشيء جعل الله هذا الشيء فوق رأسه، وسلطه عليه وأذله به، وإذا تأثر بخالق الشيء سبحانه ولم يتأثر بالشيء، فإن الله يسخر هذا الشيء للمسلم كما سخر النار لإبراهيم، والبحر لموسى، والماء لنوح، والريح لهود، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكثير من الناس تأثر بقوة المخلوق، ولم يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله. والله جل جلاله عنده قوة المخلوقات كالرياح والعواصف، والصواعق والزلازل، والمياه والجبال، والخسوف والبراكين، والناس عندهم قوة المصنوعات كالصواريخ والمدافع والقنابل، وقوة المخلوقات أعظم من قوة المصنوعات، فكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

عَزِيزٌ (40)} [الحج: 40]. والله قوي عزيز، يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويغير ما يشاء، يأتي بالفرج بعد الضيق .. وباليسر بعد العسر .. وبالأمن بعد الخوف .. وبالبسط بعد القبض .. وبالعافية بعد المرض .. وبالليل بعد النهار .. وبالحر بعد البرد .. وبالغنى بعد الفقر .. كل يوم هو في شأن: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة: 5]. وفي غزوة بدر من السنة الثانية للهجرة أراد الله عزَّ وجلَّ أن يظهر قدرته للمؤمنين، ويعلمهم كيف يستفيدون من قدرته بواسطة الإيمان والأعمال الصالحة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، والتقوا بكفار قريش وصناديدهم في بدر، ووقف القليل أمام الكثير، وأولياء الرحمن أمام أولياء الشيطان، وأهل الحق أمام أهل الباطل، فاستغاث النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه، وعرض عليه حاله، وحال أصحابه، وحال أعدائه، فأجاب دعاءه، وأمدهم بالملائكة، وكان يكفيهم لهزيمة الكفار ملك واحد كجبريل الذي له ستمائة جناح، جناح منها يسد الافق، والذي رفع قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها عليهم، ولكن لشدة فرح الله باجتماع المؤمنين لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، أمدهم بألف من الملائكة كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. ثم أمدهم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 123 - 125]. ثم بين الله للمؤمنين أن هذا المدد العظيم من الملائكة بشرى للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، مذكراً لهم أن النصر حقاً من الله وحده كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ

إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 126]. وهكذا أظهر الله قدرته، ونصر أولياءه، والذي نصر المؤمنين هناك تكفل بنصر المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. فمتى يستفيد المسلمون من قدره الله، ومن سنة الله في نصر أوليائه؟. والله قوي عزيز، وكل قوة في العالم من قوته، وكل عز في العالم من عزته: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} ... [يونس: 65]. وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض، فالسموات وما فيها له، والأرض ومن فيها له، وكل رزق في العالم من رزقه، وكل علم في العالم من علمه، وكل رحمة في العالم من رحمته، وكل شيء بيده، وكل شيء لا يخرج إلا من خزائنه كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وخزائن الله واسعة مملوءة بكل ما تحتاجه الخلائق إلى يوم القيامة، وكل ما تمتع به البشرية من الأموال والأرزاق والنعم لا يساوي ذرة مما في خزائن الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي

شيئاً. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). فيا من كلَّما زاد عمره زاد إثمه، ويا من كلما كثرت أوزاره قل استغفاره، ويا من لا يروعه ما يراه ويسمعه متى تفيق؟ ومتى تقف بباب مولاك العزيز الغفور الرحيم؟. إن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والارض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله، وقوة الناس وقوة المخلوقات كلها بيد الله وفي قبضة الله، يعز بها من يشاء، ويذل بها من يشاء، ويهلك بها من يشاء، والله بكل شيء عليم. وبسبب ضعف الإيمان واليقين أصابتنا ثلاث آفات: الأولى: أننا تأثرنا من قوة المخلوق، فأصبحنا نخافه ونرجوه، فأذلنا الله به. الثانية: أننا كل يوم نطرق باب المخلوق مع أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً. الثالثة: أننا أعرضنا عن الخالق القادر المالك لكل شيء، فلا نرجوه ولا نخافه، ولا نقف ببابه، ولا نستقيم على أوامره. فكيف نستفيد من قدرته، وكيف نستفيد من خزائنه وهذه أحوالنا؟. إن ذلك لا يُنال إلا بكمال الإيمان والتقوى. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

وبسبب ضعف الإيمان، وقلة التقوى، أصبحنا نخاف من المخلوق العاجز الضعيف المملوك، وعرفنا قوة المخلوق، وجهلنا قدرة الخالق العظيم، وقوة الواحد القهار، وعظمة الملك الجبار: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]. إن الناس عندهم قوة المصنوعات، والله عنده قوة المخلوقات، وقوة المخلوقات التي خلقها الله أقوى وأشد من قوة المصنوعات التي صنعها البشر، وهذه وتلك لا تفعل شيئاً إلا بإذن الله. فهذا الهواء اللطيف الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، جعله الله بقدرته قوة مدمرة عاتية، وريحاً شديدةً عقيماً، أرسلها الله وسلطها على قوم عاد لما كفروا بالله، وكذبوا رسوله، فدمرت كل شيء بأمر ربها: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41، 42]. لقد دمرت أعداء الله، وحفظت أولياءه، وذلك في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد. إن هذه قوة مخلوق واحد، فكيف بقوة جميع المخلوقات التي يملكها الله العزيز الجبار .. ؟. وكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولو اجتمعت لها الخلائق كلها .. ؟. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66]. وكذلك الماء الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، حينما يأمره الله أن يغرق الأرض ومن فيها، من ذا يرده؟، ومن ذا ينجو منه .. ؟. إن قوم نوح لما كفروا بالله سبحانه، وكذبوا نوحاً، ماذا فعل الله بهم؟ {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف: 64]. وجمع الله ماء السماء وماء الأرض لنصرة رسوله نوحاً حين دعاه: {فَدَعَا رَبَّهُ

أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 10 - 14]. وإذا فتح الله هذه المياه، وفجر تلك العيون، فمن ذا يردها؟ ومن ذا يقاومها؟ ومن ذا ينجو منها؟. إن الله جل جلاله بقدرته أنجى المؤمنين، وأهلك الكافرين، بماء واحد، وأمر واحد، ومكان واحد، ووقت واحد. وفرعون وقومه لما كفروا بالله جل جلاله، وكذبوا موسى، ماذا فعل الله بهم؟. لقد أخرجهم الله من جنات وعيون، وساقهم حتى أدخلهم في طريق في قعر البحر، فتحه الله لموسى (ومن معه من المؤمنين، فدخلوا معه وخرجوا، ثم تبعهم فرعون ومن معه فأطبقه الله عليهم، فهلكوا جميعاً: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 61 - 68]. فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، بماء واحد، وأمر واحد: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66]. ولما جاوز الله ببني إسرائيل البحر أصابهم العطش، فدعا موسى ربه، فماذا فعل الله لسقي هذا الجيش العظيم، في تلك الصحراء الملتهبة؟. لقد فجر القوي القدير المياه العذبة من تلك الحجر القاسية إكراماً ونصرةً لموسى ومن آمن معه كما قال سبحانه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة: 60].

آيتان خلاف العقل والمألوف: الأولى: اضرب البحر يخرج الحجر اليابس .. والثانية: اضرب الحجر يخرج الماء السائل .. فسبحان القدير الذي يفعل ما يشاء. وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية من إناء، فجهش الناس من شدة العطش، فماذا فعل الله لإرواء رسوله والمؤمنين معه؟. عن جابر - رضي الله عنه - قال: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقال: «مَا لَكُمْ» قالوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ وَلا نَشْرَبُ إِلا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أصَابِعِهِ كَأمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: «لَوْ كُنَّا مِائَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» متفق عليه (¬1). فمتى نستفيد من قدرة الله؟ ... ومتى نستفيد من خزائن الله؟. والنار خلقها الله تذكرةً ومتاعاً للمقوين، وإذا اشتعلت وأرسلت عليها الرياح فمن ذا يطفئها؟ ومن ذا يقف لها؟ ومن ينجو منها؟ وقد أرسل الله النار على أصحاب الأيكة لما كفروا بالله، وكذبوا شعيباً، فأحرقتهم مع أموالهم التي اكتسبوها بالحرام كما قال سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} [الشعراء: 189]. فأحرق الله الكافرين، وأنجى المؤمنين، بنار واحدة، وأمر واحد: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)} [الشعراء: 190، 191]. وأشعل الكفار ناراً عظيمة لإحراق خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فماذا فعل الله بها؟: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 68 - 70]. لقد توجه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بكليته إلى ربه، ولم يلتفت إلى أحد سواه، فأمر الله النار ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3576)، واللفظ له، ومسلم برقم (1856).

مباشرة، وغَّير حالها بقدرته من الضرر إلى النفع، ومن الهلاك إلى النجاة، وبقيت بقدرة الله تشتعل ولا تحرق، وانقلبت فوراً من الحرارة إلى البرودة مع السلامة. وماذا يملك البشر المهازيل من القوة. إن خلق السموات والأرض أكبر وأقوى منهم كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 57]. وخَلْق الملائكة أقوى وأعظم من السموات والأرض. خَلْق جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش، أعظم من السموات والأرض وأقوى. جبريل خلقه الله له ستمائة جناح، جناح منها يسد الأفق، وبطرف جناحه رفع خمس قرى من قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها، فهذه قوة ريشه من جناحه، فكيف لو استخدم كل جناحه؟ .. وكيف تكون قوته لو استخدم أجنحته الستمائة؟ .. وكيف تكون قوته لو استخدم جميع بدنه؟ .. وإذا كانت هذه قوته فكم تكون قوة خالقه الكبير المتعال .. ؟. وميكائيل بأمر الله يكيل المياه والأرزاق للخلائق التي لا يعلم عددها وأنواعها وأماكنها وأعمارها إلا الله العليم الخبير .. وإذا كانت هذه قدرته فكم تكون قدرة خالقه العزيز الجبار .. ؟. وإسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق من في السموات والأرض، وبنفخة أخرى منه يحيا كل شيء: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. فهذه قوة نفخته، فكم تكون قوة بدنه؟، وكم تكون قوة خالقه الكبير المتعال؟. وكذلك الله عزَّ وجلَّ أعطانا الإسلام أقوى من الملائكة، فحينما نقوم به، ونعمل بأحكامه، يكون الله سبحانه معنا، يعزنا وينصرنا على أعدائنا، وإذا كان

الله معنا فمن ذا يهزمنا؟: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. وجميع الأنبياء والصحابة لما أطاعوا الله، وامتثلوا أوامره، ونصروا دينه، نصرهم الله عزَّ وجلَّ، وخذل أعداءهم. ولما عظَّموا الله، وصغَّروا ما سواه، رفع الله مكانتهم، وأعزهم بين العالمين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، يحاسب الخلق كلهم يوم القيامة في لحظة واحدة، كما يرزقهم كلهم في الدنيا في لحظة واحدة، لا يشغله رزق أحد عن رزق الآخر، لأن الطاقة والقدرة تشكل إذا كانت محدودة، أما قدرة الله فهي مطلقة، والله قدير لا يعجزه شيء، ولا يشغله شأن عن شأن: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} [إبراهيم: 51]. وهؤلاء البشر المنتشرون على وجه الأرض مع الكائنات الأخرى. من خلقهم .. ؟ من أنشأهم .. ؟، من يطعمهم .. ؟، من يدبرهم .. ؟، من يقلب أفئدتهم وأبصارهم .. ؟، من يقلب ليلهم ونهارهم .. ؟. أما لهذا الخلق من خالق .. ؟، أما لهذا الخالق من أوامر .. ؟، أما لهذه الكائنات من مدبر .. ؟، أما لهذه الصور من مصور .. ؟، أما لهذه الأحياء من محيي .. ؟. بلى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وهذه الحياة في النباتات والحيوانات من بثها في هذا الموات؟. وهذا الماء الهاطل من السماء، من خلقه وجمعه في السحاب، ثم سيَّره في جو السماء، ثم صبّه على الأرض صباً، فأنبت به الزروع والأشجار، وسقى به الناس والأنعام، وملأ به الأودية والأنهار؟: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا

أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} [الفرقان: 48 - 50]. وهذا الماء العذب، من أسكنه في الأرض؟، ومن فجره من الأرض، وجعله عيوناً متدفقةً تسقي النبات والإنسان والحيوان؟: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)} [المؤمنون: 18، 19]. ألا ما أعظم الخالق .. وما أعظم ما خلق من المخلوقات العجيبة. وهذا البرعم الصاعد .. وهذا الحب المتراكب .. وهذا النجم الثاقب، وهذا الكوكب الساطع .. وهذا الصبح البازغ .. وهذا الليل السادل .. وهذا البحر المسجور .. وهذه الرياح العاصفة .. وهذه البهائم السائمة .. وهذه الطيور الطائرة .. وهذه الأسماك السابحة .. وهذه السماء المرفوعة .. وهذه الأرض الممدودة. هذا كله من وراءه .. ؟، ومن خلقه .. ؟، ومن يكلؤه .. ؟ وماذا وراءه من أسرار ومن أخبار .. ؟، وماذا فيه من العجائب والمنافع والعبر .. ؟. {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. وهذه الأمم المختلفة من خلقها؟، وهذه القرون من أنشأها؟، وهذه الأقوام من أهلكها؟ وهذه الصغار من كبرها؟، وهذه الاشجار من أنبتها؟. أمم تذهب .. وأمم تجيء .. وأمم تهلك .. وأمم تستخلف. من ذا يستخلفها؟ .. ومن ذا يهلكها؟ .. وإلى أين تذهب .. ؟. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. إن الله وحده هو الخالق، هو القادر، هو المالك، هو الرازق، هو العليم بالغيوب والأسرار: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وفي كل لحظة تنفلق بأمر الله الحبة الساكنة عن نبتة نامية .. وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة .. وتنفلق البيضة الساكنة عن طير يتحرك ويأكل ويشرب. وفي كل لحظة يتكون بأمر الله من النطفة الهامدة جثة متحركة، ذات سمع وبصر وعقل، في كل قرية، وفي كل مكان، وفي كل زمان. وفي كل لحظة تتحول الصحاري القاحلة إلى رياض مزهرة مثمرة: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)} [الأنعام: 95]. وفي كل لحظة تهب رياح .. وفي كل وقت تحمل الرياح سحاباً .. وفي كل فترة ينزل من السماء ماء. وفي كل لحظة يخرج من الأرض نباتٌ .. وفي كل آن يطلع من الأشجار ثمارٌ .. وفي كل لحظة يخرج من بطون الأمهات أولادٌ. وفي كل لحظة يموت أحياء .. ويولد أحياء .. وكل إليه راجعون: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} ... [المؤمنون: 79، 80]. فسبحان من خلق البشرية كلها من نفس واحدة، وجعل لها مستقراً ومستودعاً، فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى، ثم تأخذ الحياة بتقدير العزيز العليم في النمو والانتشار، فإذا أجناس وألوان، وذكور وإناث، وشعوب وقبائل، ونماذج وصور لا تحصى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} ... [الأنعام: 98]. فسبحان من خلق هذه الخلائق، وأوجد الأعداد المناسبة من الذكور والإناث في عالم الإنسان، لكي تبقى الحياة والأحياء على وجه الأرض في توازن دائم: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ

عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49، 50]. إن مبدع هذه المخلوقات العظيمة، وخالق هذه الكائنات العجيبة، هو الرب الملك القادر، الذي يستحق أن يُعبد وحده، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يتلقى منه وحده منهج الحياة كله، وأن لا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فذلك كله لله وحده لا شريك له. وكل هذه المخلوقات، وكل هذه الكائنات تجري وفق سنة كونية أودعها الله في هذا الكون، يصاحبها قدر الله المصاحب لكل مخلوق. وكلما حدث حدث وفق سنة الله، وكلما تمت حركة وفق قدر الله، انتفض هذا القلب، يرى قدر الله ينفذ، ويرى الخالق يخلق، ويرى الملِك يدبر في ملكه، ويرى الكريم يجود بفضله على خلقه آناء الليل وآناء النهار. فيسبح بحمد ربه، ويكبره ويعظمه، ويذكره ويراقبه في كل لحظة، وفي كل حركة، ويشارك المخلوقات في أداء هذه العبادة لربه: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: 1]. ألا ما أعظم ربنا .. وما أعظم قدرته .. وما أعظم خلقه .. وما أسعد من أطاعه .. ؟. فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟، وهل من منيب؟، وهل من مستجيب؟. وهل بقي بعد ذلك مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول؟: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك، وإن التولي عن الرسول وما جاء به من الدين بعد هذا كله ليبدو مستنكراً قبيحاً، لا يقدم عليه إنسان له قلب يتدبر، وعقل يتفكر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} [الأنفال: 20]. وهل يليق بالإنسان أن يعيش كالبهائم والأنعام والدواب؟، بل شر من الدواب،

وأضل من البهائم، يُدعى فلا يستجيب، ويُؤمر فلا يطيع: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]. والله تبارك وتعالى هو الرزاق الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها، الناطق والصامت .. والذاكر والغافل .. والسائل والساكت .. والمطيع والعاصي. يرزق سبحانه جميع المخلوقات المبثوثة على وجه الأرض، والساكنة في باطن الأرض، والطائرة في جو السماء، والسابحة في قعر البحر، يعلم سبحانه أعدادها، وأصنافها، وحاجاتها، ويسوق لها أرزاقها في كل حين: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. فسبحان الحي القيوم الذي خلق هذه الخلائق، وقسم أرزاقها، مع تباعد ديارها، واختلاف حاجاتها، ألا إنه بكل شيء بصير. والأرزاق التي خلقها الله، والأرزاق التي يخلقها في كل حين ليس لها حد، ولا يحصيها أحد، وما يدركه البشر ويرونه ويعلمونه من رزق الله لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمونه، ومقدار ما يعلمون لا يساوي قطرة من بحر بالنسبة لما في خزائن الله المملوءة بأصناف الأرزاق. ولا يزال البشر يهتدون كل يوم إلى رزق من أرزاق الله التي بثها في هذا الكون العظيم. فمن سطح الأرض أرزاق لا تحصر .. ومن جوفها أرزاق لا تعد .. ومن سطح الماء أرزاق .. ومن أعماق البحر أرزاق .. ومن أشعة الشمس أرزاق .. ومن ضوء القمر أرزاق .. ومن الجبال أرزاق .. ومن الرياح أرزاق. وفي السماء أرزاق لا يعلمها إلا الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7]. وهذه الخلائق في البر والبحر إنما تصرف لها أرزاقها، وتعطى من خزائن الله، وهي لا تنقص مع الأخذ المستمر على مر الدهور والأزمان، بل جميع ما في

الدنيا والآخرة من الأرزاق لا يساوي ذرة بالنسبة لما في خزائن الله من الأرزاق. قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْر» أخرجه مسلم (¬1). وكل ما في الكون من مخلوقات وأشياء وأحوال فخزائنها عند الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. فسبحان العليم القدير الذي خلق الخلائق، وقسم أرزاقها، وعلم آجالها، وقهرها بجبروته، وصرفها بقدرته، وملكها بسلطانه. ألا ما أجهل الإنسانَ بعظمة ربه، وما أقل شكره لنعمه. فمتى يصحو ويفيق ويستجيب؟، والله شكور حليم غفور رحيم فمتى نتوب اليه؟: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. والله جل جلاله هو الملك الذي له الخلق والأمر في الكون كله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فالله وحده هو الذي يدبر الأمر في السموات والأرض. فالسماء لها أوامر .. والأرض لها أوامر .. والبحار لها أوامر .. والجبال لها أوامر .. والرياح لها أوامر .. والشمس لها أوامر .. والقمر له أوامر .. والنبات له أوامر .. والحيوان له أوامر .. والإنسان له أوامر .. وكل شيء خلقه الله في هذا الكون له أوامر. وكل سامع مطيع مقهور مستجيب لأوامر الله الكونية، أما أمر الله الشرعي فهو موجه إلى الإنس والجن، وقد منحهم الله الاختيار في قبوله أو رده: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} [يونس: 31]. وكفار مكة الذين دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون خلقه لهذه المخلوقات العظام، أو ينكرون تدبيره لهذه الكائنات الكبار كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61]. ولكن انحراف الفطرة بسبب قلة المذكر كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله. إن الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، والهيبة والخشية، كل ذلك يلم بالإنسان كلما نظر في ملكوت هذا الكون العظيم، وما يجري فيه من التدبير والتصريف، وهو يرى كل يوم وكل لحظة آثار قدرة الله في إحيـ، اء الأرض بعد موتها، وفي رؤية البرق، وإنشاء السحاب، وتسبيح الرعد، وصوت الصواعق: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ

فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} [الرعد: 12 - 13]. فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟. أما يستحي العبد بعد علمه بهذا من معصية مولاه الذي رزقه وكساه، وأنعم عليه وهداه؟. إن الذي يملك الخلق والإيجاد، والتدبير والتصريف هو الله وحده، فهو الرب الحق، الذي أنزل الحق، والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه وقع في الباطل. ألا ما أعجب الإنسان كيف ينصرف عن ربه وهداه مع أن دلائله قائمة في الكون: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 32]. والله جل جلاله هو الذي: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم: 19]. إنها عملية دائبة لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان في هذا الكون، على سطح الأرض، وفي أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار. ففي كل لحظة يتم هذا التحول، وفي كل لحظة يخرج الله حياً من ميت، وميتاً من حي. وفي كل لحظة يخرج الله برعماً ساكناً من جوف حبة أو نواة، يفلقها ويخرج إلى ميدان الحياة مع الأحياء. وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة، تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام، وفي هذا الهشيم والحطام ترقد الحبوب الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات مستقبلاً. وفي كل لحظة تدب الحياة بأمر الله في جنين إنسان أو حيوان أو طائر، وفي كل لحظة تخرج أجيال بقدرة الله في مشارق الأرض ومغاربها، وتموت أجيال كذلك .. فسبحان الحي الذي يملك الموت والحياة .. فيحيي ويميت من شاء

من خلقه .. أمم وخلائق تستقبل الحياة .. وأمثالها تودع الحياة. والله على كل شيء قدير أخرج من التراب الساكن الميت، الإنسان الحي المتحرك كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم: 20]. وهو سبحانه الذي خلق البشرية من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وخلق كلاً منهما على نحو يجعله موافقاً للآخر، وأودع نفوسهم العواطف والمشاعر، وجعل في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، وطمأنينة للرجل والمرأة على السواء: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21]. وهو سبحانه القدير الذي خلق السموات والأرض، هذا الخلق الهائل العظيم الدقيق، وخلق هذه المخلوقات العظيمة في جو السماء من الأفلاك، والمدارات، والنجوم، والكواكب، والمجرات، مع الضخامة الهائلة، والتناسق العجيب فيما بينها، وخلق ما بينها من المسافات والأبعاد التي تحفظها من التصادم والخلل، هذا من ناحية أحجامها وسيرها. وأما أسرار هذه الخلائق الهائلة، وعجائبها وطبائعها، وما يستكن فيها، وما يظهر عليها، فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان، وحتى الآن لم يعرف عنه البشر إلا القليل: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) [نوح: 15، 16]. وفي الأرض آيات وكائنات وعجائب لا يحيط بها إلا الله، من سهول وجبال، وتراب ومياه، ونبات وحيوان، وجواهر ومعادن خلقها الله بقدرته، مختلفة الأحجام والألوان، والطبائع والمنافع. فهذه قدرته سبحانه في خلق سماء واحدة، وأرض واحدة، فكيف بخلق السموات السبع وما فيهن، وكيف بخلق الأرضين السبع وما فيهن؟: {وَمِنْ

آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22]. ومع آية خلق السموات والأرض العجيبة اختلاف الألسنة والألوان بين البشر مع اتحاد الأصل والنشأة وصفة الخلق. فكم لسان في العالم .. وكم لغة في العالم .. وكم لهجة في العالم .. وكم ألوان البشر في العالم .. وكم صورة وشكل لكل بشر في العالم. فقلما يشتبه رجلان أو امرأتان في العالم. فسبحان الخالق البارئ المصور الذي فاوت بينهم في الأشكال والألوان والأحجام واللغات والأصوات والأسماع والأبصار والعقول. وهو سبحانه الذي خلق الليل والنهار، وسخرهما للإنسان، فجعل حاجة العباد إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام، مثلهم مثل جميع الأحياء التي تعيش على ظهر هذه الأرض بنسب متفاوتة، وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} [الروم: 23]. وهو سبحانه الحي القيوم، قيوم السموات والأرض، وقيام السموات والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بأمره سبحانه، وكل من في السموات والأرض خاضعون لله، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25]. وهو سبحانه الذي له المثل الأعلى في السموات والأرض، فهو وحده الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشاركه في ذلك أحد، وليس كمثله شيء: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ

الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]. يا حسرة على المفرطين كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا .. ؟ واعجباً لهؤلاء أما لهم في الآخرة من نصيب .. ؟ يا غافلاً ما يفيق، يا حاملاً ما لا يطيق، ألا تستحي؟ .. ، ألا تفيق .. ؟. وا أسفاه على ضياع الأوقات .. وبعثرة العمر .. وبعثرة الفكر .. وبعثرة الجهد .. أحياناً في الشهوات .. وأحياناً في اللهو .. وأحياناً في اللعب .. وأحياناً في التكاثر .. وأحياناً في المحرمات .. وأحياناً في الكبائر الموبقات. أي بضاعة يفخر بها مثل هؤلاء الحمقى أمام الله وخلقة يوم القيامة .. ؟. وأي أرباح يجني أمثال هؤلاء؟ .. وأي سوق يعمرهؤلاء الحمقى .. ؟. أيظن الغافل الأحمق أن الحياة لعب ولهو، لا سؤال ولا حساب .. ؟. إنه يملأ صحائفه بمخازٍ وقبائحَ يسودّ لها وجهه يوم يلقى ربه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. إن نظرة إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعجائب، ونظرة إلى هذه الأجرام والكواكب والنجوم التي لا تحصى وهي منتثرة في ذلك الفضاء الهائل الذي لا تعلم له حدود، وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها، محافظةً على مداراتها تسبح بحمد ربها، وتؤدي وظيفتها، وكلها لا تختل ولا تبطئ ولا تسرع، بل تسير حسب أمر ربها، جاريةً في الفضاء ما يمسكها إلا الله. ونظرة في عالم الجماد وأنواعه .. وفي عالم الحيوان وأشكاله .. وفي عالم الإنسان وعجائبه .. وفي عالم النبات وأنواعه وثماره. إن نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية، والقوة الإلهية القاهرة القادرة على خلق هذه المخلوقات، وحفظها وإمساكها وحفظ توازنها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله، ومن شر في الأرض وفساد، ومن ظلم في

الأرض وطغيان، إن هذا كله لفظيع شنيع، ولو يؤاخذ الله الناس به عاجلاً لتجاوزهم إلى كل حي على ظهر هذه الأرض، ولأصبح الكون غير صالح للحياة، ولكن الله حليم لا يعجل على الناس، فيؤخرهم إلى أجل مسمى، ليبلغوا آجالهم المقدرة، ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45]. وهذا كله يكشف عن حلم الله ورحمته، إلى جانب قوته وقدرته ورقابته. وإمهال الناس في الدنيا عن حلم ورحمة، لا يؤثر في دقة الحساب، وعدل الجزاء في النهاية، فإذا جاء أجلهم وانتهى وقت العمل والكسب، وحان وقت الحساب والجزاء، فإن الله لا يظلمهم شيءاً، وهو كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم، ولا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. إن في خلق الشمس آية .. وفي نورها آية .. وفي حركتها آية .. وفي اشتعالها آية. إن هذه الكتلة الهائلة الملتهبة، والتي يخرج منها هذا النور العظيم، وهذه الحرارة الموزونة، وبهذا النور وبهذه الحرارة تجري بأمر الله في مسارات مختلفة في فضاء هذا الكون العظيم، وهي مأمورة مدبرة، سامعة مطيعة: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: 38]. إن ذلك كله يدل بلا شك على كمال قدرة الله الذي يصرف هذا الوجود عن قوة وعلم وحكمة. إن رؤية الآيات الكونية، وتدبر الآيات القرآنية، كفيل بتحريك القلوب، واستجاشة الشعور، لتعظيم بارئ الوجود وعبادته وطاعته. فسبحان من خلق هذا الكون، ومن يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويقهرها على ما

يريد، ويخرج منها المنافع على مدى الدهور والأزمان. فلكل نجم أو كوكب فلك يدور فيه لا يتجاوزه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة مقدرة، والكل يسير بأمر الله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40]. إن حركة هذه الأجرام الهائلة في الفضاء أشبه بحركة السفن في البحار الواسعة، وهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطة سابحة في ذلك الفضاء الواسع، الذي خلقه الواسع العليم. فسبحان من أمسك هذه وهذه .. وسيّر هذه وهذه. وما أعظم من خلق هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة، ونثرها وسيّرها في ذلك الفضاء الفسيح. والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، يخلق ما يشاء، ويستوي عنده خلق الكبير والصغير، ولا يختلف عنده في التكوين شيء عن شيء، سواء كان هذا المخلوق سماءً أو أرضاً، أو ذرة أو جبلاً، أو قطرة أو بحراً، أو بعوضة أو فيلاً، أو نملة أو جملاً. خلق هذا وذاك عند الله سواء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. فليس هناك أمام قدرة الله صعب ولا سهل، ولا قريب ولا بعيد، ولا صغير ولا كبير، فتوجه الإرادة لخلق شيء كافٍ لوجوده كائناً ما كان: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83]. إن آيات الله الدالة على عظمته، وعلى قدرته، وعلى عظمة خلقه، موجودة منذ بداية الخلق، وجميعها تنبئ بعظمة الخالق جل جلاله، وتجذب الإنسان للانقياد لربه، والتسليم له، والتسبيح بحمده. ثم يعطي الله سبحانه عطاءً متجدداً بعد ذلك لكل جيل غير الجيل الذي قبله، وذلك ليعلم الناس أن الله سبحانه قائم على ملكه، لا يتخلى عنه لحظة واحدة،

وأن له عطاءً متجدداً كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة، حتى لا يحس البشر أن الله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، ثم تركه بعد ذلك يعمل بالأسباب وحدها. بل لا بد مع السنن الكونية التي خلقها الله، وسير بها هذا الكون، وجعلها تعمل بأمره، لا بد مع ذلك من ظهور قدرة الله التي تكشف وتعطي وتمنح، وتذكر الناس بأن الله ينصر الضعيف على القوي، والمظلوم على الظالم، حتى لا يستشري الفساد في الأرض، وحتى لا يتعلق الناس بالأسباب من دون الله. فلله سنة، وله قدرة، وهذه القدرة لا تظهر إلا حين لا تكون فئة من المؤمنين تجاهد في سبيل الحق. فإن كانت هذه الفئة موجودة، فإن الله يبارك في عملها، وينصرها حسب سنته في نصر أوليائه بالأسباب المعلومة من الإيمان والتقوى والإعداد حسب الاستطاعة. أما إذا لم تكن هذه الفئة موجودة، فإن يد القدرة تأخذه أخذاً مباشراً، لتنزع ظالماً من قوته وسلطان ظلمه، أو تزيح جباراً في الأرض، فتنزعه من أسباب جبروته، أو تهلك عدواً ظالماً طاغياً، وتريح الناس من شره وطغيانه كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. ذلك أن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا، وخلق لها السنن والأسباب لتعمل بها بأمر الله وإذنه، فإذا حدث شيء عن طريق الأسباب كأن انتصر قوي على ضعيف، أو تمكن ظالم من مظلوم، أو ساد ذو جاه أو ذو قوة، أو ذو مال، فهذا باب السببية الذي تسير عليه الحياة في عمومها، والذي نشترك فيه جميعاً. فالإنسان مثلاً لكي يحصل على المال يجب أن يعمل، فإذا عمل وأخذ الأجرة، فهذا شيء عادي لا يثير العجب.

ولكن الله أحياناً يوقف باب الأسباب، ويعطله فلا يعمل، ويفتح للإنسان باباً آخر، ليرى منه قدرة ربه، ويحس بعظمته، ويعلم أن قدرة الله فوق الأسباب. فحين تقف أمام قوي تقول كل الأسباب أنه سينتصر عليك، ثم تجده ينهزم أمامك وينهار فهذه قدرة الله. وحين يراد بك سوء، وتتحكم أسبابه، ثم يكشفه الله ويدفعه عنك بلا جهد منك، فهذه قدرة الله جاءت تذكرك بالله. وحينما تكون في عسرة من الرزق، ثم يفتح الله لك باباً من الرزق من حيث لا تدري ولا تعلم، ويأتيك الرزق من حيث لا تتوقعه، فتهتف قائلاً: الله أكبر، إنها قدرة الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3]. وظهور قدرة الله ليست وقفاً على أحد دون أحد، بل هي تظهر في حياة الناس كلهم. فكلنا رأى ظهور قدرة الله في فترة من فترات حياته. رآها في شفاء مريض يئس الأطباء من علاجه .. أو رزق جاء فجأة ليذهب حالة عسر لبائس معدم .. أو قصم جبار أيس الناس من مواجهته. ولكن لماذا يرينا الله ذلك في الدنيا؟ إن الله يفعل ذلك حتى لا ييأس المؤمن أبداً، فإذا توقفت الأسباب عن العطاء، فإن الله سبحانه وتعالى يفتح باباً من أبواب رحمته، ومن هنا فإن المؤمن عندما تصل به الأسباب إلى طريق مسدود، فإن الله معه يراقبه، فإن توجه إليه وسأله فرج كربته، وقضى حاجته، فليرفع كفيه إلى السماء ويقول: يا رب، ويعلم أن الطريق الذي سدته الأسباب يفتحه الله بقدرته التي تملك الأسباب، والله يفعل ما يشاء بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن أمثلة كثيرة من هذا ظهرت فيها كمال قدرة الله سبحانه، وذلك حتى نمضي في الحياة بلا يأس.

فقال عن أيوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84]. وقال عن يونس - صلى الله عليه وسلم -: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. وقال عن زكريا - صلى الله عليه وسلم -: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90]. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وضع زوجته هاجر وابنه إسماعيل عند بيت الله بمكة بواد غير ذي زرع وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]. ثم تركها وابنها، فارتاعت المرأة حيث تركها وحدها في مكان قفر لا ماء ولا زرع ولا إنسان، فنادته مراراً فلم يجبها، فَقالتْ: «يَا إِبْرَاهِيمُ، أيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقالتْ لَهُ ذلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقالتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قال: نَعَمْ، قالتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ». أخرجه البخاري (¬1). وهناك كان طريق الأسباب معطلاً، حيث لا ماء ولا نبات ولا إنسان، فهاجر وابنها حسب الأسباب الظاهرة هالكان لا محالة، ولكن هاجر أخذت بالأسباب، فانطلقت تسعى بين الصفا والمروة، تصعد على هذا التل، ثم تصعد ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3364).

على ذلك التل، عسى أن ترى إنساناً أو طيراً أو قافلة أو سبباً من أسباب الحياة تتمسك به، وتستفيد منه هي وابنها، وقطعت المسافة سبع مرات بين الصفا والمروة ولم تجد شيءاً، ولم تر أحداً. فنال منها التعب، فجلست بجوار وليدها عند البيت، فإذا الملك يضرب بجناحه الأرض، فظهر الماء بأمر الله، وانفجر بئر زمزم بالماء، فجعلت تحوطه وشربت هي وابنها، ودَّبت الحياة في ذلك المكان، فبعد بذل الأسباب الممكنة ظهرت قدرة الله في الوقت الذي تعطلت فيه الأسباب. وموسى - صلى الله عليه وسلم - خافت أمه أن يذبحه فرعون ورجاله، وكان من الممكن أن تخفيه في دار أو مغارة، أو تسافر به سراً من مصر، وكانت هذه هي طريقة النجاة المعروفة بين الناس. ولكن الله القدير أراد أن يجعل من قصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى يدل على كمال قدرته سبحانه، بأن ينجيه بأسباب الهلاك لا بأسباب النجاة، ليعلم الناس أن الله على كل شيء قدير، يظهر قدرته سبحانه بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب. فأوحى سبحانه إلى أم موسى أن تضعه في الصندوق، وتلقيه في الماء، ليكون هذا هو السبيل لنجاته وحفظ حياته، وسيراه الناس جميعاً، فالواقف على شاطئ البحر يتطلع للظفر به، فكأنما هذا إعلان لا إخفاء، ومع ذلك جعل الله هذا الإعلام هو عين الإخفاء، وهو وإن سلم من أكل الطير أو الغرق في النهر فسيأخذه لا شخص يحفظه ويربيه، بل سيأخذه عدو لله وعدو له، ولكن الله أراد نجاته وحفظه على يد من يريد هلاكه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص: 7]. ألا ما أعظم قدرة الله، لقد أخذه فرعون، ورباه في قصره على يد امرأته كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي

التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 37 - 39]. ثم أرسل الله موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى فرعون وملئه، فلم يؤمنوا بما جاء به، فأهلكهم الله وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. وهكذا أظهر الله قدرته في مواقف كثيرة في حياة موسى مع فرعون، ومع بني إسرائيل، وأظهر قدرته بضد الأسباب. والله عزَّ وجلَّ يعرض لنا هذه الأحوال التي جرت للأنبياء، وأظهر الله فيها قدرته في حفظهم ونصرتهم، تثبيتاً للمؤمنين على الإيمان، وليستفيدوا هم كذلك من قدرة الله بالايمان والتقوى كما استفاد الأنبياء والرسل. وليس معنى هذا ألا نأخذ بالأسباب المشروعة، ولا نعمل منتظرين ظهور قدرة الله، بل إن ظهور قدرة الله لا تتم إلا إذا استنفذ الإنسان الأسباب أولاً، فإذا فرغ الإنسان من فعل الأسباب المأمور بها ولم تعطه شيئاً، رفع يديه إلى السماء، ولهذا يقول الله سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]. والمضطر هنا هو الذي يستنفذ أسباب الدنيا، ولا يجد أمامه مخرجاً، وهذا هو الذي تنفتح لدعائه أبواب السماء. والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده، ليعلم من يتوجه إليه عند المصائب، وليعلم صدق العبد، وقوة إيمانه، وقوة صبره، وهذه الاختبارات الإيمانية هي الأساس، ليزيل الله الضيق، ويذهب الهم، ويفرج الكرب، ويظهر قدرته لعباده. فحين لا يقف للباطل والطغيان أحد، يظهر الله قدرته في تدميره بما شاء، حتى لا يعم الفساد في الأرض، فحين جاء أبرهة بعدد ضخم من الجنود والأفيال ليهدم الكعبة، وخرج سكان مكة إلى الجبال تاركين البيت الحرام، لأنهم لا

يستطيعون أن يقفوا أمام أبرهة وأفياله وجنوده وجيشه الجرار، وهنا تخلى أهل مكة عن قضية حق، وهي حماية بيت الله الحرام ممن يريد أن يهدمه، فماذا فعل الملك الجبار جل جلاله؟ هنا أراد الله سبحانه أن يريهم أن أبرهة الجبار الذي يخشونه، والجيش الجرار الذي يهابونه، هو عند الله لا يساوي شيئاً، ويعلمهم أن صاحب الحق الضعيف يجب أن لايخاف من الباطل القوي. ولهذا جاء الله جل جلاله بالطير الصغير الضعيف ليقول للبشر أن أضعف مخلوقاتي سيهزم هذا الجيش الجبار ويمحقه، ويقوم بنصرة الحق إذا تركتموه كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1 - 5]. وانطلقت الطير بأمر الله تحمل حجارة صغيرة من سجيل قضت على الفيلة الجبارة، والجيش الجبار في زمن قصير، وحطمت الجيش تماماً، وظهرت قدرة الله في حفظ بيته من الجبابرة المعتدين. ألا ما أعظم قوة الله، وما أعظم قدرته، وما أعظم خلقه وأمره: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال جاء حبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يَا مُحَمَّدُ! أوْ يَا أبَا الْقَاسِمِ! إِنَّ اللهَ تعالى يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ تَعَجُّباً مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقاً لَهُ، ثُمَّ قَرَأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا

يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]» متفق عليه (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» متفق عليه (¬2). فسبحان الذي خلق السموات السبع، ورفعها وأمسكها .. وأوحى في كل سماء أمرها، وأسكنها ملائكته، ومن شاء من أنبيائه ورسله، وأذن لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء إلى بيت المقدس، والعروج إلى السماء، ورؤية الملكوت الأعلى، السموات السبع وما فيها، والجنة والنار، والبيت المعمور، والملائكة والرسل والأنبياء وغير ذلك من الأيات الكبرى. فسبحان من هذا خلقه .. وهذه قدرته .. وهذه عظمة ملكه وسلطانه. قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} ... [الإسراء: 1]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) قال، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قال، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. قال: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ. فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ - عليه السلام - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ - عليه السلام - اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام - فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811)، ومسلم برقم (2786) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792).

جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى ابْنِ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِيُوسُفَ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا هُوَ قَدْ أعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قال: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا. فَإِذَا أنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا. فَإِذَا أنَا بِهَارُونَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أنَا بِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم -، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ إلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ. قال: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِإِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -، مُسْنِداً ظَهْرَهُ إلى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَهَبَ بِي إلى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ، قال، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أنْ

يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَنَزَلْتُ إلى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاةً، قال: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قال، فَرَجَعْتُ إلى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً. فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْساً، قال: إِنَّ أمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ. قال: فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتعالى وَبَيْنَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قال: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شيئاً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قال: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7517)، ومسلم برقم (162) واللفظ له.

4 - فقه رحمة الرب

4 - فقه رحمة الرب قال الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]. وقال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. وقال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء: 83]. الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، ورحمة الله تتجلى على الخلائق عامة، وعلى الإنسان خاصة: تتجلى ابتداءً في وجود البشر أنفسهم، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين. وتتجلى في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات، والقوى والأرزاق، والماء والهواء وغير ذلك مما يتقلب فيه الإنسان كل لحظة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. وتتجلى رحمة الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم مما يحتاجه في حياته: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. وتتجلى كذلك في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى كلما نسي أو ضل، وأخذه بالحلم كلما لج في الضلالة والجهالة. وتتجلى كذلك في مجازاته العبد على السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومحو السيئة بالحسنة:

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وتتجلى في تجاوز الله عن سيئات العباد إذا عملوها بجهالة ثم تابوا، وبكتابة الرحمة على نفسه كما قال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} ... [الأنعام: 54]. والله جل جلاله هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل شيء، واستوى على أعظم المخلوقات وأوسعها وهو العرش، بأوسع الصفات وهي صفة الرحمة فقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وقد أنزل الله في القرآن سورة كاملة باسمه الرحمن ومطلعها: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. وهي معرض لآلاء الرحمن، ومخلوقاته العظيمة، ومظاهر رحمته التي تبلغ كل عقل .. وكل سمع .. وكل بصر .. وتملأ فضاء السموات والأرض. ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان، تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته، وتعليمه البيان. فهذا القرآن العظيم نعمة كبرى، بل هو النعمة الكبرى على البشرية كلها، تتجلى فيه رحمة الرحمن بالإنسان، وآلاء الله ومخلوقاته، وهو منهج الله للبشرية، الذي يصلهم بربهم، وينظم أحوالهم ومعيشتهم وفق أمر ربهم، ويفتح عقولهم وحواسهم ومشاعرهم على هذا الكون العظيم الجميل، ومبدعه الذي شمل خلقه برحمته الواسعة. القرآن العظيم الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، وأنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال، ويشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا بالإيمان بالله، ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، فبه يتحقق في هذا الكائن معنى

الإنسان، وبدونه يسقط في أقل من رتبة الحيوان. ثم يذكر سبحانه خلق الإنسان، وتكريمه بالصفة الإنسانية الكبرى البيان النطقي والخطي والإشاري، الذي امتاز به الانسان على غيره. ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله ونعمه، ومظاهر رحمته، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة، والميزان الموضوع، والأرض وما فيها من مظاهر رحمته، وخلق الجن والإنس، ثم يعرض نعمة المشرقين والمغربين، والبحرين وعدم امتزاجهما، وعجائب ما يخرج منهما، وما يجري فيهما وعليهما من الجواري. فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار، والمخلوقات العظام، عرض سبحانه مشهد فنائها جميعاً بأمره وقدرته. ثم عرض سبحانه مشهد البقاء المطلق لله ذي الجلال والإكرام كما قال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]. وفي ظل الفناء المطلق للخلائق، والبقاء المطلق لله، يجيء التهديد المروع للإنس والجن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} [الرحمن: 31]. والله جل جلاله غفور رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو سبحانه الرحيم الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وقبلها منه. قال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39]. ومن رحمته سبحانه أنه ملأ سماواته من ملائكته، يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في التسبيح بحمده سبحانه، وفي الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم عند ربهم ليدخلهم الجنة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا

وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر: 7 - 9]. فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله بعباده المؤمنين. وما أجمل هذا الإحسان من المولى الكريم. وما أعظم هذه الرحمة من الرحمن الرحيم. وما أجملَ هذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد، وحسن التلطف بهم. ألا ما أعظمَ رحمة الله بعباده، فمع خلقهم، وتأمين أقواتهم، وقسمة أرزاقهم، خلق سبحانه ملائكة يدعون لهم، ويستغفرون لهم، ويشفعون لهم عند ربهم، ومع هذا كله أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعَّرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه وانعامه، ليدعوه بها، ويسألوه بموجبها. ومع هذا كله ينزل سبحانه كل ليلة إلى سماء الدنيا، اكراما للمؤمنين، واحتفاءً بهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يََنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ إنما يرسل رسله رحمة بالعباد، فهو الغني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا أحسنوا وآمنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة. والناس باقون برحمة الله ومشيئته، وأمرهم كلهم بيده سبحانه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758)

إن معرفة العبد برحمة الله الشاملة لعباده يسكب في القلب الطمأنينة إلى ربه، لا في حال السراء والنعماء فحسب، بل وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار، فهو يستيقن أن رحمة الله وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع، وكل تصرف. ويعلم أن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها، إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته، ويبعدون عنها. والطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، والرجاء والأمل، والهدوء والراحة، فهو في كنف ربٍ رحيم ودود. وهو سبحانه المالك لكل شيء، لا ينازعه منازع، ولكنه فضلاً منه ومنَّة كتب على نفس الرحمة، وأخبر عباده بما كتبه على نفسه من الرحمة، وهذا من كمال عنايته بعباده، فإن إخبارهم بهذه الحقيقة تفضل آخر. ورحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائهم أحياناً بالضراء والبأساء، فهو سبحانه يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته بعد الخلوص والتجرد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيّ عن بيِّنة. وقد أرسل الله سبحانه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمةً للعالمين، فهو أرحم الناس بالخلق، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. فهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، فنالوا بها سعادة الدنيا والآخرة. والكفار ردوها، فلهم الشقاء في الدنيا والآخرة، ورفع الله برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - العذاب العام عن أهل الأرض. وبهذه الرحمة انتشر الدين، وقبله الناس، وأحبوه، وجاهدوا في سبيله كما قال

سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. ورحمة الله وسعت كل شيء، وشملت كل أحد، المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، فهو سبحانه الرحيم الذي شمل الخلق كلهم برحمته، فسخر لهم ما في السموات وما في الأرض، فالشمس والقمر، والبر والبحر، والماء والتراب، والنبات والحيوان، والهواء، كل ذلك خلقه الله، وسخر منافعه للناس. وهذه النعم يستفيد منها المؤمن والكافر على حد سواء، وهي مسخرة للإنسان ولا خيار لها: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. فهذه رحمة الرحمن تشمل الخلق كلهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله عزَّ وجلَّ يطرد من رحمته من لم يؤمن به، ولم يشكر نعمه من الكفار والعصاة، ولا تشمل رحمته في الآخرة إلا عباده المؤمنين. ففي الدنيا كثرت متعلقات الرحمة، وفي الآخرة قلَّت متعلقات الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة ثابتة لم تتغير ولم تتبدل، ولو أن الكفار والعصاة أطاعوا ربهم لوسعتهم رحمة الله في الآخرة، ولكنهم حرموا أنفسهم منها بكفرهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)} [العنكبوت: 23]. ومن رحمة الله بعباده أنه كلما زاد عددهم كشف لهم من العلم ما يمكنهم من سهولة الحياة، وزيادة الإنتاج، وسهولة الحصول عليه كما هو حاصل في كل زمان ومكان: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. ورحمة الله لعباده، ودخولهم الجنة، ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم

يقوموا بها كما يجب لعظمته وجلال سلطانه. فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو سبحانه غير ظالم لهم فيه، فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم وأعمالهم. فإذا عذبهم الله عزَّ وجلَّ على ترك شكرهم، وترك أداء حقه الذي يجب عليهم، لم يكن ظالماً لهم، فإن المقدور للعبد من الطاعات لا يأتي به كله، بل لابد من فتور وإعراض، وغفلة وتوان، وتقصير وتفريط. وكذلك قيام المرء بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم لله، وبذل مقدوره كله في تحسين العمل، وتكميله ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم في حال الترك، وفي حال الفعل، وهذا هو السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار. ولو أتى العبد بكل ما يقدر عليه من الطاعات ظاهراً وباطناً، فالذي ينبغي لربه فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، فإن عجز عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، فإذا حرم جزاء ما لم يأت به مما يجب لربه لم يكن الرب ظالماً له. فإذا عطاه ربه الثواب، كان مجرد صدقة منه وفضل ورحمة، لا عوضاً عن عمله، والعبد مملوك لا يستحق شيئاً على سيده، فإن أعطاه شيئاً فهو إحسان منه وفضل. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه (¬1). والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى الإنسان وإن كرهتها نفسه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816).

وشقت عليه، فهذه الرحمة حقاً، فأرحم الناس بك من أخذ بك إلى ما يصلحك وإن كرهت ذلك نفسك. فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويمنعه شهواته التي تضره، ومتى أهمل ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه سبحانه أعلم بمصلحته. فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته، من كمال رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم أنه محسن إليه بابتلائه وامتحانه. فما أصاب العبد فهو من تمام رحمة الله به، لا من بخله عليه، كيف وهو سبحانه الجواد الكريم، الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، بل جود جميع الخلق كلهم من جوده عزَّ وجلَّ. فمن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه سبحانه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلاً منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم، وهو العليم الخبير. ومن رحمته سبحانه بهم أن نغَّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا بها، كي يرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره. فساقهم العليم الخبير إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. ومن رحمته سبحانه بعباده أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، من الشرك والمعاصي والتقصير، كما قال سبحانه:

{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. وتمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، ولذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين، وطريق الضالين وهم ضد المهتدين. فاللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان أن خلقه في أحسن تقويم .. وأكرمه بالدين .. وزوده بالسمع والبصر والعقل .. ولم يكله في الاهتداء إلى عقله وحده .. ولا على الفطرة وحدها .. ولا على كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى، وموجبات الإيمان. بل اقتضت رحمة العزيز الرحيم ألا يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة، الذي قرره الله له، وأكرمه به، ثم ترك له ما وراء ذلك: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: 203]. ومن رحمة الله سبحانه أنه أقام الدلائل الكونية في هذا الكون، والتي تدل على عظمة الخالق ووحدانيته، وقدرته وتدبيره، وملأ الفطرة بالأشواق إلى ربها، والاتصال ببارئها، والإذعان له، ووهبه السمع الذي يدرك به المسموعات، والبصر الذي يدرك به المرئيات، ووهبه العقل الذي يحصي به الشواهد، ولكن الله الكريم الرحمن مع هذا كله رحم العباد، وأعفى الناس من حجية الكون، وحجية العقل، وحجية الفطرة، ما لم يرسل إليهم الرسل، الذين يُعرِّفون الناس بربهم، وما ينبغي له، وليزنوا حياتهم بالحق الذي جاءوا به، وحينئذ إما أن يؤمنوا فينالوا الثواب، أو تسقط حجتهم ويستحقوا العقاب.

ومن رحمة الله بالبشرية وبره بهم أن تفضل عليهم بإرسال الرسل تترى، وهم يكذبون ويعاندون، ويشردون وينأون، ولكن الله حليم غفور، لا يؤاخذ الإنسان بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه، ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر ويدرج للعقاب كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. فلا يمكن لعقل واحد أن يهتدي لمثل ما جاءت به الرسل، بل لا يمكن ذلك لعقول البشرية كلها، وكيف يهتدي العقل، ويستغني عن ربه، ويستغني عن هدايته ورسله ودينه وهو مخلوق محتاج إلى الهدى؟. وقد علم الله أن العقل لا يُغني ما لم يتقوم بمنهج الله، ولذا لم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان ثم الإعراض. إن رحمة الله واسعة، وسعت كل شيء، وهي تتمثل في مظاهر كثيرة لا يحصيها العبد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها، سواء في ذات نفسه وتكوينه وتكريمه بما أكرمه الله به .. أو بما سخر الله له من حوله ومن فوقه ومن تحته .. أو فيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. ورحمة الله تبارك وتعالى تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتح الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان. يجدها في نفسه، وفيما حوله، وحيثما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة السعادة والرضوان. وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا

مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها عنه، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعيب الهلاك. ولا سعة في إمساكها عن الإنسان، ولو تقلب في أعطاف النعيم، ورفل في مراتع الرخاء بين الأنهار والقصور، وذوات الخدور. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والطمأنينة والرضى، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والنكد، والتعب والنصب. هذا الباب وحده يفتح، وتغلق جميع الأبواب، فلا عليك فهو السرور والرخاء، والفرج واليسر. وهذا الباب وحده يغلق، وتفتح جميع أبواب الدنيا والنعيم، فما هو بنافع، ولا عليك فهو الكرب والضيق، والشدة والقلق. الصحة والقوة، والجاه والسلطان، والمال والولد، كلها تكون مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمأنينة. يهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم، ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب. ويعطي الله الجاه والسلطان مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة للأجر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، مصدر بغي وطغيان، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما، لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار. ويبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا، وزاد إلى الآخرة، ويمسك عنه رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار

حسد وبغض، وإذا هو هم في جمعه، وهم في حفظه، وهم لفراقه. ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح، ومضاعفة للأجر، ويمسك عنها رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد، وعنت وشقاء، وسهر بالليل، وتعب بالنهار. فالمال والبنون مع الرحمة زينة وسعادة: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]. والمال والبنون بدون رحمة الله شقاء ونكد: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة:55]. إن العمر الطويل، والعلم الغزير، والمال الوفير، والمقام الطيب، كل ذلك يتبدل ويتغير من حال إلى حال مع الإمساك ومع الإرسال. ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله، فرحمته واسعة، وهي تضمك وتغمرك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. إن رحمة الله لا تعز على طالبها في أي مكان، وفي أي زمان، وعلى أي حال. وجدها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في النار .. ووجدها نوح (في لجة البحر .. ووجدها يوسف (في الجب، كما وجدها في السجن، كما وجدها في الملك .. ووجدها يونس (في بطن الحوت .. ووجدها موسى (في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون .. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور والدور. ووجدها محمد - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وفي طريق الهجرة، وفي بدر، وفي فتح مكة، وفي جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم -. ووجدها ويجدها كل من آوى إليها، يائساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون جميع الأبواب، وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، فهو الذي

يملكها وحده: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. فلا رجاء في أحد من الخلق، ولا خوف من أحد من الخلق، فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله جل جلاله. إن هذا اليقين لو استقر في قلب الإنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص، والقوى والقيم، ولو تضافر عليها الإنس والجن، فهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها، وهو العزيز الحكيم. وقد أنشأ الله بهذا القرآن العظيم تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام، الفئة التي صُنعت على عين الله، تحمل رحمة الله وشريعته، لتكون قدوة للبشرية إلى يوم القيامة، اولئك هم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] وهي قدر من قدر الله سلطه على من يشاء في الأرض، فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو وإثبات. وما يزال هذا القرآن بين يدي الناس قادراً لو حكموه أن ينشئ أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله. تمحو الظلم والبغي والباطل، وتثبت الحق والعدل والسلام. والله سبحانه هو الرحمن الرحيم، ورحمته لنا تزيد بمقدار رحمتنا لخلقه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ» متفق عليه (¬1). والرحمة المضافة إلى الله نوعان: الأولى: إضافة مفعول إلى فاعله كما قال الله سبحانه في الحديث عن الجنة: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7376) واللفظ له، ومسلم برقم (2319).

«إِنَّمَا أنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي» متفق عليه (¬1). فهذه رحمة مخلوقة، مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق، وسماها رحمة، لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة، وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء، ومنه تسمية المطر رحمة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة» متفق عليه (¬2). الثانية: إضافة صفة إلى موصوف، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه النسائي في الكبرى والحاكم (¬3). فالرحمة هنا صفة لله يستغاث بها، ولا يستغاث بمخلوق. ألا ما أعظم رحمة الله بهذه الأمة، حيث أنزل عليهم أحسن كتبه، وأرسل إليهم أفضل رسله، وشرع لهم أفضل شرائع دينه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. فالهدى هو العلم بالحق والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به من المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، وتم الفرح والسرور. ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالفرح بالقرآن الذي هو أعظم نعمة ومنة، والفرح بالإيمان وعبادة الله التي يحصل بها الأنس والطمأنينة، واللذة والسكينة كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850)، ومسلم برقم (2846)، واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، واللفظ له ومسلم برقم (2752). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي برقم (10405) وأخرجه الحاكم برقم (2000). انظر صحيح الترغيب رقم (654) وانظر السلسلة الصحيحة رقم (227).

يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. والله سبحانه خير من غفر، وأرحم من ملك، وأكرم من أعطى، فاللهم: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} ... [الأعراف: 155]. وعذاب الله إنما يحل بمن تعرض لأسبابه، أما رحمة الله فقد وسعت كل شيء في العالم العلوي والعالم السفلي، فلا مخلوق إلا وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست إلا للمؤمنين خاصة كما قال سبحانه: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]. ومن رحمته المكرورة كل يوم وليلة على مدى الدهر أن جعل لعباده النهار ليبتغوا من فضله، وينتشروا في ضيائه لطلب أرزاقهم ومعايشهم، وجعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وتستريح أنفسهم وأبدانهم فيه من تعب التصرف في النهار، فهذا كله من فضله ورحمته بعباده: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} [القصص: 73]. اللهم: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)} [المؤمنون: 109]. اللهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. سبحانك ما أعظمك، سبحانك ما أكرمك، سبحانك ما أرحمك: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]. والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه يوم القيامة من الفضل والإحسان، والعفو والصفح، والتجاوز والغفران، ما لا تعبّر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار، ولا يخطر على القلوب. ويتطلع إلى رحمته في ذلك اليوم جميع الخلق لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت

رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. فقل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، فهو الرحمن الرحيم. وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك. قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 26]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان العزيز الرحيم، الذي رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وكما لا تخلو سنة من مطر ينزل رحمة بالعباد، كذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن نفحة من نفحات الله يرحم بها من يشاء من عباده. وكما يقوي انتظار نزول الغيث في أوقات الربيع عند ظهور السحب، يقوى كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وشهر رمضان، وآخر الليل .. وعند الشدة والاضطرار، ونحو ذلك. اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وراحم ضعفنا وذلنا وانكسارنا بين يديك، أنت ربنا، وأنت أرحم الراحمين. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2753).

5 - فقه علم الرب

5 - فقه علم الرب قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 78]. وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. الله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء، الذي يعلم بكل شيء في السموات والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} ... [الحجرات: 16]. وهوسبحانه العالم بكل شيء في السموات والأرض من الأشياء والأشخاص، والنيات والأعمال، والخواطر والحركات: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. وهو سبحانه العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم مثاقيل الجبال .. ومكاييل البحار .. وعدد قطر الأمطار .. وعدد ذرات الرمال .. وعدد ورق الأشجار .. وما أظلم عليه الليل .. وما أشرق عليه النهار. لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره .. ولا بحر ما في قعره: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29].

وهو سبحانه اللطيف الخبير الذي يعلم القليل والكثير، ويعلم الصغير والكبير، ويعلم القريب والبعيد، ويعلم الباطن والظاهر: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]. فسبحان اللطيف الخبير، المطلع على البواطن والأسرار، الذي يعلم خفايا القفار والبحار والجبال والظلام. والله جل جلاله علام الغيوب، وعلمه محيط بكل شيء، لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في الليل ولا في النهار. يعلم ما في البر والبحر، وما في جوف الأرض، وما في طباق الجو، من حي وميت، ورطب ويابس، يعلم ذلك ويراه، في الليل أو النهار، في النور أو الظلام: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6]. وهو سبحانه الذي يعلم أستار الغيوب المختومة في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ويعلم مجاهل البر الواسعة، وغيابات البحر العميقة، ويعلم عدد الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، وكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس في هذا الكون العظيم، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط بكل شئ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الذي يعلم الغيوب كلها، ويعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار، والزروع والثمار، والحصى والرمال، والأنفاس والكلمات والذرات. وسبحان الذي يعلم ما في البحار من النبات والمعادن والحيوان والذرات. ألا ما أعظم الرب سبحانه، وما أوسع علمه الذي يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فسبحانه من إله لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، ولا يحيط أحد بشيء

من علمه إلا بما شاء. والله سبحانه هو العليم بكل شيء، ولا يخفى عليه من أحوال خلقه شيء، فهو الذي خلق البشر، وخلق قلوبهم، وخلق نفوسهم، وهو الذي يعلم مداخلها ومكامنها التي أودعها إياها، ويعلم الجهر وما يخفى. فماذا نخفي؟ .. وماذا نعلن؟: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)} [إبراهيم: 38]. إن السر والجهر كله مكشوف لعلم الله سواء، وهو سبحانه يعلم ما هو أخفى من السر، وهو عليم بذات الصدور، فهو الذي خلق ما في الصدور كما خلق الصدور، ألا يعلم سبحانه من خلق وهو الذي خلق؟ وهو سبحانه اللطيف الخبير، الذي يصل علمه إلى الدقيق والصغير، والخفي والمستور، فيعلم النيات والإرادات، والأقوال والأفعال، والسرائر والغيوب: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13، 14]. والله جل جلاله محيط بكل شيء، أحاط علمه بالبشر وحركاتهم، فهم في قبضته، لا ينامون إلا بإذنه، ولا يقومون إلا بإذنه، ولا تتحرك جوارحهم بفعل أو ترك إلا بإذنه، ولا يعملون من عمل إلا وعند الله علم بما كسبت نفوسهم من خير أو شر، وهم مراقبون في حركاتهم وسكناتهم، لا يند عن علم الله منهم شيء: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} ... [الأنعام: 60]. وهو سبحانه القاهر فوق عباده، العليم بأحوالهم، الرقيب عليهم، وهم جميعاً تحت سيطرته وقهره وعلمه، فكل حركة من حركاتهم بقدر، وكل نفس من أنفاسهم بقدر، وعليهم ملائكة يحصون على كل إنسان ما يفعله من خير أو شر في الدنيا، ثم إذا جاء أجلهم توفتهم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، فلا يزيدون ساعة مما قدر الله ولا ينقصون، ثم يردون إلى ربهم ليحكم فيهم

بحسب أعمالهم: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 61، 62]. والله عليم بكل شيء، فلا يفلت شيء عن علم الله في الأرض ولا في السماء، ولا يمكن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه، ولا يمكن التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف، فكل شيء معلوم لعلام الغيوب: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5]. والله سبحانه عليم بأحوال الخلائق كلها، يعلم المؤمنين والكافرين والمنافقين، ويعلم خبايا نفوسهم، وما تنطوي عليه صدورهم، وما يصدر عن جوارحهم. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول الكفر والنفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. والله بكل شيء عليم، يعلم الجهر وما يخفى، ويعلم كل شيء علماً مطلقاً كاملاً شاملاً، والناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه، فهو سبحانه العالم الذي علم عباده ما فيه مصالحهم في الدنيا والآخرة، وأحاط بكل شيء علماً، والعباد لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو الذي يعلم أقوالهم وأفعالهم، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وهو سبحانه الرحمن الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، تارة بلسانه، وتارة بقلمه، وتارة بإشارته: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)

عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. وهو سبحانه العليم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، علمه أشياء، وزوى عنه أشياء، ونسبة ما يعلمه الإنسان، بل ما تعلمه البشرية كلها إلى ما لا تعلمه كنسبة الذرة إلى الجبل، والقطرة إلى البحر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. وهو سبحانه: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 4، 5]. وإذا كان العبد يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير فليتق الله ربه، وليحذر من معصيته حتى لا يتعرض لعقوبته: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. وهو سبحانه عالم الأسرار والخفيات: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)} ... [الأنعام: 3]. فمن يستطيع من البشر أن يتخفى من الله بسر أو نية أو حركة. إن القلب الذي يخفي فيه الإنسان النية من خلق الله، وهو سبحانه يعلم دروبه وخفاياه وما فيه، والنية التي يخفيها الإنسان هي كذلك من خلقه، وهو يعلمها، ويعلم أين تكون، والبدن الذي يتحرك بالأفعال هو من خلق الله، يحركه بما شاء، في أي وقت شاء، ويعلم النيات والأفعال والأقوال قبل وقوعها. فماذا يستر الناس؟، وماذا يخفون؟، وأين يستخفون؟: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. إن القرآن يسكب هذه الحقائق العظيمة في قلب المؤمن، لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور، ويملأ قلبه بالتعظيم والإجلال للكبير المتعال، ويبعث فيه اليقظة والتقوى لأداء الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض، وذلك لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه وما يكمن فيه من سر ونية هو من

خلق الله، الذي يعلمه الله، وعندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير، وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، والغيب والشهادة، وما في الصدور وما في القلوب: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18]. والله سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم كل شيء: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2]. فهو سبحانه الذي يعلم ما يقع في كل لحظة من الحركات والسكنات، والأحجام والأشكال، والأقوال والأفعال، والمخلوقات والأشياء. إن أهل الأرض كلهم لو وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع من أمر الله وخلقه في لحظة واحدة، لأعجزهم تتبعه، فضلاً عن إحصائه، لكن الله علام الغيوب يعلمه، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فكم من شيء في هذه اللحظة يلج في الأرض من مطر وبذر وحيوان؟. وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها من نبات وحيوان، ومعدن وغاز؟. وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء من الملائكة والأرزاق، والأقدار والأسرار، والأوامر والأمطار والرحمات؟. وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها من الملائكة والأرواح والأعمال وغيرها؟ كم من شيء يلج في الأرض؟، وكم من حبة تختبئ في بطن هذه الأرض؟، وكم من دودة، ومن حشرة، ومن هامة، ومن زاحفة تلج في طول الأرض كلها؟. وكم من قطرة ماء، ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء، تندس في أحشاء هذه الأرض الفسيحة؟. إن الله وحده هو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي يعلمه، وهو الذي دبره، وهو

الذي يقوم عليه: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6]. وكم يخرج من الأرض .. كم من نبتة تنبثق .. وكم من نبع يفور .. وكم من بركان يتفجر .. وكم من غاز يتصاعد .. ، وكم من مستور ينكشف .. وكم من حيوانات وحشرات تخرج من بيتها المستور؟. وكم وكم يخرج منها مما يرى ومما لا يرى من المخلوقات؟. إن الله يعلم ذلك كله، وهو الذي أعطاه أمر الوجود فوجد، وأمر البقاء فبقي، وأمر الحركة فتحرك، وأمر السكون فسكن وأعطاه أمر الحياة فحيا، وأعطاه أمر النفع والضر فنفع أو ضر. فسبحان الخلاق العليم، وسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء. هذا بالنسبة للأرض، أما السماء فكم مما ينزل من السماء .. كم من نقطة مطر ... وكم من شهاب ثاقب .. وكم من شعاع محرق .. وكم من شعاع منير .. وكم من قضاء نافذ .. وكم من قدر مقدور؟. وكم من رحمة تنزل؟ .. وكم من رزق ينزل؟ .. وكم من أمر ينزل؟ .. كم من أمر ينزل بالإحياء والإماتة .. والهداية والضلالة .. والعزة والذلة .. والعافية والمرض .. والسعادة والشقاوة؟. وكم وكم مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله وحده؟ الذي أحاط بكل شيء علماً. إن الله يعلم جميع ذلك، ونحن لا نعلمه. يا حسرة على العباد، ماذا علموا وماذا جهلوا من عظمة الرب، وقدرته، وجلاله وجماله، ودينه وشرعه؟: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91].

وكم مما يعرج في السماء؟. كم من نفس صاعد من نبات وحيوان وإنسان؟. وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مخفية لم يسمعها إلا الله في علاه؟. وكم من شكوى رفعت لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلَّ؟. وكم من دعاء لا يحصيه ولا يجيب صاحبه إلا الله؟. وكم من روح من أرواح الخلائق متوفاة؟. وكم من مَلك يعرج بأمر الله؟. وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟. وكم من روح تفتح لها أبواب السماء؟. وكم من روح تصعد ثم تطرح؟. وكم من قطرة بخار صاعدة من بحر؟. وكم من ذرة غاز صاعدة من جسم؟. إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك كله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]. إن هذا حديث عظيم يهز الجبال الرواسي، فأين العقول التي تفقه؟ .. وأين القلوب التي تخشع؟ .. وأين العيون التي تدمع رغبة ورهبة وخوفاً، وإجلالاً وتعظيماً، وتسبيحاً وتكبيراً لمولاها العزيز العليم؟. ماذا مع البشر من العلم؟ .. وأين يذهبون؟. وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة، ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟. أما إدراك جميع ما يجري في كل هذا الكون في كل اللحظات فأمر يفوق الخيال والتصور، ولا يدركه ولا يعلمه ولا يحيط به إلا العليم الخبير الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأحصى كل شيء عدداً. فسبحان عالم الغيب والشهادة، المطلع على الضمائر والسرائر، المحيط بكل

مضمر وظاهر، في كل زمان، وفي كل مكان. الذي لا يغيب عن علمه، ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما في كل قلب من النوايا والخواطر والإرادات: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} ... [يونس: 61]. إن الشعور بعلم الله وعظمته ورقابته على هذا النحو شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً. فشعور هذا المخلوق الضعيف، وهو مشغول بشأن من شؤونه، وإحساسه أن الله معه، شاهد أمره، حاضر شأنه، بكل عظمته سبحانه، وبكل قوته، وبكل هيبته وجبروته، الله خالق هذا الكون العظيم، ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان، الله مع هذا المخلوق الإنساني، الذرة التائه في الفضاء، لولا عناية الله تمسك به وترعاه، إنه شعور رهيب يرجف له الفؤاد، ويدفع المسلم إلى الحياء من ربه، وحسن الطاعة والانقياد له، لئلا يناله غضب الجبار وعقوبته. وهو كذلك شعور مؤنس مطمئن أن هذا الإنسان ليس مهملاً ولا متروكاً بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية. إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن مع ذلك شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة التامة لكل ما في الكون: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61]. إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي يعلم ما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو. فهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وزاحفة وهامة، وطيور وحشرات، في البر والبحر والجو، ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة، وتكمن في باطنها، أو تطير في جوها، أو تختفي في مساربها

ودروبها، ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحصيها إلا الله وحده، إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو الذي يعلم أين تستقر؟ وأين تكمن؟، ومن أين تجيء؟، ومن أين تذهب؟، ومن أين تأكل؟. وكل منها مقيد في علم الله حياً، ومقيد في علم الله ميتاً، ولا يعزب عنه منها شيء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. إن فؤاد الإنسان يرجف، وكيانه يهتز، حين يرى عظمة العلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات في هذا الكون العظيم، وحين يحاول تصور ذلك بخياله الإنساني فلا يطيق، ويزيد على مجرد العلم بها تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الكبير من المخلوقات الهائلة، والذي يعجز عن تصوره الخيال البشري، كمية ونوعية .. ومكاناً وزماناً .. وإيصاله لكل مخلوق. وقد أوجب الله سبحانه على نفسه، وتكرم على خلقه مختاراً أن يرزق جميع هذه المخلوقات الكثيرة الهائلة التي تدب على وجه هذه الأرض. فأودع الله عزَّ وجلَّ هذه الأرض، ودحاها بالأرزاق، وأودع فيها القدرة على تلبية حاجات هذه الكائنات جميعاً، وأودع هذه الكائنات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض، ساذجاً خامة كالمعادن، أو منتجاً بالزرع، أو مصنوعاً، أو مركباً إلى غير ذلك من الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده وحفظه. فسبحان العليم القدير: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]. وعلمُ الله عزَّ وجلَّ واسع شامل، لا يند عنه شيء، فالله سبحانه يعلم الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، والحب المدفون في التراب، والدواب التي تدب في قعر البحار. ويعلم سبحانه كل مستخف بالليل، وكل سارب بالنهار، وكل هامس، وكل جاهر، وكل أولئك مكشوف لعلم الله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ

الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد: 8 - 10]. والله سبحانه عليم بأحوال الرجال والنساء، وأحوال الذكور والإناث، قادر على خلقهم متى شاء، وفي أي مكان شاء، وبأي عدد شاء: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)} [فاطر: 11]. فالله سبحانه هو العليم الذي يعلم ما تحمل كل أنثى من إناث الإنسان والحيوان، والطير والأسماك، والزواحف والحشرات، والأشجار والنباتات، وما سواها مما نعلمه ومما لا نعلمه، وكلها تحمل وتضع بأمر الله. وعلم الله شامل واقع على كل حمل، وعلى كل وضع، في جميع هذا الكون المترامي الأطراف. وكذلك الله وحده يعلم جميع الأحياء والأموات في هذا الكون، من شجر ونبات، وطير وحيوان، وإنس وجان، وما سواه على اختلاف الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والأماكن والأزمنة. وهذه المخلوقات التي لا يمكن حصرها، ولا يعلمها إلا خالقها، منها ما يعمر فيطول عمره، ومنها ما ينقص من عمره فيقصر، وفق علم مقدور، متعلق بكل جزء من كل فرد، يعمر أو ينقص من عمره، كل ذلك في كتاب من علم الله الشامل الدقيق، وذلك كله لا يكلف جهداً ولا عسراً، وهو على الله يسير. والتعمير يكون بطول الأجل، وعدد الأعوام، كما يكون بالبركة في العمر، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً، وكذلك يكون نقص العمر في عدد السنين، أو نزع البركة من العمر، وإنفاقه في اللهو والعبث، والكسل والفراغ، وكل ذلك في كتاب. والجماعات كالآحاد، والأمم كالأفراد، كل منها يعمر أو ينقص من عمره.

والأشياء كالأحياء، كلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم. فما أعظم خالق هذا الكون، وما أعظم قدرته، وما أوسع علمه. إن تصور هذا الكون، وما فيه من المخلوقات العظيمة، يوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد، وأسلوب جديد. وإن القلب الذي يبصر يد الله وعينه وعلمه على كل شيء بمثل هذه الدقة والرقابة، ليصعب عليه أن ينسى أو يغفل أو يضل، وهو حيثما تلفت واتجه، رأى الخالق والمخلوق، والمصور والصور، ووجد علم الله محيطاً بكل شيء، ورحمته وسعت كل شيء. إن تصور معية الله لكل أحد، وفي كل حالة، أمر جليل رهيب، إنها حالة تهز القلوب، لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز خوفاً، وحياءً، وأنساً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. إن مجرد معية الله لكل إنسان ومراقبته ظاهره وباطنه أمر هائل، فكيف إذا كان يتبع ذلك حساب وعقاب؟، وكيف إذا كان ما يُسرُّه المتناجون ويخفونه سيعرض على الأشهاد يوم القيامة؟. إن الله جل جلاله هو الذي خلق البشر كلهم، وعلمهم من العلم ما لم يكونوا يعلمون: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. إن جميع ما أعطى الله البشرية من العلم، لو جمع كله لفرد، ثم كانت البشرية كلها على علم ذلك الفرد، لكان ذلك كله بالنسبة للعلم الإلهي أصغر من الخردلة بالنسبة للجبل، ولا ينقص ذلك العلم من علم الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

وكما لا يستطيع البشر أن يخرجوا من الأرض التي أقلتهم، ولا من السماء التي أظلتهم، فكذلك لا يستطيعون الخروج من علم الله الذي أحاط بكل شيء علماً في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وفي الدنيا، وفي الآخرة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، وعالم الغيب أكبر من عالم الشهادة وأوسع منه، ونسبته إليه أصغر من الذرة بالنسبة للجبل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]. إن الله تبارك وتعالى قد جعل علم الساعة غيباً لا يعلمه سواه، ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة. وهو سبحانه الذي خلق الغيث، وينزله على خلقه وفق حكمته بالقدر الذي يريد، في المكان الذي يريد، على المخلوقات التي يريد، في الوقت الذي يريد، وعلم الله بالغيث شامل لتكوينه وتوزيعه وقدره على مدى الدهر. وهو سبحانه الذي يعلم ما في الأرحام وحده، ماذا في الأرحام في كل لحظة؟ .. وماذا فيها في كل طور؟ .. وماذا فيها من النطف والأجنة؟. وماذا في الأرحام من غيض وفيض .. ؟ ومن حمل حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم؟. فالله وحده هو الذي يعلم نوع هذا الحمل، ذكراً أم أنثى، ناقصاً أم تاماً. وهو سبحانه وحده الذي يعلم موعد خلق الانسان، وموعد نفخ الروح فيه، وموعد نزوله، ولونه وحجمه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له. وهو سبحانه الذي يعلم ماذا تكسب كل نفس من خير أو شر، وطاعة أو معصية، وحلال أو حرام. وهو سبحانه وحده الذي يعلم متى يموت الإنسان، وأين يموت؟.

إن النفس إذا عرفت عظمة الله، ومقدار علم الله، تطامنت من كبريائها، وخشعت لله عزَّ وجلَّ، وسلمت لأمره. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع. سبحان العليم القدير الذي يعلم عدد النجوم، وعدد قطر الغيوم، ويعلم عدد الملائكة، وعدد كلامهم وتسبيحهم وتقديسهم. ويعلم كل ذرة في الكون، وكل طائر في الجو، ويعلم كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وكل متحرك وساكن، وكل ذاكر وغافل، وكل ناطق وصامت. ويعلم كل صالح ومفسد، وكل مقبل ومدبر، وكل صحيح ومريض، وكل غني وفقيروكل مسافر ومقيم. ويعلم كل عالٍ وسافل، وكل ضاحك وباك، وكل مسرور ومحزون، وكل خائف وآمن، وكل مؤمن ومنافق: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} ... [الحج: 70].

6 - فقه جمال الرب

6 - فقه جمال الرب قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو الجميل الذي له الجمال المطلق في كل شيء. وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات .. وجمال الأسماء .. وجمال الصفات .. وجمال الأفعال. فأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. أما جمال الرب تبارك وتعالى في ذاته، وما هو عليه من الحسن والجمال والكمال فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره. ومن أعز أنواع المعرفة، معرفة الرب سبحانه بالجمال، وكل العباد عرفه سبحانه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله عزَّ وجلَّ. ولو أن الخلق كلهم كانوا على أجملهم صورة، ثم كانوا كلهم على جمال تلك الصورة، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه، لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس في رابعة النهار. فهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه، الرحيم الذي لا أرحم منه، الكريم الذي لا أكرم منه. ويكفي في جماله سبحانه أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعه وخلقه وجماله، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال، وهذا الحسن، وهذه الزينة؟. كم يكون جماله سبحانه، وهو الذي خلق الجمال كله في الكون كله؟. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (91).

فسبحان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]. وهو سبحانه نور السموات والأرض، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، ويوم القيامة تشرق الأرض بنوره: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]. وحجابه النور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬1). وكلامه نور كما قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]. ودينه نور كما قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. ويكفي في جماله سبحانه أن له العزة جميعاً كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. وله القوة جميعاً كما قال سبحانه: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]. ويكفي في جماله سبحانه أن له الفضل كله، وله الجود كله، وله الإحسان كله، وله النعمة كلها، وله الملك كله، وله الخلق كله، وله الأمر كله. وهو سبحانه الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، الكريم المنان، الكبير المتعال، العزيز الجبار، العليم الحكيم. حجب سبحانه الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال. فالعبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (179).

ومن هنا نعلم أن الله تبارك وتعالى له الحمد كله، وله الحب كله، وأن أحداً من خلقه لا يحصي ثناءً عليه، بل هو سبحانه كما أثنى على نفسه، فهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد لذاته، وأن يحب لذاته، وأن يشكر لذاته، وأن يحمد لذاته: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]. {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وهو سبحانه يحب نفسه، ويحمد نفسه، ويثني على نفسه، ويمجد نفسه. فحمده لنفسه وثناؤه على نفسه، وتمجيده لنفسه كقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. وقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ: 1]. وحبه تبارك وتعالى لنفسه، وحمده لنفسه، وتوحيده لنفسه، هو في الحقيقة الحمد والثناء والتوحيد الكامل الذي يليق به سبحانه. وهو سبحانه كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه. وهو سبحانه كما يحب ذاته، يحب صفاته وأفعاله، فكل أفعاله حسن محبوب، وإن كان في مفعولاته ما يبغضه ويكرهه، فليس في أفعاله ما يكرهه ويسخطه، فأفعاله وصفاته كلها حسنى. وليس في الوجود ما يحب لذاته، ويحمد لذاته إلا الله عزَّ وجلَّ. وكل ما يحب سواه، فإن كان المحبوب لأجله، وتابع لمحبته، فمحبته صحيحة، وإلا فهي باطلة، ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. وهذه حقيقة العبودية، وحقيقة الإلهية، فإن الإله الحق هو الذي يُّحب لذاته، ويُّحمد لذاته، ويُعبد لذاته، وصرف ذلك لغيره جهل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي

أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64]. فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه، وبره ورحمته، وحلمه وعفوه، ومغفرته وإكرامه؟. فعلى العبد أن ينظر في الآيات الكونية، والمخلوقات الربانية، والآيات القرآنية ليعلم أنه لا إله إلا الله، فيحبه ويحمده لذاته وكماله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وهذا النظر، وهذا التفكر، وهذا التدبر، هو الذي يتغذى به القلب، وينشرح به الصدر، ويزداد به الإيمان، فيقبل على الطاعات بلذة ورغبة، وخشوع وخضوع، لما يرى من عظمة الخالق، وعظمة مخلوقاته، وآلائه وإحسانه، وجلاله وجماله، وحسن خلقه وتدبيره. وعلى العبد كذلك أن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا الله وحده، فيحبه لإحسانه وإنعامه، ويحمده على ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61]. وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته شيء، وليس كمحبته محبة، والمحبة له، مع كمال الذل له، مع كمال التعظيم له، هي العبودية التي خلق الله الخلق لأجلها، ولا يصلح ذلك إلا لله سبحانه. وحمده سبحانه يتضمن أصلين: الأول: الإخبار بمحامده وصفات كماله. الثاني: المحبة له عليها. فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامداً، ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامداً له، حتى يجمع الأمرين. والله سبحانه يحمد نفسه بنفسه كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]. ويحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله

وعباده المؤمنين، فهو الحامد لنفسه بهذا .. وبهذا، فإن حمد الخلق له بمشيءته وإذنه، وخلقه وتكوينه. فإنه سبحانه هو الذي جعل الحامد حامداً، والمسلم مسلماً، والمصلي مصلياً، والتائب تائباً، وجعل من خلقه من يدعو إليه كما قال سبحانه عن آل إبراهيم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء: 73]. وكذا جعل سبحانه من خلقه من يدعو إلى النار كما قال سبحانه عن فرعون وجنوده: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص: 41]. وهو المحمود على هذا وهذا، وله الحكمة البالغة في جميع ذلك. فهو سبحانه ذو الفضل والإحسان، منه ابتدأت النعم، وإليه انتهت، فابتدأت بحمده، وانتهت إلى حمده، فهو سبحانه الرحيم الذي ألهم عبده التوبة، وفرح بها، وأعانه عليها، وهي من فضله وجوده. وهو سبحانه الذي ألهم عبده الطاعة، وأعانه عليها، ثم أثابه عليها، وهي من فضله وجوده. قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} ... [الحجرات: 17]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الغني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقير إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إلى ربه في جميع أحواله. والله تبارك وتعالى جميل يحب الجمال، خلق السماء وزينها بالنجوم، وخلق ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309) واللفظ له، ومسلم برقم (2747).

الإنسان في أحسن تقويم، وخلق الأرض وزينها بما على ظهرها من النبات والمياه والجبال والسهول والوديان. والله عزَّ وجلَّ يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه الله، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب سبحانه أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن بالشكر عليها. ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباساً وزينة تجمل ظواهرهم، ولباس التقوى الذي يجمل بواطنهم كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف: 26]. وكذلك جمَّل سبحانه أهل الجنة بأكمل جمال وأحسنه فقال في وصفهم: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 11، 12]. فجمَّل وجوههم بالنضرة، وقلوبهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير والحلى، وقصورهم بالذهب والفضة، وجعل خدمهم كاللؤلؤ المنثور. وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال، والهيئة واللباس، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال، والهيئات والثياب، فهو سبحانه الجميل الذي يحب الجمال وأهله، ويبغض القبيح وأهله. والجمال ثلاثة أنواع: منه ما يحمد .. ومنه ما يذم .. ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، كل ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه. والمذموم منه: ما كان للدنيا والرياسة والشهرة والفخر والخيلاء، والتوسل إلى الشهوات المحرمة، وأن يكون هو غاية العبد، وأقصى مطلبه، فإن أكثر النفوس

ليس لها همة في سوى ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ» أخرجه مسلم (¬1). فهذا الحديث مشتمل على أصلين عظيمين: أوله معرفة .. وآخره سلوك. فيعرف العبد ربه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبده بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق واللباس. فالله عزَّ وجلَّ يحب من عبده أن يجمِّل لسانه بالصدق، ويجمِّل قلبه بالإيمان والتوحيد، والإخلاص والمحبة، والإنابة والتوكل، والخوف والخشية. ويجمِّل جوارحه بالطاعات، ويجمِّل بدنه بإظهار نعمة الله عليه في لباسه، وتطهيره من الأنجاس والأحداث. فيعرف ربه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه. إن هذا الوجود الذي خلقه الله جميل، وجماله من جمال خالقه الجميل، الذي يملك الجمال كله، جمل الدنيا بما شاء، وجمل الآخرة بما شاء. وهذا الجمال الذي خلقه الله في هذا الكون يتكرر كل يوم بل كل لحظة، ونراه في السماء ونجومها وكواكبها، وفي الأرض ونباتها وأشجارها، وما يدب عليها من إنسان وطير وحيوان. قال الله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} [الصافات: 6]. وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (91).

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)} [غافر: 64]. إن عنصر الجمال مقصود قصداً في هذا الوجود، فكما يدل الخلق على الخالق، كذلك يدل الجمال على جمال الرب سبحانه، وإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء يصل إلى حد الجمال، وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل خلق، وفي كل عضو. فسبحان الخلاق العليم: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} ... [السجدة: 7]. فهل يستيقظ القلب ليتملى ويتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الدين العظيم، وفي هذا الكون العظيم؟، ومن ثم يصل إلى واهب الحسن والجمال في هذه المخلوقات، فيؤمن به، ويعرف جلاله وجماله، ويدين له بالعبودية والطاعة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]. اللهم كما خلقتنا في أحسن تقويم، زين قلوبنا بالإيمان، واشرح صدورنا لليقين، وجمل جوارحنا بالطاعات، وارزقنا أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، يا ذا الجلال والإكرام.

7 - فقه أسماء الله الحسنى

7 - فقه أسماء الله الحسنى قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} ... [الأعراف: 180]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. وقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي» أخرجه أحمد (¬2). الله تبارك وتعالى هو الرب العظيم، الملك الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، فله سبحانه كل اسم حسن، وهو كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، فهو الرحيم، الذي له رحمة عظيمة وسعت لكل شيء. وهو العليم، الذي أحاط علمه بكل شئ، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2736) واللفظ له، ومسلم برقم (2677). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4318)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).

وهو القدير، الذي له القدرة المطلقة، فلا يعجزه شيء. وأسماء الله وصفاته كثيرة، لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله وحده لا شريك له. فله سبحانه الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى. ومن حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح، فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد. ومن حسنها أنها ليست أعلاماً محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف دالة على الكمال والجمال والجلال. ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة، وأن له سبحانه من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها. ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه سبحانه، يحبها، ويحب من يحبها، ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث ويتفكر في معانيها، ويتعبد له بها. فسبحان الرب العظيم، المألوه المعبود، الله الذي لا إله إلا هو، العظيم في ملكه، الرحيم بعباده، الذي عم خلقه بإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وحفظه التام، ورحمته الواسعة. والله عزَّ وجلَّ جميع أسمائه حسنى يحب أن يُدعى بها .. وله رسل يحب أن يطاعوا .. وله كتاب يحب أن يحكَّم، ويمتثل ما فيه من أوامر .. وله دين يحب أن ينفذ في خلقه .. وله نعم كثيرة يحب أن يُشكر عليها .. وله خلقٌ اصطفاهم على غيرهم يحب أن يعبدوه وحده، بما شرعه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وهذا بيان وشرح موجز لأسماء الله الحسنى التي سمى الله بها نفسه في القرآن الكريم، وسماه بها أعلم الخلق به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنة النبوية:

الله ... جل جلاله

الله ... جل جلاله من أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الله، والإله. قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} [آل عمران: 2]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. الله تبارك وتعالى هو الإله الحق، واسم (الله) عزَّ وجلَّ دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العلا، مستلزم لجميع الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال. ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} ... [الأعراف: 180]. وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. فالله سبحانه هو الإله الحق، الذي يجب أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له وحده لا شريك له، لكمال ذاته، وكمال أسمائه، وكمال صفاته، وكمال أفعاله، وعظيم نعمه، وجميل إحسانه. فهو سبحانه الإله الحق، ودينه هو الحق، وعبادته هي الحق، وكل ما سوى الله باطل، وعبادته باطلة، لأن كل ما سوى الله مخلوق ناقص مدبر، عبد مملوك فقير من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئاً من أنواع العبادة.

والله عزَّ وجلَّ هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال. والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإله، الذي اشتق منه اسم (الله). واسم (الله) دال على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً، وخشوعاً وخضوعاً، وتفزع إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وذلك مستلزم لجميع صفات كماله سبحانه وتعالى. فصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله). وصفات الخلق والفعل، والقدرة والقوة، ونفوذ المشيءة، والتفرد بالنفع والضر، والعطاء والمنع، وتدبير أمر الخلائق أخص باسم (الرب). وصفات الإحسان والإنعام، والجود والبر، واللطف والحنان، والمنة والرأفة أخص باسم (الرحمن). واسم (الله) ما أطلق على غير الله وحده، فلا يوجد أحد اسمه الله سوى الله وحده: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]. وقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} ... [الإسراء: 110]. فهذان الاسمان (الله، والرحمن) أعظم الأسماء، واسم الله أعظم من اسم الرحمن، لأن الله قدَّمه في الذكر، ولأن اسم (الله) يدل على كمال الرحمة، وكمال القهر والغلبة، وكمال العظمة والعزة، واسم (الرحمن) يدل على كمال الرحمة، ولا يدل على كمال القهر والغلبة، والعظمة والعزة، فثبت أن اسم الله تعالى أعظم. والله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة، لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وكل موجود فإنما حصل بإيجاد الله له، وما حصل للعباد من أقسام

النعم لم يحصل إلا من الله، فغاية الإنعام من الله، والعبادة غاية التعظيم، وغاية التعظيم لا تليق إلا بمن صدرت عنه غاية الإنعام، وهو الله عزَّ وجلَّ، فثبت أن المستحق للعبادة ليس إلا الله تعالى. والله سبحانه هو الإله الحق الذي سكنت إليه العقول، واطمأنت بذكره القلوب، والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، فهو الإله الحق الكامل لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته، وإذا كان الكامل محبوباً لذاته، وثبت أن الله كامل لذاته، وجب كونه محبوباً لذاته، مستحقاً للعبادة وحده دون سواه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. فيا سعادة من وصل إلى ساحل بحر معرفته، ورأى عظمة ذاته وأسمائه وصفاته، وأبصر جماله وجلاله وكماله، وشاهد آلاءه وإحسانه وأفعاله. فمجَّده بلسانه، وعظَّمه في قلبه، وشكره بجوارحه، وتلذَّذ بعبادته وطاعته. والله سبحانه هو النور، وحجابه النور، احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أنَّى أرَاهُ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عزَّ وجلَّ: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬2). والله سبحانه هو المألوه المعبود المحبوب، والعباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في جميع الأحوال، فالإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية، فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيتوجه إليه، فإذا تخلص من ذلك البلاء، وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء، أشرك مع الله غيره، ونسب ذلك الخلاص إلى الأسباب وهذا متناقض، لأن الله تعالى هو الذي يفرج الكربات وقت البلاء، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (178). (¬2) أخرجه مسلم برقم (179).

وينعم على العباد في وقت الرخاء، فجيب الرجوع إليه في جميع الأحوال، والفزع إليه عند الضرورات، وعند الراحات، وعند الشدائد. والله عزَّ وجلَّ هو المحسن إلى عباده في جميع الأحوال، والمحسن محبوب مرجوع إليه وحده في كل الأوقات: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22]. والله سبحانه هو المؤمن، الذي أمن خلقه من أن يظلمهم، والذي خلق الأمن، ومنَّ به على من شاء من عباده، والذي تفزع إليه الخلائق عند النوائب، المجير لكل الخلائق من كل المضار، المنعم بصنوف النعم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. وهو سبحانه المتفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، ومغفرة السيئات، وكشف الكربات، وستر الزلات كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. فتبارك الله رب العالمين .. وتبارك الله أحسن الخالقين .. والحمد لله رب العالمين.

الرحمن

الرحمن ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرحمن .. والرحيم. قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. وقال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]. الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، ذو الرحمة الشاملة الواسعة لجميع الخلائق. وهو سبحانه الرحمن الرحيم، المستحق أن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه، لأنه الرحمن الرحيم، المتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء، ولا يماثلها رحمة أحد. والعالم العلوي والعالم السفلي كله قد امتلأ برحمة الله التي وسعت كل شيء، ووصلت ما وصل إليه خلقه كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. فبرحمته سبحانه خلق المخلوقات .. وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات .. وبرحمته حصل لها كل نعمة .. وبرحمته اندفع عنها كل نقمة .. وبرحمته عرَّف نفسه بأسمائه وصفاته وآلائه .. وبرحمته بين لعباده ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل .. وإنزال الكتب .. وشرع الشرائع. فمن آثار رحمته وجود جميع النعم، واندفاع جميع النقم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. والرحمن: اسم دال على الصفة القائمة به سبحانه. والرحيم: اسم دال على تعلقها بالمرحوم. فهو الرحمن الرحيم الذي يرحم خلقه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} ... [الحج: 65].

والرحمن من أسماء الله التي لا يسمى بها غيره كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وهو الله. وأما الرحيم فإن الله تعالى وصف به نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. فمن أسماء الله الحسنى ما يسمى به غيره كالعلي والرحيم ونحوهما، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك. والرحمة صفة كمال وجمال للرب سبحانه، فوصف نفسه بالرحمة، وتسمى بالرحمن الرحيم. وظهور رحمته سبحانه في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة ربانية تامة وسعت كل شيء. فالمخلوقات كلها شاهدة لله سبحانه بالربوبية التامة، وما في العالم العلوي والسفلي من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه، وما في الوجود من آثار رحمته العامة، والخاصة بالمؤمنين، مما لا يمكن عدٌّه ولا إحصاؤه، ولا جحده ولا إنكاره، كله شاهد برحمته العامة الشاملة التي وسعت كل شيء. بل آثار رحمته في الكون أظهر من نور الشمس: فبرحمته سبحانه أرسل إلى عباده الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وعلمهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة. وبرحمته عزَّ وجلَّ عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما علمنا به أنه ربنا ومولانا، وأنه العزيز الكريم الرحيم العفو الغفور. وبرحمته سبحانه علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا إلى مصالح ديننا ودنيانا.

وبرحمته جل جلاله خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً، وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات. وبرحمته عزَّ وجلَّ أنشأ السحاب، وسيره في البلاد، وسقى به العباد، وأنزل الغيث، فأنبت به الزروع والأشجار، وأخرج الفواكه والأقوات والمراعي: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]. وبرحمته عزَّ وجلَّ وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). وبرحمته سبحانه سخَّر لنا ما في السموات وما في الأرض. فسخَّر لنا الشمس والقمر، والرياح والمياه، والخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل، والدر والنسل والأكل، وسخر الأرض للإنبات من كل زوج بهيج: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وبرحمته تبارك وتعالى خلق الجنة، وخلق سكانها، وخلق أعمالهم. فبرحمته سبحانه خُلقت، وبرحمته عُمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، ومسلم برقم (2752)، واللفظ له.

وبرحمته طاب عيشهم فيها. ومن رحمة الرحمن الرحيم أنه يعيذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، ومن نفسه بنفسه. ومن رحمته سبحانه أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام النسل، مع حصول المتعة. ومن رحمته سبحانه أنْ أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وفسدت معيشتهم. ومن تمام رحمته عزَّ وجلَّ أن جعل في عباده الغني والفقير، والعزيز والذليل، والقادر والعاجز، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر:15]. وأوسع المخلوقات عرشه سبحانه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي هو أوسع المخلوقات، بصفة الرحمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. ولما استوى على عرشه بهذا الاسم، كتب مقتضاه على نفسه كتاباً فهوعنده وضعه على عرشه، أن رحمته سبقت غضبه، فكان هذا الكتاب كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، والتجاوز والإمهال، والحلم والأناة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا قَضَى الله الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» متفق عليه (¬1). فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر. وقد جعل الله عزَّ وجلَّ الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7453) واللفظ له، ومسلم برقم (2751).

الرحمن فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. وجعل سبحانه معاني السورة كلها مرتبطة بهذا الاسم، وختمها بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة .. إذ مجيء البركة كلها منه .. وبه وضعت البركة في كل مبارك .. فكل ما ذكر عليه بورك فيه .. وكل ما أخلي عنه نزعت منه البركة. ورحمة الله عزَّ وجلَّ وسعت كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ووسعت البر والفاجر، والمسلم والكافر، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى آناء الليل وآناء النهار، ولكن للمؤمنين الرحمة الخاصة بهم، فلهم الرحمة المطلقة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]. والكافر لا رحمة له في الآخرة، أما في الدنيا فرحمةالله عامة لجميع الخلائق. والله رؤوف رحيم، أرحم بعباده من الأم بولدها. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أخَذَتْهُ، فَألْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟». قُلْنَا: لا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» متفق عليه (¬1). وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رحمة الله تنال عباده الرحماء فقال: «إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5999) واللفظ له، ومسلم برقم (2754). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1284)، واللفظ له، ومسلم برقم (923).

وكلما كان الإنسان أقرب إلى ربه تعالى كانت رحمة الله تعالى أولى به. وكلما كان العبد طائعاً لله ورسوله، منتهياً عما نهى الله ورسوله عنه، كان استحقاقه للرحمة أعظم كما قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132]. وسمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالرحمة فقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وسمى الله سبحانه الجنة بالرحمة، وهي أعظم رحمة خلقها الله لعباده الصالحين فقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} عمران: 107]. وأرسل الله عزَّ وجلَّ رسوله بالرحمة فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} ... [الأنبياء: 107]. وإذا وصل العبد ما بينه وبين الرحمن بالعبادة والطاعة .. ووصل ما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان .. تم له أمر دينه ودنياه وأخراه .. ونال مراده من مولاه. وإن قطع ما بينه وبين الرحمن، وما بينه وبين الأرحام، فسد عليه أمر دينه ودنياه وأخراه .. وحرم رضا مولاه. وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نشر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن فعمر به البلاد، وأحيا به العباد، وإذا أُراد بهم سوءاً أمسك عنهم ذلك الأثر، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن. ومن تأمل هذا الكون العظيم بعين البصيرة، رآه ممتلئاً بهذه الرحمة الواحدة، التي ملأت طباق ما بين السماء والأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوة سبقت رحمتي غضبي، فالمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة. فهو سبحانه أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، يضع كل شئ في موضعه.

الملك

الملك ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الملك، والمالك، والمليك. قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران:26]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55]. الله تبارك وتعالى هو الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، والملك هو النافذ الأمر في ملكه، والملك أعم من المالك، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه. والله جل جلاله هو الملك الذي يملك كل شيء، وهو مالك المالكين كلهم، وما يملكون كله، وإنما استفادوا التملك والتصرف في أملاكهم من جهته سبحانه، فهو الذي خلقهم وملَّكهم ما هم فيه. فهو سبحانه ملك الملوك، ومالك الملك، ومالك الممالك، له الملك كله في الدنيا والآخرة، وله ملك السموات والأرض، وما فيهن من الملائكة والملوك والممالك والمماليك. وسائر المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه: من شمس وقمر، وليل ونهار، وكواكب ونجوم، وملائكة وأرواح، وإنس وجن، وطير وحيوان، وجماد ونبات، وبحار وأنهار، وسحب ومياه، وتراب وجبال، وهواء ورياح، وغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه، أو الوقوف على آحاده: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} ... [المائدة: 120]. والله جل جلاله هو الواحد القهار، المالك لجميع المخلوقات قاطبة، المتصرف

فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، ملكه كبير عظيم واسع، وقدرته في ملكه تامة مطلقة، فلا يعجزه شيء: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)} [الحديد: 2]. وهو سبحانه الملك الحق، الحي القيوم، القادر الذي لا يثقل عليه، ولا يعجزه حفظ هذا الملك العظيم، الواسع الكبير: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. والله تبارك وتعالى هو الغني الذي يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وله كل شيء، وهو المالك لخزائن السموات والأرض، ينفق كيف يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7]. والله جل جلاله هو الملك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، وكل يوم هو في شأن، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويخفض آخرين، ويفعل ما يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} ... [آل عمران: 26، 27]. والله عزَّ وجلَّ مالك يوم الدين، والملك في ذلك اليوم العظيم لله الواحد القهار، لا ينازعه فيه أحد من ملوك الدنيا وجبابرتها: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 26]. فيحكم الملك الحق في ذلك اليوم بالحكم الذي لا يجور، ولا يظلم أحداً مثقال ذرة، ويجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسئ بإساءته. عَنْ عبد اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ: أنَّ الله يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى

إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر:67]» متفق عليه (¬1). والله سبحانه من كمال ملكه كمال رحمته، وكمال قدرته كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. ومن الرحمة للخلق أن الله سبحانه مالك يوم الدين وحده، وله الملك يوم القيامة وحده، لأنه الذي يحاسب بالعدل والإحسان، ويعفو ويسامح، ويغفر ويستر، ولا يظلم ولا يجور: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} [غافر: 17]. والله تبارك وتعالى هو الملك الحق، وله الملك في السموات والأرض، وله الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة، والعزة والقوة: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. وصفة الملك تستلزم سائر صفات الكمال: فالملك الحقيقي التام يستلزم الحياة المطلقة .. والقدرة التامة .. والعلم الشامل .. والإرادة النافذة .. ويستلزم السمع والبصر .. والكمال والفعل .. وغير ذلك من صفات الكمال والجلال والجمال. فالله سبحانه هو الملك القوي القادر القاهر، الذي يدبر الأمر، ويصرف الأحوال، ويقلب الليل والنهار، ويفعل ما يشاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ملك عظيم قادر حكيم: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811) واللفظ له، ومسلم برقم (2786).

يأمر وينهى .. ويثيب ويعاقب .. ويعطي ويمنع .. ويعز ويذل .. ويكرم ويهين .. وينعم وينتقم .. ويخفض ويرفع .. ويحيي ويميت .. ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته .. ويحكم عباده بأمره وشرعه، ويتقدم إليهم بأمره ونهيه، ويعمهم بفضله ورحمته: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} [الفتح: 14]. فسبحانه لا إله غيره، ولا رب سواه. له الحمد على ملكه العظيم، وله الحمد على فضله الكبير، وله الحمد على رحمته الواسعة، وله الحمد على آلائه ونعمه السابغة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ: 1]. وكمال ملكه سبحانه لا بد أن يكون مقروناً بكمال حمده، وعموم حمده يستلزم ألا يكون في خلقه وأمره مالا حكمة فيه، وهو سبحانه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأحسن الخالقين. فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وإذا كان المُلك المطلق إنما هو لله وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، لأن ما سواه من ملوك الأرض وغيرهم إنما هم عبيد له، وتحت أمره وقهره، فلا بد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه، وتقديم حكمه على حكم غيره، ولا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، أما في معصيته فلا سمع ولا طاعة لأحد كائناً من كان. وقد يسمى بعض المخلوقين ملكاً إذا اتسع ملكه، إلاأن الذي يستحق هذا الاسم على وجه الكمال هو الله جل جلاله، لأنه مالك الملك، وليس ذلك لأحد غيره سبحانه. والمخلوقات كلها مملوكة لله، محتاجة إليه، لا تملك من السموات والأرض شيئاً، ولا مثقال ذرة، ولا تنفع أحداً ولا تضره إلا بإذن الله سبحانه: {قُلْ

أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]. ومن الناس من يطغى، ويظن أنه المالك الحقيقي، وينسى أنه مستخلف فقط فيما آتاه الله من ملك ومال، وجاه وسلطان، فيتكبر ويتجبر، ويظلم الناس بغير حق، ويفسد في الأرض كما قال فرعون لقومه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} [الزخرف:51]. وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]. فلما جنى هذه الجناية العظمى، ودعا قومه إلى هذه الضلالة الكبرى، واستجابوا له عاقبهم الله وأغرقهم جميعاً: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} [الزخرف: 54 - 56]. وإهلاك الله عزَّ وجلَّ لفرعون وقومه عبرة لكل ظالم متكبر من ملوك الأرض، تفرعن على الناس فيما آتاه الله من ملك، وظن أنه مخلد، ونسي أن ملكه زائل، وأن إقامته في ملكه مؤقتة، وإن ربك لبالمرصاد لكل طاغية. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وتبارك: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 9]. والله تبارك وتعالى هو الملك الحق، والملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي، ويتصرف في خلقه وأمره كما يشاء، فمن ظن أن الله عزَّ وجلَّ خلق خلقه عبثاً لم يأمرهم ولم ينههم، فقد طعن في ملكه، ولم يقدره حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91]. فكل من جحد شرع الله، وأمره ونهيه، وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة، فقد

طعن في ملك الله، ولم يقدره حق قدره. وكونه تعالى إله الخلق يقتضي كمال ذاته وأسمائه وصفاته، ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها، فكما أن ذاته الحق، فقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، ولقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، وأفعاله كلها حق، فمن أنكر شيئاً من ذلك فما وصف الله بأنه الحق. وكيف يظن أحد بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، وأن يتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115 - 116]. وهو سبحانه الملك الذي خلق الممالك كلها، المتصرف فيها كيف يشاء وحده، تصرف ملك قاهر عادل رحيم تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض. وتصرفه سبحانه في ملكه دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة، والرحمة والمغفرة، لا يخرج تصرفه عن ذلك: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. والله تبارك وتعالى هو الملك الذي له ملك كل شيء، وله ملك السموات والأرض، وله وحده الملكية الشاملة المطلقة في هذا الكون، والناس ليس لهم ملكيةً ابتداءً لشيء، إنما لهم استخلاف من الملك الواحد الذي يملك كل شيء، ويستخلف من يشاء، وعليهم أن يخضعوا في خلافتهم لشروط المالك الذي استخلفهم، فإن خالفوا فإن الله سيسألهم ويحاسبهم ويعاقبهم. فالله أعطى آل إبراهيم الملك والنبوة والكتاب، وآتى فرعون الملك والسيادة، وابتلى هذا .. وابتلى ذاك، فخسر هذا .. وفاز ذاك كما قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 54 - 55]. فسبحان الملك الذي بيده ملكوت كل شيء، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، وله العزة والكبرياء، وله القهر والسيطرة المطلقة على هذا الكون العظيم، سيطرة الملكية والاستعلاء، وسيطرة التصريف والتدبير، وسيطرة التبديل والتغيير. باقٍ لا يفنى، قوي لا يغلب، عدل لا يظلم، جبار لا يقهر، قادر لا يعجزه شيء، غني لا يحتاج إلى شيء. واحد لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 1، 2]. سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً .. قدر حجمه وشكله .. وقدر وظيفته وعمله .. وقدر مكانه وزمانه .. وقدر بقاءه وفناءه. فله الحمد على ملكه العظيم .. وله الشكر على عطائه الجزيل. «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ. اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

القدوس

القدوس ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القدوس. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. وقال الله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: 1]. الله تبارك وتعالى هو الملك القدوس، الطاهر من العيوب، المنزه عن الأولاد والأنداد والنقائص، الموصوف بصفات الكمال، التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلا. وهو سبحانه الملك القدوس، الممدوح بالفضائل والمحاسن، المنزه عن النقائص في ذاته وأسمائه وصفاته، وأفعاله وأقواله كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء: 87]. وأفعاله عزَّ وجلَّ منزهة عن الخطأ والنسيان، وعن الآفات والعيوب كما قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكر هذا الاسم في ركوعه وسجوده. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان المك القدوس، ذو الفضائل والمحاسن، المنزه عن النقائص والعيوب. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (487).

السلام

السلام ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السلام. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ، فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْألَةِ مَا شَاءَ» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو السلام، الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل نقص، لكماله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وهو سبحانه أحق بهذا الاسم من كل ما سواه، لأنه السالم من كل آفة وعيب، ونقص وذم، وله الكمال المطلق من كل الوجوه، وكماله سبحانه من لوازم ذاته: فالسلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له، وسلب جميع النقائص عنه. والسلام يتضمن سلامة ذاته من كل نقص وعيب، وسلامة أسمائه من كل ذم، وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين، وسلامة أفعاله من العبث والظلم، وخلاف الحكمة. فالله جل جلاله هو الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير. وهو القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب، والإعياء والعجز. وهو العليم الذي سلم علمه من النقص، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، أو يغيب عنه قدر ذرة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (831)، ومسلم برقم (402) واللفظ له.

وهو سبحانه السلام الذي سلم الخلق من ظلمه فلا يضلم أحداً. وهو سبحانه السلام الذي خلق الجنة دار السلام من الموت والمرض وسائر الآفات كما قال سبحانه عن المؤمنين: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)} [الأنعام: 127]. وهو سبحانه السلام الذي يسلم على عباده في الجنة كما قال سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} [الأحزاب: 44]. وهو سبحانه السلام، المسلم على أنبيائه ورسله، لإيمانهم وإحسانهم، وطاعتهم له، وتحملهم في سبيله أعظم الشدائد، فيؤمنهم فلا يخافون ولا يفزعون كما قال سبحانه: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79]. وقال سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} [النمل: 59]. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإفشاء هذا الاسم، وأخبر أن ذلك سبب للمحبة، ودخول الجنة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). والله سبحانه هو السلام، فكل سلام ورحمة منه وله، وهو مالكها ومعطيها، فالسلام منه بدأ، وإليه يعود، فالسلام اسمه ووصفه وفعله، والتلفظ به ذكر له فـ «اللَّهُمَّ! أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ» أخرجه مسلم (¬2). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} ... [الصافات: 180 - 182]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (54). (¬2) أخرجه مسلم برقم (592).

المؤمن

المؤمن ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المؤمن. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. الله تبارك وتعالى هو المؤمن الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال والجلال والجمال، المصدق لنفسه ولرسله فيما بلغوه عنه، الذي أمن خلقه من أن يظلمهم. وهو سبحانه المؤمن الذي خلق الأمن، ومن به على من شاء من عباده، والذي يهب الأمن لعباده المؤمنين يوم القيامة، ويأمن عذابه من لا يستحقه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. وهو سبحانه المؤمن الذي وهب عباده الأمن من الفزع الأكبر، وأمَّنهم بخلق الطمأنينة في قلوبهم، وأخبرهم أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل: 89 - 90]. وهو سبحانه المؤمن، المصدق لرسله بإظهار المعجزات، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب يوم القيامة. اللهم آمنَّا في أوطاننا .. وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا .. وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الأخره .. وارحم ذل مقامنا يوم العرض عليك.

المهيمن

المهيمن ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المهيمن. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. الله تبارك وتعالى هو المهيمن، الشاهد على خلقه بأعمالهم، الرقيب عليهم، العالم بجميع المعلومات، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. وهو سبحانه المهيمن العالي على كل مخلوق، فهو العلي على جميع خلقه، وهو المؤمن المهيمن على كل مؤمن .. والكريم المهيمن على كل كريم .. القوي المهيمن على كل قوي .. الحكيم المهيمن على كل حكيم .. العليم المهيمن على كل عليم .. الجبار المهيمن على كل جبار .. الكبير المهيمن على كل كبير .. وهكذا في بقية الأسماء. وهو سبحانه الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، لا يغيب عنه من أفعالهم شيء، وله الكمال في هذا، فلا يضل ولا ينسى ولا يغفل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وهو جل جلاله المهيمن الذي أنزل القرآن على خاتم رسله وأفضلهم، وجعله مهيمناً على ما قبله من الكتب كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. فالقرآن الكريم مصدق لكتب الله السابقة، ومهيمن عليها. وعلو القرآن على سائر كتب الله وإن كان الكل كلام الله بأمور: بما زاد عليها من السور كسورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والسبع المثاني .. وجعله الله قرآناً عربياً بيناً .. وجعل نظمه وأسلوبه معجزاً .. يصدق من جاء به .. ويصدق ما قبله من الكتب والرسل .. وفيه تبيان كل شيء .. وتفصيل كل شيء كما قال الله عنه: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف: 1 - 4]. وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} ... [النحل: 89].

العزيز

العزيز ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العزيز. قال الله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]. وقال الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [الصف: 1]. الله تبارك وتعالى هو العزيز، القاهر الذي لا يغلب ولا يقهر، المنيع الذي لا يرام جنابه، فلا ينال جنابه لعزته وعظمته، وجبروته وكبريائه، العزيز الذي لا مثل له ولا نظير، الغالب الذي لا يعجزه شيء، القوي القاهر الذي لا يقف له شيء: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} [ص: 66]. وهو سبحانه العزيز الذي له العزة كلها: عزة القوة .. وعزة الغلبة .. وعزة الامتناع .. فامتنع سبحانه أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع المخلوقات، ودانت له الخليقة كلها، وخضعت لعظمته وذلت لجبروته: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} [يونس: 65]. والله جل جلاله هو العزيز، وله العزة جميعاً، فنواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وهو القاهر لهم على ما أراد. فمن أراد العز في الدنيا والآخرة فليطلبه من رب العزة تبارك وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، وذلك يحصل بكمال الإيمان والتقوى، ولزوم طاعة الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. ومع عظم الطاعة وحسنها وكمالها ودوامها تزداد العزة، فأعزُّ الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم، فعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين، وكلما كانت هذه الصفة فيه أكمل، كان وجدان مثله أقل، وكان أشد عزة،

وأكمل رفعة، ولهذا قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. ومن أسباب العزة العفو والتواضع. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم (¬1). ومن طلب العزة عند غير الله تعالى، وبغير طاعته ضل وذل، وأخطأ سبيل العزة وطريقها، وضل مع الضالين والمنافقين: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 139]. والله سبحانه هو العزيز الذي لا يضام، المعز الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو رب العزة كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} ... [الصافات: 180 - 182]. وقد وصف الله عزَّ وجلَّ كتابه بالعزيز كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41 - 42]. أعزه الله لأنه كلامه، فكلامه عزيز محكم، لا يتطرق إليه الباطل، فلا يستطيع أحد تغييره ولا تبديله، ولا إلحاق ما ليس منه فيه. والله عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده إذا سأله، وتوكل عليه، وأحسن الظن به: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} [الشعراء: 217 - 220]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. وانصر عبادك المؤمنين .. وأخذل أعداءك أعداء الدين .. ياقوي يا عزيز. أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2588).

الجبار

الجبار ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الجبار. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَكُونُ الأرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأ أحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلاً لأهْلِ الْجَنَّةِ» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو الجبار، العالي على خلقه، القاهر خلقه على ما أراد من أمر ونهي، الذي جبر الخلق على ما يريد، والذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب الرزق والمعاش في الدنيا والآخرة. وهو سبحانه الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه من خلقه. وهو جل جلاله الجبار الذي له العلو على خلقه: علو الذات .. وعلو القدر .. وعلو الصفات .. وعلو القهر والجبروت. جبر خلقه على ما أراد أن يكونوا عليه من خلق .. ولا يمتنع عليه شيء منهم أبداً، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وهو سبحانه الذي جبر خلقه على ما شاء من أمر ونهي، فشرع لهم من الدين ما ارتضاه هو كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792).

فشرع للعباد ما شاء من الشرائع، وأمرهم باتباعها، ونهاهم عن العدول عنها، فمن آمن فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولم يجبر أحداً من خلقه على إيمان أو كفر، بل جعل لهم المشيءة في ذلك، وهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيءته كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} ... [التكوير: 27 - 29]. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. إن الجبروت لله وحده، فهو الذي قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بعظمته ومجده، الجبار الذي لا يجري عليه حكم حاكم، ولا يتوجه عليه أمر آمر. فهو سبحانه آمر غير مأمور، قاهر غيرمقهور، وما سواه من المخلوقات فهو مقهور مملوك، ضعيف عاجز، فقير فان، ومن هذه صفته من المخلوقات كيف يليق به التكبر والتجبر وهذه حاله؟. والله عزَّ وجلَّ مدح نفسه بأنه العزيز الجبار، وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35]. والجبارون والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس وقد توعد الله العزيز الجبار كل متكبر، وكل جبار بالعذاب الأليم يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 15 - 17]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ. قَالَ الله تَبَارَكَ وَتعالى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ

لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قط، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ الله عزَّ وجلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَداً، وأَمَّا الْجَنَّةُ: فَإِنَّ الله عزَّ وجلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقا» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850) واللفظ له، ومسلم برقم (2846).

الكبير

الكبير ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكبير .. والمتكبر. قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]. وقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)} [لقمان: 30]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} ... [الحشر: 23]. الله تبارك وتعالى هو الكبير المتعال، العظيم الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه، الذي كبر وعظم، فكل شيء دون جلاله صغير وحقير، الموصوف بالجلال وكبر الشأن. وهو سبحانه الكبير الذي له الملك والعظمة والسلطان، وله الكبرياء في السموات والأرض، وله الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وله الكبرياء والجلال، والعظمة والمجد: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. والله جل جلاله هو المتكبر الذي تكبر عن ظلم عباده، وتكبر عن كل سوء وشر، والذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، وتكبر وتعالى عن صفات الخلق، فلا شيء مثله، العزيز الجبار المتكبر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ... [الشورى: 11]. فالله عزَّ وجلَّ أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته، وأكبر من أن نحيط به علماً، هو الكبير وحده، وكل ما سواه صغير. وهو عزَّ وجلَّ الكبير العظيم، أكبر من أن نعرف كيفية ذاته، وكيفية صفاته، ومن

أراد أن يعرف عظمة ربه وكبرياءه، وصفات جلاله، وصفات جماله، فلينظر إلى الآيات الكونية في العالم العلوي والسفلي، والآيات القرآنية التي لا تكاد تخلو آية منها من اسم لله، أو صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، أو أمر من أوامره، وعليه كذلك بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو أعلم الخلق بربه، وعليه أنزل الكتاب العزيز. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. وهو سبحانه العزيز الجبار المتكبر، والتكبر لا يليق إلا به سبحانه، فهو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، ولا يعجزه شيء، وهو القاهر لكل شيء، العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، الغني الذي خزائنه مملوءة بكل شيء: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} ... [الأنعام: 102، 103]. وصفة السيد التكبر والترفع، وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع، والعبودية والطاعة. وقد توعد الله الكبير المتعال جميع المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة جزاء استكبارهم عن الحق، واستكبارهم على العباد كما قال سبحانه عن المستكبرين: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20]. واستكبارهم هذا هو رفضهم عبادة ربهم، وعدم الانقياد لله ولأوامره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} ... [غافر: 60]. والكبر والكبرياء في حق الله عظيم، فلا يليق إلا به، والكبر والاستكبار في حق المخلوق قبيح يجلب على صاحبه الذلة والهوان والهلاك. وإذا عرف الإنسان أن ربه هو الكبير وحده .. وأن كل ما سواه صغير .. فلماذا لا

يطيعه، ويأخذ منهج حياته منه؟. فالكبر كان هو السبب في هلاك إبليس، ولعنة الله له، وطرده من رحمة الله، لما استكبر عن أمر ربه، وأبى أن يسجد لآدم كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال، بل لا يكاد يخلو منه إنسان، فمقل ومستكثر، ومنهم من يبديه، ومنهم من يخفيه، والله عليم بذات الصدور. والله تبارك وتعالى هو الكبير في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه. ومن كبريائه أن كرسيه وسع السموات والأرض، ومن عظمته وكبريائه أن نواصي الخلق كلهم بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيءته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإذنه. ومن كبريائه جل جلاله أن العبادات الصادرة من أهل السموات والأرض كلها المقصود منها تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعار العبادات الكبار كالصلاة، والأذان، والحج. والله سبحانه العزيز الجبار المتكبر، الذي له الكمال والثناء، وله الحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص، له الملك كله، الغني عن كل ما سواه، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات في الأرض والسماء، فله الحمد والشكر، وله العزة والمجد: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} ... [الإسراء: 111]. فعلينا تعظيم الله وإجلاله وتكبيره، بالإخبار بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وبالثناء عليه بهما، وبتحميده بأفعاله المقدسة. وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له. وإخلاص الدين كله له، وبتعظيم شعائره ودينه، وأوامره وكلامه، وتوقير رسله بطاعتهم والاقتداء بهم.

الخالق

الخالق ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الخالق .. والخلاق. قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} ... [الزمر: 62]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} ... [الحشر: 24]. وقال الله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [يس: 81]. الله تبارك وتعالى هو الخالق الذي خلق المخلوقات كلها، وأوجدها على غير مثال سابق، كما قال سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]. خلق العرش والكرسي .. وخلق السموات والأرض .. وخلق الجماد والنبات .. وخلق الإنسان والحيوان .. والروح والجان .. والملائكة الكرام .. وخلق السهول والجبال .. وخلق البحار والأنهار .. وخلق الليل والنهار .. وخلق الشمس والقمر .. وخلق الكواكب والنجوم .. وخلق الجنة والنار: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، خلق جميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي، وجعل لكل نوع قدراً: فمنها الصغير والكبير، ومنها الطويل والقصير، ومنها القوي والضعيف، ومنها السائل والجامد، ومنها النافع والضار، ومنها الساكن والمتحرك، ومنها الناطق والصامت، ومنها الذكر والأنثى، ومنها الثابت والنامي، ومنها العذب والمالح: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49 - 50]. والله جل جلاله خلق هذا الكون العظيم، وكل يوم بل كل لحظة يخلق ما يشاء، كيف شاء، بأي قدر شاء، في أي وقت شاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا

كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]. وخلق الله عزَّ وجلَّ عظيم محكم، فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أحسن منه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]. والله وحده هو الخلاق العليم، وهو خالق كل شيء، والخلق كلهم لو اجتمعوا ما استطاعوا أن يخلقا ذباباً، بل لو سلبهم الذباب شيئاً ما استطاعوا رده كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73، 74]. وهو سبحانه الخالق الذي لا يعجزه شيء، الذي بدأ الخلق، وهو قادر على إعادته، فله وحده القدرة الكاملة، وله العزة الكاملة، وله الحكمة الواسعة، فعزته أوجد بها المخلوقات، وأظهر المأمورات، وحكمته أتقن بها ما صنعه، وأحسن فيها ما شرعه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} ... [الروم: 27]. وهو سبحانه خالق كل شيء، وقاهر كل شيء. فالمخلوقات التي خلقها الله عزَّ وجلَّ، كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر لجميع المخلوقات لله الواحد القهار: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} ... [الرعد: 16]. والله جل جلاله هو الذي خلق المخلوقات كلها، وتفرد بالملك، ودبر الممالك والخلائق، وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} ... [الأعراف: 54]. والله عزَّ وجلَّ هو الخالق الذي له القدرة المطلقة، فخلق جميع الخلق على كثرتهم، ويبعثهم بعد موتهم بعد تفرقهم في لمحة واحدة، كخلقه نفساً واحدة، فسبحان القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا

كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} ... [لقمان: 28]. ألا ما أعظم قدرة الخلاق العليم، وما أجهل البشر بعظمة ربهم وقدرته وقوته وعظمة مخلوقاته: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} [المؤمنون: 17]. فهذا الرب العظيم هو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، لأنه الذي خلقنا، وخلق الذين من قبلنا، وخلق كل شيء، وأنعم علينا بالنعم الظاهرة والباطنة، وأمرنا بعبادته كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة21 - 22]. فهل يليق بالإنسان أن يعبد مع ربه أحداً من خلقه، ويتخذ انداداً يعبدهم من دون الله، ويحبهم كما يحبه، وهم مخلوقون مثله، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض؟ فمن أعجب العجب، وأسفه السفه أن يعلم الإنسان أن الله ليس له شريك في الخلق والرزق والتدبير، ولا في العبادة، ثم يشرك به غيره، ويعبد معه آلهة أخرى، لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً. {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف: 191 - 192]. فسبحان الخلاق لكل مخلوق .. العليم بكل شيء .. الذي لا يخفى عليه شيء .. فاعبده واصطبر لعبادته: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} ... [الحجر: 86]. وإذا كان الله هو الكبير .. وهو الخلاق .. وكل ما سواه مخلوق صغير .. فهل يليق بالعاقل أن يعبد المخلوق من دون الخالق .. ويدعو الصغير من دون الكبير .. ؟.

البارئ

البارئ ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البارئ. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} ... [الحشر: 24]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} [البقرة: 54]. الله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ، الذي برأ الخلق فأوجدهم، وخلقهم بقدرته، وفضل بعض الخلق على بعض، وأبدع الماء والتراب، والهواء والنار لا من شيء، ثم خلق الإنسان من تراب، وجعل من الماء كل شيء حي. وهو سبحانه الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت، والتناقض، سليماً من التباين والاعوجاج. فخلقه سبحانه كله مستو مستقيم، محكم متقن، دال على كمال قدرة خالقه وعظمته: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} ... [الملك: 3]. وهو سبحانه الخالق البارئ الذي خلق المخلوقات كلها، وأحسن خلقها، فصارت في أحسن خلق، وأكمل صورة، وأبهج شكل. خلقهم عزَّ وجلَّ خلقاً مستوياً ليس فيه اختلاف ولا تنافر، ولا نقص ولا عيب ولا خلل، أبرياء من ذلك كله. فسبحان الخالق البارئ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7].

المصور

المصور ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المصور. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: 6]. الله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ المصور، الذي خلق الخلق، وصورهم على صور مختلفة، وهيئات متباينة، من الطول والقصر، والحسن والجمال، والذكورة والأنوثة، والشكل واللون، كل واحد ميزه ربه بصورة خاصة يتميز بها عن غيره من المخلوقات، فلكل مخلوق طبعة خاصة، وصورة مستقلة. وهو سبحانه المصور، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن، فيكون على الصورة التي يختار، والصفة التي يريد، وصوَّر خلقه على الأشكال والهيئات التي توافق تقديره وعلمه، ورحمته وحكمته، والتي تتناسب مع مصالح الخلق ومنافعهم. فسبحان الخالق البارئ المصور، الذي خلق المخلوقات، وصور الكائنات، وأحسن كل شيء خلقه. وسبحان الملك الذي له الملك كله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، وله الحمد كله. حمد على ما له من صفات الكمال والجلال والجمال، وحمد على ما أوجده من الأشياء، وأحسن خلقها، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم العظام. وسبحان الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، فأحسن خلقهما، وخلق الإنسان في أحسن صورة، وأكمل هيئة، وأحسن تقويم: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [التغابن: 3].

الغفور

الغفور ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغفور .. والغافر .. والغفار. قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} ... [الحجر: 49]. وقال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 3]. وقال الله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} [ص: 66]. الله تبارك وتعالى هو الغفار، الذي يستر ذنوب عباده، ويغطيهم بستره، السَّتّار لمساوئ عباده، المسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته، فلا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم. وهو سبحانه الغافر الذي يستر على المذنب ذنبه، ولا يؤاخذه فيشهره ويفضحه. وهو سبحانه الغفور، الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، العفو الذي يزيد عفوه على مؤاخذته. وهو سبحانه العفو الغفور، الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، كما هو مضطر إلى خلقه وإعانته. وقد وعد الله سبحانه بالمغفرة لمن أتى بأسبابها كما قال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]. والله عزَّ وجلَّ هو الغفور الرحيم، يغفر الذنوب والخطايا والسيئات، صغيرها وكبيرها مهما بلغت، كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} ... [الزمر: 53]. ومهما عظمت ذنوب الإنسان، فإن مغفرة الله ورحمته أعظم من ذنوبه التي ارتكبها: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]. بل من فضله وجوده وإحسانه أن تكرم بتبديل سيئات المذنبين إلى حسنات كما

قال سبحانه في حق المذنبين التائبين: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} ... [الفرقان: 70]. ولا يجوز للمسلم أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش فيقترفها بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين كما قال سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]. واتصاف الله تبارك وتعالى بأنه غفار للذنوب والسيئات فضل من الله، ورحمة عظيمة للعباد، لأنه غني عن العالمين، لا ينتفع بالمغفرة لهم، لأنه سبحانه لايضره كفرهم أصلاً، ولا يغفر لهم خوفاً منهم أيضاً، لأنه قوي عزيز، قد قهر كل شيء وغلبه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28]. والله عزَّ وجلَّ لا يزال خيره وبره وإحسانه نازلاً إلى العباد، ولا يزال عفوه عن جرائمهم مستمراً، ومع ذلك فهم يبارزونه بالشر والمعاصي، فمن تاب قبِل الله توبته وغفر له، ومن أصر على الذنوب وأبى التوبة والاستغفار، والالتجاء إلى العزيز الغفار، فإن الله يعاقبه بجرمه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)} ... [الرعد: 6]. والله تبارك وتعالى واسع المغفرة، يغفر الذنوب جميعاً، لأنه غفور رحيم، غفور حليم، غفور شكور، عفو غفور، عزيز غفور، غفور ودود، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)} [آل عمران: 129]. فسبحان العزيز الغفور .. ما أكرمه .. وما أرحمه .. وما أحلمه على من عصاه. وكل إنسان إما أن يكون ظالما لنفسه .. أو ظالما لغيره .. أو لهما معاً. فمن لم يغفر الله له ويرحمه فهو من الخاسرين كما قال الله عن آدم وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف:23].

والله عزَّ وجلَّ غفور رحيم يحب من عباده أن يسألوه مغفرة ذنوبهم، ويطلبون منه كل ما ينفعهم، ويصلح أحوالهم: فاللهم: {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثيراً وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (¬1). والله عفو غفور، ومن عفوه ومغفرته أنه سبحانه فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم مهما كانت. ومن عفوه ومغفرته، أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئاً، أتاه بقرابها مغفرة. فسبحان واسع المغفرة، الذي يجود على جميع العباد بالمغفرة والرحمة، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويقيل عثراتهم، ويضاعف حسناتهم. فليتق العبد ربه، ويعلم أن الله يعلم باطنه وظاهره، وأقواله وأفعاله، وسره وعلانيته كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705) واللفظ له.

القاهر

القاهر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القاهر، والقهار. قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)} [ص: 65]. الله تبارك وتعالى هو القاهر فوق عباده، الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل مخلوق، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، واستسلمت واستكانت بين يديه، وخضعت لقهره وحكمه وسلطانه. والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، يًصرِّف ملكه على اختياره، ويدبر الأمر على ما تقدم في علمه، ويصرف الأحوال على ما سبق في مشيءته. قهر جميع الخلائق على ما أراد، فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بمشيءته، فليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون بأمره. وإذا كان سبحانه هو القاهر لغيره، وغيره مقهور، كان هو المستحق للعبادة دون سواه: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} [يوسف: 39]. وهو سبحانه القهار الذي قهر المخلوقات كلها في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، والذي قهر وغلب عباده أجمعين، وقهر الخلائق جميعاً على ما أراد. وهو سبحانه القهار الذي قهر الخلق كلهم بالموت، وقهر الجبابرة من عتاة الخلق بالعقوبة، وقهر كل جبار بعز سلطانه، فدمره وأهلكه، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقارون. وهو سبحانه الذي قهر الخلائق كلها بالأمراض والمصائب والنكبات التي لا يستطيعون ردها عن أنفسهم، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن ملكه، ولا يخرج عن تدبيره، ولا يخرج عن تقديره: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} [الزمر: 4].

وهو سبحانه الواحد القهار، المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وما سواه من المخلوقات التي يعبدها الكفار، فإنما هي عاجزة مخلوقة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها، فكيف تنفع غيرها، وكيف تقهر غيرها وهي مقهورة، فكيف تعبد وهذه حالها؟. والله عزَّ وجلَّ خلق المخلوقات، وجعل فوق كل مخلوق مخلوقاً آخر يقهره، ثم جعل فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر لله الواحد القهار، الذي قهر جميع الخلائق، وله الخلق والأمر، والتصريف والتدبير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16]. فالرياح العاصفة من مخلوقات الله المدمرة، ولكن الله قهرها بالجبال الراسية تردها، وتفرقها، وتكسر حدتها .. والجبال من مخلوقات الله العظيمة، ولكن الله قهرها وسلط عليها الحديد يقطعها ويكسرها .. والحديد من مخلوقات الله العجيبة، لكن الله قهره بالنار تذيبه .. والنار عظيمة الشأن، ولكن الله سلط عليها الماء يطفئها .. والمياه آية من آيات الله الكبرى، ولكن الله سلط عليها الرياح تصرفها وتقلبها. والنبات آية من آيات الله، قهره الله بالإنسان والحيوان يأكله ويقطعه .. وقهر الإنسان والحيوان بالمرض يقعده ويؤلمه .. وقهر سبحانه جميع الكائنات الحية بالموت الذي يهلكها. فكل مخلوق له قاهر أعلى منه يقهره، حتى ينتهي القهر الكامل الشامل لله الواحد القهار، الذي قهر جميع الخلائق على ما أراد. فسبحان الواحد القهار، العزيز الجبار: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 9].

الوهاب

الوهاب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوهاب. قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. وقال الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} [ص: 9]. الله تبارك وتعالى هو الوهاب، المعطي لمن يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة، المتفضل بالعطايا والنعم، الذي يجود بالعطاء، ولا ينقص ما في خزائنه. وهو سبحانه الوهاب، كثير المواهب والعطايا، يعطي العباد من غير استحقاق عليه، ولا طلب للثواب من أحد، يصيب بعطاياه ومواهبه مواقعها، ويقسمها على ما تقتضيه حكمته. وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، وخزائنه مملوءة بكل شيء، وهو سبحانه الوهاب وحده، يهب ما يشاء، لمن يشاء، في أي وقت شاء، لأنه مالك الملك، وخزائن السموات والأرض له: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} ... [المنافقون: 7]. وهو سبحانه الكريم الوهاب، الذي ينفق كيف يشاء، لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، وهو الذي بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي على جميع العباد، يده ملأى سحاء الليل والنهار، وخيره على العباد في جميع الأوقات مدرار. يفرج كرباً .. ويزيل غماً .. ويغني فقيراً .. ويفك أسيراً .. ويجبر كسيراً .. ويجيب سائلاً .. ويعطي فقيراً عائلاً .. ويجيب المضطر .. ويستجيب لمن دعاه .. وينعم على من سأله ومن لم يسأله .. ويعافي من طلب العافية. قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ

يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الملك الوهاب، أما العباد فإنهم ملك لله سبحانه، فكل من وهب من العباد شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب. ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوائله وعطاياه وهباته ودامت، والخلق إنما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، ولا هدىً لضال، ولا عافية لمريض، ولا رزقاً لمخلوق، ولا أمناً لخائف، ولكن الله الملك الوهَّاب يملك كل ذلك: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. والله جواد كريم اختص من شاء من عباده بالنبوة والرسالة كما قال سبحانه عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ... [العنكبوت: 27]. ووهب الملك والسلطان من شاء من عباده كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة: 247]. وقد سأل سليمان - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يهبه ملكاً فاستجاب له، ووهب له ملكاً عظيماً: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} [ص: 35]. وهكذا المؤمن يقدم شكواه، ويطلب حاجته من ربه العزيز الوهَّاب. قال زكريا - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (993).

وكل ما وصل إلى العباد من أي وجه وصل، وعلى أي حال، وبأي قدر كان، فهو من الله المنفرد بالهبات، الوهاب على الإطلاق بجزيل العطايا، وجميع الأرزاق، لجميع الخلائق، في جميع الأوقات. علَّم سبحانه عباده كيف يسألونه الإنعام والإحسان على وجه لا يكون فيه مكر ولا استدراج، فأعطاهم ما ينفعهم، ويصلح أحوالهم، ومنعهم ما يضرهم. والكفار لما سألوه أعطاهم، ومكنهم مما فيه ضررهم وهلاكهم وشقاؤهم كما قال سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} ... [التوبة: 55]. وكل ما وهب الله العباد، فهو عطية ومنحة منه سبحانه، وله سلبها وإبقاؤها متى شاء، وهي إما إ كراماً، أو عقوبة، أو ابتلاء. قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)} [ص: 30]. وقال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} ... [الأنعام: 44]. وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. فسبحان العزيز الوهاب، الذي وسع الخلق جوده ورحمته، وتتابعت مواهبه، وتوالت مننه وعوائده، ذو البذل الشامل، والعطاء الدائم، بغير تكلف ولا عرض ولا عوض. وسبحان الكريم الوهاب، الذي تدر الهبات منه سبحانه على عباده في دنياهم وأخراهم دون انقطاع ولا نفاد، بل في نماء وازدياد على مر الدهور والآباد: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]. وسبحان الكريم الذي خيره وفضله يرتع فيه البر والفاجر، والمطيع والعاصي، وسبحان الذي كل النعم التي ينعم بها العباد منه، وإليه يجأرون في دفع المكاره. وتبارك الذي لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.

وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده. اللهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74].

الرزاق

الرزاق ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرزاق .. والرازق. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} ... [الذاريات: 56 - 58]. وقال الله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} ... [الجمعة: 11]. الله تبارك وتعالى هو الرزاق، الذي خلق الأرزاق، وأعطى الخلائق أرزاقها، وأوصلها إليهم، وتكفل بأقوات المخلوقات كلها، والذي وسع الخلق كلهم برزقه ورحمته، فلم يخص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا ولياً دون عدو، بل يسوق رزقه عزَّ وجلَّ إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى الجلد القوي ذي المرة السوي: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} ... [الإسراء: 20]. وهو سبحانه الرزاق، المتكفل بأرزاق الخلائق في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، الرزاق لكل مخلوق رزقاً بعد رزق، المكثر منه، الموسع له، المتفرد بالرزق حده لا شريك له كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر: 3]. وقد تكفل الله بأرزاق الخلائق جميعاً كما قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} [العنكبوت: 60]. وهو سبحانه الرازق، الذي رزق جميع خلقه بلا كلفة ولا ثقل ولا مشقة، وخزائن الله مملوءة بكل شيء يحتاجه الخلق. وهو سبحانه خالق الأرزاق ومالكها ومعطيها، يصرفها ويقسمها على الخلائق حسب علمه وحكمته كيف يشاء.

ورِزق الله لعباده نوعان: الأول: رزق عام، ينتفع به البَرُّ والفاجر، ويشمل الإنسان والحيوان والجان، وهو رزق الأبدان، وقد قسم الله وتكفل برزق كل واحد من هؤلاء كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. فلتطمئن هذه النفوس إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها وأسرارها، ورزقها يطلبها كأجلها أينما كانت. الثاني: رزق رزقه الله من يشاء من عباده، على يد أنبيائه ورسله، وهو الإيمان والتوحيد، الذي يرزقه الله من يستحقه ويشكره، والله واسع الفضل، كثير الإحسان، يؤتيه من أتى بأسبابه. وهو سبحانه العليم بمن يصلح للإحسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} [آل عمران: 73، 74]. وفضل الله عظيم، وفضله لا يصفه الواصفون، ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فعم بفضله وإحسانه وعلمه ورحمته جميع الخلائق. وخزائن الله عزَّ وجلَّ مملوءة بكل شيء، ويعطي منها جميع الخلائق ولا تنقص إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، بل لو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً. قال الله تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا

ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (¬1). والله حكيم عليم، أرزاق العباد كلهم بيده، يجعل من يشاء غنياً، ويجعل من يشاء فقيراً، وله في ذلك حكمة بالغة، وهو سبحانه الخبير بمن يستحق الغنى، ومن يستحق الفقر: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)} [الإسراء: 30]. ومن الناس من لا تصلح حاله إلا بالغنى، فإن أصابه الفقر فسدت حاله، ومن الناس من لا تصلح حاله إلا بالفقر، فإن أصابه الغنى فسدت حاله، ولا يعلم ذلك إلا الله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} ... [الشورى: 27]. وكثرة الرزق في الدنيا كقلة الرزق لا تدل على محبة الله تعالى للعبد ورضاه عنه، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا من يحب: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} ... [سبأ: 35 - 37]. والإيمان والتقوى سبب عظيم للحصول على الأرزاق والبركات. والكفر والفجور سبب عظيم لنقص الأرزاق، ومحق البركات، كما قال ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} ... [الأعراف: 96]. والأرزاق تزيد بالشكر، وتنقص بالمعاصي، وعدم الشكر، كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. وقال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. وأعظم رزق يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله، وأفضله وأكرمه، وأعلاه وأدومه، الذي لا ينقطع ولا يزول، هو الجنة، وذلك الرزق خاص بالمؤمنين كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} [الطلاق: 11]. والرزاق على الإطلاق هو الله وحده، وغيره إن رزق وأعطى فإنما يرزق من رزق الرزاق الذي أعطاه، فارزق أيها العبد مما رزقك الله، يأتك الخلف من الله. وإذا أعوزك الرزق فلا تطلبه بكثرة الحرص، فلن يزيدك في الرزق المقدر إلا ما قسمه الله لك، فاطلب منه أعلاه وأجله، وأصفاه وأحله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجة (¬1). فسبحان من هذا ملكه، وهذا رزقه، وهذه قدرته، وهذا عطاؤه، وله الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم أعطنا ولا تحرمنا .. وزدنا ولا تنقصنا .. وأكرمنا ولا تهنا وآثرنا ولا تؤثر علينا: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)} ... [المائدة: 114]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743). انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).

الفتاح

الفتاح ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الفتاح .. والفاتح. قال الله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} ... [سبأ: 26]. وقال الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. الله تبارك وتعالى هو الفتاح، الذي يحكم ويقضي بين عباده بالحق والعدل، الفتاح العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل، والمصلح من المفسد. وهو سبحانه الفتاح، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة والعلم لعباده، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم، وييسر المتعسر عليهم، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق والهدى. وهو سبحانه الفتاح الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة، ويفتح بينهم بالحق والعدل. قال نوح - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)} [الشعراء: 117، 118]. وقد استجاب الله سبحانه لرسله ولدعائهم، ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق والنصر، فأنجى الله رسله وأتباعهم، وأهلك أعداءهم، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فالله كذلك الفتاح، الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب الطائع، ويعاقب العاصي، كما قال سبحانه: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} ... [سبأ: 26]. وقد سمى الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة لعظمته وهوله بيوم الفتح كما قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ

كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)} ... [السجدة: 28، 29]. والله جل جلاله بيده مفاتيح كل شيء، فهو الفتاح الذي يفتح ما استغلق من المحسوسات والمعقولات، فيغني فقيراً، ويفرج عن مكروب، ويزيل الهموم بالسرور، والجهل بالعلم، والضلالة بالهدى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. والفتوح كلها بيد الله، فالفتح والنصر بيد الله وحده، يفتح على من يشاء، ويخذل من يشاء، فعلى العباد أن يطلبوا الفتح والنصر منه لا من غيره، ويعملوا بطاعته لينالوا مرضاته، ويسعدوا بفتحه ونصره كما قال سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3]. والله جل جلاله له ملك السموات والأرض، وبيده مفاتيح السموات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة. والخلق كلهم مفتقرون إلى الرب سبحانه، وليس بيد أحد منهم من الأمر شيء، يبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، حتى يكون بقدر حاجته لا يزيد عنها، فهو الذي يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، فيعطي كلاً منهم ما يليق بحكمته، وتقتضيه مشيءته: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: 12]. فسبحانه ما أكرمه .. وما أرحمه بعباده .. وما أعظم عنايته بخلقه. إن الله لو فتح المطر على الناس، فمن ذا الذي يحبسه عنهم لئلا يغرقوا كما حصل لقوم نوح؟. ولو حبس الله عن عباده القطر والنبات لما استطاعوا أن يفتحوا ما أغلقه الله سبحانه. فالله سبحانه هو الذي فتق السحاب بالغيث، وفتق الأرض بالنبات، وفلق الحبة عن الشجرة، وفتح العين بالبصر، والأذن بالسمع، واللسان بالكلام.

ولو حبس الله عن الخلق نور الشمس فمن ذا الذي يفتحه؟. ولو حبس الله عنهم الهواء الذي يتنفسون منه فمن ذا الذي يفتحه ويرسله؟: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده العلم والحكمة والفقه في الدين، وذلك الفتح بحسب التقوى والصلاح كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} [البقرة: 282]. والله عزَّ وجلَّ قد يفتح أنواع النعيم والخيرات على الناس استدراجاً وعقوبة لهم، إذا تركوا ما أمرهم الله به، ووقعوا فيما نهاهم عنه، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} ... [الأنعام: 44، 45]. اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، وافتح لنا من بركات السماء والأرض: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} ... [الأعراف: 89]. ومفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. ومفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله حده، وقد عدها الله في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ... [لقمان: 34].

العليم

العليم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العليم .. والعالم .. والعلام. قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 78]. الله تبارك وتعالى هو العليم، الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، أحاط علمه بالعالم العلوي والعالم السفلي، يعلم وحده الظواهر والبواطن، ويعلم الجهر وما يخفى. وهو سبحانه العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق، والعالم بالغيوب دون جميع خلقه، العليم من غير تعليم بجميع ما في الكون، عالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شيء: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد: 8 - 10]. وهو سبحانه العالم بما كان وما يكون قبل كونه، لم يزل عالماً، ولا يزال عالماً بما كان وما يكون وما سيكون، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، العليم الذي له وحده العلم التام الكامل الشامل الواسع كما قال سبحانه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} ... [طه: 98]. وهو سبحانه العالم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء مهما كان، وفي أي مكان، العليم بكل شيء من المخلوقات والأفعال، والحركات والسكنات والأحوال.

فالله وحده العليم الذي يعلم مثاقيل الجبال .. ومكاييل البحار .. وعدد ورق الأشجار .. وعدد قطر الأمطار .. وعدد ذرات الرمال .. ويعلم مقادير الحبوب والثمار .. وما أظلم عليه الليل .. وما أشرق عليه النهار .. لا تواري منه سماءٌ سماءً .. ، ولا أرضٌ أرضاً. ولا جبل ما في وعره .. ولا بحر ما في قعره: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. وهو سبحانه العليم بكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء، الذي يعلم عدد أهل السماء .. وعدد أهل الأرض .. ويعلم عدد الملائكة والروح .. وعدد الإنس والجن .. وعدد الطير والحيوان .. ويعلم عدد ذرات التراب .. وعدد النبات والأشجار .. وعدد الحبوب والثمار .. وعدد الحروف والكلمات. وهو سبحانه الذي يعلم عدد المؤمنين .. وعدد الكافرين .. ويعلم من يطيعه ومن يعصيه .. ويعلم المؤمن من المنافق .. والبر من الفاجر .. والصادق من الكاذب. وهو سبحانه الذي يعلم أهل الجنة من أهل النار .. ويعلم المفسد من المصلح .. ويعلم من يستحق الهدي فيهديه .. ومن يستحق الضلالة فيضله .. ويعلم من يستحق الإكرام فيكرمه بطاعته وجنته .. ومن يستحق الإهانة فيهينه، ويعلم الظاهر والباطن: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13، 14]. وهو سبحانه العليم الذي يعلم كل شيء علماً مطلقاً شاملاً كاملاً، يعلم الظاهر والباطن، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهو عليم بذات الصدور، أحصى كل شيء عدداً، وأحاط بكل شيء علماً: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]. والخلق لا يحيطون علماً بالخالق جل جلاله، فلا يعلمون شيئاً عن ذاته

وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا ما أطلعهم الله عليه عن طريق رسله، وكتبه المنزلة. ولا أحد من الخلق يعلم شيئاً من العلم إلا بتعليم الله لهم، ولهذا قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} [البقرة: 32]. وقال عزَّ وجلَّ لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} ... [النساء: 113]. وعلمُ الله تبارك وتعالى كامل لا يعتريه نقص أبداً، مطلق لا يحده شيء، واسع شامل لكل شيء، محيط بجميع المخلوقات في الأرض والسماء، لايعزب عنه مثقال ذرة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. وهو سبحانه بكل خلق عليم، لا يشغله علم عن علم، كما لا يشغله سمع عن سمع، وأنى للبشر مثل هذه الصفات، فهم يولدون جهلة لا يعلمون شيئاً، ثم يتعلمون شيئاً فشيئاً: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} ... [النحل: 78]. وجميع المعلومات التي علمها الله بني آدم لو أعطيت لشخص، ثم كان البشر كلهم على مثل علم ذلك الشخص، لكان هذا العلم كله كالذرة بالنسبة للعلم الإلهي الواسع الشامل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. فالخلق لا يعلمون شيئاً إلا ما أذن الله لهم أن يعلموه، وهو وحده سبحانه الذي له الكمال المطلق، والعلم المطلق، وقد وهب الله سبحانه المعرفة للإنسان منذ أراد إسناد الخلافة إليه في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، ووعده بأن يريه آياته في الآفاق والأنفس، وكل ما يلزم له في خلافة الأرض كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} ... [فصلت: 53]. والله حكيم عليم، فبقدر ما أذن الله للإنسان في شيء من العلم، وكشفه له، وأطلعه عليه، بقدر ما زوى عنه أبواباً من العلم، وأسراراً أخرى، لا حاجة له بها

في خلافة الأرض. فزوى عنه سر الحياة .. وسر الموت .. وسر الروح .. وسر العقل .. وسر الساعة .. وسر اللحظة القادمة .. وسر الخلق .. وكل ذلك غيب لا سبيل إليه .. والستر المسدل دونه كثيف .. لا يستطيع الإنسان رفعه أو كشفه .. فلا يعلمه إلا الله الذي أحاط بكل شيء علماً .. وعنده علم كل شيء: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ... [لقمان: 34]. والله سبحانه له مع الخلق العظيم، والهيمنة التامة، له العلم الشامل اللطيف، المحيط بكل شيء، فهو الذي: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]. ففي كل لحظة يلج في الأرض بأمر الله ومشيئته ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والحبوب والأشياء، ولا يعلم ذلك كله إلا الله وحده. وفي كل لحظة يخرج من الأرض ما لا عداد له ولا حصر، من خلائق لا يعلمها إلا الله وحده من النباتات والأشجار والحيوان والمعادن والمياه والغاز. وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والشهب والملائكة والأقدار والأسرار والأوامر وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله وحده. وفي كل لحظة يعرج فيها من المنظور والمستور، والملائكة والأرواح وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله وحده. والله سبحانه محيط بكل شيء، عليم بكل أحد، فهو مع كل أحد، مطلع على ما يعمل الخلق، بصير بالعباد، لا يخفى عليه شيء من أمرهم: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. إن هذه حقيقة مؤنسة من جانب .. مذهلة مرهبة من جانب آخر. مذهلة بروعة جلال الرب، مؤنسة بظلال القربى، وهي كفيلة حين يحسها

القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره، وتدعه مشغولاً بها عن كل أعراض الأرض وزينتها، كما تدعه في حذر دائم، وخشية دائمة، مع الحياء والتحرج من كل دنس، ومن كل جهالة، ومن كل غفلة: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)} [الأحزاب: 54]. فمتى تؤوب هذه الأنفس الشاردة إلى ربها؟ .. ومتى تفر إليه؟ .. ومتى تستحي منه؟ .. ومتى توقره وتعظمه؟. إنها تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها، الذي يعلم ما بين أيديها وما خلفها، ويعلم سرها وجهرها، ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت، مما لا تعلمه هي ولا تدريه. فما أجدر الإنسان الذي يقف عرياناً بكل ما في سريرته أمام الملك الديان، ويتقلب في نعمه ليله ونهاره، ويبارزه بالمعاصي في أرضه بلا حياء ولا خوف، ما أجدره أن يتوب إلى ربه الذي خلقه وصوره، وأكرمه ونعمه، وما أحراه أن يستسلم لمن يعرف ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} ... [الحديد: 16]. والله سبحانه أعلم بما في نفوس العالمين، وأعلم بمن ضل عن سبيله، وأعلم بمن اهتدى، وأعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بما يكتمه الناس، وأعلم بمن في السموات والأرض، وأعلم بمن هو أهدى سبيلاً، وأعلم بأقوال العباد وأفعالهم، وأعلم بأنفاسهم وكلامهم، علام الغيوب، العليم بذات الصدور. وهو سبحانه السميع العليم، الشاكر العليم، العليم الحكيم، العزيز العليم، العليم الحليم، العليم القدير، العليم الخبير. فسبحانه ما أعظم ذاته، وما أعظم أسماءه، وما أعظم صفاته، وما أوسع علمه. يعلم ما كان وما يكون وما سيكون .. ويعلم ما كان قبل أن يكون .. وكل علم علمه الخلق فمن أثار علمه .. وكل رحمة في المخلوقات فمن آثار رحمته ..

وكل حكمة في الكون فمن آثار حكمته. فما أسفه وأجهل الذين لا يعرفون ربهم، ويظنون أن الله لا يعلم أحوالهم وسرهم ونجواهم، ومن ثم يبارزونه بالمعاصي {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبه 78]. وكل شيء من الأقوال والأعمال معلوم للرب ... مكتوب في صحائف العبد ... وكل حسنة لها مقابل من الثواب .. وكل سيئة لها مقابل من العقاب ... وكل ذلك مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها. فما أخطر الجهل بالله ودينه والغفلة عنه. وما أعظم الحسرة والندامة، والخزي والفضيحة، حين تعرض أعمال العبد السيئة على ربه، ويرى الانسان نفسه وهو يزاول تلك الأعمال التي يسود لها وجهه، وينخلع لها قلبه يوم القيامة: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 6 - 8] اللهم يا عليم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع .. ومن قلب لا يخشع .. ومن دعاء لا يسمع .. ومن نفس لا تشبع.

السميع

السميع ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السميع. قال الله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127]. وقال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} ... [المجادلة: 1]. الله تبارك وتعالى هو السميع لأقوال عباده، وما ينطق به خلقه من قول، يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} [الأعلى: 7]. وهو سبحانه السميع، الذي له السمع الكامل الشامل المطلق، يسمع جميع الأصوات على اختلاف الألسن واللغات والحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، وسمعه عزَّ وجلَّ ليس كسمع أحد من خلقه، لأن سمع الله مستغرق لجميع المسموعات، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن دق وخفي، وكثر وتداخل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. وهو سبحانه السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم، على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، يعلم سبحانه ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده، فيعلم الله ما في قلبه فيعطيه سؤله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} [الملك: 13]. والله جل جلاله سميع بصير، سميع عليم، سميع قريب، لأنه محيط بالمخلوقات كلها، لا يفوته شيء منها، ولا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات والأرض، وجميع الخلائق تحت سمعه وبصره وعلمه، يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم، وهو السميع الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة.

أحصى أقوال العباد وأفعالهم، من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، ثم يجازيهم على ذلك في الآخرة: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115]. والله سبحانه هو السميع الذي يسمع كل شيء وإن دق وخفي، يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، السميع الذي يسمع من يدعوه ويناجيه، فيجيب الدعاء، ويكشف السوء، ويقبل الطاعة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} ... [البقرة: 186]. وقد دعا يوسف (ربه أن يصرف عنه كيد النسوة: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} ... [يوسف: 34]. وإذا كان الله عزَّ وجلَّ يسمع ما أسررنا وما أعلنا، فما أجدر العاقل أن يذكر الله بقلبه ولسانه، ويكثر من تلاوة كتابه، ويقوم بما يحبه الله من الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحمد الله وشكره على نعمه وإحسانه. ويحذر ما يبغضه الله من الغيبة والنميمة، والكذب وقول الزور، فالكل مسموع، والكل محفوظ، والكل مسؤول عنه. وكل علم في العالم فواهبه العلماء العليم سبحانه، فهو الذي خلق الانسان وعلمه وكل سميع في العالم فواهبه السمع هو السميع الذي خلق الانسان، وشق سمعه وبصرة كما قال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الانسان: 2]. والله سميع وسمعه سبحانه صفة ذاتية له، وسمع الله كامل مطلق، وهكذا سائر أسمائه وصفاته.

أما سمع المخلوق فهو ناقص محدود تصيبة الآفات والامراض. ولو أعطى الله واحدا من البشر مثل سمع جميع البشر، ثم جعلت المخلوقات كلها على قوة ذلك السمع، لكان ذلك بالنسبة لسمع الله كالذرة بالنسبة للجبل بل أقل. فسبحان سامع الأصوات كلها في آن واحد، لا يشغله سمع عن سمع، على اختلاف اللغات والأصوات والأشخاص والأماكن والازمان.

البصير

البصير ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البصير. قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: 11، 12]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18]. الله تبارك وتعالى هو البصير، الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، يبصر ما تحت الأرضين السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وهو سبحانه العالم البصير بخفيات الأمور، وبالمستور والمنظور، الخبير بعباده، وبأحوالهم وأفعالهم، العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، الذي يعلم المؤمن من الكافر، والبر من الفاجر: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} ... [آل عمران: 163]. والله بصير بأحوال العباد، وما يصلحهم، خبير بما في نفوسهم، يعطيهم ما ينفعهم، ويرزقهم ما يصلحهم ويكفيهم: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} ... [الشورى: 27]. وهو سبحانه البصير الذي لا يخفى عليه شيء من ملكه في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: 5، 6]. والله عزَّ وجلَّ بصير بكل شيء، القريب والبعيد، والكبير والصغير، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من الأشياء والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ

عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} ... [يونس: 61]. والله جل جلاله هو الخلاق العليم، خلق لعباده السمع والأبصار والأفئدة، وجعلها أمانة لديهم، فمن استعملها في طاعته أثابه الله، ومن استعملها في معصيته عاقبه عليها: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وهو سبحانه البصير، الذي لا تدركه الأبصار، لعظمته وجلاله وكماله، والأبصار وإن كانت تراه يوم القيامة إلا أنها لا تدركه، ولا تحيط به لعظمته وكبريائه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} ... [الأنعام: 102، 103]. فحقيق بالعبد الذي خلقة الله في أحسن تقويم، وأكرمه بالسمع والبصر والعقل، وأرسل اليه رسوله بالدين الكامل، أن يعبد الله بدينه الذي شرعه، ليسعد في دنياه وآخرته. وأن يعرف كذلك أن ربه يراه، وأنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته. فالعاقل من استعمل قلبه ولسانه بذكر الله .. واستعمل جوارحه في طاعة الله ... وكفها عن معصية الله. إن المؤمن حقاً إذا علم أن ربه مطلع عليه، استحى أن يراه على معصية، أو فيما لا يحب، ومن علم أنه يراه كذلك أحسن عمله وعبادته، وأخلص فيها لربه وخشع، وعبد الله بأحسن ما يستطيع، وتجمل له، وناجاه كأنه يراه. فالاحسان أعلى مراتب الدين وهو «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجة البخاري برقم (50) ومسلم برقم (9).

الحكيم

الحكيم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحكيم .. والحاكم .. والحكم. قال الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [الحديد: 1]. وقال الله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)} [يونس: 109]. وقال الله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]. الله تبارك وتعالى هو الحكيم، الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي يضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله وعلمه. وهو سبحانه أحكم الحاكمين الذي لا يجور، ولا يظلم أحداً. وهو سبحانه الحكم الذي لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، الذي سلم له الحكم، ورد إليه فيه الأمر، المحمود على حكمه بين العباد في الدنيا والآخرة. الذي له الحكم القدري على الكائنات كلها، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ وبرأ في العالم العلوي والسفلي. وله الحكم الديني الشرعي، الذي أثره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي الموجهة إلى الإنس والجن. وله الحكم الجزائي في الآخرة، الذي أثره الثواب والعقاب للعباد: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70]. والله عزَّ وجلَّ هو الحكيم العليم، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، والذي يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد، وتحريم ما أراد، وإيجاب ما شاء،

ومنع ما شاء، حكمه في الخلق نافذ، فليس لأحد أن يرده أو يبطله: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [الرعد: 41]. وكلام الله عزَّ وجلَّ حكيم ومحكم، فهو كلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. والقرآن الكريم كتاب الله عزَّ وجلَّ، الكتاب الذي ليس بعده كتاب، وصفه الله سبحانه بالقرآن العظيم، والقرآن الكريم، والقرآن المجيد، والكتاب العزيز، والقرآن الحكيم، لأنه الكتاب الذي أنزله الله ليكون تشريعاً عاماً كاملاً للمجتمعات والأفراد والحكام إلى يوم القيامة: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41، 42]. فالقرآن كلام الله .. وهو كتاب عظيم جامع لأوصاف الكمال .. منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء .. حكيم في أسلوبه .. حكيم في هدايته ورحمته .. وحكيم في بيانه وتفسيره .. وحكيم في تشريعه وأحكامه .. وحكيم في وعده ووعيده .. وحكيم في كل ما اشتمل عليه. أنزله الحكيم في خلقه وأمره، الذي يضع كل شيء في موضعه، الحميد على ماله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإنصاف. فلهذا كان كتابه مشتملاً على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وذلك يقتضي تحكيم كتاب الله جل جلاله في جميع شئون الحياة، لأن ما شرعه الله في كتابه من الأحكام والمعاملات، والآداب والأخلاق، والحدود والشرائع في منتهى الحكمة والعدل، لأنه تشريع الحكيم العليم الخبير، الذي لا يدخل حكمه نقص ولا خلل ولا زلل، وقضاء من لا يخفى عليه مواضع

المصلحة في البدء والعاقبة. فكيف يعرض الناس عنه إلى غيره؟: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. ويجب على الحكام أن يحكموا بين الناس بما أنزل الله، ولايتعدوا حكم الله الذي شرعه لهم كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. والله عز وجل حكيم عليم، يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، والحكمة هي إصابة الحق في الأقوال والأفعال، وهي من أعظم النعم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} ... [البقرة: 269]. وقد امتن الله على من شاء من عباده من الأنبياء والمتقين فآتاهم الحكمة كما قال سبحانه ممتناً على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} ... [لقمان: 12]. وخَلقُ الله عزَّ وجلَّ كلُّهُّ محكم متقن لا خلل فيه ولا قصور. والله تبارك وتعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة وهي عبادته تبارك وتعالى كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} ... [الذاريات: 56 - 58]. وهو سبحانه الحاكم في خلقه وحده؟ قضاءً وقدراً .. خلقاً وتدبيراً .. وهو سبحانه الحاكم فيهم بأمره ونهيه .. وثوابه وعقابه.

فهو الحاكم وحده: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: 26]. والله تبارك وتعالى أحكم الحاكمين كما قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8] وحكمه سبحانه يتضمن نصره رسوله على من كذبه ... وحكمه بين العباد في الدنيا بشرعه وأمره ... وحكمه بينهم في الاخرة بثوابه وعقابه. وأحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الانسان في أحسن تقويم، حتى بلغ أكمل الاحوال ... فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن باحسانه، والمسيء بإساءته؟.

اللطيف

اللطيف ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: اللطيف. قال الله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 19]. وقال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]. الله تبارك وتعالى هو اللطيف، الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن، الذي لا تخفى عليه خافية، ووصل علمه إلى كل خفي. وهو سبحانه اللطيف، البر بعباده، الذي يلطف ويرفق بهم من حيث لا يعلمون، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، والذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب بأسباب لا تخطر على باله، حتى أنه يذيقه المكاره ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 19]. وهو سبحانه العالم بكل شيء، الذي لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر وخفي، حتى الخردلة التي لا وزن لها لا تخفى عليه، لأنه اللطيف الخبير كما قال سبحانه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} ... [لقمان: 16]. وإذا علم العبد أن ربه متصف بكمال العلم بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وراقب ربه في حركاته وسكناته، فإن العبد مكشوف بين يدي اللطيف الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء كما قال سبحانه: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13، 14]. والله عزَّ وجلَّ هو اللطيف بعباده، كثير اللطف بهم، بالغ الرأفة بهم، لا يفوته من

أعمالهم شيء، ولا يظلمهم مثقال ذرة، بل يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه، ويعفو عن ذنوب المذنبين بلطفه وعفوه، ويعذب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، وهو بعباده خبير بصير. ومن لطفه بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم وما يحتاجونه في معاشهم، ومن لطفه عزَّ وجلَّ خلق الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث، وحفظه فيها، وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل، ثم إلهامه بعد الانفصال تناول الحليب من الثدي بالفم، ثم تأخير خلق الأسنان إلى وقت الحاجة إليها بعد الفطام. ومن لطفه سبحانه فلق البيضة عن الفرخ، وإلهامه التقاط الحب في الحال. فسبحان اللطيف الذي لطف أن يُدرك بالكيفية، اللطيف الخبير بأحوال الخلائق، اللطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، اللطيف بهم في أرزاقهم، حيث جعل رزق العبد من الطيبات، وقدر جميع رزقه لم يدفعه اليه مرة واحدة فيبذره: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]. وسبحان اللطيف بمن لجأ إليه من عباده فيقبله ويقبل عليه، الذي يعطي الجزيل، ويقبل القليل، الذي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، ولا يخيب من رجاه. فهو سبحانه اللطيف على الكمال، وكل لطف في العباد إنما هو من عند ربهم، وهو اللطيف الذي يعلم الأشياء الدقيقة، ويوصل الرحمة إلى العباد بالطرق الخفية التي لا تخطر بالبال. فما يبتلي الله به عباده من المصائب .. وما يأمرهم به من المكاره .. وما ينهاهم عنه من الشهوات .. هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل، كما ابتلى يوسف - صلى الله عليه وسلم - بالسجن فصبر فأعطاه الملك .. وابتلى ابراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح إسماعيل فصبر وأطاع .. فجعل ذريته هم الباقين .. وجعل منهم أئمة يهدون ويدعون إلى الخير إلى يوم القيامة.

الخبير

الخبير ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الخبير. قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ: 1]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)} [التحريم: 3]. الله تبارك وتعالى هو العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري شيء في الملك والملكوت إلا ويعلمه، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بعلمه، ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره، ذلك: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73]. والله عزَّ وجلَّ بكل شيء عليم، خبير بما كان وما يكون وما سيكون: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]. وهو سبحانه العليم بسرائر العباد، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى عليه منهم شيء، الخبير بكل ما يعملونه من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، الخبير بنيات العباد وأقوالهم وأفعالهم، وما يجول في صدورهم من خير وشر: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18]. والله عزَّ وجلَّ خلق البشر كلهم من آدم وحواء .. وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء .. وفرَّقهم في الأرض .. وأرسل إليهم الرسل .. وأنزل عليهم الكتب .. ودعاهم إلى الإيمان .. وجعل أكرمهم عند الله أتقاهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا

النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات 13]. فالله عليم خبير بمن يتقية ظاهراً وباطناً ممن يتقيه ظاهراً لا باطناً فيجازي كلاً بما يستحق.

الحليم

الحليم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحليم. قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. وقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. الله تبارك وتعالى هو الغني الحليم، الذي يدر على خلقه صنوف النعم الظاهرة والباطنة مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، ويحلم عن مقابلة العصاة بمعاصيهم، يستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم، ولكنه غفور حليم، فله الحمد على حلمه وإحسانه. وهو سبحانه العزيز الحليم، ذو الصفح والأناة، الذي لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم، الحليم على من أشرك به وكفر من خلقه في تركه تعجيل عذابه، لعله يتوب إلي ربه. وهو سبحانه الحكيم الحليم، الذي يضع الأمور مواضعها، ولا يؤخرها عن وقتها، ولا يعجلها قبل أوانها. وهو سبحانه الحليم الغفور، الذي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم ويؤخر، وينظر ويؤجل، ولا يعجل عليهم لعلهم يتوبون، ويستر آخرين ويغفر، ويفرح أشد الفرح بتوبة التائبين. وحِلم الله عزَّ وجلَّ على عباده، وتركه معاجلتهم بالعقوبة، من صفات كماله، فحلمه ليس لعجزه عنهم، وإنما هو صفح وعفو عنهم، أو إمهال لهم مع القدرة، فإن الله قوي لا يعجزه شيء: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]. وحلم المولى الكريم ليس عن عدم علمه بما يعمل العباد، بل هو العليم

الحليم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)} [الأحزاب: 51]. وحلم الله عزَّ وجلَّ عن خلقه ليس لحاجته إليهم، بل هو سبحانه يحلم عنهم ويصفح ويغفر مع استغنائه عنهم، وشدة حاجتهم اليه. وحلم الله جل جلاله من صفات كماله، فحلمه على عباده عظيم يتجلى في صبره على خلقه مع كثرة معاصيهم، فهو الغني الكريم الحليم الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله وإحسانه عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنه كريم يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البر التقي. وقد يقيه بل وقاه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلاً عن أن يدعوه ويشكره، كما يقيها الناسك الذي يؤمن به، ويسأله ويعبده. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه (¬1). وذنوب العباد عظيمة كبيرة كثيرة، ولو عجل الله عقوبة العصاة أولاً بأول، ما بقي على ظهر الأرض أحد، ولكن الله حليم رحيم، يؤخر عقوبة هؤلاء الظلمة إلى وقتهم الذي وقت لهم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)} [النحل: 61]. وتأخير العذاب عن العصاة إنما هو رحمة لهم وبهم، لعلهم يتوبون، ولكن الناس يغترون بالإمهال، وحلم الله عنهم، حتى يأخذهم سبحانه بعدله وقوته، عندما يأتي أجلهم الذي سمى لهم. ألا ما أحلم الله .. وما أجهل البشر بأسماء الله وصفاته .. وما أكثر معاصيهم. إن الله يريد للناس الرحمة والإمهال، ولكن الأجلاف والجهال منهم يرفضون ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099) واللفظ له، ومسلم برقم (2804).

تلك الرحمة وذلك الإمهال، حتى يسألون الله أن يعجل لهم العذاب والنقمة، كما قال سبحانه عن كفار مكة: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32]. وتأخير العذاب عن الكفار والفجار إنما هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، بل يجزون بأعمالهم، ويعاقبون على ذنوبهم، إلا أنه يُرفع العذاب عمن شاء الله من عصاة المؤمنين. والله غفور حليم، ولولا حلمه عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت السموات والأرض، لما يحصل من شدة الكفر وعظيم الجرائم من بعض العباد كما قالت النصارى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 88 - 91]. السموات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد من الكفر والفسوق والعصيان، فيمسكهما الله بحلمه ومغفرته، فحلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والأرض، وبحلمه سبحانه صبر عن معاجلة أعدائه بالعقوبة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. إن الله حليم غفور، ولو شاء لعاجل العصاة والكفار بالعقوبة، ولأمر السماء فحصبتهم، وأذن للأرض فابتلعتهم، ولكنه سبحانه حليم يمسك بقدرته وحلمه وصبره تفطير السموات، وانشقاق الأرض، وزوال الجبال، ويحبسها عن ذلك بحلمه، فإن ما يأتي به الكفار والمشركون والفجار والعصاة في مقابلة عظمة الله وجلاله، وإكرامه وإحسانه يقتضي ذلك. ولكن الله جعل في مقابلة هذه الأسباب أسباباً يحبها ويرضاها، ويفرح بها أتم فرح وأكمله من الإيمان والتقوى، والتوبة والاستغفار، تقابل تلك الأسباب التي هي سبب زوال العالم وخرابه.

فدافعت تلك الأسباب وقاومتها، وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه، وغلبتها له، ورحمته سبحانه سبقت غضبه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، وهو الذي حرك الأنفس والأبدان، وأعطاها قوى التأثير، وهو الذي أوجدها وأعدها، وأمرها وسلطها على من شاء، وهو الذي يمسكها إذا شاء، ويحول بينها وبين قواها إذا شاء. وهو سبحانه الحليم الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به، فإذا أغضبته معاصي الخلق وكفرهم، وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته الذين يملؤون السموات، وتسبيح عباده المؤمنين به، وحمدهم إياه، وطاعتهم له، وانكسارهم وذلهم بين يديه في الأرض. ومن عرف أن ربه حليم على من عصاه، فعليه أن يحلم هو على من خالف أمره، ويرفع الانتقام عمن أساء إليه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} ... [الشورى: 43]. فسبحان ذي الجلال والكبرياء، الذي تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة، وصغرت لكبريائه السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، وافتقر إليه العالم العلوي والعالم السفلي، وخشعت له الأصوات، ولهجت بذكره وحمده المخلوقات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7404)، ومسلم برقم (2751)، واللفظ له.

العظيم

العظيم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العظيم. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} [الشورى: 3، 4]. وقال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} [الحاقة: 52]. الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته .. العظيم في أسمائه .. العظيم في صفاته .. العظيم في أفعاله .. العظيم في ملكه وسلطانه .. العظيم في خلقه وأمره .. العظيم في دينه وشرعه .. ذو العظمة والجلال والكبرياء .. الذي يعظمه خلقه ويهابونه. وهو سبحانه الإله العظيم، الإله الحق الذي يجب أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة له وحده لا شريك له، لكمال صفاته، وعظيم نعمه، الحي القيوم المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، الرازق لكل مخلوق، الذي يعلم الظواهر والبواطن، والغيب والشهادة. العظيم الذي لا أعظم منه، العلي بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي قهر جبروت الجبابرة، وصغرت في جانب عظمته وجلاله أنوف الملوك القاهرة: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة:255]. وهو سبحانه العظيم الذي خلق الخلائق كلها، ودبر الأوامر كلها: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وهو سبحانه وحده العظيم الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا يمكن الامتناع عليه على الإطلاق، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي لا

يُطاع إلا بعمله، ولا يُعصى إلا بإذنه، ولا يمكن أن يعصى كرهاً، أو يخالف أمره قهراً، المحيط بكل شيء، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الذي جاوز قدره وعظمته حدود العقول والتصورات. فما أسفه من عصاه .. وما أجهل من لا يخشاه .. وما أضل من أشرك معه غيره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. فعلى من عرف حق عظمة الله أن يقدره حق قدره، ولا يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله، وعليه أن يعظم ربه حق تعظيمه، بوصفه بما يليق به من صفات الكمال والجلال والجمال. والإكثار من ذكره في كل وقت وحين، والبدء باسمه في جميع الأمور، والتوكل عليه على مر الدهور، والإكثار من حمده والثناء عليه، وطاعة أنبيائه ورسله، وتحكيم كتابه وشرعه وطاعته، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتوقير رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. ومن تعظيمه سبحانه تعظيم شعائر دينه كالصلاة والصيام، والزكاة والحج ونحوها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. ومن تعظيمه سبحانه اجتناب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرمها رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. ومن أعظم ما حرمه الله الشرك بأنواعه والفواحش، والإثم والبغي بغير الحق، والقول على الله بلا علم كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. ومقابل هذا أن يعمل المسلم بأوامر الله التي أمره بها، والتي من أعظمها توحيده، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وهو سبحانه العظيم، وكتابه أعظم الكتب، وكلامه أعظم الكلام، فلو كانت جميع أشجار الأرض أقلاماً، وجميع البحار مداداً، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى ولا تنفد: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان:27]. وهو سبحانه العظيم القدير الذي لا يعجزه شيء، خلقُ السماء والأرض، وخلقُ الناس جميعاً، وبعثهم جميعاً، كخلق نفس واحدة وبعثها، كل ذلك عنده سواء كما قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقْبِضُ الله الأرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟» متفق عليه (¬1). فسبحانه من إله ما أعظمه، ومن جواد ما أكرمه. «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» أخرجه أبوداود والنسائي (¬2). «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» أخرجه مسلم (¬3). «لا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» متفق عليه (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7382) واللفظ له، ومسلم برقم (2787) (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (873)، صحيح سنن أبي داود رقم (776). وأخرجه النسائي برقم (1049)، صحيح سنن النسائي رقم (1004). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2726). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6346)، ومسلم برقم (2730).

الشكور

الشكور ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشكور .. والشاكر. قال الله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغابن: 17]. وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. الله تبارك وتعالى هو الشكور، الذي يشكر اليسير من الطاعة، ويثب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعم، ويرضى باليسير من الشكر، والذي يقبل اليسير الذي لا ينفعه من الطاعة، ويبذل العظيم الذي ينتفع به كل من سواه ممن أطاعه. وهو سبحانه الشاكر، الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويرحم من استرحمه. فهو الغفور الرحيم، الشكور الحليم، الذي يفعل ذلك بعباده الشاكرين: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر: 30]. ومن عظيم شكره سبحانه لعباده وفضله عليهم، أنه يضاعف لهم الأعمال الصالحة أضعافاً كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. أما السيئات فإنها تكتب كما هي ولا تضاعف، وتمحى بالتوبة والاستغفار. وجميع النعم التي يتنعم بها الخلق من رزق وعافية، وأمن وسرور، وأهل ومال وولد، هي من رب العالمين وحده كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} ... [النحل: 53، 54].

وواجب العباد أن يشكروا الله على كل نعمة .. فهو سبحانه المحمود على نعمه التي لا يحصيها أحد .. وهو المحمود على خلقه وأمره .. وعلى قضائه وقدره .. وعلى آلائه ونعمائه .. وعلى دينه وشرعه. أما الكافر فإنما سمي كافراً، لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه، ويجحدها ولا يقر بها كما قال سبحانه عن الكفار: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) [النحل: 72]. وقد أكثر الله عزَّ وجلَّ من تعداد نعمه على عباده، فلم يترك لجاحد مجالاً أن ينكر نعم الله عليه، بل لو أراد الإنسان أن يحصي ما في جسده من نعم الله وأفضاله لعجز، فكيف لو أراد أن يحصي نعم الله سبحانه على الناس في حياتهم على هذه الأرض، وكيف لو أراد أن يحصي نعم الله في السموات والأرض، ونعم الله في الدنيا والآخرة، إن ذلك لا يمكن تصوره، فضلاً عن عده: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. وأكثر الناس عن شكر هذه النعم غافلون، وهم في نعم الله غارقون: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61]. وأعظم الشكر لله على نعمه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والثناء عليه، واستعمالها في طاعته، لأنه سبحانه هو الذي خلق وأوجد من العدم، ورزق الإنسان وسائر المخلوقات، ولم يشاركه في ذلك أحد، فلا يستحق العبادة معه أحد. ولكن أكثر الناس غرهم الشيطان، فأعرضوا عن ذلك، وجعلوا لله أنداداً، ونسبوا لها الضر والنفع، والتصرف في الأرزاق، ودفع الأمراض، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات كما قال سبحانه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} ... [العنكبوت: 17]. وهو سبحانه الشاكر، المادح لمن يعطيه، والمثني عليه، والمثيب له بطاعته

فضلاً عن نعمته. وقد مدح الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. ومن شكره سبحانه لعباده أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف به عنه العذاب يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان، وهو من أبغض خلقه إليه. ومن شكره سبحانه لعباده أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان أو خير، ولا يضيع عليه هذا القدر. ومن شكره لعباده أنه لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء. ومن شكره لعباده سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره له، وينوه بذكره، ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين. فسبحانه من غفور شكور، يغفر الكثير من الزلل، ويشكر القليل من العمل. وأحب خلق الله إليه من اتصف بموجب صفاته، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها، ولهذا يبغض الله الكفور والظلوم، واللئيم والبخيل ويحب الكريم المحسن، التقي الرحيم، الشكور الغفور. والله سبحانه شكور يشكر لعباده حسن الأداء، أفلا يشكرون له حسن العطاء: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، وجزيل عطائك، وتتابع إحسانك. اللهم لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعده.

العلي

العلي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العلي .. والأعلى .. والمتعال. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج: 62]. وقال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]. وقال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]. الله تبارك وتعالى هو العلي الأعلى، الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: له علو الذات .. وعلو الصفات .. وعلو القدر .. وعلو القهر. فهو سبحانه ذو العلو والارتفاع على خلقه .. وهو العلي عن النظير والمثيل. وهو سبحانه العلي العالي على كل شيء، القاهر لكل شيء، العلي الذي استوى على أعلى المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، ذو العظمة والكبرياء، وذو الجلال والجمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، العزيزالحكيم الذي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} [الشورى: 4]. وهو سبحانه الكبير المتعال، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وهو سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، العلي الذي لا أعلى منه، فالله جل جلاله عال على كل شيء، وفوق كل شيء، وقاهر لكل شيء، عال على عرشه فوق السموات كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. والله عزَّ وجلَّ هو العلي الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص، وعلا فوق كل شيء، رفيع الدرجات، المستحق لأعظم درجات التعظيم والمدح والثناء: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} ... [الروم: 27].

وهو سبحانه العلي الأعلى الذي ينزل متى شاء؟، في أي وقت شاء؟، كيف شاء؟. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَه» متفق عليه (¬1). وينزِّل ما يشاء، على من شاء، في أي وقت شاء: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} [النحل: 2]. وأنزل الكتب على أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 2 - 4]. وهو سبحانه الأعلى .. ووجهه الأعلى .. وكلامه الأعلى .. وسمعه الأعلى .. وبصره الأعلى .. وعلمه الأعلى .. وخلقه الأعلى .. ودينه الأعلى .. وحكمه الأعلى .. وسائر صفاته عليا .. وله المثل الأعلى، وهو أحق به من كل ما سواه، ويستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، وليس ذلك إلا لله عزَّ وجلَّ فـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]. فسبحان من له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وله المثل الأعلى في كل شيء .. في الخلق والأمر .. وفي الجلال والجمال .. والعلو والكمال .. والعظمة والكبرياء .. والتصريف والتدبير .. والسموات والأرض: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم 26 - 27] ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758).

الحفيظ

الحفيظ ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحفيظ .. والحافظ. قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} ... [سبأ: 21]. وقال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. الله تبارك وتعالى هو الحفيظ، الذي حفظ ما خلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من الوقوع في الذنوب والمهلكات، ولطف بهم في الحركات والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها. وهو سبحانه الحافظ الذي يعلم كل شيء، ولا يغيب عنه شيء. وهو سبحانه الحافظ الذي يحفظ عباده من المهالك والمعاطب، ويقيهم مصارع السوء، ويحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، الذي يعلم نياتهم وما تكن صدورهم، ولا تغيب عنه غائبة، ولا تخفى عليه خافية. وهو سبحانه الحافظ لكل شيء، الحافظ للسموات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما فيهن، الذي يحفظ السماء أن تقع على الأرض ويمسكها بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا، ويحفظ ذلك كله بلا مشقة ولا كلفة كما قال سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. والله عزَّ وجلَّ هو الحافظ وحده لا شريك له، فهو الذي خلق هذا الكون العظيم، وهو الذي تكفل بحفظه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} [هود: 57]. والمحفوظ هو ما حفظه الله سبحانه، وشاء له أن يُّحفظ ويبقى، وما شاء الله له أن يضيع ويهلك، فإنه ضائع هالك لا محالة. وقد تكفل الله بحفظ السموات والأرض وما فيهما، والعرش والكرسي، والجنة والنار، والقرآن، وبيته الحرام، فهي باقية وغيرها بحفظ الله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32].

فالله عزَّ وجلَّ هو الذي أنزل القران، وحفظه حال إنزاله، وبعد إنزاله. ففي حال إنزاله حفظه من استراق الشياطين ... وبعد إنزاله حفظه في قلب رسول الله ( .. ثم حفظه في قلوب المؤمنين من أمته .. وحفظ حملته المؤمنين من أعدائهم .. فلا يسلط عليهم عدواً يجتاحهم ... وحفظ سبحانه ألفاظ القران من التغيير والزيادة والنقص ... وحفظ معانيه من التبديل. قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] والله تبارك وتعالى هو الحفيظ، الذي يحفظ الإنسان من الشرور والآفات والمهالك، ويحفظه من عقابه وعذابه وسخطه إن هو حفظ حدود الله، واجتنب محارمه وما يغضبه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُْمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). ومن أعظم ما يجب على المسلم حفظه هو الدين، ومن أعظم ما يجب عليه حفظه من حقوق الله هو التوحيد، بأن يعبد الله وحده لا شريك له: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)} [الرعد: 36]. فمن آمن بالله وعبده بما شرعه رسوله، وحفظ ذلك في الدنيا، حفظه الله تعالى من عذاب يوم القيامة وسلمه منه، وأدخله الجنة، وأجاره من النار، وإن عذب بسبب ذنوبه فهو محفوظ بتوحيده من الخلود في النار مع الكفار، الذين ضيعوا هذا الحق العظيم. ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات الصلاة كما قال سبحانه: {حَافِظُوا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669). وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]. فمن حافظ على الصلاة، وحفظ أركانها وشروطها، حفظه الله من عذابه ونقمته، وأدخله الجنة. ومما أمر الله بحفظه السمع والبصر والفؤاد كما قال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. والمؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يجوز له أن يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته. وكلما كان العبد لحفظ دين الله أكمل، كان حفظ الله له أكمل وأتم وأدوم، ومن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه وأخراه، وما حفظه الله لا يضيع ولو أجمعت المخلوقات كلها على إضاعته وإتلافه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} [يوسف: 64]. فاحفظ سمعك فلا تسمع به إلا ما يرضيه، واحفظ بصرك فلا تنظر به إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أن يتعلق بهما ما يغضبه ويسخطه، أو ينشغلا بغيره، واحفظ جميع جوارحك فلا تتحرك إلا بما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ هو الحافظ الذي يحفظ أعمال العباد، فلا يضيع منها شيء، ولا يخفى عليه شيء، صغيراً كان أم كبيراً، ثم يوافيهم به يوم القيامة إن خيراً فخير، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675) واللفظ له.

وإن شراً فشر: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52، 53]. وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). وقد وكل الله بحفظ جميع أعمال العباد حفظةً كراماً من الملائكة، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12]. وحفظ الله سبحانه لخلقه نوعان: الأول: حفظ عام لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيها، ويحفظ أبدانها، وإلهامها تدبير شئونها، والسعي فيما يصلحها، كل حسب خلقته، فهو سبحانه: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. الثاني: حفظ خاص لأوليائه، وذلك حفظ زائد على ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم، وحفظهم مما يزلزل يقينهم من الفتن والشبهات والشهوات، فيعافيهم منها، ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم، ويدفع كيدهم عنهم. وأعظم الحفظ حفظ القلوب، وحراسة الدين عن الكفر والنفاق والفتن والأهواء والبدع. فسبحان الملك العظيم، الحفيظ الذي خلق هذا الملك العظيم، وتكفل بحفظه، وأنزل القران العظيم، وتكفل بحفظه. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين ... واحفظنا بالإسلام قاعدين .. واحفظنا بالإسلام راقدين .. ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

الرقيب

الرقيب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرقيب. قال الله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} ... [المائدة: 117]. وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. الله تبارك وتعالى هو الرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الحافظ الذي لا يغفل ولا يغيب عما يحفظه، الذي حفظ جميع المخلوقات وأجراها على أحسن نظام، وأكمل تدبير. وهو سبحانه الرقيب الذي يراعي أحوال المرقوب، الحافظ له جملة وتفصيلاً، المحصي لجميع أحواله، العليم به الحافظ له، الذي لا يغفل عما خلق فيلحقه نقص أو يدخله خلل من قبل غفلته عنه. والله عزَّ وجلَّ هو الرقيب على عباده، الذي يراقب أقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، وما يجول في قلوبهم وخواطرهم كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. وهو سبحانه وحده الرقيب على كل المخلوقات، في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، الرقيب على الأشياء كلها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، الرقيب على المبصرات كلها ببصره، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الرقيب على المسموعات كلها بسمعه، المدرك لكل حركة وصوت وكلام في كل آن، وفي كل مكان. وهو سبحانه الرقيب على كل ما في هذا الكون العظيم، يستوي عنده الصغير والكبير، والظاهر والباطن، والقريب والبعيد، والكليات والجزئيات، والأسرار

والخفيات، في الأرض والسموات. وإذا علم المسلم عظمة رقابة الله المطلقة، راقب الله في تصرفاته وعباداته، ومعاملاته، وسائر أحواله، وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته، وبلوغه أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والمراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق على ظاهره وباطنه، وحضور القلب بين يدي الله تعالى، وعدم الانشغال عنه، سواء في العبادة أو خارجها، وامتلاء القلب بعظمة الله جل جلاله ومحبته: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]. وهذا القرب وهذا الدنو من الله تعالى يبث في القلب سروراً عظيماً، وأنساً وفرحاً، وهذا الأنس والسرور يبعث العبد على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، والتلذذ بعبادته وطاعته. ومن لم يجد هذا السرور، ولا شيئاً منه، فليتَّهِم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُّحِبَّ الْمَرْءَ لا يُّحِبُّهُ إلا لِلَّهِ، وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ» متفق عليه (¬1). والمراقبة من أجلِّ أعمال القلوب، فمتى علم العبد أنه مكشوف أمام الله، وأن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنه عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل فعل أو قول يسخطه الله، وعبد الله بمقام الإحسان. ومن راقب الله في سره وجهره، واتقاه في أمره ونهيه، أوصله ذلك بإذن الله إلى مرضاة ربه، والفوز بالجنة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (16)، واللفظ له، ومسلم برقم (43).

وصاحب المراقبة يدع المعاصي استحياءً من ربه وهيبةً له أكثر مما يدعها خوفاً من عقوبته. ألا ما أجهل الإنسان بربه حين يكفر به ويعصيه، ولا يكفيه ذلك حتى يزجر من يؤمن به ويطيعه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 9 - 14]. وإن الإنسان ليرجف ويضطرب فؤاده حين يشعر أن سلطان الأرض يراقبه بجواسيسه وعيونه، مع أن سلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا حركة الإنسان الظاهرة، وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره، أو إذا أغلق فمه. أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه ترقبه أينما حل وأينما سار في كل وقت. وأما رقابة الله فهي مسلطة على الأقوال والأعمال، والضمائر والأسرار. وخالق الإنسان أدرى بتركيبه وسره، فالعبد مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العظيم، العليم بمنشئه وحاله ومصيره، وهو سبحانه أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد الذي يجري فيه الدم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]. فسبحان الله .. ما أعظم هذه القبضة المالكة، والرقابة الشديدة المباشرة لجميع ما في هذا الكون من خالقه. وإذا علم الإنسان ذلك، فهو كاف له أن يعيش في حذر دائم، وخشية دائمة، ويقظة لا تغفل عن المحاسبة، تدفعه إلى حسن العمل ودوامه. وقد أحكم الله عزَّ وجلَّ الرقابة على هذا الإنسان .. فهو يعيش ويتحرك وينام .. ويأكل ويشرب .. ويتحدث ويصمت .. ويقطع الرحلة كلها بين يدي ملكين موكلين به عن اليمين والشمال .. يتلقيان منه كل حركة .. وكل كلمة .. ويسجلانها فور وقوعها .. لتكون في سجل حساب هذا الإنسان: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 17، 18].

المقيت

المقيت ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المقيت. قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} ... [النساء: 85]. الله تبارك وتعالى هو المقيت، الذي خلق الأقوات كلها، وأوصل إلى كل مخلوق ما يقتات به، وأوصل إلى الكائنات أرزاقها، وصرَّفها بين هذه المخلوقات العظيمة كيف شاء بحمده وحكمته، وعلمه ورحمته. وهو سبحانه القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، الوهاب الرزاق، الذي يعطي كل إنسان وطير وحيوان قوته على ممر الأوقات. فهو سبحانه الذي يمد هذه الخلائق في كل وقت بما جعله قواماً لها، فإذا أراد موت شيء منها، حبس عنه ما جعله مادة لبقائه من القوت، فيهلك بإذنه. والله عزَّ وجلَّ هو الغني الكريم، المعطي الخلق أقواتهم، الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والناطق والصامت، والذاكر والغافل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود:6]. وقد قدر الله سبحانه جميع الأرزاق والآجال والأعمال لجميع الخلائق .. وقدر أقوات أهل الأرض .. وما يصلح لمعايشهم من النبات والشجر والحبوب والمنافع والتجارة. وجعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى من المنافع والمكاسب والثمار .. ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد .. فيحصل بسبب ذلك من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يعلمه إلا الله العليم الحكيم. قال الله تعالى عن الأرض: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 10].

والله عزَّ وجلَّ خالق الأقوات كلها .. جعل سبحانه لكل مخلوق من المخلوقات قوتاً يناسبه: فالأبدان قوتها المأكول والمشروب .. والأرواح قوتها العلوم الإلهية والذكر .. والملائكة قوتها التسبيح والتقديس لله. فسبحان العليم الخبير .. المقيت لعباده .. الحافظ لهم .. الشاهد لأحوالهم. وسبحان الغني الكريم، الرقيب الشهيد، الذي خلق الخلائق، وتكفل بأرزاقهم من كانوا، وحيثما كانوا؟ علمه سبحانه محيط بكل شيء .. ورحمته وسعت كل شيء .. وخزائنه مملوءة بكل شيء .. وهو المقيت بكل شئ. قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَدُ اللهِ مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (992).

الشهيد

الشهيد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشهيد. قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)} [آل عمران: 98]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} ... [الفتح: 28]. الله تبارك وتعالى هو الشهيد، المطلع على جميع المخلوقات، الذي يسمع جميع الأصوات خفيّها وجليّها، ويبصر جميع الموجودات صغيرها وكبيرها، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه، فهو الشهيد على أفعالهم، الحفيظ لأقوالهم، العليم بسرائرهم، وما تكن صدورهم وما يعلنون، الذي أحاط علمه بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء. وهو سبحانه الشهيد القريب من خلقه، الذي يراهم جميعاً في آن واحد، ويسمع ما يتناجون به، ويرى ما يخوضون فيه، ويعلم ما يجول في خواطرهم، وما تهجس به ضمائرهم، لا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه أو يكتمونه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61]. وهو سبحانه الشهيد، العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي علم جميع أفعال العباد، وأحصاها قبل فعلها وبعد فعلها، لأنه علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} [المجادلة: 6]. والله عزَّ وجلَّ عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء وإن دق وصغر كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5].

والله جلَّ جلاله لا يحتاج إلى الشهود على العباد، لأنه على كل شيء شهيد. قد شهد سبحانه لنفسه بأعظم شهادة في كتابه فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} ... [آل عمران: 18]. فسبحان الملك الرقيب الشهيد، الذي لا يعزب عنه شيء من مخلوقاته، ظاهرها وباطنها، كبيرها وصغيرها. يرى مكانها .. ويسمع تسبيحها .. ويعلم أحوالها. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} ... [الإسراء: 44]. وسبحان الشهيد الذي يرى الكون كله وهو مستو على عرشه، يرى الهباءة الطائرة .. والجبال الشاهقة .. ويرى الحيوانات، والنباتات، والذرات في قعر البحر الأسود. ويرى سبحانه كل ذرة، وكل نبتة، وكل شجرة في العالم، في ظلمة الليل الأسود. ويرى سبحانه أهل الطاعات وهم يطيعونه .. ويرى أهل المعاصي وهم يعصونه .. ويرى ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء. فسبحان: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} ... [البروج:9]. واذا علم العبد أن الله هو الذي خلقه وصوره، وأسكنه في ملكه، وعافاه وأنعم عليه. وعلم كذلك أن ربه يراه، ويسمع كلامه، ويعلم سره وعلانيته، هو أقرب إليه من نفسه. إذا شهد هذا .. وهذا .. استحى من ربه أن يعصيه، وخاف من عقوبته، وأقبل على طاعته، لما يراه من عظمته، وجزيل إنعامه، وحسن إكرامه.

الحاسب

الحاسب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحاسب .. والحسيب. قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]. وقال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)} [النساء: 86]. الله تبارك وتعالى هو الحاسب، الحافظ لأعمال خلقه كلها، المحاسب لهم عليها، المجازي عباده بحسب حكمته وعلمه، بدقيق أعمالهم وجليلها. وهو سبحانه الحسيب، المكافئ لعباده، المحاسب لهم. وهو سبحانه الحسيب الكافي لعباده، الذي لا غنى لهم عنه أبداً، فهو خالقهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، فالله وحده حسب كل أحد وكافيه. والله عزَّ وجلَّ هو الحاسب، الذي أحصى كل شيء عدداً، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فهو الذي أحصى جميع أقوال العباد وأفعالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، فهي محصاة لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليها شيء. فيجازي بها العباد يوم القيامة عدلاً وفضلاً، بلا ظلم ولا بخس ولا نقص: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 6 - 8]. وحساب الخلائق كلها سهل لا مشقة فيه على الخالق، بل هو يسير عليه، فكما أن خلقهم وبعثهم كنفس واحدة، فكذلك رزقهم وحسابهم كنفس واحدة كما قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]. والله جلَّ جلاله سريع الحساب، بل هو أسرع الحاسبين، فإذا رجع العباد إليه يوم القيامة حاسبهم في أسرع وقت كما قال سبحانه: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ

الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62]. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، خلق الخلق كلهم، وأحصى أعدادهم، وأحصى أعمالهم وأقوالهم، وقدر آجالهم وأرزاقهم. فعلى العبد أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه ربه، ويزن أعماله قبل أن توزن، وإنما يفزع إلى ذلك أرباب القلوب، المحسون بأوجاع الذنوب، العالمون يقيناً بمحاسبة علام الغيوب، وإحصائه الطاعات والذنوب، فإن مما يهون الحساب غداً، محاسبة النفس قبل حضور الأجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. والله عزَّ وجلَّ إذا جمع عباده يوم القيامه .. حكم بينهم بالحق والعدل .. فوضع لهم الموازين العادلة التي بين فيها مثاقيل الذر .. يوزن بها العامل وعمله .. وتوزن بها الحسنات والسيئات .. فلا تظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً .. ولو كان مثقال حبة من خردل من خير أو شر .. فالله يظهره ويحضره ليجازي به صاحبه. ولن يفلت أحد من الموت، كما أنه لن يفلت أحد من الحساب كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26]. واذا كان الله قد أبقى الإنسان في بطن أمه شهوراً ليكمل خلقه، وأبقاه في الدنيا سنيناً ليكمل عمله، فهو بعد هذا .. وهذا راجع إليه بعد الموت، فيحاسبه ثم يثيبه أو يعاقبه حسب عمله يوم القيامة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} [الحج: 56 - 57].

الكريم

الكريم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكريم .. والأكرم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. وقال الله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5]. الله تبارك وتعالى هو الكريم، الذي عم بعطائه وإحسانه المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، يعطي لا لعوض، مًنَّ سبحانه على عباده بوافر النعم. فهو باسم الكريم أحق من كل كريم، فهو سبحانه ما زال كريماً ولا يزال، عمّ عطاؤه الخلائق كلها. وهو سبحانه أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم، ولا يعادله نظير، يعطي ويثني، ويعفو ويصفح، ولا يضيع من توسل إليه، ولا يترك من التجأ إليه، ولا يهين من أقبل عليه. إذا قدر عفى، وإذا وعد وفى، كريم يعطي بلا عقاب ولا عتاب كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. وهو سبحانه الكريم، الكثير الخير دائمه، الكريم الذي يعطي ولا تنقضي خزائنه، وله خزائن السموات والأرض كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} ... [المنافقون: 7]. وهو سبحانه دائم الخير والإحسان، فكل شيء ينقطع إلا الله وإحسانه، فإنه دائم متصل في الدنيا والآخرة، وخزائن كل شيء عند الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].

وهو سبحانه الكريم الذي يسهل خيره، ويقرب تناول ما عنده، فليس بينه وبين العبد حجاب، وهو قريب لمن دعاه، إذا تقرب منه العبد تقرب الله إليه أكثر كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وهو سبحانه الكريم الذي له قدر عظيم، فالكل له خلق وملك، وكرم كل كريم من كرمه، وهو الكريم الذي لا أكرم منه، العزيز الذي لا أعز منه. وهو سبحانه الكريم، المنزه عن النقائص والآفات، لأنه تقدس عن النقائص والآفات وحده على الإطلاق والتمام من كل وجه. وهو سبحانه الكريم الذي إذا وعد وفى، ولا يبالي كم أعطى؟، ولمن أعطى؟، لعموم قدرته، وعظيم ملكه، وكمال غناه، فلا يحول بينه وبين ما يريد مانع: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]. وهو سبحانه الكريم الذي يكرم من شاء، ويهين من شاء، فمن أكرمه الله فهو الكريم، ومن أهانه الله فهو المهين كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. وهو سبحانه الكريم الذي يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه داعياً أن يردهما صفراً خائبتين. والله عزَّ وجلَّ هو الكريم الذي عمَّ الجميع بعطائه وفضله، وبكرمه أمهل المكذب له، ووالى عليه نعمه. ومن كرمه أمهل إبليس وأنظره، وتركه وما اختار لنفسه، ولم يعجله ولا عاجله، كل ذلك كرم منه وفضل. وهو سبحانه الكريم الذي تفضل على العلماء بأن علمهم من علمه، وأنار قلوبهم من نوره. وتفضل على الأغنياء بأن رزقهم من رزقه، وأعان وحبب إلى من شاء منهم

لصرفه فيما يرضيه. وهو سبحانه الكريم الذي تفضل على المؤمنين، فحبب إليهم الإيمان، وأعانهم على الأعمال الصالحة، وأثابهم عليها. وهو سبحانه الكريم الذي خلق الناس، وعافاهم، وأطعمهم، وكساهم، وهدى من شاء منهم للإيمان. وهو سبحانه الكريم الذي عمَّ الخلق برحمته، وشملهم بكرمه، ودعاهم إلى ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم. وهو سبحانه الكريم الذي يغفر الذنوب، ويعفو عن السيئات، ويبدل السيئات بالحسنات كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. وهو الكريم الذي يضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» متفق عليه (¬1). وأعظم أسباب الكرامة عند الله هي تقواه، ولهذا كان الرسل أكرم الخلق، لكمال طاعتهم، وكمال عبوديتهم لربهم، فمن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ربه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6491)، ومسلم برقم (131) واللفظ له.

وقد سمى الله كتابه كريماً بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة: 77]. فهو قرآن كريم فيه الهدى والبيان، والعلم والحكمة، والفضائل والبشائر، والسنن والآداب: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30]. ألا ما أعظم الكريم المنان، وما أعظم فضله وجوده وإحسانه. فسبحان الكريم المنان، كثير الكرم والاحسان، واسع الجود والعطاء، الذي من كرمه خلق المخلوقات، وهيأ لها السكن والمأوى والرزق والمعاش. ومن كرمه خلق الإنسان وكرَّمه ... وعلمه القرآن .. وعلمه الحكمة .. وعلمه البيان .. وأرسل إليه الرسل .... وأنزل عليه الكتب .. ليسعده في دنياه وأخراه وإذا علم المسلم أن الكريم هو الله، فعليه أن يتوجه إليه ويعبده بكمال الإيمان والتقوى .. وإكرام كتابه باتباع ما جاء فيه .. وإكرام أنبيائه ورسله باتباعهم وحسن الاقتداء بهم .. وإكرام أوامره وشعائره بحسن أدائها .. وإكرام نعمه بوضعها في مواضعها، وشكر الله عليها .. وإكرام نفسه بكمال الإيمان والتقوى. اللهم أعطنا ولا تحرمنا .. وزدنا ولا تنقصنا .. وأكرمنا ولا تهنا .. أنت مولانا .. فنعم المولى ونعم النصير.

الواسع

الواسع ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الواسع. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)} [آل عمران: 73]. الله تبارك وتعالى هو الواسع الكريم، الذي وسع خلقه كلهم بالكفاية والإحسان، الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، الرزاق الذي وسع رزقه جميع خلقه، واسع الفضل والإحسان والإنعام. وهو سبحانه الواسع العليم، الذي وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} [طه: 98]. وهو سبحانه واسع الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، العليم بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. وهو سبحانه واسع المغفرة، فيغفر لكل من تاب وأناب، مهما بلغت ذنوبه وخطاياه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} ... [النجم: 32]. فسبحان واسع العلم .. واسع الرحمة .. واسع المغفرة .. واسع الفضل .. واسع العطاء. الذي خلقه كلهم يتقلبون فيما لا يحصى من النعم .. فهو الذي يعطي ويمنع .. ويخفض ويرفع .. ويعز ويذل .. ويهدي ويضل .. بعلمه الذي وسع كل

شيء .. وقدرته التي قهرت كل شيء .. ورحمته التي وسعت كل شيء .. وحكمته التي بلغت كل شيء. وسبحان واسع العظمة والملك والسلطان الذي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255].

المجيد

المجيد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المجيد. قال الله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} [هود: 73]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 14، 15]. الله تبارك وتعالى هو المجيد، الكبير العظيم، ذو المجد والكبرياء، والعظمة والجلال، الذي هو أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، الشريف في ذاته، الذي له المجد كله، لكثرة أسمائه وصفاته، وسعتها وعظمتها، وكمال أفعاله، وكثرة خيره ودوامه. وهو سبحانه المجيد، الذي له التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد امتلأت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه، الذي تمجد بفعاله، ومجده خلقه لعظمته وجلاله وكبريائه. وهو سبحانه الحميد المجيد في جميع أقواله وأفعاله، الجميل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، الذي لا يمكن إحصاء نعمه، ولا الإحاطة بجميع أسمائه وصفاته. وهو سبحانه الكريم المجيد الذي عطاؤه واسع، وفضله سابغ، قد شمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والإنسان والحيوان: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20]. وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالمجيد كما قال سبحانه: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1]. ومن مجد القرآن وشرفه وعظمته أنه لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، بل بآية كما قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88].

الرب

الرب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرب. قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]. وقال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. الله تبارك وتعالى هو الرب، المالك الذي له الخلق والأمر، السيد الذي لا شبيه له ولا مثيل في سؤدده، رب الأرباب، ومالك الملك، وخالق الخلق، الذي يدبر الأمر في السماء والأرض. وهو سبحانه الرب الذي يربي الخلائق بأصناف النعم، المصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، المنعم الذي تفضل على عباده وخلقه بوافرالنعم، المربي لأنبيائه وأوليائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وهو جل جلاله الرب المربي لخلقه، المدبر لهم، القائم بأمورهم، المصلح لأحوالهم، الجابر لهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مخلوق عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره، ولا يقوم إلا بأمره، ولا يبقى إلا بإذنه. وهو سبحانه الذي خلق العباد، وهو الذي يرعاهم ويربيهم في أطوارهم المختلفة، فهو الذي خلق النطفة، ثم يجعلها علقة، ثم يجعلها مضغة، ثم يجعل المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يخلق الروح في البدن، ويجعله خلقاً آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال سبحانه ينميه حتى يجعله آدمياً سوياً، ذكراً أو أنثى. وهكذا كل شيء خلقه الله، فهو القائم عليه، والمبلغ إياه الحد الذي قدره له: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]. والله سبحانه هو الرب الكريم، الذي يربي خلقه بالنعم المادية كما قال سبحانه:

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)} [الجاثيه: 36]. ويربي سبحانه عباده بالنعم الروحية التي تزكي قلوبهم وجوارحهم كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} ... [الجمعة: 2]. فلله الحمد والشكر على هذه .. وهذه، وهو المستحق للحمد وحده دون سواه كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. والله جلَّ جلاله هو الرب الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، المحيط بكل شيء، القاهر لكل شيء، رب كل شيء ومليكه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له، وفي قبضته، وتحت قهره: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3]. فاجتمع العباد من الإنس والجن لله بصفة الربوبية، فهو الذي خلقهم، وهو الذي يربيهم، وافترقوا بصفة الإلهية، فألَّهه وحده السعداء، وأقروا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه الرب الذي لا تنبغي العبادة والطاعة إلا له، وكفر به وأشرك الأشقياء. وهنا صار الناس فريقين .. موحدين في الجنة .. ومشركين في النار كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)} [الأعراف: 35، 36]. فالدين والشرع، والأمر والنهي، مظهره وقيامه من صفة الإله سبحانه. والخلق والإيجاد، والتدبير والتصريف، مظهره وقيامه من صفة الرب. والجزاء بالثواب والعقاب، والجنة والنار، مظهره وقيامه من صفة الملك. فأمر الله عباده بإلهيته .. وخلقهم ورزقهم، وأعانهم ووفقهم، وهداهم وأضلهم

بربوبيته .. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله .. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى. وأما الرحمة فهي السبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له .. والربوبية منه لهم .. والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده .. بها أرسل إليهم رسله .. وأنزل عليهم كتبه .. وبها هداهم .. وبها أسكنهم دار ثوابه .. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. فبينهم وبينه سبب العبودية .. وبينه وبينهم سبب الرحمة .. وسع سبحانه كل شيء بربوبيته ورحمته كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ... [الفاتحة: 2 - 4]. وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. ومن عرف ذلك لم يطلب غير الله رباً وإلهاً. ومن رضي بالله رباً فقد ذاق طعم الإيمان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (¬1). ومن رضي أمراً سهل عليه ما يترتب عليه، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان، سهلت عليه طاعة الله تعالى ولذت له. والعالم الرباني هو الذي يحقق علم الربوبية .. فيعرف الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله .. ويعرف وعده ووعيده .. وآلاءه وإحسانه .. ثم يعرف أحكامه وشرعه. يعمل بذلك .. ويعلِّمه .. ويدعو إليه .. ويربي الناس على مقدار ما يحتملونه .. فيبذل لخواصهم جوهره ومكنونه .. ويبذل لعوامهم ما ينالون به فضل الله ويدركونه. وقد دعا الأنبياء والصالحون الله بهذا الاسم العظيم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (34).

فقال آدم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وقال نوح - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} [نوح: 28]. وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127]. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة .. وفي الآخرة حسنة .. وقنا عذاب النار. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

الودود

الودود ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الودود. قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 14 - 15]. الله تبارك وتعالى هو الودود، الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم وهم يحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه وداً ومحبة وإنابة. وهو سبحانه الودود، الذي يحب ويود من أناب إليه، وذو المغفرة لمن تاب إليه، الواد لأهل طاعته، الراضي عنهم بأعمالهم الصالحة، المحسن إليهم لأجلها، المادح لهم بها، المثيب لهم عليها. وهو سبحانه الودود، الذي يحب من أطاعه، ويبغض من عصاه، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المؤمنين والمتقين، ويحب الصابرين والصادقين، ويحب المحسنين والمتوكلين. ويبغض ويكره الكافرين والمشركين، والمستكبرين والمفسدين، والظالمين والفاسقين، والمسرفين والخائنين، والكاذبين والمنافقين. وهو سبحانه الودود بكثرة إحسانه، الذي يوده عباده ويحبونه، المستحق لأن يُود فيعبد ويحمد، لكماله وجماله وجلاله، وعظيم إحسانه. فعلى المسلم أن يفعل ما يحبه الله ويرضاه .. ويجتنب ما يبغضه ويسخطه .. وأن يتودد إلى ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه .. كما تودد إليه ربه بإدرار نعمه وفضله .. وأن يحبه كما أحبه .. ويحسن إلى خلقه كما أحسن الله إليه. ومن حب العبد لله رضاه بما قدره وقضاه، وحب القرآن والعمل به، وحب الرسول وطاعته، والعمل بسنته، وحب ما جاء به.

وحب الله ورسوله يقوى بقوة العلم الشرعي، وكمال المعرفة بالله وآلائه، وكلما كان العبد عالماً بدين الله وأحكامه وشرعه عاملاً به، كان حبه لله أقوى من غيره من الجاهلين، وإن كانت محبة الله موجودة في الفطر، ولكنها تقوى بالذكر والعلم الشرعي، وتضعف بالجهل والغفلة، والشبهات والشهوات. والإنسان قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وقد يرحم من لا يحب. والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه، فإنه يحب التوابين، ويفرح بهم أشد الفرح، فهو المتودد إلى عباده بنعمه، الذي يود من تاب إليه، وأقبل عليه. والله سبحانه رؤوف بالعباد، يحب لهم ويدعوهم إلى كل ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، لأنه الرحيم الودود. ومن أعظم نعم الله على عباده أن عرفهم الدين الحق، وبين لهم الحق من الباطل، والحلال من الحرام: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} [النساء: 26]. والله لطيف بعباده في جميع أحوالهم، وفيما شرعه لهم من الأحكام السهلة الميسرة، يتودد إليهم بنعمه المتوالية، وقبول توبتهم إذا تابوا، ويفرح بذلك كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27]. ومن رحمة الرحيم الودود، وإحسانه الشامل .. علمه بضعف الإنسان من جميع الوجوه .. ضعف بدنه .. وضعف إيمانه .. وضعف صبره .. وضعف إرادته .. وضعف عزيمته .. وضعف تصوره. فلعلمه سبحانه بهذا ورحمته خفف عن الإنسان ما يضعف عنه، وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته كما قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} ... [النساء: 28].

الحق

الحق ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحق. قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 32]. وقال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. الله تبارك وتعالى هو الملك الحق، الموجود حقيقة، الذي لا يسع أحدٌ إنكاره ولا جحوده، فلا ريب ولا شك في وجوده. وهو سبحانه حق في ذاته .. وحق في أسمائه وصفاته .. وحق في أقواله وأفعاله، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به .. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفاً .. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً. فهو سبحانه الحق، وكل ما يعبد من دونه باطل وعبادته باطلة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج: 62]. والله عزَّ وجلَّ هو الحق .. وقوله حق .. وفعله حق .. ولقاؤه حق .. ورسله حق .. وكتبه حق .. ودينه حق .. وعبادته وحده لا شريك له هي الحق .. وحكمة الحق .. وكل شيء ينسب إليه فهو حق. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .. » متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الإله الحق، والرب الحق، الذي خلق السموات والأرض وما ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7442) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

فيهن، وخلق أرزاق الخلائق، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والذي يدبر الأمر في العالم العلوي والسفلي حي قيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم. فهذا هو الإله الحق العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الخالق لكل شيء، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ذو العظمة والجلال والكبرياء. ألا يستحق هذا الإله الحق أن يعبد ويطاع ويشكر؟ ألا ما أجهل وأضل من انصرف عن عبادة الله إلى عبادة غيره: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 32]. والله تبارك وتعالى هو الحق، الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل العدل، وجعله حكما فيما تختلف فيه الامم، وفيما تختلف فيه آراء الناس، وأقام شرائعه على العدل في الحكم، وجعله الميزان الذي توزن به القيم والحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: 17]. والله سبحانه هو الحق الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق، المشتمل على العدل والإحسان والرحمة، ليظهره على الدين كله كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} ... [الفتح: 28]. وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله، من حيث هو دين، فهو الدين القوي بذاته، الكامل بشرائعه، المحفوظ من التحريف والتبديل، الموافق للقلوب والجوارح، المزكي للعقل والروح، الذي يزحف بذاته وحسنه إلى القلوب والبلاد والعباد كل يوم وكل لحظة. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

المبين

المبين ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المبين. قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 25]. الله تبارك وتعالى هو الحق المبين، البين أمره في الوحدانية، فهو الواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال، الواحد لا شريك له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. وهو سبحانه المبين لعباده سبيل الرشاد، الذي أوضح لهم الأعمال الموجبة لثوابه، والأعمال الموجبة لعقابه، والمبين لهم ما يأتونه وما يذرونه، وما يحبه وما يكرهه، وما يرضيه وما يسخطه من الأقوال والأعمال والأشياء: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} [النساء: 26]. وهو سبحانه الحق المبين، الذي بين بمنه وكرمه سبيل المؤمنين، ورغب الناس في سلوكها، وبين سبيل المجرمين، وحذر الناس منها، وأرسل بذلك الرسل، وأنزل الكتب كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} ... [النحل: 89]. وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالمبين فقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16]. وسمى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمبين كما قال سبحانه: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)} [الحجر: 89].

والله تبارك وتعالى هو الحق المبين .. الذي بين في القرآن والسنة كل ما تحتاجه البشرية من البداية إلى النهاية من أحكام العبادات والمعاملات .. وأحكام المعاد والبعث والنشور .. وأحكام الحساب والجزاء والعقاب .. ووصف الجنة وأهلها .. ووصف النار وأهلها .. حتى استقر أهل الجنة في النعيم .. وأهل النار في الجحيم: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 138]. فسبحان الملك الحق المبين الذي بيَّن لعباده كل شيء: فبين لعباده أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، ليدعوه بها، ويسألونه بموجبها. وبين لهم صفات جلاله ليعظموه ويكبروه. وبين لهم صفات جماله ليحمدوه ويشكروه. وبين لهم طريق العبودية المستقيم، الذي يحببهم إليه، ويوصلهم إليه فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} ... [الأنعام: 153]. وبين للخلق ما لهم بعد القدوم عليه، من نعيم دائم في الجنة، لمن آمن به وعمل بشرعه، ومن عذاب دائم في النار، لمن كفر به وأعرض عن شرعه فقال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} ... [الروم: 14 - 18]. وجمع الله سبحانه العلوم الإلهية، وبين الأحكام الشرعية، وفصل أحكام الثواب والعقاب، في الدنيا والآخرة، في كتاب عظيم، فيه تبيان كل شيء، وأمرنا باتباعه لتحصل لنا رحمته فقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155].

الوكيل

الوكيل ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوكيل. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)} [النساء: 132]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} ... [الزمر: 62]. الله تبارك وتعالى هو الوكيل، الذي جميع المخلوقات تحت وكالته وتدبيره وتصريفه، الذي توكل ببيان دينه، وحفظه، وحفظ كتابه، وحفظ المؤمنين، وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم ودولتهم. وهو سبحانه الوكيل، الكفيل بأرزاق الخلائق كلها، القائم بكل ما يصلحهم، المتكفل بإيصال أرزاق الخلق إليهم، وله وحده الخلق والأمر، يدبر أمر الخلائق، ويقسم الأرزاق، ويصرف الأحوال، ويفعل ما يشاء. فكل ما نحتاجه، وكل ما لا بد لنا منه، فالله سبحانه هو الوكيل والكفيل المتوكل بإيصاله إلينا، إما بنفسه فيخلق الشبع والري كما يخلق لنا الهداية في القلوب، أو يوصله إلينا بواسطة سبب، ملك أو غيره يوكل بالعبد، فيوصل إليه حقه الذي قسمه الله له. فهو سبحانه الوكيل المطلق، الذي الأمور كلها موكولة إليه، وهو قادر على القيام بها، وفي بإتمامها. وهو سبحانه وحده الوكيل الذي تفرد بحفظ الخلق، وكفايتهم، والقيام عليهم، وأمرهم جميعاً بيده، فلا يكون أمر إلا بإذنه. وقد أمر الله سبحانه بالتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. والتوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل العبد على الله في جلب المنافع الدنيوية، ودفع المصائب

الدنيوية. الثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان واليقين، والجهاد والدعوة، والعمل الصالح. فبين النوعين من الفضل مما لايحصيه إلا الله. فمتى توكل العبد على ربه في النوع الثاني حق توكله، كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومن توكل عليه في الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة التوكل عليه فيما يحبه الله ويرضاه. فأعظم التوكل عليه سبحانه التوكل في الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، فهذا توكل الأنبياء وخاصة أتباعهم. وهو سبحانه الكافي لمن توكل عليه، وفوض أمره إليه كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} [الأحزاب: 3]. وأخبر سبحانه عن محبته لمن توكل عليه بقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. ووعد الله المتوكلين عليه بالأجر العظيم فقال سبحانه: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. وإذا علم العبد أن وكيله غني كريم، وفيّ قادر، فليسأله وحده، ويعرض عما سواه كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} ... [هود: 123]. اللهم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة: 4].

الكفيل

الكفيل ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكفيل. قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} [النحل: 91]. الله تبارك وتعالى هو الكفيل، القائم بأمر الخلائق كلهم، المتكفل بزرقهم، وإيصاله إليهم، ورعاية مصالحهم. فهو سبحانه الذي خلق الأرزاق والمرزوقين، وخلق الحاجات والمحتاجين، فليس في وسع أحد أن يرزق نفسه، وإنما الرزاق وحده هو الله الذي تكفل برزق كل حي، من الإنس والجن، والحيوان والطير كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وقد توكل الله عزَّ وجلَّ وتكفل بأرزاق العباد كلهم، المؤمن والكافر، والبشر والبهائم، ومن مات منهم جوعاً أو عطشاً، فالله سبحانه لم يقبض أحداً حتى استوفى رزقه الذي قسم له، وتكفل الله بإيصاله إليه، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها وخطاها. قال الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (¬1). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743). انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).

القوي

القوي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القوي. قال الله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 19]. وقال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21]. الله تبارك وتعالى هو القوي، الذي لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، الذي ينفذ أمره وقضاؤه، الكامل القدرة فلا يعجزه شيء، التام القوة فلا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم. وهو سبحانه القوي العزيز، الذي له العزة كلها، القاهر الغلاب الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، الذي قهر جميع المخلوقات، ودانت له الخلائق، وخضعت له جميع الكائنات، وامتنع أن يناله أحد من المخلوقات. وهو سبحانه القوي، الذي لا يستنصره أحد إلا غلب، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة قوتهم إن لم يعنهم بقوته. والله عزَّ وجلَّ هو القوي الجبار، القوي القهار، الذي له القوة جميعاً وحده لا شريك له، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، السموات والأرض بيده أصغر من الخردلة. وهو سبحانه القوي، الذي له القدرة التامة، الذي خلق العرش والكرسي، وخلق الملائكةالعِظام، والذي خلق السموات السبع الشداد، وخلق الأرضين السبع، وخلق الجبال الراسيات، والنجوم الزاهرات، والكواكب النيرات، والحيوان والنبات، والإنس والجان. وهو سبحانه القوي القاهر الجبار، الذي قهر الجبابرة، وأذل كل متكبر جبار،

القوي العزيز الذي: {أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} [النجم: 50 - 55]. أهلك الله القوي الجبار قوم عاد حين كذبوا الرسل، وكفروا بالله واستكبروا في الأرض، واغتروا بقوة أبدانهم، وضخامة أجسادهم، وعظيم بطشهم في البلاد والعباد كما قال سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15]. فأرسل الله عليهم عقوبة لهم الهواء الذي يألفونه، ولا يستغنون عنه لحظة، ريحاً عظيمة عقيمة، لها صوت مزعج كالرعد القاصف، ما تذر شيئاً أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ودمرهم ذو القوة والجبروت: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} [الأحقاف: 25]. وهو سبحانه القوي العزيز الذي أهلك ثموداً لما كذبوا صالحاً، وكفروا بالله، أهلكهم بصوت واحد كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} [فصلت: 17، 18]. وهو سبحانه القوي الذي أغرق قوم نوح لما كذبوا نوحاً، وكفروا بالله كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)} [الفرقان: 37 - 39]. وقد أهلك الله القوي العزيز الجبار جميع الأمم التي كذبت الرسل، وكفرت بالله، والذين أفسدوا في أرض الله، واستكبروا فيها بغير الحق، وجحدوا ما أنعم الله عليهم به من الملك والجاه، والمال والولد، والصحة والأمن، واستعملوا

تلك النعم في معصية الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)} [غافر: 22]. وكان عذاب الله للأمم التي كذبت الرسل مختلفاً بحسب جرمهم، أظهر الله بذلك العذاب وتلك العقوبات قدرته، وقوته، وشدة بطشه بمن عصاه. وكانت تلك العقوبات تارة بالماء .. وتارة بالريح .. وتارة بالصيحة .. وتارة بالخسف .. وتارة بالنار .. وتارة بالحصب بالحجارة .. وذلك كما حصل لقوم لوط .. وقوم شعيب .. وعاد وثمود .. وقارون وفرعون وهامان: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. ألا ما أعظم قوة الله .. وما أشد قوة بطشه بمن عصاه، وكذب رسله. إن الله قوي عزيز .. وكل قوة في هذا الكون من الله .. وكل قوة في الجبال والبحار .. وكل قوة في الحديد والنار .. وكل قوة في الملائكة والروح .. وكل قوة في الإنس والجن والحيوان .. وكل قوة في السموات والأرض .. والنجوم والكواكب .. كل قوة في هذه المخلوقات العظيمة خلقها الله .. وأودعها في هذه المخلوقات .. وجميع قوة هذه المخلوقات لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله عزَّ وجلَّ. بل قوة جميع تلك المخلوقات لو اجتمعت لواحد منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإن قوة أولئك كلهم لا تساوي شيئاً بالنسبة لقوة الملك القوي العزيز الجبار: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]. فسبحان القوي العزيز، ذو القوة المتين، القوي الذي رفع السماء بغير عمد،

وأمسكها أن تقع على الأرض، القوي في بطشه، الذي إذا بطش بشيء أهلكه، الجبار الذي قهر المخلوقات كلها بقوته، العزيز في ملكه، الذي ذلت وخضعت له المخلوقات كلها، في العالم العلوي وفي العالم السفلي، والذي قهر المخلوقات كلها على ما أراد: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} ... [هود: 66]. وسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي تفرد بالقوة والعزة، وله الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37].

المتين

المتين ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المتين. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. الله تبارك وتعالى هو القوي المتين، الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقة، ولا يمسه لغوب. القوي الذي له القوة التامة، وله القدرة المطلقة، الذي أوجد بقوته وقدرته الأجرام العظيمة العلوية والسفلية، الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. وهو سبحانه القوي المتين، الذي يتصرف في ملكوت السموات والأرض كيف شاء، وبقوته وقدرته يتصرف بالظواهر والبواطن، الذي نفذت مشيءته في جميع البريات، لا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83]. وهو سبحانه القوي المتين، شديد القوة، فلا يقف لقوته أحد، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. أهلك سبحانه الأمم التي كذبت الرسل، وعاقبهم بأشد العقوبات كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم فرعون: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)} [غافر: 22]. ومن قدرته وقوته سبحانه أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في القفار ولجج البحار: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]. اللهم يا قوي .. يا متين .. انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.

الولي

الولي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الولي .. والمولى. قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج:78]. الله تبارك وتعالى هو الولي الذي يتولى عباده المؤمنين بعونه وتوفيقه، ويتولاهم بالعناية والحفاظة، ويحفظهم من أن يستفزهم أعداؤهم عن دينهم، أو يصدوهم عن اتباع نبيهم. وهو سبحانه الولي الذي يتولى نصر أوليائه وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ويتولى يوم القيامة ثوابهم وجزاءهم. وهو سبحانه مالك الملك، ومالك التدبير في مخلوقاته، ولي الذين آمنوا، ينصرهم على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، ويجيب دعاءهم، الذي يعتزون به بين أقوامهم، ويتوكلون عليه في جميع أمورهم: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)} [النساء: 45]. وهو سبحانه ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة، ولي من آمن به، وعدو من كفر به، ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} ... [محمد: 11]. وهو سبحانه ولي المؤمنين بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم، وتوليه سائر مصالحهم: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. والله عزَّ وجلَّ مولى الخلق أجمعين، فهو سيدهم وربهم، وخالقهم ومالكهم، وحاكمهم ومعبودهم، خلقهم ثم أمرهم بالإيمان والعمل الصالح. فهو سبحانه الذي تولى عباده بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع

التدبير والتصريف، ثم تولاهم بأمره الشرعي، فأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء يوم القيامة، فيثيبهم على الطاعات، ويعاقبهم على السيئات كما قال الله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62]. والله عزَّ وجلَّ هو المحب لأوليائه من الأنبياء وأتباعهم كما قال سبحانه: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)} [الأنعام: 127]. وهو سبحانه الذي تولى المؤمنين ولطف بهم، وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب يوصل إلى محبته، وإنما تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة التي قصدوا بها رضا مولاهم. ومن أعرض عن مولاه واتبع هواه، فإن الله يسلط عليه الشيطان فيتولاه، ويفسد عليه دينه ودنياه، عقوبة له على معصية مولاه كما قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} ... [البقرة: 257]. وأولياء الله عزَّ وجلَّ هم محبوه وناصروا دينه، فلهم السعادة في الدنيا والآخرة، والبشرى بما يسرهم كما قال سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64]. ألا ما أعظم الخالق .. وما أكرم الولي الحميد .. وما أشد بطشه بالمجرمين. فهل يليق بالعاقل أن يتوجه إلى غيره، ويتخذ ولياً غير الخالق الرازق، الغني الحميد؟: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [الأنعام: 14، 15].

الحميد

الحميد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحميد. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} ... [الشورى: 28]. الله تبارك وتعالى هو الغني الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أعلاها، وأفعاله عزَّ وجلَّ كلها دائرة بين العدل والإحسان .. وصفاته دائرة بين الجلال والجمال. فهو سبحانه الحميد الذي يستحق أن يحمد، لأنه بدأ فأوجد، وخلق ورزق، الذي يعفو ويصفح، ويغفر ويتوب، وينعم ويحسن، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وهو سبحانه الحميد، الذي حمد نفسه، وأثنى على ذاته، وعلَّم خلقه كيف يحمدونه فقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]. وهو سبحانه المحمود الذي يستحق الحمد، المحمود على جميع أقواله وأفعاله .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى قضائه وقدره. وهو سبحانه الولي الحميد، الغني الحميد، المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله، المحمود بكل لسان، وعلى كل حال، الذي استحق الحمد بفعاله. وهو سبحانه الحكيم الحميد، الذي يُّحمد على السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، فهو الحكيم الذي لا يجري في أفعاله الخطأ والنسيان، ولا يعترضه الخطأ، الحميد المستحق للحمد على الإطلاق، الذي له جميع المحامد بأسرها، وله الحمد على كل حال، وفي كل زمان، وفي كل مكان.

وهو سبحانه الولي الحميد، الذي والى بين منحه ونعمه، وتابع بين آلائه ومننه، وأنعم على الخلائق بنعم لا تعد ولا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. فله الحمد على كماله .. وله الحمد على جماله .. وله الحمد على جلاله .. وله الحمد على آلائه وإحسانه. وله الحمد كثيراً، كما ينعم كثيراً، ويعطي كثيراً، ويعفو كثيراً، حمداً يوافي نعمه، ويكافي مزيده. وله الحمد على العطاء .. وله الحمد على منع البلاء .. وله الحمد حيث أنعم علي َّ وعلى غيري .. وله الحمد على ما أعطاني من الخير .. وله الحمد على ما صرف عني من الشر .. وله الحمد حيث لم يقطع عني رزقه مع كثرة ما أعصيه: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)} [الجاثية: 36]. وهو سبحانه الحميد الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره فهو حميد في نفسه. والحمد كله لله رب العالمين، وحمده سبحانه نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده في الدنيا والآخرة. وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وصفات جماله وجلاله، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، وهو أحق من كل محمود بالحمد. فالله عزَّ وجلَّ هو المحمود على ما خلقه .. وما أمر به، ونهى عنه .. وهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم .. وعلى إيمانهم وكفرهم .. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار .. والملائكة والشياطين .. وعلى خلق الرسل وأعدائهم .. وهو المحمود على عدله في أعدائه .. كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه. وهو سبحانه الحميد، الذي كل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، وشاهدة بمجده: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا

تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} ... [الإسراء: 44]. وهو سبحانه الملك الذي له الملك، وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد، وقد آتى من الحمد ما شاء من عباده، وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه سبحانه، فحمده أيضاً داخل في حمده، فما من محمود يحمد على شيء إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية. فهو سبحانه المحمود على كل حال، وعلى كل شيء، أكمل حمد وأعظمه. والملك والحمد في حق الله متلازمان، فكل ما شمله ملكه شمله حمده، وكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد الله عزَّ وجلَّ نفسه عند خلقه وأمره، فهو المحمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر، وحمد ثناء كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]. وقال عزَّ وجلَّ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1]. والحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، وأفضل ما يثني به العبد على ربه ومولاه العليم الخبير. قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) [الفرقان: 58]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ «أوْ تَمْلأ» مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ» أخرجه مسلم (¬1). والله سبحانه محمود بذاته ولو لم يقم بحمده أحد من البشر، وهو المحمود في ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (223).

هذا الوجود الذي يسبح بحمده، ومحمود من شتى الخلائق، ولو شذ البشر عن حمده: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} [فصلت: 38]. وهو سبحانه الحميد، الذي له الكمال المطلق، والإحسان كله منه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب، وهو جل جلاله أهل أن يُّحمد، وأن يُعبد، وأن يُطاع، وأهل أن يُّحب لذاته وأسمائه وصفاته، وأفعاله وإحسانه. فلله عزَّ وجلَّ الحمد على مجده .. وله الحمد على عظمته وكبريائه .. وله الحمد على عزته وقدرته .. وله الحمد على غناه .. وجميل إحسانه .. وله الحمد على توليه المؤمنين بنصرته ورعايته لهم: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70]. فسبحان العزيز الحميد، الذي له القدرة التامة، والمشيءة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسع الأصوات كلها، والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات. وسبحان الملك الذي له الملك الأعلى الذي لا يخرج عنه ذرة من الذرات، وله الغنى التام المطلق من جميع الجهات، وله العزة الغالبة القاهرة لجميع المخلوقات. وسبحان الحكيم الذي له الحكمة البالغة المشهودة آثارها في جميع الكائنات، وله الكلمات التامات النافذات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات. ومن أعظم نعم الله علينا، وما استوجب حمده علينا، أن جعلنا عبيداً له خاصة، ولم يجعلنا عبيداً لإله باطل من حجر أوخشب، لا يسمع أصواتنا، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى. فهذا حمد الرب بأسمائه وصفاته: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ (36)} [الجاثية: 36]. وأما حمده سبحانه على النعم والآلاء، فإن آلاء الله ونعمه مشهودة للخلق كلهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه بهم. اتخذ لعباده داراً وملأها من جميع الخيرات، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، وفتح لهم أبواب الهداية، ويسر لهم كيفية الوصول إليها، وأماتهم على ذلك. وذلك كله يستوجب حمده وشكره على آلائه وإحسانه وإنعامه، فلله الحمد كله على ما أنعم به من غذاء الأبدان، وله الحمد على ما تفضل به من غذاء القلوب والأرواح، وله الحمد على ما أعطى، وعلى ما منع، وعلى ما قدم وأخر، وعلى ما قضى وقدر، وعلى ما شرع وأمر. وكمال حمده سبحانه يوجب ألا يُنسب إليه شر ولا سوء ولا نقص، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. والعبد إذا فعل الشر والسوء المنهي عنهما، فقد فعل الشر والسوء بإذن الله، ولله في ذلك حكمة بالغة يحمد عليها، وإن كان وقوعه من العبد عيباً وشراً، وهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه. فسبحان الحكيم الحميد الذي له الحمد في الأولى والآخرة: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السموات وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (478).

الحي

الحي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحي. قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} [آل عمران: 2]. وقال الله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65]. الله تبارك وتعالى هو الحي القيوم، الدائم الباقي، الذي لا يجوز عليه الموت، ولا الزوال ولا الفناء، الحي الذي لا يموت ولا يبيد، الذي لم يزل موجوداً، وبالحياة موصوفاً. وهو سبحانه الحي في ذاته، الذي لا يموت أبداً، لم تحدث له الحياة بعد الموت، ولا يعترضه الموت بعد الحياة. وهو سبحانه الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكل شيء هالك إلا وجهه، فلا أحد يستحق أن يؤلَّه ويعبد ويحب إلا الله الحي الباقي، الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا كان ما سواه هالكاً فعبادة الهالك الباطل باطلة: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} ... [القصص: 88]. وإذا كان ما سوى الله باطلاً هالكاً، والله هو الحي الباقي، الذي لا إله إلا هو، وله الحكم في الدنيا والآخرة، وإليه مرجع الخلائق كلهم، فيجازيهم بأعمالهم، تعين على العاقل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويحذر من سخطه وعقابه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} ... [الفرقان: 58]. والله عزَّ وجلَّ هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، يدبر الأمر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، وينصر ويخذل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].

وهو سبحانه الحي: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وفي كل لحظة يخلق الحي القيوم ما لا يحصى من الأحياء من نبات وحيوان وإنسان، ويتكفل بتدبيرهم، ويسوق إليهم أرزاقهم، وبيده بقاؤهم وفناؤهم، وفي كل لحظة يموت بأمر الله ما لا يحصى من الأحياء. والموت كالحياة سر لا يعلمه إلا الله، ولا يملك أحد أن يحدثه، لأن أحداً غير واهب الحياة لا يستطيع سلبها فسبحان الذي: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)} [الحديد: 2].

القيوم

القيوم ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القيوم .. والقائم. قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} ... [البقرة: 255]. وقال الله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)} [طه: 111]. وقال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} ... [آل عمران: 18]. الله تبارك وتعالى هو الحي القيوم، القائم الدائم الذي لا يزول، القائم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره، القائم على كل شيء بالرعاية له، القائم بتدبير الخلائق، المتولي جميع ما يجري في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وما يجري في الدنيا والآخرة، القائم بنفسه، القيوم لأهل السموات والأرض، القائم بقسمة أرزاقهم، وتصريف أحوالهم، وحشرهم وحسابهم. وهو سبحانه القيوم بنفسه، لا يحتاج في قيامه ودوامه إلى أحد، ولا قيام للخلائق كلها من كبير وصغير، وقوي وضعيف، إلا بإقامة الحي القيوم لهم، فجميع المخلوقات الله سبحانه القائم عليها، لأنها ليست قائمة بنفسها، بل هي محتاجة للحي القيوم الذي يخلقها ويحييها ويحفظها ويرزقها. ومن عرف ربه بذلك توكل عليه، وانقطع قلبه عن الخلق إليه. وهو سبحانه القيوم الذي قام بنفسه، فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام به غيره، فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد، والإمداد، والبقاء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

والله جل جلاله هو الحي القيوم، الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه. مالك السموات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. العالم بكل شيء، الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه. السميع لأصوات وأقوال وحركات الخلائق، الذي لكمال سمعه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. البصير بكل شيء، الذي لكمال بصره لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وهو سبحانه القائم على هذا الكون العظيم بكلياته وجزئياته في كل وقت، في السموات والأرض، في الدنيا والآخرة، القائم على كل نفس، يعلم أحوالها، ويسمع أقوالها، ويبصر أفعالها. فهل يليق بالعاقل أن يجعل لربه الحي القيوم شريكاً في الخلق والتدبير والعبودية .. ؟. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .. وماذا بعد النور إلا الظلام .. ؟: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} ... [الرعد: 33]. اللهم اهدنا فيمن هديت .. وعافنا فيمن عافيت .. وتولنا فيمن توليت .. وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت.

الواحد

الواحد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الواحد .. والأحد. قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]. وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16]. وقال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]. الله تبارك وتعالى هو الواحد، الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر، الأحد الذي لا شبيه له ولا نظير. وهو سبحانه الإله الواحد الأحد، الذي لا إله إلا هو وحده، لا شريك له في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. والله عزَّ وجلَّ هو الواحد الأحد، الذي توحد بجميع الكمالات، وأحسن الأسماء، وأعلى الصفات، الذي له وحده صفات الكمال والجلال، والجمال والكبرياء: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. والله جل جلاله هو الواحد الأحد، الذي يجب أن تصرف العبادة له وحده لا شريك له، فهي خالص حقه سبحانه، وهو المعبود بحق، وغيره يعبد بباطل، فالعبادة خالص حقه، فلا يجوز صرفها لغيره كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. وهو سبحانه الواحد الأحد، الذي لا شبيه له في ذاته وأسمائه وصفاته، وليس له من يشاركه في ذرة من ذرات ملكه العظيم، أو يخلفه في تدبير خلقه. وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في تجديد التوحيد والإيمان، لما في ذلك من دفع المسلم للخير والعمل الصالح، وذلك بالإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ في كل الأوقات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ،

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» متفق عليه (¬1). فما أجهل وما أضل من يعبد غير الله مما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر، ويترك عبادة الله الذي تفرد بالخلق والإيجاد، والرزق والإمداد، والتصريف والتدبير، والبسط والقبض، والخفض والرفع، والنفع والضر: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} ... [المائدة: 76]. حقا .. إن من عُرض عليه الحق فرده، عوقب بفساد قلبه وعقله، ورأيه وحياته، كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. فلينتظر العقوبة في الدنيا والآخرة كل كافر مشرك بالله كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، ومسلم برقم (2691) واللفظ له.

الصمد

الصّمد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الصمد. قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1، 2]. الله تبارك وتعالى هو الصمد .. السيد المطاع الذي لا يُقضى دونه أمر .. السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج .. الذي لا أحد فوقه .. السيد الذي يُصمد إليه في الأمور .. ويُقصد في الحوائج والنوازل .. السيد العظيم الدائم الباقي الذي لا يفنى .. الذي يلجأ إليه وحده عند الشدائد والحاجات. وهو سبحانه الصمد الذي تقدس وتنزه عن صفات الخلق، الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 3، 4]. وهو سبحانه الصمد العظيم، القادر على كل شيء، وليس في الوجود صمد سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد. وهو سبحانه الصمد الذي قد كمل في سؤدده .. العظيم الذي قد كمل في عظمته .. الحليم الذي قد كمل في حلمه .. الغني الذي قد كمل في غناه .. الجبار الذي قد كمل في جبروته .. العالم الذي قد كمل في علمه .. الحكيم الذي قد كمل في حكمته .. الصمد الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد. له سبحانه الأسماء الحسنى، والصفات العلا كما قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. والله عزَّ وجلَّ هو الصمد الباقي الدائم الذي لا يفنى ولا يزول، الأول بلا ابتداء، الدائم بلا انتهاء كما قال سبحانه عن نفسه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]. والأحد والصمد اسمان من أسماء الله عزَّ وجلَّ، يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال. فالأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع

صفات الكمال، لأنه الذي كمل في سؤدده. والله سبحانه هو المستحق أن يكون هو الصمد دون سواه؛ لأن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، وليس أحد يصمد إليه كل شيء، ولا يصمد هو إلى كل شيء، إلا الله تبارك وتعالى. وقد اشتملت سورة الإخلاص على اسمين من أسماء الله الحسنى (الأحد والصمد) وهما يتضمنان جميع صفات الكمال، ولم يوجدا في غيرها من السور ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. فيجب على العبد أن يعلم أن الله هو الأحد الصمد وحده لا شريك له، فلا يقصد بعبادته غيره، ولا يلجأ في حوائجه إلا إليه. فواعجباً من غفلة العباد عمن لا يغفل عن برهم والإحسان إليهم، كما قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} [الأنعام: 14]. وواعجباً من إعراضهم عن ربهم، وتعلقهم بعبادة ما سواه، كما قال سبحانه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64]. فواحسرتاه .. ماذا تفعل الشياطين ببني آدم، حتى اجتالتهم عن دينهم، وزينت لهم سوء أعمالهم: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} ... [البينة: 5].

القادر

القادر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القادر .. والقدير .. والمقتدر. قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65]. وقال الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40، 41]. وقال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55]. الله تبارك وتعالى هو القادر، الذي له القدرة التامة الشاملة الكاملة، الذي لا يعجزه شيء، ولا يفوته مطلوب، القادر على ما يشاء، وعلى ما يريد، لا يعترضه عجز ولا فتور، ولاجهل ونسيان. وهو سبحانه القدير التام القدرة، وبقدرته أوجد الكائنات، وخلق المخلوقات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. وهو سبحانه المقتدر التام القدرة، الذي لا يمتنع عليه شيء، القادر على كل شيء، المظهر قدرته بفعل كل شيء، فلا يعجزه شيء على الإطلاق: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]. والله جل جلاله هو الخالق، القادر على خلق كل شيء، خلق العرش والكرسي، وخلق السموات والأرض، وخلق الكواكب والنجوم، وخلق

الشمس والقمر، وخلق الملائكة والروح. وخلق سبحانه التراب والجبال، وخلق البحار والرياح، وخلق الماء والنار، وخلق النبات والحيوان، وخلق الإنس والجان، وخلق كل شيء فقدره تقديراً. وهذه المخلوقات العظيمة وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، ولا يمكن لأحد أن يعدها أو يحصيها أو يحيط بها، كلها دالة على كمال قدرة الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]. فسبحان العظيم كامل العظمة، القوي كامل القوة، القادر كامل القدرة الذي خلق السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وهو على كل شيء قدير. وكل ما خلقه الله فهو إ حسان إلى عباده، ولهذا كان الله مستحقاً للحمد على كل حال، وكل المخلوقات التي خلقها الله عزَّ وجلَّ هي من آلائه، والآلاء هي النعم. والنعم كلها من آياته الدالة على ذاته المقدسة ووحدانيته وكمال علمه وقدرته، وفيها منافع لعباده غير الاستدلال كما في خلق الشمس والقمر، والليل والنهار، والنبات والحيوان، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال. فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلائل على عظمة البارئ وقدرته كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وكل عبد يدعوه إلى عبادة الله داعيان: داعي الشكر .. وداعي العلم. فإنه يشهد نعم الله التي لا تحصى مبذولة لكل مخلوق، وذلك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المنعم المحسن، الذي كل ما بالعباد من نعمة فمنه وحده لا شريك له.

ويشهد كذلك كمال قدرة الله وعظمته، وجلاله وكبريائه. فينشأ من هذا التعظيم لله، ومن ذاك الشكر له، ومحبته، والذل له. وهذه هي العبودية التي أرادها الله من عباده، وخلقهم من أجلها كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ... [الذاريات: 56]. فوا عجباً كيف يعصى من هذا خلقه، وهذا إحسانه، وهذه قدرته؟. وكيف لا يشكر وهذا فضله وإنعامه وإحسانه لعموم عباده؟. وكيف لا يعبد ويطاع، وهو الكبير الذي بيده الملك، وله الكمال والجلال والجمال، وله الكبرياء في السموات والأرض؟. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67].

الأول

الأول ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الأول. قال الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد:3]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! أنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأغْنِنَا مِنَ الْفَقْر» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، السابق للمخلوقات كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا معه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ» أخرجه البخاري (¬2). والله عزَّ وجلَّ هو الأول، وكل نعمة في الكون فهو الذي ابتدأها، فبفضله ورحمته خلق الإنسان وهداه، ووفقه وأعانه، وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته. فهو سبحانه الأول في ذلك كله، كما أنه الأول في كل شيء. وعبوديته سبحانه باسمه الأول، تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب، والوقوف معها، والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه عزَّ وجلَّ هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد. فمنه سبحانه الإيجاد، والإعداد، والإمداد، والهداية، وفضله سابق على الوسائل والأسباب، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى. فهو سبحانه الأول قبل كل شيء، له المنة والفضل، وله العزة والكبرياء، وهو ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2713). (¬2) أخرجه البخاري برقم (3191).

أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، لا إله غيره، ولا رب سواه. فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، ووجه قلوبنا إليه سبحانه دون سواه، وعصمنا من عبادة العبيد، وحفظنا من السجود للأصنام والأوثان. والحمد لله الذي أسبغ علينا وافر النعم، ونسأله أن يتم علينا نعماً هو ابتدأها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منا، فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً. وسبحان الرحيم، الذي من أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن شكره وترك لأجله أعطاه فوق المزيد. فتوكل عليه وحده، وعامله وحده واقصر حبك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: 10 - 12].

الآخر

الآخر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الآخر. قال الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]. الله تبارك وتعالى هو الآخر، الذي لا انتهاء لوجوده، الباقي بعد فناء الخلق. وليس معنى الآخر ما له الانتهاء، كما ليس معنى الأول ما له الابتداء. فهو جل جلاله الأول والآخر، وليس لكونه ووجوده أول ولا آخر. وهو سبحانه الأول والآخر، وإليه يرجع الأمر كله، فهو سبحانه أول كل شيء وآخره، وله الأمر من قبل ومن بعد، وكما أنه رب كل شيء وفاعله، وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح إلا بعبادته. فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها ومحبتها. فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. وعبادة الله عزَّ وجلَّ باسمه الآخر تقتضي عدم ركون العبد إلى الأسباب، والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي، ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق بالمولى الكريم حقيق أن لا يشقى ولا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به. فهو سبحانه الأول الذي كان قبل الأسباب والمخلوقات كلها، وهو الآخر الذي يبقى بعد الأسباب والمخلوقات كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه كما قال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو

الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]. وهو سبحانه الآخر، الذي تنتهي إليه الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكمة، والرحمة والقدرة، وسائر صفات الكمال: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} [النجم: 42].

الظاهر

الظاهر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الظاهر. قال الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]. الله تبارك وتعالى هو الظاهر على كل شيء، العالي فوق كل شيء، الظاهر القادر الذي ظهر فوق كل شيء. وهو سبحانه الظاهر الذي ظهر بالدلائل الدالة عليه، وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته في الظاهر. وهو سبحانه الظاهر القوي، الذي ظهر وغلب وقهر جميع المخلوقات في العالم العلوي وفي العالم السفلي. وهو سبحانه الظاهر القادر، الذي ظهر فوق كل شيء، فلا يعلوه سبحانه شيء من مخلوقاته أبداً، فمع نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، لا يزال فوق العرش، لا يكون عزَّ وجلَّ تحت المخلوقات أبداً، ولا تكون المخلوقات والسموات محيطة به أبداً. فهو العلي الأعلى، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، المحيط بكل شيء، العلي في دنوه، القريب في علوه. فهو سبحانه ينزل ويجيء ويأتي، ولكن ينزل نزولاً لا يماثل نزول المخلوقين، نزولاً يختص به وحده لا شريك له، فليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. وعبودية الله عزَّ وجلَّ باسمه الظاهر تقتضي علم العبد بعلوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يسمع ويرى، ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض.

فإذا علم العبد ذلك توجه إليه وأقبل عليه، وأعرض عمن سواه، واجتمع قلبه عليه، وصار له رباً يقصده، ومعبوداً يصمد إليه في حوائجه. فإذا استقر ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه الظاهر، استقامت له عبوديته، وصار له موئلاً يلجأ إليه، وملاذاً يفر إليه. فيا سعادة من آثر رضاه وحده، وتوكل عليه وحده، واستغنى به عمن سواه، فأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3].

الباطن

الباطن ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الباطن. قال الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]. الله تبارك وتعالى هو الباطن، المحتجب عن أبصار الخلق، الذي لا يراه أحد في الدنيا، ولا تدركه الأبصار في الآخرة، ولا تحيط به سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]. فالمؤمنون في الآخرة وإن كانوا يرونه سبحانه إلا أنهم لا يدركونه ولا يحيطون به، لكمال عظمته وجلال كبريائه. فالخالق جل جلاله ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة، له العزة والعظمة، وله الجلال والكبرياء، وهو أعظم وأجل وأكبر من أن يحيط به أحد من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو المحيط بكل شيء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. أما الكفار فلا يرون الرب مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة عقوبة لهم كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15، 16]. وهو سبحانه العليم ببواطن الأمور وظواهرها، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره. يعلم السر وأخفى، ويستوي عنده من هو مستخف في قعر بيته في ظلام الليل، ومن هو سائر في طريقه في بياض النهار، يستوي عنده في العلم به هذا .. وهذا: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد: 10].

وعبادة الله عزَّ وجلَّ باسمه الباطن تستوجب معرفة العبد بإحاطة الرب جل جلاله بالعالم العلوي والسفلي، ومعرفته بعظمته وكبريائه، وأن الخلائق كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده أصغر من الخردلة في يد الإنسان، وأنه اللطيف الذي يعلم السر وأخفى. الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو أقرب إلى كل شيء من نفسه، وله قرب خاص من عابديه كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} ... [البقرة: 186]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتعالى جَدُّه» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم (¬2). وهذا القرب من لوازم المحبة .. فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر .. فتستولي محبة المحبوب على قلب العبد .. ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده .. فيرى الإله أقرب إليه من كل شيء مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء. فسبحان الذي يعلم السر وأخفى، وملأ قلوب من شاء بالإيمان والتقوى. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704). (¬2) أخرجه مسلم برقم (482).

البر

البر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البر. قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 26 - 28]. الله تبارك وتعالى هو البر، اللطيف بعباده، الذي عم ببره جميع خلقه، فلم يبخل عليهم برزقه وإحسانه. وهو سبحانه البر الرحيم بعباده، العطوف عليهم، المحسن إليهم، البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه. وهو سبحانه البر الرحيم الكريم، الذي عمّ جميع خلقه بعطائه، المحسن إليهم، المصلح لأحوالهم في الدنيا والدين. أما في الدنيا فبما قسم لهم من الأرزاق، وأعطاهم من الصحة والقوة، والمال والأولاد، والجاه والرياسة، ونحو ذلك من النعم التي لا يمكن إحصاؤها. ويشترك في هذا المؤمن والكافر، والبر والفاجر. وأما في الدين فبما منَّ الله به على المؤمنين من التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطاؤهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة. وهو سبحانه الذي هدى ووفق وأعان أولاً، وأثاب وأعطى آخراً. فمنه الإيجاد .. ومنه الإعداد .. ومنه الإمداد .. ومنه الهداية. فله الحمد في الأولى والآخرة. وهو سبحانه البر الرفيق بعباده، الذي يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فلا يكلفهم ما لا يطيقون، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ولا يجزيهم بالسيئة إلا واحدة. الذي طلب من العباد القليل من العمل، وأعطى لهم الجزيل من الأجر، وهو

الغني عن العباد وما يعملون. وهو سبحانه البر الرحيم، الذي يمهل المسيء من عباده، ويعطيه المهلة بعد المهلة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)} [الكهف: 58]. والله جل جلاله هو البر، الذي يحب البر، ويأمر به، ويحب من يتخلق به من عباده الأبرار. والبر اسم جامع للخيرات كلها، ولا ينال العبد بر الله تعالى إلا باتباع ما يفضي إلى بره ومرضاته ورحمته، وذلك بالاستقامة على عبادته وطاعته كما قال سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} [آل عمران: 92]. وهو سبحانه البر الذي أنعم على عموم عباده بعطائه، لأنه لا رازق غيره، وجميع الأرزاق ملكه. فأعطى الكفار من النعم التي يتمتعون بها قليلاً في الدنيا، ويعذبون عليها طويلاً في الآخرة، وهذه أعلى حالة تكون للكافر في الدنيا. فلا يغترُالمؤمن بهذا المتاع الذي ليس له ثبوت ولا بقاء كما قال سبحانه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196، 197]. أما المؤمنون بالله المتقون له، فلهم مع عز الدنيا ونعيمها، جنات في الآخرة تجري من تحتها الأنهار، نزلاً لعباده الأبرار، وهم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البر الرحيم من بره أجراً عظيماً، وعطاءً جسيماً، وفوزاً دائماً، وما يحصل لهم في الدنيا من الشدة والعناء، فهو بالنسبة إلى النعيم المقيم في الآخرة نزر يسير، ومنحة في صورة محنة، والله حكيم عليم. فلله ماذا ينتظر هؤلاء الأبرار من النعيم والبهجة والسرور؟:

{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 198]. وكتاب هؤلاء الأبرار في أعلى الأمكنة وأوسعها وأفسحها، وهم في أعلى الجنة، وكتابهم يشهده المقربون من الملائكة الكرام، والأنبياء والأبرار: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)} [المطففين: 18 - 21]. فما أكرم هذا الرب العظيم، الذي أنعم على عباده في الجنة بأعلى أنواع النعيم، نعيم القلب، ونعيم الروح، ونعيم البدن، ولقاهم نضرةً وسروراً، وبهجةً وحبوراً: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 22 - 26]. اللهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} [آل عمران: 193].

التواب

التواب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: التواب. قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104]. الله تبارك وتعالى هو التواب، الذي يتوب على من يشاء من عباده، ويقبل توبته، الذي كلما تكررت توبة العبد تكررمنه القبول، المعيد إلى عبده فضله ورحمته إذا هو رجع إلى طاعته، وندم على معصيته، الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب منهم إلى ما يرضيه عنه. وهو سبحانه التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين، التارك مجازاته بعد توبته بما سلف من ذنبه. وهو عزَّ وجلَّ التواب الرحيم، الذي يسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى، بما يظهر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تنبيهاته، وما يطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته، حتى إذا اطلعوا وعرفوا غوائل الذنوب، استشعروا الخوف بتخويفه، فرجعوا إلى التوبة، فرجع إليهم فضل الله التواب بالقبول. فالعبد تائب، والله تواب، وإذا تاب الله على العبد وفقه للتوبة، فتاب العبد، ثم قبل الله توبته، وغفر ذنبه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. وهو سبحانه التواب، الذي من رأفته ورحمته أن مَنَّ على من شاء من عباده بالتوبة، وحببها لهم، وقبلها منهم، وثبتهم عليها، وأثابهم عليها، وتاب عليهم قبل أن يتوبوا كما قال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ

عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 118]. وهو سبحانه التواب، الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، وسمى الله نفسه تواباً، لأنه خالق التوبة في قلوب عباده، الذي يسر لهم أسبابها، والراجع بهم من الطريق الذي يكره إلى الطريق الذي يرضى. ولما كانت المعاصي متكررة من العباد، جاء بصيغة المبالغة (توّاب) ليقابل الخطايا الكثيرة، والذنوب العظيمة، بالتوبة الواسعة الدائمة. ووصف تبارك وتعالى نفسه بالتواب مبالغة، لكثرة من يتوب عليه من العباد في مشارق الأرض ومغاربها، ولتكرره ذلك في الشخص الواحد، وتنوع الذنوب واختلافها: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} [النور: 10]. وهو سبحانه التواب، الذي تفرد بقبول توبة التائبين من عباده، لا يشركه في ذلك أحد من خلقه، ولا يغفر الذنوب والخطايا إلا هو، وليس لأحد غير الله قدرة على خلق التوبة في قلب أحد من الناس. وليس لأحد كذلك أن يقبل توبة من أسرف على نفسه، ولا أن يعفو عنه ذنوبه وآثامه، سوى الرب التواب وحده. وقد كفر إليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وجعلوا لمن أذنب من العباد أن يأتي الحبر أو الراهب فيعترف أمامه بالذنب، ويعطيه شيءاً من المال فيحط عنه ذنوبه. وهذا من ضلالاتهم الكثيرة التي أضلوا بها الناس، وأكلوا بها أموال الناس بالباطل دهوراً طويلة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. فما أعظم افتراء هؤلاء على ربهم، وما أشد ضلالهم عن الصراط المستقيم.

فلله كم لعب الشيطان بعقول هؤلاء فكذبوا؟، وبعقول أولئك فقبلوا؟، وكيف سفّه عقل الإنسان إلى هذه الدرجة؟. وكيف أضل هؤلاء وهؤلاء بمكره وكيده؟: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63]. ألا إن التوبة بيد الله وحده، ومغفرة الذنوب بيد الله وحده، فهو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. فكم تاب على التائبين؟ وكم غفر من ذنوب المستغفرين؟: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} ... [آل عمران: 135]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إنَّك أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه التواب الرحيم، الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة فلا يتوب عليه. وهو سبحانه التواب الحكيم، الذي لا يعاجل أهل المعاصي بالعقوبة، بل يمهلهم ليتوبوا إليه، ويرجعوا عن معاصيهم إليه، الحكيم الذي لا يفضح أهل الذنوب ابتداءً، بل يسترهم ليكون ذلك عوناً لهم على توبتهم، ولولا فضل الله ورحمته وحكمته لعاجل من عصاه بالعقوبة، وفضح أهل الذنوب بذنوبهم، ولكنه المولى الكريم، التواب الرحيم، ستر أهل الذنوب والمعاصي فضلاً منه ورحمة: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} [النور: 10]. فسبحانه من تواب ما أكرمه .. ومن كريم ما أجوده .. ومن عظيم ما أرحمه. والتوبة واجبة على كل عبد من جميع الذنوب، وهي ترك الذنب لقبحه، والندم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705).

على ما فرط منه، والعزم على ترك العود إليه، وتدارك ما فاته من الأعمال بالإعادة، ورد المظالم والحقوق لأهلها، وأفضل الناس أحسنهم قياماً بها، وتكرارها والإكثار منها، فإذا تخلى العبد عنها صار ظالماً لنفسه، فالناس رجلان، تائب وظالم لا ثالث لهما: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتوبة، وعلق بها الفلاح فقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. والتوبة لا يستغني عنها أحد من الخلق، لأنها ليست نقصاً، بل هي من الكمال الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به. فالله عزَّ وجلَّ يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه، ليحصل له بذلك تكميل العبودية والتضرع، والخشوع لله، والإنابة إليه، فلا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه ما يكره إلا بها، والله يحب التوابين كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وقد أخبر الله عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: فقال آدم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وقال نوح - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬1). ومحمد (أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة من ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2702).

قبل أن يقوم: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). فهو أفضل المحبين لله، وأفضل المتوكلين على الله، وأفضل العابدين له، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره، ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبهذه العبودية التامة نال الشفاعة الكبرى في الخلق يوم القيامة. فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، الذين هم أعرف الخلق بربهم، وأكملهم عبادة له، خاصة سيدهم وأشرفهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. فما أجهل الإنسان بربه .. وما أظلمه لنفسه .. وما أشد إعراضه عن مولاه .. مع تواتر إحسان ربه إليه على مدى الأنفاس. فسبحان التواب الرحيم، ذي الجود والإحسان، وذي العفو والصفح، الذي يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر سواه، الذي يتحبب إلى عباده بالنعم وهو الغني عنهم، ويتبغضون إليه بالمعاصي وهم أفقر شيء إليه. فسبحانه ما أعظمه .. وسبحانه ما أكرمه .. وسبحانه ما أحلمه. من تاب إليه تاب عليه، ومن تقرب إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من بعيد، ومن تصرف بحوله ألان له الحديد. يشكر سبحانه وتعالى اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق مؤاخذته، وعفوه سبق عقوبته، يحب توبة عبده، ويفرح بها أشد الفرح، ويدعوه إليها، ويعينه عليها، ويثيبه عليها: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1516) صحيح سنن أبي داود رقم (1342). وأخرجه الترمذي برقم (3434) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2731).

أضَلَّهُ بِأرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه (¬1). وهذه فرحة إحسان وبر ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، منتفع بها، وكذلك موالاته لعبده إحساناً إليه، ومحبة له، وبراً به، لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة، ولا ينتصر به من غلبة، ولا يستعين به في أمر، بل له سبحانه الملك وله الحمد، وله الخلق والأمر: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء: 111]. فاللهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.

العفو

العفو ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العفو. قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149]. وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} ... [الحج: 60]. الله تبارك وتعالى هو العفو الذي له العفو الشامل، الذي وسع عفوه الورى، ووسع ما يصدر عن عباده من الذنوب، لا سيما إذا أتوا بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة. فهو سبحانه العفو: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25]. وهو سبحانه العفو الغفور، الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، الواضع عن عباده تبعة خطاياهم وآثامهم، فلا يستوفيها منهم إذا تابوا وأنابوا. والله عزَّ وجلَّ عفو كريم يحب العفو، ويحب من عباده أن يسعوا في فعل الأسباب التي ينالون بها عفوه، من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه. ومن كمال عفوه سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه، ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جرمه كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. وهو سبحانه الحليم، الذي لولا كمال عفوه، وسعة حلمه، ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب ولا نفس تطرف: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل: 61].

والله عزَّ وجلَّ هو العفو الغفور، الذي كما أنه يحب العفو ويعفو ويغفر لعباده، فقد حثهم على العفو والصفح عن العباد، وقبول الأعذار من سائر الناس، والجزاء من جنس العمل، فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن لله أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، ومن غفر غفر الله له كما قال سبحانه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22]. وهو سبحانه العفو القدير، الذي لم يزل ولا يزال ينعم على جميع الخلق، ويعفو عن المذنبين والمجرمين، مع قدرته على عقابهم والانتقام منهم. فسبحان المولى الكريم الذي يعفو عن زلات العباد، وذنوبهم العظيمة، ويسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام، الصادر عن قدرته، وقد تكفل الله بأجر من عفا عن غيره من الناس، فيعطيه أجراً عظيماً، ويجزيه ثواباً جزيلاً: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} ... [الشورى: 40]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم (¬1). وهو سبحانه العفو، الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه، فإن الغفران ينبي عن الستر، والعفو ينبي عن المحو، والمحو أبلغ من الستر: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} ... [التغابن: 14]. اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2588).

الرؤوف

الرؤوف ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرؤوف. قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة: 207]. الله تبارك وتعالى هو الرؤوف الرحيم، ذو الرأفة والرحمة، والرأفة شدة الرحمة وأبلغها وأرقها، فهو العاطف برأفته على عباده، ورأفته عامة لجميع الخلق في الدنيا، خاصة بالمؤمنين في الآخرة. فهو سبحانه الرؤوف بعباده، المتساهل على عباده، الميسر أحوالهم، القاضي حاجاتهم، الذي يقبل منهم القليل من العمل، ويعطيهم الجزيل من الأجر كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. ومن رأفته سبحانه أن لا يضيع لعباده طاعة أطاعوه بها، فلا يثيبهم عليها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143]. وهو سبحانه الرؤوف الرحيم، الذي حذرنا نفسه، وخوفنا من عقوبته، ونهانا عن معصيته، لنستعد للقائه، ونجتنب سخطه، ونعمل بما يرضيه. ومن أجل ذلك أرسل الله رسله، وأنزل كتبه التي تبين شرعه، ليخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)} [الحديد: 9]. ومن رأفته سبحانه أن سخر لعباده ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليهم نعمه الوافرة السابغة كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. ومن رأفته سبحانه بعباده، أنه يقبل توبة التائبين، ولا يرد عن بابه العاصين المنيبين مهما كثرت سيئاتهم، فوفقهم للتوبة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. والأنبياء والرسل أرأف الناس بالخلق، خاصة سيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، والذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكمن إثماً، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله عزَّ وجلَّ. فما أحسن خَلقه وخُلُقه، وما أرحمه وأرأفه بأمته، وما أحسن الاقتداء به، وما أكرم الباري الذي أرسله رحمة لأمته: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

الغني

الغني ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغني. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وقال الله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133]. الله تبارك وتعالى هو الغني، الذي استغنى عن الخلق كلهم بقدرته وعز سلطانه، الكامل سبحانه بما له وعنده، فلا يحتاج معه إلى غيره، الذي لا حاجة له إلى أحد أصلاً، والخلق كلهم فقراء إليه، وإلى فضله وإحسانه. وهو سبحانه الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه، لكماله سبحانه، وكمال أسمائه وصفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه. والله عزَّ وجلَّ هو الغني، الذي له خزائن السموات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة، وعنده خزائن كل شيء، وله كل شيء، وبيده كل شيء: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} ... [الحجر: 21]. وهو سبحانه الغني، المغني جميع الخلائق غنىً عاماً، فكما أنه لا خالق غيره، فلا رازق غيره، فالله وحده هو الذي يرزق الخلق، وهو الذي أنعم عليهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. وهو سبحانه الغني الذي أغنى جميع الخلق غنىً مطلقاً، المغني لخواص خلقه بما أفاض على قلوبهم من الإيمان، ومعرفة جلاله وجماله وآلائه. وهو سبحانه الغني بذاته، والعبد فقير لذاته، وهو محتاج إلى ربه، لا غنى له عنه ولو طرفة عين، وحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما

أن غنى الرب سبحانه لذاته، لا لأمر أوجب غناه، والفقير بذاته محتاج على الدوام إلى الغني بذاته كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وفقر العالم كله إلى الله سبحانه وتعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير إلى ربه في إيجاده .. وفي بقائه .. وفي حياته .. وفي إمداده .. وفي تدبيره. فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته، ويستحيل أن يكون العبد إلا فقيراً، كما يستحيل أن يكون الرب إلا غنياً، فإن غناه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى. وفقر العباد إلى ربهم نوعان: الأول: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى خالقها، فهي مفتقرة إلى ربها في خلقها وبقائها وحفظها ونفعها وضرها ورزقها وتدبيرها. الثاني: فقر إلى ألوهيته سبحانه، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، ولبه دوام الافتقار إلى الله في كل حال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. والله عزَّ وجلَّ غني عن عباده، ومع ذلك فهو محسن إليهم، رحيم بهم مع كثرة معاصيهم، وهذا من كمال غناه وكرمه ورحمته، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، بل رحمة منه وإحساناً إليه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} ... [الذاريات: 56 - 58]. ومن قصد إلى الله تعالى، ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله، ابتلاه الله سبحانه بالحاجة إلى الخلق، ثم ينزع الرحمة من قلوبهم عليه. ومن شهد كل افتقاره إلى الله عزَّ وجلَّ، ورجع إليه بحسن العرفان أغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، وأعطاه من حيث لا يرتقب كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} ... [الطلاق: 2، 3].

الهادي

الهادي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الهادي. قال الله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 54]. وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. الله تبارك وتعالى هو الهادي، الذي هدى خلقه إلى معرفته، وهدى عباده إلى صراطه المستقيم، الذي منَّ بهداه على من أراد من عباده، فخصه بهدايته، وأكرمه بنور التوحيد والإيمان واليقين. وهو سبحانه الهادي الذي بهدايته اهتدى أهل ولايته، الدال على سبيل النجاة، المبين لها، لئلا يزيغ العبد ويضل، فيقع فيما يرديه ويهلكه. وهو سبحانه الهادي الذي يهدي عباده إلى جميع المنافع، ويرشدهم إلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون. وهو سبحانه الهادي لعباده .. المبين لهم طريق الحق والإيمان .. بما أرسل من الرسل .. وما أنزل من الكتب .. وما نصب من الدلائل في السموات والأرض. والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكيم العليم بمن يصلح للهدى ومن لا يصلح، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً. فجميع العباد يتقلبون في مشيءته بين فضله وعدله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178]. فالله تبارك وتعالى هو الهادي إلى كل خير في الدنيا والآخرة. والهداية تنقسم إلى مرتبتين: الأولى: هداية التوفيق والإلهام، وهذه بيد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ

بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. الثانية: هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وهي التي أكرم الله بها الرسل وأتباعهم كما قال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52، 53]. فمن هداه الله عزَّ وجلَّ للإيمان فبفضله وله الحمد كما قال سبحانه عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]. ومن أضله الله فبعداً له، فقد أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، ومكنه من أسباب الهداية بما أكرمه به من السمع والبصر والعقل، ولكنه لا يصلح للهداية، فلم يقبل الهدى، فكذب وتولى كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزمر: 3]. وزاغ وانصرف كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. واختار الضلال كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. والله حكيم عليم يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو بعباده خبير بمن يصلح للكرامة، ومن يصلح للإهانة، وهو على كل شيء قدير: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} [النحل: 93]. وهو سبحانه الهادي الذي جعل كتبه المنزلة هداية للناس كما قال سبحانه عن القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وهو سبحانه الذي أرسل رسله لهداية الناس إلى الحق كما قال سبحانه: {هُوَ

الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9]. وجعل بيته العتيق مباركاً وهدىً للعالمين إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]. والهداية أكبر نعمة ينعم بها الهادي سبحانه على عبده، وكل نعمة دونها فهي ناقصة زائلة، وبقدر هداية العبد تكون سعادته في الدنيا والآخرة. والأنبياء والرسل، وهم أكمل الناس هدايةً وإيماناً، يسألون الله تعالى أن يهديهم إلى كمال الإيمان والتقوى، كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} [القصص: 22]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» أخرجه مسلم (¬1). وأمرت هذه الأمة أن تسأل ربها تبارك وتعالى الهداية في كل ركعة من صلاتها في قوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. وهو سبحانه الهادي الذي يهدي إلى الحق، ويهدي إليه من أناب، ويهدي من يريد، ويهدي من يشاء، وهدى الله هو الهدى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، الذي خلق جميع المخلوقات، وهداها إلى جلب مصالحها، ودفع مضارها كما قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (770).

فهو سبحانه الهادي الذي هدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله .. وهدى الفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه .. وهدى النحل إلى بناء بيوتها بما يناسب حالها .. وهدى النبات أن يشق في الأرض عروقاً .. وفوق الأرض أغصاناً وأوراقاً .. وأزهاراً وثماراً. وهدى الشمس والقمر والنجوم للسير والإنارة .. وهدى الملائكة للطاعة والتسبيح .. وهدى الحيوانات والطيور إلى مصالحها ومنافعها .. وهدي الإنسان إلى ما يسعده في دنياه وأخراه. فسبحان الخلاق العليم: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50].

النور

النور ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: النور. قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. وقال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)} [الزمر: 69]. الله تبارك وتعالى هو النور الذي نوَّر قلوب العارفين بمعرفته، والإيمان به، ونور أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض، فهو النور، وحجابه النور، وكلامه نور. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أنَّى أرَاهُ» أخرجه مسلم (¬1). وهو سبحانه النور، الذي يهتدي بنوره من في السموات ومن في الأرض، الذي بنوره يبصر ذو العماية، وبهدايته يرشد ذو الغواية، نور السموات والأرض من نور وجهه. وهو سبحانه النور، الذي تشرق الأرض بنوره يوم القيامة، وليس من نور في السموات والأرض إلا وهو خلق من خلق الله. فهو سبحانه النور، وهو خالق النور في السموات والأرض والشمس والقمر والكواكب وغيرها. فكل مخلوق في الكون من خلقه .. وكل رزق في الكون من رزقه .. وكل علم في الكون من علمه .. وكل رحمة في الكون من رحمته .. وكل نور في الكون ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (178).

من نوره. وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه نوراً فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]. وسمى رسوله - صلى الله عليه وسلم - نوراً فقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15]. وسمى الهداية للإيمان نوراً فقال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} ... [الأنعام: 122]. فسبحان النور الذي خلق النور، وهدى إلى النور، واحتجب عن خلقه بالنور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِه» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (179).

البديع

البديع ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البديع. قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]. وقال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} ... [الأنعام: 101]. الله تبارك وتعالى هو البديع .. الذي لا مثل له ولا شبيه .. الأول قبل كل شيء .. الذي بدع الخلق وبدأه وفطره على غير مثال سابق .. المنفرد بخلق السموات والأرض وما فيهن. وهو سبحانه البديع الذي أوجد المخلوقات كلها على غير مثال سابق، فهو خالق كل شيء ومبدعه في غاية ما يكون من الحسن والجمال والخلق البديع، الذي لم يسبقه إلى إنشاء مثله أحد. وهو سبحانه بديع السموات والأرض، وكل ما فيهما الله خالقه وموجده ومبدعه، وهو مالكه وقاهره، وهو عبد له خاضع له، وهو الغني عن خلقه جميعاً، وهم جميعاً مفتقرون إليه. فهل يليق بجلال الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو الغني عن جميع الخلائق، أن يتخذ ولداً كما قاله إليهود والنصارى والمشركون؟. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 116، 117]. فسبحان الغني الذي خلق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، ولا يعجزه شيء: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117].

الفاطر

الفاطر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الفاطر. قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} ... [الأنعام: 14]. وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} ... [فاطر: 1]. الله تبارك وتعالى هو الفاطر، الذي ابتدأ خلق المخلوقات كلها، وفطر السموات والأرض وسائر الخلق على ما أراد. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظم ربه بهذا الاسم، ويدعوه به امتثالاً لأمر ربه كما قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)} ... [الزمر: 46]. وكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته في الليل بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم» أخرجه مسلم (¬1). وأحياناً بهذا الدعاء: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه مسلم (¬2). وهو سبحانه الذي فطر عباده على التوحيد والإيمان، ووضع في عقولهم حسن الدين، واستقباح غيره. فجميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق، وإيثار الحق، والعمل بالحق وهذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (770). (¬2) أخرجه مسلم برقم (771).

حقيقة الفطرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. ولكن الشياطين، وسلطان الشهوات، تحوم على قلوب بني آدم لتضلهم وتصرفهم عما يسعدهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59 - 60]. وقال الله تعالى عن الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17]. وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865).

المحيط

المحيط ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المحيط. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)} [النساء: 126]. وقال الله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} [فصلت: 54]. الله تبارك وتعالى هو المحيط، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحاطت قدرته بجميع خلقه في العالم العلوي، وفي العالم السفلي. وهو سبحانه المحيط بالأشياء كلها، وهي تحت قدرته، فلا يمكن لشيء منها الخروج عن إرادته فيه، ولا يمتنع عليه منها شيء، ولا يقدر أحد من الخلق على الفرار منه، لكمال علمه وقدرته، وانتفاء الغفلة والعجز عنه، وشمول إحاطته بخلقه. وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن. فالجميع ملكه وعبيده، وهو المالك المنفرد بتدبيرهم، الذي أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته في جميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، ودانت له جميع المخلوقات كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

القريب

القريب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القريب. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50]. الله تبارك وتعالى هو القريب، الذي يسمع دعاء عباده، ويجيب دعوة الداعي منهم، القريب من كل متكلم، الذي يسمع كل ما ينطق به، ويعلم ما في قلبه قبل أن ينطق به لسانه، وهو أقرب إلى كل إنسان من نفسه. وهو سبحانه القريب اللطيف، الذي يرى ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء. وقرب الله عزَّ وجلَّ نوعان: الأول: قرب عام من كل أحد بعلمه ومراقبته، ومشاهدته له، وإحاطته به، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]. الثاني: قرب خاص من عابديه وسائليه ومحبيه، ومن آثاره لطفه بعبده، وعنايته به، وتوفيقه له، وإجابة دعوته كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} ... [البقرة: 186]. وهو سبحانه القريب المجيب إجابة عامة للداعين من كانوا، وأينما كانوا، وعلى أي حال كانوا، كما وعدهم بذلك. وهو سبحانه القريب المجيب لمن أخلص له العبادة، ورغب إليه في التوبة، المجيب إجابة خاصة لمن آمن به وانقاد لشرعه.

وهو سبحانه المجيب للمضطرين، ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين، وقوي تعلقهم به طمعاً ورجاءً وخوفاً. والله عزَّ وجلَّ مستو على عرشه، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا إكراماً لأهل طاعته كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه مع العباد، يعلم أحوالهم، ويسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ولا يخفى عليه شيء منهم كما قال سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]. وهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ، فِي الْمَالِ وَالأهْلِ». وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» أخرجه مسلم (¬2). وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال لهم: «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ» متفق عليه (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شيئاً، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» متفق عليه (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1342). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2687) واللفظ له.

المستعان

المستعان ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المستعان. قال الله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 18]. وقال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء: 112]. الله تبارك وتعالى هو المستعان، الغني عن الظهير والمعين، والشريك والوزير، فلا يحتاج إلى أحد. وهو سبحانه المستعان .. الذي لا يطلب العون من أحد .. بل كل عبد يطلب منه العون على فعل الطاعات .. واجتناب المحرمات .. وجلب المنافع .. ودفع المضار. وهو سبحانه الغني المستعان، والخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه. وهو الملك القادر على كل شيء، الذي ليس له شريك في الملك، ولا في الخلق، ولا في الأمر، ولا في الأسماء، ولا في الصفات. وهو سبحانه الحي القيوم المستعان، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل الخلائق كلها بحاجة إلى الاستعانة به، بل لا قيام ولا حياة ولا وجود لهم إلا به، وبقدرته وقوته وإعانته وحده لا شريك له. والاستعانة بالله تقوم على أصلين: الثقة بالله .. والاعتماد عليه. فقد يثق الإنسان بغيره، ولا يعتمد عليه في أموره، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه. والله وحده هو الذي بيده كل شيء، والمستعان في كل شيء، والعبد ليس بيده شيء، وهو محتاج إلى عون ربه في كل شيء كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} ... [هود: 123]. والمستعان هو الله عزَّ وجلَّ. فأهل الطاعة يستعينون به على فعل الطاعات، وترك المعاصي، كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. والاستعانة: طلب العون من الله على الطاعة. أما أهل المعاصي، فحين ترك العاصي سؤال العون من الله على طاعته، أعانه على معصيته، فتوجه إليها بعونه عليها، وحرمه سبحانه العون على الطاعة، فلم يتوجه إليها كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. فالعباد كلهم مصرفون في طاعاتهم ومعاصيهم بقدرة الله وعونه .. إما بجنود الملائكة الهادية .. أو بجنود الشياطين المضلة .. فلا طاعة ولا معصية إلا بعون الله، وهو فعله على الإطلاق في الخير والشر، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وعونه. لا إله، إلا هو وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. اللهم أعنَّا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.

المجيب

المجيب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المجيب. قال الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} [هود: 61]. وقال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]. الله تبارك وتعالى هو القريب ممن دعاه، دعاء مسألة أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤاله، وقبول عبادته، ويثيبه عليها أجل الثواب وأعظمه. وهذا قرب خاص من عابديه المؤمنين به، وهو يقتضي لطفه بأوليائه، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن باسمه القريب اسمه المجيب. فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع منه مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام وضعف اليقين ونحوهما، فإن الله قد وعده بالإجابة، خاصة إذا جاء بأسباب الإجابة، وهي الاستجابة لله تعالى، والإيمان به الموجب للاستجابة كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. فالله سميع قريب مجيب، يسمع دعاء الخلق، ويجيب دعاءهم. وهل يجيب المضطر الذي أقلقته الكروب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟. وهل يكشف السوء والشر والبلاء إلا الله وحده؟.

فسبحان العزيز الكريم الذي يجعل عباده خلفاء الأرض، ويمكنهم منها، ويمدهم بالأرزاق، ويوصل إليهم النعم، ويجيب دعاءهم، ويقضي حاجاتهم، ويجعلهم خلفاء من قبلهم، ثم يميتهم ويأتي بقوم بعدهم. أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟ هيهات .. سبحان الله وتعالى عما يشركون.

الناصر

الناصر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الناصر .. والنصير. قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} [آل عمران: 150]. وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. الله تبارك وتعالى هو الناصر، الذي ينصر رسله وأنبياءه وأتباعهم على أعدائهم، ويثبت أقدامهم عند لقاء عدوهم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم. وهو سبحانه النصير، الذي ينصر أولياءه، الذي لا يخذل وليه، ولا يسلمه لأعدائه. وهو عزَّ وجلَّ الناصر والنصير لعباده المؤمنين، الذي ينصر من يشاء، في أي وقت شاء، والنصر منه وحده، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} ... [آل عمران: 160]. فهو سبحانه الناصر لأهل الإيمان، فلو اجتمع عليهم أهل الأرض جميعاً وما عندهم من العُدد والعَدد نصر الله المؤمنين عليهم، لأن الله لا غالب له، فهو الذي قهر الخلائق وأخذ بنواصيهم، وإذا أراد أن يخذل أحداً خذله ولو أعانه جميع الخلق. فعلى المؤمن حقاً الاستنصار بالله، والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، والتوكل على الله وحده، الذي يملك النصر وحده. وقد نصر الله أنبياءه ورسله والمؤمنين في مواطن كثيرة، وخذل أعداءهم، وأعز الله المؤمنين، وخذل الكافرين.

وقد تكفل الله سبحانه بنصر أوليائه على أعدائه في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51، 52]. وقد أوجب الله سبحانه على نفسه نصر المؤمنين على أعدائهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. أما نصرة المؤمنين لربهم، فتكون بعبادته، والقيام بحقوقه، ورعاية عهوده، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والعمل بشرعه، والدعوة إليه، فإذا تم هذا جاء نصر الله لعباده المؤمنين كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. فهذه علامات من يستحق النصر، والتمكين، والاستخلاف. وحقيقة النصر: المعونة بطريق التولي والمحبة، خص الله به الملائكة والرسل والمؤمنين لا غير. والمعونة على الشر لا تسمى نصراً .. ولذلك لا يقال للكافر إذا ظفر بالمؤمن أنه منصور عليه .. بل يقال هو مسلط عليه عقوبة له .. أو تربية له كما قال سبحانه عن الكفار: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 90]. والله عزَّ وجلَّ قادر على نصرة دينه، فهو الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وهو القوي القادر على كل شيء، ولكنه ابتلى ويبتلي عباده بذلك التسليط، ليظهر من ينصر دينه وشرعه ممن يتولى عن نصرته كما قال سبحانه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} [محمد: 4]. وقد بين الله لعباده أنه لا ناصر لهم دونه، ولا معين لهم سواه، وذلك لتتوجه قلوبهم له، وأكفهم بالضراعة إليه، فهو الملك البر الرحيم، الذي يملك الخلائق

كلها، ويتصرف فيها كيف يشاء ويجري عليهم أحكامه القدرية والشرعية والجزائية، وهو مولى المؤمنين وناصرهم، فليتوجهوا إليه وحده في جميع حوائجهم، فهو نعم المولى ونعم النصير: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 107]. اللهم: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} ... [البقرة: 286]. اللهم يا قوي يا عزيز .. يا خير الناصرين .. انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين. اللهم انصر من نصر الدين .. واخذل من خذل الدين من الطغاة والمفسدين.

الوارث

الوارث ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوارث. قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)} [الحجر: 23]. وقال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} ... [القصص: 58]. الله تبارك وتعالى هو الوارث الباقي بعد فناء الخلق، الذي يسترد أملاكهم وأموالهم بعد موتهم، وجميع الأشياء والأموال الله مالكها، وهو الذي يتصرف فيها، يورثها من يشاء، ويستخلف فيها من يريد: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 128]. وهو سبحانه وارث الأرض ومن عليها، وهو وارث الخلق أجمعين، لأنه الباقي بعدهم، وهم الفانون كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)} [مريم: 40]. وهو سبحانه الوارث الباقي بعد فناء الخلائق، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع، الباقي الذي لا يزول، وله ميراث السموات والأرض، وإذا مات جميع الخلق، وزال عنهم ملكهم، كان الله تعالى هو الباقي الحق، المالك لكل مالك وما يملك، وعاد الملك لله الواحد القهار: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)} [آل عمران: 180]. وقد وعد الله عباده المتقين أن يورثهم الجنة، التي فيها من الرحمة والإحسان، والحسن والجمال ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهي دار إقامة لا ظعن فيها. فما أوسع تلك الجنة، وما أحلى ثمارها، وما أجمل قصورها، وما أحسن حورها، وما أعذب أنهارها، وما أطيب طعامها، وما أهنأ عيشها، وما أدوم نعيمها: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].

الغالب

الغالب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغالب. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} [يوسف: 21]. وقال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21]. الله تبارك وتعالى هو الغالب، البالغ مراده من خلقه، الذي لا يُغلب ولا يُقهر، لكمال قدرته وعظمته، الغالب على أمره، الذي يفعل ما يشاء، الذي لا يغلبه شيء، ولا يرد حكمه راد، وأمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب. وهو سبحانه الغالب القاهر القادر أبداً، الذي لا يملك أحد أن يرد ما قضى، أو يمنع ما أمضى، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} ... [الأعراف: 54]. وهو سبحانه الغالب على الإطلاق، فمن آمن به وتمسك بدينه وتوكل عليه فهو الغالب ولو أن جميع من في الأرض له طالب: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} ... [المجادلة: 21].

الكافي

الكافي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكافي. قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)} ... [الزمر: 36]. وقال الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} ... [البقرة: 137]. الله تبارك وتعالى هو الكافي عباده جميع ما يحتاجون إليه، الذي يكفي عباده المهم، ويدفع عنهم الملم، المطلع على كل شيء، الذي لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات والأرض: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)} ... [النساء: 171]. وهو سبحانه الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه كما قال سبحانه: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25]. وهو سبحانه الكافي عباده، لأنه هو رازقهم وحافظهم ومصلحهم، الذي يكتفي بمعونته عن غيره، ويستغني به عمن سواه، فهو الكافي عباده كل ما يحتاجون إليه، فيجب ألا تكون العبادة إلا له، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرجاء إلا له، ولا الخوف إلا منه، ولا المحبة إلا له. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك .. وبطاعتك عن معصيتك .. وبفضلك عمن سواك. اللهم اكفنا شر الأشرار .. وكيد الفجار .. وشر طوارق الليل والنهار.

ذو الجلال والإكرام

ذو الجلال والإكرام ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الجلال والإكرام. قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]. وقال الله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. الله تبارك وتعالى ذو الجلال والإكرام، المستحق لأن يهاب لعظمة سلطانه، ويثنى عليه بما يليق بعلو شأنه. وهو سبحانه ذو الجلال والإكرام، الذي يستحق أن يُجل ويُكرم ويُعظم، فلا يجحد ولا يكفر ولا يعصى، الذي له الإكرام كله من جميع خلقه، الذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له، ولا كرامة ولا إكرام ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه سبحانه. فهو سبحانه ذو الجلال والعظمة والكبرياء، وذو الرحمة والجود والإحسان، المكرم لأولياءه الذين يجلونه ويعظمونه ويحبونه. وإكرام الله للعبد يكون معجلاً في الدنيا .. ومؤجلاً في الآخرة .. ويكون عموماً في الخليقة .. وخصوصاً لأوليائه المتقين كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} ... [الإسراء: 70]. فقد أكرم الله جميع بني آدم بوجوه الإكرام: فكرمهم بالعلم والعقل .. والسمع والبصر .. وإرسال الرسل .. وإنزال الكتب .. وجعل منهم الأولياء والأتقياء .. وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة .. وحملهم في البر والبحر بما سخر لهم .. ورزقهم من الطيبات .. والنعم السابغات .. وفضلهم بما خصهم به من المناقب التي ليست لغيرهم من المخلوقات، وهذا من كرمه عليهم .. وإحسانه إليهم في الدنيا وفي الآخرة.

فأي إكرام فوق هذا؟ .. وأي عناية بالإنسان أكثر من هذا؟. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} ... [البقرة: 243]. أفيليق بمن هذه عظمته، وهذا جلاله، وهذا ملكه، وهذا إكرامه أن يكفر به، ويعصى أمره، ويجحد فضله، ويعبد غيره؟. أفلا يقوم الناس بشكر من أولى النعم، ودفع النقم، وتعظيم من له الكبرياء في السموات والأرض؟. ألا ما أجهل الإنسان الذي يشتغل بالنعم عن عبادة المنعم، بل ربما استعان بها على معصية ربه، وربما حارب بها دينه وأولياءه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على الدعاء بهذين الاسمين، وكان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ثم قال: «اللَّهُمَّ! أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (592).

ذو العرش

ذو العرش ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو العرش. قال الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر: 15]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} ... [البروج: 14: 15]. الله تبارك وتعالى هو الخالق العظيم، الذي خلق المخلوقات كلها، ذو العرش المجيد، وقد أضاف العرش إلى نفسه كما تضاف إليه الأشياء العظيمة الشريفة. وهذا يدل على عظمة العرش، وقربه منه سبحانه، واختصاصه به، وسعته وحسنه، وبهاء منظره. فالعرش أوسع المخلوقات كلها، وأعظمها وأكبرها وأحسنها، وأجمعه لصفات الحسن والجمال والعظمة، ولا يقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله سبحانه. وقد وصف الله العرش بأنه عظيم، وكريم، ومجيد، ومجده وكرمه وعظمته مستفاد من مجد خالقه وكرمه وعظمته سبحانه. وإذا كانت هذه صفات العرش المخلوق. فكم تكون عظمة الخالق الذي خلقه؟ .. والرحمن الذي استوى عليه؟ .. والكبير الذي السموات والأرض في يده أصغر من الخردلة؟. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]

ذو المعارج

ذو المعارج ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو المعارج. قال الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)} ... [المعارج: 1 - 3]. الله تبارك وتعالى ذو المعارج، ذو العلو والدرجات، ذو الفواضل والنعم. وهو سبحانه الرب العظيم، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ذو المعارج، الذي تعرج إليه الملائكة والروح، وتصعد إليه الأقوال والأعمال الصالحة الطيبة كما قال سبحانه: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 1 - 4]. فالملائكة تعرج إليه بما دبرها من الأوامر والأعمال، وتعرج إليه الأرواح كلها برها وفاجرها، وهذا عند الوفاة. فأما الأبرار فتعرج أرواحهم إلى الله، فتحيي ربها، وتسلم عليه، وتحظى بقربه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام. وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها، فتعاد إلى الأرض. فسبحان الملك العظيم الجبار، الذي استوى على العرش، وله ملك السموات والأرض، والذي يعرج إليه ما لا يحصيه إلا الله من الملائكة، والأرواح، والأقوال، والأعمال، على مر الدهور والأزمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ

يُصَلُّونَ» متفق عليه (¬1). ألا ما أعظم قدرة الله .. وما أعظم جلاله وكبرياءه .. وما أوسع رحمته وعلمه وملكه. وبؤساً لأقوام جهلوا عظمته فعصوه، ولم يقدروه حق قدره، فاستهانوا بأوامره، واستعملوا نعمه في معصيته. وسبحان الحليم الذي أمهلهم، وآذوه فصبر عليهم، وعصوه وهو يعافيهم ويرزقهم. وسبحان العظيم في ملكه .. القوي في سلطانه .. الكريم في إحسانه .. الذي أحاط بكل شئ علماً .. وأحصى كل شئ عدداً .. ولا تخفى عليه ذرة في الأرض ولا في السماء. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555) واللفظ له، ومسلم برقم (632).

ذو الطول

ذو الطول ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الطول. قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 3]. الله تبارك وتعالى ذو الطول والفضل والإنعام على خلقه، الكثير الخير، الذي له خزائن السموات والأرض، الذي يملك خزائن كل شيء كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وهو سبحانه الكريم، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يستطيعون أن يحصوها، فضلاً عن أن يشكروها. ولكن الله عفو كريم، ينعم بالجزيل من الأرزاق، ويعفو عن الكثير من السيئات: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} ... [النحل: 18]. أياديه بالإنعام والإحسان إلى عباده مبسوطة .. يعطي من يطيعه ومن يعصيه .. وينعم بجزيل النعم .. ويدفع شر النقم .. نعمه لا تحصى .. وبره لا ينسى .. ذو الطول والإنعام .. والبر والإحسان. فسبحانه من إله ما أعظمه .. وسبحانه من رب ما أكرمه .. فجميع النعم والعطايا، وأصناف البر والإحسان، منه وحده لا شريك له: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

ذو الفضل

ذو الفضل ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الفضل. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} ... [البقرة: 105]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} ... [البقرة: 243]. الله تبارك وتعالى هو الغني، الذي له ما في السموات وما في الأرض، ذو الفضل العظيم، والإحسان العميم، أعطى خلقه من النعم ما لا يلزمه، وتفضل عليهم بما لا يجب عليه، لأنه جواد كريم. فسبحانه من رؤوف رحيم كريم، تفضل على جميع خلقه بنعمه، وتفضل على المؤمنين بدار كرامته: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)} [النمل: 73]. وهو سبحانه ذو الطول والفضل والإحسان، يعطي من يشاء ما يشاء، في أي مكان شاء، وفي أي زمان شاء، لا يمنعه مانع من إيصال فضله ونعمته إلى من يشاء من خلقه. والله عزَّ وجلَّ هو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، فهو الغني بذاته، وكل مخلوق فقير إليه بذاته. وكل ما في السموات والأرض، وجميع ما في خزائن الله، الله غني عنه، لا يحتاج منه شيئاً: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]. والفضل كله بيد الله جل جلاله، يعطي منه من يشاء فضلاً، ويمنع من يشاء عدلاً: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} ... [آل عمران: 73، 74].

وفضل الله عزَّ وجلَّ عظيم واسع، وخزائن السموات والأرض مملوءة من فضله، وهو المتفضل على عباده بأنواع النعم من غير سؤال منهم، ولا استحقاق لها، بل كل ماأعطى الله العباد من نعم الدين والدنيا، فهو فضل من الله وكرم وبر وإحسان، وحتى الكافر يتقلب في نعم الله في الدنيا، والله ذو فضل على العالمين كلهم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. ومن فضل الله على عباده المؤمنين هدايتهم للإيمان والتقوى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. ومن فضله على عباده أنه ينجيهم من أعدائهم وكيدهم ومكرهم إذا توكلوا عليه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران: 173، 174]. ومن فضله سبحانه على عباده تثبيته لهم على هذا الدين، وعصمتهم من الزيغ والخذلان واتباع الشيطان: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء: 83]. ومن فضله على عباده إعطاؤهم فوق ما يستحقون من ثواب، زيادة من الكريم وفضلاً: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} ... [النساء: 173]. ومن فضله على عباده ترك معاجلة الكفار والمنافقين والعصاة بالعقوبة في الدنيا، وإمهالهم لعلهم يتوبون كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)} ... [النور: 14]. هذا أظهر ما ورد في القرآن من أسماء الله عزَّ وجلَّ وأما ما ورد في السنة فهو:

الرفيق

الرفيق ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرفيق. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُّحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو الرفيق، الكثير الرفق، وهو اللين والتسهيل، الذي يسهل الأمور، وييسر أسباب الخير كلها لعباده. وهو سبحانه الرفيق الحليم الذي لا يعجل بعقوبة العصاة، ليتوب من سبقت له العناية، ويزاد إثماً من سبقت له الشقاوة. والله سبحانه رفيق، ليس بعجول، وإنما يعجل من يخاف الموت أو الفوات، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه فليس من شأنه العجلة. والرفق هو التأني في الأمور والتدرج فيها. فالله عزَّ وجلَّ رفيق في أفعاله، حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيءاً فشيءاً، وهو قادر على خلقها كلها دفعة واحدة، في لحظة واحدة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وهو سبحانه رفيق حكيم في أمره ونهيه .. فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة .. بل يتدرج معهم في الأحكام من حال إلى حال .. حتى تألفها نفوسهم .. ثم تشمر لها جوارحهم: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. فينبغي للمسلم أن يكون رفيقاً في أموره كلها، وفي جميع أحواله، غير عجل فيها، فإن العجلة من الشيطان، ومن يحرم الرفق يحرم الخير. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6927)، ومسلم برقم (2593) واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (2594).

الشافي

الشافي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشافي. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80]. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضاً، أو أُتي به إليه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَذْهِبِ الْباسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وأَنْتَ الشَّافيِ لَا شفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو الشافي لكل آفة وعاهة، وكل مرض بدني أو نفسي. والشفاء: رفع ما يؤذي أو يؤلم البدن والقلب. وهو سبحانه الشافي وحده، وهو الذي جعل الشفاء في الأدوية المستعملة، وهو الذي خلق الداء والدواء والشفاء. وهو سبحانه الشافي الكافي، الذي يشفي الأبدان من أمراضها، ويشفي الصدور والقلوب من الشبه والشكوك، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يدعى بهذا الاسم سواه. والأدوية لا تنفع بذاتها، بل بما قدره الله تعالى فيها من الشفاء. والتداوي لا ينافي التوكل، فإن الله عزَّ وجلَّ جعل الدواء سبباً للشفاء، كما لا ينافي دفع الجوع بالأكل، والعطش بالشرب، وقد جعل الله لكل شيء سبباً. وقد أنزل الله عزَّ وجلَّ القرآن العظيم شفاء لعباده المؤمنين، يُستشفى به من الجهل والضلالة، ويبصر به من العمى، فهو هدى ورحمة لهم، لأنهم يعملون بما فيه، فيسعدهم في الدنيا، ويدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من النار، ولا يزيد الكافرين إلا خساراً، لأنهم لا يعملون به كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} ... [الإسراء: 82]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5675)، ومسلم برقم (2191) واللفظ له.

وأما شفاء الأبدان، فإن الله عزَّ وجلَّ هو الشافي، الذي أنزل الداء والدواء، علمه من علمه، وجهله من جهله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْزَلَ الله دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري (¬1). فسبحان الذي خلق وهدى .. وأطعم وأسقى .. وابتلى وشفا .. وأمات وأحيا .. وتجاوز وعفا. {رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} ... [الشعراء: 77 - 82]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، برقم (5678).

الطيب

الطيب ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الطيب. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو الطيب، المنزه عن النقائص والعيوب، الطيب الذي هدى عباده المؤمنين إلى أفضل القول، وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله أو إحسان إلى عباد الله كما قال سبحانه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} [الحج: 24]. والله سبحانه هو الطيب، فلا ينبغي التقرب إليه إلا بكل طيب من النيات والأقوال والأعمال والأخلاق والأموال، فهو سبحانه طيب لا يقبل إلا الطيب من كل شيء. ومن طاب قلبه بمعرفة الله ومحبته وخشيته، وطاب لسانه بذكره، وطابت جوارحه بطاعته، أسعده الله في الدنيا، وأدخله الجنة في الآخرة، لأنها الدار الطيبة، التي لا يليق بها إلا الطيبون: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. وقد وعد الله المؤمنين والمؤمنات بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة فقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} ... [النحل: 97]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1015).

السبوح

السبوح ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السبوح. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو السبوح، المنزه عن كل عيب ونقص وسوء، المبرأ من النقائص، المنزه عن الشريك، وكل ما لا يليق بجلاله. والله جل جلاله هو القدوس، الذي له الكمال المطلق في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، الذي لا شريك له ولا مثيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. وهو سبحانه القدوس، الذي يقدسه ويسبحه كل من في العالم العلوي، وكل من في العالم السفلي، في جميع الأوقات، بمختلف اللغات، وأنواع الأصوات كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. فالله تبارك وتعالى هو الرب العظيم، الذي من عظمته الباهرة، وقدرته القاهرة، أن جميع الأرض يوم القيامة في قبضته، والسموات مطويات بيمينه. فلا عظمه حق عظمته من سوى به غيره، ولا أظلم منه. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (487).

الجميل

الجميل ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الجميل. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَاً، قال: إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، الذي كل جمال في العالم فمن جماله. وهو سبحانه الجميل كامل الجمال، المجمل من شاء من خلقه، الجميل المحسن إلى عباده، واهب الجمال والحسن والإحسان لمن شاء. وهو سبحانه جميل الأفعال بعباده، يكلف باليسير من العمل، ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في أجمل صورة، وأحسن تقويم كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]. وقد خلق الله البشر متفاوتين في الحسن والجمال، فأعطى الله سيد الأولين والآخرين محمداً - صلى الله عليه وسلم - حظاً وافراً من الجمال، فهو أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وأحسنهم وجهاً، وجهه كأنه القمر. وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس أخلاقاً، سماحةً ولطفاً، وحلماً وكرماً، ورحمة وشفقة، وصلةً وبراً، وعزة وشجاعة، وعفواً وصفحاً وحياءً وتواضعاً. فسبحان من جمع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - جمال الخَلق والخُلُق، وأثنى عليه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. والله سبحانه جميل يحب الجمال والتجمل في غير إسراف ولا مخيلة، ولا بطر ولا كبر. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (91).

فسبحان الجميل الذي كل جمال في الوجود فهو من آثار صنعه: جميل الذات .. جميل الأسماء .. جميل الصفات .. جميل الأفعال. فلا يستطيع البشر النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار، فإذا رآه المؤمنون في الجنة أنستهم رؤيته ما هم فيه من النعيم، فلا يلتفتون حينئذ إلى شيء سواه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]. وسبحان الجميل الذي اتصف بالجمال، وخلق الجمال، وجمل به المخلوقات في العالم العلوي والسفلي، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن، فكل جمال في الكائنات فمن آثار اسمه الجميل. جمل السماء بالنجوم .. وجمل الأرض بالنبات .. وجمل الملائكة بالطاعات .. وجمل القلوب بالإيمان .. وجمل الجوارح بالأعمال الصالحة .. وجمل الدنيا بالدين .. وجمل الآخرة بالجنة التي فيها أعلى أنواع النعيم والجمال {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)} [السجدة: 17 - 19]. وجمل الجنة برؤية وجهه الكريم الذي إليه منتهى الكمال والجمال والجلال.

الوتر

الوِتر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوِتر. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ، وِتْرٌ يُّحِبُّ الْوِتْر» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو الوتر، الفرد الذي لا شريك له ولا نظير، الأول الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، فلا ينبغي لشيء من الموجودات أن يضم إليه، فيعد معه، أو يعبد معه، بل هو وحده الإله الواحد الأحد الصمد، الوتر الفرد الذي لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4]. والله عزَّ وجلَّ هو الوتر، الذي يحب الوتر، ويأمر به في كثير من الأقوال والأعمال والطاعات التي شرعها، كما في الأذكار والصلوات الخمس، ووتر الليل، والطهارة وغير ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُّحِبُّ الْوِتْرَ» أخرجه الترمذي وأبو داود (¬2). والخلق كله شفع ووتر، وقد أقسم الله به في قوله سبحانه: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)} [الفجر: 1 - 3]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (453)، صحيح سنن الترمذي رقم (374). وأخرجه أبو داود برقم (1416) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1256).

المنان

المنان ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المنان. قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِساً يَعْنِي وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السموات وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِْكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَِصْحَابِهِ تَدْرُونَ بِمَا دَعَا قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). الله تبارك وتعالى هو المنان، كثير العطاء، عظيم المواهب، الذي أعطانا الحياة والعقل، والسمع والبصر، والمال والولد، وصور الخلق فأحسن الصور، وأنعم فأجزل العطايا. وهو سبحانه المنّان، الذي منَّ على عباده بأنواع الإحسان والإنعام، المعطي ابتداء، ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحد منهم عليه، وهو المنّان الذي يبدأ بالنّوال قبل السؤال. وهو سبحانه المنّان، الذي منَّ على رسله بالرسالة والهداية والنصر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 114 - 120]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1495)، صحيح سنن أبي داود رقم (1326). وأخرجه النسائي برقم (1300)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (1233).

وهو سبحانه المنّان الذي من على البشر بالهداية إلى الإيمان كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} ... [الحجرات: 17]. وقد ذم الله عزَّ وجلَّ المنّان من الناس، واختص بالمنّ لنفسه، لأن المنَّ من العباد تكدير وتعيير، ومن الله إفضال وتذكير، وهو سبحانه المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، والامتنان استعباد وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله الغني عن جميع الخلائق. والمعطي قد تولى الله ثوابه، ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له عند الآخذ، فإذا امتنّ عليه فقد ظلمه، ومن هنا بطلت صدقته بالمن كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264]. فهو سبحانه المانّ بفضله، وأهل سمواته وأهل أرضه كلهم وأعمالهم في محض مننه، ولو أتى العباد بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات، لكانوا في محض مننه وفضله، وكانت له المنّة عليهم، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منّة الله عليه أعظم، فهو المانّ بفضله، ومن أنكر مَنَّه فقد أنكر إحسانه وإنعامه على عباده: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

الحيي

الحيي ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحيي. عن يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُّحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِر» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إليه أَنْ يَرُدَّهُمَا صِِفْراً» أخرجه أبو داود والترمذي (¬2). الله تبارك وتعالى هو الحيي كثير الحياء، وحياؤه عزَّ وجلَّ على ما يليق بجلاله، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل حياؤه عزَّ وجلَّ هو ترك ما لا يتناسب مع سعة رحمته، وكمال جوده وكرمه، وعظيم عفوه وحلمه. فالعبد يجاهر بالمعصية، مع أنه أفقر شيء إلى الله، وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الله عزَّ وجلَّ مع كمال غناه، وتمام مقدرته عليه، يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستر العبد بما يهيئه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر له. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» متفق عليه (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4012)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3387). وأخرجه النسائي برقم (406)، صحيح سنن النسائي رقم (393). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1488) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1320). وأخرجه الترمذي برقم (3556)، صحيح سنن الترمذي رقم (2819). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2441) واللفظ له، ومسلم برقم (2768).

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من العذراء في خدرها، فعلى المسلم أن يستحي من خالقه أعظم الحياء، فهو يتقلب في نعمه وإحسانه آناء الليل والنهار، ولا يستغني عنه طرفة عين، وهو سبحانه يرانا في جميع أحوالنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا. ومن علم أن الله السميع البصير مطلع عليه استحى أن يراه على معصية: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} ... [يونس: 61]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ فَإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ» متفق عليه (¬1). فسبحان العليم الخبير، الذي اتصف بالحياة، وخلق الحياء، ومنَّ به على من شاء من خلقه. فكل حياء في الملائكة والجن والإنس فمن خزائنه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (24) واللفظ له، ومسلم برقم (36).

الستير

الستير ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الستير .. والساتر. عَنْ يَعْلَى بن أمية - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُّحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» أخرجه أبو داود النسائي (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه مسلم (¬2). الله تبارك وتعالى هو الستير، الذي يستر على عباده كثيراً، ولا يفضحهم في المشاهد، حيي ستير، يحب الحياء والستر، ويستر على عباده الكثير من العيوب والقبائح والفضائح. وقد رغب الله عزَّ وجلَّ في الستر، وحذر من المجاهرة والمفاخرة بالمعصية. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «َمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة» أخرجه مسلم (3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» متفق عليه (¬3). وإذا وقع المسلم في معصية أو تقصير فليستر على نفسه، ويتوب إلى ربه فإن الله يغفرها له، لأنه الغفور الذي يغفر الذنوب، الساتر الذي يستر العيوب، الكريم الذي يبدل السيئات بالحسنات. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4012)، صحيح سنن أبي داود رقم (3387). وأخرجه النسائي برقم (406) صحيح سنن النسائي رقم (393). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2590). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) واللفظ له، ومسلم برقم (2990).

الديان

الديان ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الديان. عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعاً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى هو الديان، المحاسب والمجازي للعباد، والحاكم بينهم يوم المعاد كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. وهو سبحانه الديان وحده يوم القيامة، الذي يجازي كلاً بعمله، ويقتص للمظلوم من الظالم، ومن السيد لعبده، ومن القوي للضعيف. وهو سبحانه الديان الذي يحكم بين العباد بالعدل، وإذا حكم الله يوم القيامة فلا ظلم ولا جور، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6527)، ومسلم برقم (2859)، واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (2577).

المحسن

المحسن ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المحسن. قال الله تعالى عن يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} [يوسف: 100]. وقال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 77]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلَى كُلَِ شَيْءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأحْسنُوا القِتْلَةَ، وَإذَا ذَبّحْتُم فّأحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيِحدَ أحَدكُُم شَفْرَتَهُ، فَليُرِحْ ذَبيحَتَهُ» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى هو المحسن، الذي غمر الخلق جميعاً بإحسانه وإنعامه، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. وهو سبحانه المحسن الكريم الذي لا يخلو موجود من إحسانه طرفة عين: فهو المحسن إلى كل مخلوق بنعمة الإيجاد .. ونعمة الإمداد .. وللمؤمن مع ذلك بنعمة الهداية .. ولا خفاء بإحسان الله تعالى إلى خلقه .. ومنته عليهم بما غمرهم من الإحسان والإنعام، والفضل والجود. وهو سبحانه المحسن إلى الخلق كلهم بصنوف النعم، ولو غفل عن ذلك الغافلون، وجحد فضله الجاحدون، وأعرض عن شكره الكافرون، فلا قيام للخلق ولا بقاء لهم إلا به سبحانه، وبجوده وإنعامه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة: 243]. ومن إحسان الله عزَّ وجلَّ وجوده وفضله على الإنسان أن أخرجه من عدم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1955).

وصوره في أحسن صورة، وهي صورة آدم، وهي أحسن صور العالم كما قال سبحانه: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)} [غافر: 64]. ومن إحسانه على الإنسان أن جعله عاقلاً لا معتوهاً ولا سفيهاً .. حتى يمتاز عن البهائم .. وهداه للإسلام .. وهذا أعظم أنواع الإحسان والإنعام .. وجعله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وعلمه كتابه .. وأحسن إليه بإعانته على العمل بما علم .. ووفقه لنشر ما علم بين عباده .. ليكون نور بلاده .. ويستضاء بسراجه. وهو سبحانه المحسن الذي أحسن إلى الإنسان، وأنعم عليه بكمال الصورة، واعتدال الخلقة، وفصاحة اللسان، وحسن السمع والبصر، وسلامة البدن من نقص أو خلل، حتى يبقى صحيحاً سليماً: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} ... [النحل: 78]. وهو سبحانه المحسن الذي أنعم على الإنسان بانتظام الحال، واتساع المال، حتى لا يحتاج إلى أحد من الخلق في اكتساب الرزق، ويحتاج إليه غيره، وهذه وتلك نعمة يجب شكرها، إذ ليس كل أحد يعطاها. ومن نعم الله على الإنسان ما أنعم عليه بالعصبة والعشيرة، والأصحاب والأتباع، الذين تآلفت قلوبهم على محبته وتقديره، وقاموا جنة بينه وبين أعدائه، فعاش في أمن بين جميع الخلائق، يُنظر إليه بعين الإجلال والوقار، وتقضى حوائجه حيثما كان. ومن إحسانه إليه ما رزقه الله من الزوجة والأولاد، حتى يكون من ذريته في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عدد وافر، وكلهم موحد لربه، ولآلائه ذاكر وشاكر. يشتد بهم في الدنيا أزره، ويحبط بهم في الآخرة وزره بدعائهم له، وتزيد حسناته بفعلهم القرب عنه. ومنها ما أنعم الله به عليه من صحة الجسم، وفراغ البال، ونعم الله على العباد لا

تحصى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. والله عزَّ وجلَّ يحب من خلقه التعبد بمعاني أسمائه وصفاته، فهو تواب يحب التوابين، ومحسن يحب المحسنين كما قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. فعلى المسلم أن يحسن كما أحسن الله إليه بتلك النعم، فيعبد الله عبادة تامة كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فهو يراه، وعليه أن يحسن إلى العباد بإيصال جميع أنواع الخير لهم، وقد وعده الله بالثواب على ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120].

السيد

السيد ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السيد. عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السَّيِّدُ الله» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). الله تبارك وتعالى هو السيد، الذي كمل في سؤدده، المحتاج إليه على الإطلاق، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا. وهو سبحانه السيد، الذي تحق له السيادة، فالسموات والأرض، والملائكة والروح، والإنس والجن، والنبات والحيوان، كل هؤلاء خلق للبارئ عزَّ وجلَّ، ليس بهم غنية عنه في بدء أمرهم وهو الوجود، ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض العارضة أثناء البقاء. فهذه المخلوقات كلها مخلوقة بأمره .. باقية بأمره. تزيد بأمره .. وتنقص بأمره .. وتحيا بأمره .. وتموت بأمره .. وتتحرك بأمره وتسكن بأمره .. وترزق بأمره .. وتنفع بأمره .. وتضر بأمره: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. ومن هذه صفاته، وهذا فعله، وهذه قدرته، كان حقاً له جل ثناؤه أن يكون سيداً، وكان حقاً على العباد أن يدعوه بهذا الاسم، فالسؤدد حقيقة لله عزَّ وجلَّ، والخلق كلهم عبيد له، وهو مالكهم وربهم ومولاهم: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16316). وأخرجه أبو داود برقم (4806) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4021).

المقدم والمؤخر

المقدم والمؤخر ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المقدم والمؤخر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ» متفق عليه (¬2). الله تبارك وتعالى هو المقدم، الذي ينزل الأشياء منازلها، فيقدم ما شاء منها، ويؤخر ما شاء. قدم المقادير قبل أن يخلق الخلائق، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده، ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم، وثبطهم عنها بحكمته. وأخر سبحانه الشيء عن حين توقعه، لعلمه بما في عواقبه من الحكمة، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم، وهو الحكيم العليم. وهو سبحانه المقدم الذي يقدم الأشياء، ويضعها في مواضعها، فمن استحق التقديم قدمه، وهو المؤخر الذي يؤخر الأشياء، فيضعها في مواضعها، يقدم من شاء من خلقه إلى رحمته بتوفيقه، ويؤخر من يشاء عن ذلك لخذلانه. وهو سبحانه المقدم المعطي لعوالي الرتب والمنازل، المؤخر الدافع عن عوالي الرتب والمنازل، العالم بمن يصلح لهذا .. ومن يصلح لهذا. والله جل جلاله هو المقدم لبعض الأشياء على بعض، إما تقديماً في الخلق كتقديم بعض المخلوقات على بعض في الوجود، وكتقديم الأسباب على ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6398) واللفظ له، ومسلم برقم (2719). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

مسبباتها. وإما تقديماً في الشرع، كتفضيل أهل الإيمان على سائر البشر، وتفضيل بعض النبيين على بعض، وتفضيل بعض العباد على بعض، وتفضيل بعض العبادات على بعض، كتقديم الفرض على النافلة، وحق الله على حق غيره. وهو سبحانه المؤخر بعض الأشياء عن بعض، إما بالزمان، وإما بالشرع، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم. فهو سبحانه المقدم من شاء، المؤخر من شاء، وهو على كل شيء قدير، وإذا علم العبد ذلك، فعليه أن يقدم ما قدمه الله، ويؤخر ما أخره الله. ومن أراد أن يقدمه الله على غيره، فليسابق إلى طاعته، والعمل بمرضاته، والتقرب إليه بما استطاع من محبوباته كالتقوى والإحسان والصبر. ومن تأخر عن ذلك أخره الله، فإنه المتأخر عن درجات الخير والثواب، المؤخر في الآلام والعذاب. قال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (438).

القابض والباسط

القابض والباسط ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القابض والباسط. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: غلا السعر على عهد رسول الله فقالوا: يا رسول الله لو سعرت، فقال: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). الله تبارك وتعالى هو القابض الباسط، الذي يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء، يقبض ويبسط على حسب ما يراه ويعلمه من المصلحة لعباده، يبسطه بجوده، ويقبضه بعدله، وهو الحكيم العليم. وهو سبحانه القابض، الذي يطوي بره ومعروفه عمن يريد، الباسط الذي ينشر فضله على من يشاء من عباده، يرزق ويوسع، ويجود ويتفضل، يفعل ذلك بعباده بحسب علمه وحكمته: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} ... [الشورى: 27]. والقابض والباسط من الأسماء الكريمة المتقابلة، لا يفرد أحدهما عن قرينه، ولا يثنى على الله بواحد منها إلا مقروناً بمقابله، لأن تمام القدرة والكمال المطلق لله عزَّ وجلَّ لا يحصل إلا بمجموعها، ومثلها المقدم والمؤخر، والمعطي والمانع ونحوهما. والله عزَّ وجلَّ هو القابض الباسط، الذي بيده كل شيء، فينبغي لمن امتن الله عليه ببسطة في المال أو العلم، أو الجسم أو الجاه، أن يتفضل على عباد الله تعالى كما تفضل الله عليه وأحسن، فإن هذا من شكر النعم. ومن ضيق الله عليه في شيء من ذلك، فليلجأ إلى الله القابض الباسط، الذي ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو د اود برقم (3451)، صحيح سنن أبي داود رقم (2945). وأخرجه الترمذي برقم (1314)، صحيح سنن الترمذي رقم (1059).

يملك كل شيء، ويملك ما يتمنى ويريد، وأن يعلم أن ذلك بعدله سبحانه، وهو لا يظلم أحداً. وهو سبحانه العليم الحكيم، القابض الباسط، الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقبضه عمن يشاء، والتصرف كله بيده، والأمور كلها راجعة إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه بل يوفره: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. هذا ما تيسر جمعه من أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة. اللهم كما يسرت جمعها في هذا الكتاب فارزقنا حفظها، والعمل بها، وحسن الدعاء بها كما قلت سبحانك: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} ... [الأعراف: 180]. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمّ، وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» أخرجه أحمد (¬1). ولسهولة حفظ أسماء الله الحسنى، والدعاء بها، والعمل بموجبها، نوردها مجملة مرتبة كما سبق وهي: الله .. الإله .. الرحمن .. الرحيم .. الملك .. المالك .. المليك .. القدوس .. السلام .. المؤمن .. المهيمن .. العزيز .. الجبار .. الكبير .. المتكبر .. الخالق .. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (3712)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).

الخلاق .. البارئ .. المصور .. الغفور .. الغافر .. الغفار .. القاهر .. القهار .. الوهاب .. الرازق .. الرزاق .. الفتاح .. الفاتح .. العليم .. العالم .. العلام .. السميع .. البصير .. الحكيم .. الحاكم .. الحكم .. اللطيف .. الخبير .. الحليم .. العظيم .. الشكور .. الشاكر .. العلي .. الأعلى .. المتعال .. الحفيظ .. الحافظ .. الرقيب .. المقيت .. الشهيد .. الحاسب .. الحسيب .. الكريم .. الأكرم .. الواسع .. المجيد .. الرب .. الودود .. الحق .. المبين .. الوكيل .. الكفيل .. القوي .. المتين .. الولي .. المولى .. الحميد .. الحي .. القيوم .. القائم .. الواحد .. الأحد .. الصمد .. القادر .. القدير .. المقتدر .. الأول .. الآخر .. الظاهر .. الباطن .. البر .. التواب .. العفو .. الرؤوف .. الغني .. الهادي .. النور .. البديع .. الفاطر .. المحيط .. القريب .. المستعان .. المجيب .. الناصر .. النصير .. الوارث .. الغالب .. الكافي .. ذو الجلال والإكرام .. ذو العرش .. ذو المعارج .. ذو الطول .. ذوالفضل ..... وفي السنة: الرفيق .. الشافي .. الطيب .. السبوح .. الجميل .. الوتر .. المنان .. الحيي .. الستير .. الساتر .. الديان .. المحسن .. السيد .. المقدم .. المؤخر .. القابض .. الباسط .. المعطي .. المانع.

8 - فقه صفات الله وأفعاله

8 - فقه صفات الله وأفعاله قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} ... [الأعراف: 54]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} ... [الطلاق: 12]. الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى، وقد مرت بنا، وله جميع الصفات العلا، فله سبحانه صفات الكمال .. وصفات الجلال .. وصفات الجمال. فهو سبحانه الحليم الذي لا أحد أصبر منه، فإنه يعافي العباد ويرزقهم، وهم يعصونه ويخالفون أمره، ويدّعون له الصاحبة والولد، فيؤخر عقوبتهم التي قدر لها وقتاً، وحدّ لها أجلاً محدوداً سبق به علمه. ومن علم عظمة الله وما له من العزة والجلال، والجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة، وعلم كمال قدرته على ما يشاء، علم أنه لا أصبر من الله على إذاية من آذاه، وافترى عليه، وأشرك به. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحَدَ أصْبَرُ عَلَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُم» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الحكيم الذي يقضي بالحق، ويقضي به بين العباد يوم القيامة، الذي يحكم في خلقه بما شاء، ويفعل ما يريد. وهو سبحانه الرحمن الذي كتب على نفسه الرحمة، وكتب في الذكر كل شيء، وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء. وهو سبحانه كاشف العذاب، وكاشف الضر، كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099)، ومسلم برقم (2804) واللفظ له.

اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} ... [الأنعام: 17]. وهو سبحانه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويستجيب للداعي إذا دعاه. وهو سبحانه الذي ينادي من شاء من عباده، كما نادى الله موسى في الواد المقدس طوى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} [الشعراء: 10]. وهو سبحانه الذي يدعو إلى دار السلام، ويدعو عباده لما يحييهم من الهدى، ويدعوهم ليخرجوا من قبورهم إلى يوم البعث. وهو سبحانه الكريم الذي يغيث عباده، فمن استغاثه من المؤمنين استجاب له، وقضى حاجته كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. وهو سبحانه الحفيظ، الذي يقي السيئات، ويقي المؤمنين من الشرور وعذاب النار كما قال سبحانه: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 11، 12]. وهو سبحانه الذي يصلي على عباده المؤمنين كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} ... [الأحزاب: 43]. وهو سبحانه الحفي، المبالغ في البر والألطاف والإكرام والإفضال كما وصفه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 47]. وهو سبحانه الكريم .. الذي يبارك فيما شاء من الكلام والعباد والبلاد والأزمان والأشياء .. فكل خير من عنده .. وكل بركة من فضله سبحانه .. فجعل القرآن مباركاً .. وأنزل من السماء ماء مباركاً .. وبارك أرض الشام .. وبارك على أنبيائه ورسله كإبراهيم وإسحق .. وعيسى ويحيى وغيرهم .. وجعل بيته الحرام مباركاً.

وهو سبحانه فالق الإصباح، الذي شقه بعد ظلمة الليل سبحانه. وهو سبحانه فالق الحب والنوى، الذي يشق الحب والنوى، فيخرج منه ورقاً وشجراً وثمراً. وهو سبحانه الذي يخرج الحي من الميت، وبخرج الميت من الحي، من النبات والحيوان والإنسان. وهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماءً، فأخرج به نبات كل شيء، وأخرج الأطفال من بطون الأمهات، ويخرج الناس من القبور يوم القيامة: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55]. وهو سبحانه الذي أخرج كل شيء من الأقوال والأعمال والأشياء من العدم إلى الوجود وأخرج الكلام من اللسان، وأخرج المعاني من الألفاظ، وأخرج الثمار من الأشجار، وأخرج النور من الشمس والقمر والنجوم. وهو سبحانه القوي القادر، الذي خلق السموات والأرض فكانتا رتقاً، ففتق السماء إلى سبع سموات جل جلاله، وفتق الأرض إلى سبع أرضين، وشق السماء بالمطر، وشق الأرض بالنبات، وجعل من الماء كل شيء حيّ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} ... [الأنبياء: 30]. وهو سبحانه الذي أنزل الماء من السماء إلى الأرض، فأنبت به الزروع والأشجار والثمار: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5]. وهو سبحانه الملك، الذي يملك النفع والضر، فكل نفع وضرر في الدنيا والآخرة بيده، والخلق لا يملكون من ذلك شيءاً إلا ما شاء الله لهم. فكل شيء في قبضته سبحانه، وهو كائن بحكم تدبيره ومشيئته، وكل أثر في الأسباب خلقه رب الأسباب، خلق كل شيء فقدره تقديراً. استودع سبحانه الأدوية والأغذية المنافع والمضار، واستودع الألم في الضرب

وجميع المؤلمات، واستودع الشبع والري في ذوات المطعومات والمشروبات، وبيده سبحانه ملكوت كل شيء، فلا يصدر نفع أو ضر منها إلا عن إرادته وحكمته وخلقه. فكل نفع يدر على العبد في الدنيا فهو من الله تعالى، وكل عبد صدر منه منفعة فهو مسخر من الله تعالى بها، وكذلك الضر، فالدنيا مقسمة بين نفع وضر، والآخرة كذلك، فالجنة نفع صاف، والنار ضر خالص. وهو سبحانه الكريم الحكيم، الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يملك المنع والعطاء وحده، وليس منعه بخلاً منه، ولكن منعه حكمة، وعطاؤه جود ورحمة، يعطي من هو أهل للعطاء، ويمنع من هو أهل للحرمان، وهو الحكيم العليم بعباده: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. فحق على من علم أن الله هو المعطي والمانع وحده، أن يقطع من قلبه من الخلق المطامع، وأن يقف مع الله بقلب راض قانع، فإن أغناه صرف في طاعته غناه، وإن منعه علم أنه لم يمنعه من بخل ولا عدم، بل ليكون منعه معقباً له ما هو أشرف من الغنى. وإن أعطاه أحد من الخلق رزقاً، فليرد ذلك إلى الواحد المعطي الحق، وإن منعه أحد من الناس فلا يرى المانع إلا الله، فيرى الله وحده بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء، وكل موجود مع القدرة الإلهية كالظل لا حكم له في الفعل، فلا إله إلا الله، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وهو سبحانه العزيز، الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، فأعز أولياءه وأظهرهم على أعدائهم، وأحلهم دار الكرامة في الجنة، وأذل أهل الكفر في الدنيا بأن ضربهم بالرق والشقاء، والجزية والصغار، وفي الآخرة بالعقوبة والخلود في النار. وهو سبحانه رفيع الدرجات، الذي يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم

درجات، الذي يخفض القسط ويرفعه، ويرفع قدر من شاء، ويضع قدر من شاء، الذي يرفع بالقرآن أقواماً، ويضع به آخرين، يرفع من شاء بإنعامه كما رفع الحق وحزبه، ويخفض من شاء بانتقامه كما خفض الباطل وحزبه. وهو سبحانه الحي الذي يحيي ويميت، يحيي سبحانه النطفة الميتة فتخرج منها النسمة الحية، ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها، ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث، وإنبات النبات، وهو الذي يميت الأحياء، ويوهن بالموت قوة الأصحاء: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)} [ق: 43]. وهو سبحانه القادر على كل شيء، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، الذي بدأ خلق الخلق، والذي يعيدهم بعد الحياة إلى الممات، ثم يعيدهم بعد الموت إلى الحياة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} ... [الروم: 27]. فسبحان الذي يبدئ ويعيد من الخلائق في كل لحظة ما لا يحصيه إلا هو، وهو على كل شيء قدير. والله جل جلاله الكفيل، الذي وفى لعباده بما ضمن لهم من الأرزاق، ويوفي عباده أجورهم وثوابهم يوم القيامة: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 25]. وهو سبحانه العدل الذي يقول الحق، وفعله حق، والذي يأمر بالعدل والإحسان، ويحكم بالعدل والإحسان. فلو عذب الخلق أجمعين لكان ذلك عدلاً منه، ولو نعم الجميع في جنانه لكان ذلك فضلاً منه، وإذ فرقهم فريقين، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فتلك حكمة بالغة. فعذابه للجميع عدل، ورحمته للجميع فضل، وتفريقه حكمة بالغة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} ... [النحل: 90].

فكل عدل وعادل وعدالة فمنه سبحانه، وكل حكم ليس منه فهو جور وظلم، وباطل وبهتان. وعلى المسلم إذا عرف ذلك أن يستسلم لقضائه، وأن يعدل في أقواله وأفعاله، لينال بذلك ثوابه وإحسانه. وهو سبحانه الصادق في أقواله وأفعاله، ووعده ووعيده كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء: 122]. فعلى المسلم أن يعلم أنه لا أحد أصدق من الله، وأن كل صادق، وكل صدق فمن عنده، ثم يجب عليه الصدق في جميع أقواله وأفعاله لتحصل له النجاة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ هو الحكيم العليم، الذي يضع الأمور مواضعها، ويرشد الخلق ويدلهم على المصالح والمنافع، والذي أرشد الخلق إلى طريق الحق، وإلى المصالح التي ينتظم بها وجودهم. فأرشد سبحانه الملائكة والأنبياء والمؤمنين إلى معرفته بما وهبهم من اليقين .. وأرشد جميع الخلق إلى طلب قوام بنيتهم .. فأرشد الصغار من الأطفال والبهائم وهداهم إلى المنافع كالتقام الثدي .. ومص الضرع .. وأرشد العنكبوت إلى بناء البيت المشبك .. وأرشد النحل إلى بناء البيت المسدس .. وأرشد الفرخ ليفقأ البيضة عند اكتمال خلقه .. وأرشد الجنين للخروج من بطن أمه .. وأرشد المطر للانصباب .. والأرض للإنبات .. والماء للإرواء .. والنار للإحراق .. وأرشد الأذن للاستماع .. والعين للإبصار .. واللسان للكلام .. والرجل للمشي .. واليد للبطش والأخذ والدفع. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094)، ومسلم برقم (2607) واللفظ له.

فكل موجود في الأرض والسماء جار على منهج السداد، ومنه سبحانه جاء الرشاد، وأعظم الرشاد إرشاد عباده المؤمنين إلى الدين القيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)} [الأنبياء: 51]. وإنما يحصل الرشد للعبد إذا آمن بالله واستقام على دينه كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} ... [البقرة: 186]. وهو سبحانه الكريم الرحيم، الذي بعث الرسل إلى الأمم بالدين، وهو الذي يبعث الأرواح والأجساد بعد الموت ليوم النشور، وهو الذي يبعث من في القبور، والذي بعث رسله للهداية، وبعث عباده إلى الطاعة، وأرسل الشياطين للغواية، وابتلى هؤلاء بهؤلاء. وهو سبحانه الجامع للفضائل كلها، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلا، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهو سبحانه الجامع حقاً بين المتفرقات والمتباينات، كما جمع بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، في أمزجة الحيوانات، وهي متنافرات متعاندات، فهو سبحانه الجامع بكل اعتبار. فسبحان القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، جمع بين الماء والأرض فجاء النبات، وجمع بين الذكر والأنثى فجاء الأولاد: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107]. وهو سبحانه الجامع الذي يجمع قلوب عباده على الحق، ويجمع الناس يوم القيامة للحساب، ويجمع الرسل ويسألهم عما كلفهم به، ويجمع المؤمنين في الجنة، ويجمع الكفار والمنافقين في النار كما قال سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} ... [آل عمران: 9]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140].

وهو سبحانه سريع الحساب، وسريع العقاب، وشديد العقاب. يعاقب الكافرين لكفرهم، والعصاة لعصيانهم، فيعاجل من شاء بعقوبته في الدنيا، ويؤخر عقوبة من شاء إلى الآخرة، ويعفو عمن يشاء: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]. وعقاب الله تعالى للخلق: ما يكون من جزاء على فعل المذموم. ففي الدنيا يعاقب الله من شاء بالصواعق المحرقة، والزلازل المدمرة، والرياح المهلكة، والمياه المغرقة، والفتن المهلكة، وغير ذلك مما شاء الله أن يعاقب به. وهذا العقاب مهما حل بكافر كان نقمة كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55]. ومهما حل العقاب بعصاة المؤمنين كان رحمة لهم، وكفارة لذنوبهم، وطهارة لقلوبهم إن تابوا وأنابوا. وما أصاب من هذه المحن الأنبياء والأولياء والصالحين المطهرين من الأوزار، فليس ذلك بعقاب، إذ العقاب على جناية، ومن حماه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وحبب إليه الإيمان والأعمال الصالحة، فهو مهما امتحنه بمحنة من الضراء والبأساء، أو أصابه بما أصابه من البلاء، فذلك إكرام من الله، يزيده به تطهراً وتنويراً، ويقربه منه، ويرفع به درجاته. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً؟ قَالَ: «أجَلْ، إِنِّي أوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ». قُلْتُ: ذَلِكَ بأنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَ» متفق عليه (¬1). وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من هم أشد الناس بلاء يا رسول الله؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5648)، واللفظ له، ومسلم برقم (2571).

فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وأما العقاب في الآخرة فيكون عند قبض الروح، وفي القبر، وفي الموقف، وفي روعات الموقف والحساب والصراط، وغير ذلك من الشدائد، وعقاب بعض الخلق أشد من بعض بحسب أعمالهم، وغلظ كفرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. ويعذب الله عصاة الموحدين في النار، ثم يخرجون منها إلى الجنة، ويخلد فيها الكفار والمنافقون. وهو سبحانه المنتقم كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 16]. والانتقام: إنزال البلاء بأهل العتو والإجرام، والله عزيز ذو انتقام، ينتقم من كل ظالم وكافر، ومن كل مجرم وفاسق في الدنيا والآخرة. وقد انتقم الله جلَّ جلاله من كل من كفر وأشرك وكذب وعاند رسله من الأمم السابقة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. وهو سبحانه شديد البطش كما قال سبحانه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} [البروج:12]. والبطش: الأخذ بسرعة مع عنف، والله جل جلاله هو الجبار ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي يبطش إذا شاء متى شاء بكل ظالم وكافر وطاغوت: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} ... [الدخان: 16]. ¬

(¬1) حسن: صحيح، أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956) وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249). انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

وهو سبحانه العزيز الجبار، أخذه مؤلم، وعقابه موجع: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. وجميع المخلوقات في ملكه وقبضته، لا يعزب عنه منها شيء: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. وهو سبحانه الحكيم العليم، الذي يبتلى عباده بما يطهر قلوبهم، ويزكي نفوسهم، ويبلوهم بالشر والخير فتنة، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]. وهو سبحانه الذي يفتن ويبتلي عباده بما شاء كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ فتنة أحد فلا راد لقضائه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]. فعلى المسلم أن يعلم أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويبتلي من يشاء، ويفتن من يشاء بما شاء، وهو الحكيم العليم. وكل أمة افتتنت بشيء من الفتن: فأمم افتتنوا عن عبادة الله بعبادة الأصنام فعبدوها .. وقوم بالشمس فألهّوها .. وقوم بنبي كان منهم وهم إليهود عبدوا عزيراً .. وقالوا هو ابن الله .. والنصارى قالوا عيسى هو الإله .. وقال بعضهم هو ابن الله .. وقال بعضهم ثالث ثلاثة. وجعل الله فتنة هذه الأمة بالأموال والنساء، والنساء أعظم فتنة للرجال، فالأموال والنساء شاغل عن الله، وعن ذكر الله، وعن طاعة الله، وعن إبلاغ دين الله.

وقد غلب على أكثر الناس حب المال، وكدر عليهم عبودية الكبير المتعال. وهو سبحانه القابض الباسط المسعر، فالغلاء والرخص بتقدير الله وتدبيره، وهو مقلبه ورافعه وخافضه، وذلك من أعظم البلاء والامتحان. والله سبحانه هو الملك، الذي يفعل ما يشاء، ويؤتي ملكه من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. والله عزَّ وجلَّ هو الحي، الذي يحيي ويميت، ويرزق من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، ويختم على قلوب من يشاء، ويطبع على قلوب من يشاء. وهو سبحانه القوي العزيز، الذي ختم على قلوب الكفار، ولعن الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين، والكاتمين لما أنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [النساء: 52]. وهو سبحانه الذي لعن الشيطان، وغضب على إليهود والنصارى، ولعنهم بظلمهم وسوء أفعالهم. وهو سبحانه الرحيم الذي يحب المؤمنين والمتقين والمحسنين ويبغض الكفار والفجار والأشرار. وهو سبحانه الكريم الذي يجود بالعطاء، ويكرم المؤمنين، ويكفر السيئات، ويغفر الذنوب، ويعفو عمن ظلم. وهو سبحانه الذي يمكر بمن مكر بأوليائه، ويستهزئ بمن استهزأ بهم، ويكيد من كادهم، ويخدع من خادعهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} ... [النساء: 142]. وهو سبحانه الذي يختص برحمته من يشاء، ويبين للعباد ما ينفعهم، ويمحص الذين آمنوا، ويمحق الكافرين، ويجزي الشاكرين، ويثيب المؤمنين في الدنيا

والآخرة. وهو سبحانه الملك الذي ينصر من يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء، ويظهر ما يشاء بما شاء: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83]. وهو سبحانه الذي أنبأ رسله، وأرسلهم إلى عباده، وأنبأ الخلق بما ينفعهم وما يضرهم في كتابه، وينبئهم بما عملوا يوم القيامة. وهو سبحانه العليم الحكيم الذي يكرم أولياءه، ويطبع على قلوب الكافرين والجبارين والمتكبرين: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35]. وهو سبحانه الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين، وطبع على قلوب الكافرين. وهو سبحانه الذي يعصم من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ويقدم من يشاء، ويؤخر من يشاء. وهو سبحانه الذي يحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، الذي أحل الطيبات، وحرم الخبائث، وأحل البيع، وحرم الربا، ويميز الخبيث من الطيب، ويعلم المفسد من المصلح، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب. وهو سبحانه الملك القاهر ما شاء بما شاء، الذي يأذن لمن يشاء أن يفعل ما يشاء: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. وهو سبحانه الذي يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، ويُبقي ما يشاء، ويهلك ما يشاء، ويخلق مايشاء، ويصطفي ما يشاء، ويختار ما يشاء، ويزكي من يشاء، ويبدل سيئات من يشاء، ويغير الأحوال كلها متى شاء: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]. وهو سبحانه الذي يطعم ولا يطعم، الذي يخوف عباده بما شاء لعلهم يتوبون، وينجي من يشاء في ظلمات البر والبحر.

وهو سبحانه الذي يتوفى الأنفس: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} ... [الزمر: 42]. وهو سبحانه الذي سخر لعباده كل ما ينفعهم ويصلحهم في حياتهم: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} ... [لقمان: 20]. وهو سبحانه الذي يسيّر الخلائق في البر والبحر، ويسير الكواكب في السماء، وينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، وينزل الوحي إلى أهل الأرض، وينزل الماء من السماء إلى الأرض. وهو سبحانه الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويجيء يوم القيامة لفصل القضاء: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]. وهو سبحانه الذي أنبت الزروع والأشجار، وأخرج منها الثمرات وأنبت أصل البشر من الأرض كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17 - 18]. وهو سبحانه الكريم الذي أنعم على الناس بالدين، وما جعل عليهم في الدين من حرج، فلم يكلفهم بما لا يطيقون، أو يطالبهم بما لا يستطيعون: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]. وهو سبحانه العزيز الكريم الذي أعد الجنة للمؤمنين، وأعد النار للكافرين، ويسر هؤلاء للجنة، وخذل أولئك فصاروا إلى النار. وهو سبحانه الذي ينظر إلى القلوب، ويمتحنها بما شاء، وينزل السكينة في قلوب المؤمنين، ويقذف الرعب في قلوب الكافرين. وهو سبحانه الذي أحصى كل شيء عدداً من الأقوال والأعمال، والأشياء والأموال، والذرات والقطرات، والحركات والسكنات، والأنفاس والأرواح. فسبحان الخالق العظيم، القادر الحكيم، العزيز العليم، الذي يفعل ما يشاء، ولا

يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وجميع أسماء الله عزَّ وجلَّ دالة على أوصاف كماله، وهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى. فهو سبحانه الملك الذي يملك كل شيء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء. وهو سبحانه العزيز، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. وهو سبحانه البارئ الذي برأ الخلق وأوجدهم بقدرته. وهو الرزاق الذي يرزق من يشاء، الغفار الذي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، العفو الذي يعفو عمن يشاء من عباده. وهو سبحانه الفتاح الذي يحكم بين عباده بالحق والعدل، ويفتح لهم أبواب الرحمة والرزق. وهو سبحانه العليم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما. وهو سبحانه الرب الذي يربي عباده، ويقوم بأمرهم في الدنيا والآخرة. وهو سبحانه الشكور الذي يضاعف الحسنات، ويمحو السيئات، الذي يشكر اليسير من الطاعة، ويعطي عليه الثواب الجزيل. وهو سبحانه الخبير الذي يعلم أحوال الخلائق كلها في السماء والأرض، وفي كل مكان وزمان. وهو سبحانه الحفيظ الذي حفظ ما خلقه، وحفظ أعمال العباد كلها. وهو سبحانه الرقيب الذي يراقب خلقه في جميع أحوالهم في العالم العلوي، والعالم السفلي. وهو سبحانه السميع الذي يسمع جميع أصوات الخلائق، ولا يشغله سمع عن سمع. وهو سبحانه البصير الذي يبصر كل شيء، العليم بحاجات العباد وما في صدورهم.

وهو سبحانه الشهيد المطلع على جميع الأشياء، ظاهرها وباطنها، صغيرها وكبيرها. وهو سبحانه الغني الذي يرزق العباد كلهم، ويغنيهم من فضله. وهو سبحانه التواب، الذي يتوب على من شاء من عباده. وهو سبحانه المحيط، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. وهو سبحانه الهادي، الذي يهدي من يشاء، الذي هدى سائر الخلائق إلى مصالحهم. وهو سبحانه الفاطر، الذي فطر السموات والأرض، وفطر الناس على التوحيد. وهو سبحانه الغالب الذي قهر كل مخلوق، ولا يملك أحد أن يرد ما قضى. وهو سبحانه الناصر، الذي ينصر رسله وأولياءه على أعدائهم. وهو سبحانه المستعان، الذي يعين عباده، ولا يطلب العون من أحد. وهو سبحانه الشافي، الذي يشفي من كل آفة وعاهة ومرض. وهو سبحانه المحسن الذي يحسن إلى عباده بصنوف النعم على الدوام. وهكذا في بقية الأسماء. والقرآن كله بيان لأسماء الله وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، وثوابه وعقابه. وهذه بعض الآيات المبينة لأسماء الله وصفاته وأفعاله، والدالة على كمال قدرته وعظمته، وعلى جماله، وجلاله، وكماله، وكبريائه، ورحمته وإحسانه، وآلائه وإنعامه. وذلك ليعرف العباد ربهم .. ويعلموا عظيم قدرته .. وجميل إحسانه فيقدروه حق قدره .. ويعبدوه حق عبادته .. ويشكروه ويحمدوه .. ويستعملوا جوارحهم في طاعته .. وألسنتهم بذكره والثناء عليه. فالواجب على كل مسلم أن يعرف معبوده الحق، ويعرف أوامره التي يتقرب بها إليه، ويعرف ما له بعد القدوم عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ

وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. فوا أسفاه .. ماذا يعلم الخلق من أسماء الله وصفاته وأفعاله وماذا يجهلون؟. وماذا يعرفون من دينه وسننه وأحكامه وماذا يجهلون؟. وما الموجود في حياتنا من الدين، وما الذي فقدناه؟. ألا يستحي العباد من الرب، الذي يرزقهم ويعافيهم وهم يعصونه؟. ألا يخافون من القادر الذي لا يعجزه شيء وهم يبارزونه بالمعاصي؟: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. إن حقه تبارك وتعالى أن يطاع فلا يعصى .. ويذكر فلا ينسى .. ويشكر فلا يكفر .. ويعبد وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله. فهو سبحانه الخالق الذي خلق كل شيء، وكما أنه المتفرد بالخلق وحده، فكذلك هو المستحق للعبادة وحده دون سواه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22]. والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} ... [البقرة: 29]. وهو سبحانه الذي خلق البشر: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان: 10]. وهو سبحانه الخالق المصور: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]. وهو سبحانه السميع البصير بأحوال عباده: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ

مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} ... [الأنعام: 60]. والله جل جلاله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)} [الأنعام: 95]. والله سبحانه: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 96]. وهو سبحانه الذي خلق البشرية كلها من نفس واحدة: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} ... [الأنعام: 98]. وهو سبحانه الذي جعل النجوم هداية للعباد: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} [الأنعام: 97]. وهو سبحانه الذي أنزل الماء من السماء فأخرج به من كل الثمرات: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} ... [الأنعام: 99]. والله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} ... [يونس: 5]. والله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)} [يونس: 67]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي رزق عباده الأزواج والأولاد: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)} [النحل: 72]. وهو سبحانه الذي خلقنا ثم أخرجنا من بطون الأمهات بعد أن أحسن خلقنا

وأكمله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. والله سبحانه هو الذي خلق الأرض وبسطها ومدها كيف شاء: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3]. وهو سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} ... [الرعد: 2]. وهو سبحانه الذي أنعم على عباده بالدور والقصور وغيرها من النعم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80، 81]. وهو سبحانه الذي يدبر الكون بما يصلح أحوال العباد: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} [الفرقان: 47]. وهو الكريم الذي سخر الليل والنهار لعباده، فلا يجتمعان ولا يرتفعان أبداً: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وهو الخلاق العليم القدير الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} [الروم: 54]. وهو سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس: 80].

وهو: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)} [غافر: 64]. وهو: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} [غافر: 79 - 81]. وهو سبحانه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: 11، 12]. وهو سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك: 2]. وهو سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: 3، 4]. والله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23]. والله عزَّ وجلَّ هو: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} ... [الأنعام: 1]. والله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2]. وهو سبحانه العليم بكل شيء: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)} [الأنعام: 3]. والله جل جلاله هو الذي: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} [النحل: 4 - 7]. والله سبحانه هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق جميع الدواب التي تدب على وجه الأرض من الماء: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]. وهو سبحانه الذي خلق جميع البشر من الماء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)} [الفرقان: 54]. وهو سبحانه الذي: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 10، 11]. والله سبحانه هو: {الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36]. وهو سبحانه العليم القدير الذي خلق كل شيء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} ... [الطلاق: 12]. وهو سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 2 - 4]. وهو سبحانه الذي خلقنا ورزقنا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40].

وهو سبحانه الذي خلق البشر، وبثهم في أقطار الأرض: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)} [المؤمنون: 79]. وهو سبحانه: {الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} [المؤمنون: 80]. وهو سبحانه الملك الذي: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: 12]. وهو سبحانه: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]. وهو سبحانه: {الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} [الشورى: 28]. والله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: 6]. وهو سبحانه مالك الملك: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)} [الأنعام: 13]. وهو سبحانه العليم، الذي لا يخفى عليه شيء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. والله جل جلاله قادر على كل شئ: {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65]. وهو سبحانه الذي استخلف الناس في الأرض، وسخر لهم ما فيها، وابتلاهم لينظر كيف يعملون: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]. وهو سبحانه الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الموتى من قبورهم، ثم

يجازيهم بأعمالهم: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]. والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، الذي خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3]. والله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)} [يونس: 67]. وهو سبحانه الهادي الكريم الذي يدعو عباده إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25]. والله عزَّ وجلَّ عالم الغيب والشهادة، وجميع مقاليد الأمور بيده: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123]. والله جل جلاله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)} [الرعد: 12]. وهو سبحانه القوي ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي يسبح له ما في السموات وما في الأرض: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} [الرعد: 13]. وهو سبحانه الذي جعل البروج في السماء وزينها للناظرين: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)} [الحجر: 16 - 18]. وهو سبحانه الذي خلق الأرض وأرساها بالجبال، وأنبت فيها من كل شيء:

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} [الحجر: 19 - 20]. وهو سبحانه الذي عنده خزائن كل شيء، ويتصرف في كل شيء: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. والله سبحانه هو الذي خلق الماء وأنزله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10 - 11]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي سخر لعباده ما في السموات وما في الأرض: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وسخر لنا ما في السماء: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} ... [النحل: 12]. وسخر لنا ما في الأرض: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)} ... [النحل: 13]. وهو سبحانه الذي سخر البحر، وجعل فيه من النعم والمنافع ما لا يحصيه إلا هو، وما لا يعلمه إلا هو: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} ... [النحل: 14]. وهو سبحانه الذي انفرد بإعطاء العباد ما يحبون، وصرف عنهم ما يكرهون، أفلا يعبدونه ويطيعونه ويتقونه ويشكرونه؟: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 52، 53]. وهو القدير الحكيم العليم الذي جعل الليل والنهار آيتين: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12]. وهو سبحانه الذي يعلم جميع ما يفعله العباد، وحفظ ذلك كله في كتاب: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 13، 14]. وهو سبحانه القادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء من الكائنات، ولا يفلت من عذابه أحد من الجبابرة والطغاة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} ... [الإسراء: 16]. وهو سبحانه الباقي، وما سواه فان: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]. والله عزَّ وجلَّ هو العظيم الحليم الذي: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. وهو سبحانه العظيم الكريم الرحيم، المستحق للعبادة وحده دون سواه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19، 20]. والله جل جلاله هو القادر على كل شيء، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، والسموات والأرض في يده أصغر من الخردلة: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء: 104]. وهو سبحانه الذي يخلق ما يشاء، ويختار ما يشاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]. والله سبحانه هو الذي له الحمد في الدنيا والآخرة: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ

الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} ... [القصص: 70]. والله عزَّ وجلَّ هو العليم بما في صدور العالمين: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)} [القصص: 69]. وهو جلَّ جلاله الذي: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} ... [السجدة: 5، 6]. وهو سبحانه الذي: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} ... [سبأ: 2]. وهو سبحانه خالق كل شيء، العليم بكل شيء، خلق آدم من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، وعلم أحوال العباد قبل خلقهم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)} [فاطر: 11]. وهو سبحانه القادر الذي: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} [فاطر: 13]. وهو سبحانه القوي الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} ... [فاطر: 41]. وهو سبحانه الذي خلق السموات والأرض بالحق ليعرف، وليأمرالعباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} [الزمر: 4، 5]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق كل شيء، خلق البشرية كلها من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وأنزل رزقها، وأوصله إليها: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ

مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 6]. وهو سبحانه التواب الذي يتوب على من يشاء من عباده: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25]. وهو سبحانه الكريم الرؤوف الرحيم، الذي ينزل الغيث فيحيي به البلاد، ويسقي به العباد: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} [الشورى: 28]. والله سبحانه هو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} [الزخرف: 10]. وهو سبحانه خالق كل شيء: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 12 - 14]. وهو سبحانه الحكيم العليم الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لتستعد لطاعة الله، وامتثال أوامره، ويزيد إيمانهم ويقينهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. والله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]. وهو سبحانه القوي الذي يأخذ المجرمين بالعذاب: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. وهو سبحانه الذي يؤخر عذاب من شاء بحكمته: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} [إبراهيم: 42].

وهو سبحانه الذي يأتي بالخلائق كلهم يوم القيامة: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]. وهو سبحانه الذي يفضل من يشاء، ويكلم من يشاء: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. وهو سبحانه الذي يختم على قلوب الكفار المعاندين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 7]. وهو سبحانه الذي يستهزئ بمن استهزأ بأوليائه من المنافقين والكافرين: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} ... [البقرة: 15]. وهو سبحانه الذي يمكر بمن مكر بأوليائه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. وهو سبحانه الذي يخادع من خادعه من المنافقين، الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيتركهم يسعون لما فيه هلاكهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. وهو سبحانه الذي يكيد بمن كاد أولياءه كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 15 - 17]. وهو سبحانه الذي يرضى عن عباده المؤمنين: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} ... [الفتح: 18]. وهو سبحانه الذي يرضى على من أطاعه، ويسخط على من عصاه كما قال سبحانه: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 162، 163]. وهو سبحانه الذي يضحك كما يليق بجلاله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ

الْجَنَّةَ»، فَقَالُوا: كَيْفَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ فَيُسْتَشْهَد» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الذي يعجب كما يليق بجلاله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِبَ اللهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ» أخرجه البخاري (¬2). فسبحان الملك العظيم .. رب السموات والأرضين .. الكامل في ذاته .. الكامل في أسمائه .. الكامل في صفاته .. اختص وحده بالأسماء الحسنى والصفات العلى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2826)، ومسلم برقم (1890) واللفظ له. (¬2) أخرجه البخاري برقم (3010).

9 - فقه أحكام الأسماء والصفات

9 - فقه أحكام الأسماء والصفات قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} ... [الأعراف: 180]. الإيمان بأسماء الله وصفاته أحد أركان الإيمان بالله، بل هو أعظمها، وتوحيد الله بها أحد أقسام التوحيد، ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الأكمل، حتى يكون على علم بأسماء الله وصفاته، ليعبد ربه على بصيرة، ويدعوه بأسمائه الحسنى التي أمره أن يدعوه بها: إما دعاء مسألة، بأن يقدم بين يدي مطلوبه من أسماء الله ما يناسب حاله كأن يقول: يا رزاق ارزقني، أو يا رحمن ارحمني ونحوهما. وإما دعاء عبادة، بأن تعبد الله سبحانه بمقتضى أسمائه، فتقوم بالتوبة إليه، لأنه هو التواب، وتتعبد له بجوارحك، لأنه البصير، وتذكره بلسانك، لأنه السميع، وتخشاه في السر، لأنه اللطيف الخبير، وهكذا في بقية الأسماء. وأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وهي بالغة في الحسن غايته، وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه. فالحي من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والسمع والبصر والقوة والقدرة وغيرها من صفات الكمال. والعليم من أسماء الله سبحانه، متضمن للعلم الكامل، الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، العلم الواسع الشامل، المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه كما قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي

ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. وقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)} ... [التغابن: 4]. وأسماء الله عزَّ وجلَّ أعلام وأوصاف .. فهي أعلام باعتبار دلالتها على مسمى واحد وهو الله عزَّ وجلَّ .. وهي أوصاف باعتبار ما دلت عليه من الصفات المختلفة الجامعة لصفات الكمال والجلال والجمال. فهي بالاعتبار الأول مترادفة، لدلالتها على مسمى واحد وهو الله. وهي بالاعتبار الثاني متباينة، لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص. فالعليم والقدير والرحيم والسميع والبصير والعزيز والحكيم، كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه، لكن معنى العليم غير معنى القدير، ومعنى السميع غير معنى البصير، وهكذا. ومثل هذا أسماء كتاب الله، واسماء رسله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء الجنة، وأسماء النار، فلكل عدة أسماء باعتبار الصفات، ومسماها واحد باعتبار الذات. وأسماء الله عزَّ وجلَّ توقيفية، فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، وقول على الله بلا علم، وذلك من أعظم الذنوب، فيجب الحذر منه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) [الإٍسراء: 36]. وأسماء الله جل جلاله غير محصورة بعدد .. لا يعلمها إلا الله .. منها ما سمى الله به نفسه .. وأنزله في كتابه .. أو علمه أحداً من خلقه .. ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده. وأسماء الله تبارك وتعالى إن دلت على وصف متعد تضمنت ثلاثة أمور: الأول: ثبوت ذلك الاسم لله سبحانه.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله سبحانه. الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها. فالسميع مثلاً، يتضمن إثبات السميع اسماً لله عزَّ وجلَّ. وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع جميع الأصوات، ويسمع السر والنجوى كما قال سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]. أما إن دل الاسم على وصف غير متعد فيتضمن أمرين: الأول: ثبوت ذلك الاسم لله تعالى. الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها الاسم لله تعالى. فالحي مثلاً، يتضمن إثبات الحي اسماً لله عزَّ وجلَّ، ويتضمن إثبات الحياة صفة له، كما قال سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} ... [غافر: 65]. وكما أنه سبحانه مختص بالعبادة وحده، فكذلك هو مختص بالأسماء الحسنى وحده، فلا يجوز الإلحاد في أسماء الله تعالى، وهو الميل بها عما يجب فيها. والإلحاد بجميع أنواعه محرم، لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180]. والصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: صفات كمال مطلق كالقوة والعزة ونحوهما، فهذه ثابتة لله وحده. الثاني: صفات كمال مقيد كالخداع والمكر والكيد، وهذه لا يوصف الله بها إلا بقيد، فنقول الله يمكر بالماكرين، ويستهزئ بالمنافقين، ويخادع من خادعه، ويكيد لمن كاد أولياءه. الثالث: صفات نقص مطلق كالعجز والخيانة ونحوهما، فهذه لا يوصف الله بها، لأنها نقص على الإطلاق.

وصفات الله تبارك وتعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة، والعزة، والقدرة، والعلم، والسمع، والبصر، والرحمة، والعظمة وغيرها من صفات الكمال والجلال والجمال. وإذا كانت الصفة نقصاً لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان والعجز، والعمى والصمم ونحوها. كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. وقوله سبحانه: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]. وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتعالى جَدُّه» متفق عليه (¬1). وقد نزه الله نفسه عما يصفه به الجاهلون من النقائص فقال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]. وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصاً في حال، فلها حكمان: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً، وذلك كالكيد والمكر، والاستهزاء والخداع ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابل من يعاملون الفاعل بمثلها، وتكون نقصاً ومذمومة في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها. فالمكر كقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. والكيد كقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 15، 16]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704).

والاستهزاء كقوله عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 14، 15]. والخداع كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، فالعليم متضمن للعلم، والعزيز متضمن للعزة، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله سبحانه لا منتهى لها، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]. ومن صفات الله التي يوصف بها ولا يسمى بها المجيء والإتيان، والنزول والكلام، والأخذ والإمساك، والبطش والإرادة، وغير ذلك من الصفات التي لا تحصى. فالمجيء كقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]. والإتيان كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. والنزول كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ! وَمَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). والكلام كقوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]. والأخذ كقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 11]. والإمساك كقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. والبطش كقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} [البروج: 12]. والإرادة كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758) واللفظ له.

فنصف الله بما وصف به نفسه من غير تكييف ولا نسميه به، فلا نقول من أسمائه الجائي والآتي والنازل وهكذا البقية، وإن كنا نخبر بذلك عنه، ونصفه به على ما يليق بجلاله. وصفات الله تبارك وتعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية .. وصفات سلبية. فالصفات الثبوتية: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة والعلم، والقدرة والرحمة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، والمجيء لفصل القضاء، والعين والوجه واليدين ونحو ذلك. فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به، لأن الله أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وهو أصدق قيلاً، فيجب قبول ما جاء عن الله بلا تردد، وكذا ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عزَّ وجلَّ يجب قبوله، فهو أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبراً، وأنصحهم إرادة. والصفات السلبية: هي ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم، والعجز والتعب، والجهل والنسيان، والغفلة والظلم، ونحو ذلك من صفات النقص التي يجب نفيها عن الله عزَّ وجلَّ، وإثبات ضدها على الوجه الأكمل. وكل ما نفاه الله عن نفسه، فالمراد به إثبات كمال ضده، كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. فنفي الموت عنه سبحانه يتضمن كمال حياته، ونفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله كما قال سبحانه: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]. والصفات الثبوتية لله جلَّ جلاله صفات مدح وكمال، وكذا الصفات السلبية، لكن الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية التي لم تذكر غالباً إلا لبيان عموم كماله سبحانه كما قال عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. أودفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بأمر معين كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق:38]. وصفات الله عزَّ وجلَّ من الأمور الغيبية التي يجب على العبد أن يؤمن بها على ما جاءت، إذ لا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن، وإذا كان نعيم الجنة، أو الروح كلاهما موصوف بصفات معلومة المعنى، ولا تعلم حقيقتهما، فكيف بالخالق جل جلاله. وصفات الله تبارك وتعالى نوعان: صفات ذاتية .. وصفات فعلية. فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها، وهي ملازمة للذات لا تنفك عنها أبداً، وهي نوعان: معنوية .. وخبرية. فالمعنوية كالحياة والعلم، والقدرة والحكمة، والعزة والغنى، وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. والخبرية مثل الوجه واليدين والعينين والقدمين، وما أشبه ذلك. فهذه الصفات الذاتية، المعنوية والخبرية كلها ملازمة للذات لا تنفك عنها. أما الصفات الفعلية، فهي الصفات المتعلقة بمشيءته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وهي نوعان: صفات لها سبب معلوم مثل الرضا والسخط، والحب والكره، ونحو ذلك، فالله عزَّ وجلَّ إذا وجد سبب المرض رضي كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. وإذا وجد سبب السخط من أحد سخط الله عليه كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 28].

وصفات ليس لها سبب معلوم كالنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيءته، يتكلم متى شاء، بما شاء كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وكل صفة تعلقت بمشيءته فإنها تابعة لحكمته، سواء أدركنا الحكمة أو جهلناها، لكننا نعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ لا يشاء شيءاً إلا وهو موافق للحكمة كما يشير إليه قوله سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} ... [الإنسان: 30]. وأسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته توقيفية لا مجال للعقل فيها، فلا نثبت لله تعالى من الأسماء والصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، فنثبت لله من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله، إثباتاً يليق بجلاله بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل. فأسماء الله وصفاته لا يماثلها شيء من أسماء المخلوقين وصفاتهم، وكما لا نعلم كيفية ذاته عزَّ وجلَّ، فكذلك لا نعلم كيفية أسمائه وصفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ... [الشورى: 11]. ولا علم لأحد بكيفية صفات الله عزَّ وجلَّ، لأنه عزَّ وجلَّ أخبرنا بها، ولم يخبرنا عن كيفيتها. فيجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان، أو كلاماً باللسان، أو تحريراً بالبنان ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).

كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4]. والله عزَّ وجلَّ هو الملك الذي له ملك السموات والأرض، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وأسماؤه وصفاته لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها. وأسماء الله وصفاته وأفعاله مطلقة في الكمال والحسن، لا تتناهى ولا تنقطع بآخر، ولا تحد بأول، كعلمه ورحمته وقدرته وسائر صفاته. فسبحان الملك الحق، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. وكيفية الشيء لا تدرك إلا بمشاهدته .. أو مشاهدة نظيره .. أو خبر الصادق عنه. فالله أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، وأخبرنا أنه ينزل إلى السماء الدنيا، ولم يخبرنا كيف ينزل، وأخبرنا أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، ولم يخبرنا كيف يجيء، وأسماء الله وصفاته ثابتة ومعلومة، ولها كيفية، ولكننا لا نعلم كيفيتها، فما من موجود إلا وله كيفية، وكما لا نعلم ذاته سبحانه، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته. فيجب الحذر من القول على الله بلا علم كما قال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وما يجري صفةً أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولنا: ذات وموجود وشيء. الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم والقدير والسميع. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله سبحانه نحو الخالق والرازق. الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتاً

كالقدوس والسلام. الخامس: الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة نحو المجيد، والعظيم والصمد والرب، فهذه الأسماء تدل على من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال. السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين أو الوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، أو العزيز الحكيم، أو العفو الغفور ونحو ذلك. فالغنى صفة كمال، والحمد صفة كمال، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله سبحانه ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وهكذا في باقي الأسماء. ولا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيداً، أن يشتق له منه اسم مطلق كما ورد في القرآن لفظ (يضل ويمكر وفتنا) ونحوها. فهذه أفعال مخصوصة لا يجوز أن يطلق منها أسماء على الرب كالمضل والماكر والفاتن، فأسماء الله توقيفية وصفاته كذلك. أما الاسم إذا أطلق عليه كالسميع والبصير، فيجوز أن يشتق منه المصدر كالسمع والبصر، والفعل نحو سمع، ويسمع. وأفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم. فالرب سبحانه وتعالى فعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتقت الأسماء للمخلوق بعد أن كمل بالفعل. أما الرب فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، ولم يزل كاملاً، فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته. فأفعاله كلها صادرة عن كماله، كمل سبحانه ففعل كل شيء، والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به.

وما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلا. وأسماء الله عزَّ وجلَّ منها ما يطلق عليه مفرداً، أومقترناً بغيره، وهو غالب الأسماء كالعزيز والحكيم، والسميع والبصير، والعفو والغفور، فتقول مثلاً سبحان العزيز، أو سبحان العزيز الحكيم. ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقروناً بمقابله كالمعطي المانع، والنافع الضار، والمعز المذل ونحوها. فهذه أسماء مزدوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد، لأنه يراد بها المتفرد بالربوبية، وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاءً ومنعاً، نفعاً وضراً، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة. وقد تجلى الله تبارك وتعالى في كتابه لعباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا: فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة، والجلال والجبروت، فتخضع الأعناق، وتنكسر كبرياء النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء. وتارة يتجلى سبحانه بصفات الجمال والكمال، وهو جمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، الدال على كمال الذات، فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من ذلك، فيصبح فؤاده فارغاً إلا من محبة الله، وتصير المحبة له طبعاً لا تكلفاً. وإذا تجلى سبحانه بصفات البر والرحمة، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وانشرح صدره، وقوي طمعه، وكلما قوي الرجاء جد في العمل، وتلذذ به، وأكثر منه. وإذا تجلى عزَّ وجلَّ بصفات السمع والبصر، انبعثت من العبد قوة الحياء،

فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في نفسه ما يمقته عليه ربه. فتبقى أقواله وأفعاله، وحركاته وخواطره، موزونة بميزان الشرع، غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلى جل جلاله بصفات العدل والانتقام، والغضب والسخط، والعقوبة والتدمير، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها، من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرمات، وأخذت حظها من الخوف والخشية والحذر. وإذا تجلى سبحانه بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه، وحمايته لهم، انبعثت من الصدر قوة التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، والرضى به، والتسليم له. وإذا تجلى الجبار بصفات العز والكبرياء، ذلت النفس لعظمته، وانكسرت لعزته، وخضعت لكبريائه، وخشع القلب له، وانقادت الجوارح لطاعته، فتعلوه السكينة والوقار والطمأنينة، ويذهب طيشه وحدته. والله حكيم عليم، يتعرف إلى العباد بصفات الربوبية تارة، وبصفات الإلهية تارة. فيوجب للعبد شهود صفات الإلهية محبة الله، والأنس والفرح به، والشوق إلى لقائه، والمنافسة في قربه، والسرور بخدمته، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه. ويوجب له شهود صفات الربوبية تعظيم الرب، وحسن التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع له، والانكسار له. وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في قضائه وقدره .. ونعمته في بلائه .. وعطاءه في منعه .. وعدله في انتقامه .. وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه .. وبره ولطفه .. وإحسانه ورحمته في قيوميته .. ويشهد حكمته في تدبيره .. ونعمته في

أمره ونهيه .. وعزه في رضاه وغضبه .. وحلمه في إمهاله. فما أعظم الخالق الذي خلق المخلوقات، الحكيم الذي يدبر الكون حسب مشيءته، العظيم الذي خلق هذا الكون العظيم، وله ما في السموات وما في الأرض، وهو العزيز الحكيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. وإذا تأملت القرآن وتدبرته أشهدك ملكاً قيوماً، علياً عظيماً، قوياً عزيزاً، له العزة والكبرياء، وله الجبروت والملكوت، فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر الخلائق كلها في العالم العلوي، وفي العالم السفلي: يأمر وينهى .. ويقضي ويحكم .. ويرسل الرسل .. وينزل الكتب .. ويرضى ويغضب .. ويثيب ويعاقب .. ويعز ويذل .. ويخفض ويرفع .. ويعطي ويمنع .. ويرى ويسمع .. فعال لما يريد .. موصوف بكل كمال .. لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه .. ولا تسقط ورقة إلا بعلمه .. ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه .. بيده الملك وهو على كل شيء قدير: يخلق ويرزق .. ويحيي ويميت .. ويكرم ويهين .. الخلق والأمر له .. والكون كله له .. والأمور كلها بيده .. ومصدرها منه .. ومردها إليه .. يثني على نفسه .. ويمجد نفسه .. ويحمد نفسه .. ويثني على عباده .. ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم .. ويرغبهم فيه .. ويحذرهم مما فيه هلاكهم .. ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته .. ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه .. ويذكرهم بنعمه .. ويحذرهم من نقمه .. ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه .. وما أعده من العقوبة إن عصوه .. ويخبرهم بما فعله بأوليائه وأعدائه، وعاقبة هؤلاء وهؤلاء. وإذا شهدت القلوب ملكاً هذا شأنه، وهذه عظمته، وهذه آلاؤه ونعمه، وهذا إحسانه، وهذا جماله، فكيف لا تحبه، ولا تنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه؟.

وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وقد خلق الله الإنسان في ظاهره وباطنه في أحسن تقويم، وجعله كالمرآة العاكسة لتجليات الأسماء الحسنى، فهو مرآة لها. ويظهر ذلك كما يلي: أولاً: كما أن الظلام سبب لرؤية النور، فكذلك الإنسان يعرف بجهله وضعفه، وعجزه وفقره، وحاجته وقصوره، يعرف بذلك قدرة القدير وقوته، وعلمه وغناه، ورحمته سبحانه. ثانياً: أن ما وهب الله الإنسان من العلم والقدرة، والسمع والبصر، والملك والحكمة، وغيرها من الصفات الجزئية، يعرف منها الصفات المطلقة الكلية لله سبحانه، ويعلم أن لهذا الكون العظيم ملكاً عظيماً، يعلم ما فيه، ويدبره، ويسمع كل صوت فيه، ويبصر كل صغيرة فيه. ثالثاً: وكذلك الإنسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، من حيث ظهور نقوشها الظاهرة عليه، فيعرف من كونه مخلوقاً اسم الخالق، ويظهر من حسن تقويمه اسم الرحمن الرحيم، ومن حيث تربيته اسم اللطيف الكريم. وهكذا في بقية الأسماء. والله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فصفاته سبحانه كاملة، وصفاتنا ناقصة، وهو منزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فعلمه سبحانه ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق كله نقص، نقص في ابتدائه، لأنه مسبوق بجهل، ونقص في غايته، لأنه يلحقه النسيان، ونقص في شموله، لأنه قاصر لا يعلم كل شيء، وهكذا في بقية الصفات الذاتية. وهو سبحانه منزه أن تكون صفاته الفعلية كصفات المخلوقين كالاستواء على

العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء لفصل القضاء، والرضى والغضب وغيرها. فتشبيه الخالق بالمخلوق نقص، لأن تسوية الكامل بالناقص تجعله ناقصاً، والله منزه عن ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ... [الشورى: 11]. وإذا أظهر الله صفات الجلال كالجبار والقهار مع عبد أو أَمَة، فذلك لتربيته، فالله أرحم بنا من أنفسنا. وإذا أظهر المولى الكريم صفات الجمال كالكريم والرحيم واللطيف على عبد أو أَمة فذلك لتربيته كذلك. والإيمان بأسماء الله وصفاته ليس له حد ولا نهاية، فلو أعطي الرجل أعمار المخلوقات كلها من الجن والإنس والملائكة، والسموات والأرض ومن فيهن، وصرف ذلك في معرفة الله وأسمائه وصفاته والإيمان به، لانتهت تلك الأعمار، وما انتهى بحر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته. وإذا كانت الأشجار والبحار تفنى وتنتهي ولما تحيط بكلمات الله، وهي صفة واحدة من صفاته، فكيف ببقية الصفات الأخرى؟: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]. والله جل جلاله له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فالسلام من أسماء الله الحسنى، فهو السلام الحق بكل اعتبار، فهو سبحانه سلام في ذاته من كل عيب ونقص. وسلام في صفاته من كل عيب ونقص. وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص، وشر وظلم. فهو السلام من الصاحب والولد، وهو السلام من النظير والكفء والسمي والمماثل والشريك.

وكل صفة من صفاته سلام مما يضاد كمالها. فحياته سبحانه سلام من السنة والنوم والموت. وقيوميته سلام من التعب واللغوب. وقدرته سلام من العجز والتعب. وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان له. وغناه سلام من الحاجة إلى غيره، فكل ما سواه محتاج إليه، وهو غني عن كل ما سواه. وملكه سلام من منازع فيه، أو مشارك له، أو معاون له. وحلمه وعفوه، ومغفرته وصفحه سلام من أن يكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه. وعذابه وانتقامه وبطشه سلام من أن يكون ظلماً أو تشفياً، أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ورحمته. وقضاؤه وقدره سبحانه سلام من العبث والجور والظلم. ودينه وشرعه سلام من العبث والنقص، والجور والظلم. وهكذا في باقي الأسماء والصفات. والسلام لله وصفاً وملكاً .. فهو السلام في ذاته .. وبيده السلام .. يسلم من شاء .. ويهلك من يشاء. والحمد لله وصفاً وملكاً .. فهو المحمود في ذاته .. وهو الذي يجعل من يشاء محموداً .. ومن يشاء مذموماً. والعزة لله وصفاً وملكاً .. فهو العزيز في ذاته .. وهو الرب الذي يعز من يشاء من عباده .. ويذل من يشاء. والرحمة كلها له سبحانه وصفاً وملكاً .. فهو الرحيم في ذاته .. وهو الذي يرحم من يشاء .. ويعذب من يشاء. والبركة كلها لله وصفاً وملكاً .. فهو المتبارك في ذاته .. وهو الذي يبارك فيمن

يشاء من خلقه .. وينزع البركة ممن يشاء من خلقه. والبركة نوعان: الأولى: بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، تارة يتعدى بنفسه، وتارة بعلى، وتارة بفي، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى كما قال سبحانه عن المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]. وقال عن كتابه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. الثانية: بركة تضاف إليه سبحانه كإضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عزَّ وجلَّ، فهو سبحانه المبارك، وعبده ورسوله المبارك. وأما صفته (تبارك) فمختصة به تعالى كما أخبر بها عن نفسه بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]. وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]. وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} [الفرقان: 61]. فالبركة كلها لله تعالى، والبركة منه، فهو المبارك جل جلاله، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا هو الذي جعل كتابه مباركاً، ورسوله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها مباركة، فليلة القدر مباركة، والمسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام مباركة. ومعنى تبارك تعاظم، الدال على العظمة، كتعالى الدال على العلو، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها، فمنه تأتي البركات كلها، وباسمه يتبارك كل شيء، وبيده الخير والرحمة والإحسان: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

ويجب على المسلم الإيمان بكل ما أخبر الله ورسوله به من أسماء الله وصفاته، سواء عرفنا معناه أم لم نعرفه، وهي صفات حقيقية لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه صفات المخلوقين، فالله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله. فعلى المسلم أن يثبت لله من الأسماء والصفات، ما أثبته الله ورسوله، وينفي عنه ما نفاه الله ورسوله. وفي الأحكام يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلق الله لكل شيء، المتضمن كمال قدرته، وعموم مشيءته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، وأمره في التصريف والتدبير لهذا الكون العظيم. فيثبت العبد جميع أسماء الله وصفاته إثباتاً يتبعه اليقين على الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعدم الالتفات إلى ما سواه. فالإنسان إذا شفي بالدواء، قال: شفاني الدواء، وإذا شفي بدون الدواء، قال شفاني الله، وهذا ليس بصحيح، فالشافي في الحالين واحد لا شريك له وهو الله. ولكن الله عزَّ وجلَّ ابتلاءً وامتحاناً للعباد: تارة يشفي بالأسباب .. وتارة بدون الأسباب .. وتارة بضد الأسباب .. إظهاراً لقدرته .. أو إنفاذاً لسنته .. فالله له قدرة، وله سنة هي الأسباب .. والأسباب مخلوقة مدبرة من القادر الذي لا يعجزه شيء. والأسباب يبتلى بها المؤمن، ويطمئن بها الكافر كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8]. ولا بد من النفي في أسماء الله وصفاته، فنثبت لله الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وننفي ذلك عما سواه. فالله سبحانه قوي وغيره ضعيف .. والله قوته كاملة فلا يعجزه شيء وغيره قوته

ناقصة .. والله قوته مطلقة وغيره قوته محدودة .. والله قوته أبدية لا تزول وغيره قوته حادثة تزول. والله غني وغيره فقير مهما ملك .. والله غناه كامل وغيره غناه ناقص .. والله غناه مطلق وغيره غناه محدود .. والله غناه أبدي لا يزول وغيره غناه يزول .. وهكذا في بقية الأسماء والصفات. وبهذا النفي والإثبات يقوى الإيمان، ويزيد اليقين على الله وأسمائه وصفاته، والتوكل عليه وحده، والتوجه إليه وحده، ويضعف اليقين على المخلوق العاجز المقهور. والله تبارك وتعالى واحد لا شريك له، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله. والله سبحانه موصوف في القرآن بالنفي والإثبات، إثبات ما يليق به من الأسماء والصفات، ونفي ما لا يليق به سبحانه، ووصفه بالإثبات أكثر. فالإثبات: كإخباره بأنه سبحانه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء محيط، وأنه سميع بصير، وأنه رؤوف رحيم، ونحو ذلك. والنفي: كإخباره سبحانه بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعزب عنه شيء، ولا يعجزه شيء، وليس كمثله شيء، وأنه لا تدركه الأبصار، وأنه لا يمسه لغوب ونحو ذلك. وصفات الله أوسع من أسمائه، وأفعاله أوسع من صفاته، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسمّ منها باسم الفاعل كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم نفسه بالمريد والشائي والمحدث، كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، وقد أخطأ من اشتق له من كل فعل اسماً له، فسماه الماكر والمخادع والفاتن والكائد. وكل اسم منقسم إلى كامل وناقص لا يدخل اسمه في أسمائه الحسنى كالشائي والمريد والمتكلم، فهو وإن كانت له الإرادة والمشيءة والكلام، لكنه لا يسمى

بالمريد ولا بالمتكلم ولا بالشائي، لانقسام تلك الأسماء. والخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق عزَّ وجلَّ، والمخلوق مفعوله. وأفعال الله عزَّ وجلَّ نوعان: متعد .. ولازم. فالفعل المتعدي: كالخلق والرزق والإعطاء. واللازم: مثل الاستواء والنزول والمجيء. كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} [السجدة: 4]. فذكر سبحانه الفعلين المتعدي واللازم وهما الخلق والاستواء، وكلاهما حاصل بمشيءته وقدرته، وهو متصف به. والمضاف إلى الله نوعان: أحدها: صفات لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، والكلام، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها كقولنا: قدرة الله، كلام الله. الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة، والعبد والرسول ونحوها، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكنها إضافة تقتضي التخصيص والتشريف كقولنا: رسول الله، بيت الله، ناقة الله. وأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وهي لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب دخول الجنة منها فقال: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلا وَاحِداً، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬1). ومعنى إحصاء أسماء الله، هو الإحاطة بها لفظاً، وفهمها معنىً، والتعبد لله بمقتضاها. ولا يتم الإيمان بأسماء الله إلا بثلاثة أمور: الإيمان بالاسم اسماً لله .. والإيمان بما تضمنه من صفة .. والإيمان بما تضمنه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7392)، ومسلم برقم (2677).

من أثر وحكم. فالعليم مثلاً من أسماء الله، فنؤمن بالعليم اسماً لله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء. ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ ما يختص به وحده مثل الله، الرحمن، رب العالمين ونحوها. ومنها ما لا يختص به وحده فيسمى به هو، ويسمى به غيره كما قال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2]. وقال سبحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} ... [التوبة: 128]. وأسماء الله عزَّ وجلَّ ثلاثة أقسام: الأول: ما سمى الله به نفسه، وأنزله في كتابه، فتعرف به إلى عباده. الثاني: ما سمى الله به نفسه، وأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه. الثالث: ما استأثر الله به وانفرد بعلمه من أسمائه وصفاته، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شيءاً لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي» متفق عليه (¬1). والله تبارك وتعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]. فهو سبحانه الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه. أحاطت أوليته وآخريته بالزمان كله، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بالمكان كله، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.

فهو سبحانه محيط بكل ظاهر وباطن، كما أنه محيط بالأوائل والأواخر. وأسماء الله الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها. فاسم (السميع والبصير) يقتضي مسموعاً ومبصراً. واسم (الرزاق والرحمن) يقتضي مرزوقاً ومرحوماً. واسم (التواب والغفور) يقتضي وجود عاص يتوب عليه، ومسيء يغفر له، وهكذا في بقية الأسماء. ولا بدَّ من ظهور أثر الأسماء في العالم: فإذا فرضنا أن الحيوان بجملته معدوماً، فمن يرزق الرازق سبحانه؟ وإذا كانت المعصية والخطيئة منتفية من العالم، فلمن يغفر الغفور؟ وعمن يعفو العفو؟ وعلى من يتوب التواب؟. وإذا فرضنا الفاقات كلها قد سدت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع؟، وأين الإجابة وشهود الفضل والمنة؟ والله عزَّ وجلَّ أجود الأجودين .. وأكرم الأكرمين .. وأرحم الراحمين .. سبقت رحمته غضبه .. وكتب على نفسه الرحمة .. يحب الإحسان والجود، والعطاء والبر. فالفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده، ويوسعهم فضلاً، ويغمرهم إحساناً وجوداً، ويتم عليهم نعمته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فهو سبحانه الجواد لذاته، وجود كل جواد من جوده. ومحبته سبحانه للجود والإعطاء والإحسان فوق ما يدور ببال الخلق .. وفرحه سبحانه بعطائه وجوده أشد من فرح الآخذ بما يعطاه .. ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وسروره وابتهاجه. والله تبارك وتعالى جميل في ذاته، وجميل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو جل جلاله الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، وجوده العالي من لوازم ذاته. والعفو أحب إليه من الانتقام .. والرحمة أحب إليه من العقوبة .. والفضل أحب

إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع. خلق الإنسان ومن عليه بالنعم، وفضله على غيره، وأنزل إليه كتبه، وأرسل إليه رسله، واعتنى به ولم يهمله، فهو يتقلب في نعمه في جميع أحواله. فإذا تعرض العبد لغضب ربه، وارتكب مساخطه وما يكرهه، وأبعد منه، ووالى عدوه وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه، فقد استدعى من الجواد الكريم الرحيم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإسخاطه وإغضابه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه. وبينما هو كذلك آبق شارد عن سيده ومولاه، منهمك في موافقة عدوه، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإن لم يقدم عليه بنفسه، قدم به عليه على أسوإِ الأحوال. ففر إلى سيده من بلد عدوه، ووقف ببابه خاشعاً متضرعاً يتملق سيده، ويسترحمه ويستعطفه، ويعتذر إليه، فعلم سيده ما في قلبه فرضي عنه ورحمه، وأبدله بالعقوبة عفواً، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلماً، وبالبطش رحمة. فلا تسأل عن فرح ربه به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً، ففتح له طريق البر والإحسان والجود، والتي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27، 28]. والإيمان بأسماء الله وصفاته معناه فهمها، والاعتراف بها، والتعبد لله بها، والعمل بمقتضاها، وهذا توحيد الأنبياء والمرسلين: فأوصاف العظمة والكبرياء والمجد والجلال تملأ القلب هيبة لله وتعظيماً له. وأوصاف العزة والقدرة والجبروت تجعل القلوب تخضع وتذل وتنكسر بين

يدي ربها. ومعرفة أوصاف البر والرحمة، والجود والكرم تملأ القلب رغبةً وطمعاً في فضل الله وإحسانه وجوده. ومعرفة أوصاف العلم والإحاطة توجب للعبد مراقبة الله في حركاته وسكناته، والحذر من معصيته، والحياء منه. ومعرفة مجموع هذه الصفات تملأ القلب محبة لله، وشوقاً إليه، وتعظيماً له، والتعبد والتقرب إلى الله بالأقوال والأفعال. وصفات الكمال ترجع إلى ثلاث صفات: العلم .. والقدرة .. والغنى. وهذه الثلاث لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فهو الذي أحاط بكل شيء علماً .. وهو على كل شيء قدير .. وهوالغني عن العالمين. وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]. وينال الناس من هذه الثلاث بقدر ما يعطيهم الله منها، والله سبحانه أعلم بمن يصلح لهذا أو ذاك أو ذلك، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو بعباده خبير بصير، حكيم يضع كل شئ في موضعه اللائق به. ومفعولات الرب المتنوعة دالة على إرادة الفاعل وقدرته، وعلمه وحكمته. وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى. وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته سبحانه. وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال على غضبه. وما فيها من التقريب والإكرام والعناية دال على محبته. وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته. وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف، ثم سوقه إلى تمامه

ونهايته، ثم موته، ثم حياته مرة أخرى دال على وقوع المعاد. وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات. وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة، دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها. فمفعولاته ومخلوقاته سبحانه من أدل شيء على صفاته، وصدق ما أخبرت به رسله عنه كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} ... [فصلت: 53]. والله تبارك وتعالى لكمال عظمته وكبريائه، وإحاطته بما سواه، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه واسع عليم، يُرى في الآخرة ولا يحاط به إدراكاً، فالمخلوق لا يحيط بالخالق وإن كان يراه كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 102، 103]. فسبحان الحي الذي ليس كمثله شيء في حياته. وسبحان القوي الذي ليس كمثله شيء في قوته. «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). ومخلوقات الله عزَّ وجلَّ دالة على ذاته وأسمائه وصفاته .. وأسماؤه وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به .. وما لا يفعله ولا يأمر به. فاسمه القوي يدل على أنه على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء. واسمه الغني يدل على كمال غناه، وأنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. واسمه الحميد يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر. واسمه الحكيم يدل على أنه لم يخلق شيئاً عبثاً. واسمه الملك يدل على ما يستلزم حقيقة الملك من قدرته، وحسن تدبيره ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (873)، صحيح سنن أبي داود رقم (776). وأخرجه النسائي برقم (1049)، صحيح سنن النسائي رقم (1004).

وعطائه ومنعه، وثوابه وعقابه، وبث رسله في أقطار مملكته، وإعلام عبيده بأوامره ومراسيمه، واستوائه على سرير مملكته، الذي هو عرشه المجيد. فسبحانه من ملك ما أعظمه .. ومن كريم ما أجوده .. ومن لطيف ما أرحمه. وله الحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله .. وعلى قضائه وقدره .. وعلى خلقه وأمره .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى آلائه ونعمه .. وعلى ثوابه وعقابه .. وعلى عدله وإحسانه: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37].

10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. وقال الله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 66]. وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22]. الله عزَّ وجلَّ له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، أنزل القرآن تبياناً لكل شيء، فله الملك كله، وله الحمد كله، وله العزة كلها، وهو الغفور الرحيم، يُطاع فيشكر، ويُعصى فيغفر، ويتوب على من استغفر، ويرحم إذا استرحم. ولا يصلح لولاية الرحمن من لم يتأدب بآداب القرآن، ولم يتعبد بصفات الرحمن حسب الإمكان. فالله سبحانه محسن أمر بالإحسان، رحمان أمر بالرحمة، عفو أمر بالعفو، غفور أمر بالمغفرة، جبار أمر بالجبر، حليم أمر بالحلم، عليم أمر بالعلم، شكور أمر بالشكر، سلام أمر بالسلام .. وهكذا في باقي الأسماء والصفات. فمن تعبد بصفاته صلح لولايته ورضوانه، وفاز بدار كرامته. فبالأبصار نرى آياته ومخلوقاته، وآلاءه ونعمه. وبالبصائر تشاهد القلوب ذاته وأسماءه وصفاته وإحسانه، فتعامله بما يليق بجلاله وجماله وإحسانه، ثم تأمر الجوارح بأن تعامله بما يليق بعظمته وكماله وعبوديته. فالقلوب بحضرته تعظمه .. والجوارح على أبواب القلوب توقره وتطيعه وتعبده .. والله يعلم ويسمع ويرى. فلا يصلح أحد منهم لموالاته إلا أن يتعبد بآدابه، ويتصف بصفاته، تذللاً بعبادته، ومحبةً لطاعته، وتجملاً بصفاته.

وأفضل العباد في ذلك أكرمهم عليه، وأقربهم إليه، وأحبهم إليه. وصفات الله عزَّ وجلَّ نوعان: صفات ذاتية كالحياة والعلم ونحوهما. وصفات فعلية كالخلق والرزق ونحوهما. والصفات الذاتية نوعان: أحدهما: ما لا يمكن التعبد به، وهما الحياة والقدرة، إذ لا يمكن اكتسابهما، لكن يجب حفظهما، وحفظ سائر منافع البدن وأعضائه، لنستعمل ذلك في طاعة الله ورضوانه. وثمرة معرفتهما: التوكل على الله سبحانه، والالتجاء إليه، وإجلاله ومهابته، ورجاء إنعامه، وخوف انتقامه. الثاني: ما يمكن التعبد به من سائر صفات الذات، فنتعبد بها على حسب الإمكان وهي: 1 - العلم: فالله بكل شيء عليم. والتعبد به: بأن تعرف ذات الله وأسماءه وصفاته، وأحكامه وأيامه، وحلاله وحرامه، وما يقربك إليه، وما يجعلك محبوباً لديه. وثمرة العلم بذلك: الخوف من مولاك، وحياؤك منه في أقوالك وأفعالك وسائر أحوالك، فإنه بكل شيء عليم. 2 - الإرادة: فالله مريد لكل شيء. والتعبد بها: يكون بأن نتعبد بكل إرادة حثنا الشرع عليها، وندب إليها كإرادة الطاعات كلها، والعبادات بأسرها، وإخلاص العمل، وإرادة التقرب به، خوفاً من عقاب الله، أو رجاء لثوابه، أو حياء منه، أو محبة له، أو مهابة له. وثمرة معرفة ذلك: الخوف والوجل الموجبان لاجتناب الزلل، وإصلاح العمل. 3 - السمع: فالله سميع عليم لا يخفى عليه شيء.

والتعبد به: يكون بأن نسمع كل ما فرض الله علينا سماعه أو ندب إليه كسماع كتابه وسنة رسوله، والعمل بموجبه. وثمرة معرفة سمع الله: خوفك وحياؤك ومهابتك أن يسمع منك ما زجرك عنه من الأقوال، واجتناب كل قول لا يجلب نفعاً، ولا يدفع ضراً. 4 - البصر: فالله بصير لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والتعبد به: يكون بالنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر للآيات الكونية، وعجائب المخلوقات نظر تدبر وتفكر، والنظر للآيات القرآنية والشرعية، وما فيها من الأحكام والعبر والسنن، والعمل بموجب ذلك. وثمرة معرفة بصره: خوفك منه، وحياؤك ومهابتك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. 5 - الكلام: فالله سبحانه يتكلم بما شاء في أي وقت شاء. والتعبد به: يكون بذكره وشكره، وتلاوة كتابه، وتعليم دينه وشرعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إليه. وثمرة معرفة كلام الله: معرفة ذاته وأسمائه وصفاته، ومعرفة أمره ونهيه، وما يحبه وما يكرهه. وأسماء الله وصفاته نوعان: أحدهما: ما لا يمكن التعبد به، لاختصاصه به سبحانه كالخالق والبارئ، والمصور والإله ونحو ذلك. الثاني: ما يمكن التعبد به حسب الإمكان، والناس فيه رتب ودرجات. وينبغي للعبد أن يقابل كل صفة من صفات الرب بأفضل ما يلائمها من المعاملات، فيقابل جلاله بأفضل المهابات، إذ لا جلال كجلاله، ويقابل جماله بأفضل المحبات إذ لا جمال كجماله. فإذا تعبدت بالإحسان، فأحسن إلى كل من تقدر على الإحسان إليه، بكل إحسان تقدر عليه، فإن قربك إلى مولاك على حسب ما تتعبد به من صفاته.

فالملك: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، والمُلك تصرف عام مقيد بالعدل والإحسان، في كل عطاء وحرمان، ونصر وخذلان، وخفض ورفع. والتعبد به لمن بلي به: يكون بتنفيذ أوامر الله عزَّ وجلَّ .. برفع من يستحق الرفع .. وخفض من يستحق الخفض .. وإكرام من يستحق الإكرام .. وإهانة من يستحق الإهانة .. وقهر من يستحق القهر .. وجبر من يستحق الجبر .. وإغاثة المكروب .. ونصر المظلوم .. وإطعام الجوعان .. وكسوة العريان .. وإعانة المحتاج. فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان من أهل البر والإحسان. والقدوس: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الطاهر من كل عيب ونقص. والتعبد به: يكون بالتطهر من كل دنس وحرام، ومن كل مكروه ومشتبه، ومن كل فضل مباح شاغل عن الله سبحانه. والسلام: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، إن أُخذ من السلامة من الآفات فلا تعبد به، لعدم إمكان ذلك، وإن أُخذ من تسليمه على عباده، فعليك بإفشاء السلام، وإن أُخذ من الذي سلم عباده من ظلمه، فالتعبد به يكون بأن يسلم الناس من ظلمك وغشك، وضررك وشرك، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. والمؤمن: من أسماء الله تبارك وتعالى. والتعبد به: يكون بأن تظهر من برك وخيرك ما يأمن الناس به من شرك وضيرك، وأن تسعى لعباد الله في كل أمن. والمهيمن: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بأن تقوم بالشهادة في كل ما نفع وضر، وساء وسر. والجبار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: إن أخذ من الجبر والإصلاح. فالتعبد به أن تعامل عباده بكل خير وإصلاح تقدر عليه أو تصل إليه.

والمتكبر: من أسماء الله جل جلاله. والتعبد به: إن أُخذ من تكبره على النقائص والآفات فهو كالقدوس، فتكبر عن كل خلق دنيء، ومظهر بذيء. والرؤوف الرحيم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد بهما: يكون برحمة كل من قدرت على رحمته، بأنواع ما تقدر عليه من الرأفة والرحمة، حتى تنتهي رحمتك إلى الذر والذباب والبهائم، ففي كل كبد رطبة أجر. والغفار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بستر عيوب الناس، وغفر ذنوبهم، والصفح عنهم. والحليم: من أسماء الله تبارك وتعالى. والتعبد به: أن تحلم عن كل من آذاك أو ظلمك وسبك وشتمك، فإن مولاك صبور حليم، بر كريم، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. والتعبد بالصبر: أن تصبر على أذية المؤذين، وإساءة المسيئين، فإن الله يحب الصابرين، فكن منهم لتفوز بثواب الصابرين. والعفو: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بأن تعفو عن كل من جنى عليك، أو أساء إليك، فإن الله يحب العافين عن الناس فكن منهم. والمحسن: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: أن تحسن إلى الخلق بما تستطيع، كما أحسن الله إليك بكل خير. والتعبد بصفة الإنعام: أن تنعم على الخلق كما أنعم الله عليك. وعليك بالبر الجزيل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، والهجر الجميل، ونحو ذلك من صفات الملك الجليل. فصل من قطعك .. وأعط من حرمك .. واعف عمن ظلمك .. واصبر على من شتمك .. وأحسن إلى من أساء إليك.

والقيوم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بإحسان تدبير من اعتمد بعد الله عليك، أو فوض الله أمره إليك، بإحسان رعايته، والقيام بمصالحه، وقضاء حوائجه. والقهار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي يقهر عباده على تنفيذ مراده. والتعبد به: بأن تقهر نفسك عن كل شر، وتقهر عدوك عن الظلم، وتقهر نفسك عن كل قاطع يقطعك عن طاعة مولاك، وإصلاح أُخراك. وثمرة معرفته: الخوف الشامل، والوجل الكامل. والتعبد بصفة الانتقام لمن ابتلي بشيء من الولايات، بالانتقام من الجناة والبغاة بالحدود والتعزيرات، والعقوبات المشروعات. والتعبد بصفة العدل: أن يعدل فيما حكم به، مسوياً في حكمه بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، وأن ينصف في وصله وقطعه، وبذله ومنعه. والتعبد بصفة الفتح: أن يعدل في جميع أحواله، ويبذل ما يقدر عليه من الأرزاق في رضا الخلاق. والتعبد بصفة اللطف: يكون بخوفك ومهابتك وحيائك ممن لا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه شيء. والتعبد بصفة الرفق: يكون بالرفق بكل من أمرت بالتعامل معه من إنسان وحيوان، والرفق بنفسك أن تضل أو تزل أو تهلك، والرفق في كل عمل تؤديه. والتعبد بصفة الشكر: يكون بطاعة الله، وشكره على نعمه، وشكر كل من أحسن إليك في جلب خير، أو دفع شر. والغني: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بأن تغني كل محتاج بما تقدر عليه من علم ومال وغيرهما، فتذكر الغافل، وتعلم الجاهل، وتطعم الجائع، وتواسي المحتاج، وتحلم على السفيه.

والحفيظ: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بحفظ ما أمرت به من الطاعات والأمانات والعهود. والمقيت: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بإقاتة كل محتاج تقدر على نفعه من قريب أو بعيد، أو قادر أو عاجز، مقدماً الأقرب فالأقرب، فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت. والحكيم: من أسماء الله سبحانه. إن أُخذ من الحكمة فثمرة معرفته المهابة والإجلال. والتعبد به: بمعرفة حكم الكتاب والسنة. وإن أخذ من الإحكام والإتقان، فثمرة معرفته إجلال من عمت الأشياء حكمته. والتعبد به: بإتقان أحوالك وأقوالك وأفعالك فيما يصلحك في عاجلك وآجلك. والودود: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بوداد مولاك، ومودة رسله، والصالحين من عباده. والقوي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. وثمرة معرفة قوة الله: مهابته وإجلاله، والاعتماد عليه. والتعبد به: بأن تكون قوياً في دينك، قوياً شديداً على أعداء الدين، ملياً بطاعة مولاك، قوياً في تنفيذ أوامره. والتواب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: بأن تحث المسيء على التوبة، وتقبل عذر من أساء إليك، وندم على جرأته عليك. والولي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. وثمرة معرفته: الاعتماد على تدبيره، والرضا بتقديره. والتعبد بذلك لمن بلي بولاية: أن يجهد لمن تولي عليه، وينصح له بجلب ما يقدر عليه من المصالح، ودفع ما يقدر عليه من المفاسد.

والبر: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. وثمرة معرفته: رجاء أنواع بره وإحسانه. والتعبد به: بأن تبر كل من تقدر على بره، بأحب أموالك إليك، وأنفسها لديك، وتخالق الناس بخلق حسن. والتعبد بصفة الضر والنفع: يكون بنفع كل من أمرت بنفعه، وضر كل من أمرت بضره بحد أو قتل أو غيره من إنسان وحيوان، وصالح وطالح، وناطق وصامت. والتعبد بصفة القبض والبسط: تكون بأن تبسط برك ومعروفك على كل محتاج، حتى على الدواب والكلاب والذر، ففي كل كبد رطبة أجر. وتقبض عن كل أحد ليس له أهلٌ، من مال وولاية، وعلم وحكمة، فالسفيه يتلف الأموال، والأخرق يفسد النظام. والوهاب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بكثرة الهبات والصلات، مقدماً الأقرب فالأقرب، والأنفع فالأنفع، والصدقة على القريب صدقة وصلة. والكريم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بأن تجود بكل ما تقدر عليه من مال وجاه، وعلم وحكمة، وبر وإحسان، وتتكرم بذلك على خلق الله، ولا ترجو به إلا ثواب الله ورضاه. والمجيب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بإجابة مولاك فيما دعاك إليه من قرباته، وبإجابة كل داع إلى ما يرضي مولاك من طاعة وعبادة. والمجيد: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي كمل شرفه، وتم كماله وجلاله، في ذاته وأسمائه وصفاته. وثمرة معرفته: المهابة والإجلال لذي الجلال والإكرام. والتعبد به: يكون بما يمكن التعبد به مما سبق ذكره، فإنه شامل لجميع الصفات.

والحق: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: يكون بمتابعة الحق، وأن تكون من أهل الحق بكل حال، وأن تدعو للحق ما بقيت. والهادي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ. والتعبد به: أن تكون هادياً إلى صراط الله المستقيم، وداعياً إلى الله، وإلى دينه وشرعه. وهكذا في باقي الأسماء والصفات.

الباب الثاني فقه الخلق والأمر

الباب الثاني فقه الخلق والأمر ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الخلق والأمر 2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية 3 - خلق الله للكون 4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به 5 - فقه خَلق المخلوقات 1 - خلق العرش والكرسي 2 - خلق السموات 3 - خَلق الأرض 4 - خلق الشمس والقمر 5 - خلق النجوم 6 - خلق الليل والنهار 7 - خلق الملائكة 8 - خلق المياه والبحار 9 - خلق النبات 10 - خلق الحيوانات 11 - خلق الجبال 12 - خلق الرياح 13 - خلق النار 14 - خلق الجن 15 - خلق آدم 16 - خلق الإنسان 17 - خلق الروح 18 - خلق الدنيا والآخرة

1 - فقه الخلق والأمر

1 - فقه الخلق والأمر قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} ... [الأعراف: 54]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وقال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 5 - 7]. الله تبارك وتعالى هو الخالق، الذي خلق المخلوقات، وصور الكائنات، وأوجد الموجودات كلها، في العالم العلوي، وفي العالم السفلي. وهو سبحانه الكامل في ذاته، الكامل في أسمائه وصفاته، ولا يكون عن الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا الفعل المحكم، والصنع المتقن. وهو سبحانه الخالق الذي خلق كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه وأتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل: 88]. وهو سبحانه الذي خلق عباده حنفاء على الفطرة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ» متفق عليه (¬1). وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: « .. خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1385)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2865).

فخلق الله عزَّ وجلَّ العباد حنفاء، ولكن الشياطين أخرجوهم عن سنن الحنيفية، وأفسدوا فطرهم وقلوبهم بالشرك والمعاصي، فأرسل الله الأنبياء بسنن الهدى رحمةً بالبشر. وبالأضداد والأغيار يخرج من شاء الله من المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا ذلك لكانت في مرتبتها كالمولود يولد على الفطرة. فالماء خلقه الله طاهراً مطهراً، ولكن بمخالطته أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلقه الله عليها، فكانت تلك النجاسات والأقذار بمعنى أبوي الطفل اللذان يفسدان فطرته. وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته النجاسات والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك الآدمي إذا فسد بالأغيار لم يصلح لمجاورة الرب ودخول الجنة. والأغذية والفواكه الطيبة إذا خالطت باطن الحيوان خرجت عن حالتها التي خلقت عليها، واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خبثاً وفساداً لم يكن فيها، لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها. ولما أنزل الله الماء طاهراً نافعاً فمازج الأرض، وسالت به أوديتها، أوجد الله سبحانه بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواعاً من الثمار والفواكه، والزروع والعنب، والنخيل والزيتون، وسائر الأغذية والأقوات، وأوجد مع ذلك المر والحنظل والشوك وغير ذلك، فاللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة. والله عزَّ وجلَّ يصرف ما أخرجه من هذا الماء بحكمته، ويقلبه ويحيل بعضه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى. ألا ما أعظم الله، وما أعظم قدرته، وما أعظم آياته ومخلوقاته. ففي خلق السماء آيات وعبر: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. وفي خلق الأرض آيات وعبر: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ

وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]. فالله عزَّ وجلَّ يقلب الليل والنهار، ويقلب ما فيهما، ويقلب أحوال العالم من حر وبرد، ونور وظلام، ورطب ويابس، وحركة وسكون، يفعل ذلك كله كما يشاء، ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده، ويظهر ملكه وحكمته وعزته وقدرته: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} ... [الأعراف: 54]. والقرآن الكريم عمدته وأصله ومقصوده تحقيق العبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له، ومن أجل ذلك بين الله في القرآن أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله، وأنواع خلقه، وأنواع حمده، والثناء عليه. وأظهر كمال قدرته، وعظمته، وعزته وقدرته، وأنواع صنعه. وتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله وأنبيائه. فأخبر عن الكافرين والمكذبين، وذكر ما أجابوا به رسلهم، وما قابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا على الله، وكذبوا رسله، وردوا أمره، فدمرهم الله بألوان العذاب. فكان ذلك دليلاً على عظمة الرب، وكمال قدرته، وقهره لأعدائه، ونصره لأوليائه. وكان موقع هذا من خلقه موقع تعظيمه وإجلاله، وتسبيحه تعالى وتنزيهه، وحمده والثناء عليه بما يليق بجلاله. ومن تمام حمده، تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه، والجاهلون به مما لا يليق به من الصاحبة والولد، والفقر والتعب، والشرك، ونفي صفات الكمال عنه، وغير ذلك مما نزه عنه نفسه، وسبح به نفسه. وكان في ذلك ظهور حمده بخلقه، وتنوع أسبابه، وكثرة شواهده، وسعة طرق الثناء عليه به، وتقرير عظمته، ومعرفته في قلوب عباده.

فسبحان العليم الخبير، الحكيم في خلقه وأمره، فلولا معرفة الأسباب التي يسبح وينزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه، وعن ماذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه من قد نسب إليه ما لا يليق به .. ونسبه إلى ما لا يليق به .. وجحد من كماله ما هو أولى به .. سبحوه حينئذ تسبيح مجل له .. معظم له .. منزه له عن أمر قد نسبه إليه أعداؤه .. والجاهلون بأسمائه وصفاته. فنفي الألوهية عما سوى الله، من تمام التوحيد وكماله وظهور أعلامه. وتكذيب أعداء الرسل لهم، وردهم ما جاؤوهم به، كان من الأسباب الموجبة لظهور صدق الرسل، ودحض حجج أهل الباطل، وتقرير طرق الرسالة، وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه، أسفر وجه الحق، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وسهل اتباعه. وكسر الباطل ودحض حججه من أدلة الحق وبراهينه. فتأمل حكمة العزيز العليم، كيف اقتضى الحق وجود الباطل؟. وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل؟. وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم، وتكذيبهم لهم، من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات الله، وقيام حججه على العباد؟. فلو أن ملكاً له عبد قد توحد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدق ومكذب، لأنه لم يقابل الشجعان، ولو بارز الأقران، وقابل الشجعان لظهر أمره، فلما سمع به شجعان العالم وأبطالهم قصدوه وأتوه من كل قطر. فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم إياه، وشأنكم به. فتسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه، إنما هو لإعلاء شأنه، وإظهار

شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاء الملك أوطاره به. وكما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته، وظهور عجزهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه. فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته، وعدل بها عنهم، كان ذلك مقتضى حكمة الملك، وحسن تصرفه في ملكه، وأنه لو استعملهم في تلك المهمات، لتشوش أمر المملكة، وحصل الخلل والفساد، والله أعلم بالشاكرين. فخلق الأسباب المضادة للحق، وإظهارها في مقابلة الحق، من أبين دلائله وشواهده. والله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض، وسائر المخلوقات، من أجل أن يعرف، ومن أجل أن تعرف أسماؤه وصفاته، وتعرف عظمة قدرته، وسعة علمه، ويعرف جلاله وكبرياؤه، وتعرف آلاؤه وإحسانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. فسيد السموات السماء التي فوقها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن عليها. وفي كل سماء، وفي كل أرض: خلق من خلقه سبحانه .. وأمر من أمره .. وقضاء من قضائه. في كل مكان .. وفي كل زمان .. وفي كل حال .. ولكل مخلوق. ألا ما أجهل الخلق بربهم .. وما أجهلهم بالسلعة وثمنها. واحسرتاه، إلى متى يتلبط الإنسان في الوحل كالدود لاهياً معرضاً عن ربه؟. ومتى يشد العبد ركائبه إلى الرحمن، وإلى جنة الرضوان؟. وأين السامع والمجيب قبل الرحيل إلى دار الخلود؟.

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، والخلق كله فلق: والله عزَّ وجلَّ فالق الإصباح .. فلق الظلام فظهر الصبح .. وفلق الحب والنوى فظهر منه أنواع الزروع والأشجار .. وفلق الأرض فظهر منها أنواع النبات .. وفلق الجبال فظهر منها أنواع العيون .. وفلق السحاب عن المطر .. وفلق الأرحام عن الأجنة .. وفلق ظلام الباطل بالحق .. كما فلق ظلام الليل بالإصباح .. فهو حقاً رب العالمين .. ورب الفلق .. وله وحده الخلق والأمر. وللكون أوامر من الرب .. وللإنسان أوامر من الرب.

2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. الله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، الذي خلق جميع المخلوقات في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وجميع مخلوقاته أثر من آثار خلقه وقدرته، وهو القادر على كل شيء، فلا يستعصي عليه شيء أراد خلقه، أعطى جميع المخلوقات الوجود والشكل، والوظائف والأوامر. وهو سبحانه الملك، المالك لكل شيء، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له، وعبيد مسخرون مدبرون بأمره. يتصرف فيهم سبحانه بأوامره القدرية .. وأوامره الشرعية .. وأوامره الجزائية: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق المخلوقات كلها، وهذه المخلوقات كلها تحتاج إلى أوامر. والذي ينزل من الله عزَّ وجلَّ من الأوامر نوعان: أوامر كونية .. وأوامر شرعية. وأوامر الله الكونية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أمر الإيجاد، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالإيجاد والخلق والتكوين. وبسببه أوجد الله الكون وما فيه من المخلوقات كالعرش والكرسي، والسماء والأرض، والملائكة والروح، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والجماد

والنبات، والإنسان والحيوان، وغير ذلك من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء. وبسببه تبقى الكائنات كلها بأمر الله، ولولا أمر الله بالبقاء لزالت جميع الكائنات كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25]. الثالث: أمر الحركة والسكون، والحياة والموت، والنفع والضر ... إلخ، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]. وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26 - 27]. وجميع المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بأمره كما قال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]. والإحياء والإماتة بيد الله، فلا يحصل منها شيء إلا بأمره: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 68]. وهذه الأوامر الإلهية لا بد من وقوعها كما أراد الله، فالله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، سبحانه هو الواحد القهار: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس:82]. وأما الأوامر الشرعية فهي الدين: وهو موجه من الله إلى الثقلين: الإنس والجن،

ويتم ذلك بواسطة الأنبياء والرسل. والأوامر الشرعية خمسة أقسام هي: الإيمان .. العبادات .. المعاملات .. المعاشرات .. الأخلاق. ومن الناس من يقبله فيسعد في الدنيا والآخرة، ومنهم من لا يقبله فيشقى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38، 39]. وهذا الدين محفوظ إلى يوم القيامة بحفظ الله، وللحصول على أعلى مراتبه لا بد من المجاهدة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} ... [العنكبوت: 69]. وأوامر الله الشرعية نوعان: الأول: أوامر محبوبة للنفس، كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك. الثاني: أوامر مكروهة للنفس الأمارة بالسوء، وهي نوعان: أوامر خفيفة، كالأدعية والأذكار، والصلوات وتلاوة القرآن، والسنن والآداب ونحوها. أوامر ثقيلة، كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. والإيمان يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، والقيام بالأعمال الانفرادية والاجتماعية معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من العبد بالدعوة والعبادةلربه، واطمأن بذلك قلبه، وتحركت بذلك جوارحه. ومقصود الإيمان عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه. ويتم ذلك بتغيير اليقين من المخلوق إلى الخالق الذي بيده كل شيء .. وتغيير

العواطف من المخلوق إلى الخالق .. وتغيير الفكر من الدنيا إلى الآخرة .. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة .. وتغيير العمل من الدنيا إلى الدين، ومن المعاصي إلى الطاعات .. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب. فالأوامر الشرعية أنزلها الله إلى الثقلين: الإنس والجن، وهي الدين، وهذه الأوامر تنزل من ذات الله إلى العباد، والأعمال تصدر من ذات النفس. فإذا تطابقت الأعمال البشرية مع الأوامر الإلهية سعد الإنسان في الدنيا والآخرة. وإذا خالفت أعمال العباد أوامر الله الشرعية شقي الإنسان في الدنيا والآخرة. وفي كل يوم، بل في كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله، ولا يعلمه إلا الله من مليارات الأوامر الإلهية: أوامر الخلق والإيجاد .. وأوامر البقاء .. وأوامر النفع والضر .. وأوامر التصريف والتدبير .. وأوامر التغيير والتبديل .. وأوامر الحياة والموت .. وأوامر العافية والمرض .. وأوامر العطاء والمنع .. إلخ. وفي كل يوم، بل وفي كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من العباد ما لا يحصيه إلا الله من الأقوال والأعمال .. والطاعات والمعاصي .. والحسنات والسيئات .. وكل ذلك بإذن الله عزَّ وجلَّ .. والكل معلوم لعلاّم الغيوب. وأوامر الله الشرعية تامة كاملة، وهي متعلقة بجميع أحوال العباد، والله يحب أن يطاع وتمتثل أوامره في جميع الأحوال من جميع العباد. فالملك ملكه .. والخلق خلقه .. والأمر أمره. والعبد ليس له عمل إلا طاعة سيده ومولاه، الذي أفاض عليه من نعمه بما لا يحصى، ووعده إن أطاعه بالدار الحسنى، وإن عصاه بنار تلظى. وأوامر الله الكونية والشرعية متعلقة بجميع أحوال الإنس والجن، وأوامر الله الكونية متعلقة بجميع المخلوقات.

فكل ذرة في هذا الكون العظيم لها أوامر من ربها .. أمر بالإيجاد .. وأمر بالبقاء .. وأمر بالنفع والضر .. ولله حكمة في خلقها .. وكلها مملوكة في قبضة الله. والإنسان مأمور أن ينظر إلى المخلوقات التي خلقها الله في هذا الكون ولا يتعلق بها، بل يتجاوزها إلى خالقها. فينظر إلى الصور ويتجاوزها إلى المصور سبحانه، وينظر إلى المخلوقات العجيبة ويتجاوزها إلى الخالق سبحانه، وذلك حتى لا تأتي عظمتها في القلوب مكان عظمة الله، الذي يستحق التعظيم الكامل وحده لا شريك له، ولا تأتي محبتها مكان محبة الله، الذي يستحق المحبة الكاملة وحده لا شرك له. وينظر في ملكوت السموات والأرض نظر تفكر واعتبار لا نظر تفرج ولهو. فكل ينظر إلى الشجرة الكبيرة، الغافل ينظر إلى جمالها، ولا يذكر الجميل الذي زينها، والنجار ينظر إلى خشبها، والطبيب ينظر إلى الدواء الذي فيها، والمزارع ينظر إلى ثمرتها، والمؤمن ينظر إلى عظمة خالقها، فهذا أعظم الناس نظراً وفكراً واعتباراً: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وقد أنزل الله الدين الكامل، الشامل لجميع أحوال العباد كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. فلله عزَّ وجلَّ أوامر يحب أن تمتثل عند الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من العبادات. ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا بوجود الأهل والزوجة والأولا د. ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في التجارة والبيع والشراء وسائر المعاملات. ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في الزراعة والصناعة ونحوها.

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في ساحات الجهاد، وحلق الذكر، ومجالس العلم. ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في حال الغنى والفقر، أو الصحة والمرض، أو الحياة والموت، أو السلم والحرب. ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الرضا والغضب، وفي حال الفرح والحزن، وفي حال الرخاء والشدة. ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الإقامة، وحال السفر، وعند الأكل والشرب، وفي حال اليقظة، وفي حال النوم. ولله أوامر يجب أن تمتثل في البيوت، وفي الأسواق، وفي المساجد، وفي المجالس. ولله أوامر يجب أن تمتثل عند الزواج، وعند المعاشرة، وعند الولادة، وحال الأمن، وحال الخوف. ولله أوامر على السمع والبصر، والقلب والبدن، وسائر الجوارح. فهذه الأوامر وغيرها مما أمر الله ورسوله به هي الدين الذي يحبه الله ويرضاه، ويحب من قام به، وهو الدين الذي يجب على الإنسان قبوله والعمل به، والدعوة إليه، ليسعد في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. والناس في الدنيا نوعان: مسلم له أوامر .. وكافر له أوامر .. وغني له أوامر .. وفقير له أوامر .. وقوي له أوامر .. وضعيف له أوامر .. وصحيح له أوامر .. ومريض له أوامر .. وكبير له أوامر .. وصغير له أوامر .. وبصير له أوامر .. وأعمى له أوامر .. ورجل له أوامر .. وامرأة لها أوامر .. وحي له أوامر .. وميت له أوامر .. ومقيم له أوامر .. ومسافر له أوامر .. ومتزوج له أوامر .. وأعزب له أوامر .. وخليفة له أوامر .. ورعية لها أوامر .. وهكذا، والنتائج يوم القيامة.

والله عزَّ وجلَّ أمر بكل خير، ونهى عن كل شر، وأحل ما ينفع، وحرم ما يضر، وأمر بالحق، ونهى عن الباطل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وما أمر الله به العباد نوعان: أحدهما: باطن في القلب كالتوحيد والإيمان، والإخلاص واليقين، وحب الله ورسوله ودينه وأوليائه، والتوكل على الله، والخوف منه، وخشيته ورجائه. الثاني: ظاهر على الجوارح، وهي الأقوال والأعمال المأمور بها، وهي لا تقبل إلا بعمل القلب، وإرادة وجه الله بها، وأدائها كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالوضوء والغسل، والصلاة وسائر العبادات، فهذه وإن كانت أقوالاً وأفعالاً إلا أن القلب أخص بها. والله تبارك وتعالى شرف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وبالدعوة إلى الدين. فالاستقامة على الدين أولاً .. ثم دعوة الناس إليه ثانياً. والكفار يعرض عليهم الإسلام فإما أن يسلموا .. أو يصغروا .. أو يدمروا. وإذا ترك العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت عليه مصيبة انفرادية. وإذا تركت الأمة أوامر الله الاجتماعية، جاءتها عقوبة اجتماعية. وإذا أقام العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت النصرة الانفرادية. وإذا أقيمت أوامر الله الاجتماعية، جاءت النصرة الاجتماعية. ففرعون ترك أمر الله واستكبر وعلا، فادعى الألوهية والربوبية، وأضل قومه فجاءت عقوبة الله عليه، وعلى قومه وجيشه، وكل من اتبعه، فأهلكوا بالغرق، ولهم أشد العذاب يوم القيامة. وقارون ترك أمر الله الانفرادي، فجاءت المصيبة انفرادية عليه وعلى ماله كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].

فأوامر الله الانفرادية علينا جميعاً كالإيمان، والصلاة، والصيام، والزكاة لمن له مال، والحج على المستطيع، فإذا ترك الإنسان شيئاً من ذلك، جاءت المصيبة انفرادية على العبد وحده كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، أوامر اجتماعية من الله على هذه الأمة، فإذا تركتها الأمة جاءت المصيبة على الأمة جميعاً كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). والله جل جلاله خلق الأسباب، وأنزل الأوامر، وأمر بامتثال الأوامر، وفعل الأسباب، وجعل سعادة الإنسان فقط بالإيمان والتقوى. والتقوى: هي ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وهي الأمر المتوجه من الله إليَّ بالفعل أو الترك، أفعله على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فمثلاً، إذا أصابني صداع في الرأس، أنظر أمر الله أو أمر رسوله فيه، وأفعل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسمي ثلاثاً ثم أقول سبع مرات: «أعوذ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أجِدُ وَأحَاذِرُ» أخرجه مسلم (¬2). ثم أفعل الأسباب من دواء مباح، فإن ذهب الصداع فأنت في الفوز والفلاح، ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (23301). وأخرجه الترمذي برقم (2169)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1762). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2202).

لأنك فعلت السبب، وامتثلت الأمر، وإن لم يذهب الصداع فكذلك أنت في الفوز والفلاح، لأنك امتثلت أمر الله ورسوله. فلا نتوجه عند المرض للدواء مباشرة، بل نتوجه إلى الله الشافي أولاً، والأسباب آخر شيء، أمر الله ثم أمر الرسول وفعله، ثم فعل السبب المباح، هذا هو الترتيب الصحيح لطلب الشفاء. وإن تناولت الدواء مباشرة ثم ذهب الصداع فهذا ابتلاء من الله لإيمان العبد، وإن لم يذهب الصداع فيتوجه إلى الله، وكلما توجه العبد إلى الله في حاجة، فإما أن يقضي حاجته فوراً، وإما أن يؤخرها ليكثر من الدعاء، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم منها، وإما أن يؤخرها له إلى يوم القيامة. وكلما توجه الإنسان إلى الله قضى حاجته، وكلما نفى المخلوق أياً كان يومياً سخره الله له .. وحفظه منه .. وأخرج اليقين عليه .. وحفظه، لا يعبده ولا يتوجه إليه. والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر في جميع مخلوقاته: خلق الشمس وأمدها بالحركة والإنارة والحرارة .. وخلق البحر وأمده بالسيولة والملوحة .. وخلق النبات وأمده بالنمو والتكاثر والثمرات ... وخلق الحيوان وأمده بالنمو والتكاثر والحركة .. وخلق الإنسان وأمده بالنمو والتكاثر، والعقل والحركة .. وخلق الدماغ وأمده بالعقل .. وخلق العين وأمدها بالبصر .. وخلق اللسان وأمده بالكلام .. وخلق الأذن وأمدها بالسمع .. وخلق الأنف وأمده بالشم. وخلق الليل والنهار وجعل لهما أوامر .. وخلق الشمس والقمر وجعل لهما أوامر .. وخلق الحرارة والبرودة وجعل لهما أوامر .. وخلق الصحة والمرض وجعل لهما أوامر .. وهكذا. فالله خالق كل شيء، وبيده أمر كل شيء: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123]. والله تبارك وتعالى خلق المخلوقات، وكلماته التامات هي التي كون بها الأشياء

كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس:82]. فهذه الكلمات لا يجاوزها بر ولا فاجر .. ولا يخرج أحد عن القدر المقدور .. ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. فالكلمات نوعان: إحداهما: كلمات يكون الله بها الكون، وهي المتضمنة لخلقه وتدبيره لهذا الكون، وما فيه من المخلوقات. والأخرى: كلمات دينية، المتضمنة لأمره ونهيه كالكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن. فكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفجار عصوا أمره ونهيه. بل هي التي كون بها الكائنات، ودبر بها المخلوقات، وقهر بها أهل العقوبات. فسبحانه الواحد القهار: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]. فأوامر الله نوعان: الأول: أمر كوني لا بد من وقوعه ولا يمكن لأحد رده كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. والثاني: أمر ديني شرعي، يأمر الله به عباده عن طريق رسله، فمنهم من يؤمن به، ومنهم من يخالفه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} ... [النحل: 90]. والأمر الكوني القدري، والأمر الديني الشرعي، كله لله، فلا خالق ولا مدبر لهذا الكون إلا الله وحده لا شريك له، ولا مشرع للعباد إلا ربهم وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154].

والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، خلق المخلوقات كلها، وأحسن تصويرها، وأحاط بكل شيء علماً، وهو أحكم الحاكمين، وضع كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه، وجعل له من الأوامر ما يناسبه، ويحقق الانتفاع به. فوضع قوة النور في الشمس .. وقوة الإنبات في الأرض .. وقوة البصر في العين .. وقوة السمع في الأذن .. وقوة الشم في الأنف .. وقوة البطش في اليد .. وقوة النطق في اللسان .. وقوة المشي في الرجل .. وخص كل حيوان وغيره بما يليق به .. ويحسن أن يعطاه .. وشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل: 88]. ودين الأنبياء والرسل وأتباعهم دين الأمر، فهم يدينون بأمر الله الشرعي، ويؤمنون بقدره الكوني. وأعداء الله واقفون مع القدر الكوني، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر، فهم يعصون أمره، ويحتجون بقدره، ويقولون نحن واقفون مع مراد الله وقدره. فهل فوق هذا من جهل؟، وهل بعد هذا من ضلالة؟: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35]. وإذا أمر الله عزَّ وجلَّ عبده بأمر وجب عليه فيه ثماني مراتب: الأولى: العلم به. ... الخامسة: أداؤه خالصاً صواباً. الثانية: محبته. ... السادسة: عدم فعل ما يحبطه. الثالثة: العزم على فعله. ... السابعة: الثبات عليه. الرابعة: عدم العمل به. ... الثامنة: نشره والدعوة إليه.

ولا بد في جميع أوامر الله من أصلين: فعل ما أمر الله ورسوله به .. واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه. ثم على كل عبد أن يتوب ويستغفر من تفريطه في المأمور، واقترافه للمحظور، ويختم جميع أعماله بالاستغفار. والله تبارك وتعالى خلقنا لأربعة أمور: الأول: العبادة كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ... [الذاريات: 56]. الثاني: الدعوة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. الثالث: التعلم والتعليم كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. الرابع: الخلافة كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} ... [النور: 55]. وإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد أتقن خلقه غاية الإتقان .. وأحكمه غاية الإحكام .. وأحسن كل شيء خلقه .. فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى .. فشريعة الله لعباده في غاية الإتقان والإحكام، لا تفرق بين متماثلين، ولا تسوي بين مختلفين .. ولا تحرم شيئاً إلا لما فيه من المفسدة .. ولا تبيح شيئاً إلا لما فيه من المصلحة: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وأوامر الله عزَّ وجلَّ تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الفعل المأمور به مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، كما يُعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم مشتمل على فساد العالم. الثاني: أن الله إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً.

الثالث: أن يأمر الله العبد بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه؟. ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح ابنه إسماعيل، فلما أسلما وتله للجبين، حصل المقصود من قوة الامتثال والطاعة، فداه الله بذبح عظيم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 103 - 107]. والله تبارك وتعالى منَّ على عباده بهذا الدين العظيم، والقرآن المجيد، والرسول الكريم، والهدي المستقيم. فإن قيل فأي حكمة في تكليف الثقلين، وتعريضهم بذلك للعقوبة، وأنواع المشاق والمكاره .. ؟. قيل: إن الله خلق المخلوقات، وجعل لها سنناً تسير عليها، فالشمس لها سنة، والقمر له سنة، والليل له سنة، والنهار له سنة، والنبات له سنة، والحيوان له سنة، والرياح لها سنة، والبحار لها سنة. وكذلك الإنسان مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله، ليسعد في الدنيا والآخرة، وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به ورضيه له، وسعادته أو شقاوته مبنية على مدى تمسكه به، أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده كما قال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وكذلك لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثاً وسدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزه نفسه عنه، كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص كما قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى مضاد للحكمة، فإنه خلق لغاية كماله، وكماله أن يكون عابداً لربه، محباً له، مطيعاً له كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ... [الذاريات: 56].

وهذه المعرفة .. وهذه العبودية .. هما غاية الخلق والأمر .. وهما أعظم كمال الإنسان. والله عزَّ وجلَّ من عنايته بالإنسان ورحمته له عرضه لهذا الكمال، وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكنه منها. ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وما يتضمنه ذلك من اتصاف العبد بكل خلق جميل، وإتيانه بكل فعل جميل، وقول سديد، واجتنابه لكل خلق سيئ، وترك كل فعل قبيح. وذلك كله متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والإحسان إلى الخلق مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء. فأي الأمرين أليق بالحكمة .. ؟. هذا التكليف والتشريف .. أو إرساله هملاً كالخيل والبغال والحمير .. يأكل ويشرب وينكح .. ويفعل ما شاء كالبهائم. وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنه؟. وكيف تكون حاله لو لم يرسل الله الرسل إليه، وينزل الكتب عليه، ويشرع الشرائع له .. ؟. وهل عرف الله حقاً من جوز عليه خلاف ذلك .. ؟. بل ذلك من سوء الظن بالله، نعوذ بالله من ذلك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91]. آهٍ لمشتت القلب والعقل .. أيليق بالعزيز الكريم أن يترك الإنسان سدى يتردى في أودية الهلاك تائهاً سكراناً من بين الخلائق .. ؟ ويموت لا ذاكراً ولا شاكراً .. ؟. أيصح هذا .. ؟، أيعقل هذا .. ؟، أيليق به هذا .. ؟.

إن الله أكرم الإنسان، وفضله على غيره، وزوده بالعقل، وأنعم عليه بالدين، حتى يعيش سعيداً، ويصل إلى ربه في أحسن الأحوال، وأجمل الصفات، ويستقبل هناك بالإكرام، حتى يستقر في جنة الخلد حيث النعيم المقيم: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 68 - 72]. إن الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته وكمال حكمته أجرى على العباد ثلاثة أوامر، وبها يتم كمالهم، وتتحقق سعادتهم: الأول: الأمر الكوني القدري بإيجادهم. الثاني: الأمر الديني الشرعي في دنياهم. الثالث: الأمر الجزائي في أخراهم. ونقلهم سبحانه من دار إلى دار .. ومن حال إلى حال .. حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم بما عملوا .. ثم يستقروا في دار القرار .. في الجنة أو النار. فيا له من دين ما أحسنه .. ويا لها من شريعة ما أكملها .. ويا لها من أحكام ما أعدلها .. وأين يذهب الناس عن هذا؟: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. إن حسن التكليف في العقول، كحسن الإنعام والإحسان إلى العباد، بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة ومنّة، وفضلاً ورحمة، وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار، وبين الناس والأنعام كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، وهو الحكيم الخبير، له الخلق والأمر، والملك ملكه، والعباد عباده، وهو أعلم بما ينفعهم ويصلحهم.

يرسل الملائكة بأمره .. ويرسل الأنبياء والرسل بدينه وشرعه إلى خلقه .. ويرسل الرياح بأمره .. ويرسل السحاب فيسوقه حيث شاء .. ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء .. ويصرفها عمن يشاء. وإرسال الله نوعان: الأول: إرسال دين يحبه الله ويرضاه، كإرسال أنبيائه ورسله بدينه وأوامره إلى خلقه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. الثاني: إرسال كون وهو نوعان: إرسال يحبه الله ويرضاه، كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه. وإرسال لا يحبه الله، بل يسخطه ويبغضه، كإرسال الشياطين على الكفار المعاندين كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].

3 - خلق الله للكون

3 - خلق الله للكون قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29]. الله تبارك وتعالى هو رب العالمين، وهو الخلاق العليم، الذي خلق هذا الكون العظيم، وما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده. خلق الله العرش والكرسي، وخلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الملائكة والروح، وخلق النبات والحيوان، وخلق الإنس والجن، وخلق الجبال والبحار، وخلق الماء والنار، وخلق كل شيء، وقدر خلق كل شيء، وأحسن خلق كل شيء: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} ... [لقمان: 11]. وإذا تأمل الإنسان هذا العالم بعين البصيرة وجده كالبيت المبني، المعد فيه جميع آلاته ولوازمه ومصالحه، وكل ما يحتاج إليه. فالسماء سقفه المرفوع، والأرض مهاد وبساط، وسكن وفراش، وذلول، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة، وأدلة للمسافر في طرق هذه الدار. وأنواع النبات مهيأ لمآربه من حلو وحامض، وحار وبارد، وحبوب وثمار وأزهار. وصنوف الحيوان مصرفة لمصالحه، فمنها المأكول، ومنها المركوب، ومنها الحلوب، ومنها اللباس والأمتعة والحراسة. والجواهر والمعادن خلقها الله، وجعلها مخزونة فيه كالذخائر المهيأة، كل منها

لشأنه الذي يصلح له، من ذهب وفضة، ونحاس وحديد. وجعل سبحانه في هذا البيت النار للتسخين والإنضاج، والماء للشرب والتبريد، والهواء للتنفس والتنشيف، والجو للشمس والقمر يجريان فيه، والسحب والطير يسبحان فيه. وجعل سبحانه الإنسان كالملك المتجول في ذلك كله، المتصرف فيه بفعله وأمره، وكل ما فيه سخر له: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. فسبحان من أبدع هذا الخلق .. ونظمه أحسن نظام .. وتفرد بالخلق والأمر .. وتوحد بالجلال والجمال .. واختص بالكبرياء والعظمة. وكما يستحيل أن يكون المدبر للبدن روحان، فكذلك يستحيل أن يكون المدبر للعالم العلوي والسفلي إلهان: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22]. والله جل جلاله خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، ولا أسفله مفتقراً إلى أعلاه، بل جعل الجميع مفتقراً إليه وحده لا شريك له. فالسماء والسحاب والهواء فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، بل الله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويسوق السحاب حيث شاء، ويرسل الرياح كيف شاء. والعرش والكرسي فوق السماء، وليست مفتقرة إلى حمل السماء لها، والعلي الأعلى، رب كل شيء ومليكه فوق جميع خلقه، ليس محتاجاً إلى عرشه أو كرسيه ليحمله. بل العرش والكرسي، والسموات والأرض ومن فيهن، والملائكة والروح، والإنس والجن، والخلق كلهم محتاجون إلى الله سبحانه في خلقهم وبقائهم،

فهو الغني وحده، وكل ما سواه مفتقر إليه مملوك له. وما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلا كخردلة في يد أحدنا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. والله عزَّ وجلَّ بذاته وعظمته وكبريائه مستوٍ على عرشه، فوق سماواته فوق جميع الخلائق، يعلم أحوالهم، ويسمع أصواتهم، ويرى كل ذرة فيهم. هو العلي الأعلى، له علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة، وهو العلي الكبير، استوى على العرش الذي هو أكبر مخلوقاته، وبحوله وقوته سبحانه حمل العرش، وحمل حملة العرش. وهو جل جلاله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك السموات والأرض أن تزولا، وهو الباقي، وبقاء كل شيء بأمره، وكل شيء هالك إلا وجهه. أفيعصى من هذا ملكه .. وهذا خلقه .. وهذه قدرته .. ؟. والله سبحانه هو الذي خلق السماء وزينها بالنجوم والكواكب، وخلق الأرض وزينها بما على ظهرها من المياه والنباتات، وأحاط الأرض بالمياه من جميع الجوانب، وفرشها بأنواع النباتات لأجل الإنسان، ووضع عليها سبحانه مائدة نعمه، فجميع الحيوانات والطيور، والبهائم والحشرات، وسائر البشر كلهم يأكلون ويشربون منها هو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)} [طه: 53 - 54]. وقد خلق الله كل نفس ورزقها، وحدد أجلها، فلا تموت حتى تأكل رزقها، ولا يستطيع أحد أن يحول بينها وبين رزقها. والله تبارك وتعالى خالق كل شيء .. خلق الإنسان في أحسن تقويم .. والإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه .. وأرضه ذرة بالنسبة إلى الكائنات .. وكذا الإنسان ذرة

بالنسبة إلى نوعه .. ونوعه ذرة بالنسبة إلى شركائه في هذا الكون الكبير. فسبحان الخلاق العليم، وسبحان الرزاق الكريم، المنعم على جميع الخلائق، الفعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، وهو البصير الذي يرى حاجة المرزوق إن لم يطلب، وهو السميع الذي يسمع كلامه إن طلب، الرزاق الذي يرزق من شاء، في أي وقت شاء، وبأي قدر شاء؟. وهذه الدواب كلها تأكل من رزقه، ولا ينقص ما في خزائنه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. وهذا الكون كله .. سماؤه وأرضه .. ظاهره وباطنه .. ملائكته ودوابه .. إنسه وجنه .. حيوانه وطيره .. كله مخلوق .. والمخلوق مملوك .. محتاج في وجوده إلى ربه .. ومحتاج في بقائه إلى ربه .. ومحتاج في نفعه وضره إلى ربه .. من الذرة إلى الجبل .. ومن القطرة إلى البحر .. ومن النفس إلى الآفاق .. ومن السنبلة إلى الغابات .. ومن النملة إلى جبريل .. ومن الذرة إلى العرش. كل هذا مخلوق، والمخلوق لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكل شيء بيد الله، وكل ما سواه محتاج إليه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وقال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} ... [الأعراف: 188]. والله جل جلاله خلق المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو، وفضل بعضها على بعض من أماكن وأزمان، وأشخاص وأحوال، وسلط بعض مخلوقاته على بعض، وقهرها بها. فخلق الشمس وسلط نورها على الظلام .. وخلق السباع وسلطها على الحيوان، وخلق الجبال تقهر الرياح .. وسلط الحديد على الجبال يقطعها .. وسلط النار على الحديد تذيبه .. وسلط الماء على النار يطفئها .. وقهر الماء بالهواء يرده ..

والله قاهر كل قاهر. فسبحان القهار الذي قهر جميع الخلائق على ما أراد، القاهر فوق عباده: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} [الزمر: 4]. وفضل سبحانه بعض الأماكن على بعض .. ففضل الآخرة على الدنيا .. وفضل بيته الحرام على سائر الأماكن .. وفضل بيوت الله على سائر بقاع الأرض. وفضل يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع .. وفضل ليلة القدر على سائر الليالي .. وفضل شهر رمضان على سائر الشهور .. وفضل يوم النحر على سائر أيام العام. وفضل المؤمنين على الكفار .. والأبرار على الفجار .. وفضل بعض الرسل على بعض .. وفضل الإنسان على غيره من المخلوقات. فجعل أصح المخلوقات مزاجاً هم بنو آدم، وأصح بني آدم مزاجاً هم المؤمنون، وأصح المؤمنين مزاجاً هم الأنبياء والرسل، وأفضلهم أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وأفضل أولي العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما السلام. وأفضل الخليلين محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، ويتأدب بآدابه. وقد جعل الله سبحانه الدنيا قرية، والإنسان رئيسها، والكل مشغول به، ساعٍ في مصالحه، والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه: فالملائكة الموكلون به يحفظونه، والملائكة الموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه. والملائكة الموكلون بالوحي كجبريل ينزلون بالوحي من ربهم إليه. والأفلاك مسخرة منقادة دائرة بما فيه مصالحه. والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته.

والعالم العلوي مسخر له برياحه وسحابه، يتنفس من هذا، ويشرب من هذا. والعالم السفلي بسهوله وجباله، وبحاره وأنهاره، ونباته وأشجاره، وحبوبه وثماره، كل ذلك مسخر له، مخلوق لمصالحه: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]. فسبحان الخلاق العليم، الذي خلق البحار، وخلق ما فيها من الأسماك والمخلوقات ما لا يعيش إلا فيه، ولو خرج عنه لمات. وخلق البر، وخلق فيه من المخلوقات ما لا يعيش إلا فيه، ولو دخل البحر لمات. وخلق الأرض، وخلق على ظهرها من المخلوقات ما لا يعيش إلا راكباً عليها، ولو دخل في باطنها لمات. وخلق في باطن الأرض من المخلوقات ما لا يعيش إلا في باطنها، ولو خرج على ظهرها لمات. وخلق الأشجار والنباتات، وحملها من الحبوب والثمار ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله، مختلف ألوانه، مختلف احجامه، مختلف طعمه، مختلف ثماره. وخلق الإنسان، ومكنه من الكلام، وحمل الكلمات والجمل من المعاني ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وهو سبحانه الحي، الذي خلق الموت والحياة، خلق الحياة، وجعل لكل جنس من خلقه نوعاً من الحياة: فللملائكة حياة .. وللإنس حياة .. وللجن حياة .. وللنبات حياة، ولمن في البحر حياة، ولمن في الأرض حياة .. ولأهل القبور حياة .. ولأهل الجنة حياة .. ولأهل النار حياة. فسبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}

[غافر:68]. وقد خلق الله المخلوقات وجعل منها عالياً، وسافلاً، ومتوسطاً بينهما، فجعل لعاليها النور، وهو مسكن أهل النور من خلقه. وجعل لسافلها الظلمة، وهي مسكن أهل الظلمات من خلقه. وجعل هذه الأرض وما فوقها إلى العلو متوسطاً بينهما. وكل ما كان أقرب إلى العرش والكرسي كان أعظم نوراً، ولهذا كان فضل نور العرش والكرسي على ما تحته كفضل نور الشمس والقمر على أخص الكواكب. وكل ما كان أقرب إلى السفلي المطلق كان أشد ظلمة، ولهذا لما كان محبس أهل الظلمات سجيناً كانت سوداء مظلمة، لا نور فيها بوجه. فكل ما كان أقرب إلى الرب جل جلاله كان أعظم نوراً ظاهراً وباطناً .. وكلما بعد عنه كان أشد ظلمة بحسب بعده عنه .. ونسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه .. والقوى إلى قوته .. والغنى إلى غناه. وما أعظم نور النار .. فكيف بنور البرق الذي يكاد سناه يذهب بالأبصار .. فكيف بنور الشمس والقمر .. فكيف بنور الحجاب .. فكيف بنور العرش والكرسي .. فكيف بنور الخالق جل جلاله. والأمر أعظم من أن يصفه واصف، أو يتصوره عاقل، فتبارك الله رب العالمين، الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه، وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه، وشهدت الفطر باستحالة شبهه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} ... [النور: 35]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ

بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة .. الخالق الذي خلق كل شيء .. المتفرد بالخلق والإيجاد .. والتصريف والتدبير .. الذي له الخلق والأمر .. فتبارك الله أحسن الخالقين. خلق السماء المرفوعة وما فيها من المخلوقات العظام، وخلق الأرض الموضوعة وما فيها من عجائب المخلوقات، وخلق سراجي العالم وهما الشمس والقمر، وملأهما بنوره. وخلق نوعي النبات ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض. وخلق ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار، والمياه والمعادن والغاز. وخلق سبحانه نوعي المكلفين، وهما الإنس والجن، والذكور والإناث. وخلق نوعي المأكولات، من النبات والحيوان. وخلق أنواع المشروبات من الماء العذب، والحليب السائغ، والعسل الشهي. وخلق نوعي البحار، هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج. وخلق لأوليائه دار كرامته، وهي الجنة دار السلام. وخلق لأعدائه دار نقمته وإهانته، وهي النار دار العذاب. وخلق لهذه خلقاً .. ولتلك خلقاً، حتى إذا اكتمل سكان هذه، وسكان هذه، انقطع النسل، ثم قامت القيامة، ثم نقلهم بعد الحساب إلى دار القرار، في الجنة أو النار، حسب أعمالهم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} ... [الزلزلة: 7، 8]. وهذا الكون العظيم معرض هائل لآيات الله، وعجائب صنعته: فالسماء التي نراها، والكواكب التي نشاهدها، والنجوم المتحركة والثابتة، وما في السموات من المخلوقات، ومن أصناف الملائكة آية من آيات الله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (179).

وفي هذه الأرض التي نعيش عليها أحياء تسكن سطحها، وأحياء تسبح في أجوائها، وأحياء تعيش في مائها، وأحياء تختبئ في مفاوزها وكهوفها. وهي أشكال وألوان، وأمم وقبائل لا يحصيها إلا الله وحده لا شريك له. وقد خلق الله لهذه الأحياء أقواتاً جاهزة ميسرة في كل زمان، وفي كل مكان، لتلبي حاجات هذه الأحياء التي لا يحصيها إلا الله الذي خلقها، وهي في كل لحظة تزيد، وأرزاقها تزيد، ومنافعها تزيد، وبيوتها تزيد. وهذه الأرض الممدودة، وهاد وبطاح، وسهول وجبال، وأنهار ووديان، وبحار وبحيرات، وجنات وعيون وغدران، وتراب وأحجار ومعادن، ولها أحوال، فمنها ما يجري، ومنها ما يثمر، ومنها ما لا يحصي منافعه إلا الله. فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} [الأعلى: 2 - 5]. والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء نباتاً وحيواناً، وإنساً وجناً، وطيراً وسمكاً، وزواحف وحشرات وغيرها. هذه الخلائق لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له. وكل خليقة منها أمة وشعوب وقبائل، لها أعمار تأكلها، وبيوت تسكنها ثم تبيد. وكل فرد منها عجيبة: كل إنسان .. وكل حيوان .. كل طائر .. كل زاحفة .. كل حشرة .. كل دودة .. كل نبتة .. كل شجرة .. لا بل كل جناح في يرقة .. وكل ورقة في زهرة .. كل واحدة من تلك آية في خلقها .. وآية في شكلها .. وآية في منافعها. وكل ذلك نراه يومياً في المعرض الإلهي العجيب .. فهل من مدكر .. ؟. وفي الأرض آيات وعجائب، وأشكال وألوان، وأمم ونعم لا يحصيها إلا الله العليم الخبير: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالجولة في هذا المعرض الهائل إلا

القلب العامر بالإيمان واليقين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} ... [الذاريات: 20]. فاليقين هو الذي يحيي القلب فيرى ويدرك ويتأثر، وكثير من الناس يمرون بالمعرض الإلهي المعروض بآياته ومخلوقاته مغمضي العيون، لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون لغة، لأن نعمة اليقين لم تسكن قلوبهم، فتراهم ينظرون ولا يبصرون، لأن العيون ترى الأشكال، والقلوب ترى الحقائق، والعيون ترى الصور، والقلوب ترى المصور: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. ومثل هذا المعرض العظيم الواسع المفتوح معرض آخر مكنون فينا نحن البشر، الذي انطوى فيه أسرار الوجود كله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} ... [الذاريات: 21]. وهذان المعرضان مفتوحان على الدوام .. لمن يريد أن يبصر ويستبصر .. ولمن يريد أن يستيقن .. ولمن يريد أن يملأ حياته بالمتعة والسرور .. ويروي قلبه بالإيمان واليقين .. ويرى إبداع الحكيم العليم في الخلق والتصوير .. والتصريف والتدبير: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 26]. وهذه المخلوقات العظيمة التي خلقها الله، لا يحيط الإنسان بعددها، فضلاً عن وصفها وذكر منافعها. والأحياء التي خلقها الله قسمان: منها ما له بداية وليس له نهاية: وهم بنو آدم، فإن بدايتهم معلومة، ونهايتهم الخلود في الجنة أو النار، ومثلهم الجن، ومن شاء الله مما لا نعلمه. ومنها ما له بداية وله نهاية وهو باقي المخلوقات التي يقال لها يوم القيامة كوني تراباً. فهذا الخلاق العظيم .. وهذا خلقه .. وهذه قدرته .. وهذه آياته: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6].

4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 6]. الله عز وجل خالق كل شيء، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، مقلب القلوب ومصرفها كيف شاء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو العزيز الحكيم. هو الذي جعل المسلم مسلماً .. والمصلي مصلياً .. والمتقي متقياً .. والداعي داعياً. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره .. وأئمة الضلال يدعون إلى النار بإذنه .. وألهم كل نفس فجورها وتقواها. يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هو الذي وفق أهل الطاعة فأطاعوه، ولو شاء لخذلهم فعصوه، وحال بين الكفار وقلوبهم فكفروا به، فإنه يحول بين المرء وقلبه، ولو شاء الله لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء الله ما اقتتلوا، وما اختلفوا، ولكن الله يفعل ما يريد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. علم الله كل شيء، وخلق كل شيء، وكتب كل شيء، وشاء كل شيء، هو الخالق وما سواه مخلوق، هو الملك وما سواه مملوك: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وهو سبحانه الحكيم وما سواه محكوم، حكيم في كل ما فعله وخلقه، فمصدر جميع ذلك عن حكمة تامة.

وحكمته سبحانه قائمة به كسائر صفاته، وهي الغاية المحبوبة له سبحانه، المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى. ومصدر الخلق والأمر، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج مخلوق عن قدرته. وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه. وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه. وكذلك أمره سبحانه بعلمه وحكمته وعزته، فهو العليم بخلقه وأمره، الحكيم في خلقه وأمره، العزيز في ملكه وسلطانه. ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلا، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. والحكمة: هي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والدعوة إليه، فكل هذا يسمى حكمة. وكما لا يخرج مقدور عن علمه ومشيئته، فكذلك لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو سبحانه المحمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة. ففي كل ما خلقه الله وأمر به حكمة، وكله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَبَّيْكَ! وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (771).

فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه سبحانه، فلا يضاف إلى ذاته، ولا أسمائه، ولا صفاته، ولا أفعاله. فذاته سبحانه منزهة عن كل شر .. وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب .. وصفاته صفات كمال لا نقص فيها .. وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة. وهو سبحانه المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه. وبيان ذلك: أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، وهي شرور النفس، وسيئات الأعمال، وهي ذنوب تأتي من نفس العبد. فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد. كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي صفات ذاتية للرب، وذات الرب مستلزمة للحكمة والخير والجود والإحسان، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه كما قال سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل، فصدر منه البر والإحسان والطاعة. ومن أراد به شراً أمسكه عنه، وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وسوء وفساد. وليس منعه لذلك ظلماً منه سبحانه، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به، ولا يزكو فيه. وأيضاً هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فضله. والله تبارك وتعالى أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به.

وهو سبحانه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وأصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها. ومن عرفها ولم يعرف المنعم لم يشكرها أيضاً. ومن عرف النعمة والمنعم بها لكن جحدها فقد كفرها. ومن عرف النعمة، والمنعم بها، وأقر بها، لكن لم يخضع للمنعم ويحبه ويرضى عنه لم يشكرها أيضاً. ومن عرف النعمة .. وعرف المنعم بها .. وخضع للمنعم بها .. وأحبه .. ورضي به .. ورضي عنه .. واستعملها في طاعته ومحابه .. فهذا هو الشاكر لها. فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته، والخضوع له، والتقرب إليه بما يرضيه. وكل رجل، وكل امرأة، وكل عبد يتقلب بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه. فعليه أن يحدث للنعمة شكراً، وللذنب استغفاراً، ويبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وهذا، رجوع عبد مطمئن إلى ربه منيب إليه، فهو معبوده ولا صلاح له إلا بعبادته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري (¬1). فالخير كله من الله، والنعم كلها من الله كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6306).

مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53، 54]. فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولكن أكثر الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة ربهم عليهم. والله عزَّ وجلَّ هو الذي يحبب الإيمان إلى العباد، ويزينه في قلوبهم، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الأدلة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وتوفيقهم للإنابة إليه كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]. وهو سبحانه الذي كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان بما أودع في القلوب من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وما نصبه من الأدلة على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبيان أضراره. فكل فضل ونعمة وخير يحصل للعباد إنما حصل لهم بفضل الله وإحسانه إليهم، لا بحولهم ولا بقوتهم، وهو العليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} ... [الحجرات: 8]. والله عزَّ وجلَّ وإن كان أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فإنه كذلك أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جوده وكرمه، ورحمته وفضله، حكمته وعدله. ولو أن أحداً من العقلاء وضع المسك في الحش، أو وضع النجاسة في موضع الطيب، لاشتد نكير الناس عليه، والقدح في عقله، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، أو وضع الإحسان موضع العقوبة، لسفهوه وقدحوا في عقله، وغير ذلك مما يخل بالحكمة. فالعليم الحكيم الذي بهرت حكمته العقول والألباب كيف يليق به أن يضع

الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها، أو يمنعها من هو أهل لها؟. وأجل النعم التي أنعم الله بها على العباد هي نعمة الإيمان بالله، ومعرفته ومحبته طاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ولزوم عبوديته، وهذا كله من تمام حكمته ورحمته بعباده. والله سبحانه من حكمته خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والعلو والسفل .. والذكر والأنثى .. واليابس والماء. وكذلك الأرواح منها الطيب والخبيث .. وكذلك القلوب منها الشريف الزكي .. ومنها القلب الخسيس الخبيث. وهو سبحانه أعلم بالقلوب الزاكية، والأرواح الطيبة، التي تصلح لاستقرار نعم الله فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها. فليس من الحكمة أن يبذر الإنسان البر في الصخور والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم ولا رشيد. فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة في المحال التي هي أخبث المحال، فهو سبحانه العليم الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويضع أمانته. وهو سبحانه أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده، ويقوم بحقها، ويصبر على أوامره، ويشكره على نعمه، ويعظمه ويتقرب إليه سبحانه، ومن لا يصلح لذلك. وكذلك الله عزَّ وجلَّ أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، وإبلاغ دينه، فإن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته. فالله عزَّ وجلَّ إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، حبب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، وأعانه عليه، ويسر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره، فلا يزال يعامله

بلطف، ويختصه بفضله ورحمته، ويمده بعونه، ويريه مواقع إحسانه إليه، وبره به، فيزداد العبد به معرفة، وله محبة، وإليه إنابة، وعليه توكلاً، وله ذكراً. فهذا القلب الزاكي هو الذي اقتضت حكمة الله وكرمه وإحسانه أن يبذر فيه بذور الإيمان والمعرفة، وأن يسقيه بماء العلم النافع، ليقطف منه صاحبه ثمرة العمل الصالح، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة. فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا. وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (¬1). فشبه - صلى الله عليه وسلم - القلوب بالأرض، والوحي بالماء: فمن الأرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات .. وهذه الأرض بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه .. المستعد لزكاته فيه .. وثمرته ونمائه .. وهذا القلب خير قلوب العالمين. ومن الأرض كذلك أرض صلبة قابلة لحفظ الماء .. لكن ليس فيها قوة الإنبات .. فهذه الأرض بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وأداه إلى من هو أفقه منه .. وهذا في الدرجة الثانية. ومن الأرض كذلك أرض قيعان .. وهي الأرض المستوية التي لا تنبت لكونها سبخة، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعاً، لم تمسكه لشرب الناس .. ولم تنبت به كلأً .. لأنها غير قابلة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79) واللفظ له، ومسلم برقم (2282).

وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين. والله عزَّ وجلَّ أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها، ومن لا يصلح لها. وحكمته جل وعلا تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحاً، وجعله أهلاً وقابلاً. فمنه الإعداد .. ومنه الإمداد .. ومنه التوفيق. فإن قيل فهلا جعل المحال كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد؟ قيل هذا القائل من أجهل الناس، وأضلهم، وأسفههم، وأصغرهم عقلاً. وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الله الأضداد؟. وهلا جعلها كلها سبباً واحداً؟. فلم خلق الليل والنهار .. والشياطين والملائكة .. والحر والبرد .. والداء والدواء .. والروائح الطيبة والكريهة .. والحلو والمر .. والحسن والقبيح .. والذكر والأنثى؟. ومن له أدنى مسكة من عقل يعلم أن هذا السؤال يدل على حمق سائله، وفساد عقله. وهل خلق هذه الأشياء المتقابلة إلا موجب ربوبيته وإلهيته، وملكه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ومحال أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟. وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء، وإهانة الأعداء؟. وهل تمام الحكمة، وكمال القدرة، إلا بخلق المتضادات والمتقابلات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها؟. وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه جل جلاله وعز سلطانه؟.

فهل يكون رزاقاً وغفاراً، وحليماً ورحيماً، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له، ولا من يحلم عنه ويرحمه؟. وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟. فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم؟. ويري أولياءه كمال نعمته عليهم، واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه. وليس في الحكمة تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه. فالغيث الذي يحيي الله به البلاد والعباد، والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر؟، وكم يهدم من بناء؟، وكم يعوق من مصلحة؟. ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح العظيمة من الإرواء والإنبات والحياة؟. وهل تلك المفاسد في جنب هذه المصالح العامة النافعة إلا كتفلة في بحر؟. وهل تعطيله لئلا تحصل تلك المفاسد، إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك والدمار؟. وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، كم تؤذي بحرّها مسافراً وغيره؟، وكم تجفف رطوبة؟، وكم تعطش من البهائم؟، وكم تحرق من نبات أخضر؟. ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح؟. فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه. فحقيقة الإنسان أن نفسه جاهلة ظالمة، فقيرة محتاجة للعلم والهدى. والشر الذي يحصل للإنسان نوعان: عدم .. ووجود. فالأول: كعدم العلم والإيمان، وعدم الصبر وإرادة الخير، وعدم العمل بذلك. والثاني: الشر الوجودي: كالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة. فذلك من لوازم ذلك العدم، فمتى عدم العلم النافع والعمل الصالح من النفس،

لزم أن يخلق الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالأمر النافع الصالح، اشتغلت بالضد الضار الفاسد. وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى، لأنه خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فله فيه حكمة لأجلها خلقه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة. وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك. ومن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، في مقام الصدق بين الملأ الأعلى، فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، والتي تفرق بين الأبرار والفجار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم من أهل الردى والدناءة والقبائح، لقدح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك، لاختياره ما لا يليق به ولا بملكه. فما الظن بمجاوري الملك الأعظم، مالك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى، الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم. أفيليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، والدرجات العلا، أرواح سفلية أرضية، قد أخلدت إلى الأرض، وعصت ربها، وعكفت على شهواتها كالحيوانات والبهائم السائمة. فلا ترى نعيماً ولا لذةً ولا سروراً إلا بما وافق طباعها من مأكل ومشرب ومنكح، من أين كان؟، وكيف كان؟. فالفرق بينها وبين الكلاب والحمير انتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، والمشي على القدمين.

أما الطبع بالقلب فعلى شاكلة هذه الحيوانات وطباعها. بل ربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير، ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]. فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة؟. ويكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟. هذا لا يكون أبداً، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36]. وهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين المؤمن والفاسق في دار واحدة يوم القيامة: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]. فالله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء، خلق الليل والنهار، والماء والتراب، والحر والبرد، والسهل والحزن، والضار والنافع، والبر والفاجر ونحو ذلك لنعرف كمال قدرته، وكمال حكمته، وكمال رحمته. فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة بتنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه، وكمال الرحمة بالانتفاع بها، والاتعاظ بها. والمؤمن يربط القدرة بالحكمة، فلا يكون شيء إلا بقدر الله ومشيئته وحكمته، وكما لا يخلو مخلوق من علم الله، فكذلك لا يخلو من حكمته. فكل ما يحصل من النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون ناراً إلا بها. وكذلك النفس، فما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها، وخالق كل شيء قام بها، وما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وجهلها.

فالنفس ليس عندها خير يحصل لها منها بل ذلك إلى الله، والنفس متحركة بالذات، فإن لم تتحرك بالخير تحركت بالشر فضرت صاحبها. والنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: 19 - 22]. فخلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان على هذه الصفة، ومن كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله وإحسانه من الإيمان والتقوى. وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب سبحانه، وهو موجب حكمته وعزته، وهي بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة. وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبراً وفجوراً. ولله تبارك وتعالى الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى توفيقه الموجب لطاعته، وعلى خذلانه الموقع في معصيته. والله عزَّ وجلَّ رحمته سبقت غضبه، وما يحصل للبشر من الضرر والأذى، فله في ذلك أعظم حكمة مطلوبة. فكما أن الزارع يحصد الزرع ثم يجعل الحب الطيب في مكان يناسبه، والعيدان والقصب في مكان آخر، فالأول للإطعام والانتفاع، والثاني للإحراق والإتلاف. فكذلك الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وفضله يجعل في الجنة من كان طيباً، وزرع خيراً، وجنى طيباً، ويجعل في النار من العباد من لا خير فيه، كالعيدان والشوك الذي لا يصلح إلا للنار. وجميع ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين: أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها وهي الإيمان والتوحيد.

الثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات: أما في المأمورات فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح سبحانه إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه. وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله عزَّ وجلَّ به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده. وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمة تعود إليه يحبها .. وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها. ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس. فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير. وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان. وجعل سبحانه الطيب منحازاً إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازاً إلى هذه الروح الخبيثة. فتلك تجذب كل طيب .. وهذه تجذب كل خبيث .. ولكل منهما عمل ودار. وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟. وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله عزَّ وجلَّ يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاوراً له في دار كرامته، مختصاً برؤيته والقرب منه. ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاوراً له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.

فسبحان الحكيم العليم الذي خلق من المادة النارية من جعله محركاً للنفوس الخبيثة .. داعياً لها إلى محل الخبث والإحراق وهو الشيطان .. لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع .. وتميل إليه بالمناسبة .. فتنحاز إلى ما يناسبها عدلاً وحكمة .. لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها. بل أقام بحكمته وعدله داعياً يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوماً لخالقها وبارئها من أحوالها، وكان خفياً على العباد. فلما استجابت لأمره، وآثرت طاعته على طاعة ربها، الذي تتقلب في نعمه، ظهر حينئذ لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس الخبيثة، وطردها عنه، وإبعادها عن رحمته. وأقام سبحانه للنفوس الطيبة داعياً يدعوها إليه .. وإلى مرضاته وكرامته .. فلبت دعوته واستجابت لأمره .. فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته. فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده. فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18]. والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك. والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه. فإن قيل كيف يريد الله عزَّ وجلَّ أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟. قيل: الله سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره،

وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى. فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها: منها ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير. وخلق الليل والنهار، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، كل ذلك يدل على كمال قدرة الله وعزته، وعظمة سلطانه وملكه، فإنه خلقها وجعلها محل تصرفه وتدبيره. فتبارك الله خالق هذا وهذا، وهو الحكيم العليم. ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال. ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد. ومنها ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه. فلا يضع سبحانه الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء

موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به. فهو سبحانه الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها. فلو قدر سبحانه عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح والمنافع ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر. ومنها حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فالله عزَّ وجلَّ يحب عبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، وتوابعها من الموالاة في الله، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى. فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وهو الحكيم الخبير. ومنها عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار. ومنها عبودية مجاهدة عدو الله، ومراغمته في الله، ومخالفته، وذلك من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويجاهده. ومنها أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده ومكره وشره. ومنها أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه من الطرد واللعن بسبب معصيته، فيحذرون معصيته، ويبادرون إلى طاعته.

ومنها أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته. ومنها أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب عزَّ وجلَّ. ومنها أن الطبيعة البشرية جعلها الله مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد. فخلق الله الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل. وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل. فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في إكرام أهل الخير وعقوبة أهل الشر. فالملائكة ظنوا أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. ألا ما أقل علم الخلق بقدرة رب العالمين، وحكمة أحكم الحاكمين. ومنها أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه إنما حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان في قوم نوح، وآية الريح في قوم عاد، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وآية موسى مع فرعون وبني إسرائيل بانفلاق البحر، وخروج الماء من الحجر، ونحو ذلك. فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} ... [الشعراء: 139، 140].

ومنها أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن الربوبية القاهرة، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل. والرب سبحانه كامل في نفسه، ولو لم يخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي. فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلقه ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته، أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها. فإن قيل هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟. قيل هذا محال، وهو سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب، والكتابة بدون كاتب، والحركة بدون متحرك، والتوبة بدون تائب. فإن قيل: فهذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟. قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها. وسر المسألة: أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها ما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه. فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟. قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له. فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟. قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة

التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47]. والطاعة: هي موافقة الأمر لا موافقة القدر، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله. والله حكيم عليم، فقد جعل في خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة، والآيات الظاهرة، ما لم يكن يحصل بدونه. فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان التي أغرق الله بها الكفار والظالمين. ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه. ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة. ولولا كفر فرعون وقومه لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله من عباده. وهلك بها من هلك عن بينة، وحيى بها من حيى عن بينة، وظهر بها فضل الله وعدله، وقدرته وحكمته، وآيات رسله. ولولا مجيء المشركين يوم بدر بقوة السلاح، وكثرة الرجال، والكبر والبطر، لما حصلت تلك الآيات العظيمة من النصر، ونزول الملائكة، والتي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير، ما لم يكن حاصلاً مع عدمها. وكم حصل بها من الهدى والإيمان؟. وكم حصل بها من محبوب للرحمان، وغيظ للشيطان؟. وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جداً بالنسبة إلى

مصالحها وحكمها وآثارها العظيمة. والله حكيم عليم أراد أن يري عباده السابق واللاحق ما هو من أعظم آياته، وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه، ثم جعل زوال ملكه وإهلاكه على يده. فكم حصل بقصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مع فرعون من عبرة وحكمة، ورحمة وهداية. وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب (من مس الشيطان له بنصب وعذاب، اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدله بالنعماء، بعد ذلك الصبر والدعاء. وكذلك كفر قوم إبراهيم وشركهم، وتكسيره لأصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النيران العظيمة له، وإلقاؤه فيها، كل ذلك أوصله إلى أن صارت النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً عليه. وصارت تلك آية وحجة وعبرة على مر الزمن. وكم بين إخراج الرسول (من مكة مختفياً على تلك الحال، وبين دخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبوراً لله، وقد اكتنفه المسلمون من جميع الجهات، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حرمه ذلك الدخول المهيب الرهيب. فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كأن لم يكن في جنب هذا النصر المبين؟. ولولا معارضة السحرة لموسى - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء العصي والحبال، حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم، لما ظهرت آية عصا موسى - صلى الله عليه وسلم - التي ابتلعت عصيهم وحبالهم فآمنوا فوراً، وانقلبوا على فرعون، وقاموا في وجهه معتزين بدينهم، مدافعين عنه. فسبحان الحكيم العليم الذي جميع أفعاله كلها حكم وآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18]. وهو سبحانه الملك الذي يتصرف في عباده بالحكمة والعلم، بالعدل لا بالظلم،

بالإحسان لا بالإساءة، بما يصلحهم لا بما يفسدهم. فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم بل جوداً وكرماً، ولطفاً وبراً، ورحمةً وإحساناً. ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمةً، لا لمعاوضة واستحقاق منهم، أو دين واجب لهم يستحقونه عليه. ويعاقبهم عدلاً وحكمةً، لا تشفياً ولا مخافةً ولا ظلماً كما يعاقب الملوك والجبابرة وغيرهم. بل هو سبحانه على الصراط المستقيم، وهو صراط العدل والإحسان، في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره كما قال هود - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه .. وهدايته وإضلاله .. وفي نفعه وضره .. وعافيته وبلائه .. وإعزازه وإذلاله .. وإنعامه وانتقامه .. وثوابه وعقابه .. وتحليله وتحريمه .. وأمره ونهيه .. وإحيائه وإماتته .. وفي كل ما يخلقه .. وفي كل ما يأمر به .. وفي كل ما يدعو إليه. وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم من المؤمنين. وهو سبحانه على صراط مستقيم في تصرفه في ملكه، يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحداً بجريرة أحد، ولا يكلف نفساً ما لا تطيقه، ومصير العباد كلهم إليه، وطريقهم عليه، لا يفوته أحد منهم، فيجازيهم بما عملوا: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. وكل دابة تحت قبضته وإرادته، وهو آخذ بناصيتها، فلا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدره، ومن ناصيته بيد الله فلا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ

يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} ... [الإنسان: 30]. فهو سبحانه الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وجزاؤه الحق، وأفعاله كلها حق، وكتبه كلها حق، وكيف يليق بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، ويتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. وهو سبحانه المولى الكريم، الذي هدى الضالين، وعلَّم الجاهلين، وأصلح الفاسدين، وأنقذ الهالكين، وبصر المتحيرين، وتاب على المذنبين، وأقبل بقلوب المعرضين، وذكر الغافلين، وآوى الشاردين. وإذا أوقع سبحانه عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة. حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11]. فهو سبحانه لكمال حكمته وعدله، يضع العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعه في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا هذه العقوبة. وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنه أهلك أعداءه، وأنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة والإرادة، بل بسبب عملهم كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37]. وقال عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55]. وقال عن عاد حين كذبوا هوداً (: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [الشعراء: 139].

وقد ضمن الله عزَّ وجلَّ زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، والمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26، 27]. وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده، فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده، ودفعه لما تحققه وعرفه. وأنه سبحانه هو العليم الحكيم الذي لو علم في تلك المحال والنفوس التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته، فهم شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23]. وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن أقبل على الله هداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه، ومن أعرض عنه، فإن الله لا يهدي القوم الكافرين ولا الظالمين ولا الفاسقين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. وأخبر سبحانه أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115]. وأما المكر والكيد والخداع الذي وصف به نفسه، فهو مجازاته للماكرين والكائدين، والمخادعين لأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.

وكذلك الكيد والمخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه وكيدهم، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر كما قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار، فهذا عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه، لم يبطله عليه، فقد يكون به آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض. والله تبارك وتعلى يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود لآدم، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، وبادروا إلى الامتثال، وأظهر ما في قلب عدوه إبليس من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى وامتنع من السجود لربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته. والذي يخافه العارفون بالله من مكره، أن يؤخر عنهم عذاب المعاصي، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة، أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، أو أن يعلم من ذنوبهم ما لا يعلمونه، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، أو يبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر. ومن علم الله منه أنه لا يؤمن، ولا يصلح للهداية، فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96، 97].

ومن ضل عن قبول الحق والاهتداء به .. فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به .. وأن محله غير قابل له .. فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه .. كما هوأعلم حيث يجعل رسالته. وكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمل الرسالة، وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وتأمل حكمة الرب جل جلاله في عذاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال، لما كانو أطول أعماراً، وأعظم قوى، وأعتى على الله وعلى رسله. فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى، رفع الله عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين. وما أعظم حكمة الرب جل جلاله في إرسال الرسل في الأمم واحداً بعد واحد .. كلما مات رسول خلفه آخر .. لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء .. لضعف عقولها .. وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق. فلما انتهت النبوة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف .. وأصحها أذهاناً .. وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض. فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ومن وراءهم، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدّث. فسبحان الخلاق العليم، العزيز الحكيم، البصير بأحوال خلقه وملكه، الذي له في كل ذرة في هذا الكون فما فوقها: خلق من خلقه .. وقضاء من قضائه .. وأمر من أمره .. وحكمة من حكمه. فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.

5 - فقه خلق المخلوقات

5 - فقه خَلق المخلوقات قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وقال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 101، 102]. الله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً: خلق كل شيء في العالم العلوي، وفي العالم السفلي. خلق العرش والكرسي .. وخلق السموات والأرض .. وخلق الشمس والقمر، وخلق النجوم والكواكب .. وخلق الليل والنهار .. وخلق الملائكة والأرواح .. وخلق الماء والرياح .. وغير ذلك مما خلقه الله، ولا يحيط بعلمه إلا هو. وخلق سبحانه الأنهار والبحار .. وخلق التراب والجبال .. وخلق النبات والحيوان .. وخلق الإنس والجان .. وخلق الحر والبرد .. وخلق اليابس والرطب .. وخلق الكبير والصغير .. وخلق الذكر والأنثى. وخلق سبحانه الدنيا والآخرة .. والجنة والنار، والثواب والعقاب: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)} [غافر: 62]. فسبحان الخلاق الذي خلق كل شيء، الذي يخلق ما يشاء ويختار، الجبار الذي قهر كل شيء، العظيم الذي لا يعجزه شيء، الملك الذي بيده ملكوت كل شيء، القوي القادر على كل شيء: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 81 - 83].

1 - خلق العرش والكرسي

1 - خلق العرش والكرسي قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وقال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. الله تبارك وتعالى هو الملك الذي يملك كل شيء، القوي الذي لا يعجزه شيء، الخالق الذي خلق كل شيء. خلق العرش واستوى عليه، وأمر الملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به. وخلق البيت المعمور في السماء السابعة، وأمر الملائكة بالطواف به. وخلق سبحانه البيت العتيق في الأرض، وأمر بني آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة. وعرش الرحمن عزَّ وجلَّ سرير ذو قوائم .. تحمله الملائكة .. وهو كالقبة على العالم .. وهو سقف المخلوقات .. وأعظم المخلوقات .. وأعلى المخلوقات .. وأوسع المخلوقات .. وأكبر المخلوقات .. فالله سبحانه مجيد .. وعرشه مجيد. والله جل جلاله مدح نفسه بأنه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15]. وأنه: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]. وأنه: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة: 129]. فوصف سبحانه العرش بأنه مجيد، وكريم، وعظيم. فهو عظيم لكونه أعظم المخلوقات وأكبرها وأعلاها وأوسطها.

وكريم لما له من منزلة تميز بها عما سواه من المخلوقات. ومجيد عال مرتفع على جميع المخلوقات والكائنات. وبذلك صار بهذه الصفات لائقاً بجلال الله وعظمته وكبريائه. وخصه الله جل جلاله من بين سائر المخلوقات بالاستواء عليه. وعرش الرحمن أكبر المخلوقات وأعظمها، والرحمن استوى عليه بأوسع الصفات وهي الرحمة، فاستوى سبحانه على أوسع المخلوقات وهو العرش، بأوسع الصفات وهي الرحمة كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وعرش الله عزَّ وجلَّ أعلى المخلوقات وأرفعها وسقفها وأقربها إلى الله تعالى، فهو أعلى من السموات والأرض، وهو سقف الجنة، اختصه الله بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه الرحمن كيف شاء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). وعرش الرحمن جل وعلا أكبر المخلوقات وأعظمها، وأوسعها وأثقلها، وزنته أثقل الأوزان، ولا يقدر قدره أحد إلا الله: فـ «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» أخرجه مسلم (¬2). والملائكة الذين يحملون العرش لا يعلم عظمتهم إلا الله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود (¬3). وعرش الرحمن أعلى المخلوقات، فبين السماء والأرض خمسمائة عام، وبين ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7423). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2726). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4728)، صحيح سنن أبي داود رقم (3953). انظر السلسلة الصحيحة رقم (151).

السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه مثقال ذرة من أعمال العباد. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ العرش قبل خلق السموات والأرض، وقبل القلم، بل قبل سائر المخلوقات. قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أخرجه مسلم (¬1). والعرش أكبر المخلوقات وأعظمها كما قال سبحانه: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة: 129]. وعرش الرحمن تبارك وتعالى أعلى المخلوقات كلها وأثقلها وزناً. فسبحان العزيز الجبار الذي خلقه، واستوى عليه، وجعله مع عظمته محتاجاً إليه: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِه» أخرجه مسلم (¬2). والكرسي وسع السموات والأرض، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة. والسموات السبع، والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وحملة العرش ملائكة عظام لا يعلم عظم خلقهم إلا الله، ولا يعلم قوتهم إلا الله، ولا يعلم عددهم إلا الله، يحملون العرش بقدرة الله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2652). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2726).

وحملة العرش من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم، وهم ومن حول العرش من الملائكة المقربين يعبدون الله عزَّ وجلَّ، ولهم زجل بالتسبيح والتقديس والتحميد كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. ويوم القيامة يحمل عرش الرحمان ثمانية أملاك عظام كما قال سبحانه: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17]. والكرسي جسم عظيم مخلوق بين يدي العرش، وهو موضع القدمين للباري عزَّ وجلَّ، والعرش أعظم منه، والكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش كما قال سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. والله تبارك وتعالى فوق سماواته، مستو على عرشه، عال على خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمرهم: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 26]. وإذا كانت هذه عظمة كرسيه .. فكم تكون عظمة عرشه الذي وصفه بأنه عظيم .. ؟. وكم تكون عظمة الرب الذي استوى عليه جلَّ جلاله .. ؟. أفيليق بمن هذه صفاته .. وهذه أفعاله .. وهذه عظمته .. أن يسكن العبد في ملكه .. ويأكل من رزقه .. ويكفر به .. ويستكبر عن عبادته وطاعته .. ؟.

2 - خلق السموات

2 - خلق السموات قال الله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)} [النازعات: 27 - 29]. وقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. من آيات الله العظام خلق السموات، فهي من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وفي سعتها وقرارها، بحيث لا تصعد علواً كالنار، ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2]. وهو سبحانه الرؤوف الرحيم، الذي أمسك بقدرته السماء أن تقع على الأرض، ولولا إمساكه لها لخرت السماء على الأرض، فهو الذي خلق السماء: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} ... [الحج: 65]. وهو سبحانه الحي القيوم، القوي القدير، الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وكمال قدرته، ما تمتلئ به قلوبهم إجلالاً له وتعظيماً، ومحبةً وذلاً، ولو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. وهو سبحانه الذي خلق سبع سماوات، كل واحدة فوق الأخرى، وخلقها في غاية الحسن والإتقان، لا خلل فيها ولا نقص، فهي حسنة كاملة متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها.

فسبحان الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، والذي خلق السموات السبع في غاية القوة والحسن والعظمة: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} ... [الملك: 3، 4]. وقد زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وهي النجوم على اختلافها في النور والضياء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)} [الملك: 5]. وقد جعل الله هذه النجوم زينةً وجمالاً للسماء، ونوراً وهدايةً يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ورجوماً للشياطين الذين يسترقون السمع ويضلون العباد، ولولا هذه النجوم لكانت السماء سقفاً مظلماً لا حسن فيه ولا جمال. فسبحان الذي خلق السماء وبناها، وسواها وعدلها، فلا صدع فيها ولا فطر، ولا شق فيها ولا عوج. وسبحان من زينها بهذا اللون الأزرق، الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له. وسبحان من أمسكها فلا تميل ولا تميد، ولا تزول ولا تسقط: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]. ومن أراد أن ينظر إلى عظمة الخالق فلينظر إلى مخلوقاته ومصنوعاته، وعظمة أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، وسعة خزائنه. فما أعظم صنع الله في ملكوت السموات، وعلوها وسعتها، واستدارتها، وعظم خلقها، وحسن بنائها، وجمالها: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. فتأمل خلق السماء، وما فيها من عجائب المخلوقات، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها.

فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة .. بل هي أحكم خلقاً .. وأتقن صنعاً .. وأجمع للعجائب من بدن الإنسان كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 57]. بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات، لسعتها وعظمتها، وعلوها، وما فيها من الملائكة والكواكب، والشمس والقمر كما قال سبحانه {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} [الذاريات: 47]. فالأرض وما فيها من المخلوقات، بالنسبة إلى السموات وما فيها من المخلوقات، كقطرة في بحر، وذرة في جبل. وكما خلق الله الأرض وجعل فيها الإنس والجن، فكذلك خلق السموات السبع وملأها بالملائكة الذين: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء:20]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً لِلَّهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلى اللهِ» أخرجه الترمذي (¬1). ولعظمة خلق السموات قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها: إما إخباراً عن عظمتها وسعتها .. وإما إقسامًا بها .. وإما دعاءً إلى النظر إلى خلقها وعظمتها .. وإما إرشاد للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها .. وإما استدلال منه بربوبيته لها مع وحدانيته .. وإما استدلال بخلقها على ما أخبر به من المعاد .. وإما استدلال بحسنها واستوائها وإمساكها على تمام قدرته وحكمته عزَّ وجلَّ. ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2312)، صحيح سنن الترمذي رقم (1882). انظر السلسلة الصحيحة رقم (1722).

وخلق الأرض متقدم على خلق السموات كما قال سبحانه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 9 - 12]. فسبحان الذي خلق هذا السقف الأعظم مع صلابته وشدته وقوته من دخان وهو بخار الماء. وسبحان الذي بنى السموات السبع الشداد كما قال سبحانه: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} [النبأ: 12]. فانظر إلى هذا البناء العظيم الشديد الواسع، الذي رفع الله سمكه أعظم ارتفاع، وزينه بأحسن زينة، وأودعه العجائب والآيات. ثم ارجع البصر إلى السماء، وانظر فيها، وفي كواكبها ودورانها، وطلوعها وغروبها، وهي باقية إلى أن يطويها فاطرها ومبدعها. وانظر إلى شمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها، ودأبها في الحركة على الدوام بأمر خالقها، من غير فتور في حركتها، ولا تغير في سيرها، إلى أن يأتي أجلها، وموعد زوالها. وانظر إلى كثرة كواكب السماء، واختلاف ألوانها وأحجامها وأنوارها. ثم انظر إلى الشمس، وقوة إنارتها وحرارتها، وسيرها في فلكها في مدة سنة، ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بأمر ربها، بسير سخره لها خالقها، لا تتعداه ولا تقصر عنه. ولولا طلوع الشمس وغروبها، لما عرف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء.

وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره شيئاً فشيئاً كل ليلة، حتى يكون بدراً في منتصف الشهر، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم، وعباداتهم ومناسكهم. وما من كوكب من الكواكب إلا وللرب تبارك وتعالى في خلقه حكم كثيرة: في حجمه ومقداره .. وفي شكله ولونه .. وفي موضعه من السماء .. وفي قربه من وسطها وبعده .. وفي قربه من الكوكب الذي يليه .. وفي بعده عنه .. كتفاوت أعضاء البدن واختلافها .. وتفاوت منافعها. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر في ملكوت السموات والأرض لما فيها من الآيات والعبر التي تزيد الإيمان كما قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. والنظر إلى السماء نوعان: الأول: نظر إليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلاً زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك فيه الإنسان غيره من الحيوانات، وليس هو المقصود. الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها، وبين ملائكتها، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويرى أنبياء الله ورسله الذين بلغوا دينه إلى عباده، آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السابعة، وغيرهم في السموات الأخرى. ثم يفتح له باب بعد باب، حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته، وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في أرض فلاة. ويرى الملائكة الذين يحملونه، والملائكة الذين حوله، حافين من حول

العرش، ولهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير. ويرى الملك العظيم الجبار، الكريم الرحمن، مستو على عرشه، والأوامر تنزل من عنده بتدبير الممالك والجنود والخلائق التي لا يعلمها ولا يحصيها إلا ربها ومليكها. فينزل الأوامر بإحياء قوم .. وإماتة آخرين .. وإعزاز قوم .. وإذلال آخرين .. وإنشاء ملك .. وسلب ملك .. وجبر كسير .. وإغناء فقير .. وشفاء مريض .. وإغاثة ملهوف .. ونصر مظلوم .. وهداية حيران .. وتفريج كرب .. ومغفرة ذنب .. وكشف ضر .. وتحويل نعمة من محل إلى محل .. وغير ذلك. فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله شيء منها عن شيء، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج، ولا ينقص الإنفاق ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وينظر إلى أمره يتنزل بين السموات والأرض، وفي كل سماء من سمواته السبع، خلق من خلقه .. وأمر من أمره .. وقضاء من قضائه. خلق سبحانه سبع سموات، بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأمره ينزل بين كل سماء وسماء، وبين الأرض والسماء: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. فإذا رأى القلب هذا .. ورأى حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به .. ورأى الملائكة يطوفون بالبيت المعمور .. ورأى كل سماء مملوءة بالركع السجود من الملائكة .. ورأى قدرة الله تمسك السماء أن تزول أو تقع عل الأرض .. ورأى هذا الملكوت العظيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيبته، خاشعاً لعظمته، ذليلاً لعزته، فيسجد بين يدي الرحمن، الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى

يوم المزيد. فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه. فيا له من سفر ما أبركه وأروحه .. وما أعظم ثمرته وربحه .. وما أسعد صاحبه. وهذه السموات السبع العظيمة، على اتساعها وكبرها وعظمتها، يطويها العزيز الجبار يوم القيامة بيمينه، وهي في يده أصغر من الخردلة كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء: 104]. وجاء حبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يَا مُحَمَّدُ! أوْ يَا أبَا الْقَاسِمِ! إِنَّ اللهَ تعالى يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَعَجُّباً مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقاً لَهُ، ثُمَّ قَرَأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ... [الزمر: 67]» متفق عليه (¬1). ألا ما أعظم الله .. وما أعظم خلقه .. وما أعظم قوته. فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فالناس بالنسبة إلى خلق السموات والأرض من أصغر ما يكون. فالذي خلق الأجرام العظيمة وأتقنها، قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى، فما بال أكثر الناس لا يعتبرون بذلك، ولا يجعلونه منهم على بال: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811)، ومسلم برقم (2786) واللفظ له.

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} ... [غافر: 57]. ألا ما أعظم آيات الله في خلق السموات السبع الشداد: من علوها وسعتها .. وكبرها وعظمتها .. ولونها الحسن .. وإتقانها العجيب .. وما فيها من النجوم والكواكب .. الثوابت والسيارات .. والشمس والقمر النيرات .. جعلها الله سقفاً للأرض .. وحفظها من السقوط. فهل يتعظ الإنسان ويتدبر خلق هذه السموات السبع الطباق، وما فيها من الآيات والعبر؟. {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32].

3 - خلق الأرض

3 - خَلق الأرض قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} [السجدة: 4]. وقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]. خلق الله الأرض مختلفة الأجناس والصفات والمنافع: فهذه الأرض سهلة .. وهذه حزنة. وهذه صلبة .. وهذه رخوة .. وهذه سوداء .. وبجوارها بيضاء .. وهذه حصى كلها .. وبجوارها أرض ليس فيها حجر .. وهذه سبخة مالحة .. وبجوارها أرض خصبة طيبة .. وهذه طين أو رمل ليس فيها جبل .. وهذه مسجرة بالجبال .. وهذه تصلح لنبات كذا .. وهذه لا تصلح له .. وهذه تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ .. وهذه تنبت الكلأ، ولا تمسك الماء: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} ... [الرعد: 4]. فسبحان من نوعها هذا التنوع .. وفرق أجزاءها هذا التفريق .. ومن خص كل قطعة منها بما خصها به من المنافع والنبات والمعادن. وسبحان من ألقى عليها رواسيها .. وفتح فيها السبل .. وأخرج منها الماء والمرعى .. ومن بارك فيها .. وقدر فيها أقواتها. وإذا نظر الإنسان إلى الأرض، وكيف خُلقت، رآها من أعظم آيات فاطرها ومبدعها. خلقها الله عزَّ وجلَّ فراشاً ومهاداً، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها

بالجبال، وجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم. ووسع سبحانه أكنافها، ودحاها، ومدها، وبسطها، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات كما قال سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات: 25، 26]. والأرض كائن حي، يحيا ويموت، فالماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها بأمر الله الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي، وتموج صفحاتها بألوان وأشكال من الأحياء من النباتات، والماء رسول الحياة من الله، فحيث كان تكون الحياة: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} [الروم: 24]. فانظر إلى الأرض وهي ميتة هامدة خاشعة، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتحركت، وربت واخضرت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر. أقوات وأزهار وثمار على اختلافها، وتباين مقاديرها وأشكالها، وألوانها ومنافعها، وأنواع الفواكه والثمار، ومراعي الدواب والطير: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5]. ثم انظر إلى قطع الأرض المتجاورات، وكيف ينزل عليها ماء واحد، فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل، والرائحة والطعم، والمنفعة والحجم، واللقاح واحد، والأم واحدة، والنتاج مختلف. فسبحان من أودع هذه الأجنة المختلفة في بطن هذه الأم، وجعلها تحمل بذلك من لقاح واحد أمم وقبائل من النبات: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. وسبحان من أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات، الشوامخ الصم

الصلاب، ونصبها فأحسن نصبها، ورفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار، وتوالي الرياح، وأتقن صنعها، وأحكم وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والجواهر والعيون ما أودعها، ثم هدى الناس للاستفادة منها، ولولا هدايته لهم إلى ذلك لم يعرفوه ولم يقدروا عليه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} [النبأ: 6، 7]. والله تبارك وتعالى هو الذي أنزل من السماء ماء مباركاً، وأسكنه في الأرض، يستفيد منه الإنسان والحيوان والنبات على مدار العام كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} ... [المؤمنون: 18]. فسبحان من أودع الماء في الأرض، ثم أخرج به أنواع الأغذية والأدوية والأشربة والأقوات على مدار العام. فهذا لغذاء الإنسان .. وهذا لغذاء الحيوان .. وهذا سم قاتل. وهذا شفاء من السم .. وهذا حار .. وهذا بارد .. وهذا حلو .. وهذا مر .. وهذا حامض .. وهذا مالح .. وهذا ثمر .. وهذا ورق .. وهذا حب متراكب .. وهذ منفرد .. وهذا ثمر مستور .. وهذا مكشوف .. وهذا ثمر أبيض .. وهذا أصفر .. وهذا أحمر .. وهذا أسود. وهذا ثمره في باطن الأرض .. وهذا على سطح الأرض .. وهذا ثمره في أعلاه .. وهذا في أسفله .. إلى غير ذلك من عجائب النبات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده، والذي لا تكاد تخلو ورقة ولا زهرة، ولا ثمرة ولا خشبة منه، من منافع تعجز العقول عن الإحاطة بها: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. وانظر إلى قدرة الله في سوق الماء في تلك العروق الرقيقة الضعيفة، وكيف يستقبله النبات، وكيف يجذبه من مقره ومركزه إلى فوق، ثم ينصرف في تلك الأغصان والأوراق والثمار. فسبحان من أنزل الماء بقدرته، ورفعه بقدرته، وسيره بقدرته، وقسمه بعلمه

ومشيئته، وأحيا به الأموات، وأخرج به من كل الثمرات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10، 11]. وسبحان الخلاق العليم الذي خلق الأرض وبسطها، وشق أنهارها، وأنبت أشجارها، وأخرج ثمارها، ومن صدعها عن النبات، وأودع فيها جميع الأقوات: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)} [الشعراء: 174]. وسبحان الذي يمسك الأرض أن تتحرك أو تزلزل فيسقط ما عليها من بناء ومعلم، أو يخسفها بمن عليها فإذا هي تمور، وتبلع ما على ظهرها. وإذا خسف الله بالأرض، فمن ذا يمسكها سواه، وإذا زلزلها فمن ذا يثبتها سواه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. وهو سبحانه الذي جعل الأرض خزانة حافظة لما استودع فيها من المياه، والأرزاق، والمعادن، والنبات والحيوان، وجعل فيها الجنات والحدائق والعيون، إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار. والله عزَّ وجلَّ هو الحي الذي يحيي الأرض بعد موتها، فينزل عليها الماء من السماء، ثم يرسل عليها الرياح، ويطلع عليها الشمس، فتأخذ في الحبل، فإذا كان وقت الولادة، مخضت للوضع، واهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج، بإذن ربها وفاطرها. فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي جعل السماء كالأب، والأرض كالأم، والقطر كالماء الذي ينعقد منه الولد، فإذا حصل الحب في الأرض، وصب عليه الماء، وكان في الموسم، انتفخت الحبة، وانفلقت عن ساقين، ساق من فوقها وهو الشجرة، وساق من تحتها وهو العروق، ثم عظم ذلك الولد، ثم وضع من

الأولاد بعد أبيه آلافاً مؤلفة، كل ذلك صنع الرب في حبة واحدة، وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأم، وجعل ذلك دليلاً على إخراج من في القبور، ليوم البعث والنشور: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 5 - 7]. فالأرض كالأم تحمل في بطنها أنواع الأولاد من كل صنف، ثم تخرج بأمر الله من ذلك للإنسان والحيوان ما أذن لها فيه ربها أن تخرجه، إما بعملهم وإما بدونه، ثم يرد إليها ما خرج منها، فينبته الله مرة أخرى .. وهكذا. وجعلها سبحانه كفاتاً للأحياء ما داموا على ظهرها، فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها، فكانت كفاتاً لهم تضمهم على ظهرها أحياء، وفي بطنها أمواتاً. فإذا جاء يوم الوقت المعلوم، وقد أثقلها الحمل، وحان وقت الولادة ودنو المخاض، أوحى إليها ربها وفاطرها أن تضع حملها، وتخرج أثقالها، فتخرج الناس بإذن ربها من بطنها إلى ظهرها. {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)} [المعارج: 43، 44]. ثم تحدث أخبارها، وتشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير أو شر: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 4 - 8]. فسبحان من أخرج الليل والنهار بواسطة الأجرام العلوية، وأخرج الذكور والإناث بواسطة الأجرام السفلية، فأخرج من الأرض ذكور الحيوان وإناثه، وذكور النبات وإناثه، على اختلاف أنواعها، كما أخرج من السماء الليل والنهار بواسطة الشمس.

وسبحان من جعل الأرض بالنسبة للإنسان كالأم، بل أشفق من الأم، فقد أمر الله الأم أن تسقيك لوناً واحداً من اللبن، وأمر الأرض أن تطعمك وتسقيك ألواناً من المأكولات والمشروبات. وكنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، كنت مطيعاً لله، دعاك إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها مطيعاً. وأنت الآن في بطن الأم الكبرى، وقد سخر الله لك كل شيء، وهو اليوم يدعوك إلى الخروج إلى الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة مراراً فلا تجيبه؟. فما أجهل الإنسان بربه، وما أجهله بما ينفعه وما يضره، وما أظلمه لنفسه ولغيره: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. وفي خلق الأرض آيات وعجائب وعبر، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله كما قال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} ... [الذاريات: 20]. ومن آياتها خلقها بهذا الحجم الهائل العظيم، وسعتها وكبر خلقها، وتسطيحها ليستقر عليها الحيوان، فهي كروية لها سطح. ومن آياتها أن جعلها سبحانه قراراً وفراشاً، لتكون مقر الحيوان ومساكنه. وجعلها سبحانه بساطاً يسير عليها الحيوان والإنسان بيسر وسهولة، وجعل فيها الفجاج والسبل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} [نوح: 19 - 20]. وجعلها الله عزَّ وجلَّ مهاداً ذلولاً، تُوطأ بالأقدام، وتضرب بالمعاول والفئوس، وتُحمل على ظهرها الأبنية الثقال، فهي ذلول مسخرة لما يريد العبد منها في تحقيق مصالحه، من بناء وزراعة وصناعة. ومن رحمته سبحانه أن جعل الأرض ذلولاً، لم يجعلها في غاية الصلابة والشدة كالحديد فيمتنع حفرها وشقها، والغرس والزرع فيها، ولم يجعلها سائلة لا يمكن الزرع والغرس فيها، ولا رخوة لا يمكن السير عليها، والبناء فوقها. بل جعلها سبحانه قراراً بين الصلابة والدماثة، بحيث تصلح للسير والمشي،

وتقبل الزرع والغرس، وتحمل المباني والأجسام الثقيلة: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]. وأشرف الجواهر عند الإنسان الذهب والفضة، ولو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها، وتعطلت المنافع المقصودة منها. ومن هنا نعلم أن جواهر التراب ومنافعه أشرف من هذه الجواهر وأنفع وأبرك، وإن كانت تلك أعز وأغلى، فغلاؤها وعزتها لقلتها، وإلا فالتراب أنفع منها وأبرك وأنفس. ومن رحمته سبحانه أن خلق الأرض كثيفة غبراء، فصلحت أن تكون مستقراً للنبات والحيوان والأنام. لم يجعلها سبحانه شفافة لا يستقر عليها النور، فلا تقبل السخونة، فتكون باردة لا يعيش عليها ولا فيها حيوان ولا نبات. ولم يجعلها صقيلة براقة، لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس، كما يشاهد من احتراق القطن عند انعكاس شعاع الجسم الصقيل الشفاف عليه. ومن الآيات في الأرض ما أوقعه الله بالأمم التي كذبت رسله، وخالفت أمره، فأبقى آثارهم دالة عليهم كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} ... [السجدة: 26]. وقال سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38]. فكم من آية؟، وكم من عبرة؟، وكم من تبصرة؟، وكم من ذكرى في هذه الأرض ما عليها؟. وأي دلالة أعظم من رجل يخرج وحده لا مال له ولا عدة ولا عدد. فيدعو الأمة العظيمة إلى توحيد الله والإيمان به وطاعته، ويحذرهم بأسه ونقمته، فيكذبونه ويعادونه، فيذكرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر،

والتي أوقعها الله بمن كفر به وكذب رسله. فيغرق المكذبين كلهم تارة كما فعل سبحانه بقوم نوح، وفرعون وقومه. ويخسف بغيرهم الأرض تارة كما فعل بقارون وغيره. ويهلك آخرين بالريح كم فعل بقوم عاد. ويهلك آخرين بالصيحة كما فعل بقوم ثمود. ويهلك آخرين بالمسخ .. وآخرين بالصواعق .. وآخرين بالحجارة .. وآخرين بأنواع العقوبات .. وينجو داعيهم ومن معه من المؤمنين .. والهالكون أضعاف أضعافهم عدداً وقوة ومنعة وأموالاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 67، 68]. وكل أخذه الله بذنبه عقوبة على جرمه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. والله جل جلاله يُري أهل كل قرن من الآيات ما يبين لهم أنه الإله الحق، وأن رسله صادقون، وأن دينه حق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]. وخلق السموات والأرض آية كبرى تشهد بأن الذي خلقها وأنشأها هو الله وحده، وتنطوي آية السموات والأرض على آية أخرى في ثناياها: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} ... [الشورى: 29]. والحياة في هذه الأرض وحدها، فضلاً عما في السموات من أحياء ومخلوقات لا ندركها آية أخرى، وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد، وعلمه إلى الله وحده دون سواه. فسبحان الخلاق العليم الذي خلق هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان، فوق

سطح الأرض، وفي ثناياها، وفي أعماق البحار، وفي جو السماء. وهذه آية أخرى من آيات الله في الأرض. أسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله، الذي خلقها، وقسم رزقها وسيرها في ملكه الواسع العظيم. وأسراب من النحل وأخواتها لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده. وأسراب من الحشرات والهوام والذر، لا يعلم موطنها إلا الله الذي لا يخفى عليه شيء. وأسراب من الأنعام والوحش، سائمة وشاردة في كل مكان، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده. واسراب من الحيوانات والأسماك في البحر، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده. وأمم من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان، مختلفة الأجناس والألوان واللغات والأشكال، لا يحصيها إلا الله الذي: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]. وخلائق اخرى أربى عدداً، وأخفى مكاناً، في السموات والأرض، لا يعلمها إلا الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذه المخلوقات التي تدب في السموات والأرض يجمعها الله حين يشاء، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب، وبنو آدم يعجزهم أن يجمعوا سرباً من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم. وليس بين بعث هذه المخلوقات وجمعها، وبين موتها وحياتها، إلا كلمة واحدة من الخلاق العليم: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وهذه الأرض الواسعة بما فيها من تراب وجبال وبحار، عائمة في الهواء، سابحة في الفضاء، غير مستندة إلى شيء إلا إلى قدرة الذي خلقها وأمسكها

ودبرها كيف شاء، بهذا النظام الذي لا يتخلف، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء. فسبحان الذي: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]. وسبحان من خلق الأرض ودحاها وملأها بالخيرات والأرزاق، وجهزها لاستقبال الأحياء، وحضانتهم على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وطريقة حياتهم، من نبات وحيوان، وطير وحشرات، وإنس وجن، وغيرهم مما لا يعلمه إلا الله العليم الخبير. وكل هؤلاء جماعات وقبائل وشعوب، لا يحصيها إلا الله الذي خلقها، وخلق أرزاقها، وحدد آجالها. والله تبارك وتعالى هو المولى الكريم الرحيم، الذي خلق هذه الأقوات المدخرة في الأرض، للأحياء التي تسكن على ظهرها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها. هذه الأقوات الجاهزة من جهزها وأعدها بمختلف الأشكال والألوان؟. إن الله هو الذي خلقها، لتلبي حاجات هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها، ولا يحصب كميات أرزاقها إلا الذي خلقها. هذه الأقوات التي أودعها الله في جوفها، والساربة في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس، ومن العوالم الأخرى، وكلها تتدفق وفق تدبير الله الذي خلق هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزه بكل ما يلائم، وبكل ما يلزم لهذه الأنواع الكثيرة التي لا تحصى، والتي تتوالد وتتكاثر على مرِّ الدهور. فسبحان المصور الذي نوع مشاهد الأرض، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم، سهول وجبال، وبحار وأنهار، ونبات وحيوان، وأزهار وثمار وأشجار. وعجائب هذه المشاهد لا تنفد من وهاد وبطاح، ووديان وجبال، وبحار وأنهار. وكل مشهد من هذه المشاهد في تغير دائم، يمر به الإنسان وهو أخضر، ثم يمر

به إبان الحصاد حين يهيج ويصفر، فإذا هو مشهد آخر: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. ألا ما أعظم الآيات والعجائب في هذا الكون العظيم. فمتى يستيقظ القلب البشري للتأمل والتدبر والتفكر في هذا المعرض الإلهي الهائل؟: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20]. إن كثيراً من الناس يمرون بهذا المعرض العجيب من المخلوقات، مغمضي العيون .. مقفلي القلوب .. لا يحسون فيه حياة .. ولا يفقهون لغة .. لأن لمسة اليقين لم تحيِ قلوبهم .. وقد يكون منهم علماء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا. أما حقيقة الحياة والأحياء فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفهم الوجود، ولا تفتح أسراره إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]. والله عزَّ وجلَّ وضع هذه الأرض للأنام كما قال سبحانه: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} [الرحمن: 10]. والإنسان لطول استقراره على هذه الأرض، وإلفه لأوضاعها وظواهرها، لا يحس يد القدرة الإلهية التي وضعت هذه الأرض للأنام، وجعلت استقرارنا عليها ممكناً ميسوراً إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به، ولا نعلم بعظمة نعمة الله علينا فيه إلا حين يثور بركان، أو يمور زلزال، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا، فتضطرب وتمور: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك: 16]. إن البشر لو ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة في هذا الفضاء الكبير، وهي معلقة تسبح في هذا الفضاء، لا يمسكها شيء إلا قدرة الله،

الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، لو أدركوا ذلك لظلوا أبداً معلقي القلوب والأبصار، راجفي الأرواح والأوصال، لا يركنون إلا للواحد القهار: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} ... [يونس: 3]. وما أعظم نعم الله على العباد في خلق هذه الأرض الذي أودعها خالقها ما لا يحصى من النعم. فهي ذلول وحلوب .. وهي مذللة للسير عليها بالقدم .. وعلى الدابة .. وعلى السيارة .. وعلى الفلك التي تمخر البحار .. ومذللة للزرع والجني والحصاد .. ومذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات. هذه الأرض التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، وهي دابة متحركة، بل رامحة راكضة، وهي في الوقت نفسه ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تهزه وترهقه كالدابة غير الذلول. ثم هي حلوب كما هي ذلول، فكم يخرج الله منها من المياه؟، وكم يخرج الله منها من الثمار والحبوب؟، وكم يخرج الله منها من البترول والغاز والمعادن؟. فهذه النعم والأرزاق يسوقها الله إلينا من كل مكان. فهل أدينا حق الله علينا من العبادة والطاعة؟. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} ... [البقرة: 21، 22]. إن هذه الدابة التي نركبها تدور بأمر الله حول نفسها .. وتدور حول الشمس .. وتدور مع المجموعة الشمسية .. فهذه ثلاث دورات للأرض. فسبحان من خلقها، وسبحان من أمسكها، وسبحان من أجراها وحركها. ومع هذا الركض كله، يبقى الإنسان على ظهرها آمناً مستريحاً، مطمئناً معافى، لا تتمزق أوصاله، ولا تتهدم بيوته، ولا يقع مرة عن ظهره هذه الدابة الذلول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ

النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]. وهذه الحركات الثلاث لها حكم وأسرار: فدورة الأرض حول نفسها كل يوم ينشأ عنها الليل والنهار. ولو كان الليل سرمداً لجمدت الحياة والكائنات من البرد، ولو كان النهار سرمداً لاحترقت الحياة والكائنات من الحر. ودورة الأرض حول الشمس هي التي تنشأ عنها الفصول الأربعة، الصيف والربيع، والخريف والشتاء. أما الحركة الثالثة فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها، إلا أنها تدل على كمال قدرة خالقها ومحركها. وهذه الدابة الذلول، تتحرك بأمر القوي القدير هذه الحركات الثلاث الهائلة في وقت واحد، ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة. وهؤلاء البشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة آمنين مطمئنين .. ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم .. يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب في بعض الأحيان .. عندما يأذن الله لها بأن تضطرب قليلاً .. فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم .. ويمور كل ما عليها ويضطرب .. فلا تمسكه قوة ولا حيلة. وذلك عند الزلازل والبراكين التي تكشف عن الوحش الجامح الكامن في الدابة الذلول، التي يمسك الله بزمامها، فلا تثور إلا بقدر، ولا تجمح إلا ثواني معدودات، فيتحطم كل شيء شيده الإنسان على ظهرها، أو يغوص في جوفها عندما تفتح أحد أفواهها، ويخسف جزء منها فتبلعه بأمر ربها انتقاماً وعقوبة ممن عصاه في ملكه وأرضه. وهي تمور بالبشر، وهم لا يملكون شيئاً من هذا الأمر ولا يستطيعون، وهم كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك: 16].

والبشر يبدون في هول الزلازل والبراكين، والخسوف والعواصف، خلقاً ضعافاً مهازيل، لا يملكون شيئاً، ويقف الإنسان أمامها صغيراً هزيلاً، حسيراً مرعوباً، حتى يأخذ الله بزمامها فتلين وتسكن بأمره. والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة، ويغرهم الأمان، بنسيان خالقها وممسكها ومروضها، يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئاً، والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور، وتقذف بالحمم وتفور. والريح من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر، ولا تصده عن التدمير، يحذرهم وينذرهم بقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} [الملك: 17]. وهذا الفضاء العظيم الواسع بين السماء والأرض من خلقه؟. ومن ملأه تارة بالنور الشامل .. وتارة بالظلام الدامس؟. ومن ملأه تارة بالحرارة .. وتارة بالبرودة؟. ومن ملأه بالهواء اللطيف تارة .. وبالعواصف المدمرة تارة؟. ومن سير فيه الشمس الجارية .. والقمر الساري .. والكواكب النيرة؟. ومن سير فيه السحب المتراكمة .. والذرات الطائرة .. والطيور السابحة؟. فسبحان من له الخلق والأمر، والتصريف والتدبير، والدين والشرع. وسبحان الخلاق العليم ... الذي خلق السماء والأرض ... وخلق الكبير والصغير ... وخلق البر والبحر ... وخلق اليابس والرطب ... وخلق كل شيء. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)} [غافر: 62].

4 - خلق الشمس والقمر

4 - خلق الشمس والقمر قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} ... [الأنبياء: 33]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 15، 16]. الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الشمس والقمر، وجعل فيهما النور والإضاءة، وجعل لهما بروجاً ومنازل، ينزلانها مرحلة بعد مرحلة، لإقامة دولة السنة، وتمام مصالح حساب العالم. وبذلك يعلم الناس حساب الأعمار، وآجال الديون والإيجارات والمعاملات، وتتميز الأيام من الليالي، والليالي بعضها من بعض، ولولا حلول الشمس والقمر في تلك المنازل لم يُعلم شيء من ذلك كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس: 5]. وقد قدر العزيز العليم طلوع الشمس والقمر وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، ففي طلوعهما مصالح عظيمة للعباد، وفي غروبهما مصالح عظيمة، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12]. ففي النهار يسعى الناس والدواب في مصالحهم، ويتصرفون في معايشهم، وتدبير أمورهم. وفي الليل يهدأ الناس وينامون، فتنشط الأعضاء والأبدان، وتستعد لعمل جديد، بجسم نشيط. ولولا الغروب لكانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها

حتى يحترق كل ما عليها من نبات وحيوان. فصارت بأمر العزيز الحكيم، تطلع وقتاً بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت، ليقضوا حوائجهم، ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويستريحوا. وصار ضياء النهار، مع ظلام الليل، وحر هذا، مع برد هذا، مع تضادهما، متعاونين متظاهرين متعاقبين، بهما تمام مصالح العالم كما قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)} ... [القصص: 71]. وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} ... [القصص: 72]. وفي حركة الشمس يظهر الله الليل والنهار، وفي ارتفاعها وانخفاضها يظهر الله بقدرته الأزمنة والفصول الأربعة (الصيف والشتاء، والربيع والخريف). ولو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية. فلو كان صيفاً كله لفاتت منافع الشتاء، ولو كان شتاء كله لفاتت منافع الصيف، وهكذا منافع الربيع والخريف. ففي الشتاء تغور الحرارة بأمر الله في الأجواف وبطون الأرض والجبال .. فتتولد مواد الثمار وغيرها .. وتبرد الظواهر .. ويتكثف الهواء .. فيحصل السحاب والمطر .. والثلج والبرد .. الذي به حياة الأرض وأهلها .. واشتداد أبدان الحيوان وقوتها. ثم يليه الربيع، وفي الربيع تظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات، ويتنور الشجر بالزهر والثمر، ويتحرك الحيوان للتناسل. ثم يليه الصيف، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جداً، فتنضج الثمار بأمر الله عزَّ وجلَّ، وتنحل فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في فصل الشتاء، وتغور البرودة، وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء، لأنها كانت تهضمه بالحرارة التي

سكنت في البطون. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان، وصفا الهواء وبرد، فانكسر ذلك السموم، وجعل الله الخريف برزخاً بين سموم الصيف، وبرد الشتاء، لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد، إلى البرد الشديد، فيحصل له الأذى والضرر. وكذلك جعل الله سبحانه الربيع برزخاً بين الشتاء والصيف، فينتقل فيه الحيوان من برد هذا، إلى حر هذا بتدريج وترتيب. فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وأعدل الأماكن التي يعيش فيها النبات والحيوان هي التي تتعاقب عليها الفصول الأربعة، وكل موضع لا تقع عليه الشمس، لا يعيش فيه حيوان ولا نبات، لفرط برده ويبسه، وكل موضع لا تفارقه كذلك، لفرط حره ويبسه. فسبحان من يقلب الليل والنهار لمصالح العباد والحيوان والنبات: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} ... [النور: 44]. وسبحان القادر العليم الحكيم، الذي نور العالم كله بهذا الكوكب العظيم، فجعله سراجاً وهاجاً، يسير بأمر الله عزَّ وجلَّ، فتنتظم به مصالح العباد، ولو كانت الشمس تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات، فيكون الليل سرمداً على من لم تطلع عليه، والنهار سرمداً على من طلعت عليه، فيفسد هؤلاء ... وهؤلاء. ولكن الله عزَّ وجلَّ بحكمته وعلمه وتدبيره قدر طلوعها من أول النهار من المشرق، فتشرق على ما قابلها من الأفق الغربي. ثم لا تزال تجري وتغشى جهة بعد جهة، حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار، فيختلف عندهم الليل والنهار، فتنتظم مصالحهم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} ... [يس: 38]. والله حكيم عليم جعل في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل حكماً عظيمة،

فإن الله خلق ظلمة الليل لهدوء الحيوان، وبرد الهواء على النبات والأبدان، فيعادل حرارة الشمس، فيصلح النبات والحيوان. وشاب سبحانه الليل بشيء من الأنوار، ولم يجعله ظلمة داجية لا ضوء فيه أصلاً، فلا يتمكن الإنسان والحيوان فيه من شيء من الحركة، كالسير وطلب الأكل ونحو ذلك. وجعل الله جل جلاله الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان، لئلا تتعطل الحكم المقصودة منها. وجعل القمر يقبل الزيادة والنقصان، يبدو هلالاً، ثم لا يزال في الزيادة حتى يكون بدراً، ثم ينقص حتى يعود كما بدا، وبذلك تتحقق مصالح للعباد كثيرة، من معرفة الأيام والآجال والأوقات. فجعل الله الشمس للتوقيت اليومي، والقمر للتوقيت الشهري، وهما يجريان بأمر الله في مصالح العالم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} ... [يس: 38 - 40]. وجعل في نور القمر من التبريد والتصلب، ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل، فتتم الحكمة وتحصل المصلحة من تعاقب هذا بعد هذا. فسبحان الخلاق العليم، الذي جعل هذا الفلك العظيم بشمسه وقمره، ونجومه وكواكبه، وبروجه وفصوله، يدور على هذا العالم الكبير، هذا الدوران السريع المستمر، بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص، ولا يختل نظامه. وذلك كله صادر عن كمال عزة الله وقدرته وعلمه: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 96]. وإذا تفكر الإنسان في أمر هذين النيرين العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خلقهما وجرمهما، ونورهما وحركتهما، كل واحد له نهج واحد، فهما دائبان، لا ينيان ولا يفتران، ولا يقع في حركتهما اختلاف بالبطء والسرعة. والذهاب

والرجوع .. والعلو والهبوط. ولا يجري أحدهما في فلك صاحبه، ولا يدخل عليه في سلطانه، ولا تدرك الشمس القمر، ولا يجيء الليل قبل انقضاء النهار، بل لكل حركة مقدرة، ونهج معين، وتأثير ومنفعة لا يشركه فيها الآخر. فسبحان من خلقهما .. وسبحان من نورهما وسيرهما. وسبحان من سخرهما ودبرهما هذا التدبير العجيب لمنافع خلقه، وإظهار قدرته، وكمال علمه، ولطف تدبيره، وحسن حكمته: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [فصلت: 37]. وإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه، السموات والأرض، والشمس والقمر، وسائر المخلوقات، فما بال الإنسان لا يشارك هؤلاء في عبادة ربه، ويسمع ويطيع؟. إن من عدل عن عبادة الله إلى عبادة غيره فقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. فسبحان من خلق الشمس والقمر، وأودعهما النور والإضاءة، وجعل لهما بروجاً ومنازل تعرف بهما السنين والشهور، والأيام والليالي وتتحقق بهما مصالح العالم كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12]. وخَلْق الشمس والقمر .. وطلوعهما وغروبهما .. من أعظم الأدلة على وقوع المعاد .. كما هو مشهود في إبداء الليل والنهار وإعادتهما .. وفي إبداء القمر ثم كماله ثم نقصانه .. وفي إبداء النور وإعادته في القمر .. وفي طلوع الشمس

وغروبها .. وفي إبداء الزمان وإعادته .. وإبداء الحيوان والنبات وإعادتهما .. وإبداء فصول السنة وإعادتها .. وفي إبداء الحر والبرد وإعادتهما .. كل ذلك دليل ظاهر على المبدأ والمعاد الذي نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل. وقد خلق الله الشمس وجعل لها ست حركات: من المشرق إلى المغرب .. ومن الأسفل إلى الأعلى .. ومن الأعلى إلى الأسفل. وجعل لها مشرقين في الصيف والشتاء، ومشارق ومغارب بعدد أيام السنة كما قال سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40، 41]. وهذا النور العظيم الهائل في الشمس .. وهذا النور العظيم في القمر .. وهذا النور الذي يشع من الكواكب والنجوم والأبصار، كل ذلك نور خلقه الله وأودعه تلك الأجرام. وإذا كان هذا نور الشمس والقمر والنجوم ... فكم يكون نور العرش الذي استوى عليه الرحمن؟. وإذا كان هذا نور مخلوقاته .. فكيف يكون نوره جل جلاله؟: فسبحان الذي كل خلق في العالم من خلقه ... وكل رزق في الكون من رزقه ... وكل نور في العالم من نوره. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} ... [النور: 40].

5 - خلق النجوم

5 - خلق النجوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} ... [الأنعام: 97]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)} [الملك: 5]. خلق الله تبارك وتعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء .. ورجوماً للشياطين .. وعلامات يهتدى بها. فما أعظم حكمة الرب تبارك وتعالى في خلق النجوم والكواكب، وكثرتها وعجيب خلقها، وما جعل الله فيها من النور والضوء، بحيث ترى مع بعدها المفرط، فهي منقادة بأمر ربها، جارية على سنن واحدة لا تخرج عنه. فسبحان من خلق الكواكب والنجوم، وجعل لها البروج والمنازل، وجعل منها الثوابت والسيارة، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والمفرد والمجموع. وفاوت بين ألوانها وأحجامها وحركاتها، وسيرها بقدرته: فمنها الثابت، ومنها المتحرك، ومنها ما يسير وحده، ومنها ما يسير مع رفقته. وسبحان من فاوت بينها، وحفظها وأبقاها، فلا تتقدم إلا بأمره، ولا تتأخر إلا بأمره، ولا تسكن ولا تحرك إلا بأمره كما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} [النحل: 12]. وخالف سبحانه بين الكواكب في الطلوع والسير والمنازل: فبعضها يطلع، وبعضها يغيب، ومنها السائر والمتحرك، ومنها ما يسير إلا مجتمعاً كالجيش الواحد، ومنها ما يسير وحده كالقائد. ومنها ظاهر لا يغيب أبداً، جعلها الله بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا،

ويهتدون بها حيث شاءوا كما قال سبحانه: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16]. فما أعظم هذه النجوم المنثورة في السماء، وما أحسنها وما أجملها. والجمال في خلق هذا الكون مقصود كالكمال. والقرآن يوجه النظر إلى جمال السموات بعد أن وجه النظر إلى كمالها كما قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. فقد زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وهي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، نراها حين ننظر إلى السماء. ومشهد النجوم في السماء جميل، وهو جمال يأخذ القلوب، متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء، إلى الليلة الظلماء، ومن مشهد الصحو، إلى مشهد السحاب والضباب، بل إنه ليختلف من ساعة إلى ساعة، وكله جمال يأخذ الألباب. فسبحان الجميل الذي خلق الجمال في هذا الكون العظيم. هذه الشمس الساطعة .. وهذا القمر الساري .. وهذا الفلك الواسع .. وهذه النجوم المنتثرة .. في هذا الفضاء الواسع .. الذي لا يمل البصر امتداده .. ولا يبلغ البصر آماده .. وهذه الأجرام الهائلة التي تزين السماء .. وتجري بأمر ربها مشرقة ومغربة. فسبحان من خلقها، وسبحان من جملها، وسبحان من سيرها .. وسبحان من أمسكها. إن القرآن يوجه الإنسان إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون، لأن إدراك جمال الكون، هو أقرب وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود وعظمته: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]. فكم من نجم سابح في الفضاء؟ .. وكم من كوكب ساري؟ .. وكم من شهاب

ثاقب؟. وكل كوكب وكل نجم له أمر من الله في خلقه .. وأمر في بقائه .. وأمر في حركته وسكونه. فسبحان من خلقها وأمدها بالنور، وسيرها في ملكه العظيم، وهي سامعة مطيعة منقادة لأمر ربها، لا يصطدم منها نجم بآخر، ولا يواجه كوكب آخر. وسبحان من نوع الآيات الدالة على عظمته وقدرته، وعلى صدق رسله، وجعلها للفطر تارة، وللسمع تارة، وللبصر تارة، وجعلها آفاقية ونفسية، ومنقولة ومعقولة، ومرئية بالعيون، ومرئية بالقلوب، فاستجاب من استجاب، وأبى الظالمون إلا كفوراً: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. وإذا تأمل الإنسان ما في خلق هذا الكون من الآيات والعجائب .. وتدبر ما فيه من الحسن والتصريف والتدبير .. ورأى ما فيه من النعم والخيرات .. وظل معرضاً عن ربه .. ولم يخشع قلبه .. فليعلم أنه قد خسف بعقله وقلبه .. وأنه قد ركبه عدوه .. وسار به إلى النار. فليطلب السلامة والنجاة من عدوه من ربه العزيز الرحيم. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105].

6 - خلق الليل والنهار

6 - خلق الليل والنهار قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار من أعجب آيات الله سبحانه. ولهذا يكرر الله ذكرها في القرآن، لما تضمنه من الآيات والعبر الدالة على ربوبية الله وقدرته وحكمته. فانظر كيف جعل الله سبحانه الليل سكناً ولباساً يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب. حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها، جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار تقدمه الشمس، فهزم تلك الظلمة، ومزقها كل ممزق، وأزالها وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون. فانتشر الحيوان والإنسان، وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، لتستلم أرزاقها التي قدرها الله لها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} [الفرقان: 47]. فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، ومع تكرار ذلك، ودوام مشاهدة النفوس له، صار كالمألوف المعتاد، قل من يعتبر به: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]. وقد خلق الله الشمس، وجعلها علامة على النهار، وخلق القمر، وجعله علامة

على الليل، فخلق سبحانه الشمس وأمدها بالنور والنار، ففيها إشراق وإحراق لمصالح العباد والكائنات كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12]. ولما كان الله عزَّ وجلَّ يحدث عند كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما شاء، فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره، شرع سبحانه في هذين الوقتين الصلاتين العظيمتين المغرب والفجر، ليذكر العبد ربه، ويسبحه ويحمده عند حدوث هذا التغير الكوني العظيم. والله تبارك وتعالى هو الذي: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} [الزمر: 5]. وهو سبحانه الذي جعل الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر، فلا يجتمعان أبداً، ولا يرتفعان أبداً، يذكران بعظمة خالقهما وآلائه ونعمه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وهوسبحانه الذي يأتي بالليل بعد النهار، وبالنهار بعد الليل، ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر وبالعكس، ويرتب على ذلك قيام الفصول، ومصالح الليل والنهار، التي تتم بها مصالح العباد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)} [الحج: 61]. إن السكون بالليل ضرورة لكل حي، ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية، ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون، بل لا بد من ليل، ولا بدَّ من ظلام، فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تجهد ثم تتلف، لأنها لم تتمتع بفترة من السكون والظلام. ونوم الإنسان انقطاع عن النشاط والإدراك، وهو سر من أسرار تكوين الحي، لا

يعلمه إلامن خلق هذ الحي، وأودعه ذلك السر، وجعل حياته متوقفة عليه. وما من حي يطيق أن يظل من غير نوم، فالنوم ضرورة لكل إنسان، وسر من أسرار القادر الحكيم، ونعمة من نعم الله على عباده: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} [الروم: 23]. والله حكيم عليم جعل حركة الكون، موافقة لحركة الأحياء، فكما أودع الإنسان سر النوم والسبات بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل، ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء، وظاهرة النهار، ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ السموات والأرض بالحق، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري كما قال سبحانه: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)} [العنكبوت: 44]. وكما جهز الخالق هذه السموات وهذه الأرض بما يصلح لحياة هذا الإنسان، جهز كذلك هذا الإنسان باستعدادات وطاقات، وبنى فطرته على معرفته، وترك له جانباً اختيارياً في حياته، يملك معه أن يتجه إلى الهدى، فيعينه الله عليه ويهديه، أو أن يتجه إلى الضلال، فيمد الله له فيه، وترك الناس يعملون بعد إرسال الرسل إليهم، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. يبلوهم لا للعلم فهو يعلم كل شيء، ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم، فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله. فسبحان الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً: خلق الأرض وما فيها .. وخلق السماء ورفعها بلا عمد .. وأمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه .. وخلق الفلك العظيم الذي لا تبدو له حدود معروفة .. والذي

تسبح فيه ملايين المليارات من الكواكب والنجوم والأجرام التي لا يحصيها إلا الله وحده. هذه المخلوقات الكثيرة الضخمة، لا يلتقي فيها اثنان، ولا تصطدم منها مجموعة بمجموعة. وكل هذه النجوم، وكل هذه الكواكب، تجري في هذا الفضاء الهائل بسرعات مخيفة، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة لا تلتقي ولا تتصادم، لأنها في قبضة الله، خلقها بأمره، تبقى بأمره، وتسير بأمره، وتقف بأمره. فسبحان من خلقها، وسبحان من دبرها، وسبحان من سيرها، وسبحان من نورها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

7 - خلق الملائكة

7 - خلق الملائكة قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). الله تبارك وتعالى خالق كل شيء: خلق السموات والأرض، وخلق الليل والنهار، وخلق ما نراه وما لا نراه من الأجسام والأرواح. خلق الدنيا والآخرة، وخلق الإنس والجن، وخلق الملائكة والروح، وخلق الأبدان والعقول. والملائكة خلق عظيم من خلق الله، خلقهم الله من نور، وجبلهم على الطاعات. والملائكة خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله وحده، وهم كغيرهم متفاوتون في الخلق والصفات والأعمال. وعالم الشهادة يسيره الله بالأسباب الظاهرة، وعالم الغيب يسيره الله بالملائكة. والملائكة من حيث الرتبة عباد مكرمون، عابدون لله، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء. وهم من حيث العمل، يعبدون الله ويسبحونه: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19، 20]. وهم من حيث الطاعة، منحهم الله عزَّ وجلَّ الانقياد التام لأمره، وأعطاهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2996).

القدرة على تنفيذه فهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. والملائكة خلق كثير لا يحصيهم إلا الله: منهم حملة العرش .. وخزنة الجنة .. وخزنة النار .. والحفظة والكتبة .. وملائكة في السماء .. وملائكة في الأرض. منهم من اختص الله بعلمهم، ومنهم من أعلمنا الله بأسمائهم وأعمالهم ومنهم: 1 - جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموكل بالوحي إلى الأنبياء والرسل. 2 - ميكائيل - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموكل بالقطر والنبات. 3 - إسرافيل - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموكل بالنفخ في الصور. 4 - مالك، خازن النار، وهو الموكل بالنار. 5 - رضوان، خازن الجنة، وهو الموكل بالجنة. ومنهم ملك الموت، الموكل بقبض الأرواح عند الموت. ومنهم الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم وكتابة أقوالهم وأعمالهم. ومنهم الموكلون بالأجنة في الأرحام، يكتبون بأمر الله رزق الإنسان وعمله وأجله وشقي أو سعيد. ومنهم الملائكة الموكلون بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ورسوله. وغيرهم كثير مما لا يحصيه إلا الله الذي أحصى كل شيء عدداً. وقد وكل الله الملائكة الكرام الكاتبين، وجعلهم علينا حافظين، يكتبون الأقوال والأعمال كما قال سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12].

ومع كل إنسان ملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من أمامه، وواحد من خلفه كما قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. ووكل الله بالجبال ملائكة .. ووكل بالأرحام ملكاً يقول: يا رب نطفة؟ .. يا رب علقة؟ .. يا رب مضغة؟ .. يا رب ذكر أم أنثى؟ .. فما الرزق؟ .. فما الأجل؟ .. وشقي أم سعيد؟. ووكل سبحانه بالموت ملائكة .. ووكل بسؤال الموتى ملائكة .. ووكل بالرحمة ملائكة .. ووكل بالعذاب ملائكة. ووكل بالمؤمن ملائكة يثبتونه ويُوزونه إلى الطاعات .. ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها .. ويصنعون أرائكها وسررها .. وصحافها ونمارقها .. ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها .. ويصنعون أغلالها وسلاسلها .. ويقومون بأمرها. ووكل بالبحار ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض .. فالملائكة هي المدبرات أمراً .. وهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه. والملائكة كما أنهم متفاوتون في العمل فهم كذلك متفاوتون في الخلق. فإسرافيل ينفخ في الصور النفخة الأولى، وهي نفخ الصعق، فيصعق بنفخة واحدة من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه نفخة البعث، فيقوم الناس ليوم البعث كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. وجبريل شديد القوة الظاهرة والباطنة، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)} [النجم: 4 - 6].

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود (¬2). وحملة العرش من الملائكة يؤمنون بالله، ويسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للمؤمنين في الأرض كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. والملائكة أفضل من صالحي البشر باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى، منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر. وصالحو البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، فيوم القيامة بعد دخول الجنة يصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. فالمؤمنون في الجنة في نعيم وسرور دائم: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24]. وقد وكل الله عزَّ وجلَّ الملائكة بالعالم العلوي، والعالم السفلي، تدبره بأمره سبحانه، فتدبر الأمطار والنبات، والأشجار والمياه، والرياح والبحار، والأجنة والحيوانات، والجنة والنار وغير ذلك مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله. وقد أقسم الله بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أوامره فقال سبحانه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 1 - 5]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4857)، ومسلم برقم (174)، واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4727)، صحيح سن أبي داود رقم (3953). انظر السلسلة الصحيحة رقم (151).

فالملائكة قوية تنزع الأرواح بقوة، وتجذبها بقوة. وهي سابحة في الهواء صعوداً ونزولاً، تسبق غيرها لتنفيذ أمر الله جل جلاله. وتدبر أهل العالم العلوي والسفلي بأمر الله. والملائكة يقومون بعبادة الله وطاعته، وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]. والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ويموتون كما يموت الإنس والجن عند النفخ في الصور. وللملائكة قدرة على التشكل كما جاء جبريل إلى مريم في صورة بشر كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)} [مريم: 17]. وجاءت الملائكة إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في صورة بشر، وجاءوا إلى لوط - صلى الله عليه وسلم - في صور شباب حسان الوجوه، وكان جبريل يأتي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابي يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة. والملائكة مستقيمون في عبادتهم، يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف، وفي يوم القيامة يأتون صفوفاً منتظمة كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]. ويقفون صفوفاً بين يدي الله هناك: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} [النبأ: 38]. وهم معصومون من الخطأ، فهم بأمر الله يعملون: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. فهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون، فالأمر يحركهم، والأمر يوقفهم. فسبحان من خلق هذا الخلق العظيم من الملائكة، وملأ بهم السموات السبع، وهم ملأوا السموات السبع بالتحميد والتقديس والتكبير والتهليل والاستغفار، تعظيماً وإجلالاً لربهم تبارك وتعالى.

8 - خلق المياه والبحار

8 - خلق المياه والبحار قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10، 11]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} [النحل: 14]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الماء، وأودع بعضه في السحاب، وأرسل عليه الرياح تحمله بأمر الله، وتسوقه إلى ما شاء الله من البلاد والعباد: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} [الفرقان: 48 - 50]. إن خلق الماء بذاته آية، يجتمع ويتفرق بأمر الله، إن شئت رأيته قطرات، وإن شئت رأيته بحراً محيطاً بهذه الأرض، وبهذا الماء جعل الله كل شيء حي. ثم جمعه في السحاب آية أخرى، ثم سير هذا البحر العظيم في جو السماء آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]. ثم نزول الماء من السحاب إلى الأرض على شكل قطرات آية أخرى. ثم جمعه وإسكانه في الأرض وحفظه آية أخرى. ثم تفجره بعد ذلك من الأرض ينابيع وعيوناً آية أخرى.

ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)} [الزمر: 21]. وحياة النبات التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه آية عجيبة من آيات ربك. وقبول الأرض لهذا الماء وابتهاجها به، وإظهارها زينتها بسببه آية أخرى. ورؤية النبتة الصغيرة وهي تكشف حجاب الأرض عنها، وتزيح أثقال الركام من فوقها، وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية آية أخرى. ورؤية النبتة والشجرة، وهي تصعد رويداً رويداً إلى الفضاء آية أخرى. كل ذلك كفيل بأن يملأ القلب المفتوح ذكرى، وأن يثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]. وهذا الزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة .. بل في النبتة الواحدة .. بل في الزهرة الواحدة .. يسقى بماء واحد .. ويخرج من أم واحدة .. إنه معرض لإبداع قدرة الرب تبارك وتعالى. وهذا الزرع النامي، له أجل وله عمر يبلغ تمامه، ويستوفي أيامه، ثم يهيج فتراه مصفراً، وقد بلغ غايته المقدرة له، فينضج للحصاد، ثم يكون حطاماً، قد استوفى أجله، وأدى دوره، وأنهى دورته مطيعاً نافعاً، كما قدر له واهب الحياة سبحانه، وفي ذلك ذكرى لأولي الألباب والعقول. وكما ينزل الله الماء من السماء، فيحيي به الأرض بعد موتها، وينبت للعباد به زرعاً مختلفاً ألوانه، كذلك ينزل سبحانه من السماء وحياً وذكراً تتلقاه القلوب الحية فتنفتح وتنشرح، وتغير به بإذن الله وجه الحياة البشرية، بأحسن الأخلاق، والآداب، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات. وتتلقاه القلوب القاسية فلا تنتفع به، كما تتلقى الصخرة القاسية الماء فلا يؤثر

فيها: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. والله عزَّ وجلَّ عليم حكيم، يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير، فيصلها بنوره، فتشرق به وتستضيء. أما القلوب القاسية فهي مظلمة جافة معتمة، لا تقبل الهدى وإن رأته وسمعته، كما لا يقبل الحجر الإنبات مع نزول المطر عليه. فسبحان من أنزل من السماء الماء والهدى، وجعل من القلوب ما يقبل الهدى، ومنها ما لا يقبل، وجعل من الأرض ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبل، والله بكل شيء عليم، وبعباده خبير بصير. ألا ما أجهل الإنسان بربه، وما أجهله بمخلوقاته، وما أجهله بنعمه؟. هذه المياه الغزيرة المتوفرة في العالم من خلقها؟. وهذه المياه التي يحملها السحاب من أنزلها من السماء؟. وهذه المياة المجموعة في بطن السحاب من فرقها على الجبال والسهول والوهاد والبطاح؟. ومن سيّرها في الأنهار؟ .. ومن فجّرها من العيون؟. ومن ساقها شراباً عذباً للبهائم والأنعام، والناس والنبات؟ {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70]. والماء الذي ينزل من السماء في كل لحظة في العالم يعرفه كل إنسان، ويراه كل إنسان، ولكن أكثر الناس يمرون عليه ويمر بهم، وهم في غفلة لا يذكرون من خلقه وأنزله وقسمه، وذلك لطول الإلفة والتكرار: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]. والله سبحانه ينزل الماء بقدر إلى الأرض، لا يزيد فيغرق الأرض ومن عليها،

ولا يقل فتجف الأرض، وتذبل الحياة ويهلك من عليها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. فالله أنزل الماء بقدر معلوم، ليحيي به الأرض بعد موتها، ويسقي به العباد والبهائم، وليدل على البعث والنشور. فالذي أنشأ الحياة أول مرة، كذلك يعيدها سبحانه، والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)} [الزخرف: 11]. فسبحان من خلق هذه المياه العظيمة، وصرفها في البلاد والعباد، وجعل منها ما يجري في جو السماء، ومنها ما يجري على ظهر الأرض كالأنهار، وما يستكن في باطن الأرض، وما يستقر في البحار، وما ينبع من الأرض. وسبحان من خلق الماء نوعاً واحداً، وجعل منه الحار والبارد .. والحلو والمر .. والعذب والمالح .. والساكن والجاري .. والسائل والجامد. ومنه ما يعيش فيه هذا النبات، وهذا الحيوان، ومنه ما لا يعيش فيه إلا هذا النبات وهذا الحيوان، كما في البحار والأنهار. وسبحان من جعل من هذا الماء بحرين، وجعل فيهما من المنافع والأرزاق والنعم ما لا يحصيه إلا الله، وجعل لكل بحر طبيعة وأحياء لا تعيش إلا فيه، وخلائق ومنافع تحصل منهما معاً: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)} [فاطر: 12]. ومن آيات الله عزَّ وجلَّ، وعجائب مخلوقاته، هذه البحار العظيمة المكتنفة لأقطار الأرض والمحيطة بها، حتى إن المكشوف من الأرض بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمور بالماء، فالأرض في البحر كبيت في جملة الأرض.

ولولا إمساك الرب تعالى للماء بقدرته، لطفح على الأرض وعلاها كلها، وهذا طبع الماء، ولكن الذي خلقه وطبعه حبسه وقهره. وخلق الله عزَّ وجلَّ في البحار أجناساً مختلفة من الحيوانات، لها أشكال ومقادير وألوان، ولها منافع ومضار، حتى إن فيها حيواناً كالجبل لا يقوم له شيء، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر مثله غالباً، وفيه أجناس كثيرة لا يعهد لها نظير في البر أصلاً. وقد خلق الله هذه البحار العظيمة، وجعلها داراً وسكناً ومسرحاً لما لا يحصيه إلا الله من الأسماك المختلفة الأشكال والأحجام: فمنها الكبير والصغير .. والطويل والقصير .. والمسالم والمفترس .. وما يبيض وما يلد .. وما يعيش في أعلاه .. وما يعيش في أسفله .. وما يعيش في البحار .. وما يعيش في الأنهار. والأسماك أمم وقبائل لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الذي خلقها، وتكفل بأرزاقها، وقام بأمرها، وأذن ببقائها. فسبحانه من إله ما أرحمه، ومن رب ما أعظمه، ومن غني ما أكرمه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 6]. وخلق الله الحكيم العليم السمك بدون قوائم، لأنه لا يحتاج إلى المشي، إذ كان مسكنه الماء الذي يسبح فيه. وخلق له سبحانه عوضاً عن القوائم أجنحة شداداً، يقذف بها من جانبيه، وكسى جلده قشوراً متداخلة ليقيه من الآفات، وأعين بقوة الشم، لأن بصره ضعيف والماء يحجبه، فصار يشم الطعام من بعد فيقصده ويأكله. وجعل سبحانه من فيه إلى صماخه منافذ، فهو يصب الماء فيها بفيه، ويرسله من صماخيه فيتروح بذلك، كما يأخذ الحيوان البري النسيم البارد بأنفه، ثم يرسله ليتروح به.

فالماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري، فهما بحران، أحدهما ألطف من الآخر، وفي كل بحر أمم تعيش فيه. بحر الهواء يسبح فيه حيوان البر. وبحر الماء يسبح فيه حيوان البحر. ولو فارق أحد الصنفين بحره إلى البحر الآخر لمات، فكما يختنق الحيوان البري في الماء، يختنق كذلك الحيوان البحري في الهواء. فسبحان من خلق هذا وهذا، وجعل لهذا عالم من الحيوان والنبات يناسبه، ولهذا عالم آخر يناسبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3]. والسمك أكثر الحيوانات نسلاً، ولهذا يوجد في السمكة الواحدة من البيض أعداد هائلة، وحكمة ذلك أن يتسع لما يتغذى به من أصناف الحيوان، فإن أكثرها يأكل السمك. فالناس تأكل السمك .. والطير تأكله .. والحيوانات والسباع تأكله .. ودواب الأرض تأكله .. والسمك الكبار تأكله .. فكثَّره جل وعلا ليكون غذاء وطعاماً لهذه الأصناف التي لا يحصيها إلا الله. والبحر قسمان: علوي .. وسفلي. فأما البحر السفلي فهو في الأرض، وهو نوعان: عذب، ومالح. وأعظمها وأكبرها وأوسعها، هذا البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، وهو البحر المالح، ويغمر نحو ثلاثة أرباع الأرض، ويتصل بعضه ببعض، ويشغل اليابس الربع، وهذا اليابس كجزيرة صغيرة في بحر عظيم. وأما البحرالعذب فيشمل الوديان والأنهار. وقد خلق الله البحرين، وجعلهما يلتقيان، ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من صنع الله وآياته

العجيبة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)} [الرحمن: 19 - 21]. وتقسيم الماء على هذا النحو في الأرض، لم يجيء مصادفة ولا جزافاً، بل هو مقدر تقديراً عجيباً من العزيز العليم. وهذا القدر الواسع من الماء المالح، هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض، وحفظه دائماً صالحاً للحياة والعافية. ومن هذا البحر الواسع تنبعث الأبخرة بأمر الله، تحت تأثير حرارة الشمس، وتأتي الرياح فتثيرها سحاباً يجري في السماء، وهي التي تعود بأمر الله فتسقط أمطاراً، يتكون منها الماء العذب، فيروي الأرض، وتجري منه الأنهار: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} [الروم: 48]. وعلى هذا الماء العذب الذي ينزله الله من السماء، ويفرقه في البلاد، تقوم حياة النبات والحيوان والإنسان. وتصب جميع الأنهار في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض، ومستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على النهر الذي يصب فيه، ولا يغمرمجراه بمائه المالح فيحوله عن وظيفته: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)} [الفرقان: 53]. وهذا البحر العظيم لولا أن الله يمسكه لفاض على الأرض وأغرق ما فيها، ولكن الله يحبسه ويمسكه، وسيفجره عند قيام الساعة ويجره. وفي البحر نباتات وأشجار لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده. ومن آيات الله في البحرين أنه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22]. واللؤلؤ أصله حيوان، ففي البحر عجائب، ولعل اللؤلؤ من أعجب ما في

البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة، وله شبكة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتمنع دخول الرمل والحصى، وتحت الشبكة أفواه الحيوان، فإذا دخلت ذرة رمل أو حصاة إلى الصدفة سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة، وعلى حسب حجم الجسم الذي دخل يختلف حجم اللؤلؤة. والمرجان من عجائب مخلوقات الله التي تعيش في البحار، يثبت نفسه على صخرة أو عشب، وفتحة فمه محاطة بزوائد إذا لمست الفريسة أصيبت بالشلل في الحال، فتأكلها بعد دخولها الفم. ومن اللؤلؤ والمرجان يتخذ الناس حلياً غالية الثمن، جميلة المنظر. هذا مع ما فيه من العنبر، وأصناف النفائس التي يقذفها البحر، أو يستخرجها الناس بوسائل الصيد. ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر، تشقه وتمخره بواسطة الرياح التي سخرها الله، فإذا حبس الله القائد والسائق ظلت راكدة على ظهره: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} [الشورى: 32 - 33]. وهذه البحار العظيمة، والمحيطات الواسعة من أنشأها؟. ومن أودع هذه البحار خصائصها من كثافة وعمق وسعة، حتى تحتضن ما لا يحصيه إلا الله من الأسماك والمخلوقات والنباتات؟. ومن سخرها لتحمل السفن الضخام، والسفن الجواري، وحفظها من أمواج البحار والعواصف والقواصف؟. وهذه السفن التي كالجبال من أنشأ مادتها، وأودعها خصائصها، وجعلها تطفو على وجه الماء بما فيها من الأجسام الثقيلة؟. وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن، وغير الريح من القوى التي دل الله

الإنسان عليها وسخرها له من بخار أو ذرة أو وقود، تدفع تلك السفن الضخام، من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟. إن الله تبارك وتعالى هو الذي يسير المخلوقات في البر والبحر، لو شاء أسكن الريح، أو عطل محركات السفن، فظلت هذه الجواري راكدة على ظهر البحر. وإنها لتركد أحياناً، فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة، إن في إجرائهن وركودهن على السواء لآيات لكل صبار شكور: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8، 9]. فسبحان من خلق المياه، وسقى بها البلاد والعباد. وسبحان من أسكنها في باطن الأرض، وأجراها في الأنهار، وجمعها في البحار، وحملها في السحاب، وفرقها على النبات والحيوان والإنسان. وسبحان الكريم الذي ملأ البحر بضروب من الحيوانات والنباتات، واللؤلؤ والمرجان، والجواهر والنفائس. وما أوسع ملكه .. وما أكثر خلقه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. وهذا الماء العذب الذي نشربه كل يوم ما دور الإنسان فيه؟. دوره أنه يشربه وينتفع به، أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه فهو الله سبحانه. وهو سبحانه الذي قدر أن يكون الماء عذباً فكان. فمتى يشكر الإنسان فضل الله عليه في خلق رزقه وسوقه إليه حيثما كان: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70]. فسبحان من جمع المياه العظيمة في السحاب، وأمسكها بقدرته، وسيرها في هذا الكون العظيم، ثم أنزلها على شكل قطرات لا يحصيها إلا الله، وفرقها على

الجبال والسهول والوديان والبحار، ثم جمعها في العيون والأنهار والبحار. وسبحانه من حكيم عليم يجمعها إذا شاء لمن شاء، ويفرقها حيناً إذا شاء لمن شاء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 26]. وأما البحر العلوي فهو البحر الذي فوق السماء السابعة، الذي عليه عرش الرحمن، وهو بحر عظيم لا يعلم عظمته وسعته إلا علام الغيوب: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاء» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان من خلق هذه الروايا العظيمة، وحملها على ظهر الريح، وسيرها بأمره حيث شاء، فهي مأمورة مدبرة بأمر ربها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬2). اللهم إنا نستغفرك من جهلنا .. وظلمنا .. وتقصيرنا .. فاغفر لنا .. إنك أنت الغفور الرحيم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2653). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2984).

9 - خلق النبات

9 - خلق النبات قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: 7، 8]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]. الله تبارك وتعالى خلق الأرض، وزينها بما على ظهرها من المياه والنباتات والأشجار، وفرشها بأنواع النبات، وجملها بالزهور، وحملها بالثمار من أجل الإنسان، الذي كرمه الله على سائر المخلوقات. ووضع المولى الكريم مائدة نعمه عليها، من حلو وحامض، ورطب ويابس، وثمر وحبوب، وزرع ونخيل، وعنب وزيتون، وفواكه مختلفة، وأعشاب متنوعة: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32]. فجميع الحيوانات والطيور والحشرات وسائر البشر، كلهم يأكلون من هذه المائدة التي خلقها الله، ووضعها لهم على هذه الأرض. وقد خلق الله سبحانه كل دابة ورزقها، فلا تموت حتى تستوفيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. والله عزَّ وجلَّ أنزل من السماء ماء، فمازج الأرض، فأوجد الله بينهما بسبب هذه الممازجة والمخالطة أنواعاً مختلفة من الثمار والفواكه والحبوب، والزروع والأشجار، وسائر الأغذية والأقوات المختلفة الألوان والأشكال، والأحجام والطعوم كما قال سبحانه: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 5 - 7]. فسبحان من غير بالماء الأرض المغبرة، حتى صارت مخضرة. وسبحان من زينها بالنبات والأزهار، كما زين الإنسان بالثياب والأخلاق. وسبحان من أنجب منها وأظهر ملايين المواليد من النباتات. ذلك هو الله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له، فهو خالق كل شيء، كما ابتدأ الخلق، وكما أحيا الأرض بعد موتها، يحيي الموتى، ثم يجازيهم، وهو على كل شيء قدير. وهذه الزروع التي تنبت، والأشجار التي تثمر، آية من آيات الله الباهرة، هو الذي خلقها ونمّاها، وأخرج منها الثمار والحبوب، فلكل نبتة، ولكل شجرة، ولكل ورقة، ولكل ثمرة، أمر من الله بالخلق، وأمر بالبقاء، وأمر بالنفع والضر. أما دور البشر فهم يحرثون، ويلقون الحب الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله، ويسقونه بالماء الذي خلقه الله، ثم ينتهي دورهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)} [الواقعة: 63 - 67]. إن الحبة أو البذرة تأخذ طريقها إلى الحياة بأمر الله عزَّ وجلَّ .. وتسير فيه سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق .. الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله .. ولا ينحرف عن طريقه .. ولا يضل الهدف المرسوم. فسبحان من خلقها، وسبحان من دبرها، وسبحان من كبرها، وسبحان من صورها. إن يد القدرة الإلهية هي التي تتولى خطاها على طول الطريق في هذه الرحلة العجيبة التي ما كان العقل ليصدقها لولا أنه أبصرها ورآها. فأي عقل يصدق، وأي خيال يتصور، أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود،

وهذا الورق، وهذه السنبلة، وهذا الحب الكثير. أو أن هذه النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه من جذور وأوراق وثمار وأولاد. إن العقل لايصدق هذا، لولا أنه يراه يقع بين يديه صباح مساء، ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس. إن كل حبة، وكل نبتة، وكل بذرة تنبت وتنمو وترتفع بأمر خالقها، ولو شاء سبحانه لم تبدأ رحلتها، ولو شاء لم تتم قصتها، ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتي ثمارها. وهي بمشيئة الله تقطع رحلتها من البدء إلى الختام، وتقدم نفسها طعاماً للإنسان، وهو يعصي ربه، ويخالف أمره، بل قد يستعملها في معصيته. ولكن الله غفور حليم يمنحهم الثمر، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها، وتكمل رحلتها: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة: 243]. والنبات والحيوان أمم وقبائل، وأشكال وألوان لا يحصيها إلا الله: فالنبات منه ما هو معمر .. ومنه ما هو حولي .. ومنه ما هو فصلي .. ومنه الأبيض والأسود .. ومنه الأحمر والأصفر .. ومنه الأخضر والأزرق .. ومنه زهر بلون .. وزهر بلونين .. وزهر بألوان. ومنه حلو .. ومنه مر .. ومنه حار .. ومنه بارد .. ومنه مالح .. ومنه حامض .. ومنه ثمر بنوى .. وثمر بدون نوى. ومنه ثمر ظاهر على الأرض .. ومنه ثمر على رأس الشجر .. ومنه ثمر في باطن الأرض. ومنه ما يتكاثر بالنواة .. ومنه ما يتكاثر بالعروق .. ومنه ما يتكاثر بالأغصان .. ومنه ما هو في البر .. ومنه ما هو في البحر .. ومنه ما هو رطب .. ومنه ما هو

يابس .. ومنه ما هو مجموع كالرمان .. ومنه ما هو مفرود كالتمر .. ومنه الكبير .. ومنه الصغير .. ومنه الكروي .. ومنه المستطيل .. ومنه القائم .. ومنه النائم .. ومنه المعلق. فسبحان الخلاق العليم الذي خلق هذه المواليد المختلفة من أم واحدة: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36]. فما أجهل البشر بخالقهم، وما أجرأ أكثرهم على معصيته: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: 7، 8]. والله سبحانه خلق الإنسان من تراب، وأنبته من هذه الأرض، ثم يعيده بعد تمام أجله، ثم يخرجه للبعث كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17، 18]. وقد خلق الله سبحانه أصناف الأشجار والنبات، وزينها بالأوراق والأزهار والثمار. وجعل الأوراق زينة للأشجار، وستراً ولباساً للثمار، ووقاية لها من الآفات التي تمنع كمالها، ولهذا إذا جردت الشجرة من الورق، ماتت الشجرة، وفسدت الثمرة ولم ينتفع بها. ويكسو الله عزَّ وجلَّ الأشجار كل سنة لباساً جديداً من الأوراق. فتبارك الله رب العالمين، الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. ومع هذا الجمال والزينة، وهذه الثمار المتنوعة، هناك جمال آخر، فلو شاهدها

الناس وهي تسبح بحمد ربها، أغصانها وأوراقها، وأزهارها وثمارها، لشاهدوا أمراً آخر، ولرأوا خلقها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، فهي ساجدة لربها، مطيعة لخالقها الذي: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. فسبحان العزيز الجبار الكريم الرحمن، الذي يسبح له، ويسجد له، ويصلي له، جميع ما في السموات وما في الأرض من الكائنات. وسبحان من تؤوب له الجبال بالتسبيح، وتهبط من خشيته الأحجار، وتتفجر بالماء من خشيته الصم الصلاب. إن تكون حمل الشجر، وتقلبه من حال إلى حال كتنقل أحوال الجنين في بطن أمه، فبينما ترى الشجرة عارية، إذ كساها ربها بالزهر والورق أحسن كسوة، ثم أطلع فيها حملها ضعيفاً صغيراً. ثم ساق إليه غذاءه في تلك العروق، فتتغذى به كما يتغذى الطفل من لبن أمه، ثم رباه ونماه حتى استوى وكمل. فسبحان العليم القدير الذي اخرج ذلك الجني اللذيذ اللين الحلو، من تلك الحطبة الصماء، في تلك الأرض الغبراء، إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39].

10 - خلق الحيوانات

10 - خلق الحيوانات قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]. الله جل جلاله هو الخلاق العليم، خلق السموات، وملأها بالملائكة التي تسبحه وتقدس له. وخلق الأرض، وخلق منها الإنسان، وجعله خليفة فيها. وخلق حول الإنسان مخلوقات عظيمة من الحيوانات، تدب على وجه الأرض .. أو تحلق في جو السماء .. أو تسبح في قعر البحر. وهذه الحيوانات أمم وقبائل، وأنواع وأجناس، وأشكال وألوان، وذكور وإناث. وهي أعداد هائلة لايحصيها إلا الله الذي خلقها ودبرها، والذي يطعمها ويسقيها، وينميها ويعافيها، ويعلم مستقرها ومستودعها. فهي ساربة منتشرة، في ملكه بأمره سبحانه، تأكل وتشرب من مائدة نعمه الكبرى في هذه الأرض: فمنها ما يمشي على بطنه .. ومنها ما يمشي على رجلين .. ومنها ما يمشي على أربع .. ومنها ما يطير بجناحيه .. ومنها ما يسبح في البحار والأنهار. وكلها تسبح بحمد ربها طائعة لخالقها، عابدة ساجدة له، حتى تستكمل آجالها، وتستوفي أرزاقها: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 49، 50]. وهذه الحيوانات المختلفة الأجناس والأنواع، والأحجام والألوان.

كل فرد منها معجز في خلقه .. معجز في تصريفه .. معجز في طريقة حياته .. معجز في نموه وتكاثره وولادته .. بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة تحفظ وجوده وامتداده .. وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء. فسبحان العليم الحكيم الذي يمسك بزمام الأنواع والأجناس، يزيد فيها وينقص بحكمة وتقدير، ويضع في كل منها من القوى والخصائص والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً. فالإبل والبقر، والغنم والمعز خلقها الله عزَّ وجلَّ لمنافع العباد كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} [يس: 71 - 73]. فسبحان العزيز الكريم الذي سخرها للإنسان يأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أصوافها، ويفترش من أوبارها. وهذه الأنعام قليلة النسل، إذ قلما تلد في السنة إلا واحداً، ولكن الله سبحانه جعل فيها البركة، فهي مع قلتها وكثرة من يأكلها من البشر والسباع إلاأنها أكثر الحيوانات نماءً وكثرةً وبركة ومنافع. والنسور من الطيور الجارحة الضارية وعمرها مديد، ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير. وكيف يكون الأمر لو كان للنسور نسل العصافير؟. إنها ستقضي على جميع الطيور، وتحرم منها بقية الأجناس والبشر. فسبحان من أكثر من هذا، وقلل من هذا لمصالح عباده. والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية، والفهود كذلك والنمور كذلك. كيف تكون الحال لو كانت تنسل نسل الشياه والضباء؟. إنها ما كانت لتبقي على لحم تجده من حيوان أو إنسان.

فسبحان العليم القدير الذي يمسك بزمام مخلوقاته .. فجعل نسل هذه محدوداً بالقدر المطلوب .. وبارك في نسل الضباء والشاء وغيرها من ذوات اللحوم لمصالح ومنافع عباده: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 5]. والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة بمشيئة الله مئات الألوف، وفي مقابل هذا لا تعيش إلا أسبوعين تقريباً. فكيف لو أفلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنوات؟. إذاً لكان الذباب يغطي الأجسام والقرى والدور، ويأكل العيون والطعام. ولكن الحي القيوم العليم بكل شيء أحكم الأمور وفق تقدير محكم، محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف. فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، كما أحسن خلقه وأتقنه. وسبحان من خزائنه مملوءة بكل شيء، ولكنه حكيم لا ينزل منه إلا بقدر ما يصلح أحوال البلاد والعباد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. إنها آيات وعجائب في الخلق والتدبير، والتحريك والتسكين، والإحياء والإماتة في عالم البشر، وفي عالم الحيوان، وفي عالم البر، وفي عالم البحر، وفي العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)} [الجاثية: 3، 4]. إنها آيات ناطقة لكل مؤمن يراها ويتدبرها. واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس وتتأثر وتنيب. اليقين بالله الذي يدع القلوب تثبت وتطمئن، وتتلقى كل ما تراه وتسمعه في الكون في هدوء ويسر، وفي راحة من القلق والحيرة. والميكروبات مخلوقات عظيمة هائلة الكثرة، فهي أكثر الأحياء عدداً، وأسرعها تكاثراً، وأشدها فتكاً، لكنها أضعف الأحياء مقاومة، وأقصرها عمراً.

وهي تموت بالملايين في كل لحظة بسبب البرد، أو الحر، أو الضوء أو عوامل أخرى. ولو كانت قوية المقاومة، أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء. فسبحان من بهرت حكمته القلوب والعقول، ومن دبر خلقه بمشيئته وحده لا شريك له. وسبحان من خلق هذه الخلائق، وأسكنهم في ملكه، وأطعمهم من رزقه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]. وكل حي وكل كائن من هذه الحيوانات والطيور والحشرات، مزود بسلاح بتقي به هجمات أعدائه، ويغالب به خطر الفناء، في البر أو في البحر، وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح .. وقوة البطش سلاح .. وبينهما ألوان وأنواع: فالحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها. والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام. والضباء مزودة بسرعة الجري والقفز. والأسود والسباع مزودة بقوة البأس والافتراس. والطيور الجارحة مزودة بمخالب ومناقير تمزق اللحوم. وبعض الأسماك مزودة بمناشير تذبح من يقترب منها. وهكذا كل حي من الأحياء الكبار والصغار على السواء. فسبحان من خلقها، ومن دبر أرزاقها، ومن يسر لها القوة التي تدافع بها عن نفسها. وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام، الإنسان والحيوان، والطيور والحشرات، كل خلق الله له ما يناسبه، من الطعام والشراب والسكن. والحيوانات تحصل على أرزاقها التي قسم الله لها بطرق شتى:

فمنها ما يعيش على النبات والحبوب كالإبل والبقر والغنم والغزال ونحوها. ومنها ما يعيش على اللحوم كالحيوانات الكاسرة، والسباع الضارية التي تعيش في الفلاة، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها، والتغلب عليها كالأسود والنمور، والضبع والفهد، والذئاب والثعالب. فهذه قد زودها الله بأنياب قاطعة، وأسنان حادة، وأضراس صلبة. ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها، جعل الله لها عضلات قوية، وسلحها بأظفار ومخالب حادة، لتتمكن من الاستيلاء على فريستها، وجعل سبحانه في معدتها من الأحماض التي تساعدها على هضم اللحوم والعظام. فسبحان: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. وأما الحيوانات المجترة المستأنسة، التي تعيش على المراعي، فهي تختلف فيما زودت به من الآلات، وقد خلق الله أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة. فأفواهها واسعة نسبياً، وقد تجردت من الأنياب القوية، والأضراس الصلبة، وبدلاً منها خلق الله لها أسناناً قاصمة قاطعة، فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة، وتبلعها دفعة واحدة، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات. ولما كانت هذه الحيوانات هدفاً للسباع، فهي تأكل غذاءها بسرعة وتختفي، ثم تهضمه في وقت طويل جداً، فلو لم تكن مجترة، وبمعدتها مخزن خاص، لضاع وقت طويل في الرعي. فسبحان من خلقها، ووهبها سرعة الأكل، وهداها إلى تخزينه، ومكنها من إعادته بعد أن يصيب شيئاً من الرطوبة، ليبدأ الطحن والمضغ والبلع. والطيور الجارحة كالبوم والحدأة والصقر، ذات منقار مقوس حاد، على شكل خطاف لتمزيق اللحوم. بينما الأوز والبط لها مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة، توائم البحث

عن الغذاء في الطين والماء، وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش. أما الدجاج والحمام، وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض، فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض. أما منقار البجعة فهو طويل طولاً ملحوظاً، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب، ليكون كشبكة الصياد، إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي. فسبحان الحكيم العليم الذي يخلق ما يشاء لما يشاء، ويهديه للحصول عليه بما يشاء. ومنقار الهدهد طويل مدبب، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان التي غالباً ما تكون تحت سطح الأرض. وإنه ليمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة لفمه ومنقاره. أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب، فلما لم يعط أسناناً، فقد خلق الله له حوصلة وقانصة تهضم الطعام، ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام. فسبحان رب العالمين، الذي خلق العوالم من الحيوانات التي لا يحصيها ولا يعلمها ولا يرزقها إلا هو: عالم البهائم والأنعام .. عالم السباع .. عالم الطيور .. عالم الذر .. عالم النحل .. عالم النمل .. عالم الجراد .. عالم الحشرات .. عالم الخيل .. عالم الإبل .. عالم البقر .. عالم الغنم .. عالم الدجاج .. عالم الحمام .. عالم الأسماك. وغيرها من العوالم التي لا يحصيها إلا الله. فتبارك الله أحسن الخالقين الذي خلق جميع هذه الخلائق، ودبر أمرها، وقسم أرزاقها، وقدر آجالها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق جميع هذه الحيوانات والطيور

والحشرات من ماء كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]. فالحيوانات التي تتوالد، مادتها ماء النطفة حين يلقح الذكرالأنثى، والتي تتولد من الأرض كالحشرات، تتولد من الرطوبات المائية بقدرة الله. وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ بأرزاق الخلائق كلهم، البشر والحيوان، والطيور والحشرات، قويهم وضعيفهم، قادرهم وعاجزهم، يسوقهم إلى أرزاقهم، أو يسوق أرزاقهم إليهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. ولا يزال الله يسخر لهذه الخلائق أرزاقها في كل وقت بوقته، ولا يمكن أن تهلك دابة من عدم الرزق، بسبب أنها خافية عليه، فهو سبحانه السميع العليم الذي لا يخفى عليه شيء: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} [العنكبوت: 60]. فسبحان خالق هذا الكون العظيم، وما فيه من المخلوقات المختلفة. وهي مخلوقات إلى جانب منافعها، تحمل آيات وعبر، وهي مخلوقة مقدرة، مأمورة مدبرة، صغيرها وكبيرها، ذكورها وإناثها، قويها وضعيفها، كلها في قبضة الله، ونواصيها بيده، وسكنها في ملكه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. وكل فرد من هذه المخلوقات، قدر الله زمانه فلا يكون إلا فيه .. وقدر مكانه .. وقدر خطاه .. وقدر طعامه .. وقدر أجله .. وقدر كمية أفراده .. وهو محسوب كغيره من المخلوقات والأحداث العظام الضخام: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29]. وهذا العود الأخضر البري النابت وحده هناك في الصحراء، إنه الآخر قائم هناك بقدر، وهو طعام أعده الله للكائنات هناك.

الله أنبته، وهو يسوق طعامه وشرابه، وهو عبد يؤدي وظيفةً أمره الله بها، ويسبح بحمد ربه في كل حين. وهذه النملة الساربة، وهذه الهباءة الطائرة، وهذه البهائم السائمة، وهذه الخلية السابحة في الماء، كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء: لها تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الشكل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50]. وفي خلق الأنعام عبرة، حيث يسقي الله العباد من بطونها المشتملة على الفرث والدم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66]. وعالم النحل عالم عظيم عجيب، فقد خلق الله هذه النحلة الصغيرة، وهداها هذه الهداية العجيبة، ويسر لها المراعي، ثم أرجعها إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها، وهدايته لها. ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 68، 69]. فسبحان الخلاق العليم، الذي خلق كل شيء في السماء والأرض، في البر والبحر، من الجماد والنبات، والإنسان والحيوان. وكل ناطق وصامت .. وكل متحرك وساكن .. وكل ذكر وأنثى .. وكل ماض حاضر .. وكل معلوم ومجهول .. وكل صغير وكبير .. كل ذلك مخلوق بقدر .. ومصرف بقصد .. ومدبر بحكمة. لا شيء جزاف، ولا شيء عبث، ولا شيء مصادفة، ولا شيء ارتجال: {إِنَّا كُلَّ

شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50] .. فهو سبحانه لم يخلق السموات والأرض والمخلوقات الأخرى لعباً ولا لهواً، بل خلقها بالحق، وخلقهما مشتمل على الحق، ليعبد الله وحده، وليأمر الله العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لأنهم لم يتفكروا في خلق السموات والأرض وما فيهما من الخلائق: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان: 38، 39]. والطيور التي تسبح في الفضاء على اختلاف ألوانها وأحجامها وطيرانها، ماذا يعرف الإنسان عنها؟. إنها أمة عظيمة من الأمم، خلقها الله عزَّ وجلَّ، وهي كغيرها مظهر من مظاهر قدرته سبحانه، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} [الملك: 19]. فهذه الآية العظيمة التي تقع كل لحظة، تنسينا بوقوعها المتكرر ما تشي به من قدرة الله وعظمته. فكم من طائر الآن يطير في السماء؟، وكم من طائر يلقط الحب من الأرض؟. وكم من طائر يجمع العيدان لعشه؟، وكم من طائر يبيض؟، وكم من طير يخرج من بيضه؟، وكم من طائر يعلم فراخه ويطعمهم؟. وجميع المخلوقات من جماد ونبات وحيوان، تسبح بحمد ربها، وكل له صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح، إما بواسطة الرسل كالجن والإنس والملائكة، وإما بإلهام منه تعالى لها كباقي المخلوقات: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]. إن تأمل هذه الطيور السابحة في الفضاء، وهي تصف أجنحتها وتقبضهما في يسر وسهولة، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة به لا يمله النظر،

ولا يمله القلب، وهو متعة فوق ما هو مثار تفكر وتدبر في خلق الله العجيب الذي يجمع الحسن والجمال والكمال. إن يد الرحمن تمسك بالسموات والأرض، وتمسك بكل طائر، وبكل جناح، والطائر صاف جناحيه، وحين يقبض، ويبصره ويراه وهو معلق في الفضاء. إن صنع الله كله إبداع وإعجاز، وكل قلب، وكل جيل يدرك منه ما يطيقه، ويلحظ منه ما يراه: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} [الملك: 19]. فسبحان القوي العزيز، العليم الخبير، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. إن إمساك الطيور في الجو، كإمساك الدواب على الأرض، كإمساك الشمس والقمر، كإمساك النجوم المعلقة في الفضاء، كإمساك السموات والأرض، وكإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله، فالله خالقها وحده، وهو الذي يمسكها بقدرته وحده. فسبحان العزيز الجبار، القوي القهار الذي يمسك كل هذه المخلوقات بقدرته: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. فمن هذا ملكه، وهذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه رحمته، يجب أن يُطاع فلا يعصى، ويًشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا ينسى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21]. اللهم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

11 - خلق الجبال

11 - خلق الجبال قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} [النبأ: 6، 7]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 27، 28]. خلق الله تبارك وتعالى الجبال، وجعل فيها من المنافع ما لا يحصيه إلا من خلقها ونصبها. وجعل سبحانه الثلج يسقط عليها، فيبقى في قُللها حاضناً لشراب البهائم والناس إلى حين نفاده. ويذوب الثلج من الجبال تدريجياً، فتجيء منه السيول الغزيرة، وتسيل منه الأنهار والأودية، فينبت في المروج والوهاد والربى ضروب النبات والأشجار. والله حكيم عليم، فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الأرض، فانحل جملة، وساح دفعة واحدة، فعدم وقت الحاجة إليه. ولو انحل جملة لأهلكت تلك السيول ما مرت عليه من نبات وحيوان، ودار وإنسان. وقد خلق الله الجبال مختلفة الأشكال والألوان والأحجام، متعددة المنافع والصفات: فمنها جبال بيض، وجبال حمر، وجبال خضر، وجبال صفر، وغرابيب سود وغيرها من الألوان المختلفة. ومنها جبال كبيرة، وأخرى صغيرة، وجبال طويلة، وأخرى قصيرة، وجبال متصلة، وأخرى منفصلة.

وفيها من المنافع والمصالح والجواهر والمعادن ما لا يحصيه إلا الذي خلقها وأبقاها وأرساها، وملأها بالمنافع التي عرف بعضها الخلق، واكثرها لم يعرفوه. ومن منافعها أن الله جعلها أعلاماً يستدل بها الناس في الطرقات، في البر والبحر والجو. ومن منافعها أن الله جعلها للأرض أوتاداً تثبتها، ورواسي لها لئلا تضطرب. ومن منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي هي بمنزلة الحصون والقلاع، وهي أيضاً أكنان للناس والحيوان: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81]. ومن منافعها أنها ترد الرياح العاصفة، وتكسر حدتها، فلا تدعها تصدم ما تحتها، وجعلها سبحانه سبباً لرد السيول النازلة من أعلى، فلا تنزل جملة بل تأخذ ذات اليمين، وذات الشمال. وخلقها الله عزَّ وجلَّ على أكمل هيئة وأنفعها، فلو طالت واستدقت كالحائط، لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها، ولسترت عن الناس الشمس والهواء. ولو بسطت ممتدة على وجه الأرض، لضيقت عليهم المزارع والمساكن، ولملأت السهل، ولما حصل لهم الانتفاع بها، ولما سترت عنهم الرياح، ولما حجبت السيول. ولو جعلت مستديرة كالكرة لم يتمكنوا من صعودها. فكان شكلها الذي خلقت عليه أولى الأشكال وأليقها وأحسنها وأوقعها على وفق المصلحة. وخلق الله فيها من النباتات والأدوية والعقاقير ما لا ينبت في السهول والرمال. ومن منافعها ما ينحت من أحجارها للبيوت والمباني، والأصباغ على اختلاف أصنافها وألوانها. وأودع الله عزَّ وجلَّ في الجبال من الجواهر والمعادن على اختلاف أصنافها من

الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والألماس، والزمرد والزبرجد، وغير ذلك من المعادن النفيسة، والتي ما يزال الإنسان يجهل أكثرها. وفيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد منفعته وقيمته على قيمة الذهب بأضعاف كثيرة كاليورانيوم والألماس وغيرها. وفي الجبال من المنافع ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله الذي فطرها وأبدعها، وقد عرف الإنسان من معادنها على ما يزيد على مائة نوع، وما جهله الإنسان أكثر. وهذه المخلوقات والمنافع من أكبر الشواهد على قدرة باريها وفاطرها. وهذه الجبال تسبح بحمد ربها، وتخشع له، وتسجد له، وتنشق وتهبط من خشيته كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. وقال سبحانه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)} [ص: 17، 18]. وكل ما في الكون كائنات حية تسبح بحمد ربها، وتخشع له، ومنها هذه الجبال العظيمة التي تهبط من خشية ربها كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [البقرة: 74]. وهذه الجبال العظيمة هي التي خافت كالسموات والأرض من ربها وفاطرها من حمل الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت من ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].

وقد فرق الله الجبال في الأرض، وفضل بعضها على بعض: فمنها جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى - صلى الله عليه وسلم -. ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك من عظمة الله. ومنها جبل أحد، الذي حبب الله رسوله وأصحابه له. ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سوراً على بيته، وجعل الصفا في ذيل أحدهما، والمروة على ذيل الآخر. ومنها جبل عرفات، فلله كم ينزل عليه من الرحمات، والعفو عن الذنوب العظام في يوم عرفة. ومنها جبل حراء، الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخلو فيه بربه، حتى أكرمه الله بالرسالة في ذلك الغار. فسبحان الكريم الذي يخلق ما يشاء ويختار، ويختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال، والأيام والليالي والبقاع. وهذه الجبال العظيمة الشاهقة، لتعلم أن لها موعداً تنسف فيه نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمته، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له، وهو يوم القيامة: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور: 9 - 10]. وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 105 - 108]. وهذه الجبال العظيمة مع شدتها وصلابتها، أخبر عنها خالقها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت وتصدعت من خشية الله كما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21]. فوا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال .. تسمع آيات الله ومواعظه تتلى

عليها .. ويذكر الرب جل جلاله فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب .. وتفر من المواعظ كفرار الحمر من الأسود: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 - 51]. فليس بغريب على الله عزَّ وجلَّ، ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تلن على كلامه وذكره، ولم تروعها زواجره، ولم تؤثر بها مواعظه. إن من لم يلن لله قلبه في هذه الدار، ولم ينب إليه، ولم يبك من خشيته، فليتمتع قليلاً، فإن أمامه الملين الأعظم، وسيرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. يا حسرة على العباد .. متى يستفيدون من عقولهم؟ .. ومتى يرون بأبصارهم؟ .. ومتى يؤمنون بقلوبهم؟ .. وماذا ينتظر المكذبين لربهم. {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} [الانشقاق: 20 - 24]. وإذا عرفنا قوة السموات والأرض .. وقوة الملائكة العظام .. وقوة المياه والرياح .. وقوة البحار والجبال. فكم تكون قوة الجبار الذي خلق هذه المخلوقات .. ؟. وكم سعة خزائنه التي وسعت هذه المخلوقات العظام .. ؟. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155].

12 - خلق الرياح

12 - خلق الرياح قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر: 9]. وقال الله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41، 42]. إن من أعظم آيات الله الباهرة، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، نحس بجسمه، ولا نرى شخصه. أوجده الله عزَّ وجلَّ في كل مكان، حاراً وبارداً ودافئاً، يتنفس منه الإنسان والحيوان، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، كالماء الذي وهبه الله للإنسان والحيوان، وكالشمس التي سخرها الله للإنارة والحرارة لجميع المخلوقات. وهذا الهواء العظيم الذي خلقه الله، إذا شاء سبحانه حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحاً للسحاب والثمار كما قال سبحانه: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 22]. وإن شاء سبحانه حركه بحركة العذاب فجعله عقيماً، وأودعه عذاباً، فيجعله بقدرته صرصراً ونحساً وعاتياً، ومفسداً لما يمر عليه كما قال سبحانه عن قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} [الأحقاف: 24، 25]. والرياح المذكورة في القرآن ثمان: أربع رحمة .. وأربع عذاب. فرياح الرحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والرخاء.

ورياح العذاب: العاصف والقاصف وهما في البحر، والعقيم والصرصر وهما في البر. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن رياح الرحمة ورياح البر بلفظ الجمع، لأنها متعددة المنافع، مختلفة الصفات. أما رياح العذاب فذكرها بلفظ الإفراد، لأن المطلوب ريح واحدة مدمرة، وكذلك رياح البحر ذكرها بلفظ الإفراد، لأن السفينة لا تسير لمقصدها إلا بريح واحدة، ذات اتجاه واحد. وفي الشتاء يغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة، فتثيره، ثم تنشره بين السماء والأرض، ثم يسخر الله له الريح الحاملة التي تحمله على ظهرها. ثم يرسل الله عليه الريح المؤلفة التي تؤلف بين كسفه وقطعه حتى يصير طبقاً واحداً، ثم يرسل الله عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء. ثم يرسل الله عليه الريح المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمر أن يفرغ ماءه، فإذا أراد الله نزوله على الأرض أرسل عليه الريح الذارية بعد إعصاره فتذروه وتفرقه في الهواء، لئلا يقع صبة واحدة، فيهلك ما على الأرض، ويقل الانتفاع به. فهذه ثمان رياح سخرها الله للمطر. فإذا أسقي ما أمر بسقيه من البلاد والعباد قامت الرياح السائقة فساقته وأزجته إلى قوم آخرين، وأرض أخرى محتاجة إليه لسقي النبات والحيوان والإنسان: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} [الروم: 48]. وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ

سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]. والسحاب من أعظم آيات الله في الجو، فهو في غاية الخفة، ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء. فسل السحاب من خلقه وأنشأه؟ .. ومن حمله بالماء والثلج والبرد؟ .. ومن حمله على ظهور الرياح؟ .. ومن أمسكه بين السماء والأرض؟ .. ومن أحيا به البلاد؟ .. ومن صرفه بين الخلق كما أراد؟. وكم أودع الله في هذا الهواء من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فهو حياة هذه الأبدان، تستنشق منه وتتغذى به، وينقل الأصوات للقريب والبعيد، وينقل الروائح على اختلافها من مكان إلى مكان، ويحمل الحر والبرد الذين بهما صلاح الحيوان والنبات والإنسان، ويلقح الشجر والنبات، ولولاه لكانت عقيماً، وفسد الثمر. والرياح من أعظم آيات الله في الجو .. فهي أقوى خلق الله .. يحبسها الله إذا شاء .. ويرسلها إذا شاء .. تحمل الأصوات إلى الأذن .. والرائحة إلى الأنف .. والسحاب إلى الأرض والجزر .. وتأتي بالرحمة تارة .. وبالعذاب تارة. وكذلك الرياح تسير السفن، ولولاها لوقفت على ظهر البحر. وكذلك من منافعها أنها تبرد الماء، وتضرم النار، وتجفف الأشياء. فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته، ولطفه ونعمته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} [الروم: 46]. وكم من البحار التي خلقها الله في هذا العالم، وكم أودع فيها من المنافع والمصالح لعباده: بحر عظيم من الماء فيه ما لا يحصيه إلا الله من النعم والمنافع والخلائق. وبحر عظيم من الهواء فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع

والخلائق. وبحر عظيم من النور فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع. فسبحان من خلق هذه البحار العظيمة، وحفظها، وأودع فيها منافع للبلاد والعباد على مر الدهور. والله تبارك وتعالى خلق هذا الجسم اللطيف من الهواء الذي يحركه ويخرقه أضعف المخلوقات، وأعطاه من الشدة والقوة ما يفلق به الأجسام الصلبة القوية، ويزعجها عن أماكنها، ويحملها على متنه في جو السماء. فانظر إليه إذا وضع في قربة أو جلد وامتلأ به، ووضع على الماء، فإنه لا يرسب فيه، بينما ينغمس فيه الحديد الصلب. فامتنع هذا اللطيف بأمر الله من قهر الماء له، وبهذه الحكمة أمسك الله السفن على وجه الماء مع ثقلها، لأن الهواء يمتنع من الغوص في الماء. فتأمل قدرة العزيز الحكيم كيف جعل هذا الجسم العظيم الثقيل من السفن، يستجير بهذا اللطيف الخفيف من الهواء، حتى أمن من الغرق. فسبحان من علق هذا المركب العظيم الثقيل، بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة، ولا عقدة تشاهد: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} [الشورى: 32، 33]. والهواء بأمر الله جل جلاله، ينقل الأصوات العظيمة والبعيدة إلى مسامع الناس، فينتفعون بذلك، كالهاتف والجوال والإذاعة. ولو بقيت هذه الأصوات في الهواء، كما تبقى الكلمات في القرطاس، لامتلأ العالم من الأصوات، ولعظم الضرر به، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء. فإن ما يلقى في الهواء من الأصوات والكلمات، أضعاف ما يودع في القرطاس. فمن رحمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاساً خفيفاً يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم ينمحي بإذن ربه، فيعود جديداً نقياً لا شيء فيه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 67، 68].

فما أعظم آيات الله في خلق الرياح: فهي آية في هبوبها وسكونها .. وآية في شدتها ولينها .. وآية في حرها وبردها .. وآية في اختلاف طبائعها ومهابها وتنوع منافعها. فللمطر ثمان رياح .. وللنبات ريح تلقحه .. وللسفن ريح تسيرها .. وللرحمة ريح بلا رياح .. وللعذاب ريح متعددة الصفات، إلى غير ذلك من أنواع الرياح التي لا يعلمها إلا الله. واختلاف الرياح، واختلاف مهابها يدل على خالق مدبر، حكيم عليم، يصرفها كيف يشاء: فيجعلها رخاء تارة .. وعاصفة تارة .. ورحمة تارة .. وعذاباً تارة .. وتارة يحيي بها الرزع والثمار .. وتارة يعطبها بها .. وتارة يسير بها السفن .. وتارة يغرقها بها .. وتارة ترطب الأبدان .. وتارة تذيبها، وتارة حارة .. وتارة باردة .. وتارة عقيماً .. وتارة لاقحة. فسبحان من جعل في هذا الهواء الواحد هذه المنافع الكثيرة العجيبة. والذي خلقها هو الذي يصرف مهابها في البر والبحر: فتارة تهب من الشمال، وتارة من الجنوب، وتارة صبا، وتارة دبوراً. وقد جعل الله مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب، ولولا ذلك لبقي الماء واقفاً. وهذه الرياح مع غاية قوتها ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسار بين السماء والأرض. ولشدة حاجة كل نبات وحيوان وإنسان إليها، يسرها الله في كل مكان، وصرفها وحده بين عباده، ورفع تحكم البشر فيها، فحيثما سار الإنسان أو الحيوان وجدها، وحيثما وجد نبات فهي مرافقة له. ولو قطعت عن النبات والحيوان لهلك، كبحر الماء الذي لو فارقه السمك هلك.

يحبسها الله إذا شاء، ويرسلها إذا شاء، تحمل الأصوات إلى الأذن بأمر الله، وتحمل الرائحة إلى الأنف، وتحمل السحاب إلى الأرض الجرز. وهي خلق عظيم من أقوى خلق الله، وهي من أعظم آيات الله الدالة على قدرته. فسبحان من أنشأ الرياح بقدرته، وملأ بها الكون، وصرفها بحكمته، وسيرها بمشيئته، وسخرها بإرادته، وأرسلها بشرىً بين يدي رحمته، وجعلها سبباً لتمام نعمته، وسلطاناً على من شاء بعقوبته. فهل عرف الله، وعرف قدرته وعظمته، من بارزه بالمعاصي، وبدل نعمه كفراً؟. ألا ما أعظم الجهل بالله وأسمائه وصفاته، وما أعظم الغفلة عن آلائه وإحسانه؟: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. إن في خلق الرياح آية .. وفي هبوب الرياح آية .. وفي تصريف الرياح آية. فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار، والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً، ثم يسوق الله هذا السحاب بواسطة الرياح، ويصرفه كيف شاء بعلمه وحكمته، بين البلاد والعباد والله تبارك وتعالى بيده هذا الملك العظيم، وله الخلق والأمر وحده لا شريك له، يصرف الرياح ليلاً ونهاراً، ويجعلها كما يشاء دافئة وباردة، ومنحرفة ومستقيمة، وعاصفة وهادئة، وعذاباً ورحمة. ولهذه الرياح كلها أوامر من ربها لا تتعداها، ولها علاقة بالكائنات الأخرى، تتعاون معها في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون، وتصريفه كما أراد. فمتى يتجول العقل البشري في هذا المعرض الإلهي المملوء بالآيات والعجائب، فله هنا عمل، وله في هذا الميدان مجال: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} [الجاثية: 4، 5]. ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها، جعل الله لكل ريح ريحاً مقابلة لها، تكسر سورتها وحدتها، وتبقي لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة

لاختلاف منافعها. وأما ريح العذاب، فإنها ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها. بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء، فيدمر كل شيء كما قال سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6 - 8].

13 - خلق النار

13 - خلق النار قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة: 71 - 73]. وقال الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس: 80]. الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار، خلق المخلوقات وقهر بعضها ببعض، وسلط بعضها على بعض. خلق سبحانه الجبال، وسلط عليها الحديد، فهو يقطعها ويكسرها. وخلق النار، وسلطها على الحديد، فهي تذيبه بأمر الله. وخلق الماء، وسلطه على النار، فهو يطفئها بأمر الله. وخلق الرياح وسلطها على الماء، فهي تقهر الماء بأمر الله وتفرقه. وخلق الظلمات وسلط عليها النور فهو يبددها. والله حكيم عليم، خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور، فإنها لو كانت ظاهرة أبداً كالماء والهواء كانت تحرق العالم، وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة. ولو كانت كامنة لا تظهر أبداً لفاتت المصالح المترتبة على وجودها. فاقتضت حكمة الله عزَّ وجلَّ، أن جعلها مخزونة في الأجسام، يخرجها الإنسان عند حاجته إليها. وخص الله سبحانه بالنار الإنسان دون غيره، فإنه لو فقدها لتعطلت له مصالح كثيرة، من التدفئة والإنارة، وإنضاج الأطعمة، وتركيب الأدوية، وغير ذلك من

المنافع التي يستفيد منها الإنسان. والنار خلقها الله عزَّ وجلَّ تصعد إلى العلو، فلولا قدرة الله التي تمسكها لذهبت صاعدة، كما أن الجسم الثقيل لولا الممسك له لخرَّ نازلاً. فسبحان القوي العزيز الذي أعطى الجسم الثقيل القوة التي يهبط بها إلى أسفل، وأعطى النار هذه القوة التي تصعد بها إلى أعلى. وهذه النار العظيمة التي خلقها الله، والتي تأكل الأخضر واليابس، وتلتهم الغابات، وتذيب الحديد والمعادن، هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قال: فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءاً، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» متفق عليه (¬1). والله جل جلاله خلق النار وحبسها في الحطب والخشب، وفي باطن الأرض، ولو أذن الله لها أن تخرج لأهلكت ما على وجه الأرض من مخلوق، ولكن الله عزَّ وجلَّ يخرج منها بقدر، ليتذكر الناس به النار الكبرى يوم القيامة، وليستمتعوا بمنافعها، كما قال سبحانه: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة: 73]. والنار التي خلقها الله سبحانه أربعة أنواع: الأولى: نار لها إشراق وإحراق كالشمس، وكالنار المعروفة. الثانية: نار لها إحراق بلا إشراق، وهي نار جهنم المظلمة. الثالثة: نار لها إشراق بلا إحراق، وهي النار التي خلقها الله في الشجرة وكلّم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3265) واللفظ له، ومسلم برقم (2843).

موسى - صلى الله عليه وسلم - عندها. الرابعة: نار ليس لها إشراق ولا إحراق، وهي النار المحبوسة في الحطب والخشب، فهي مخزونة، فإذا أشعلت صار لها إشراق وإحراق. فسبحان الخلاق العليم الذي جعل من الشجر الأخضر ناراً يابسة ملتهبة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس: 80]. والله رؤوف بالعباد، وهو الواحد القهار .. الذي قهر هذه النيران المخزونة في باطن الأرض .. والمودعة في باطن الأخشاب والحطب .. والمشتعلة الملتهبة في الشمس. هذه النيران لو خرجت على الناس من ذا يقف لها؟. ومن ذا ينجو منها لو أرسلها الله على الناس؟. ومن ذا يطفئها لو اشتعلت في الكون؟. وقد خلق الله النار تأكل وتذيب ما وضع فيها، ولكن زمامها بيده سبحانه، إن شاء أشعلها وأحرق بها من شاء من أعدائه. وإن شاء جعلها تشتعل ولا تحرق، بل قلب حالها برداً وسلاماً لمن شاء من أوليائه كما قال سبحانه عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68 - 69]. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة .. وفي الآخرة حسنة .. وقنا عذاب النار. {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} [آل عمران: 192]. اللهم {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 66. 65].

14 - خلق الجن

14 - خلق الجن قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وقال الله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)} [الرحمن: 14 - 16]. الله تبارك وتعالى خلق الملائكة من نور، وخلق الجن من نار، وخلق البشر من تراب، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} [الحجر: 26، 27]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم» أخرجه مسلم (¬1). والجان: هو أب الجن، وفيهم المؤمن والكافر. وإبليس: هو أب الشياطين، وله ذرية لا يموتون إلا معه وهو من الجن، ولكنه تمحض للشر. وآدم: هو أب الإنس، وفيهم المؤمن والكافر. والملائكة: خلقهم الله من نور، وهم مجبولون على الطاعة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون. فالملائكة تمحضوا للخير .. والشياطين تمحضوا للشر .. والجن والإنس قابلون للإيمان والكفر، مستعدون للهدى والضلال. ولا سبيل إلى معرفة الملائكة والجن إلا عن طريق الوحي. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2996).

وإبليس هو الشيطان، وهو من الجن، وله ذرية كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]. والجن من خلق الله، ولهذا الجنس من الخلق خصائص: منها خلقهم من نار. ومنها أنهم يرون الناس ولا يراهم الناس، كما قال الله عن الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. وللجن تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. ولهم قدرة على الحياة في هذه الأرض مع البشر كما قال الله عن آدم وإبليس: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24]. ولهم قدرة كذلك على الحياة خارج الأرض، والصعود إلى السماء كما قال سبحانه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 8، 9]. والجن يستطيعون أن يسمعوا صوت الإنسان، ويفهمون لغته، ويتأثرون به كما قال الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]. وإبليس وذريته يملكون التأثير على البشر وإغوائهم، إلا عباد الله المخلصين فلا سلطان لهم عليهم كما قال سبحانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]. والجن كالإنس يعرفون الحق من الباطل، والرشد من الغي، والخير من الشر. وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة، وأن يؤمن فريق منهم لما سمعوا القرآن، ثم دعوا قومهم إليه: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ

بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} [الأحقاف: 30 - 32]. وحين سمعوا الهدى من ربهم أسلموا فوراً كما قال سبحانه عنهم: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن: 13]. وهؤلاء الجن الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - شعروا أن عليهم واجباً في الإنذار لا بد أن يؤدوه، واعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن، فنادوا قومهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: 31]. والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس ليعبدوه كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وللجن طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال كما قال الله عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن: 11]. وهذا الإقرار من الجن يفيد ازدواج طبيعة الجن، واستعدادهم للخير والشر كبني آدم، إلا من تمحض للشر منهم، وهو إبليس وقبيله. فليس كل الجن يمثلون الشر، بل فيهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ولكن تمحض من الجن للشر إبليس وذريته كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. والمؤمنون من الجن يعرفون عظمة الله وقدرته، ويدركون أنهم لا يستطيعون الهرب من سلطانه، ولا الإفلات من قبضته، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا:

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} [الجن: 12]. وهم يتأثرون بسماع الهدى كالإنس فيؤمنون، وهم مطمئنون إلى عدل الله وقدرته، مؤمنون أن الله لا يبخس المؤمن حقه، ولا يرهقه فوق طاقته. والجن كالإنس في الهدى والضلال، والجزاء على الهدى أو الضلال كما قال سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 14، 15]. فالجن كالإنس يعذبون بالنار، وينعمون بالجنة، حسب إيمانهم وأعمالهم، وكل ميسر لما خلق له. والله عزَّ وجلَّ أمر الإنس والجن بعبادته، وأعطاهم القدرة على امتثال الأوامر والعمل بالشرع، وأعطى كل جنس من الطاقات والقدرات ما يناسب حاله. فإذا استطاع إنسان أن يسخر جنياً فقد حصل على فرصة أكبر من أفراد جنسه، فهو يستطيع أن يفعل مالا يستطيع أن يفعله غيره من البشر. فإذا استبد بهذا الإنسان هواه وأنانيته، واستخدم هذه الميزة في الشر بدلاً من الخير، سلط الله عليه ما يجعله مرهقاً متعباً في حياته. ولذلك نجد أمثال هؤلاء الناس يعيشون حياة تعسة شقية، وينتهي أمرهم بالانتحار أو الجنون أو النكد. فالذي يأخذ فرصة أعلى من غيره قد تشقيه ولا تسعده، والذي يعطيه الله فرصة أقوى، إذا لم يستخدمها في الخير، سلط الله عليه الشقاء. فالذي يستعين بقوى غير قوى البشر كالجن مثلاً، نجد شكله منفراً، ورغم أنه قد يستخف بعقول بعض البشر، ويحصل منهم على أموال، إلا أننا نجده دائماً

مفلساً معسراً قلقاً، ويموت غالباً على أسوإ حال. فالفرصة غير المتكافئة لا تجلب له إلا الشقاء كما قال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]. والله سبحانه حينما سخر الجن لسليمان - صلى الله عليه وسلم -، سخرهم لنفع الناس، وعمارة الأرض، ولم يسخرهم في الإيذاء كما قال سبحانه عن سليمان - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} [سبأ: 12، 13]. وما أكثر الغاوين الذين أغواهم الشيطان وأضلهم من الجن والإنس .. أعطاهم الله القلوب والأسماع والأبصار .. ولكنهم لم يستعملوا هذه النعم فيما خلقت له .. من معرفة الله والإيمان به وطاعته. فهؤلاء جديرون بأن يكونوا من أهل النار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].

15 - خلق آدم

15 - خلق آدم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [الحجر: 26]. وقال الله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74]. أول ما خلق الله تبارك وتعالى العرش، ثم خلق القلم، وكتب به المقادير قبل كونها، وخلق آدم آخر المخلوقات، تمهيداً للدار قبل الساكن. ولكرامته على خالقه، هيأ له مصالحه وحوائجه وأسباب حياته قبل خلقه. وخلق آدم من أعظم الآيات، فقد جمع الله ما فرقه في العالم في خلق آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير، وهو خلاصة الوجود وثمرته. والنفوس تتطلع دائماً إلى النهايات .. والله عزَّ وجلَّ أخَّر أفضل الكتب .. وأفضل الرسل .. وأفضل الشرائع .. وأفضل الأمم إلى آخر الزمان .. وجعل الآخرة خيراً من الأولى. فلما افتتح الله عزَّ وجلَّ خلق هذا العالم بالقلم، كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان. فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم. ولهذا أظهر الله فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خصه به دونهم. وقد خلق الله جل جلاله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، إظهاراً لشرفه، وأسكنه جنته. ولما تم خلقه في أحسن تقويم، وظهر كمال آدم على غيره، جرى قدر الله بالذنب، ليتبين أثر العبودية في الذل، وما زالت تلك الأكلة من الشجرة تعاوده وتخيفه، حتى استولى داؤه على أولاده. فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي من اختارهم، واصطفاهم

واجتباهم من أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38 - 39]. فحماهم الشافي بالمناهي .. وحفظ القوة بالأوامر .. واستفرغ منهم الأخلاط الرديئة بالتوبة .. فجاءت إليهم العافية من كل ناحية. وتزينت قلوبهم بالإيمان، وتجملت بالتقوى، وتحلت جوارحهم بالطاعات، ورضي عنهم ربهم، وصاروا أئمة في الخير. ولما سلم لآدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب، وحين علم اللطيف الخبير أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته، ولا قدحاً في حكمته، علمه كيف يعتذر إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. فآدم - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بمعصيته مخالفة سيده، ولا الجرأة على محارمه، ولكنها غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، فألهمه الله التوبة، وقبلها منه. وفي خلق آدم من الطين سر عجيب، فالطين مركب من أصلين: الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي .. والتراب الذي جعله الله خزانة المنافع والنعم. وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الإنسان يحمل الهدى الذي به حياة العالم، ويحمل الدين الذي كله منافع. ومن كرامة الله لآدم أن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجميع المخلوقات خلقها الله بأمره، فقال لها: كوني فكانت. ومن كرامته له كذلك أن أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها دون غيره من الملائكة، ثم جعل فيه الاستعداد للترقي حتى يصبح كالملائكة، أو الهبوط حتى يكون أسفل من الحيوان فيقضي حياته على طريقة الحيوان، من أكل وشرب ولهو ولعب. والله تبارك وتعالى عزيز حكيم، ما خلق ذرة في الكون عبثاً.

وقيمة الإنسان ومكانته بين المخلوقات عظيمة .. فمكانته بين السموات والأرض .. كمكانة القلب من الجسم، وبقاء المخلوقات مرهون بوجود الإنسان .. وكما أن القلب إذا فقد هلك البدن .. فكذلك الإنسان إذا فقد أنهى الله هذا الكون وطواه. وقد خلق الله جميع المخلوقات، وجعل لكل مخلوق مقصداً، وأشرف المخلوقات مقصداً هو الإنسان، وهو من المخلوقات بمنزلة القلب من البدن. وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يخلق آدم .. ويستخلفه في الأرض .. فأقدره على أشياء .. وأعجزه عن أشياء .. وعلمه أشياء .. وستر عنه أشياء. وقهره على أشياء .. وجعل له الخيار في أشياء .. وذلك ليستكمل مقومات الخلافة .. ولا ينسى أنه غير أصيل .. فله مرجع يعود إليه .. وقوة أعلى يعود إليها .. ويستعين بها .. تمده بما شاء. ولم يرسل الله آدم إلى الأرض ليقيم أمر الله دون تدريب عملي، بل جعل له تجربة واقعية يعيش فيها التكليف بأمره ونهيه، وبمقومات التكليف من الغفلة والنسيان، وإغواء الشيطان وتزيينه، قبل أن يهبط إلى الأرض، فإذا أخطأ رده الله إلى الصواب بلطف. فأسكنه الله الجنة مع زوجه، وأمده بكل ما يحتاج بدون تعب ولا نصب كما قال سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119]. ثم استقبل آدم المنهج من ربه أمراً ونهياً: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35]. ثم حذر سبحانه آدم من معوقات التكليف خاصة الشيطان فقال: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. ثم كان ما كان من الشيطان فأغرى آدم وزوجه بالأكل من الشجرة: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا

يَبْلَى (120)} [طه: 120]. فأغراهما بالأكل من الشجرة، ليحصل لهما الخلود والملك، وأكد ذلك لهما بصفة الناصح الذي يريد لهما الخير: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22]. ونسي آدم أنه في دور التجربة والتدريب، فأكل وزوجه من الشجرة فماذا حصل لهما؟: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22]. وماذا كان جزاء آدم حين نسي أمر ربه وأكل من الشجرة؟. كان جزاؤه فقط أن يلقنه الله مولاه كيف يرجع إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. واعترف آدم وزوجه بالذنب، وسألا ربهما أن يغفره لهما ويرحمهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. فاستجاب الله لدعاء آدم، واجتباه وتاب عليه وهداه، كما قال سبحانه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122]. وبعد هذه التربية لآدم في الجنة، وبعد ما ظهرت له عداوة الشيطان، وبعد ما علمه الله كيف يتخلص من الذنب، أهبط الله آدم إلى الأرض، ليقوم وذريته بالخلافة فيها، وأهبط معه الشيطان وحذره منه: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24]. ولما أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض رزقهم الذرية، وأخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة مشحونة بالامتحان والابتلاء، ثم يتلوها الموت. وأنهم لا يزالون فيها، يرسل الله إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت فيدفنون فيها، ثم إذا استكملوا بعثهم الله وأخرجهم منها إلى الدار التي

هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة كما قال سبحانه: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} [الأعراف: 25]. ثم امتنَّ عليهم بما يسر لهم من اللباس والطعام والشراب والسكن والمركب، مبيناً لهم أن هذا ليس مقصوداً بالذات، وإنما أنزله الله ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، وأن لباس التقوى خير لباس يلبسه العبد، وهو جمال القلب والروح كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف: 26]. ثم حذر الله بني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم آدم، فيغريهم بالمعاصي ويزينها لهم، فينقادون له فليحذروا منه: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]. فآدم أبو البشر، والبشر فيهم المؤمن والكافر، ففي فترة التربية في الجنة كان آدم بشراً عادياً، غفلة وسهواً، ونسياناً وضعفاً. وفي الطور الثاني يمثل المصطفين الأخيار، المبلغين عن الله، فيجب أن يكون معصوماً، لأنه رسول من الله. وآدم - صلى الله عليه وسلم - عصى ربه، وإبليس عصى ربه، لكن الفرق أن آدم عصى ولم يرد الأمر على الله، بل اتهم نفسه، وأقر بالظلم والتقصير، والغفلة والنسيان: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. أما إبليس فقد رد الأمر على ربه وتكبر، وخالف أمر ربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. وبسبب هذا الإباء والاستكبار طرده الله ولعنه. فمن رد الأمر على الله ففيه شبه بإبليس، ومن عصى واعتذر وتاب ففيه شبه بآدم

- صلى الله عليه وسلم -. وآدم وزوجه لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما عوراتهما كما قال سبحانه: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 121]. وفي هذا إشارة إلى أن الدين حين يخالف تبدو عورات الناس، فلا عورة في مجتمع إلا إذا كان هناك أمر من أوامرالله قد خولف. ولما عصى آدم ثم تاب وتاب الله عليه، أهبطه الله إلى الأرض، للقيام بالخلافة، وتنفيذ أوامر الله، وأهبط معه إبليس. ثم بدأ المنهج الإلهي في الأرض كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 123، 124]. ومعصية آدم ذكرها الله سبحانه بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121]. والعصيان قد يكون عمداً فيكون ذنباً .. وقد يكون خطأ أو نسياناً فيكون زلة .. وهذه معصية آدم: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]. ومما يدل على أن معصية آدم لم تكن عمداً ولا قصداً، بل نسياناً قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. ومن ثم فلا مؤاخذة، لأن الله لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان. وإنما اعتبر القرآن النسيان معصية لآدم، فذلك لمقام آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه الأسماء كلها. والذي شأنه هكذا، يجب أن يكون يقظاً كأقوى ما يكون، بحيث لا ينسى وصاية الله له. ولما علم الله منه أن معصيته لم تكن بسبب الكبْر، بل بسبب الغفلة والنسيان، والشهوة وإغواء الشيطان، ألهمه الله التوبة، وتاب عليه.

وترك الأمر معصية، وارتكاب النهي فسق، وارتكاب النهي أخف من ترك الأمر، وترك الأمر ذنب إبليس، وبسببه أخرج من رحمة الله، وارتكاب النهي ذنب آدم. وآدم في الجنة أصيب بآفتين: النسيان .. وضعف العزيمة كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. وهذان مرضان .. وعلاج الأول بالذكر والتذكير. وعلاج الثاني بتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة. وآدم في الجنة ليس عنده من يذكره إذا نسي، وليست عنده بيئة الأعمال التي تقوي عزيمته إذا ضعف، وغلبته الشهوة، فسهل التأثير عليه وإغراؤه، فوقع في ارتكاب النهي، وأكل من الشجرة. وهاتان الآفتان لازمتان لكل إنسان، وشفاء الإنسان منهما بالتذكير، وتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة التي تقوي عزيمته إذا ضعف. والله سبحانه ابتلى آدم وذريته بأن حبب لكل إنسان حب الخلد، وحب الملك الذي لا يبلى، وبهما تمكن الشيطان من إغواء آدم. ولما كان هذا نسياناً من آدم للعهد ألهمه الله أن يتوب: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. وقد منَّ الله على آدم بنعم كثيرة، وعلمه الإيمان والتوحيد، ومعرفة ربه، وألهمه اليقين على ذاته وأسمائه وصفاته، وحذره من عدوه الشيطان بقوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. وإبليس أول من اجتهد لتغيير اليقين على ذات الله، إلى اليقين على الأشياء، بإغراء آدم بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد. فالشيطان أول من أفسد يقين آدم .. ولا يزال يفسد يقين ذريته .. فهو جاهد على البشر .. ليحول يقينهم على ربهم، إلى اليقين على المخلوق .. ويشغلهم بالأموال والأشياء عن الإيمان والأعمال الصالحة .. ويزين لهم العادات

والتقاليد بدل السنن والأحكام .. ويغريهم بالخلود في الدنيا .. وينسيهم ذكر الموت والآخرة. ولكن الله تاب على آدم وهداه، وحذر ذريته من طاعة عدوهم الشيطان الذي غر أباهم، حتى وقع في المعصية. وآدم لما طلب الخلود في الجنة من جانب الشجرة التي أغراه الشيطان بالأكل منها، عوقب بالخروج منها. وكذلك يوسف لما طلب الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا، عوقب باللبث فيه بضع سنين. وذلك كله بإغواء الشيطان وتزيينه، وحرصه على إفساد يقين العباد، ليعصوا ربهم، ويطيعوه فيهلكون معه. وحين خلق الله آدم قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. فقال الله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. لقد خلق الله آدم، وأكرمه وأسكنه جنته، وابتلاه ليربيه، فسلط عليه عدوه بعد أن حذره منه، ولكنه ضعف وعصى ربه، فأهبطه الله إلى الأرض. هبط إلى الأرض مؤمناً بربه، مستغفراً من ذنبه، مأخوذاً عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه، ولا يتبع الشيطان والهوى. ثم مضى به الزمن، وجاءت ذريته، وبث الله من نسله رجالاً كثيراً ونساء. وحل بالإنسان ما حل بأبيه آدم من النسيان والضعف .. وتسلط عليه الشيطان .. وأغراه بالمعاصي .. وزينها له كما فعل بأبيه، فغلبه الشيطان كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. لقد هبط آدم إلى الأرض موحداً مهتدياً تائباً، ولكن ها نحن نرى أكثر البشرية ضالاً مفترياً، ظالماً كذاباً، مشركاً معانداً لرسل ربه، فلا بد من الإنقاذ مرة أخرى.

ومن رحمة الله بالبشرية، أنه كلما انحرفت عن منهج الله، بعث إليها رسولاً يردها إليه، حتى ختمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتسلمت أمته من بعده إبلاغ هذا الدين والقيام عليه في أنحاء الأرض كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والمنهج هو الهدى الذي أرسل الله به رسله: دعوة إلى التوحيد والإيمان بالله .. وترغيب في الطاعات .. وتحذير من المعاصي .. وأمر بكل خير .. وتحذير من كل شر. وقيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة المسلم عند الله ترتفع بقدر ما يحمل من الإيمان، وما يقوم به من الأعمال الصالحة. وبنو آدم كثيرون، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأفضلهم وأكملهم، وهم المؤمنون، فهؤلاء خير الناس، وأحسن الناس، وأغلى الناس. والسلعة إذا خفي عليك قدرها .. وأردت أن تعرف قيمتها. فانظر المشتري لها من هو؟، وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يديه عقد الشراء؟. فالسلعة النفس المؤمنة .. والمشتري لها هو الله عزَّ وجلَّ .. وثمنها جنات النعيم .. والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة، وأكرمهم عليه، وهو جبريل - صلى الله عليه وسلم - .. وخير خلقه من البشر، وأكرمهم عليه، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وصفات هذه السلعة الإيمان والأعمال الصالحة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. لقد خلق الله آدم من الأرض، فمن الطين كوّن الله كل عناصر جسده، فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد كيف جاء، وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً. ونحن نجهل كنه هذه النفخة، وهذه الروح، فما أحد يعلمها إلا الله كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا

قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. ولكننا نعرف آثارها، فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بالقابلية للرقي العقلي والروحي، فجعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل، ويتقي ويحذر. وجعلت روحه تتجاوز المدرك بالحواس، والمدرك بالعقول، ليتصل بالغيب المجهول للحواس والعقول. وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها أحد من الأحياء في هذه الأرض سوى الجن. لقد نفخ الله عزَّ وجلَّ من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض، وأن يتسلم بأمر الله مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها الله له، وهي الخلافة في الأرض كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا} [البقرة: 30]. وقد أودع الله الإنسان القدرة على المعرفة، ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بربه، واستمد منه منهج الحياة، وقام بأمر الخلافة الراشدة. وما كان لهذا الإنسان الصغير الحجم، القصير الأجل، المحدود المعرفه، أن ينال شيئاً من هذه الكرامة، لولا لطف ربه وكرمه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. فلله كم كرامة؟، وكم نعمة؟، وكم رحمة حصلت للبشرية في خلق آدم .. وفي سجود الملائكة له .. وفي سكنه الجنة .. وفي إهباطه إلى الأرض .. وفي كونه خليفة في الأرض .. وفي نسله وذريته .. ؟ فقد أظهر الله فضل آدم على الملائكة بما خصه من العلم الذي لم تعلمه الملائكة.

وأمرهم بالسجود له تكريماً له، وإظهاراً لفضله، وامتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فأسجدهم له، وأظهر فضله عليهم، لما أثنوا على أنفسهم، وذموا الخليفة الذي اصطفاه ربهم. واستخرج سبحانه ما كان كامناً في نفس إبليس من الكبر والمعصية، والذي ظهر عند أمره بالسجود مع الملائكة لآدم. فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامناً في نفسه، والله يعلم ذلك، ولكن لم يكن ليعاقبه على ما علمه، بل على وقوع معلومه، الذي لم تكن الملائكة تعلمه، فلما امتنع من السجود علموا خبثه. وسبب معصية إبليس الاستكبار والإباء والكفر، وإنما ذكر تلك الشبهة تعنتاً، إذ ليس في أمره بالسجود لآدم ما يناقض الحكمة بوجه. وشبهة إبليس الداحضة، أنه قال: إنه خلق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين، فهو خير من آدم، فكيف يخضع له. كما قال سبحانه لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]. فلما امتنع إبليس من السجود، وعصى ربه واستكبر، حطه الله من مرتبته العالية إلى أسفل سافلين، وأهبطه من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم، فأهبط إلى الأرض ذليلاً مهاناً، جزاء على كبره وعجبه كما قال سبحانه: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: 13]. وشبهة إبليس باطلة حساً وعقلاً وشرعاً. فإن الطين والتراب خير من النار، فإن النار طبعها الفساد والإتلاف، والتراب طبعه النفع والإنبات، والنار طبعها الخفة والطيش، والتراب طبعه الرزانة والسكون، والتراب يخلق الله فيه أرزاق الحيوان ولباسهم ومساكنهم، بخلاف النار التي تحرق كل شيء، والتراب إذا وضع فيه الحب أخرجه أضعافاً كثيرة،

بخلاف النار التي تأكل كل ما يوضع فيها. والأرض وصفها الله بالبركة، وأما النار فهي مذهبة للبركة، وأودع الله في الأرض من المنافع والأقوات، والثمار والأشجار، والمعادن والعيون، والنبات والحيوان وغيرها، ما لم يودع في النار شيئاً منه. والنار وإن كان فيها بعض المنافع فالشر كامن فيها. وقد استخرج الله من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل .. والعباد والعلماء .. والمجاهدين والمتصدقين .. والأولياء والمؤمنين، وعمر بهم الجنة، وميز الخبيث من ذريته من الطيب، وعمر بهم النار. وقد خلق الله آدم عليه السلام في أحسن تقويم .. وأكمل صورة وأجملها .. وأكمل محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار .. وتولى ربه خلقه بيده .. فجاء في أحسن خلق .. وأجمل صورة .. طوله في السماء ستون ذراعاً .. قد ألبس رداء الجمال والحسن .. والمهابة والبهاء. فرأت الملائكة منظراً لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجوداً بأمر ربهم عزَّ وجلَّ، إلا إبليس فإنه امتنع عن السجود حسداً كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. والله سبحانه لكمال قدرته خلق خلقه أصنافاً: فمنهم عقول بلا شهوات كالملائكة .. ومنهم شهوات بلا عقول كالحيوانات .. ومنهم من له عقل وشهوة كالإنس والجن .. ومنهم من لا عقل له ولا شهوة كباقي المخلوقات من جماد ونبات. وقد اقتضت حكمة الله تفضيل بني آدم على كثير من خلقه، فميزهم الله وكرمهم بما شاء، وجعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، فهي عبودية اختيارية، تزاحمها المعارضات والموانع والشهوات. أما عبودية غيرهم من الملائكة فهي عبودية بلا معارض، إذ هم مجبولون عليها،

كما جبلت الشمس على الإنارة. والله تبارك وتعالى سبق في علمه أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وأسكنه في الجنة، ليربيه ويريه دار النعيم التي أعدها الله له ولأولاده. فأمره الله ونهاه، وأعلمه بعدوه وحذره منه، ووفر له كل ما يحتاجه في الجنة، وأمره بالأكل من كل شيء في الجنة، ونهاه عن الأكل من شجرة واحدة، وخلى بينه وبين عدوه إبليس، ليمتحن إيمانه وطاعته قبل نزوله إلى ميدان العمل، فوسوس إليه الشيطان بالأكل، فنسي وغلبته الشهوة فأكل. وخلى بينه وبين نفسه حتى عصى الله، كما قال سبحانه: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 35، 36]. ثم ألهمه الله التوبة فتاب، وتاب الله عليه، وبعد أن كملت تربيته، وعرف عدوه، وعاش في داره، أهبطه الله عزَّ وجلَّ من دار النعيم إلى دار الابتلاء والعمل، ليعود إليها ومن آمن من ذريته على أكمل الوجوه. فكم لله من حكمة في إهباط آدم إلى الأرض، تعجز الألسن عن وصفها، وتعجز العقول عن إدراكها والإحاطة بها: منها أن الله أنزل آدم ليكون إيمانه وإيمان ذريته تاماً، والإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك، وهذا إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم. ومنها أن الله خلق آدم وذريته ليستعمرهم في الأرض، ويجعلهم خلفاء الأرض. فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم، لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه، فإذا وافوا دار النعيم بعد التعب والكد، عرفوا قدر تلك الدار، وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الحور والولدان. ومنها أن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلاً وأنبياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، وينزل عليهم كتبه، يؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما

يحبونه، فأنزلهم إلى دار الابتلاء ليكملوا مراتب العبودية، ويعبدوه في السراء والضراء بما تكرهه نفوسهم، وهذا لا يحصل في دار النعيم المطلق. ومنها أن أسماء الله الحسنى كالغفور والرحيم، والعزيز والكريم، والملك والجبار لها آثار، فأنزل الله آدم إلى الأرض، وجعل له ذرية، ليظهر أثر أسمائه وصفاته فيهم، وفيما حولهم من المخلوقات. فإن الله هو الملك الذي يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، فأنزل أبوي الإنس والجن، إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، ثم يعودون إليه مع ذرياتهم، فيحاسبهم على ما عملوا كما قال سبحانه: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130]. والله تبارك وتعالى هو الملك، الذي يملك كل شيء، له ملك السموات والأرض، وله ملك الدنيا والآخرة، وهو ربنا ونحن عبيده. وهو مالك الملك .. ولا بد للملك من جنود .. والله له جنود السموات والأرض من ملائكة وغيرهم .. وما يعلم جنود ربك إلا هو .. ولا بد للملك من أوامر تصلح بها أحوال رعيته .. وهي الكتب السماوية المشتملة على الحث والترغيب، والنهي والتحذير .. ولا بد له من سفراء بينه وبين خلقه .. وهم الرسل الذين يبينون للناس ما نزل إليهم من ربهم .. ولا بد أن تكون له محكمة يحاسب فيها من أطاع ومن عصى .. فيجزي على الخير خيراً .. وعلى الشر شراً .. وهي يوم القيامة. ولا بدَّ له بعد الحساب أن يكرم أهل طاعته بما يسعدهم وهي الجنة، وأن يذل ويهين أهل معصيته بما أعد لهم من العذاب وهي النار. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 98، 99]

16 - خلق الإنسان

16 - خلق الإنسان قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2]. وقال الله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)} [النحل: 4]. خلق الله تبارك وتعالى الإنسان في أحسن تقويم، وخَلقُ الإنسان من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره. وفي الإنسان من العجائب الدالة على عظمة الله وقدرته ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وتعجز العقول عن إدراك كنهه، وتعجز الألسنة عن وصفه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} [الطارق: 5 - 8]. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتفكر في خلق الإنسان، نظر اعتبار وتفكر، وتأمل وتدبر، كما قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]. ولو فكر الإنسان في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره كما قال سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 17 - 22]. وقد خلق الله آدم من تراب كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم: 20]. والتراب إذا أضيف إليه الماء صار طيناً كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12]. والطين إذا تغير واسودّ لطول مجاورته للماء صار حمأً، ثم صار مسنوناً، والمسنون: المصور أو المصبوب لييبس كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [الحجر: 26]. فإذا يبس الطين واشتد صار صلصالاً، وهي المرحلة الأخيرة من خلق الإنسان

كما قال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} [الرحمن: 14]. أما الإنسان الذرية فقد خلقه الله من نطفة وهي الماء، فهو سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 7، 8]. وقد بين الله عزَّ وجلَّ أطوار خلق الآدمي من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 - 14]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (¬1). وقد وكل الله بالرحم ملكاً، فإذا تم للنطفة في الرحم أربعون أو بضع وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، وسوي أو غير سوي، وذكر أو أنثى، كل ذلك حسب أمر ربه، لا يزيد على ما أمر ولا ينقص. فالملائكة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ، بِأرْبَعِينَ، أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ! أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأثَرُهُ وَأجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208) واللفظ له، ومسلم برقم (2643). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2644).

وهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وجعله أفضل العالمين، خلقه الله ليبقى أبد الآباد، وما سواه يفنى إلا من استثناه الله. وكل فرد من بني آدم سينتقل من حال إلى حال، ومن دار إلى دار كما قال سبحانه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19]. فأول طباقه كونه نطفة .. ثم علقة .. ثم مضغة .. ثم جنيناً .. ثم مولوداً .. ثم رضيعاً .. ثم فطيماً .. ثم طفلاً .. ثم شاباً .. ثم شيخاً .. ثم هرماً .. إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه .. إلى أن يموت ثم يبعث .. ثم يوقف بين يدي الله .. ثم يحاسب .. ثم يصير إلى الجنة أو النار حسب عمله .. فهذه ستة عشر طبقاً. ويركب أثناء هذه الأحوال أطباقاً عديدة: فينتقل من حال إلى حال كالصحة والمرض .. والعافية والبلاء .. والغنى والفقر .. والسعادة والشقاء .. وهكذا حتى يستقر في دار القرار في الجنة أو النار .. فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد. فسبحان من هذا خلقه .. وهذا أمره .. وهذه قدرته. وقد خلق الله الإنسان في كبد كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4]. فابن آدم يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة، فالإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم، ثم عند ولادته، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، والبلاء والامتحان. ثم مكابدة الموت، وما بعده في البرزخ، ثم مكابدة أهوال يوم القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة. فينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم في الجنة، وذلك بالإيمان والأعمال الصالحة.

وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعل فيه تسعة أبواب: بابان للسمع وهما الأذنان .. وبابان للبصر وهما العينان .. وبابان للشم وهما في الأنف .. وبابان لخروج فضلات البول والغائط .. وباب للكلام والنفس، والطعام والشراب وهو الأنف. ونشأة الإنسان كنشأة النبات من عناصرها الأولية يتكون، ومن عناصرها الأولية يتغذى، فهو نبات من نباتها كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17، 18]. فالإنسان والنبات كلاهما نبات من نبات الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأم شرابه وطعامه. وكما أن في النبات الحلو والمر .. والنافع والضار .. وذا الأزهار والثمار .. وذا الشوك والسم، فكذلك في الإنسان المسلم والكافر .. والمطيع والعاصي .. وذو الإيمان والأعمال الصالحة .. وذو الشر والفساد .. ولكل أجل .. ولكل عمل .. ولكل مقعد إما في الجنة أو النار .. وكل راجع إلى ربه .. ومحاسب على عمله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. إن خلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، ولكننا نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا، وإلفنا لها. إن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة وعبرة. وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]. إن هذا الإنسان هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض كما قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن

الإيمان، وحين يحرم نعمة اليقين. إن آيات الرب تبارك وتعالى في خلقه ومخلوقاته تبصرة وذكرى، يتبصر بها من عمى القلب، ويتذكر بها من غفلته، فيعظم من خلقه. فالمضاد للعلم، إما عمى القلب، وزواله بالتبصر، وإما غفلته، وزواله بالتذكر. وأعظم وأفضل ما أنفقت فيه الأنفاس .. التفكر في آيات الله .. وعجائب صنعه .. والانتقال منها إلى تعلق القلب بالله .. وتعظيمه وتوقيره سبحانه دون شيء من مخلوقاته بتوحيده والإيمان به .. وطاعته، وعبادته. إن هذا الإنسان عجيبة في تكوينه الجسماني في أسرار هذا الجسد .. وعجيبة في تكوينه الروحي في أسرار هذه النفس. وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه، التقى بأسرار تدهش وتحير، خلق أعضائه وتوزيعها، وأشكالها ووظائفها، وفي كل عضو من أعضائه، بل في كل جزء من عضو، خارقة تحير الألباب، لو كانت هناك عقول. وأعجب من هذا أسرار روحه، وطاقاتها المعلومة والمجهولة، إدراكه للأشياء، وطريقة إدراكها، وحفظها، وتذكرها. وهذه المعلومات والصور والكلمات أين خزنت؟، وكيف انطبعت؟، وكيف تُستدعى فتجيء؟. ومن ألف وجمع في المخ آلاف الآيات والأحاديث والكلمات والقصص والأشعار وغيرها .. ؟ ومن حفظها في الذهن كما يحفظ المال في الخزانة .. ؟ ثم أسراره في توالده وتكاثره، خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص. وكل فرد من هذا الإنسان عالم وحده، وطبعة خاصة لا تتكرر أبداً على مدى الدهور، ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً، لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره. فكل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر.

وما أعظم وأمتع تلك اللحظات التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم، بعين العابد السائح، الذي يتجول في معرض من إبداع أحسن الخالقين. ألا ما أعظم الخالق .. وما أعظم صنعه وخلقه. وما أخطر الجهل .. وما أسوأ الغفلة .. وما أضل من جهل نفسه. متى يتفكر الإنسان في نفسه؟. ومتى ينتبه القلب من رقدته؟. ومتى يؤوب العبد إلى ربه؟. إن سبب الخسران في الدنيا والآخرة الفكر فيما يفنى، والجهد في غير محله، والجلوس على موائد الشيطان، والإعراض عن موائد الرحمن. إن الرابح حقاً من حجز المقاعد كلها للدين، الفكر واللسان، والسمع والبصر، والقلب والعقل، والروح والبدن، وبقية الجوارح: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 5 - 7]. انظر إلى النطفة التي خلقها الله، إنها تحتوي على أكثر من مائة ألف إنسان قابل للحياة في كل دفقة مني من الإنسان. فسبحان من جمع هذه الخلائق في قطرة ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت. وتأمل كيف استخرجها الرب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مع ضيق طرقها، واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها في الرحم؟. وتأمل كيف جمع الله عزَّ وجلَّ بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع، الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه؟. وكيف قدر سبحانه اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، وساقهما من أعماق العروق

والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد، جعله الله لهما قراراً مكيناً ينشأ فيه الولد؟. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشرقة، إلى علقة حمراء تضرب إلى السواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في كونها وشكلها. ثم جعلها العزيز العليم عظاماً مجردة لا كسوة عليها، مباينة للمضغة في شكلها وقدرها. ثم انظر كيف قسم الله تبارك وتعالى تلك الأجزاء المتشابهة إلى الأعصاب والعظام، والعروق والأوتار، والأعضاء والأجهزة، واليابس واللين؟. ثم تأمل كيف ربط سبحانه بعضها ببعض بأقوى رباط وأشده؟. وكيف كساها لحماً ركبه عليها، وجعله وعاء لها وغشاءً وحافظاً، وجعل العظام حاملة له، فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به؟. ثم انظر إلى صنع الخالق البارئ المصور، كيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر، والفم والأنف، وسائر المنافذ؟. ثم تأمل كيف مد اليدين والرجلين كالأعمدة، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسمهما بالأنامل، وزود أطرافها بالأظفار؟. ثم انظر كيف خلق سبحانه من تلك النطفة الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، والكبد والطحال، والرئة والرحم، والأمعاء والمثانة والمرارة؟. كل منها له قدر يخصه .. وعمل يخصه .. ومنفعة تخصه .. وشكل يخصه. فسبحان الخلاق العليم: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]. ثم انظر إلى حكمة العليم الحكيم في تركيب العظام قواماً للبدن، وعماداً له، وكيف قدرها ربها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة: فمنها الصغير والكبير .. والطويل والقصير .. والمنحني والمستدير .. والمصمت والمجوف .. وركب بعضها على بعض، وربط بعضها ببعض؟. وتأمل كيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها، كالأضراس فإنها لما جعلت

آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة. ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظماً واحداً، بل عظاماً متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منه وشكله، على حسب الحركة المطلوبة منه. وشد سبحانه أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من العظم، وأدخل بعض العظام في بعض، على شكل الذكر والأنثى، فإذا أراد الإنسان أن يحرك جزءاً من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه. فسبحان من هذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه حكمته، وهذا صنعه. وتأمل كيف خلق سبحانه الرأس، وكثرة ما فيه من العظام التي تزيد على خمسٍ وخمسين عظماً، مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه على البدن، وجعله عالياً عليه علو الراكب على مركوبه؟. ولما كان الرأس عالياً على البدن، جعل فيه الحواس الخمس، وآلات الإدراك كلها، من السمع والبصر والشم والذوق واللمس. وجعل سبحانه حاسة البصر في مقدمته، ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن عما حوله. وركب العين من سبع طبقات، لكل طبقة وظيفة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها، أو زالت عن موضعها، لتعطلت العين عن الإبصار. ثم وضع سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقاً عجيباً، وهو إنسان العين بقدر العدسة، يبصر به ما بين المشرق والمغرب، وما بين الأرض والسماء. وجعله سبحانه من العين بمنزلة القلب من الإنسان، فهو ملكها، وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له، وحجاب وحراس. فتبارك الله أحسن الخالقين.

وانظر إلى عجيب صنع الله كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما، ثم جمّلهما بالأجفان غطاءً لهما وستراً، وحفظاً وزينة، فهما يحفظانهما من الحر والبرد، ويتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار. ثم غرس في أطراف الأجفان الأهداب جمالاً وزينة ومنافع أخرى. ثم أودع سبحانه العينين ذلك النور الباصر، والضوء الباهر، الذي يخرق ما بين السماء والأرض. فسبحان من أودع هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير، بحيث تنطبع فيه صورة السموات والأرض على عظمتهما، وللعين قدرة على على حفظ نصف مليون صورة ملونة يومياً. وشق سبحانه له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقة، فجعلها مجوفة كالصدفة، لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ، وليحس بدبيب الحشرات فيها، فيبادر إلى إخراجه والتخلص منه. وجعل فيها تجاويف واعوجاجات تمسك الهواء، والصوت الداخل، فتكسر حدته، ثم تؤديه إلى الصماخ. وجعل الحكيم العليم ماء الأذن مراً في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه عنه. وجعل ماء الفم عذباً حلواً، ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه، إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته. وجعل سبحانه ماء العين مالحاً، ليحفظها، فهي شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظاً. فسبحان من خلق هذه المياه .. وجعل كلاً فيما يناسبه ويصلح له. ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكله وهيأته، وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة، والنافعة والضارة، ويستنشق به الهواء فيوصله إلى

القلب، فيتروح به ويتغذى به. وجعله سبحانه مستقيماً لئلا يمسك الرائحة، مصباً تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه ثم تخرج منه، وجعل أعلاه أدق من أسفله، لأن أسفله تجتمع فيه الفضلات فكان واسعاً لتخرج منه بسهولة، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه ثم يصعد في مجراه قليلاً قليلاً، حتى يصل إلى القلب بهدوء. ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمةً منه ورحمة، لأنه مجرى النفس، ومنحدر فضلات الرأس، فيكون أحدهما غالباً للنفس، والآخر لخروج الفضلات، وإما أن تجري الفضلات فيهما فينقسم، فلا يفسد الأنف جملة، بل يبقى فيه مدخل للنفس، وربما أصيب أحدهما فيبقى الثاني يؤدي وظيفته. فاقتضت الحكمة تعددهما كالأذنين والعينين: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]. وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والقطع والطحن والكلام ما يبهر العقول عجائبه. فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجماناً لملك الأعضاء وهو القلب، مبيناً مؤدياً عنه، كما جعل الأذن رسولاً مؤدياً إليه العلوم والأخبار، والعين رسولاً مؤدياً إليه المرئيات والمبصرات، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد. وانظر إلى حكمة العزيز العليم الذي جعل اللسان مصوناً محفوظاً مستوراً غير مكشوف كالأذن والأنف، لأن هذه الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه، جعلت بارزة ظاهرة. ولما كان اللسان مؤدياً من القلب إلى الخارج جعله مستوراً لعدم الفائدة في إبرازه. وأيضاً لما كان اللسان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادقان لستره وصيانته، أحدهما الأسنان، والآخر

الشفتان، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر. وأيضاً هو من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزاً صار عرضة للحرارة واليبوسة المانعة له من التصرف وسهولة الحركة. ثم زين سبحانه الفم وجمله بالأسنان، وجعلها بيضاء مصفوفة، فزادته جمالاً، وجعل بها قوام العبد وغذاءه. وجعل بعضها آلة للقطع، وبعضها آلة للكسر، وبعضها آلة للطحن. وأحكم سبحانه أصولها، وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها، فكأنها الدر المنظوم بياضاً وصفاءً وحسناً. وأحاط جل وعلا الأسنان بحائطين، وهما الشفتان، فحسن شكلهما ولونهما، وجعلهما غطاءً للفم وطبقاً له، وجعلهما إتماماً لمخارج الحروف ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وسطاً له، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة. وجعل سبحانه الشفتين لحماً صرفاً لا عظم فيه، ليتمكن بهما الإنسان من مص الشراب، ويسهل عليه فتحهما وإغلاقهما. وخص سبحانه الفك الأسفل بالتحريك، لأن تحريك الأخف أيسر وأحسن، فإن الرأس يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة. وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والليونة والخشونة، والصلابة والرطوبة، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف. وزين الله تبارك وتعالى الرأس بالشعر وجعله لباساً له، لاحتياجه إليه، وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير. فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية مما يتحول من بشرة الرأس إلى العينين، وزين أجفان العينين بالأهداب، وزين الوجه باللحية، وجعلها كمالاً ووقاراً ومهابةً

للرجل. وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وما تحتهما من العنفقة. وخلق سبحانه اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه، ورأس مال معاشه. فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف، ليتمكن من القبض والبسط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل أصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين. ووضع الأصابع الأربعة في جانب، والإبهام في جانب، لتدور الإبهام على الجميع، فهي بمنزلة الراعي من الرعية، والإمام من المأمومين. فجاءت اليد بتدبير الحكيم العليم على أحسن حال، وصلحت للقبض والبسط ومباشرة الأعمال المختلفة. إن شئت جعلتها مطرقة، أو مغرفة، أو آخذة، أو معطية، أو جاذبة، أو دافعة، أو للربط، أو للحل، أو للكتابة، أو للرفع، أو للسحب، أو للذبح، أو للكنس، أو للمسح، أو للمشط، أو للأكل أو غير ذلك من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فتبارك من أودعها هذه المنافع وغيرها. وركب فيها سبحانه الأظفار على رؤوسها زينةً لها وعماداً ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع، وجعلها سلاحاً لغيره من الحيوان والطير، وآلة لمعاشه، وليحك بها الإنسان بدنه عند الحاجة. وجعل سبحانه عظام أسفل البدن غليظة قوية، لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها في الثخانة والصلابة، لأنها محمولة. ثم تأمل كيف جعل سبحانه الرقبة مركباً للرأس، وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات، ثم طبق بعضها على بعض، حتى كأنها خرزة واحدة، ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر. ثم ركب الظهر من أعلاه إلى منتهى عظم العجز من أربعٍ وعشرين خرزة، وركب بعضها في بعض، هي مجمع أضلاعه، والتي تمسكها أن تنحل أو

تنفصل. ثم وصل الحكيم الخبير تلك العظام بعضها ببعض، فوصل عظام الرأس بعظام الرقبة، وعظام الرقبة بعظم الظهر، وعظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكفين والكفين بالأصابع. ووصل عظام الظهر بالعجز، ووصل عظام العجز بالفخذين، والفخذين بالساقين، والساقين بالقدمين، والقدمين بالأصابع، فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين. فالإنسان مركب على ثلاثمائة وستين عظماً، فلو زادت واحداً أو نقصت واحداً، لاختل تركيب الجسم ونظامه، واضطربت حركة الإنسان. ثم إنه سبحانه ربط تلك الأعضاء والأجزاء بالرباطات، فشد بها أسرها لتمسكها وتحفظها، حتى بلغ عددها خمسمائة وتسعة وعشرين رباطاً، وهي مختلفة الطول والقصر، والغلظة والدقة، بحسب اختلاف مواضعها. فجعل منها أربعة وعشرين رباطاً آلة لتحريك العين، وفتحها وضمها وإبصارها، لو نقص منها رباط واحد لاختل أمر العين. وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات، هن له كالآلات التي بها يتحرك ويتصرف. وذلك كله صنع الرب الحكيم، وتقدير العزيز العليم، في قطرة من ماء مهين، فويل للمكذبين، وبعدٌ للجاحدين، وتبارك الله أحسن الخالقين. ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن، في مقدمته، وفي وسطه، وفي مؤخرته، وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعها، من التذكر والتفكر، والتعقل والحفظ. ومن عجائب خلق الإنسان ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب

والكبد، والطحال والأمعاء، والرئة والمعدة، والمثانة والمرارة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة. فأما القلب فهو الملك المستغل لجميع آلات البدن المستخدم لها، فهو مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة. وهو معدن العقل والعلم، والحلم والشجاعة، والمروءة والكرم، والصبر والحب، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال. وجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب: فالعين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات. والأذن رسوله المؤدي له جميع المسموعات. واللسان ترجمانه المخبر عنه. وجعل الله عزَّ وجلَّ الرئتين كالمروحة تروح عليه دائماً، لأنه أكثر الأعضاء عملاً، وأشدها حرارة. هذا خلق الله في قطرة واحدة من ماء مهين، فكم خلق الله من قطرة في العالم؟، وكم جعل في هذه القطرة من الأحياء؟. هذا في عالم الإنسان .. فكم من العجائب في خلق الحيوانات .. والطيور والزواحف .. والحشرات .. وغيرها من المخلوقات .. ؟ فسبحان الخلاق العليم الذي تولى خلق هذه النطفة، وجعل منها إنساناً سوياً، سميعاً بصيراً: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)} [غافر: 62]. فما أعظم قدرة الله، وما أعظم صنعه في هذه النطفة، كيف جعلها إنساناً، وبث منها البشرية المنتشرة على وجه الأرض؟. فمن هذه عظمته، وهذه نعمه، وهذا صنعه، كيف لا يعبده الإنسان ويطيعه، وهو الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره؟. أما يخاف هذا الإنسان يوماً عبوساً قمطريراً: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ

وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 52]. إن الإنسان إذا نظر إلى غذائه، في مدخله ومستقره ومخرجه، رأى فيه العبر والعجائب: كيف جعل الله له آلة يتناوله بها، ثم باباً يدخل منه، ثم آلة تقطعه صغاراً، ثم طاحون يطحنه، ثم أعين بماء يعجنه، ثم جعل له مجرى وطريقاً إلى جانب النفس، ينزل هذا، ويصعد هذا. فإذا وصل إلى المعدة، التي هي خزانته، ولها بابان، باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه ثفله. والباب الأعلى أوسع من الأسفل، والأسفل منطبق دائماً، فإذا انتهى الهضم، انفتح ذلك الباب لخروج الفضلات. وقد أحاط الله المعدة من داخلها وخارجها بحرارة نارية، ربما تزيد على حرارة النار، ينضج بها الطعام فيها، كما ينضج الطعام في القدر بالنار. فإذا أذابته المعدة وطبخته، علا صفوه إلى فوق، ورسا كدره إلى أسفل، ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن، يبعث فيها نصيب كل عضو وقوامه، بحسب استعداده وقبوله. فيبعث ألطف ما يتولد من الغذاء وأخفه وأشرفه إلى الأرواح. وينبعث إلى الدماغ منه ما يناسبه في اللطافة والاعتدال. وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظافر ما يغذيها ويحفظها. وبنبعث من الباقي إلى بقية الأعضاء كل بحسبه. ولما كان الغذاء يستحيل في المعدة إلى دم، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وبلغم، اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفاً ينصب إليه ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله. فوضع سبحانه المرارة مصباً للمرة الصفراء .. ووضع الطحال مقراً للمرة السوداء .. والكبد تمتص أشرف ما في ذلك وهو الدم، ثم تصفيه وتبعثه إلى

جميع البدن من عرق واحد، ينقسم إلى مجار كثيرة، يوصل إلى كل واحد من العروق والأعصاب والعظام والشعور ما يكون به قوامه. فسبحان الملك الحق ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. وإذا كان هذا صنعه في قطرة ماء مهين، فكيف صنعه في ملكوت السموات والأرض؟. وكيف شأن كرسيه وعرشه العظيم؟. وكم تكون عظمة الجنة التي خلقها؟ .. والنار التي سعرها؟ وكيف عظمته وجلاله وكبرياؤه؟: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)} [غافر: 64]. ومن عجائب خلق الإنسان، ما خلق الله فيه من الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك، ورتبها بحكمته سبحانه: فأولها حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأقل درجاته أن يحس بما يلاصقه، وخلق الله للبعيد حساً آخر تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد. ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة، فخلق الله لك البصر، لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فقد يقصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب. فخلق الله سبحانه السمع، حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات، عند جريان الحركات. ولا يكفي ذلك لو لم يخلق لك حس الذوق، الذي تعلم به ما يوافقك، وما يضرك، وتعلم به الطعوم وأحوالها من حلو وحامض، ومر ومالح، وحار وبارد. ثم أكرمك الله تبارك وتعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل، وهو العقل الذي

تدرك به معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وعظمه وقدرته، وآلائه وإحسانه، وهذه أعلى فوائد العقل. وأدناها ما تدرك به الأطعمة ومنافعها، وما ينفعك وما يضرك. ثم انظر إلى حكمة الله في خلق القدرة والإرادة في الإنسان، فلو خلق لك البصر حتى ترى به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوق إليه، وشهوة تستحثك على القصد إليه، لكان البصر معطلاً. فكم من مريض يرى الطعام، وهو أنفع الأشياء له ولا يقدر على تناوله، لسقوط شهوته، فخلق لك الرحيم شهوة الطعام وسلطها عليك. ثم هذه الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق العليم الكراهة عند الشبع، لتترك الأكل بها. وكذلك خلق لك شهوة الجماع لحكمة بقاء النسل. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ كل حيوان ورزقه، والرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقياً، كان الرزق آتياً. وإذا سد الله على العبد بحكمته طريقاً من طرق الرزق، فتح له برحمته طريقاً أنفع له منه. فانظر إلى الجنين في بطن أمه، يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو حبل السرة. فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح له الله طريقين اثنين وهما الثديان، وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول، لبناً خالصاً سائغاً يناسب حاله. فلما تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام، فتح له المولى الكريم طرقاً أربعة أكمل منها تناسب حاله، وهما طعامان وشرابان. فالطعامان النبات والحيوان، والشرابان المياه، وما يتصل بها من الألبان والعسل، ونحوهما من المنافع والملاذ.

فإذا مات الإنسان، انقطعت عنه هذه الأربعة، لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء، ليجد نعيماً لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. فأي نعيم فوق هذا .. وأي كرم من ربه عليه فوق هذا؟. إن الرب جل وعلا لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا، إلا ويؤتيه ما هو أفضل منه وأنفع له، وليس ذلك لغير المؤمن. فإنه سبحانه يمنعه الحظ الأدنى، ولا يرضى له به، ليعطيه الحظ الأعلى. ولكن العبد لجهله بربه، وجهله بكرمه، وجهله بحكمته ولطفه، وجهله بمصالح نفسه، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه، وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً فانياً، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً باقياً. ولو تأمل العبد وفكر لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها، أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطريق الموصلة إليه. وقد ركب الله سبحانه في الإنسان قوتين: هما الشهوة والغضب. وهاتان القوتان بمنزلة صفاته الذاتية لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وبهما ينال العبد منازل الأبرار، أو ينحط تحت أقدام الأشرار في أسفل سافلين. فمن شهوته مصروفة إلى ما أعد الله له في دار النعيم .. وغضبه حمية لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، فهذا في الدرجات العلى، والنعيم المقيم. ومن كانت شهوته مصروفة في هواه وأمانيه العاجلة .. وغضبه مقصور على حظه .. ولو انتهكت محارم الله وحدوده وشرائعه .. وهو ملحوظ بعين الاحترام والتقدير ونفوذ الكلمة .. فهذا في أسفل سافلين.

ولن يجمع الله بين الصنفين في دار واحدة. فالأول: صعد بشهوته وغضبه إلى أعلى عليين، فهو في الجنة. والثاني: هبط بهما إلى أسفل سافلين، فهو في النار. فسبحان من خلق هذا الإنسان من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، ووكل بخلقه من هذا الماء ملائكة تنفذ أمره فيه. فهذه النطفة بمجرد استقرارها في الرحم، تتولاها ملائكة بأمر الله، فتنقسم إلى خلايا يلهمها الله ماذا تفعل؟، وماذا تريد؟. وكل خلية من هذه الخلايا مكلفة بأمر الله ببناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة، عمارة الجسم الإنساني العجيب: فتنطلق مجموعة منها لتنشئ بأمر الله الهيكل العظمي .. وأخرى تبني الجهاز الهضمي .. وأخرى تبني الجهاز العصبي .. وأخرى تبني الجهاز الدموي .. وأخرى تبني الجهاز التناسلي .. وأخرى تبني الجهاز التنفسي .. إلى آخر بقية الأركان في العمارة الإنسانية. وهذه العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التركيب، متنوعة الوظائف، وكل خلية مأمورة أن تقوم بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة. يأمرها الملك فتنطلق بأمر الله وهي تعرف طريقها، وتعرف إلى أين هي ذاهبة، وما هو مطلوب منها، ولا تخطئ واحدة منها .. ؟ فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أين مكانها، وتعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه، ولا يجوز أن تكون في البطن أو الظهر أو القدم، مع أنه يمكن أن تنمو في أي مكان. فمن ترى قال لها إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين، في هذا المكان دون سواه. إنه العلي الأعلى، الذي خلقها وهداها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله وحده. وكما أودع الله في الأرض ودائعً، وبالجهد عليها تظهر هذه الودائع، وتنفع

الناس كالماء والحديد وسائر المعادن. كذلك وضع الله في الآدمي ودائعَ، فإذا اجتهدنا عليها بالمنهج الصحيح ظهرت هذه الودائع، وخدمت الدين، وإلا نجتهد عليها يضيع هذا الاستعداد بين شهوات البهائم، أو غضب السباع، أو كيد الشياطين. فكل جوارح الإنسان خلقت للعبادة، وخدمة الدين، والقيام بالدين. فالعين عندها استعداد النظر .. والأذن عندها استعداد السمع .. والقلب عنده استعداد الإيمان .. والعقل عنده استعداد الفكر. واللسان عنده استعداد الكلام .. واليد عندها استعداد البطش بالأعداء .. والرجل عندها استعداد المشي والكر والفر، وهكذا بقية الجوارح. فأين الذي استفاد منها حسب أمر الله؟. وقد خلق الله اللسان، وجعل فيه استعداد الكلام، حيث يحدث الصوت من هواء ساذج، يخرج من الصدر حتى يصل إلى الحلق واللسان، والشفتين والأسنان، فيحدث منه الكلام والصوت. نظمه ونثره .. وخطبه ومواعظه .. لينه وخشنه .. والضحك والبكاء .. والترغيب والترهيب .. والسؤال والجواب .. والإنذار والتبشير، والنداء والدعاء .. والحمد والذم .. والتسبيح والاستغفار .. وغير ذلك مما لا يمكن حصره من أنواع الكلام الذي ينطق به اللسان بإذن الله. فسبحان القدير الذي أخرج كل ذلك من هواء ساذج يخرج من الصدر، ولا يدرى ما يراد به، ولا أين ينتهي، ولا أين مستقره، فهو بحر من الهواء يقلبه الله إلى بحر من الكلمات والجمل التي تحمل المعاني. وأعجب من هذا اختلاف الألسنة واللغات والأصوات. فيجتمع خلق من الناس من بلاد شتى، وكل يتكلم بلغته، ولا يدري كل منهم ما يقول الآخر، مع أن الهواء واحد، واللسان واحد، والحلق واحد، والأضراس واحدة، والشفتان واحدة، إن في ذلك لآية.

فمثل اللسان مثل الأرض تسقى بماء واحد، وتخرج نباتات مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام، من الأشجار والأزهار والحبوب والثمار، مع أن التراب واحد، والماء واحد: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]. وعجيبة أخرى في خلق هذا الإنسان: إنها عملية تحويل الغذاء في الجسم إلى دم، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم. إنها عملية عجيبة فائقة العجب، وهي بقدرة الله وتدبيره تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عملية الاحتراق، كما تتم عملية التنفس. وفي كل لحظة تتم في جسم الإنسان عمليات هدم وبناء مستمرة، لا تكف حتى تفارق الروح الجسد. ولا يملك الإنسان أمام هذه المخلوقات العظيمة، وهذه العمليات العجيبة، إلا أن تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الكون والإنسان. والله سبحانه خلق الإنسان، وزوده بآلات العلم والمعرفة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب. فأي نعمة فوق هذه النعم؟: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. وأول الشكر وأعظمه، الإيمان بالله الواحد الأحد، وعبادته وطاعته، والدعوة إليه، والإحسان إلى خلقه. ألا ما أعظم فضل الله على الإنسان في خلقه .. وحسن صورته الخلقية .. وحسن صورته الشعورية .. فالإنسان أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني، كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري .. واستعداده الروحي. ومن ثم وكلت إليه الخلافة في الأرض، وأقيم خليفة في هذا الملك العريض،

إلى يوم الدين. إن الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان من نطفة، وجعله يمر بمراحل: المرحلة الأولى: في بطن الأم، ومدتها تسعة أشهر، والحكمة من وجوده هذه المدة شيئان: تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية. المرحلة الثانية: في بطن الدنيا، ومدتها من يوم الولادة إلى الموت، والحكمة من وجوده في الدنيا شيئان: تكميل الإيمان، والأعمال الصالحة. المرحلة الثالثة: في القبر، ومدتها من الموت إلى قيام الساعة، والحكمة من وجوده في القبر انتظار قيام الساعة، وهو في هذه الفترة إما في عذاب، وإما في نعيم، حسب عمله، سواء دفن أو لم يدفن. المرحلة الرابعة: في دار القرار، في الجنة أو النار، ومدتها من دخول الجنة أو النار، إلى أبد الآباد، والحكمة من وصوله إلى هذه الدار، بلوغ كمال النعيم، والتمتع برؤية ربه إن كان مؤمناً، والخلود في الجنة، أما الكافر فيصل إلى كمال العذاب جزاء على عمله في الدنيا، ويخلد في النار. والله حكيم عليم، خلق الإنسان ضعيفاً، ومع ضعفه فعلمه قليل، فمهما علم من العلم فلن يعرف كل شيء. والإنسان مع ضعفه وقلة علمه عجول، ومع عجلته كان أكثر شيء جدلاً، ومع جداله كان خصيماً، وقتوراً وهلوعاً. وفوق ذلك كان ظلوماً جهولاً، وفوق ذلك كان مختالاً فخوراً، وفوق ذلك كان كفوراً: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} [الزخرف: 15]. إن أعطى لم يشكر .. وإن ابتلي لم يصبر .. وإن أساء لم يستغفر: «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). فالإنسان بحاجة إلى الوحي، وبحاجة إلى الدين، وبحاجة إلى قدوة حسنة، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

ولذلك بعث الله إليه خيار الناس وهم الأنبياء، ليقتدي بهم. فمن اتبعهم وسار على هديهم أفلح ونجا في الدنيا والآخرة. ومن خالفهم وسار على هواه ضل وخسر في الدنيا والآخرة. فسبحان العليم الحكيم، السميع البصير، الذي خلق الإنسان ورعاه ورباه، وهو جنين في بطن أمه، وجعله في موضع صغير، لا يد تناله، ولا بصر يدركه. وسبحان من أجرى له الدم من الأم، يتغذى به كما يتغذى النبات بالماء، فينمو تدريجياً حتى يصير بشراً سوياً. وسبحان من قلب ذلك الدم بعد الولادة لبناً خالصاً. حتى إذا كمل خلقك، وقوي بدنك على مباشرة الهواء، واستعد بصرك لملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، هاج الطلق بأمك بأمر العزيز الحكيم، وجاءت الأوامر بخروجك. فخرجت من الظلمات إلى النور .. ومن دار الأمن إلى عالم الابتلاء .. فبينما الرحم مبتهجٌ بحملك .. صار يعج إلى ربك من ثقلك. فسبحان الذي فتح لك بابه حتى ولجت .. ثم ضمه عليك وحفظك فيه حتى كملت .. ثم فتح لك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر .. لم يخنقك ضيقه .. ولم تحبسك صعوبة طريقه. وسبحان من صرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءك على صدرها، كما حملتك في بطنها، وساقه إلى تلك الخزانتين أعظم سوق وألطفه، فهي بئر مملوءة بالحليب، تشرب منها كلما ظمئت وجعت لبناً خالصاً سائغاً. فتبارك الكريم الرحيم الذي خلقه وصفاه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه، ليس بالحار المؤذي، ولا البارد القارس، ولا المر ولا المالح، ولا الكريه الطعم والرائحة، بل هو أحسن ما يكون. وجعله في أعلى مكان ليناسب حالك، فإذا اشتهيت اللبن در لك الثدي بإذن

ربه، ولسهولة وصوله إليك جعل الله في رأس الثدي حلمة هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها، ولا يتعب بالتقامها: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. ثم نقب سبحانه في رأس الحلمة نقباً صغيراً يناسب حالك، لم يوسعه فتختنق باللبن، ولم يضيقه فتمصه بكلفة. فسبحان من عطف قلب الأم على مولودها، ووضع فيه الحنان العجيب، والرحمة الباهرة، تسهر من أجلك، وتؤثرك بكل شيء، وهي منقادة مسرورة. حتى إذا قوي بدنك، واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى طعام يشتد به عظمك، ويقوى عليه لحمك، أنبت في فيك آلة القطع والطحن من الأسنان والأضراس. فسبحان الذي حبسها وقت الرضاع رحمةً بأمك، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمةً بك ولطفاً بك. وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل الطعام زيد لك في تلك الأسنان، حتى تنتهي إلى النواجذ، فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، ثم إذا ازددت قوة، زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الأضراس. ومن رحمته سبحانه بالإنسان أن أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فإنه على ضعفه لا يحتمل العقل والفهم والمعرفة، وإنما يعطي ذلك تدريجياً كما ينمو تدريجياً رحمةً من ربه العزيز الرحيم. فلا يزال يتزايد فيه العقل والمعرفة شيئاً فشيئاً، حتى يألف الأشياء ويتمرن عليها، ويستقبلها بحسن التصرف فيها، وحسن التدبير لها. وخص سبحانه الذكر بأن جمل وجهه باللحية، وقاراً وهيبةً له، وجمالاً وزينة، وفصلاً له عن سن الصبا، وفرقاً بينه وبين الإناث. وبقيت الأنثى على حالها، لما خلقت له من استمتاع الذكر بها، فبقي وجهها على حاله ونضارته، ليكون أهيج للرجل على الشهوة، وأكمل للذة الاستمتاع.

فالماء واحد .. والوعاء واحد .. واللقاح واحد .. والنتاج مختلف. فسبحان الذي أعطى الذكر الذكورية، والأنثى الأنوثية: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49، 50]. وجعل سبحانه المعدة خزانة يستقر فيها الغذاء، فتطبخه كالطباخ، وتسلمه لمن ينتفع به، فالإنسان يطبخ الطعام في الخارج، حتى يظن أنه قد كمل، وطباخه من الداخل يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه، ولا تقدر عليه. فهو يوقد عليه نيراناً تذيب الحصى، وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك، لا تحرقك ولا تلتهب عليك، وهي أشد حرارة من النار. وجعل سبحانه في بدنك المنافذ والأبواب، لإدخال ما ينفعك، وإخراج ما يضرك .. فهل من عاقل .. ؟ وهل من ذاكر .. ؟ وهل من شاكر .. ؟ فسبحان الخلاق العليم الذي خلق لك الحواس، وجعلها في الرأس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الأشياء. وجعل سبحانه الحواس خمساً في مقابل المحسوسات الخمس، كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة: فجعل البصر في مقابلة المبصرات .. وجعل السمع في مقابلة الأصوات، وجعل الشم في مقابلة الروائح .. وجعل الذوق في مقابلة المذوقات .. وجعل اللمس في مقابلة الملموسات .. فأي محسوس بقي بلا حاسة؟. وأعينت هذه الحواس بمخلوقات أخر لتكمل بها منفعتها: فأعينت حاسة البصر بالضياء والنور .. وأعينت حاسة السمع بالهواء الذي ينقل الأصوات .. وأعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف .. وأعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم .. وأعينت حاسة اللمس خاصة بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات، ولم تحتج إلى شيء من خارج. فسبحان من أخرج الكلام من هواء ساذج في باطن الإنسان، وأخرج من

الحروف والكلمات والجمل أنواع الكلام: من أمر ونهي .. ونظم ونثر .. ومضحك ومبك .. ومسل ومحزن .. وما يولد الخوف .. وما يولد الأمن .. ومنه ما يسقم الصحيح .. ومنه ما يبرئ السقيم .. ومنه ما يزيل النعم .. ومنه ما يحل النقم .. ومنه ما يستدفع به البلاء .. ومنه ما يجلب النعماء .. ومنه ما يؤلف القلوب .. ومنه ما يفرق القلوب .. ومنه ما يضل .. ومنه ما يهدي .. ومنه العالي .. ومنه السافل .. ومنه الحسن .. ومنه القبيح. فسبحان من أخرج هذا كله من هواء ساذج يخرج من الصدر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8، 9]. وسبحان من أخرج من هواء واحد ما لا يحصيه إلا الله من الحروف والكلمات، والأصوات والأنغام، وأخرج بماء واحد ما لا يحصيه إلا الله من النباتات والأشجار، والأزهار والثمار .. وأخرج بلسان واحد ما لا يحصيه إلا الله من اللغات واللهجات. فالحلق يمر به هواء واحد، والأرض تسقى بماء واحد، والمواليد من هذ وهذا مختلفة لا يحصي أنواعها إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وما أعظم نعمة الله في الحفظ والنسيان، والذي خص به نوع الإنسان، وما أعظم ما فيهما من الحكم، وما للعبد فيهما من المصالح. فإنه لولا القوة الحافظة التي خص الله بها الإنسان لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سمع وما رأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر من أحسن إليه، ولا من أساء إليه، ولا من نفعه فيقرب منه، ولا من ضره فينأى عنه، ولا يعرف علماً ولو درسه مراراً، ولا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مراراً، ولا ينتفع بتجربة، ولا يعرف من عامله.

ومن أعجب النعم عليه نعمة النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا أبداً، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزى عن مصيبة، ولا ارتفع عنه حزن، ولا بطل له حقد، ولا استمتع بشيء من الدنيا مع تذكر الآفات، ولا نام من تذكر المصائب والبليات. فما أعظم نعمة الله على العبد في الحفظ والنسيان مع تضادهما: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. والله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد: خلق آدم بلا أب ولا أم .. وخلق زوجه من أب بلا أم .. وخلق عيسى من أم بلا أب .. وخلقنا من أب وأم. فخلق آدم من تراب، وخلق زوجه من أحد أضلاعه، وخلق عيسى من نفخة جبريل في درع مريم، وخلق البشر من اجتماع ماء الرجل والمرأة. فسبحان من خلق من هذا الماء بشراً سوياً يقوم ويقعد .. ويأكل ويشرب .. ويفرح ويغضب .. ويصلي ويتعبد .. ويعدل ويظلم .. ويتكلم ويسكت .. ويرحم ويبطش. وسبحان من جعل من نسله الذكر والأنثى .. والأسود والأبيض .. والطويل والقصير .. والمؤمن والكافر .. والعاقل والمجنون .. والعرب والعجم. وسبحان من هيأه للإيمان والكفر .. والطاعات والمعاصي .. والخير والشر .. والإحسان والإساءة .. والهدى والضلالة. وسبحان من ملأ الأرض من نسله. فهذا يولد .. وهذا يموت .. حتى يأكلوا أرزاقهم .. ويستكملوا آجالهم .. والله يوالي عليهم نعمه .. ويرسل إليهم رسله .. وهم يعملون بما يسر الله لهم .. ويغدون ويروحون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فما أعظم خلق هذه النفوس، وما أعجب ما فيها من الآيات والعبر والشواهد

والحكم، وما أدلها على قدرة بارئها وفاطرها: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20، 21]. وهذا الإنسان مركب من ستة أشياء وهي: بدنه الجثماني .. ونفسه الشهوانية .. ونفسه الغضبية .. ونفسه الشيطانية .. وروحه الملكية .. وجوهره العقلي. والذي يملك السمع والأبصار هو الله، فهو خالقها وحده، وهو الذي يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويعافيها أو يمرضها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره. وفي تركيب العين وأعصابها، وكيفية إدراكها للمرئيات. وفي تركيب الأذن وأجزائها، وطريقة إدراكها للذبذبات. في ذلك كله عجائب تذهل العقول، وتدير الرؤوس. إن كثيراً من الناس يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم، كأنهم لا يبصرون ولا يدركون: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 92]. والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، هو الله وحده. ألا ما أعظم الرب الخالق سبحانه، وما أعظم قدرته، وما أتقن صنعه. إن وقفة واحدة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة. أو أمام البيضة والبويضة، يخرج منهما الفرخ والإنسان. إن ذلك لكافٍ لاستغراق حياة الإنسان في التأمل والارتعاش، إجلالاً لعظمة الله وكمال قدرته، وسعة علمه، وجميل صنعه. فسبحان العليم القدير. أين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ .. وأين كان يكمن العود؟. وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق والثمار؟. وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق والعراجين؟. وأين كان يكمن الطعم والنكهة، واللون والرائحة؟.

وأين كان يكمن البلح والتمر، والرطب والبسر؟. وأين في البيضة كان الفرخ؟. وأين كانت تكمن تلك العظام واللحوم، والزغب والريش؟. وأين كان يكمن في البويضة ذلك الكائن البشري العجيب؟. وأين كان يكمن لحمه وعظامه، عروقه وأعصابه، وسمعه وبصره، ورأسه وأطرافه، وأفكاره وأعماله، وكلامه وحركاته؟ {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار، إلى دم حي في الجسم الحي .. وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق .. لأعجوبة يتسع العجب منها .. كلما زاد العلم بها .. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. إن هذه الكائنات الحية لا تكون إلا من إله حي، يهب الحياة لكل حي: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65].

17 - خلق الروح

17 - خلق الروح قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر: 28، 29]. الله تبارك وتعالى هو الذي سوَّى النفس كما سوَّى البدن. فأخبر أنه سوى البدن بقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. وأخبر أنه سوى النفس بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8]. فالله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها. والإنسان مجموع الروح والبدن كما قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71، 72]. وباجتماع الروح مع البدن، تصير النفس فاجرة أو تقية، وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها. وقد أفلح من زكى نفسه بحملها على طاعة الله، وخاب من أهلكها وحملها على معصية الله. والعبد إنما يزكي نفسه بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، ويدسيها بعد تدسيه الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه حينما أعرض عن ربه. والله عزَّ وجلَّ هيأ الإنسان لقبول الكمال، بما أعطاه الله من الأهلية والاستعداد، التي جعلها كامنة فيه كون النار في الزناد. فألهمه ربه ومكنه، وعرفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل عليه كتبه، لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل، فالنفس قابلة للفجور

والتقوى لحكمة الابتلاء. ثم خص الله سبحانه بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها بطاعة الله فذلك المتقي. ثم حكم بالشقاء على من دساها، فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور فذلك الشقي. فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها، وتعليها حتى تصير أشرف شيء، وأكبره وأزكاه وأعلاه. والمعصية تذل النفس وتصغرها وتحقرها. فما أصغر النفس مثل معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله. والبدن كالقالب بالنسبة للنفس، وهي تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، ويكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه. ولهذا يقال لها عند مفارقة البدن: «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). والأرواح جنود مجندة، وأنواع مختلفة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه (¬2). وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته. فالمؤمن والكافر قد يتشابهان كثيراً، وبين روحيهما أعظم التباين، وقلَّ أن ترى بدناً قبيحاً إلا وجدته مركباً على نفس تشاكله، وقل أن ترى آفة في بدن، إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها. وقل أن ترى شكلاً جميلاً، وصورة حسنة، إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، حسنة مثله. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (18534)، وهذا لفظه. وأخرجه أبو داود برقم (4753)، صحيح سنن أبي داود رقم (3979). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3339)، ومسلم برقم (2638).

وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزاً بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى. وأرواح الموتى تتلاقى وتتزاور، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في النوم، ويكلم بعضها بعضاً، كما تلتقي أرواح الأحياء، وكما تلتقي أرواح الموتى كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [الزمر: 42]. فالروح جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وهي مخلوقة مدبرة، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ، فتجتمع وتتحدث، فيرسل الله أرواح الأحياء لتستكمل أرزاقها وآجالها، ويمسك أرواح الأموات. وموت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً فهي لا تموت بهذا الاعتبار. فالأرواح باقية بعد خلقها ومفارقة أجسادها في نعيم أو عذاب، حتى يردها الله إلى أجسادها عند البعث. وموت الأنبياء أنهم غيبوا عنا حيث لا ندركهم، فهم أحياء في قبورهم، كالملائكة أحياء موجودون ولا نراهم. وإذا تقرر أنهم أحياء، وكذلك الشهداء، فحياتهم تختلف عن حياتهم في الدنيا، وواهب الحياة وحده، أعلم بكيفية تلك الحياة. فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية. فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلا أدْرِي: أكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأفَاقَ قَبْلِي،

أوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ» متفق عليه (¬1). وقد وصف الله النفس بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع والصعود إلى السماء كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. والروح تعاد إلى الميت في قبره وقت سؤال الملكين له في القبر. من ربك؟، ما دينك؟، من نبيك؟. والروح تتعلق بالبدن، وإن بلي وتمزق، ولكنها لا تستقر فيه. وسر ذلك أن الروح لها مع البدن خمسة أحوال: أحدها: تعلقها بالجنين في بطن أمه. الثاني: تعلقها بالبدن بعد خروجه إلى الأرض. الثالث: تعلقها بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، فترد إليه عند السؤال في القبر، ووقت سلام المسلم عليه، وهذا الرد لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. الخامس: تعلقها به يوم القيامة، وهو أكمل أنواع تعلقها، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الأنبياء في السموات، ورأى موسى - صلى الله عليه وسلم - يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ورأى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وقبورهم وأبدانهم في الأرض، ولا تنافي في ذلك. فإن الروح كانت هناك في السماء، ولها اتصال بالبدن في القبر، وإشراف عليه، وتعلق به، بحيث يصلي في قبره، ويرد السلام، وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2411) واللفظ له، ومسلم برقم (2373).

إن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، فصعودها ونزولها وحركتها أخف من حركة البدن وأسرع. والنعيم والعذاب في القبر على البدن والروح معاً، تنعم الروح وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن. وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رماداً، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب أو النعيم ما يصل إلى المقبور. فإن قيل، وقد قيل، وما قيل إلا بسبب الجهل بالله ودينه وشرعه .. عذاب القبر ونعيمه .. وسعته وضيقه .. وكونه حفرة من حفر النار .. أو روضة من رياض الجنة، قد كشفنا القبر وما رأينا ذلك؟. ولا رأينا الملائكة التي تعذب الكفار؟. ووجدنا القبر كما حفرناه وقبرناه لم يزد ولم ينقص؟. وكيف يسع القبر الميت مع من يعذبه أو يؤنسه أو يسأله؟. ونرى المصلوب على خشبة لا يتحرك ولا يسأل ولا يجيب؟. وكذلك من أكلته السباع، ومن احترق، ومن تفرقت أجزاؤه؟. وكيف يسأل من تفرقت أجزاؤه في الرياح والبحار والتراب؟. فيقال لهؤلاء وأمثالهم: كتاب الله تنزيل من حكيم عليم، والرسل لم تأت بما تحيله العقول، وتقطع باستحالته. بل ما جاء به الرسل قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر. الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كأمور الغيب التي أخبروا بها عن البرزخ، واليوم الآخر كالصراط والميزان، والجنة والنار ونحو ذلك. ولا يكون خبر الرسل محالاً في العقول أصلاً. وكل خبر يُظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أمرين:

الأول: إما أن يكون الخبر كذباً عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسداً يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6]. الثاني: أن يُفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مراده، من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصربه عن مراده مما قصده من الهدى والبيان. وقد حصل بسبب إهمال ذلك كل بدعة وضلالة ومعصية، مع حسن القصد أو سوء القصد، وما ذاك إلا بسبب سوء الفهم عن الله ورسوله. والله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، وخلق البشر، وشرع لعباده الدين الحق. وجعل الدور ثلاثاً: دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار الآخرة. وجعل سبحانه لكل دار أحكاماً تخصها، وتناسب أحوالها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح. وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، ولهذا جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعاً لها، فالأبدان في الدنيا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها. والأرواح هناك في القبور ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح، فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، وتسري إلى الأرواح عذاباً أو نعيماً. وذلك واقع في الدنيا بالنوم، فإن ما يجري على الإنسان في نومه من عذاب أو نعيم، يجري على روحه أصلاً، والبدن تابع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن، فيرى في نومه أنه قد ضرب، فيقوم وأثر الضرب في جسمه. وذلك أن الحكم لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو

دخلت لاسيتقظ وأحس. فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقام الناس من قبورهم، صار الحكم، والنعيم والعذاب على الأجساد والأرواح معاً ظاهراً بادياً في كل منهما. والله عزَّ وجلَّ جعل أمر الآخرة، وما كان متصلاً به كالبرزخ غيباً، وحجب ذلك عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته ورحمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم. فالملائكة تنزل على المحتضر، وتجلس قريباً منه، ويشاهدهم عياناً، وقد يسلمون على المحتضر، وقد يرد عليهم بإشارة أو لفظ. وكذلك النار التي في القبر ليست من نار الدنيا، والخضرة التي فيه ليست من زرع الدنيا، وإنما ذلك من نار الآخرة وخضرتها، فلا يحس بها الأحياء في هذه الدار، لأنهم محجوبون عنها. ولو أطلعنا الله على ذلك لزالت حكمة التكليف، ولما تدافن الناس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر» أخرجه مسلم (¬1). ورؤية هذه النار أو الخضرة في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحياناً لمن شاء الله أن يريه ذلك، كما حصل لبعض الناس. والله عزَّ وجلَّ قد أحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك. فجبريل - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يراه ولا يسمعه. والجن يتحدثون بيننا بالأصوات المرتفعة، ونحن لا نسمعهم ولا نراهم، وقد نسمع كلامهم ولا نراهم، كما إذ دخلوا في بعض الإنس وتكلموا. فالله رؤوف بالعباد يخلق حوادث ومخلوقات، يصرف عنها أبصار الناس، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2868).

حكمة منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها. والعبد أضعف بصراً وسمعاً وتحملاً من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر. وإذا كان العبد يستطيع أن يوسع القبر، ويستره عن الناس، فلا يعلمون منه إلا ما شاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، ويستر ذلك عمن يشاء، ويظهره لمن يشاء؟. والسر في ذلك كله أن النار والخضرة، والضيق والسعة في القبر ليست من المعهود في هذا العالم، فلا يمكننا إدراكه. والله سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء، ليكون الإيمان به والإقرار سبباً لنجاتهم وسعادتهم. ولا يمتنع على من هو على كل شيء قدير، أن يرد الروح إلى المصلوب والغريق والحريق، ونحن لا نشعر بها. وكذلك من تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على الذي لا يعجزه شيء، أن يجعل للروح اتصالاً بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، فإنه سبحانه جعل في الجمادات شعوراً، فهي تسبح بحمد ربها، وتسقط الحجارة من خشيته سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. وعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة. وسمي عذاب القبر ونعيمه، وأنه روضة أو حفرة، باعتبار غالب الخلق، وإلا فإن للغريق والحريق والمصلوب، ومن أكلته السباع والطيور، من عذاب القبر ونعيمه ما للمقبور. ولو عُلق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح، لأصاب جسده نصيبه من عذاب القبر ونعيمه بقدرة العزيز العليم، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. والله تبارك وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا

وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31]. فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأولى في القبر، وهو الحشر الأول. والبعث الثاني: يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها من قبورها إلى مستقرها في الجنة أو النار، وهو الحشر الثاني. فالأول برزخ بين الدنيا والآخرة، يتنعم فيه المطيعون، ويعذب العاصون، من حين موتهم إلى يوم يبعثون، كما قال سبحانه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون: 100]. والثاني مكان كمال النعيم، وكمال العذاب، في الجنة أو النار. فجعلهما الله داري جزاء المحسن والمسيء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثاني في دار القرار كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185]. وقال سبحانه عن الكفار: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]. وقد اقتضت حكمة الله وعدله، وأوجبت أسماؤه الحسنى وكماله، تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك جلياً. وأما البرزخ فأول دار جزاء، وأول منازل الآخرة، فظهر فيه من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضي الحكمة إظهاره. فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفى الله أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأرواح والأبدان وعذابهما. فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي

السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ». وقال في الكافر إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). فإذا كان يوم القيامة دخل كل إنسان إلى دار مقامه الأبدي في الجنة أو النار. فسبحان من له الخلق والأمر، وحكمته منتظمة أكمل انتظام في الدور الثلاث. أما الأسباب التي يعذب بها أهل القبور: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله .. وإضاعتهم لأمره .. وارتكابهم معاصيه .. فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وأطاعته .. ولا بدناً كانت فيه أبداً. فإن عذاب الدنيا .. وعذاب القبر .. وعذاب الآخرة .. أثر غضب الله وسخطه على من عصاه. فمن أغضب الله وأسخطه في الدنيا، ومات لم يتب، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب، ومطيع وعاص، وشقي وسعيد. وسؤال الملكين للميت في قبره عام لكل الناس، المسلم والكافر والمنافق، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويضل الله الظالمين كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27]. وهو كذلك عام في هذه الأمة، وما قبلها من الأمم. وسؤال الملكين لا يشمل الأطفال الذين لا تمييز لهم، فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، لكن قد يراد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (18534) وهذا لفظه. وأخرجه أبو داود برقم (4753) صحيح سنن أبي داود رقم (3979).

بعذاب القبر الألم الذي يسري أثره على الطفل فيتألم به، ولذا شرع للمصلي أن يسأل الله أن يقيه ذلك العذاب. وعذاب القبر نوعان: دائم .. ومنقطع. فالدائم: هو عذاب الكفار والمنافقين. والمنقطع: هو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول العذاب عنه، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ونحو ذلك. ومستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة في السماء: فأرواح السعداء عن يمين آدم في السماء الأولى .. وأرواح الأشقياء عن يساره. فلا تزال الأرواح هناك حتى يكتمل عدد الأرواح كلها، ثم يعيدها الله إلى الأجساد ثانية. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء والمعراج: «فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ، فَإذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى» متفق عليه (¬1). والأرواح البشرية متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فأرواح الأنبياء في أعلى عليين، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وهي أرواح بعض الشهداء. ومنهم من أرواحهم نسمة طائر يعلق في أشجار الجنة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (349)، واللفظ له، ومسلم برقم (163).

ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة. ومنهم من يكون محبوساً في قبره. ومنه من يكون محبوساً في الأرض، لأن روحه سفلية أرضية. ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني. ومنها أرواح تسبح في نهرالدم. فمقر الأرواح مختلف .. أرواح في أعلى عليين .. وأرواح في أسفل سافلين .. كل بحسب عمله. والأرواح مع كونها في السماء تتصل بفناء القبر وبالبدن منه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالاً، وصعوداً وهبوطاً، بعضها مرسل، وبعضها محبوس. والروح في جسد الإنسان بدار غربة، ولها وطن غيره، فلا تستقر إلا في وطنها، وقد أمرت بمساكنة هذا الوطن الكثيف، وهي تحن إلى وطنها في المحل الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها. وأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيتها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذه، وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له، وما هيئت له، وعن وطنها ومحلها ومنزل كرامتها. ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صحت من سكرها تحسرت على ما فاتها من كرامة الله. فالمؤمن في هذه الدار سبي من دار الجنة والنعيم إلى دار التعب والعناء، ثم ضرب عليه الرق فيها، فكيف يلام على حنينه إلى داره التي سبي منها، وفرق بينه وبين ما يحب، وجمع بينه وبين عدوه؟. فروحه دائماً معلقة بذلك الوطن، وبدنه في الدنيا. ولهذا كان المؤمن غريباً في هذه الدار، أين حل منها فهو في دار غربة، إلى أن تنقضي ويصير إلى وطنه ومنزله. والروح نؤمن بوجودها في البدن، ولا نعلم كيفيتها، ولا اختصاص للروح

بشيء معين في الجسد، بل هي سارية في الجسد كله، والحياة مشروطة بالروح، فما دامت فيه كانت فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة. وأرواح الموتى قسمان: أرواح معذبة .. وأرواح منعمة. فالأرواح المعذبة في شغل بما هي فيه عن التزاور والتلاقي. والأرواح المنعمة المرسلة تتلاقى وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا. والأرواح مخلوقة مع الأجساد، والملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذ مضى على النطفة أربعة أشهر، وذلك أول حدوث الروح فيه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (¬1). والمؤمنون تفتح لأرواحهم عند الموت أبواب السماء .. وتفتح لأجسادهم أبواب الجنة .. وأما الكفار فلا تفتح لأرواحهم أبواب السماء .. ولا تفتح لأجسادهم أبواب الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} [الأعراف: 40]. وأهل الإيمان والعمل الصالح، لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه، وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. ¬

(¬1) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208) واللفظ له، ومسلم برقم (2643).

وأهل الكفر لما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة، بل أغلقت عنها. والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات، ولكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً، فإن العبد كلما نام خرجت منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجاً كلياً، فإذا دفن عادت إليه، فإذا سئل خرجت، فإذا بعث رجعت إليه، ولها اتصال بالبدن في القبر. فالنفس واحدة ولها ثلاثة أحوال: فتكون أمارة بالسوء تارة كما قال سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. وتكون لوامة تارة كما قال سبحانه: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 2]. وتكون مطمئنة تارة كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر: 27، 28]. وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة .. واللوامة أقل منها .. وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عدداً، وأعظمها عند الله قدراً. والله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، ويظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان. إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة .. وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية .. فإن خرج في هذه الدار .. وإلا ففي كير جهنم .. فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة. والنفوس البشرية علوية وسفلية .. ومرسلة ومحبوسة .. ولها بعد المفارقة صحة ومرض .. ولذة ونعيم .. وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير. فهناك الحبس والألم، والعذاب والعقاب، والمرض والحسرة لبعضها .. وهناك اللذة والراحة، والنعيم والطمأنينة، والسعادة والسرور للبعض الآخر.

وما أشبه حالها في هذا البدن، بحال البدن في بطن الأم، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار. ولكل نفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها: الأولى: في بطن الأم، حيث الحصر والضيق والظلمات الثلاث. الثانية: دار الدنيا، وهي التي ينشأ فيها الإنسان، ويكتسب فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة. الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة تلك الدار إلى الأولى. الرابعة: دار القرار، وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها. والله جل وعلا ينقلها في هذه الدور طبقاً بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل لها إليها. ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أحكام الأرواح عند الموت بقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 83 - 96]. فالناس عند القيامة الصغرى وهي الموت، وعند القيامة الكبرى بعد البعث ثلاثة أقسام: القسم الأول: مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم. القسم الثاني: مقتصد من أصحاب اليمين، حكم الله له بالإسلام والسلامة من العذاب، فهو في الجنة.

القسم الثالث: ظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم. وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وكذلك الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن كما قال سبحانه: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر: 15]. فالوحي للقلوب بمنزلة الروح للجسد، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك القلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح. والقوى التي في البدن تسمى أرواحاً، فيقال الروح الباصر، الروح السامع، الروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في الأبدان، تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت الأبدان. ويطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه. وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل طاعته وولايته، ولهذا يقال فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح. فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح وهكذا. والناس متفاوتون في هذه الأرواح، فمنهم من تغلب عليه فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها، أو يفقد أكثرها فيصير أرضياً بهيمياً، أو إبليساً.

18 - خلق الدنيا والآخرة

18 - خلق الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. الله تبارك تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، خلق السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم، الذي يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. أظهر سبحانه ما شاء، وأخفى ما شاء، وهو العزيز الحكيم. فأظهر ما شاء من المخلوقات .. وأخفى نفسه جل جلاله. وأظهر الأبدان .. وأخفى الأرواح. وأظهر قيمة الأشياء .. وأخفى قيمة الأعمال. وأظهر الدنيا .. وأخفى الآخرة. خلق سبحانه الدنيا .. وجعلها دار الإيمان والعمل .. وخلق الآخرة .. وجعلها دار الثواب والعقاب. ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: الأول: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنكد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، وما يعقب ذلك من الحسرة.

فطالب الدنيا لا ينفك من همِِِّ قبل حصولها، وهمِِِّ في حال الظفر بها، وغمِِِّ وحزن بعد فواتها. الثاني: نظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من اللذات والنعيم، والخيرات والمسرات. فإذا تم له هذان النظران .. وفكر في هذه وهذه .. وتجول في تلك الدارين ببصره وبصيرته .. آثر ما يقتضي العقل إيثاره .. وزهد فيما يقتضي العقل الزهد فيه. والله عزَّ وجلَّ خلق الدار الدنيا، وجعلها سكناً للعباد، ومكاناً للعمل وامتثال أوامر الله، وهيأ للعباد فيها ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمراكب، وسائر النعم والملاذ كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]. وجعل سبحانه ما في الدنيا من المخلوقات والأحوال للاعتبار والتفكر، والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، ومعرفة عظمته وقدرته، وسعة علمه كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. وبقاء العباد في هذه الدار إلى أجل مسمى لا يعلمه إلا الله، فإذا انقضت مدة السكن أجلاهم ربهم من الدار، ثم خربها لانتقال الساكن منها إلى غيرها. فكور الشمس .. وفطر السماء .. ونثر الكواكب .. ودك الأرض .. وسير الجبال .. وعطل العشار .. وفجر البحار .. وبعثر ما في القبور كما قال سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار: 1 - 5]. وفي تغير الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، بيان لقدرة العزيز الجبار، بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد بإتلاف معبوداتهم، وإظهار أن للعالم رباً مدبراً

يتصرف في الكون كيف يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار .. ودلالة على كمال قدرته وقوته .. وعظمة عزته وسلطانه. فسبحان من انقادت المخلوقات بأسرها لقهره، وأذعنت لجبروته، وخضعت لمشيئته، وكلها بيده أصغر من الخردلة: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. والله عزَّ وجلَّ خلق الناس ليعبدوه، ولا يمكن لهم أن يعبدوه إلا إذا عرفوه. فيجب على كل إنسان أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف: ربه .. ونفسه .. ودنياه .. وآخرته. فإذا عرف العبد ربه: نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته، والتوكل عليه. وإذا عرف نفسه: نشأ من ذلك الحياء والخوف من الله، والتواضع له، والافتقار إليه، والتوكل عليه. وإذا عرف الدنيا، وسرعة زوالها؛ نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها. وإذا عرف الآخرة، وكمال نعيم الجنة، نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها، والمسارعة إلى الأعمال التي توصل إليها. وإذا عرف شدة عذاب النار: نشأ من ذلك شدة الفرار منها بالحذر من الشرك والمعاصي. والدين خطوتان: خطوة للعبادة .. وخطوة للدعوة .. ومصباحهما العلم .. ومحركهما الإيمان .. فمن خطاهما معاً .. أدى الأمانة .. ووصل إلى الجنة. والدنيا مجلسان: مجلس في طلب الآخرة .. ومجلس في طلب الحلال. والثالث يضر لا ينفع فاجتنبه. والدنيا والآخرة ضرتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، وبينهما في

الجمال والكمال والدوام أبعد مما بين المشرق والمغرب. والآخرة خير من الأولى كما قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17] فسرور الدنيا كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها. إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها قتلتك، وإن أقبلت عليك شغلتك، وإن أدبرت عنك أحزنتك، وإن تكثرت منها أطغتك كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها، وكل ما فيها متاع زائل كما قال سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. والدنيا دار الغربة، والعبد فيها على جناح سفر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فليكن فيها كأنه غريب أو عابر سبيل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجة (¬1). فإذا طال عمر الإنسان، وحسن عمله، كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها، كانت الصبابة أجل وأفضل. وإذا طال عمر الإنسان، وساء عمله، كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه، ونزولاً به إلى أسفل، فالمسافر إما صاعد، وإما نازل .. وإما رابح، وإما خاسر. سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس خير فقال: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1936). وأخرجه ابن ماجه برقم (4109)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3317).

شَرٌّ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» أخرجه الترمذي (¬1). والتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري، ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة وتكاليفها، وماذا يراد منها؟. فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر .. والآخرة شطر الحياة الأعلى والأدوم. والله عزَّ وجلَّ بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الناس كيف يقضون حياتهم فيما ينفعهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، وكيف يرضون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. ويتم ذلك بمعرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفة دينه وشرعه الذي هو الطريق الموصل إليه .. ومعرفة ما للناس بعد القدوم عليه في الآخرة .. من النعيم المقيم لمن أطاعه .. والعذاب الشديد لمن عصاه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 219، 220]. فللحصول على السعادة لا بد من التفكير في الدنيا والآخرة، وتقديم ما يبقى على ما يفنى، ولزوم ذلك: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4]. والدنيا والآخرة ملك لله، فمن أراد شيئاً من ذلك فليطلبه من مالكها، فعنده ثواب الدنيا والآخرة، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك أمور الدنيا والدين إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134]. ومن أراد الدنيا فعمل لها وسعى، ونسي المبتدأ والمنتهى، عجل الله له من حطامها ومتاعها ما شاء مما كتب له، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له، ثم جعل له في الآخرة العذاب والفضيحة كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18]. ومن آمن بالله، وأراد الآخرة، وسعى لها سعيها الذي جاء في كتاب ربه، وجاء ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2330)، صحيح سنن الترمذي رقم (1899).

في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فله أجره وثوابه عند ربه كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]. وكل واحد من هؤلاء .. وهؤلاء، يمده الله من عطائه ونعمه، لأنه عطاؤه وإحسانه يتفضل الله به على المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة والمعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، بل جميع الخلائق يأكلون من رزقه، راتعون في فضله وإحسانه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20]. وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً .. وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً .. ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات. والدنيا ليست محذورة لعينها، فهي مكان وزمان العمل والعبادة، والدعوة والجهاد، وإنما تذم لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والعمل بشرعه. والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وفراق المحبوب شديد. فمن أحب الدنيا كره لقاء الله تعالى، ومن أحب الله تعالى اشتغل بما يحب، وهجر ما يكره، وأحب لقاء الله تعالى. وقد خلق الله بطن الأم لخلق الإنسان، وتكميل أعضائه وجوارحه. وخلق الدنيا لتكميل الإيمان والأعمال الصالحة. وخلق الآخرة لتحقيق القسط والعدل الإلهى، وتكميل الشهوات، وإبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا في النعيم والخلود. والله تبارك وتعالى خلق الخلائق، وكتب الآجال، وقسم الأرزاق، وهو الحكيم الخبير، يعطي الدنيا لأعدائه ليتمرغوا فيها، فتركبهم وتذلهم، ويمنعها عن

أوليائه، ليتضرعوا إليه، ويقفوا ببابه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فهؤلاء لما قدموها على مراضي ربهم، وعصوا الله لأجلها، عذبهم الله بها في الدنيا بهم القلب، وتعب البدن، وانتقلوا من الدنيا إلى الشقاء الدائم في نار جهنم. فالدنيا التي تشغل العبد عن طاعة الله هي عدو له .. وهي كالجيفة فكيف نقعد على موائدها؟ .. وهي كالحمام فكيف نعشق البقاء فيها؟. والآخرة أغلى من الجواهر فكيف لا نسارع إليها؟. والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو لم يكن من هوانها إلا كون الله الحق تبارك وتعالى يعصى فيها، فذلك كاف في بغضنا لها. والناس في العمل في الدنيا قسمان: منهم من اجتهد على الدنيا ثم راح وتركها، فهو يحاسب على حلالها، ويعاقب على حرامها. والذين اجتهدوا على الدنيا صنفان: منهم من حصلها فبغى وطغى، وتجبر واستكبر، فصارت زاده إلى النار. ومنهم من خسرها فحصد الهم والحزن، وتحمل الديون، وحقوق العباد. والذين اجتهدوا لكسب الآخرة قسمان أيضَا: منهم من اشتغل بالعبادة وأعمال البر فقط، فهذا إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). ومنهم من اشتغل بالعبادة، والدعوة، وتعليم الأمة أحكام دينها، فهذا عمله مستمر، لأن كل من اهتدى بسببه، أو تعلم بسببه، فله مثل أجره. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1631).

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً» أخرجه مسلم (¬1). فكم يكون في صحيفة هذا من المسلمين والمصلين، والدعاة والمجاهدين، والعلماء والمعلمين، والصائمين والمتصدقين، والحجاج والمعتمرين؟. والحياة الدنيا لعب ولهو، حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى، حين يعيشها المرء لذاتها، مقطوعة عن منهج الله فيها. ذلك المنهج الرباني الذي يجعلها مزرعة للآخرة، ويجعل من أحسن الخلافة فيها مستحقاً لوراثة الدار الآخرة الباقية كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36]. فالإيمان والتقوى والعمل بمنهج الله في الحياة الدنيا .. هو الذي يجعلها ميداناً فسيحاً لكسب الأجور .. ويخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً .. ويطبعها بطابع الجد .. ويرفعها عن مستوى القاع الحيواني .. إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى. وحينئذ لا يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعَا ولا مقطوعاً. فعن هذا البذل والإنفاق ينشأ الأجر الأوفى في الدار الأبقى. والله سبحانه لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها، ولا يشق عليهم في فرائضه وسننه، وهو لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها فتضيق صدورهم، وتظهر أضغانهم: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)} [محمد: 37]. والله يريد منا الإنفاق في سبيله، وأجره عائد على المنفق، فالذين يبخلون على ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

أنفسهم، إنما يحرمون أنفسهم بأيديهم: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. إن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا والآخرة .. ليعرف العباد عظمته وجلاله .. ويعرفوا آلاءه وإحسانه .. وجعل الإنسان إن اتقى الله وآمن به سيداً في الدنيا والآخرة .. وإن كفر به وعصاه عاش ذليلاً مهاناً في الدنيا والآخرة. إن اختيار الله لهذه الأمة لحمل دعوته تكريم وتشريف، ومن وعطاء، فإذا لم يكونوا أهلاً لهذا الفضل، ولم ينهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم يدركوا قيمة ما أعطوا، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيرهم لهذه المنة ممن يقدِّر فضل الله، وعظيم نعمته. إنها لنذارة عظيمة رهيبة .. لمن ذاق حلاوة الإيمان .. وأحس بكرامته على الله .. وبمقامه في هذا الكون .. وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم .. ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه .. ونور الإيمان في كيانه .. ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. إن الإيمان أغلى شيء في حياة الإنسان، وهو هبة عظيمة من الله لعباده، لا يعدلها في هذا الوجود شيء. الحياة رخيصة، والمال زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه. وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها، ثم تسلب منه، ويطرد وتوصد دونه الأبواب. بل إن الحياة لتغدو جحيماً لا يطاق عند من يتصل بربه الذي بيده كل شيء، ثم توصد دونه الأبواب، ويطبق دونه الحجاب: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ

لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. وإذا استكبر من في الأرض عن عبادة ربهم، ولم ينقادوا لها، فإنهم لن يضروا الله شيئاً، والله غني عنهم، وله عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يملون من عبادته، لشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} [فصلت: 38]. فما أعظم نعم الله على عباده وهو يواليها عليهم في بطون أمهاتهم وفي دنياهم وفي أخراهم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. والدنيا دار الإيمان والعمل، والآخرة دار الثواب والعقاب، فيجازي الله العباد حسب إيمانهم وأعمالهم، فريق في الجنة وفريق في السعير كما قال سبحانه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} [الحج: 56، 57]. وقد أعد الله للمؤمنين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر كما قال سبحانه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. وإذا فصل الله بين العباد يوم القيامة، صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار. أهل الجنة في نعيم دائم كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وأهل النار في عذاب دائم كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ

وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا .. ولا مبلغ علمنا .. ولا إلى النار مصيرنا .. واجعل الجنة هي دارنا. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].

الباب الثالث فقه الفكر والاعتبار

البَابُ الثّالث فقه الفكر والاعتبار ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الفكر والاعتبار 2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته 1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله 2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله 3 - الفكر والاعتبار في علم الله 3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية 4 - فقه الفكر في نعم الله 5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية 1 - فقه التأمل والتفكر 2 - فقه التصريف والتدبير 3 - فقه الترغيب والترهيب 4 - فقه التوجيه والإرشاد 5 - فقه الوعد والوعيد 6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

1 - فقه الفكر والاعتبار

1 - فقه الفكر والاعتبار قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190، 191]. وقال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 44]. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهدى سبحانه من يعلم أنه يصلح لعبادته وطاعته، ويقوم بامتثال أمره ونهيه، ويصلح لسكنى دار كرامته. وهدى واشترى أحسن أنواع الإنسان وهم المؤمنون كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. وأمر هؤلاء بكل خير، ونهاهم عن كل شر، وأمرهم بكل حسن، وحذرهم من كل قبيح، ودعاهم إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. وأضل سبحانه من يعلم أنه لا يصلح لسكنى دار كرامته، ويعلم أنه لا يطيع أمره ونهيه، وخذل من استكبر عن عبادته وطاعته. فهؤلاء لا يستحقون الهداية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].

والله عزَّ وجلَّ خلق في كل إنسان ثلاث أواني: آنية الطعام والشراب، وهي المعدة. وآنية المعلومات، وهي الدماغ. وآنية الإيمان، وهي القلب. وأمر سبحانه أن لا يوضع في الأولى إلا ما ينفعها ويصلحها من الطيبات التي أحلها الله عزَّ وجلَّ. وخلق سبحانه العقل والدماغ والمخ، وأمرنا باستعمالها حسب أمره، بالتفكر في عظمة الله وجلاله وجماله، وآياته ومخلوقاته، واستقبال الوحي والعمل بموجبه، وتعليمه والدعوة إليه. وخلق سبحانه القلوب وجعلها محل الإيمان، وأمرنا بالتفكر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، ليزيد الإيمان، فتأتي الطاقة والمحبة والرغبة للقيام بأعمال الدين، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال. فلله عزَّ وجلَّ على العبد في كل عضو من أعضائه أمر .. وله عليه فيه نهي .. وله فيه نعمة .. وله به منفعة ولذة. فإذا قام العبد لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيه، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به. وإن عطل أمر الله ونهيه فيه، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته. ولله عز وجل على كل عبد، في كل وقت من أوقاته، عبودية تقدمه إليه، وتقربه منه، وتحببه إليه. فإن شغل وقته بعبودية ذلك الوقت، تقدم إلى ربه، ونال رضاه. وإن شغله بهوى وراحة وبطالة تأخر فخاب وخسر. وجعل سبحانه كل عضو من أعضاء الإنسان آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو

كماله: فالعين آلة للنظر .. والأذن آلة للسمع .. والأنف آلة للشم .. واللسان آلة للنطق .. والرِّجل آلة للمشي .. واليد آلة للبطش .. والفرج آلة للنسل. والقلب للتوحيد والإيمان والمعرفة .. والعقل للتفكر والتدبر والتذكر .. وإيثار ما ينفع على ما يضر .. وتقديم المصالح .. ودرء المفاسد. والعبد كالشجرة آلة للعمل والإنتاج، فمتحرك بطاعة، ومتحرك بمعصية، وداع إلى الخير، وداع إلى الشر، وحامل مسك، وحامل بعر. ولا يزال العبد في تقدم أو تأخر، فإما متقدم إلى الله والجنة، أو متأخر إلى العذاب والنار، ولا وقوف في الطريق البتة، فقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 36، 37]. فأعلى الفكر وأجله، وأعظمه وأنفعه، وأكبره وأشرفه، ما كان لله والدار الآخرة. فما كان لله تبارك وتعالى فهو أنواع: أحدها: التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة عظمة الله وجلاله وجماله وكماله من خلال ذلك. الثاني: التفكر في آيات الله الكونية، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده. الثالث: التفكر في آيات الله المنزلة، وتعقلها، وفهم المراد منها. الرابع: التفكر في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، ومعرفة سعة رحمته ومغفرته وحلمه. ودوام الفكر والذكر فيما سبق يزيد الإيمان، ويصبغ القلب بمعرفة عظمة الله وجماله وكماله صبغة تامة، وذلك بفضل الله يؤتيه من يشاء: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]. الخامس: الفكر في عيوب النفس وآفاتها، وعيوب العمل وآفاته.

السادس: الفكر في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فجميع مصالح الدنيا والآخرة إنما تنشأ من حفظ الوقت، ومن أضاعه ضاعت مصالحه الدنيوية والأخروية. ووقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته. واستدعاء خواطر اللهو واللعب أخف شيء على النفس الفارغة، وأثقل شيء على النفس الشريفة المطمئنة. والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق فيه طاقات كثيرة ينتفع بها أهمها: الطاقة البدنية .. والطاقة العقلية .. والطاقة الروحية .. والطاقة التناسلية. فالأولى للحركة، والثانية للعلم، والثالثة للإيمان، والرابعة للإنجاب. ومكان الأولى في الأعضاء والجوارح .. ومكان الثانية في المخ والدماغ .. ومكان الثالثة في القلب .. ومكان الرابعة في الجهاز التناسلي. ولا بد للمسلم من الاستفادة من هذه الطاقات للدين. وجميع هذه الطاقات تبدأ .. ثم تقوى .. ثم تضعف .. ثم تنتهي بالموت، إلا الطاقة الروحية، فإنها تبدأ في الحياة، وتبقى بعد الموت، ولكنها معارضة بالنفس امتحاناً وابتلاء. النفس تريد تكميل الشهوات .. والروح بما فيها من الإيمان تريد تكميل أوامر الله ومحبوباته .. والتشبه بالملائكة في الطاعة والعبادة. وحال الإنسان وحركته مقيدة إما بنفسه وشهواته .. وإما بإيمانه وأعماله. والمسلم لا بد أن يعبد الله على بصيرة، والبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به العبد حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين. والبصيرة ثلاثة أقسام، من استكملها فقد استكمل البصيرة: الأولى: بصيرة العبد في أسماء الله وصفاته وأفعاله.

الثانية: بصيرة في أمر الله ونهيه. الثالثة: بصيرة في وعد الله ووعيده. فالبصيرة في الأسماء والصفات، أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، ناطقة وصامتة، ساكنة ومتحركة. سميعاً لأصواتهم .. رقيباً على ضمائرهم .. مطلعاً على أسرارهم. ويشهد أمر الممالك والخلائق تحت تدبيره، نازلاً من عنده، صاعداً إليه. وملائكته بين يديه، تنفذ أوامره في أقطار السموات والأرض، موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال. حي لا يموت .. قيوم لا ينام .. له الخلق والأمر .. يفعل مايشاء .. ويحكم ما يريد. والبصيرة في الأمر والنهي، ألا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله، ولا تقليد يريحه من بذل الجهد في تلقي الأحكام من النصوص. والبصيرة في الوعد والوعيد، أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، في دار العمل وفي دار الجزاء، وذلك موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته. فالمعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي. وتشهد أهل الجنة يتنعمون فيها .. وأهل النار يعذبون فيها. ولا يزال نور البصيرة في زيادة، حتى يُرى على الوجه والجوارح، وعلى الكلام والأعمال، وعلى الأخلاق والصفات. صاحبه متصل بالله، مستضيء بنور الوحي، مستنير بنور الإيمان، متزين بالسنن والآداب والأخلاق.

يميز به بين الحق والباطل .. والصادق والكاذب .. والطيب والخبيث. ويميز به بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه من الأقوال، والأعمال، والأخلاق والأعيان. وفي كل إنسان ثلاث قوى: قوة البدن .. وقوة العقل .. وقوة القلب. فقوة البدن يشترك فيها الإنسان مع الحيوان. وقوة العقل يشترك فيها المسلم والكافر. وقوة القلب خاصة بالمسلم، وهي مكان دعوة الرسل، حيث اجتهدوا على قلوب البشر، حتى امتلأت بتوحيده وعظمته ومحبته، والخوف منه، والتلذذ بعبادته وطاعته، والإيمان به. فعلى المسلم أن يستفيد من هذه الطاقات، ويسخرها للدين لتصلح حاله وأحوال العالم من حوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. إن كل ما في الوجود مما سوى الله فهو فعل الله وخلقه. فكل ذرة من الذرات .. وكل قطرة من القطرات .. وكل حركة من الحركات .. وكل مخلوق من المخلوقات .. كل ذلك فيه آيات وعجائب .. تظهر بها حكمة الله وقدرته .. وجلاله وعظمته .. وإحصاء ذلك غير ممكن. والمخلوقات التي خلقها الله قسمان: الأول: ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها، فكم من الموجودات التي لا نعلمها، بل نسبة ما نعلمه إلى ما لا نعلمه كالقطرة بالنسبة للبحر، وقد قال سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]. الثاني: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها، فيمكننا أن نتفكر في

تفصيلها، ونهتدي إلى شيء من أسرارها. وهي منقسمة إلى ما ندركه بحس البصر، وإلى ما ندركه بالخبر: أما الذي لا ندركه بالبصر ولكن ندركه بالخبر فكالملائكة والأرواح .. والجن والشياطين .. والعرش والكرسي .. والجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب .. وما يجري في اليوم الآخر من العرض والحساب والموازين وغيرها .. وأحوال الأمم الماضية. وأما ما ندركه بحس البصر فالسماء والأرض وما بينهما من المخلوقات. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ذلك. فخلق السماء آية .. وجمالها آية أخرى .. وعلوها آية أخرى .. وعظمتها آية أخرى. وفي السماء آيات وعبر، فالشمس آية، وإنارتها آية، وجريانها آية. والقمر آية .. وإنارته آية .. وتغير أحواله آية .. وسيره آية. وفي طلوع الشمس والقمر آية .. وفي غروبهما آية وخلق النجوم آية .. وفي إنارتها آية .. وتوزيعها في السماء آية .. وفي سيرها آية، وفي الليل والنهار آيات بينات، وعبر وعظات: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 15، 16]. وفي الأرض آيات وعبر وعظات: نباتات متنوعة .. وحيوانات مختلفة .. وأنهار وبحار .. وسهول وجبال .. وجواهر ومعادن .. وأزهار وثمار .. وحجارة ورمال. فمن ينظر؟ .. ومن يتفكر؟ .. ومن يتدبر؟: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8].

وما بين السماء والأرض آيات وعجائب: سحب وغيوم .. ورعد وبرق .. وأمطار وثلوج .. وصواعق وشهب .. ورياح وعواصف .. وطيور وذرات .. وحرارة وبرودة .. وليل ونهار. فهذه الأجناس في السموات والأرض وما بينهما، أصناف وأنواع لا يحصيها إلا الله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3] وجميع هذه المخلوقات مجال الفكر والتفكر .. والنظر والتدبر .. والاعتبار والاستبصار. فلا تتحرك ذرة في السماء والأرض من ملك وإنسان .. وحيوان ونبات .. وماء وجماد .. ولا فلك ولا كوكب .. إلا والله تعالى هو محركها ومجريها. وفي حركتها حكم وأسرار، وكل ذلك شاهد لله بالوحدانية، ودال على عظمته وجلاله، وحكمته وقدرته، وآلائه وإحسانه، وعظمة ملكه وسلطانه. ففي خلق الإنسان من نطفة عجائب تدل على عظمة الخالق. وفي خلق الحيوان وأصنافه وأنواعه وألوانه، آيات وعجائب تدل على عظمة المصور، وكمال قدرته. ففي طيور الجو، وحيوانات البر، ودواب الأرض، وأسماك البحر، من العجائب ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وكلها تدل على عظمة خالقها، وقدرة مقدرها، وحكمة مصورها. وفي خلق النمل والنحل وغيرها من صغار الحشرات ما يبهر العقول سواء كان في تكاثرها، أو بناء بيوتها، أو جمع غذائها، أو طباعها. وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى. وعجائب البحر كعجائب الأرض وما فيها، بل ما فيه من النبات والحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض.

فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديراً. وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر، وهو قطرة الماء، هذا الجسم الرقيق السيال، متصل الأجزاء، كأنه شيء واحد، لطيف التركيب، سريع الاتصال والانفصال. به حياة كل ما على وجه الأرض من نبات وحيوان كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. ومن آيات الله الدالة على عظمته، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك حسه ولا يرى شخصه، وجملته مثل البحر الواحد، والطيور محلقة فيه في جو السماء، سابحة بأجنحتها في الهواء، كما يسبح حيوان البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه، كما تضطرب أمواج البحر. ومن آياته سبحانه ملكوت السموات، وما فيها من النجوم والكواكب. ومن عرف عجائب الأشياء، وفاتته عجائب السموات فقد فاته الكل، فالأرض وما فيها من النبات والحيوان، والبحار والجبال، وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر أو أصغر كما قال سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} [النازعات: 27، 28]. وكما يعظم الناس عالماً، بسبب معرفتهم بعلمه ومؤلفاته، فيزدادون بمعرفته توقيراً له، وتعظيماً واحتراماً. فكذلك كلما استكثر الإنسان من معرفة أسماء الله وصفاته، وعجيب صنع الله، كانت معرفته بجلاله وعظمته أتم، وتوقيره أعظم، وعبادته أكمل. وهكذا التأمل والنظر في المخلوقات؛ فكل ما في الوجود من خلق الله وصنعه، والنظر والفكر فيه لا يتناهي، وإنما لكل عبد منه بقدر ما رزق: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. ومن عود نفسه الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته، والنظر في خلقه وملكه،

صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأن ذلك غذاء قلبه وروحه، لا مانع عنه، ولا مزاحم فيه. والعاقل من يطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولايوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى، وعجائب مخلوقاته، والإيمان به، ولذة مناجاته. وإنما يحصل الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق طعم الإيمان لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك فهو من المحرومين. فأصل كل حرمان سببه الجهل بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه. وأصل كل طاعة ونجاة إنما هو الفكر في أسماء الله وصفاته .. وأفعاله وخزائنه .. وفيما خلق له الإنسان .. وفيما أمر به .. وفيما أعد له من النعيم المقيم .. أو العذاب الأليم. فتولد تلك المعرفة بالله إقبالاً ونشاطاً بحسب قوتها أو ضعفها، فيزداد القلب فرحاً وأنساً بربه، وتتلذذ الجوارح بالطاعة والعبادة. وكذلك أصل كل معصية إنما يحصل من جانب الفكر .. فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة .. فيبذر فيها حب الأفكار الرديئة .. فيتولد منه الإرادات الفاسدة .. فيتولد منها العمل الذي يغضب ربه .. ويحبط عمله .. ويكون سبباً لهلاكه. وإذا تدبرنا القرآن وجدنا أن الله يريد منا في الدنيا أن نكمل الإيمان، والأعمال الصالحة، والأخلاق، ونحذر المعاصي، لندخل الجنة. والشيطان يريد منا أن نكمل شهواتنا الآن، ونعطل الأوامر، ونعيش على هوانا، ولو دخلنا النار يوم القيامة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27]. والله سبحانه يريد منا أن نكمل محبوباته في الدنيا من الإيمان والإحسان،

والصدق والصبر، والتوبة والجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، وهو سبحانه يكمل محبوباتنا في الآخرة برؤيته، وسكنى دار كرامته، ورضوانه، والتلذذ بألوان النعيم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 55] والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فالدنيا دار العمل، والمسلم فيها مقيد بأوامر الله، كما أن السجين مقيد بأوامر السجن، فلا يستطيع أن يأكل ما شاء، أو يتكلم مع من شاء، أو يزور من شاء، بل هو مقيد بأوامر السجن. لكن يعطي من هذه الأشياء بقدر الحاجة. فكذلك المسلم في هذه الدنيا مقيد بأوامرالله التي تصلحه وتنفعه، فهو يقوم بالعمل، والله يطعمه ويسقيه ويرزقه حسب الحاجة، وبقدر ما يصلحه، إلى أن يخرج من السجن، إلى قصور الجنة، حيث النعيم المطلق، والخلود الدائم هناك: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن، فالكون كله ملكه، والإنسان ملكه، خلقه الله، وشرفه على ما سواه. فمن أطاع الله سخر له كل شيء، ومن خضع لأوامر الله أخضع الله الكائنات كلها له من البحار والمياه والرياح وغيرها. ولكن الإنسان إذا لم يطع الله ولم يكن له، فلا يكون الله له، ولا يكون معه، فإن الله مع المؤمنين والمتقين والمحسنين، ومن كان الله معه فكل شيء معه، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدة منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما، ولكن الناس لضعفهم، وتزيين الشيطان لهم، يؤثرون ما يفنى على ما يبقى لقلة المذكر كما قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]. والمحب الذي قد ملك المحبوب أفكار قلبه، لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه وهو ربه سبحانه، أو بنفسه. وفكره في محبوبه لا يخرج عن حالين: إحداهما: فكره في جمال الرب وجلاله، وأسمائه وصفاته. الثانية: فكره في أفعاله وإحسانه، وبره ولطفه. وإن تعلق فكره بنفسه فكذلك لم يخرج عن حالين: فإما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها فيتجنبها، وإما أن يفكر في الصفات والأفعال والأخلاق التي تقربه منه، وتحببه إليه، لكي يتصف بها. فالأوليان توجب له زيادة محبته لربه، وتعظيمه، والخضوع له. والأخريان توجب له محبة محبوبه له، وإقباله عليه، وقربه منه، وعطفه عليه، وإيثاره على غيره، وإسعاده في الدنيا والآخرة .. فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة. ومجاري الفكر في صفات نفسه وأفعالها كثيرة، ويمكن حصرها في ستة أجناس: الطاعات الظاهرة والباطنة، فيتفكر في معرفتها، وأدائها، وتحسينها، ودوامها، والإكثار منها، وترغيب الناس فيها. والمعاصي الظاهرة والباطنة، فيتفكر كيف يعرفها، ويحذر منها، ويقلع عنها، ويتوب منها، ويحذر الناس منها.

والصفات والأخلاق الحميدة، يتفكر كيف يعرفها، ويتخلق بها، ويدعو الناس إليها، ليتجملوا بها. والصفات والأخلاق السيئة، يتفكر كيف يعرفها، ويحذرها، ويحذر الناس منها. وأما الفكر في أسماء الرب وصفاته، وفي أفعاله وأحكامه: فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر .. والتوحيد والشرك .. ووصفه بما هو أهله من العزة والجبروت .. والكبرياء والعظمة .. والجلال والإكرام .. وتنزيهه عما لا يليق به. وجماع ذلك الفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر. فيكون فقيهاً في أسماء الله وصفاته .. فقيهاً في أوامر الله ونواهيه .. فقيهاً في قضاء الله وقدره .. فقيهاً في الأوامر الكونية القدرية .. فقيهاً في الأحكام الدينية الشرعية .. فقيهاً في دنياه وأخراه .. فقيهاً في الاستفادة من أوقاته. ومن طلب ذلك ساقه الله إليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. ومن وفقه الله لذلك عرف ربه، وعرف ما يوصل إليه، وعرف ما له من الثواب والإكرام بعد القدوم عليه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. ولا شيء أنفع للقلب من تدبر كلام الله عزَّ وجلَّ، والتفكر فيه، فهو الذي يولد التعظيم للمعبود، ويورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله واستنارته. وكذلك تدبر القرآن يزجر العبد عن جميع الصفات المذمومة، والأفعال السيئة التي يحصل بها فساد القلب وهلاكه.

فعلى الإنسان أن يتفكر في آيات ربه المسموعة وهي القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. ويتفكر في آياته المشهودة وهي المخلوقات كما قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101] إن النظر والتدبر والتفكر من أعظم أنواع العبادة. إن هذا الكون العظيم معرض هائل واسع لإبداع قدرة الرب، وعظمه خلقه، وتذكير بالخالق المبدع الذي خلق كل شيء. وذلك يبهر الإنسان، ويشعره بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً. إن الله عزَّ وجلَّ كما ينزل من السماء ماءً .. فينبت به زرعاً مختلفاً ألوانه .. كذلك أنزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية .. فتنفتح له، وتنشرح به .. وتتحرك حركة الحياة بالحسن والجميل من الأقوال والأعمال .. والأخلاق والآداب. وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقى الماء الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3]. والله حكيم عليم، له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر، وهو الجواد الكريم على عباده: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة: 243]. وحقوق الله تبارك وتعالى على العباد نوعان: أحدهما: أمره ونهيه، الذي هو محض حقه على العباد، ويتم بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته في كل حال. الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليهم. فهو سبحانه يطالبهم بشكر نعمه، والقيام بأمره. فمشهد الواجب على العبد لا يزال يُشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك.

وكلما كان أفقه في دين الله، كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم. فينشأ من ذلك التشمير للعمل .. ودوام الاستقامة على أوامر الله .. وكثرة التوبة والاستغفار. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه (¬1). فما أعظم نعم الله على عباده، وما أحسن ما دعاهم إليه من النظر في الآيات الكونية .. والنظر في الآيات القرآنية. وفي النظر فيهما يكمل الإيمان .. وتكمل الأعمال الصالحة .. وتحسن الأخلاق .. ويكمل اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى وعده ووعيده. وأفضل الناس توفيقاً .. وأكملهم توحيداً .. وأحسنهم تقوى .. من قرأ وعلم .. وسمع وأبصر .. وتفكر وتدبر .. وتذكر وتعقل .. ونظر وتأمل في آيات ربه المشهودة والمسموعة .. واستقام على دينه وشرعه. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 30 - 33] ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).

2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته

2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته 1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} [التغابن: 13]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} [المائدة: 40]. وقال الله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65]. وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله

2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120]. وقال الله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]. وقال الله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 81، 82]. وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. وقال الله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 74]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} [الحج: 63]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)} [الفرقان: 45]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} [الأنعام: 60]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61].

وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [الرعد: 41]. وقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)} [النحل: 79]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)} [العنكبوت: 19]. وقال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)} [السجدة: 27]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} [يس: 71 - 73]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33]. وقال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 47 - 49]. وقال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} [المؤمنون: 84، 85]. وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)} [المؤمنون: 86، 87].

وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: 88، 89]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)} {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} [يس: 31، 32]. وقال الله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 6 - 16].

3 - الفكر والاعتبار في علم الله

3 - الفكر والاعتبار في علم الله قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} [الحجرات: 16]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. وقال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} [النمل: 74، 75] وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} [الحجرات: 16]. وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)} [الأنعام: 3]. وقال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} [سبأ: 2]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]. وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41].

3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية

3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: 19، 20]. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)} [الشعراء: 7]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} [النمل: 86]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} [نوح: 15 - 20]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185]. وقال الله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: 50]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ

تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم: 20]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} [الروم: 48]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} [الروم: 54]. وقال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 37 - 40]. وقال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} [يس: 41 - 44]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ

وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [فصلت: 37]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]. وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} [الملك: 19]. وقال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 10، 11]. وقال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)} [الواقعة: 63 - 67]. وقال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70]. وقال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 71 - 74].

4 - فقه الفكر في نعم الله

4 - فقه الفكر في نعم الله قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 32 - 34]. وقال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. وقال الله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} [البقرة: 40]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وقال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال الله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} [البقرة: 211]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}

[النحل: 72]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 81]. وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} [النحل: 114]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} [لقمان: 31]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر: 3]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 12 - 14]. وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} [يونس: 31]. وقال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} [العنكبوت: 60].

وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الزمر: 52]. وقال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13]. وقال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. وقال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} [النحل: 3 - 7]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 10، 11]. وقال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} [النحل: 12]. وقال الله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)} [النحل: 13]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا

وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 14 - 18].

5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية

5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية 1 - فقه التأمل والتفكر قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. وقال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وقال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)} [الأنعام: 46]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} [الأنعام: 47]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)} [القصص: 71]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} [القصص: 72]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]. وقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)} [يونس: 34].

وقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35]. وقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16]. وقال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]. وقال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 17 - 20]. وقال الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وقال الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} [الطارق: 5 - 8]. وقال الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32].

2 - فقه التصريف والتدبير

2 - فقه التصريف والتدبير قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)} [لقمان: 29]. وقال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 44]. وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. وقال الله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 27]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40]. وقال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]. وقال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 5 - 7]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر: 9]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 - 14]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)} [الفرقان: 45،46]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} [الفرقان: 47]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} [الفرقان: 48 - 50]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)} [الفرقان: 54]. {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)} [الفرقان: 53]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} [الإسراء: 89]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ

فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: 99]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)} [الأنعام: 6].

3 - فقه الترغيب والترهيب

3 - فقه الترغيب والترهيب قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. وقال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} [الأحزاب: 47]. وقال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9]. وقال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. وقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ (59)} [العنكبوت: 58، 59]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه: 74 - 76]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. وقال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} [آل عمران: 91]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)} [آل عمران: 116]. وقال الله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196،197]. وقال الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ

مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)} [الحج: 19 - 21]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)} [الحج: 23]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 7، 8].

4 - فقه التوجيه والإرشاد

4 - فقه التوجيه والإرشاد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105].

وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} [التوبة: 23]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ

إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 12]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [التغابن: 14]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} [الممتحنة: 13]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].

وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} [النساء: 170]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء: 174 - 175]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 57 - 58]. وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)} [يونس: 108 - 109]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1،2]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73 - 74]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33].

5 - فقه الوعد والوعيد

5 - فقه الوعد والوعيد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة: 9، 10]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. وقال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} [الأعراف: 44]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22]. وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)} [القصص: 61].

وقال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33]. وقال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر: 42 - 46]. وقال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49، 50]. وقال الله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم: 47، 48]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب: 64 - 66]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)} [النساء: 47]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58].

وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159 - 160]. وقال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].

6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3]. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 6]. إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون العظيم: سمواته وأرضه .. شمسه وقمره .. ليله ونهاره .. وما في السموات والأرض من خلق .. ومن أمم .. ومن سنن .. ومن جماد ونبات .. ومن إنسان وحيوان. والله وحده هو الذي خلق هذا الليل الطامي السادل، الشامل الساكن البارد. وهو سبحانه الذي خلق هذا الفجر الأبيض المتفتح في سدف الليل. وهو سبحانه خالق هذا الصبح الذي إذا تنفس، دب النشاط في الحياة والأحياء، وتحركت الكائنات في طلب الرزق والمعاش. وهو سبحانه خالق هذه الظلال الساربة الجارية، يحسبها الرائي ساكنة، وهي تدب سائرة في هدوء ولطف. وهو سبحانه خالق هذا النبات النامي، المتطلع أبداً إلى النمو والحياة. وهو سبحانه خالق هذا الطير الرائح الغادي، القافز الواثب، الذي لا يستقر على حال. فمن هداه إلى داره؟، ومن ساقه إلى طعامه؟، ومن أمسكه في الجو؟. وهو سبحانه خالق هذه الخلائق الذاهبة الآيبة، الغادية الرائحة، مما لا يحصيه إلا الله من الحيوانات والبهائم والأنعام، وهي تتجول في البر والبحر، في تدافع وانطلاق، وانتظام وانسجام. وهو سبحانه خالق هذه البشرية كلها من نفس واحدة، وخالق هذه الأرحام التي

تدفع، وهذه المواليد التي تتابع، والقبور التي تبلع. وهو سبحانه خالق هذه الشمس الجارية، والقمر الساري، والكواكب المبثوثة في السماء. فمن هذا خلقه، ومن هذه قدرته، ومن هذه عظمته، ومن هذا ملكه، أيحتاج إلى البشر، أو إلى عبادة البشر .. ؟. أيليق بالعاقل أن يشرك به، ويعبد معه غيره: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف: 191، 192]. إن هذه الظواهر البارزة الحية هي التي تلمس الحس، وتوقظ القلب، لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك. إن الله الذي خلق هذه المخلوقات ودبرها، هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية، ولا يشركون به شيئاً من خلقه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. إن القرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلوب والعقول، لتدبر ما في هذا الكون من العجائب والآيات، والبصائر والعبر. إن هذه المخلوقات العظيمة الواسعة من الصور والأشكال .. والحركات والأحوال .. والمجيء والرواح .. والبقاء والفناء .. والحياة والممات .. والذبول والنماء .. والشروق والغروب .. والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل، التي لا تسكن ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار .. إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتفكر. فمتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات العظام، المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه؟: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. إن الإنسان لو وقف لحظة واحدة، يرقب ما خلق الله في السموات والأرض، ويستعرض هذه المخلوقات العظيمة التي لا تحصى، من الأنواع والأجناس،

والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال، لو وقف لحظة واحدة، لامتلأ قلبه بالإيمان، وفاض بما يغنيه في حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش. ولا يدرك هذا إلا أهل التقوى، التقوى التي تجعل القلوب سريعة التأثر، سريعة الاستجابة لخالق هذه المخلوقات كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. إن الله عزَّ وجلَّ العليم بما خلق، يخاطب الفطرة البشرية بآيات الله الكونية المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون، والتي يعلم سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة، تؤدي إلى الإيمان بالله، وهذه من أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً. أما الجدل فإنه لا يصل إلى القلب، ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة، التي لا تدفع إلى حركة، ولا تؤدي إلى بناء حياة. ولا تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة، تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك، وتردهم إليه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [الذاريات: 47 - 50]. والفطرة البشرية بجملتها قلباً وعقلاً، وحساً ووجداناً، تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها، وتتأثر بها، وتدرك أن خالق هذا الكون هو الحق، وأن ما شرعه هو الحق، وأن وعده هو الحق. إن بين الفطرة البشرية، وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية، تسمع لهذا الكون وتعقل عنه. إن النظر إلى ما في السموات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات .. وزاد من الاستجابات والتأثرات .. وزاد من سعة الشعور بالوجود .. وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.

وذلك كله يملأ القلب بالإيمان، ويوحي إليه بوجود الله، وبجلال الله، وتدبير الله، وبحكمة الله، وبعلم الله، وبرحمة الله. فإذا كان الإنسان مهتدياً بنور الله، إلى جوار هذه المعارف العلمية عن هذا الكون، زادته هذه المعارف من الزاد الذي يحصل من التأمل في هذا الكون والأنس به، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله، ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله. وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير موصولة بالله، وغير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة، والبعد عن الله، والحرمان من بشاشة الإيمان، وفقد الأنس بالله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب، وتجمدت العقول، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة، واحتجب الإنسان بجملته عن هذا الوجود، فلم يسمع ولم يرَ ولم يتدبر؟. إن كتاب الله تبارك وتعالى مملوء بالتعريف بعظمة الرب سبحانه. فقد جعل الله هذا الكون العظيم معرضاً جميلاً واسعاً .. تتجلى فيه عظمة الخالق .. وعظمه أسمائه وصفاته .. وعظمه أفعاله .. وعظمة مخلوقاته .. في معرض كوني كبير .. مفتوح طول الحياة لعموم البشرية .. يتجولون فيه فيزيد إيمانهم .. وتقوى عباداتهم. فلا يحرم من نظر إلى ذلك وتأمله من الإيمان إلا محروم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. إن الفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين، وإلى الاعتقاد بإله، وحين تصح وتستقيم، تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد، وذلك مركوز في الفطر، يوقظه ويحييه ويزيده، النظر في الآيات

الكونيه، والآيات القرآنية. ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست إنشاء الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه، فهذا مركوز في الفطرة كما قال سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. إن وظيفة العقيدة الصحيحة .. هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه .. وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره .. وتعريفه بأسمائه وصفاته .. لا تعريفه بوجوده وإثباته .. فلا شك في وجوده .. بل وجوده أظهر من أن يستدل عليه بدليل. ثم تعريف العبد بمقتضيات الألوهية في حياته .. من شعائر تصله بمعبوده .. ومن شرائع تنظم منهج حياته .. ومن أخلاق تزين حياته. ومن ثم ينسجم إذا أطاع مع الكون في الطاعة والعبادة. والشك في حقيقة وجود الله أو إنكاره، هو بذاته دليل قاطع على اختلال بيًّن في عقل الإنسان، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيه، ولذلك إنكار الرب قليل في العباد. وإذا تعطلت أجهزة الاستقبال والتأمل والاستجابة في الإنسان، فلا سبيل إلى قلبه وعقله لإقناعه بالجدل والمناظرة، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه، لعلها تتحرك وتسلك الصراط المستقيم. إن لفت الحس والقلب والعقل إلى ما في السموات والأرض من آيات ومخلوقات، وسيلة من أكبر وأعظم الوسائل لاستحياء القلب الإنساني، لعله ينبض ويتحرك، ويتلقى ويستجيب: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]. إن أعداء هذا الدين شغلوا البشرية عامة، والمسلمين خاصة بالعلم الإنساني عن العلم الإلهي، وصرفوهم عن النظر في الآيات الكونية والشرعية إلى النظر في

المصنوعات البشرية، وشغلوهم عن صحف القرآن بالصحف الهزيلة، وشغلو أوقاتهم بكل مخز وقبيح وضار. وصرفوا اهتمامهم من الآخرة إلى الدنيا، بجمع الأموال، والإسراف في الشهوات، والعبث بالأوقات. وحشر الأعداء البشرية كلها في هذه الميادين المسمومة، فأنى يجدوا العافية؟. إن آيات الله في الكون، وعجائبه في مخلوقاته في العالم العلوي والسفلي، وآلائه ونعمه على الناس، تخاطب كل حاسة، وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى .. والأذن لتسمع .. والحواس لتستشعر .. والقلب ليتأثر .. والعقل ليتدبر جلال الله وعظمته، وعلمه وحكمته، وقوته وقدرته، وفضله وعدله، ولطفه ورحمته .. ومن ثم يعرف العبد من يعبد ومن يطيع .. ؟ إن آيات الله الكونية منتشرة في الكون كله: سماؤه وأرضه .. وشمسه وقمره .. وليله ونهاره .. وجباله وبحاره .. وفجاجه وأنهاره .. وظلاله وأكنانه .. ونبته وثماره .. وحيوانه وأطياره .. وإنسه وجنه .. فهل من متدبر؟، وهل من متفكر؟: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 17 - 20]. وآيات الله الشرعية تكشف للإنسان دنياه وآخرته .. وأسرار هذا الكون وغيوبه .. وما ينفع الإنسان وما يضره .. وما يصلحه وما يفسده .. وما يحب ربه وما يبغضه .. وما يرضيه وما يسخطه .. وتبين أسماء الرب وصفاته .. وأفعاله ومخلوقاته .. ووعده ووعيده. فهل من متفكر؟، وهل من متدبر؟: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. إن الآيات الكونية، والآيات الشرعية، منبه عظيم، ومذكر يوقظ الحواس

والجوارح، وينبه العقول والقلوب للإيمان بالله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. إن آيات الخلق، وآيات النعم، وآيات التدبير والتصريف، وآيات العزه والتمكين، وآيات البطش والإنتقام، من أعظم الأدلة على الخالق العظيم سبحانه. فهل من خالق غير الله يعبده الناس؟: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر: 3]. وهل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 17 - 20]. أفيجوز أن يسوى إنسان في حسه وتقديره بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيراً ولا صغيراً، بل هو مخلوق: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية: 7، 8]. والله تبارك وتعالى جعل في الماء حياة كل حي، يحيي به الأرض بعد موتها، ومن عليها من الإنسان والحيوان والنبات. وخير ما أنزل الله على عباده الوحي، الذي به حياة الروح، ويليه الماء الذي به حياة الأجسام. ومن الناس من يقبل الوحي الإلهي، ومنهم من لا يقبله، كذلك الأرض منها ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 58]. وهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام من بين فرث ودم لبناً خالصاً أليس له خالق

قدير؟: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66]. وهذه الأسراب من النحل، ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وسخرها لجمع الرحيق من الأزهار والثمار، ليخرج من بطونها شراب فيه شفاء للناس، كما أن في الوحي شفاء لأرواح الناس. فسبحان من سخر هذه الأمة من النحل لنفع البشرية بهذا الشراب اللذيذ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 69]. وسبحان من أنزل الوحي شفاءً للقلوب. فمن هذا خلقه .. ومن هذه قدرته .. وهذه عظمته .. هو الذي يستحق أن يُعبد .. ويشكر فلا يكفر .. ويطاع فلا يعصى .. ويذكر فلا ينسى. والله سبحانه وحده هو الذي خلق البشر، وجعل لهم الأزواح والبنين، ورزقهم من الطيبات، فكيف يشركون به؟ .. وكيف يخالفون أمره وهذه النعم كلها من عطائه؟: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)} [النحل: 72]. فكيف لا يعبد الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم؟: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)} [النحل: 73]. وإنه لعجيب حقاً أن ينحرف الناس إلى هذا الحد، فيتجهون بالعبادة والطاعة إلى ما لا يملك لهم رزقاً، وما هو بقادر في يوم من الأيام، ولا في حال من الأحوال، ويدعون الله الخالق الرازق، وآلاؤه ونعمه بين أيديهم لا يملكون إنكارها: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} [النحل: 83]. فما أخطر الجهل .. وما أعظم .. الجحود .. وما أقبح الكذب.

ومشهد الطير في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وتحليقه في جو السماء آية عجيبة: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)} [النحل: 79]. فسبحان من جعل الطير قادراً على الطيران .. ومن جعل الجو من حولها مناسباً لهذا الطيران .. ومن أمسك بها طائرة في جو السماء. إن التفكر في عظمة خلق السموات والأرض، وما فيهما من العجائب والآيات .. ينشأ منه توجيه القلب إلى الله .. وإيقاظه لرؤية آلائه .. وشهود رحمته وفضله .. وتملى بدائع صنعه في خلقه .. وامتلاء الحس بهذه البدائع والعجائب .. وفيضه بالتسبيح والحمد والتكبير: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]. والله تبارك وتعالى بديع السموات والأرض، ومنشئ هذه الخلائق الهائلة في السموات والأرض، وإنها لمخلوقات عظيمة، لكن الإلفة قد أفقدتنا الجمال والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى هذه البدائع للمرة الأولى. ولا يحتاج القلب الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء، وأحجامها وطرق سيرها، ليستشعر الروعة والرهبة، أمام هذا الخلق الهائل العجيب من الخلاق العليم. فحسبه إيقاع هذه المخلوقات على قلبه .. حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء .. حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء .. حسبه الفجر المنفجر كل يوم بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق .. حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء .. حسبه الأرض وما فيها من النبات النامي .. والنهر الجاري .. والحب المتراكب .. وما فيها من مشاهد وحركات لا تنتهي .. ولا يستقصيها أهل الأرض ولو قضوا أعمارهم في السياحة والتفكر والتملي. إن آيات الله في الكون كفيلة بتوجيه الناس إلى الإيمان لو تدبروها، وتفكروا في

خلقها وجمالها، وعظمتها ونموها، وبقائها وحركتها. إن تأمل هذه الآيات العظيمة يوقظ القلوب، ويفتح مغاليقها، ويوجه القلوب إلى تعظيم مبدع هذا الكون: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} [الجاثية: 3 - 5]. والآيات المبثوثة في السموات والأرض، لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا على حال دون حال. إن الإنسان حيثما مد بصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب: هذه السموات بأجرامها آية .. وإمساكها آية .. وأفلاكها الهائلة آية .. ونثر هذه الكواكب والنجوم في هذا الفضاء الهائل آية .. ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة وانسجام آية .. وآيات لا يحصيها إلا الله. وذلك كله لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه، ولا يشبع العقل من التفكر فيه، ولا يشبع اللسان من الكلام فيه، ولا تمل الأذن من سماعه. وهذه الأرض الواسعة العريضة آية .. والبشر بالنسبة إليها كالذرة .. وهي كالذرة بالنسبة للفضاء الذي يحيط بها .. والله يمسكها أن تضطرب أو تزول. وكل شيء في الأرض آية .. وكل حي آية .. وفي كل جزء، من كل شيء، في السماء والأرض آية: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 20 - 22]. والصغير الدقيق كالضخم الكبير آية. هذه الورقة الصغيرة .. وهذه الثمرة اللذيذة .. في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة آية .. آية في شكلها وحجمها .. وآية في لونها وملمسها .. وآية في وظيفتها وتركيبها .. وآية في طعمها وحلاوتها. فهل ننظر ونتفكر في خلق هذا النبات، وما فيه من الآيات والعجائب كما قال

سبحانه؟: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: 99]. وهذه الشعرة في جسم الحيوان آية .. وفي جسم الإنسان آية .. وهذه الريشة في جناح الطائر آية .. وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات أمامه .. وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره. ولكن لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟. ومن الذي يراها ويستشعرها؟. إنهم المؤمنون الذين اتصلت قلوبهم بالله فعرفوه بآياته ومخلوقاته. فالإيمان هو الذي بفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء، ورؤية النعم والآلاء. والإيمان هو الذي تخالط بشاشته القلوب، فتحيا وترق وتلطف، وتلتقط ما يزخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى قدرة الخالق المبدع الذي خلق كل شيء، وأحسن خلقه. ولكن بلادة الإلفة تذهب بروعة النظر والتأمل والتدبر في هذا الكون الرائع العجيب، الواسع الجميل. الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته. ولا يشبع القلب من تملي إيحاءاته وإيماءاته. ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يتأمل هذا الكون بهذه العين وبهذا العقل، يرى معرضاً إلهياً باهراً رائعاً، لا تخلق بدائعه وعجائبه، لأنها أبداً متجددة للعين والقلب والعقل. والإنسان الذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه، تدركه الدهشة والذهول، ويرى قدرة الجبار في الخلق والتحريك والتسكين والتغيير. ومن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل. إن القرآن يكل الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه،

ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعاً على مختلف مستوياتهم العلمية والفكرية .. يخاطب ساكن المدينة .. كما يخاطب ساكن الغابة .. ويخاطب العالم .. كما يخاطب الأمي الذي لم يقرأ. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون .. وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185]. وفي القرآن الكريم من الأدلة والبراهين والآيات الدالة على كمال الباري تبارك تعالى، ووصفه بالأسماء الحسنى، والصفات العلا، الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته، وتعظيمه وإجلاله، وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى. وإن من أكبر الظلم والفحش اتخاذ أنداد لله من دونه، ليس بأيديهم نفع ولا ضرر، بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)} [الشورى: 9]. فهؤلاء قد غلطوا أقبح الغلط في عبادة أولئك الأولياء. فالله سبحانه هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته، والتقرب إليه بما أمكن من أنواع القربات. وهو سبحانه الولي والمولى الذي يتولى عباده وجميع الخلائق بتدبيره، ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه وعونه.

الباب الرابع كتاب الإيمان

البَابُ الرَّابع كتاب الإيمان ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الإيمان بالله 1 - فقه الإحسان 2 - فقه اليقين 3 - فقه الإيمان بالغيب 4 - فقه الاستفادة من الإيمان 2 - فقه الإيمان بالملائكة 3 - فقه الإيمان بالكتب 4 - فقه الإيمان بالرسل 5 - فقه الإيمان باليوم الآخر 6 - الإيمان بالقضاء والقدر 1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر 2 - فقه المشيئة والإرادة 3 - فقه خلق الأسباب 4 - فقه خلق الخير والشر 5 - فقه النعم والمصائب 6 - فقه الشهوات واللذات 7 - فقه السعادة والشقاوة 8 - فقه كون الحمد كله لله 9 - فقه الولاء والبراء

1 - فقه الإيمان بالله

1 - فقه الإيمان بالله قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق فيه ثلاث أوان: آنية للطعام والشراب وهي المعدة. وآنية للعلوم والمعارف وهي العقل. وآنية للإيمان والتوحيد وهي القلب. وجعل سبحانه كمال الإنسان بتكميل هذه الثلاث. فكمال الأولى بأكل الحلال الطيب .. وكمال الثانية بمعرفة علوم الأنبياء .. وكمال الثالثة بالنظر في الآيات الكونية والآيات الشرعية. والإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول، والإيمان الحقيقي هو الذي يبعث النفس لتقديم أوامر الله على كل شيء، مع المحبة والتعظم والذل لله.

والإيمان له ظاهر وباطن: فظاهره قول اللسان، وعمل الجوارح .. وباطنه تصديق القلب، وانقياده لربه، ومحبته له، والأنس به، وإخلاص العمل له. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن الدماء، وعصم المال والذرية. ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر مؤقتاً بعجز أو إكراه أو خوف هلاك. وتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن، وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل على نقصه، وظهور العمل الصالح دليل قوة الإيمان، وأكثر الناس، أو كلهم يدعون الإيمان: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. وأكثر المؤمنين عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - معرفةً وعلماً، وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة من الأنبياء والصديقين. وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الله، وأنه وحده الذي خلق السموات والأرض وهذا لا يكفي. وآخرون الإيمان عندهم هو النطق بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه. وآخرون الإيمان عندهم عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم، وما تهواه نفوسهم، من غير تقيد بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً. وآخرون عندهم الإيمان ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائناً ما كان، يرونه حقاً يجب اتباعه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21]. وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإحسان الظن بكل

أحد، وترك الناس وغفلاتهم. وآخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ القلب منها، والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً. وأضل من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل. وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، ولا قام بهم، ولا ذاقوا طعمه ولا حلاوته. بل الإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد لله محبةً وخضوعاً، والعمل بشرعه باطناً وظاهراً، والدعوة إليه، وعدم الالتفات إلى ما سواه. هذا أساس الإيمان، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ماسوى الله. وموانع الإيمان أربعة: الكبر .. والحسد .. والغضب .. والشهوة. فالكبر يمنع الإنسان من الانقياد لله ورسوله. والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها. والغضب يمنعه العدل والتواضع. والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة. وهذه هي أركان الكفر. فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد للحق. وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله. وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع.

وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف وتقديم أوامر الله. وجميع الآفات التي تحصل للبشرية متولدة من هذه الأربعة، وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف. وإذا تأمل الإنسان كفر الأمم السابقة رآه ناشئاً منها، وعليها يقع العذاب، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها. فمن فتحها على نفسه فقد فتح عليه أبواب الشرور. ومن أغلقها عن نفسه فقد أغلق عنه أبواب الشرور. ومنشأ هذه الأربعة من أمرين: أحدهما: جهل العبد بربه .. والثاني: جهل العبد بنفسه. فالإنسان لو عرف ربه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وعرف عظمته وجلاله، وآلاءه وإنعامه، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله من فضله. فالحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإن الحاسد يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله له، ويحب زوالها عنه، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه ومحبته وكرامته. ومن أجل هذا كان إبليس عدو الله حقيقة، لأن ذنبه كان عن كبر وحسد. وقلع هاتين الآفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضى به، والإنابة إليه. وقلع الغضب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضى والغضب على خالقها. وأحسن ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لله سبحانه وترضى له، وذلك يدفع الرضى والغضب لها. أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة، بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب هلاكها وحرمانها، فالشهوة كالنار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه.

والغضب كالسبع إذا أفلته صاحبه أكله وأهلك غيره. والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك. والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه، فإن لم يقتلك طردك عنه. وللإيمان علامات .. وللكفر علامات .. وللنفاق علامات. وعلامة الإيمان: أن نتوجه دائماً إلى الله في جميع أحوالنا، وفي حل مشاكلنا، ولا نتوجه إلى غيره مهما كان، فهو وحده خالق كل شيء، ومالك كل شيء، والقادر على كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وبقدر المجاهدة من أجل الدين، الله يرزق العبد الإيمان واليقين. وإذا نزل بنا حال من جوع، أو مرض، أو خوف، أو غيرها نتوجه إلى الله، ونعمل ما عمله النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال، وبذلك يكشف الله ما نزل بنا من سوء أو بلاء، ويبدل ما نكره بما يحب، وما يسوؤنا بما يسرنا. فعند الخسوف نتوجه إلى الله ونصلي. وعند الجدب والقحط نتوجه إلى الله، ونطلب السقيا منه، ونصلي. وكذلك عند المرض نتوجه إلى الله، ونسأله الشفاء، ثم نتناول الدواء. فنتوجه إلى الله دائماً في طلب الخير، ودفع الشر في جميع الأحوال الصغيرة والكبيرة، ولا نتوجه إلى المخلوق أبداً: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]. ومن علامات الإيمان: كثرة ذكر الله .. ولزوم الطاعات .. والنفرة من المعاصي .. ولذة مناجاة الرب .. والأنس بالله .. ومحبته .. ومحبة كلامه ورسله وأوليائه .. ومحبة دينه وشرعه ..

وأن تسر المؤمن الحسنات .. وتؤلمه السيئات. وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية .. وأن يقوي يقينه وتوكله على ربه .. فيستوي عنده التراب والذهب .. ويستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا يفرح بما أوتي .. ولا يأسى على ما فات. وأن يرى أن ما عند الله هو القريب، وما عنده وعند الناس هو البعيد .. وأن يعبد الله ويدعوه ويسأله كأنه يراه .. وأن يتوجه إلى ربه الذي بيده كل شيء .. ولا يلتفت لأحد سواه .. فيكون أمامه الملك الأعظم والميت سواء .. ليس بأيديهم شيء .. بل الأمر بيد الله وحده لا شريك له. وبذلك تنمو شجرة الإيمان، فتورق، ثم تزهر، ثم تثمر، وتملأ العالم بالخيرات والبركات والثمرات كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]. فشجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علماً واعتقاداً، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق الطيبة، والآداب الحسنة، في السماء دائماً، فيصعد إلى الله جميع الأقوال والأعمال التي تخرجها شجرة الإيمان. وشجرة الإيمان تحتاج إلى تعهدها بالسقي .. وهو المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات .. وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الضارة وهو العفة عن المحرمات قولاً وفعلاً. وإذا تم هذا نما البستان وزها، وأخرج الثمار المتنوعة. ولرؤية الأشياء في هذا العالم، خلق الله لنا نورين نميز بهما بين المخلوقات والأشياء، ونستفيد منها. وهذان النوران هما: النور الداخلي وهو نور العين .. والنور الخارجي كالشمس والسراج ونحوهما، ولا تتم الرؤية إلا بهما معاً، وإذا فقد أحد النورين، لا نستطيع الاستفادة الكاملة

من هذا العالم. ولكن بهذين النورين لا نستطيع أن نميز بين الكفر والإيمان، والطاعات والمعاصي، فالإيمان والأعمال والصفات كالتقوى والتوكل، لا تظهر بهذين النورين. فجعل الله لمعرفة ذلك نورين آخرين هما: نور أنزله الله من السماء وهو القرآن الكريم هدى ونور. والنور الآخر أمرنا الله أن نجتهد حتى يأتي في قلوبنا وهو نور الإيمان، ومن ليس عنده نور الإيمان لا يستفيد من نور القرآن. ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، والدعوة إليه، لا بد من النور الخارجي وهو القرآن، والنور الداخلي وهو الإيمان، ومحله القلب، وباجتماع هذين النورين تحصل الهداية: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. والإيمان بالله يأتي في حياتنا بمعرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله، ويأتي بطريق الدعوة والمجاهدة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. فالدعوة تزيد الهدى، والهدى يزيد الإيمان، والإيمان يحرك الجوارح للأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة توجه العبد إلى الصفات الحميدة من التقوى والإيثار، وحب الله ورسوله، وحسن الخلق، وبذلك يرضى الله سبحانه، ويدخل أهل الإيمان الجنة. وخزائن الغني الكريم مملوءة بالأرزاق والنعم، وأغلى شيء في خزائن الله هو الإيمان، وللحصول عليه لا بد من الجهد كما اجتهد الصحابة رضي الله عنهم. فقد اجتهدوا أولاً على تحصيل الإيمان ببذل كل شيء من أجله، وترك كل شيء من أجله، فلما بذلوا وتركوا أعطاهم الله الإيمان والرضوان. ثم اجتهدوا على حفظ الإيمان، بلزوم حلق الذكر، وبيئات الإيمان، والقيام

بالأعمال الصالحة التي تجلب البركات .. وترفع العقوبات. ثم اجتهدوا للاستفادة من الإيمان في حياتهم، بالتوجه إلى الله دائما في قضاء حاجاتهم، فإذا دعوا استجاب الله لهم، كما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدر، فأنزل الله الملائكة مدداً لهم، وكما دعا نوح - صلى الله عليه وسلم - على من كفر من قومه، فأغرقهم الله بالماء، وبذلك يزيد إيمانهم، وتقضى حاجاتهم. ثم اجتهدوا لنشر الإيمان في العالم، وبذلك تحصل لهم الهداية، وزيادة الإيمان، ويحصل لغيرهم الإيمان. فبالدعوة يزيد الإيمان، وتزيد الأعمال، ويزيد دخول الناس في الإسلام. ويقوى الإيمان ويزداد .. كلما زادت المعرفة بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعظمته وكبريائه .. ومعرفة نعم الله وآلائه .. ومعرفة وعده ووعيده .. ومعرفة نعيم الجنة ومتاعها .. ومعرفة عذاب النار وأهوالها. ويتم ذلك بالنظر في الآيات الكونية، والنظر في الآيات الشرعية، وكثرة ذكر الله، وبذلك يحصل اليقين على الله، وتطمئن القلوب بذكره كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وبذلك يتأثر القلب، ثم تتأثر الجوارح، ثم تأتي الرغبة في الطاعات، والنفور من المعاصي، ويشتاق الإنسان إلى ربه، وإلى نعيم الجنة، ويتلذذ بالعبادة وذكر الله، ومجالسة الصالحين والمصلحين. وبذلك تتكون بيئة الإيمان، وبيئة العبادة، وبيئة الدعوة، ويأتي فكر الآخرة. وكما أن النبات والحيوان لا بد له من بيئة حتى يكبر ويزيد، فكذلك الإنسان لا بد له من بيئة صالحة حتى يزيد إيمانه، وتقوى أعماله، وتحسن أخلاقه. وبيئة الإيمان والأعمال الصالحة هي التي تقام فيها الأعمال الانفرادية، والأعمال الاجتماعية. فالانفرادية كتلاوة القرآن بالتدبر، والأذكار، والأدعية، والاستغفار، ونوافل

الطاعات، وتذكر الموت، ومحاسبة النفس ونحو ذلك. والأعمال الاجتماعية كالدعوة إلى الله، والتعليم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وصلاة الجماعة، وإكرام الناس، والإحسان إليهم، ليرغبوا في الدين والطاعات، وكسب الحسنات. وبيئة الإيمان تتكون من ثلاثة أشياء: المكان كالمسجد .. والجماعة .. والأعمال الانفرادية والاجتماعية مع التقوى، فلحفاظة الإيمان لا بد من التقوى، فهي سور الإيمان. وهذه الأعمال اليومية، هي أوامر الله على الإنسان الذي خلقه الله وهداه واشتراه، ووعده الجنة، تحفظه وتزكيه وتطهره، فضلاً عمن يهتدي ويصلح بسببه. وفي البيئة التي فيها الإيمان، والأعمال، والصفات، يسهل الحصول على أمور أربعة: فهم الدين .. العمل بالدين .. الترقي في الدين .. نشر الدين. ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بلزوم هذه البيئة لنظفر بذلك كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وإذا دخل الإيمان في القلب، سهل على الإنسان امتثال أوامر الله، فالإيمان كالصحة، كلما قوي زاد العمل. فالمريض لا يستطيع أن يأكل ولا يمشي ولا يعمل، فإذا عالج بدنه حصلت له الصحة بإذن الله عزَّ وجلَّ، فإذا أراد أن يأكل أو يمشي أو يعمل سهل عليه ذلك. وهكذا إذا حصلت للإنسان حقيقة الإيمان، ورسخ في قلبه ذلك، سهل عليه قبول أوامر الله، وامتثالها، وحبها والمسارعة إليها، واجتناب ما حرم الله. وكلما زاد الإيمان زاد العمل، وكلما أقبل على الله أعانه الله ووفقه وهداه، ولا يتم ذلك إلا بالتضحية بالشهوات، وتقديم أوامر الله عليها، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله.

فأداء العبادات كالصلات مثلاً يتطلب التضحية بالشهوات التي يحبها الإنسان، وتصور تلك الشهوات. فالمسلم في الصلاة يترك شهوة الأكل والنوم، وشهوة التجارة، وشهوات الدنيا، ويترك تصور تلك الشهوات بالإقبال على الله، فيعبد الله كأنه يراه، ولا ينشغل بما سواه. وإذا طلب الله منا تكميل شيء كالعبادات مثلا، نسينا وتركنا جميع الأشياء لتكميل هذه العبادة، فمن أكمل العبادات، وأخر الشهوات أكمل الله شهواته يوم القيامة، ووفقه في الدنيا لما فيه سعادته. ومن ضحى بشهواته في الدنيا أكملها الله له يوم القيامة. ومن أكمل لله ما يحب في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة أكمل الله له ما يحب يوم القيامة من الشهوات والمسرات: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. والإيمان درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الله. والعباد بالنسبة للإيمان ثلاثة أقسام: الأول: مَن إيمانهم ثابت لا يزيد ولا ينقص وهم الملائكة. الثاني: من إيمانهم يزيد ولا ينقص وهم الأنبياء والرسل، الذين رباهم الله واصطنعهم لنفسه من البشر. الثالث: مَن إيمانهم يزيد وينقص، وهو إيمان بقية البشر، وهؤلاء إيمانهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فإذا زاد الإيمان جاء الإقبال على الطاعات، والنفرة من المعاصي. وإذا نقص الإيمان ضعف الإقبال على الطاعات وجاءت الرغبة في المعاصي. فكل طاعة تزيد الإيمان .. وكل معصية تنقص الإيمان .. وكل طاعة تزيد نور القلب .. وكل معصية تملأ القلب ظلمة. والإنسان كالبذرة فيها شجرة كاملة، فإذا بذرناها واجتهدنا عليها، ظهرت

جذورها وأغصانها وأوراقها وأزهارها وثمارها. وكذلك الإنسان فيه طاقات واستعدادات للخير والشر. فإذا اجتهدنا عليه، ودخل الإيمان في قلبه، ظهرت طاقاته المحمودة من العلم والعبادة والدعوة، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق، وظهرت زينته على بدنه، كما تظهر الأوراق والزهور والثمار على الشجرة. فكما أنه إذا دخل الماء إلى الشجرة تفتحت بالأوراق والأزهار والثمار، فكذلك إذا دخل الإيمان في القلب أثمر الأعمال الصالحة، وتفتحت الجوارح بالأعمال والعبادات والدعوة، وطلب الأعمال كما يطلب العطشان الماء. والإيمان له ركنان لا يقوم إلا بهما: أحدهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار. والثاني: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. وفي ذلك كمال الإيمان .. وكمال القبول .. وكمال الانقياد كما قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]. ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة جاء أمران: الأول: الاستعداد لفعل الأوامر والتلذذ بها، والتنافس فيها، والمسارعة إليها. الثاني: النصرة من الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والتمكين في الأرض. وكل من أقر بلا إله إلا الله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تغير فكره .. وتغير يقينه .. وتغير شكله .. وتغير شغله .. وتغير عمله .. وتغير مقصد حياته: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]. وقد كان إيمان الصحابة قوياً في أعماق قلوبهم، فكلما اصطدمت أحوالهم الخاصة بأوامر الله آثروا دين الله على أحوالهم، ولم يبالوا بها. فتحملوا الجوع والعطش، ومفارقة الأهل والأوطان، وصبروا على كيد الأعداء

وأذاهم، وقدموا أموالهم وأنفسهم وأوقاتهم كلها للدين. وبذلك نزلت عليهم السكينة .. وفازوا بنصرة الله حينما ضحوا من أجل لا إله إلا الله بأموالهم وأنفسهم .. وأوقاتهم وشهواتهم .. وجاههم وديارهم .. وهاجروا ونصروا .. وقاتلوا وقتلوا. ولذلك كلهم رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وقد كانت الأخلاق العالية منثورة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها الله في خاتم رسله سيد الأنبياء محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ثم فرقها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأصاب منها القرن الأول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنها وأعظمها، وأشرفها وأكملها. فقد كانت في الصحابة رضي الله عنهم صفات عجيبة من الإيمان والعلم .. والحياء والحلم .. والإحسان والإيثار .. والطاعة لله ورسوله .. وأحسن الأخلاق والآداب .. والحب في الله .. وحسن العبادة .. والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيله .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أقْوَامٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» متفق عليه (¬1). وكانت تلك الصفات منثورة فيهم .. وهم متفاوتون فيها .. فمستقل ومستكثر، لكنهم مشتركون في الإيمان، والعلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد في سبيل الله. وقد جمع الله فيهم صفات الأنبياء، وهم خير القرون: فكلهم كانوا مؤمنين حقاً بالله ورسوله، وبما جاء عن الله ورسوله. ¬

(¬1) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652) واللفظ له، ومسلم برقم (2533).

وكانت فيهم الطاعة لله ورسوله في شئون الحياة كلها خاصة أركان الإسلام. وكانت طاعتهم لربهم ونبيهم على علم في ضوء علم النبوة لا على هواهم. ثم مع علمهم كان عندهم الاستحضار لله عزَّ وجلَّ ولزوم ذكره، وكانوا يعبدون الله كأنهم يرونه قريباً مجيباً سميعاً بصيراً. وكانت عندهم الأخلاق العالية، بإكرام بعضهم بعضاً، فهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. ثم كلهم كانوا مخلصين في أعمالهم لله تعالى، عرضت عليهم المناصب والأموال فتركوها لله مخلصين له الدين: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. ثم الشيء المشترك بينهم جميعاً هو الدعوة إلى الله، فكما أن كلهم يعبدون الله فكذلك كلهم كانوا يدعون إلى الله كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، فرضي الله عنهم وأرضاهم ورضوا عنه. فالإيمان هو الدافع والمحرك لامتثال أوامر الله كلها. فهو قوة دافعة لفعل الطاعات وكسب الحسنات. وهو قوة ممسكة عن المعاصي والذنوب والسيئات. ولكي يزيد الإيمان واليقين، وتقوى الأعمال، لا بد أن نعرف وعد الخالق لمن أطاعه حتى يصغر ما يعطيه المخلوق لمن أطاعه. وأن نعرف وعيد الخالق لمن عصاه حتى يصغر وعيد المخلوق لمن عصاه. وأن نعرف قدرة الخالق ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى تصغر أمامنا قدرة المخلوق. وأن نعرف نعم الخالق وإحسانه وآلاءه حتى تصغر نعمة المخلوق وأفضاله. وبذلك يزيد الإيمان واليقين، ثم تزيد الأعمال، ثم يظهر حسن الأخلاق، ثم تصلح الأحوال، ثم يأتي رضا الله، ثم دخول الجنة.

والإيمان الضعيف يمكن أن تؤدى به الصلاة، والذكر، والتسبيح، وتلاوة القرآن ونحوها من الأعمال الانفرادية. أما حسن المعاشرات والمعاملات، وحسن الأخلاق، فلا تكمل إلا بالإيمان الكامل، والإيمان الكامل لا يأتي إلا بالمجاهدة والدعوة إلى الله. وحتى تكون معاشراتنا وأخلاقنا طيبة ندعو الناس لهذه الصفات ونتمرن عليها، وندعو الله أن يرزقنا حقيقتها، حتى تكون أخلاقنا ومعاملاتنا واحدة كما كانت صلاتنا واحدة. ولسهولة الحصول على ذلك لا بد أن يكون أمامنا دائماً إيمان الأنبياء والصحابة .. وأعمال الأنبياء والصحابة .. وأخلاق الأنبياء والصحابة. وبذلك نترقى في الإيمان والأعمال والأخلاق، ونحذر ألا تكون أمامنا أعمال وأخلاق وحياة اليهود والنصارى. والناس في الحياة ثلاثة أقسام: أحدها: من يعتقدون أن الأحوال كالفقر والمرض ليست من الله، ولحلها لا يتوجهون إلى الله، بل إلى المخلوق، وهؤلاء هم الكفار. الثاني: من يعتقدون بأن الأحوال من الله، ولكن لحلها لا يتوجهون إلى الله، وإنما يتوجهون إلى المخلوق. الثالث: من يعتقدون بأن كل شيء بيد الله، والخير والشر إنما يحصل بإرادة الله، ويتوجهون في حلها إلى الله، وهؤلاء هم المؤمنون، فيقولون إذا نقص الكسب هذا بأمر الله، فيتوجهون إلى الله، ويفعلون ما فعل رسول الله في تلك الحال. وإذا مرض أحدهم قال هذا بأمر الله ولا يرفعه إلا الله، ويفعل ما فعل رسول الله أو أمر به عند المرض. وإذا امتنع المطر قالوا هذا بأمر الله، فماذا فعل رسول الله حين حبس الله المطر وهكذا، فلا تحل المشاكل إلا بأمر الله حسب سنة رسول الله. والإنسان إذا دخل نور الإيمان في قلبه، رأى كل خير في الأعمال الصالحة،

وجاء عنده فكر القيام بالأعمال وتكثيرها وتنويعها وتحسينها، لا فكر جمع الأموال والأشياء، ثم ظهرت شعب الإيمان في حياته. وبسبب نور الإيمان يتعلق القلب بالخالق ولا يلتفت إلى المخلوق .. ويستأنس بالخالق ويستوحش من المخلوق .. ويرى الشيء على حقيقته .. النافع نافعاً .. والضار ضاراً .. والحسن حسناً .. والقبيح قبيحاً .. والكبير كبيراً .. والصغير صغيراً .. ويميز بين الباقي والفاني .. والرخيص والغالي. وإذا عدم الإيمان أو ضعف رأى العكس، فرأى النافع ضاراً، ورأى الضار نافعاً وهكذا. ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وتظهر شعب الكفر في حياته من الكبر والكذب والنفاق والظلم. وجهد الدين يشتمل على أمرين: جهد لمعرفة الإيمان والأعمال .. وجهد لنشر الإيمان والأعمال. فالأول لمعرفة الإيمان والأحكام والمسائل والعمل بذلك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. والثاني لنشر وإبلاغ هذا الدين لعموم الإنسانية كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وحقيقة الإيمان التوجه إلى الله في جميع الأحوال، وعدم الالتفات إلى غيره، فنرى هذا المخلوق لا يفعل ونحن نراه .. والرب يفعل كل شيء ونحن لا نراه. فالابتلاء للإنسان هنا التفات القلب إلى أين؟، والفاعل من؟، والذي بيده الأمر كله من؟، والذي لا يقع في ملكه شيء إلا بإذنه من؟. ولا إله إلا الله خطاب للقلوب لا للعقول، فعقول قريش موجودة، وفصاحتهم

معروفة، وعقل فرعون ليس فيه خلل، كان يملك مصر سنين طويلة، واليهود والمنافقون لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل، ولكن الخبث والحسد في القلب، منع قبول الحق والهدى. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). فالنفي يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء، والإثبات يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء .. وهذه هي حقيقة التوحيد. فليس بيد أحد من الخلق شيء، الله بيده كل شيء .. هو الغني وكل ما سواه فقير .. هو القوي وكل ما سواه ضعيف .. هو الكبير وكل ما سواه صغير .. هو المالك وكل ما سواه مملوك .. وهو الخالق وكل ما سواه مخلوق .. وهكذا. فله سبحانه الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وأفعاله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. ومحمد رسول الله خطاب للأبدان، بأن تفعل كل شيء فعله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتترك كل شيء تركه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونفي جميع طرق الأعمال، وإثبات طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل عمل، في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق كما قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فطر عباده على أنه سبحانه فوق مخلوقاته، كما فطرهم على الإقرار به، وفطرهم على الحق، وبعث الرسل بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها. والله سبحانه غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) ومسلم برقم (1599) واللفظ له.

مخلوقاته أبداً، وكل مخلوقاته محتاجة إليه أبداً. وهو سبحانه مع استوائه على العرش، يحمل العرش وحملة العرش بقدرته، فهو سبحانه القوي العزيز الغني لذاته، وكل ما سواه ضعيف ذليل فقير لذاته، فلله الكمال المطلق في كل شيء، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. والقلوب مفطورة على الإقرار بالله، وحب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه. والإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب، من محبة الله ورسوله، وخوف الله وخشيته، والتوكل عليه. والإيمان إنما يكون إذا كان المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال لملخبر آمنا له، ويقال للمخبر به آمنا به، أما المشاهدات والمحسوسات فتحصل معرفتها بالرؤية القاطعة للشك. والمؤمن لا بدَّ له من التصديق بالحق والمحبة له، وإذا قام ذلك بالقلب لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال والأعمال. وكل ما يظهر على البدن سببه ما في القلب، وكل من القلب والبدن يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]. وحصول العلم والإيمان في القلب، كحصول الطعام والشراب في المعدة، فالجسم يحس ويتلذذ بالطعام والشراب، وكذلك القلب يحس بما يتنزل إليه من العلم والإيمان، الذي هو غذاؤه ودواؤه وشفاؤه.

والفطرة الإنسانية التي فطر الله عليها العباد تكملها الفطرة الشرعية التي جاء بها الأنبياء، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملاً، والشرعية تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به. والإسلام والإيمان متلازمان كالروح والبدن، فكما لا يوجد روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، فكذلك لا يوجد إيمان بلا إسلام. فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح. وما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح مختلفة متنوعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه (¬1). وهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله والخشوع والانكسار. ومن فعل ما أمره الله به، وانتهى عما نهاه عنه ظاهراً وباطناً فقد استكمل الإسلام والإيمان الواجب عليه. ومن ترك شيئاً من ذلك نقص من إسلامه وإيمانه بقدر ذلك، فمن نقص من الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك. والنقصان في الإيمان يكون في الإيمان الذي في القلوب من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. والأنبياء في ذلك درجات .. والمؤمنون درجات. فالإيمان له مبدأ وكمال .. وظاهر وباطن .. وقوة وضعف .. وطعم وحلاوة .. وصورة وحقيقة، والإسلام كذلك. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3336)، ومسلم برقم (2638).

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» متفق عليه (¬1). وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» متفق عليه (¬2). وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان فقال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (¬3). والإسلام والإيمان المذكوران في هذا الحديث لم يكونا واجبين أول الإسلام، ثم إنه زاد الإسلام والإيمان، وكملت أركانهما، ونزل في حجة الوداع البيان التام بكمال الدين في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ومن أسلم وآمن قبل كمالهما فهو في الجنة. فالإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع والانقياد له، وفعل الطاعات الظاهرة. والإيمان هو التصديق بالغيب والطمأنينة، وفعل الطاعات الباطنة مع الظاهرة، وهذا قدر زائد على الإسلام. والإسلام يتناول من أتى بالإسلام الواجب، وما يلزم من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب. ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، لكن لم يفعل الواجب كله، لا من هذا ولا من هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق أو أكثر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له. (¬2) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له.

ويتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان وهو المنافق المحض، فهذا تثبت له أحكام الإسلام في الدنيا، لعدم معرفة ما في قلبه، لكنه في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. والإسلام هو الدين الحق الذي لا تنفك فيه العقيدة الإيمانية .. عن الشعائر التعبدية .. عن الشرائع التنظيمية .. عن القيم الأخلاقية، وهذا هو الدين الكامل الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران:: 85]. أما النصرانية فقد حرفت، فقد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحي التعبدي الأخلاقي، حيث قامت العداوة بين اليهود والنصارى، فأنشأ هذا انفصالاً بين التوراة المتضمنة للشريعة، والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي، والتهذيب الأخلاقي، وبقيت النصرانية نحلة بغير شريعة، فعجزت عن القيادة، فأرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدين الكامل إلى يوم القيامة. والإيمان له شعب .. وله درجات: فأما شعب الإيمان فكثيرة متنوعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). وأما درجات الإيمان فهي خمس: الأولى: لفظ الإيمان كقولنا: (لا إله إلا الله). الثانية: صورة الإيمان، وهي الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام ونحوهما كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. الثالثة: طعم الإيمان، وهو ما يتلذذ به القلب كما يتلذذ البدن بالطعام كما قال ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (35).

النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (¬1). الرابعة: حلاوة الإيمان، وهو التلذذ بحلاوة الإيمان، وهي درجة بعد الطعم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُّحِبَّ الْمَرْءَ لا يُّحِبُّهُ إلا لِلَّهِ، وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» متفق عليه (¬2). الخامسة: حقيقة الإيمان، وهي أعلى درجات الإيمان واليقين، وهي ما وقر في القلب، وصدقه العمل من التعلق بالله والإعراض عما سواه، والتلذذ بطاعة الله في جميع الأحوال. وتحصل لمن عرف حقيقة الدين، وقام بجهد الدين: إيماناً وعبادة .. وتعليماً ودعوة .. وهجرة ونصرة .. وجهاداً وإنفاقاً .. وبذلاً وتركاً .. مخلصاً لله. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74]. وثمرة الإيمان: كثرة الطاعات والأعمال الصالحة .. ومحبتها .. والتلذذ بها .. ودخول الجنة .. والفوز برضى الله عزَّ وجلَّ. فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة، ما أن تستقر في القلب حتى تسعى بذاتها إلى ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (34). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (16) واللفظ له، ومسلم برقم (43).

تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح، وخلق حسن. ولا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وأرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها: فإن غرست فيها شجرة الإيمان والتقوى أورقت حلاوة الأبد. وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر فاسد مر، يورث شقاوة الأبد كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10]. واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته، والمحبة لله ورسوله ودينه هما ركنا الإيمان، الذي لا يتم إلا بهما، ولا يقبل إلا بهما. والمسلمون يتفاضلون في الإيمان .. ويتفاضلون في شعبه .. ويتفاضلون في درجاته. وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه .. ويقوم بما يقدر على تقديمه من الفاضل. ولا بد من الإيمان الواجب .. والعبادة الواجبة .. والزهد الواجب .. والعمل الواجب .. والدعوة الواجبة .. ثم الناس يتفاضلون في ذلك حسب إيمانهم. فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد. ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه من العلم. ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما. ومنهم من تتكون الدعوة أيسر عليه منهما. والمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير .. وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر .. فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل .. ويحصل له به منفعة أكثر .. فهذا الأفضل له أن يطلب ما هو أنفع له .. وهو قي حقه أفضل. ولا يطلب ما هو الأفضل مطلقاً إذا كان متعذراً في حقه، أو متعسراً يفوته ما هو

أفضل له وأنفع، كمن ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة. فأي عمل صالح كان له أنفع ولله أطوع، أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له. وفي كل خير: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. والله سبحانه أنزل الدين الكامل، وطلب منا القيام بالدين الكامل، ووعدنا على ذلك النعيم الكامل، والخلود الدائم. وهذا الملك ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعبيد عبيده. والله سبحانه يغار، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. ومن غيرته سبحانه أنه إذا رآك تساكن غيره، وتتوجه إليه سقطت من عينه كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. ومعية الله وحفظه للمؤمنين تكون مع الصفات التي يحبها الله كالإيمان والتقوى، والصبر والإحسان. والله ينجينا بتلك الصفات ولو لم يكن معنا شيء من المال أو الملك أو القوة إذا بذلنا ما نستطيع. كما نجى الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من النار، وليس معه شيء إلا إيمانه بربه .. وكما نجى الله موسى - صلى الله عليه وسلم - من فرعون .. وأنجاه من الغرق في البحر .. ونصره بإيمانه على السحرة .. وكما نجى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - من كفار مكة حين أرادوا قتله .. وحفظه في طريق الهجرة. ونصره على أعدائه .. ومكن له في الأرض .. مع أنه لم يكن معه ملك ولا مال. وكما ينجي الله الرسل وينصرهم كذلك ينجي المؤمنين: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} [يونس: 103]. وقارون لما أعرض عن الإيمان خسف الله به الأرض مع ماله.

وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك. ونمرود قتله الله لما كفر وأعرض عن الله مع أن معه الملك. وهكذا القرى الظالمة أهلكهم القوي العزيز بذنوبهم مع كثرتهم وشدتهم وقوتهم، وعظمة ملكهم، وكثرة أموالهم: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59]. فالله مع المؤمنين ولايةً وحفظاً .. ونصراً وتأييداً .. وتثبيتاً وتمكيناً: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. والمؤمنون متفاضلون في الإيمان بالله بحسب المعرفة به والمحبة له تنوعاً لا ينحصر. بل الخلق متفاضلون متفاوتون في إيمانهم بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وغير ذلك من أمور الغيب. كما أنهم متفاوتون فيما يشاهدون ويسمعون ويعملون. وكذلك هم يتفاضلون في العلم والإرادة، فإذا كان أحدهم أكثر محبة لله وذكراً وعبادة كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة لله، وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له، فصاحب المحبة والتأله يحصل له من حضور الرب في قلبه، وأنسه به ولذة مناجاته، ما لا يحصل لمن ليس مثله. وكذلك منازل المؤمنين في الجنة متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم وأعمالهم. والدعوة إلى الله وإن كانت واجبة على كل مسلم إلا أنها لا تكفي في حصول الإيمان، حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن. فهدى كل إنسان بيد خالقه الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو أعلم

بمن يصلح للهدى والإيمان ومن لا يصلح كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 100]. ولا بدَّ لكل عبد من الإيمان والتوحيد كما قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. ولا ينفع الإيمان مع الشرك كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. فأثبت لهم إيماناً مع الشرك، فهم وإن أقروا أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور إلا أنهم يشركون معه غيره في العبادة. وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار، كما أثر إيمان أهل التوحيد، بل كانوا معه خالدين في النار بشركهم وكفرهم، فإن النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم. فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم. ومقامات الإيمان التي عليها بناؤه ثلاثة وهي: محبة الله .. والخوف منه .. والرجاء له. وهذه الأمور الثلاثة هي الأصل والمادة في كل خير، فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات، وأحاطت به الشرور، وقد ذكر الله هذه الثلاثة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]. وجمال الإنسان وكماله بالإيمان والأعمال والصفات. وجمال الشجرة وكمالها بالأوراق والأزهار والثمار. وأول ما تأثر من شجرة الإيمان جذورها، وجذور شجرة الإيمان هي أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله .. وملائكته .. وكتبه .. ورسله .. واليوم الآخر .. والقدر خيره وشره. وبقدر قوة هذه الجذور تستطيع حمل الساق والأغصان، وهي أركان الإسلام

الخمسة: الشهادتان .. وإقام الصلاة .. وإيتاء الكاة .. وصوم رمضان .. والحج. وكان الصحابة في أول الإسلام في مكة لم يكلفوا بالصلاة والزكاة، ولا الصيام والحج. فلما قويت الجذور واستعدت لحمل الأغصان جاءت الفروع وهي الأوامر والنواهي، ثم جاءت الأوراق والأزهار وهي الأخلاق الحسنة. فأصبحت الأغصان والفروع مزينة ومعمورة بأوامر الله من الآداب والأخلاق والمعاشرات، وسائر الأحكام الشرعية. وصارت البيوت والأسواق، والرجال والنساء، والمعاملات والمعاشرات، مزينة بأوامر الله في جميع الأحوال والأوقات والأماكن. فكل من رأى هذه الشجرة شجرة الإيمان أحبها واقترب منها، لما تحمله من جمال الأخلاق كالعفو والإحسان .. والصدق والكرم .. والرحمة والشفقة .. والبذل والإيثار .. : ونحو ذلك من الأخلاق المفضية إلى هداية الناس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]. والإنسان لا بدَّ له من بيئة الإيمان التي تحفظ الموجود، وترقي الإنسان لطلب المفقود، وكل مخلوق يتأثر بالبيئة التي يكون فيها. فالإنسان إذا دخل في جو حار أو بارد تأثر بهما، فكذلك إذا دخل بيئة الإيمان والأعمال الصالحة تأثر بذلك، فزاد إيمانه، وقويت أعماله، وحسنت أخلاقه. والإنسان لا يتأثر بالبيئة إلا إذا دخلها، فالذي يجلس في مكان الدباغة يألف الرائحة ويعتادها، فإذا نقل إلى بيئة الزهور والعطور ومكث فيها مدة تأثر بها، فإذا رجع إلى بيئته الماضية استنكرها واستقبحها. فإذا قيل له كنت فيها أولاً، قال أعوذ بالله ومن يطيقها، ثم نفر منها وولاها ظهره،

مع أنه كان يعيش فيها عدة سنين. وهكذا بيئة المعاصي والنساء كلها شر وروائحها كريهة، ولا يشعر الإنسان بذلك إلا إذا نقل إلى بيئة طيبة، فيها الإيمان والطاعات، والعبادة والدعوة، والذكر وتلاوة القرآن، وتعظيم الله وحمده. فهنا يجد القلب حاجته وغذاؤه فيلزم هذه البيئة وينفر من ضدها. وهذه البيئة هي التي تحفظ الإيمان الموجود، وترقى الإنسان لطلب الإيمان المفقود، والأعمال المفقودة. والإيمان هو كمال وجمال العبد، وبه ترتفع درجته في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، والإيمان أعظم مطالب الإنسان على الإطلاق، وقد جعل الله له مواد كثيرة تجلبه وتقويه، وتزيده وتحفظه ومنها: تدبر القرآن الكريم، وما فيه من عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته، واليوم الآخر، وما به من وصف الحشر والحساب، والجنة والنار. والنظر والتفكر في الكون وما فيه من المخلوقات الدالة على عظمة الله، ورؤية الآلاء والنعم التي سخرها الله لعباده، ومشاهدة مظاهر رحمة الله بنزول المياه، ونبات النبات، ووفرة الهواء، واستقرار الأرض، والإكثار من ذكر الله في كل وقت، والإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة. والدعوة إلى الله، وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالداعي يسعى إلى تكميل العباد ونصحهم ليرضى الله عنهم، فيجازيه الله بتأييده ونصره، وتقوية إيمانه وهدايته كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].

وكذلك معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة ما هو عليه من الإيمان والأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فهو أكبر داع إلى الإيمان في أقواله وأفعاله، وصفاته وأخلاقه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والإيمان بالنسبة لمعرفته له ثلاث مراتب: الأولى: الإيمان المجمل كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. الثانية: الإيمان الواجب من فعل الواجبات، وترك المحرمات. الثالثة: الإيمان المطلق، وبه تتحقق العبودية الحقة، وإحياء جهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العبادة والدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وهذه المرتبة أعلى المراتب وأفضلها وأعظمها. والإيمان بالنسبة لتحصيله كالمال له بداية وليس له نهاية، وكلما زاد الجهد والطلب زاد الإيمان، وزادت الأعمال، وحسنت الأخلاق. فالإيمان قسمان: إيمان موجود .. وإيمان مطلوب. فإذا كان الإيمان الموجود لا يكفي للقيام بالأعمال، فلا بد من تقوية الإيمان بالإيمان المطلوب حتى نتمكن من القيام بالعمل، ونتحصل على موعودات الله بالإيمان الكامل، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]. فالإيمان الموجود ينجي من النار ويدخل الجنة، ولكن هذا الإيمان لا يفي بمواعيد الله للمؤمنين في الدنيا، كما قال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ

الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. فالعلو والرفعة مشروطة بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل. وكذلك قوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. فالنصر مشروط بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل. وهكذا بقية الموعودات في القرآن مشروطة بالإيمان الكامل. فإذا جاء الإيمان المطلوب فلا بد أن يظهر الموعود من النصر، وحصول البركات، والخلافة في الأرض. وعدم ظهور الموعود دليل على أن الإيمان الموجود لا يكفي لظهور الموعود، فلا بدَّ من الجهد والتضحية حتى يأتي الإيمان المطلوب ليحصل الموعود. والإيمان يزيد باستعمال الأعضاء الأربعة للدين: السمع .. والبصر .. واللسان .. والدماغ. وهذه الأعضاء الأربعة تصب في القلب، كما يصب المطر على الأرض. فإذا سمع المسلم كلام الإيمان بأذنه، فهذه الأذن تصب في القلب ما سمعت، وتملؤه إيماناً. وإذا منَّ الله على العبد وأعطاه نظرات الإيمان، فكلما رأى مخلوقاً تذكر به الخالق، وكلما رأى صورة تذكر بها المصور سبحانه. وكلما رأى آيات الله في القرآن تذكر به من تكلم به وهو الله، فهذه العين تصب في القلب ما رأت وتملؤه إيماناً. فالعين المؤمنة هي التي ترى الأشياء وتنفيها، وتتعداها إلى خالقها فهو الذي بيده الأمر كله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. فإذا لم تر العين هذه الرؤية رأت الأشياء ثم تأثرت بها، ثم أثرت على القلبل، فضعف الإيمان، وتبدل اليقين، ثم ضعفت الأعمال، ثم نزلت العقوبة حسب الترك أو التقصير أو التأخير.

وإذا تكلم المسلم كلام الإيمان مبيناً عظمة ربه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وعظمه دينه وشرعه، وعظمه خلقه وأمره، فهذا اللسان يصب في القلب ويملؤه إيماناً وعلماً. وإذا تفكر الإنسان في عظمة الله وكبريائه، وفي جلاله وجبروته، وفي قوته وقدرته، وفي حلمه وعفوه. وتفكر في نعم الله وآلائه، وتفكر في عظمة مخلوقاته، وتفكر في سعة ملكه وكثرة مخلوقاته، فهذا الدماغ يصب في القلب ويملؤه إيماناً. فالقلب محل الإيمان بالله، والتعظيم له، والخوف منه، والرجاء له، والمحبة له، والخشية منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وتقواه. فإذا قامت هذه الأعضاء الأربعة بوظيفتها التي أرادها الله وصلت كلمة (لا إله إلا الله) إلى القلب، فرسخ الإيمان في القلب، ثم ظهرت آثاره على الجوارح، فكملت للإنسان الزينة الداخلية والخارجية. وهذه الزينة التي يحبها الله، ودعا إليها رسول الله، وهي محل نظر الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم (¬1). وإذا جاء الإيمان أحب المؤمن الإيمان والطاعات والحسنات كما يحب الطيبات والطاهرات، وأبغض وكره الكفر والفسوق والعصيان، كما يكره القاذورات والنجاسات. وإذا حل الإيمان في القلب مال إلى الطاعات، واجتنب المحرمات، ونفر من السيئات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564).

حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8]. فالإيمان محله القلب، وإذا دخل فيه جاء بكل خير، وإذا لم يدخل الإيمان في القلب فلا فائدة من العمل معه، فالمنافقون كان إيمانهم بألسنتهم فلم ينفعهم، وكانوا يصلون مع المسلمين فلم ينفعهم ذلك، بل هم في الدرك الأسفل من النار: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]. ولفظ الإيمان شيء .. وصورة الإيمان شيء .. وعلم الإيمان شيء .. لكن حقيقة الإيمان شيء أعظم من هذا كله. وكل شيء يصنع في مكان، ومكان تجريبه في مكان آخر كالسيارة والقلم ونحوهما، وكذلك علم الإيمان له مكان، ومكان معرفته وتجريبه له ميدان آخر. وذلك لا يتم ولا يحصل إلا بالمجاهدة والتضحية بكل شيء من أجل الحصول عليه، فهو أغلى شيء في الدنيا والآخرة. وطريق الإيمان تعب فيه آدم .. وناح لأجله نوح .. ورمي في النار الخليل .. واضطجع للذبح إسماعيل .. وبيع وسجن يوسف .. ونشر بالمنشار زكريا .. وذبح بالسكين يحيى .. وقاسى الضر أيوب .. وزاد في البكاء داود .. وسار مع الوحش عيسى .. وعالج الفقر والأذى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهؤلاء هم شموس التوحيد والإيمان .. ونجوم الهدى .. وجبال الصبر واليقين. فالإيمان أصل الدين وقاعدته التي يبنى عليها البناء، وهو بمنزلة تسوية الأرض وسقيها، أما الأمور الباقية في الدين فهي بمنزلة الأشجار والحبوب التي يمكن زرعها وغرسها في هذه الأرض. فهي تنمو بقدر خصوبة الأرض واستعدادها كما أنها تثمر بقدر الجهود المبذولة في تمهيد الأرض وسقيها. فالإيمان هو أرض الدين .. والدعوة نبتها وطلعها .. والعبادة ثمرتها وزينتها .. والعلم يرويها ويسقيها .. والجنة ورضى الرب غايتها. ولا يمكن أن نحصل على حقيقة الإيمان، إلا إذا تيقنا أن جميع المخلوقات في

السموات والأرض، قويها وضعيفها كالحية الميتة، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، ولا تعطي ولا تمنع إلا بأمر الله، وأن كل شيء بيد الله، وأن ما سوى الله ليس بيده شيء كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وقوة الإيمان تظهر إذا كانت في القلب، كالرصاص لا تظهر قوته إلا إذا كانت في البندقية، وهذا هو الإيمان الحقيقي. فإذا توقف على كلام اللسان، وسماع الآذان، وفكر الدماغ، فذاك إيمان اللسان والأذن والدماغ، ولا تظهر قوته وآثاره إلا إذا كان في القلب كالرصاص ما دام في الجيب أو البيت لا تظهر قوته ولا آثاره، حتى يكون في محله الأصلي في البندقية. وإذا احصل العبد على حقيقة الإيمان هانت عليه نفسه وأمواله، وبلاده وأهله في سبيل مرضاة مولاه. والدنيا محل الكسب، والقلوب محل الإيمان، فيجب أن نجتهد على قلوبنا حتى لا يبقى فيها تأثر من غير الله من الأشخاص والأموال والأشياء. ولما كثر الجهد على الأموال والأشياء، تأثرت القلوب بهذه الأشياء. فقال الناس: حاجات الدنيا تقضى بالأموال والأسباب .. وحاجات الآخرة تقضى بالإيمان والأعمال الصالحة. وهذا خطأ، فحاجات الدنيا والآخرة لا يقضيها إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير. أحياناً يقضيها بالأسباب كما يحصل النبات من نزول الماء على الأرض، وكما يحصل الولد بالوطء، والشبع بالأكل، والري بالشرب وهكذا. وأحياناً يقضيها بدون الأسباب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

وأحياناً يقضيها بضد الأسباب كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وكما نصر موسى - صلى الله عليه وسلم - على فرعون مع أن معه الملك والدولة، وكما ربى موسى - صلى الله عليه وسلم - في قصر عدوه فرعون: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]. والإيمان قسمان: نظري .. وعملي. فالنظري يحصل للإنسان بطريق الكلام الصادر عن ثقة كما قال الله لموسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. ثم أراد الله أن يبين لموسى حقيقة الإيمان عملياً، وأنه سبحانه هو الفعال القادر على كل شيء، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يعجزه شيء، وأن جميع المخلوقات ليس بيدها شيء، وأن الخلق والأمر لله وحده لا شريك له فقال سبحانه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 17 - 21]. فجاء أمر الله إلى العصا فانقلبت فوراً إلى حية تسعى، ثم أمره الله بأخذها فعادت بأمر الله فوراً عصا، وأمره سبحانه بإلقائها وهي نافعة فأطاع، وأمره بأخذها وهي ضارة فأطاع، ليعلم موسى أن جميع المخلوقات بيد الله وحده، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذن الله. ثم أمره الله بإدخال يده في جيبه فأدخلها فخرجت بيضاء ساطعة من غير عيب ولا برص كما قال سبحانه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه: 22]. فرأى موسى - صلى الله عليه وسلم - قدرة الله عملياً في قلب العصا حية وإعادتها مرة أخرى، وفي خروج يده بيضاء من غير سوء، وزاد إيمانه بربه، وقوي يقينه، واطمأن قلبه، وعلم نظرياً وعملياً أن الله على كل شيء قدير.

فلما حصل له كمال اليقين، أرسله الله إلى فرعون فأبى واستكبر، فأنجى الله نبيه، وأهلك فرعون وجنوده، بأمر واحد، ووقت واحد. والدنيا محل تكميل الإيمان والأعمال والأخلاق. فمن اجتهد لتكميل تلك الصفات في نفسه صار في مرتبة الأبرار والصالحين. ومن اجتهد لتكميلها في نفسه وفي غيره من الناس صار في مرتبة المقربين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10، 11]. وعلامة الإيمان الكامل: أن نتوجه إلى الله وحده في جميع أمورنا .. فهو قاضي حاجات البشر وحده لا شريك له .. ونفعل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال .. فأوامر الله كالحبل الذي يتمسك به الغريق .. فمن تمسك بحبل الله نجا وأفلح .. ومن توجه إلى المخلوق خذله الله به وأذله. وكل الناس غرقى إلا من تمسك بحبل الله واعتصم به. فبالجهد للدين يقوى الإيمان .. وبقوة الإيمان تقوى الأعمال .. وبقوة الإيمان والأعمال يقوى الدعاء .. وبالدعاء تقضى الحوائج .. كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وكلما قوي الإيمان جاءت متطلبات الإيمان سهلة كالطاعات، وإذا ضعف الإيمان ثقلت الطاعات، وجاءت الرغبة في المعاصي. وإذا اقترنت الأعمال بالإيمان جاءت الطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة. وإذا اقترنت المعاصي بالإيمان جاءت المصائب نقداً في الدنيا قبل الآخرة كما حصل للصحابة في غزوة أحد، وفي غزوة حنين. فأولاً تسلب الطمأنينة من القلوب، وتأتي الهموم ليستغفروا ويتوبوا، فإذا لم يرجعوا إلى الحق، واستمروا في المعاصي، تحولت المصائب والهموم إلى الأسباب كالأموال والأولاد، ليتوبوا إلى الله.

فالأولى فضائل .. والثانية ابتلاء بالفضائح لعلهم يتوبون. وفرعون لما فسد فكره، جاء عنده الهم أن هذا الملك سوف يسلب مني، ولأنه لا يعرف الحق، بدأ يعالج البلاء بالبلاء فقرر أن يقتل كل مولود من بني إسرائيل، فعالج المعصية بالمعصية، وإلا علاج الهم الاستغفار والتوبة. فعالج فرعون الخطأ بالخطأ، فما زال الهم بل زاد، وجاء بشكل آخر أقوى وأشد من الأول، فقد قتل فرعون أولاد بني إسرائيل بالآلاف، لأنه فكر في ملكه فما حصل العلاج. فربى الله من يزيل ملكه في بيته، وتحت رعاية زوجته، وهو موسى - صلى الله عليه وسلم -. ولما كبر قام بدعوة فرعون إلى الله، وتلطف معه حتى قامت الحجة عليه، ولما لم يرجع ولم يؤمن ألقى الله المصائب في ملكه كما قال سبحانه: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} [الأعراف: 132، 133]. فانتقل الهم من قلبه على نفسه إلى الهم في ملكه، وابتلاه الله بهذه المصائب لعله يتوب إلى الله، فالحياة في عهده فاسدة، والأحوال فاسدة، بسبب فقدان الدين، ولكنه مع رؤية هذه الآيات أبى كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)} [طه: 56]. فتأثر الملك بسبب ذلك الاستكبار كما قال سبحانه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 39]. فهاتان مرحلتان: إلى القلوب .. ثم إلى الأسباب، فإذا لم يرجع فهناك مرحلة ثالثة، وهي البطش والإهلاك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55]. فهذه ثلاث مراحل للخسران: فأولاً تتأثر القلوب .. ثم تتأثر الأسباب .. ثم التدمير والهلاك، وذلك ليعود

الإنسان إلى ربه. فيربي الله العاصي بالفضائل والمصائب .. فإذا لم يقبل ابتلاه بالفضائح .. فإذا لم يتب أهلكه الله .. وبعد الموت تكون الحال أشد وأبقى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. وقد أقسم الله عزَّ وجلَّ بالعصر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة، على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية والعملية فقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وهذا نهاية الكمال الإنساني، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره. وكمال الإنسان بإصلاح قوتيه: العلمية والعملية. فصلاح قوة الإنسان العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما. والإيمان لا يكون حتى ينبثق منه عمل صالح. وهذا الإيمان إما أن يجد طعمه وحلاوته وحقيقته في القلب، أو لا يجد كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [الحجرات: 14]. فهؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين، لأنهم ليسوا من باشر الإيمان قلبه، ذاق حلاوته وطعمه، وهذا حال أكثر المسلمين، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان، لأنهم لم يذوقوا طعمه، ونفى عنهم الإيمان المطلق، لا مطلق الإيمان وهو الإٍسلام. ووعدهم مع ذلك على طاعاتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئاً.

ثم ذكر سبحانه أهل الإيمان الحقيقي، الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا في إيمانهم، لأن الإيمان قد باشر قلوبهم، وخالطتها بشاشته، فلم يبق للريب فيه موضع. وصدقوا ذلك ببذل أحب شيء إليهم في رضى ربهم وهو أموالهم وأنفسهم، ولا يمكن حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان وحلاوته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. فالإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح. أما الذين يقولون أنهم مسلمون ويشركون مع الله غيره .. أو يفسدون في الأرض .. ويحاربون الله ورسوله .. أو يؤذون المؤمنين والمؤمنات .. وأئمة الدين والمصلحين .. أو يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه من واق كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. فلا بد من الجمع بين الإيمان القلبي، والإحسان العملي كما قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]. وأعظم شيء وهبه الله للعبد هو الإيمان الذي يسعد به في الدنيا والآخرة وهو فضل الله وإحسانه إلى البشرية كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. والإيمان بالله أغلى شيء في الحياة، بل هو أغلى شيء في خزائن الله، وسعادة الإنسان في الآخرة مبنية عليه، وهو أهم شيء يوصى به العبد أهله عند مفارقته

للحياة كما قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]. والإيمان نور يشرق به قلب المؤمن وروحه وكيانه، فيرى قلب المؤمن الخالق والمخلوق، ويرى عظمة ربه وإحسانه، ويشاهد مظاهر قدرته ورحمته. ويرى المخلوق بيد خالقه، ليس بيده شيء، وليس بيده نفع ولا ضر، إن لم يهده ربه إلى نور الإيمان، تاه في أودية الظلمات، وخسر الدنيا والآخرة. فالإيمان نور واحد يهدي إلى طريق واحد، يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم. وأما الكفر فظلمات شتى متنوعة: ظلمة الكبر والطغيان .. وظلمة الرياء والنفاق .. وظلمة الهوى والشهوة .. وظلمة الجهل والقسوة .. وظلمة الحرص والطمع .. وظلمة البخل والشح .. وظلمة الشك والقلق .. وظلمة الكذب والافتراء. وظلمات شتى يجمعها كلها الشرود عن صراط الله المستقيم، والتلقي من غير الله، والاحتكام إلى غير منهج الله. والله يؤتي فضله من يشاء، وهو العليم بمن يصلح له، ومن لا يصلح له، وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد، حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع والأصناف، وكلها ظلمات. والعاقبة اللائقة بأصحاب الظلمات إذا لم يهتدوا بالنور في الدنيا، أن يخلدوا في ظلمات النار في الآخرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. إن من ذاق طعم الإيمان وحلاوته، وعرف حقيقته لا يمكن أن يتركه أو يجد اللذة في غيره. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، لم يطلب برهاناً، أو

تقوية للإيمان، إنما هو أمر آخر له مذاق آخر، إنه أمر الشوق الروحي إلى ملابسة ورؤية السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة: 260]. ورؤية الآيات الكونية لها مذاق .. وتدبر الآيات القرآنية لها مذاق .. والإيمان بالغيب له مذاق .. ومذاق رؤية هذه العملية أمام العين له مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب. فأراد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أن يرى يد القدرة وهي تعمل، ليحصل على مذاق وحلاوة هذه الملابسة. ليستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كان ينشد اطمئنان الإنس إلى رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجوب وهو يتجلى وينكشف. وقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأراه التجربة الذاتية المباشرة، والقدرة الإلهية. فرأى إبرهيم - صلى الله عليه وسلم - السر الإلهي يقع بين يديه، وهو السر الذي يقع كل لحظة، ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه، إنه سر هبة الحياة. رأى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - هذا السر يقع بين يديه، طيور معروفة أمسكها، ثم ذبحها وقطعها، وخلط أجزاءها ببعض، ثم فرقها في أماكن متباعدة ثم دعاها، فتجمع اللحم مع اللحم، والدم مع الدم والريش مع الريش، والعظام مع العظام، ثم جاءت إليه مسرعة حية كما كانت من قبل. فاجتمع له دليل العيان بالبصر، مع دليل الإيمان بالخبر، فحصل على مرتبة عين اليقين، فتوارد الأدلة اليقينية يزيد الإيمان، ويكمل به الإيقان، ويسعى في نيله أولو العرفان، ولذلك استجاب الله له حين قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ

لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. والإيمان أعظم شيء .. وأغلى شيء .. وبه يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة. والمؤمنون يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، لأنهم يعرفون أنهم صائرون إليه، فيقبلون على طاعته، ويطلبون مغفرته كما قال سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]. فالإيمان يولد السمع والطاعة لله ورسوله. السمع لكل ما جاء من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله. وهم مع السمع والطاعة يشعرون بالتقصير، والعجز عن توفية نعم الله حق شكرها، وفرائض الله حق أدائها، فيطلبون مغفرته من التقصير، وتداركهم برحمته، لأنهم يعرفون عظيم حقه، ومقدار تقصيرهم في حقه. وطلب الغفران إنما يكون بعد الاستسلام لله، وإعلان السمع والطاعة له، واليقين بأن المصير إليه سبحانه في الدنيا والآخرة. المصير إليه في الدنيا في كل أمر وفي كل عمل، فلا منجى من الله إلا إليه، ولا عاصم من قدره ولا نجاة من عقابه، إلا برحمته وغفرانه. والمصير إليه في الآخرة فالخلق لله، وهم إليه راجعون، فمن قدم بالإيمان أدخله الجنة، ومن جاء بالكفر والمعاصي أدخله النار. وإذا جاء الإيمان في حياة الإنسان جاءت التقوى. والتقوى: هي الاستقامة والخوف من الله وحده، ومراقبته وحده في جميع الأحوال. وتقوى الله هي التي تربط القلوب بالله، وحين يتصل القلب بالله فإنه سيعظم ربه، ويتمثل أمره، ويحقر كل قوة غير قوته. والإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي. وما أسرع زوال الإيمان أو ضعفه عند لذعة المصائب، ومواهة الأخطار، ولسعة

الحوادث المؤلمة إلا من ثبته الله وأعانه. فمن الناس من هو ضعيف الإيمان، إن أصابه خير اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه، أو زوال محبوب ارتد عن دينه، فما أخسر هذا في الدنيا والآخرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. وللإيمان وزنه وقيمته على كل حال، مع تفاضل أهله في الدرجات، وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان كالعبادات، والجهاد بالأنفس والأموال كما قال سبحانه: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95، 96]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -اُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). وشهادة أن (لا إله إلا الله) ليس لها مدلول إلا أن تكون العبودية في هذا الكون لله وحده، وأن يكون الحكم في حياة البشر لله وحده، كما أن له الحكم وحده في نظام الكون سواء. فهو سبحانه المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره. وهو سبحانه المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشرعه. فلا يحق لأحد أن يعبد إلا الله وحده، ولا يتلقى الشرائع والأحكام إلا من الله وحده. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790).

والإيمان بالله وإخلاص الدين له، وتحقيق عبودية البشر لله سبحانه إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله لله، وعبودية الوجود كله لربه. إن الإنسان إذا نظر في هذا الكون العظيم الهائل .. لا بدَّ أن يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود الخالق البارئ المصور .. العزيز القادر الذي خلق هذا الكون .. ويدبر أمره .. ويصرف أحواله ومخلوقاته .. وله الخلق والأمر في ملكه. فمتى يقبل هذا القلب على ربه ويؤمن به؟. ومتى يتحرك إلى الاستجابة لداعيه؟. ومتى يستسلم لربه، كما استسلم هذا الوجود كله بالطاعة لخالقه؟. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. وبذلك يستشعر القلب حقيقة العبودية، ويذوق طعمها، ويتلذذ بها، في استسلام الواثق المطمئن، الذي يستشعر أن كل ما حوله من الكائنات والبشر يشاركه ويتجاوب معه في طاعة الرب وعبادته. إن الذي يحرك العبد لعبادة ربه وتوحيده ليس فقط البرهان العقلي الذي يدل على استسلام الكائنات لربها في طواعية ويسر، بل هناك مذاق آخر. مذاق المشاركة مع كافة المخلوقات في السماء والأرض في الطاعة. ومذاق الطمأنينة للقلب هذا الرب العظيم الكريم. ومذاق الانسياق مع موكب الإيمان الشامل بالمحبة والشوق. إنه مذاق العبودية الراضية .. التي لا يسوقها القسر .. ولا يحركها القهر. إنما تحركها قبل الأمر والتكليف عاطفة الود والطمأنينة، والانسجام مع الكون كله في طاعة الرب، فلا تفكر في التهرب من الأمر، لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام للرب الكريم، الذي بيده كل شيء، وتقف بين يديه، ولا تتجه لأحد سواه.

هذا الاستسلام الشامل لرب العالمين هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه وحلاوته. وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام. وهذا ما يجب أن يستقر في القلب قبل التكليف والأمر .. وقبل الشعائر والشرائع .. إنه معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله .. والانسجام مع الكائنات في التلذذ بعبادته وطاعته .. فكلها ساجدة لربها .. خاضعة لعظمته .. مستكينة لعزته .. مطيعة لأمره .. لأنه الرب المعبود .. والملك المحمود. فمن عدل عن عبادته إلى عبادة ما سواه، فقد أهان نفسه، وضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. إن خالق هذا الكون العظيم المشهود في ضخامته وفخامته، والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره، ويصرفه بقدره، يقلب الليل والنهار، والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو ربكم الذي أنزل لكم منهجه، وشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه، وأنزل إليكم أحسن كتبه، وأرسل إليكم أفضل رسله، وله الخلق والأمر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. والله تبارك وتعالى كما أنه لا خالق معه فكذلك لا آمر معه. إن المخلوقات والكائنات كلها في العالم العلوي والعالم السفلي: من سماء وأرض .. وملائكة وأرواح .. وشمس وقمر .. وليل ونهار .. وجماد ونبات .. وطير وحيوان .. وماء وتراب .. وجبال وبحار .. ورياح وذرات. كل هذه المخلوقات تعاطف البشر وتشاركهم حركة الحياة.

إنها تتلقى أمر الله، وتنفذه وتخضع له وتسير وفقه. إنها مسخرة تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله. ومن هنا يهتز القلب البشري وينساق للاستجابة والطاعة في موكب الأحياء المستجيبة المطيعة، فلها أوامر، وله أوامر. فإذا رأى الناس هذه المخلوقات العظيمة، والمشاهد الحية في الكون، وتجلى لهم خضوع هذه الخلائق الهائلة، وعبوديتها لخالقها، وطاعتها لأمره، توجهوا إلى ربهم الذي لا رب غيره، ودعوه في إنابة وخضوع: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} [النور: 41، 42]. فمن رزقه الله هذا النظر وهذا الفكر وهذا التأمل زاد إيمانه، وصلح يقينه، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، ونفر من المعاصي، وخلصت حياته لربه، واشتغل بعبادة مولاه، وحقق مراد الله منه بالطاعة والعبادة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. والإيمان بالله وتقواه متصل بواقع الحياة، وما بعد الحياة، مؤهل لفيض بركات السماء والأرض كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)} [الأعراف: 96،97]. والإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة، وسلامة في أجهزة الاستقبال، وصدق في الإدراك الإنساني. والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكائن البشري كله، وتتجه به إلى وجهة واحدة، تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئة الله في خلافة الأرض وعمارتها، ودفع الفساد والفتنة عنها.

والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى .. ومن العبودية للعبيد .. ومن تحرر من ذلك فهو أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة، من العبيد للهوى، ولبعضهم بعضاً. وتقوى الله يقظة واعية، تصون من الاندفاع والتهور والغرور، وتوجه الجهد البشري وتضبطه، فلا يعتدي ولا يتهور، ولا يتجاوز الحدود. والله عزَّ وجلَّ يريد من البشر أن تسير حياتهم هكذا، إيان وتقوى، متحررة من الهوى والطغيان البشري، خاشعة لله، تسير سيرة صالحة منتجة، تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، وتنعم يالأمن. والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون ألوان شتى: فهي بركات بكل أنواعها وألوانها وأشكالها .. مما يخطر ببال الخلق .. وما لا يخطر ببالهم .. بركات في الدنيا، وبركات في الآخرة .. بركات في الأقوال والأعمال .. وبركات في الأنفس والأموال .. وبركات في الأوقات والأخلاق. والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، هؤلاء لا يعرفون الإيمان، ولا يعرفون الحياة، ولا يستفيدون من الإيمان. وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله سبحانه، وكفى بالله شهيداً: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65، 66]. والنفس البشرية حين تستقر فيها حقيقة الإيمان، تستعلى على قوة الأرض، وتستهين بيأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على حب الحياة. والإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع هو الإيمان الذي باشر القلب، الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه، فيطمئن إلى جواره كما قال

السحرة لفرعون: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف: 125، 126]. إن المؤمن الذي يعرف إلى من يتجه؟ .. وإلى أين هو صائر؟ .. لا يطلب من خصمه السلامة والعافية .. إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة .. والوفاة على الإسلام: {رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف: 126]. ويقف الكفر والطغيان عاجزاً أمام قوة الإيمان .. وثقف عاجزاً أمام القلوب التي خيل اليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب .. ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام .. فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله. وماذا يملك الطغاة إذا رغبت القلوب المؤمنة في جوار الله؟. وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟. وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عن السلطان؟. إنه لا يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة، ولا يمن أن يصبروا على ما ينتظرهم من التعذيب والتنكيل إلا بوجود اليقين بشقيه: أنهم المؤمنون .. وأن أعداءهم الكافرون. وبهذا اليقين وبهذا التميز تأتي البركات والعواقب الحميدة للمؤمنين. والإيمان هو نفي كل شيء عن غير الله .. وإثبات كل شيء لله .. فهو الذي بيده كل شيء .. وغيره ليس بيده شيء. ولا يمكن أن يجتمع في قلب واحد، الإيمان بالله وتوحيده، والتوكل على غيره. والتوكل على الله وحده لا يمنع من اتخاذ الأسباب، فالمؤمن يتخذ الأٍباب من باب الإيمان باله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج، فيتكل عليها. فالذي خلق الأسباب، وأنشأ النتائج هو الله وحده، ولا علاقة بين السبب والنتيجة ي شعور المؤمن، فالكل بيد الله.

والله عزَّ وجلَّ فعّال لما يشاء. يفعل بالأسباب .. وبضد الأسباب .. وبدون الأسباب .. كما جعل الوطء سبباً للإنجاب، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما يقول للشيء كن فيكون، فالله لا يعجزه شيء. وبذلك يتخلص شعور المؤمن من التعبد للأسباب، والتعلق بها. وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته، لينال ثواب طاعة الله في استيفائها. ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد فيه حمل للتوكل على غير الله ابتداء، وقدر الله هو الذي يحدث ما يحدث، والأسباب مخلوقة مأمورة، فالتوكل ينبغي أن يكون على من بيده أزمة الأمور: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} [التغابن: 13]. والإيمان له أثران: فله صورة حركية ظاهرة على البدن .. كما أن له مشاعر قلبية باطنة. فحين يذكر قلب المؤمن بالله وأسمائه وصفاته، وأفعاله وأوامره، ويعرف وعده ووعيده، وعظمته وخزائنه، يغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويشعر بعظمة ربه ومهابته، ويرى نعمه وآلاءه، ويرى تقصيره في طاعته. فينبعث إلى العمل والطاعة بانشراح وسرور، ومخافة وخشوع، وحياء وانكسار. أما الصورة الحركية الظاهرة فتتمثل فيما بينه وبين ربه بالعبادات من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد ودعوة إلى الله. وقلب المؤمن يجد في آيات القرآن ما يزيده إيماناً، ولا يحول بين الإنسان والقرآن شيء إلا الكفر. فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن حين يعيشه واقعاً، لا مجرد تذوق وإدراك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ

اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. فهذا أثر الإيمان على القلوب، فبتدبر القرآن يزيد الإيمان، لأن التدبر من أعمال القلوب، وبه يعلم الإنسان ما جهل، ويذكر ما نسي، ويحدث في القلب رغبة في الخير، وشوقاً إلى كرامة الرب، ووجلاً من العقوبات، وزجراً عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان، ويحصل به التوكل على الله وحده في جميع الأمور. ثم يتزين البدن بالأعمال الظاهرة وأعلاها أداء حقوق الله بالعبادة وأعظمها الصلاة، وأداء حقوق العباد وأعلاها الزكاة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 3]. فهذا أثر الإيمان على البدن عبودية تامة، وطاعة تامة. فهؤلاء هم المؤمنون حقاً .. لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان .. وبين الأعمال الباطنة والظاهرة .. وبين العلم والعمل .. وبين أداء حقوق الله وحقوق عباده: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 4]. فهذا ثواب المؤمنين حقاً: درجات عالية عند ربهم .. بحسب علو أعمالهم .. ومغفرة لذنوبهم .. ورزق كريم .. وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته .. مما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر. والمسلم وإن لم يصل إلى درجة هؤلاء في الإيمان يدخل الجنة، ولكن لا ينال ما نالوا من كرامة الله التامة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. إن الإيمان ليس كلمة يقولها اللسان .. ومن ورائها واقع يشهد شهادة عملية ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي .. ولكنه ما وقر في القلب .. وصدقه العمل.

فمتى يترفع المسلم عن هذا الخلط والتناقض والعبث: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]. إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان، وهي في الوقت ذاته أعلى مقام يبلغه الإنسان بتوفيق الله له، وإنه لمقام كريم يرتفع إليه الإنسان في هذه الحياة وبعد الممات. إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه. إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى. يقعون فوراً عبيداً لهواهم وشهواتهم، فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع الإنسان من بين سائر الأنواع. وينحدرون في سلم الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين، بعد أن كانوا بشراً مكرمين. وكذلك يقعون في شر العبوديات الأخرى وأحطها، يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم. ومن أضل ممن عرض عليه الهدى الموصل إلى الله وإلى دار كرامته فلم يلتفت إليه، ودعاه هداه إلى الطرق الموصلة للهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى؟. ومن أظلم ممن جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى فاتبعوه، وسدوا على أنفسهم أبواب الهداية، وفتحوا عليهم أبواب الغواية؟. {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. إن الإيمان الحقيقي المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية

من اليأس الكافر في الشدة كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء. وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء، ويربطه بالله في حاليه. فلا يتعالى ويتنفج عندما تغمره النعماء .. ولا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء .. بل يشكر عند السراء .. ويصبر عند الضراء .. وفي كل خير. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). إن الإيمان الحقيقي يجعل الفرد أمة يقف لأعتى أمة. فهذا هود - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نصح لقوم عاد، ودعاهم إلى الله فلم يؤمنوا، وقف في وجوههم في حسم كامل، وفي تحدّ بين، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة بربه الذي آمن به، فقال بعد إصرار قومه على الكفر: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 - 56]. فنواصي جميع الخلق بيده، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلو اجتمعتم كلكم على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي لم تقدروا، فإن سلطكم فلحكمة أرادها. إن أصحاب الدعوة إلى الله، وأهل الإيمان في كل زمان ومكان، في حاجة أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر العزيز، رجل واحد لم يؤمن معه إلا القليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة، وأشدهم قوة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2999).

يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15]. فهؤلاء العتاة الجبارون تودد إليهم هود - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)} [الشعراء: 125 - 127]. فلما تبين له عنادهم وإصرارهم على الكفر، ومحادة الله ورسوله، والاستهتار بالوعيد، والجرأة على الله، وقف لهم هذه الوقفة الباهرة، لأنه مؤمن يعلم أن ربه معه، وهو الذي أرسله. ويعلم أن أولئك الجبارين إنما هم من الدواب التي ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها، فأنى تضره؟. وماذا تملك هذه الدواب أمام قوة العزيز الجبار؟. إن الله أهلكهم بما يحتاجون إليه، ولا يستغنون عنه لحظة، إنه الهواء الذي أرسله عليهم، فعاقبهم الله بريح شديدة، عقوبة تناسب قوتهم التي اغتروا بها. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16]. فدمرتهم وأهلكتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. إن المؤمنين حقاً هم الذين يجدون حقيقة ربهم في نفوسهم، ويشعرون أنه معه، وأنهم يرونه وهو يراهم. وبهذا الإحساس والشعور يملكون أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، أمام القوى المادية كلها: قوة المال .. وقوة الصناعة .. وقوة العلم البشري .. وقوة الأنظمة والأجهزة .. وقوة الخبرات والمخابرات. يقفون أمام هذه القوى، ويرونها حقيرة ضعيفة هزيلة، وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة، وأن الناس كل الناس وما صنعوا إن هم إلا دابة من الدواب المملوكة لله، بل كل ما في السموات والأرض عبيد لله لا يملكون

لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، وهم جميعاً في قبضته: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. إن العهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان. والميثاق الأكبر الذي تجتمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد: 19 - 22]. أما جزاء الوفاء بالعهد والميثاق فهو: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23 - 24]. وعهد الإيمان قسمان: قديم .. وجديد. قديم مع الفطرة البشرية، فكل مولود يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172]. ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان، ولكن ليجددوه ويذكروا به، ويفصلوه ويبينوا مقتضياته، من الدنيوية لله وحده، والإعراض عما سواه، مع العمل الصالح، والسلوك الحسن، والتوجه بكل ذلك إلى الله وحده كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والإيمان هو النور الذي تخرج به البشرية من الظلمات إلى النور بإذن ربهم على

أيدي الأنبياء والرسل كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]. إن الجاهلية كلها ظلمات .. ظلمات الوهم والخرافة .. ظلمات الإوضاع والعادات .. ظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة .. ظلمات الأخلاق السيئة .. ظلمات القهر والظلم .. ظلمات الرعب والخوف. ولا بدَّ من إخراج البشرية من هذه الظلمات، إلى نور الإيمان الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم النفس .. وفي عالم القلب .. وفي عالم الفكر .. ثم يكشفها في واقع الحياة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو فضل على العالمين: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16]. إن الإيمان بالله نور يشرق في القلب، وتشرق به أعضاء الإنسان كلها، وتشرق به النفس، ثترى الطريق واضحة إلى الله، لا يشوبها غبش الشهوات والأوهام، ولا ضباب الخرافات والأطماع. ومتى رأت الطريق واضحاً سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب، ولا تتردد ولا تحتار. والإيمان بالله نور تشرق به الحياة، فإذا الناس كلهم إخوة متساوون، تربط بينهم آصرة واحدة، يدينون كلهم لله دون سواه، وهم مع الكون ومن فيه في أمن وسلام، وعدل وإحسان، وراحة واطمئنان، فالله الذي خلق الكون، وهو الذي يدبره بأمره، ودينه الذي يحكم الوجود، وشريعته التي تحكم الحياة، فالنور المشرق في ذات النفس هو النور المشرق في ذات الكون. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك ولا تخطئ التصور ولا تخطئ السلوك، فهي على صراط مستقيم فأنى تضل؟.

{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101]. أما الذين نقضوا عند الله من بعد ما أكده على أيدي رسله، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض والنقض، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل. فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام، ولا أدوا الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي والصد عن سبيل الله. فأي جرم فوق هذا؟، وأي ضلال بعد هذا؟. وماذا ينتظر هؤلاء من اللعنة والعقوبة؟. {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. إن استحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان، ويتعارض مع الاستقامة على الصراط، وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة. لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلاً، ويراعى فيه وجه الله. والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض، باستعمارها والاستفادة من خيراتها، فلا تعطيل للحياة في الإسلام انتظاراً للآخرة. ولكن تعمير الحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله والاستعانة بها على أداء أعمال الآخرة هذا هو الإسلام. أما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلا يصلون إلى غاياتهم في ظل نور الإيمان بالله، ومن ثم يستأثرون بثروات الأرض، ويكسبون الحرام والخبيث، ويستغلون الناس ويغشونهم ويستعبدونهم. ولا يمكنهم الحصول على هذا في ظل نور الإيمان، وفي ظل الاستقامة على هداه، ومن ثم يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً، لا استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلح هؤلاء في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله فعندئذ فقط

يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا، وأن يغروا الناس بالفساد، فيتم لهم بذلك الحصول على ما يبغونه من النهب والفساد والكسب الحرام، والمتاع المرذول، والكبرياء في الأرض، وتعبيد الناس لغير الله. وكم لله من حكمة في ابتلاء هؤلاء بهؤلاء؟ .. وتسليط هؤلاء على هؤلاء؟. وقد توعد الله هؤلاء الكفار بقوله سبحانه: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} [إبراهيم: 2، 3]. وقد وعد الله المؤمنين بالفلاح في الدنيا والآخرة، وعد الله لا يخلف الله وعده. فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد؟. ومن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم الخير والنصر، والسعادة والتوفيق، والمتاع الطيب في الأرض؟. ومن هم المؤمنون المكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟. ومن هم المؤمنون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟. ما وصفهم؟، وما هي صفاتهم؟، وبماذا وعدهم الله؟. إنهم الذين قال الله تعالى فيهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11]. أول صفة لهؤلاء المؤمنين أنهم في صلاتهم خاشعون، تستشعر قلوبهم رهبة الموقف بين يدي الله في الصلاة فتسكن وتخشع، ويسري الخشوع منها إلى

الجوارح، ويغشى أرواحهم جلال الله، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه، فهم مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم عند مناجاة ربهم كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة. فتتصل هذه الروح بخالقها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه فيسكن إلى ربه ويطمئن إليه، ويتلذذ بمناجاته. والصفة الثانية: الإعراض عن اللغو كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} [المؤمنون: 3]. فهم معرضون عن كل لغو، لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن قلب المؤمن له ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر واللعب. وله ما يشغله من ذكر الله وتصور جلاله، وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وله ما يشغله في تكاليف العقيدة من تطهير القلب وتزكية النفس، وتكاليفها في السلوك والثبات على الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها، وحمايتها من كيد الأعداء. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه، وأمانة في عنقه. والصفة الثالثة: أداء الزكاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} [المؤمنون: 4]. والزكاة فيها طهارة القلب والمال، طهارة القلب من الشح، والاستعلاء على حب الذات، والانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وهي طهارة للمال تطهره من الأوساخ، وتجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالاً.

وهي صيانة للأمة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب .. والترف في جانب آخر. والصفة الرابعة: حفظ الفروج كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6]. وفي هذه طهارة الروح والبيت والجماعة، ووقاية النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة المحرمة، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير الحلال، وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب. والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد، وهي جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية. والله عزَّ وجلَّ ينظم الدوافع الفطرية عند الإنسان في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل معها الأطفال من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه، لا كالحيوان الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء؟. والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة، وهي الزوجات، وملك اليمين. فمن تجاوزها إلى غيرها فقد عدا الدائرة المباحة ووقع في المحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس البشرية لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح. ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان. وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا وهناك. فأي فساد وخراب للبلاد والعباد فوق هذا؟. الصفة الخامسة: حفظ الأمانات والعهود كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8].

فهم يرعون الأمانة الكبرى، فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها. فتظل قائمة بأماناتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، ثم تأتي سائر الأمانات في عنق الفرد، في عنق الجماعة، في عنق الأمة. والعهد الأول هو عهد الفطرة الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان به وتوحيده، وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته. والأمة المسلمة مسئولة عن أماناتها العامة، ومسئولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات. وما تستقيم حياة الأمة إلا أن تُؤدَى فيها الأمانات، وتُرعى فيها العهود. الصفة السادسة: المحافظة على الصلاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون: 9]. فهم على صلاتهم يحافظون، فلا يفوتونها كسلاً ولا يضيعونها إهمالاً، ولا يقصرون في إقامتها، إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وتستقيم الجوارح. وقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بها، للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوضعها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله. فهذه صفات المؤمنين المكتوب لهم الفلاح، وهذا نوع الحياة التي يعيشونها .. تلك الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله .. وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر للبشر، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق إلى الغاية المقدرة لهم في الآخرة، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والاستقرار بلا زوال، والنعيم بلا شقاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ

فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10، 11]. والإيمان يزيد وينقص، وكلما زاد الإيمان في القلب، ازدادت الطاعات، وزاد الخوف والخشية في قلوب المؤمنين كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 - 61]. فهؤلاء المؤمنون مشفقون من ربهم، وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به، وهم ينهضون بتكاليف الدين وواجباته، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا، ولكنهم بعد هذا كله قلوبهم وجلة لإحساسهم بالتقصير في حق الله بعد أن بذلوا ما في طوقهم وهو في نظرهم قليل؛ لأن ما يجب لله أعظم. إن قلب المؤمن يشعر بفضل الله عليه ومنته في كل آن .. ويحس آلاءه في كل نفس .. وفي كل حركة .. ومن ثم يستصغر كل عباداته .. ويستقل كل طاعاته .. إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله. ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشعر بالحياء، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه. لم يوف ربه حقه عبادةً وطاعةً، ولم يقارب أياديه عليه معرفةً وشكراً. وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها لما عرفوا قدرها وثمنها، ومن ثم ينالونها في الطليعة بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة. وكلما كان القلب ندياً بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة الإيمان، وأدرك من معاني القرآن وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف. واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف.

وجميع النظم والشرائع، والآداب والسنن التي يتضمنها هذا القرآن إنما تقدم قبل كل شيء على الإيمان. فالذي لا يؤمن بالله، ولا يتلقى القرآن على أنه وحي من الله لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي، ولا يسر بما فيه من بشارات. إن في القرآن كنوزاً ضخمة من الهدى والمعرفة، والحركة والتوجيه، والآداب والسنن، والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز، ولا يمكن أن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9]. والذين آمنوا حق الإيمان حققوا المعجزات بهذا القرآن. أما حين يكون القرآن كتاباً يترنم المترنمون بآياته، تستلذ بها الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فحينئذ لا ينتفع به أحد، ويظل كنزاً بلا مفتاح كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. إن الإيمان أعظم نعمة أنعم الله بها على البشرية فمنهم من قبلها، ومنهم من ردها، والإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس آمنّا، بل لا بد أن يتعرضوا للفتنة، ليخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به. وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، وهذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية لا تتبدل في ميزان الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]. والله تبارك وتعالى يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مستور عن علم البشر.

فيحاسب الله الناس على ما يقع من عملهم، لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهذا فضل من الله في جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذون أحداً إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة ما في قلبه. إن الإيمان بالله أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، الذين يؤثرونها على كل شيء. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة، فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله، يضطلع بها الناس، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على البلاء. وما يستوي عند الله الإيمان والكفر، ولا المؤمنون والكفار، ولا الأبرار والفجار، فلكل فكر، ولكل عمل، ولكل علامة، ولكل جزاء. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 18 - 20]. إن بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة صلة، كما أن بين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة كما قال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} [فاطر: 19 - 22]. إن الإيمان نور في القلب، ونور في الجوارح، ونور في الحواس، نور يكشف حقائق الأشياء والقيم، وينسبها إلى خالقها ومدبرها ومالكها وهو الله، فالمؤمن ينظر بهذا النور. أما الكفر فهو عمى في القلب، يعمي عن رؤية دلائل الحق، وعمى عن رؤية

حقائق الوجود، وحقائق الأشياء والقيم. والإيمان بصر يرى رؤية حقيقية صادقة، ويمضي بصاحبه في الطريق على نور مبين، والكفر ظلمات، وكلما أبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع، تعز فيها الرؤية لشيء من الحق. والإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس، ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل. والكفر هاجرة حرور تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق، وعدم الاستقرار على هدف، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير، ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك. والإيمان فيه حياة القلوب والمشاعر، وهو حياة في القصد والاتجاه، وهو حركة بانية مثمرة قاصدة لا خمود فيها ولا همود. والكفر موت في الضمير، وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل، وانفصال عن الطريق الواصل، وعجز عن الانفعال والاستجابة. ولكل طبيعته .. ولكل عمله .. ولكل جزاؤه .. ولن يستوي عند الله هذا وهذا: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 20]. والإيمان يذكر الإنسان دائماً بالنعم الكبرى التي سخرها الله له في هذا الكون، ويذكره بالمنعم الوهاب، ومن ثم يوجهه إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعم، وشكر المنعم، وتذكره بالله كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة. فسبحان المنعم الذي خلق كل شيء، وتفضل على عباده بكل شيء: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. والمؤمن هو الذي ينسب النعم كلها للمنعم سبحانه، ويعلم أنه ليس بقادر على

مقابلة نعم الله بمثلها، وأنه لا يملك إلا الشكر مقابل النعم. والأدب الواجب في حق المنعم أن المؤمن كلما استمتع بنعمة من نعم الله التي تغمره والتي يتقلب في أعطافها كل حين أن يذكر ربه حامداً له مثنياً عليه، ليبقى القلب موصولاً بربه، ذاكراً عابداً خاشعاً شاكراً في جميع أحواله. وهذا الشعور كفيل باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة تامة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله، ولا تخمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان، فمع كل نعمة ذكر للمنعم وثناء عليه: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 12 - 14]. وهذا الكون مملوء بالنعم التي لا يحصيه أحد إلا الله، وكلها مسخرة للعباد، فينبغي لهم أن يملأوا جميع أوقاتهم بذكر المنعم، وحمده وشكره على نعمه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 41 - 43]. والله غفور رحيم، فمن لم تستقر حقيقة الإيمان في قلبه، ولم تشربها روحه، فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح صدر منهم لا يُنقِص منه شيئاً. فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيماناً حقيقياً. هذا الإيمان يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة، فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار التي لم تُبنْ على أساس، ولا ينقص من أجرها شيء ما بقوا على الطاعة والاستسلام كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [الحجرات: 14]. ذلك أن الله جواد كريم .. غفور رحيم .. يقبل من العبد أول خطوة .. ويرضى منه

الطاعة والتسليم .. إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة .. إن الله غفور رحيم. إن حقيقة الإيمان هي تصديق القلب بالله ورسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. إن القلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه لا بد أن يندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس. يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة. ولا يطيق الصبر على التفريق بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله، لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة. ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس هو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن، يريد أن يحقق به الصورة الوضيئة التي في قلبه ليراها ممثلة في واقع الحياة، لتكون كما يريده الله ورسوله. إن الخصومة بين المؤمن .. وبين الحياة الجاهلية من حوله .. إنما هي خصومة ذاتية .. ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني .. وواقعه العملي. وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم .. في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن. إنه لا بد للقلوب المؤمنة أن تنتبه إلى مزالق الطريق وأخطار الرحلة، لتعزم أمرها وتستقيم، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق، ويظلم الجو، وتعصف بها العواصف والرياح. وموحيات الإيمان وموجباته متفاوتة في خلقه حسب أحوالهم وما يرونه، وما

يعلمونه من الدلائل، ومنازلهم في الآخرة متفاوتة بحسب ذلك. والله عزَّ وجلَّ ينادي المؤمنين ويأمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ظاهره وباطنه، وأصوله وفروعه، ويعدهم على ذلك كفلين من رحمته لا يعلم قدرهما إلا الله تعالى، أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28]. إن الإنسان إنسان مهما وهب من النور، إنسان مهما عمل، إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق، إنسان يحتاج إلى المغفرة .. فتدركه رحمة الله .. والله غفور رحيم. وحقيقة الإيمان الذي أرسل الله به رسله إلى عباده هو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد به العبد أن كل ما يصيبه من خير وشر فهو بإذن الله، وهي حقيقة لا يكون إيمانٌ بغيرها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بما فيها من خير وشر. وهذا ما ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن، فيحس يد الله في كل حدث، ويرى أمر الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من السراء والضراء، فيشكر للأولى، ويصبر للثانية، وينال بذلك مراتب الصابرين الشاكرين. وقد يتسامى حسب إيمانه إلى آفاق فوق هذا .. فيشكر الله في السراء والضراء .. إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته .. بالتنبيه والتذكير له .. أو تكفير سيئاته .. أو رفعة درجاته .. أو ترجيح ميزان حسناته .. فيرى الخير في هذا وهذا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ

خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). فالمؤمن يؤمن بقدر الله، ويسلم له عند المصيبة، ويتيقن أنه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11]. والذي يؤمن بالله يهدي قلبه هداية مطلقة، ويفتحه على الحقيقة اللدنية، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها، ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، فهي هداية إلى شيء من علم الله يمنحه لمن يهديه حين يصح إيمانه، فيستحق هذا التكريم. ومن لم يؤمن بالله عند ورود المصائب فإن الله يخذله ويكله إلى نفسه، والنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة. إن الإيمان بالله حقيقة شهد بها الوجود كله والخلائق كلها .. فكل خليقة من خلائق الله حية ذات روح من نوعها .. وكل خليقة تعرف ربها الذي فطرها وتسبح بحمده .. وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه .. وتتغيظ لهذا الجحود المنكر .. الذي تنكره فطرتها .. وتنفر منه روحها .. فالله عزَّ وجلَّ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. وذلك يدل على حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه، وتسبيح كل شيء بحمده، ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر، ويشذ عن هذا الموكب. وتحفز هذه الخلائق الساكنة الصامتة، للانقضاض على الإنسان الكافر في غيظ وحنق، كالذي يطعن في عزيز كريم عليه، فيغتاظ ويحنق، ويكاد من الغيظ يتمزق، كما هو حال جهنم وهي تستقبل الكفار والعصاة: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 7، 8]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2999).

ونار جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها فترتفع أنفاسها في شهيق وهي تفور، ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ لما تنطوي عليه من بغض وكره الكفار والمنافقين والعصاة. وقد حكى الله عزَّ وجلَّ دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها بقوله سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 90 - 93]. ألا ما أقبح الكفر بالله، وما أنجس أهله وأقذرهم .. وما أركسهم في الغي والضلال. إن النفس التي تكفر بالله تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة، صورة بشعة منكرة جهنمية، صورة قبيحة لا يماثلها شيء في الكون. فكل شيء روحه مؤمنة، وكل شيء يسبح بحمد ربه، ما عدا هذه النفوس الشاذة عن موكب الإيمان، الآبدة الشريرة، الجاسية النفور. فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود، إنها تتزود إلى جهنم المتغيظة المتلمظة الحارقة. وقد كشف الله تبارك وتعالى عن صورة الإنسان عند خلو قلبه من الإيمان بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21]. فالإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان يكون هلوعاً جزوعاً منوعاً، فهو جزوع عند مس الشر يتألم للذعته، ويجزع لوقعه، ويحسب أنه دائم لا كاشف له. فلا يتصور أن هناك فرجاً، ولا يتوقع من الله تغييراً، ومن ثم يأكله الجزع، ويمزقه الهلع. ذلك أنه لا يأوي إلى ركن يشد من عزمه، ويعلق به رجاءه وأمله.

منوعاً للخير إذا قدر عليه يحسب أنه من كده وكسبه، فيضن به على غيره، ويحتجزه لنفسه، ويصبح أسير ما ملك منه، مستعبداً للحرص عليه، لا يدرك حقيقة الرزق ولا يعرف الرازق، ولا يطلع إلى خير منه عند ربه، وهو منقطع عنه، خاوي القلب من الشعور به. فهو هلوع في الحالتين: هلوع من الشر .. هلوع على الخير. وتلك صورة بائسة للإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان، فهو دائماً في قلق وخوف. سواء أصابه الشر فجزع، أو أصابه الخير فمنع. فأما حين يعمر قلبه بالإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية، لأنه متصل بخالق الكون ومدبر الأحوال مطمئن إلى قدره، شاعر برحمته، مقدر لابتلائه، متطلع إلى فرجه، منتظر لإحسانه، عالم أنه ينفق مما رزقه الله، وأنه سيجزيه على ما أنفق في سبيله، معوض عنه في الدنيا والآخرة. فالمؤمنون لا يصيبهم الجزع ولا الهلع، وقد أعطاهم الله الصلاة، فالصلاة فوق أنها ركن من أركان الإسلام وعلامة الإيمان هي وسيلة الاتصال بالله، ومظهر العبودية الخالصة، وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة للتعظيم والحمد، والسؤال والاستغفار، وتقديم التحيات كل يوم للعزيز الجبار. فكلٌّ هالك خاسر: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 22، 23]. وهؤلاء المؤمنون كما يؤدون الصلاة التي تصلهم بربهم، يؤدون الزكاة والصدقات المعلومة القدر، ويجعلون في أموالهم نصيباً معلوماً يشعرون أنه حق للسائل والمحروم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25]. ومن صفاتهم أنهم يصدقون بيوم الدين شطر الإيمان، وهو ذو أثر حاكم في

منهج الحياة شعوراً وسلوكاً: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} [المعارج: 26]. فالذي يصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا، ويتقبل الأحداث خيرها وشرها، وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها يوم القيامة. ويقضي حياته مطيعاً لربه، منتظراً جزاءه يوم يلقاه. أما المكذب بيوم الدين فلا يعرف إلا الدنيا، فهو يحسب كل شيء يقع له في هذه الحياة القصيرة المحدودة، فهو بائس مسكين، معذب قلق، لأن ما يقع له في هذه الحياة الدنيا قد لا يكون مطمئناً ولا مريحاً ولا عادلاً ولا معقولاً ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر، وهو أكبر وأطول وأهول، ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة. ومن صفاتهم أنهم يقضون أوقاتهم يراقبون ربهم، ويشعرون بالتقصير في جناب الله مع كثرة عبادتهم، والخوف من تلفت القلب، واستحقاقه للعذاب في كل لحظة، والتطلع إلى الله ليحميهم ويقيهم العذاب: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} [المعارج: 27، 28]. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائم الحذر دائم الخوف، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة إلا بفضل الله ورحمته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). إن القلب المؤمن الموصول بالله يحذر ويرجو، ويخاف ويطمع، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال، منتظر لكرامته في الدنيا والآخرة. إن الإيمان بالله هو أصل الدين الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (2816) واللفظ له.

وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة. وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال لتسير في طريق واحد، لها منبع واحد، ودافع معلوم، وهدف مرسوم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53]. والقرآن يهدر كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشد إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج. فلا قيمة لعمل مهما كان ومهما كثر ومهما ظن الناس فيه خيراً ما لم يستند إلى الإيمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39]. والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، وهو الحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب. فلا يمكن أن يظل الإيمان خامداً لا يتحرك، كامناً لا يظهر في صورة حية خارج ذات المؤمن. فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت أو معلول. فالإيمان يولد العمل الصالح فوراً. ويخنق كل عمل فاسد .. ويطرد كل خلق سافل. فمثلاً إذا عرفت الله، وآمنت به، بادرت إلى فعل ما يحب واجتناب ما يكره. وإذا دخل عليك من يعطيك مالاً، ودخل عليك من يأخذ منك صدقة فبأيهما تفرح؟. فصاحب الدنيا يفرح بمن يعطيه مالاً، والمؤمن يفرح بمن يأخذ منه الصدقة، فالذي يعطيني مالاً يعطيني الدنيا، والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة، ويحمل زادي إلى الآخرة بغير أجر: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالََ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا» أخرجه الترمذي (¬1). والكلمة غير الطيبة تفسد الصدقة، فالذي يتبع الصدقة بالأذى ليست وجهته الآخرة، وليس إيمانه كاملاً. إذ كيف يهين ويؤذي من جاء يحمل حسناته إلى الآخرة بغير أجر؟. أيأتي إنسان يحمل زادي موفوراً إلى الآخرة فأهينه وأوذيه؟. أيكون هذا إيماناً؟ .. هذا لا يكون أبداً. الإيمان يدعوني لأكرمه والترحيب به، وأفرح به، لأنه سيؤدي لي خير ما في الدنيا من الحسنات بلا أجر، ولذلك أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إلى الأيتام والفقراء ومواساتهم بحسن الكلام وأجمل المال كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 9 - 11]. والله عزَّ وجلَّ لا يريد قوالب تخضع ولكنه يريد قلوباً تخشع، لأن إخضاع القالب يمكن أن يأتي بالرغم منه، فقد تكره على فعل شيء وأنت لا تحبه فتفعله. والقلب هو المنطقة الحرة التي خلقها الله في الإنسان، ولا تستطيع قوة في الأرض مهما كانت أن تقهرها على فعل شيء من حب او بغض أو غيرهما من أعمال القلوب، فما في القلب ملك خاص بصاحبه فقط. فقد يكرهك إنسان فتتظاهر له بالحب، ولكن قلبك يظل يكرهه ويرفضه، وقد تتظاهر لإنسان بالخضوع، ولكن قلبك يمقته، ولذلك أذن الله للجوارح بالمخالفة عند الإكراه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2470)، صحيح سنن الترمذي رقم (2009).

والإكراه في هذه الحالة إكراه للقالب وليس للقلب، فلا إثم فيه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، فالله راضٍ ولو أجبر القالب على غير ذلك، وقد أسقط الله الحساب عن كل من أكره قالبه على شيء وقلبه يرفضه. وكل ما في الحياة هو اختبار إيماني في العبادة، قد جعله الله اختباراً للبشر ليفضلهم على سائر مخلوقاته، ويجزيهم عليه جزاءً كبيراً. وإذا كان الله سبحانه قال عن الإنسان: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فتلك الخلافة هي ذلك الاختبار الإيماني .. الذي يمر به كل إنسان .. هل يتبع منهج الله في حياته أم يخالفه؟. فالله له أوامر .. والنفس لها أوامر .. والإيمان هو الذي يدفع الإنسان لتقديم أوامر الله على محبوبات النفس. وفي كل لحظة ينزل من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله من الأوامر، ومن ذات الإنسان تخرج الأفعال، فإذا طابقت أفعال الإنسان مراد الله، وهو ما جاء في شرعه، سميت تلك الأعمال صالحة، يرضى به الرب، ويثيب عليها الجنة. وإذا خالفت أفعال الإنسان مراد الرب، فتلك الأعمال غير صالحة، وهي السيئات التي تغضب الرب، ويعاقب عليها بالنار. فالإيمان والإحسان واليقين أعلى الدرجات التي يصل إليها الإنسان في هذه الحياة. والكفر والشرك، والظلم والفسوق، أسفل الدركات التي ينحط إليها الإنسان في هذه الحياة. والله تبارك وتعالى يغفر كل شيء من الذنوب إلا الشرك كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. ويغفر سبحانه ذنوب المؤمنين المسرفين على أنفسهم مهما كانت كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ

الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. والشرك بالله ليس ذنباً فقط .. بل هو فوق الذنوب جميعاً .. فالذنب يقتضي أن تكون مؤمناً بمنهج وخالفته، ولكن الشرك هو عدم إيمان بالمنهج أصلاً. فلفظ الذنب لا ينطبق على المشرك، لأن المشرك ليس مؤمناً بمنهج الله. وشرط الذنب الذي يغفره الله أن يكون هناك إيمان ومخالفة، ثم ندم وتوبة، والكافر والمشرك لا يندم ولا يتوب، لأنه لا منهج له، فإذا مات على ذلك فليس له عند الله إلا النار: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وأساس الدين وأصله وقاعدته التي بني عليها هو الإيمان بالله عز وجل، واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده. وجميع الأعمال والعبادات مبناها وقبولها مبني على هذ الأصل العظيم. فإذا حصل للعبد هذا الإيمان جاءت عنده قوة الطاعات، وقوة الرغبة في امتثال أوامر الله، وحلاوة مناجاة الله. وبذلك يرضى الله عزَّ وجلَّ، وتصلح أحوال الأمة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وإذا ضعف هذا الإيمان ونقص، ضعفت الأعمال والعبادات، وساءت الأخلاق، فكثرت المعاصي، وقلت الطاعات، فساءت الأحوال، وجاءت المصائب نقداً: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وحتى يأتي الإيمان في حياتنا ويزيد لا بد من العلم بأمور: الأول: أن نعلم ونتيقن أن خالق كل شيء هو الله وحده لا شريك له: فخالق

العرش والكرسي هو الله .. وخالق السماء والأرض هو الله .. وخالق الشمس والقمر هو الله .. وخالق النجوم والكواكب هو الله .. وخالق البحار والجبال هو الله .. وخالق الإنسان والحيوان والجماد والنبات هو الله .. وخالق الجنة هو الله .. وخالق النار هو الله .. وخالق الدنيا والآخرة هو الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. نتكلم بذلك، ونسمعه، ونفكر به، ونذكر الخالق في كل وقت، وننظر في الآيات الكونية والآيات القرآنية نظر اعتبار وتفكر حتى يرسخ الإيمان في قلوبنا، وقد أمرنا الله بذلك كما قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. فكما نستخدم الإنسان كله لتحصيل المال كذلك نستخدم طاقات الإنسان كلها لتحصيل الإيمان: فكر ونظر .. وعلم وعمل .. وعبادة ودعوة. الثاني: أن نعلم ونتيقن أن الله عزَّ وجلَّ خلق جميع المخلوقات، وخلق فيها الأثر، فخلق العين وخلق فيها الأثر وهو البصر، وخلق الأذن وخلق فيها السمع، وخلق الشمس وخلق فيها الأثر وهو النور، وخلق النار وخلق فيها الأثر وهو الإحراق، وخلق الشجر وخلق فيها الأثر وهو الثمر، وخلق الإنسان وخلق فيه الأثر وهو العمل وهكذا .. فالله خالق كل شيء: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]. الثالث: أن نعلم ونتيقن أن الذي يملك جميع المخلوقات ويتصرف فيها ويدبرها هو الذي خلقها وهو الله وحده لا شريك له. فكل ما في العالم العلوي ومافي العالم السفلي من الخلائق كلهم عبيد لله فقراء إلى الله، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

فالله مالكهم .. وهم محتاجون إليه .. وهو غني عنهم. وهو سبحانه الذي يصرف الكون، ويدبر جميع أمور خلقه، فالذي يتصرف في السموات والأرض، وفي البحار والجبال، وفي النبات والحيوان، وفي الملائكة والإنس والجن، وفي الرؤساء والوزراء، وفي الأغنياء والفقراء، وفي الأقوياء والضعفاء وغيرهم هو الله وحده لا شريك له الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهو سبحانه الذي يتصرف بحكمته وعلمه وقدرته كيف يشاء. فقد يخلق الشيء ويسلب أثره بقدرته، فقد توجد العين ولا تبصر، والأذن ولا تسمع، واللسان ولا يتكلم، والدماغ ولا يعقل. والبحر يغرق بأمر الله، وقد يرفع الله عنه أمر الإغراق فلا يغرق. كما أنجى الله موسى وقومه من الغرق، وأغرق فرعون وقومه في بحر واحد، وفي آن واحد، وبأمر واحد. والنار تحرق بأمر الله، وقد يسلبها الله إذا شاء أمر الإحراق فتشتعل ولا تحرق كما حصل لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما ألقي في النار، فجاء أمر الله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. فالله على كل شيء قدير ينجي بأسباب الهلاك كما أنجى إبراهيم وموسى، ويُهلك بأسباب النجاة كما حصل لفرعون وقارون، لأنه المالك الذي يتصرف في الخلق كيف يشاء لا إله إلا هو الواحد القهار. والقلوب التي ضعف فيها الإيمان تتأثر بالشيء أكثر من خالق الشيء، فتتعلق بالشيء وتغفل عن خالق الشيء، وإذا قوي الإيمان تجاوزت المخلوق إلى الخالق، وتعدت الصور إلى المصور الذي خلقها وصورها. فدانت له بالطاعة والعبادة وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. الرابع: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأشياء عند الله وحده لا عند غيره، فكل

شيء في الوجود خزائنه عند الله: خزائن الطعام والشراب .. وخزائن الحبوب والثمار .. وخزائن المياه والبحار .. وخزائن الجواهر والأموال .. وخزائن النبات والأشجار .. وغير ذلك مما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله. فكل ما نحتاجه نطلبه من الله الذي يملك خزائنه، ونكثر من العبادات والطاعات لنحصل على رضاه، فهو سبحانه قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، وهو خير المسئولين وخير المعطين، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وخزائن الله مملوءة بكل شيء، والله غني عن كل شيء، والعباد محتاجون من الله كل شيء: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. الخامس: أن نعلم أن مصير الخلائق كلها إلى الله يوم القيامة، وأنهم سوف يعرضون على ربهم مع أعمالهم، فكل ما قالوه وكل ما فعلوه محفوظ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]. ومن ثم يصير أهل الإيمان والطاعات إلى الجنة .. ويصير أهل الكفر والمعاصي إلى النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون. فتذكر ذلك اليوم العظيم وأهواله .. ونتذكر البعث والحشر، والحساب والميزان .. والحوض والصراط .. ونتذكر عفو الله ورحمته .. ونتذكر غضبه وشدة عقوبته .. ونتصور الجنة ونعيمها .. ونتذكر النار وجحيمها. نتكلم ونسمع .. ونتأمل ونتفكر .. حتى يكون الغيب كالشهادة، ويكون اليوم الآخر ماثلاً أمامنا. وبذلك يزيد الإيمان وتنبعث الجوارح للطاعة والعبادة، ثم تسعد بالنعيم والرضوان: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا

يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. هذا بالنسبة للمخلوقات، أما بالنسبة للأحوال: فأولاً: نعلم ونتيقن أن الله له الخلق والأمر، وأنه وحده خالق جميع الأحوال من الغنى والفقر .. والصحة والمرض .. والفرح والحزن .. والأمن والخوف .. والحياة والموت .. والنور والظلام .. والحر والبرد .. والعزة والذلة .. والهداية والضلالة .. والسعادة والشقاوة .. فهذه وغيرها من الأحوال خلقها الله وحده. وثانياً: نعلم ونتيقن أن الذي يدبر الأمر ويصرف هذه الأحوال هو الله وحده لا شريك له. فلا يتبدل الفقر أبدً بالغنى إلا بأمر الله .. ولا يتبدل المرض بالصحة أبداً إلا بأمر الله .. ولا يتغير الحر بالبرد إلا بأمر الله .. ولا يأتي الليل ولا النهار إلا بأمر الله .. ولا تتبدل الذلة بالعزة إلا بأمر الله .. ولا يموت حي إلا بإذن الله .. ولا تهب ريح إلا بأمر الله .. ولا تنزل قطرة من السماء إلا بأمر الله .. ولا تتبدل الضلالة بالهداية إلا بأمر الله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فتأتي جميع الأحوال بأمره .. وتزيد بأمره .. وتنقص بأمره .. وتبقى بأمره، وتنتهي بأمره: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83]. فعلينا أن نطلب تغيير الأحوال ممن يملكها بالتقرب إليه وحده بما شرع: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) [آل عمران: 26، 27]. ثالثاً: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأحوال السابقة وغيرها عند الله وحده لا شريك له. فعلينا أن نطلب ما ينفعنا منها ممن يملك خزائنها وهو الله وحده لا شريك له. وهو سبحانه الغني، فلو أعطى الصحة أو الغنى أو غيرهما كل الناس، لم ينقص

ما في خزائنه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لا إله إلا هو الغني الحميد. عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! ِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). وقد مكن الله كل إنسان من الأخذ بأسباب الفوز والفلاح، والأسباب التي ليس فيها فوز ولا فلاح كالمال والجاه أعطى منها بعض الناس دون بعض. فالإيمان والأعمال الصالحة هي السبب الوحيد للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهي حق مبذول لكل أحد. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

وكذلك مكان الإيمان وهي القلوب أعطاها الله لكل أحد، ومكان الأعمال وهي الجوارح مملوكة ومسخرة لكل أحد. فمن في قلبه الإيمان وصدرت من جوارحه الأعمال الصالحة فاز في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. ومن كان في قلبه الكفر صدرت منه الأعمال السيئة فخسر في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162]. والقلوب مصادر الإيمان .. ولها مصرفان: مصرف للطاعة .. ومصرف للمعصية. والجوارح مصادر الأعمال .. ولها مصرفان: مصرف للطاعة .. ومصرف للمعصية. ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان بالله يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة ويتعلق قلبه بالفانية، ويعبد غير الذي خلقه وأحياه ورزقه. والمصيبة أن كثيراً من المسلمين بسبب ضعف الإيمان يقتدون بالكفار، والكافر أصم أبكم أعمى كما قال سبحانه عن الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 7]. وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171] وكل من سار خلف العمى ألقوه في الحفر والمزابل والمكاره. {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].

والواجب أن يقتدي المسلم بأهل الإيمان والتقوى من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. وبسبب ضعف الإيمان جاء الشك في الدعاء، فمنا من يسأل الله فإذا لم تقض حاجته توجه إلى أبواب المخلوق، ومنا من يسأل المخلوق فإذا أيس منه توجه إلى الله ليقضي حاجته .. وكل ذلك خطأ سببه ضعف الإيمان واليقين، وكلما ضعف الإيمان .. نقص الدين .. فتوجه الناس إلى غير الله. فقاضي الحاجات واحد لا شريك له، والذي تكفل بإجابة الدعوات والسؤالات واحد لا شريك له، وخزائنه مملوءة بكل شيء مما يسعد الإنسان وينفعه في الدنيا والآخرة، وهو حي قيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم يسمع ويرى: يجيب الداعين .. ويعطي السائلين .. ويغفر للمستغفرين. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ! وَمَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). فأين الداعون؟ .. وأين السائلون؟ .. وأين المستغفرون؟. والله سبحانه أعلم بمن يستحق العطاء ومن يستحق المنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وإذا أراد سبحانه أن يعطي جزيلاً أعطاه مباشرة، وإذا أراد أن يرزق أقل جعل لذلك سبباً وهو المخلوق والأسباب. فالعطاء الجزيل لأهل الإيمان والتقوى، والعطاء العام لكافة المخلوقات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وليس الإيمان كلمة تقال .. ولا مشاعر تجيش .. ولا شعائر تقام .. بل هو مع ذلك طاعة الله ورسوله في كل أمر ونهي كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32]. فالإسلام ليس مجرد المعرفة فقط .. ولا المعرفة والإقرار فقط .. بل المعرفة، والإقرار، والانقياد مع المحبة .. وطاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً. والمؤمن همه العلم والإيمان، وعبادة الله ومحبته، والإنابة إليه، والطمأنينة به، والسكون إليه، وإيثار ما يحبه ويرضاه، ويأخذ من الدنيا بقدر ما يستعين به على الوصول إلى فاطره، لا لينقطع به عنه. فمن آمن بالله واستقام على دينه .. وقام بحق الله وعبد الله في حال العسر واليسر .. وفي حال الشدة والرخاء .. كفاه الله كل ما يريد .. وحفظه من كل شيطان مريد: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)} [الزمر: 36]. فالكفاية التامة مع الإيمان التام والعبودية التامة .. والناقصة مع الناقصة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758) واللفظ له.

والعقود هي ضوابط الحياة التي أمر الله بها سبحانه، وفي مقدمتها عقد الإيمان بالله وتوحيده، ومعرفته بأسمائه وصفاته، والاعتراف بذلك لله عزَّ وجلَّ، ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والطاعة المطلقة، والاستسلام لله. هذا العقد أخذه الله على آدم - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وهو يسلمه مقاليد الخلافة. ثم تكرر هذا العقد مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم مع كل فرد كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172 - 173]. وعلى عقد الإيمان بالله والعبودية لله تقوم سائر العقود في كل أمر، وفي كل نهي، وفي كل عبادة، وفي كل معاملة، فكلها عقود ينادي الله بها الذين آمنوا أن يوفوا بها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1]. فالتحليل والتحريم في الذبائح .. وفي الأنواع .. وفي الأماكن .. وفي الأوقات .. كلها من العقود القائمة على عقد الإيمان بالله وحده. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا .. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان. اللهم إنّا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً متقبلاً. اللهم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران: 16]. اللهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].

1 - فقه الإحسان

1 - فقه الإحسان قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. الإحسان هو فعل الشيء الحسن، سواء كان المأمور به إحساناً إلى الناس، أو إحساناً إلى النفس. وقد رغب الله عباده في هذا وهذا بقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. وكلما كان العبد أكثر إحساناً إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريباً منه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]. وأعظم الإحسان: الإيمان بالله، وتوحيده، وطاعته، والإنابة إليه، وأن تعبد الله كأنك تراه. قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما الإحسان؟، قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (¬1). واختص أهل الإحسان برحمة الله، لأنها إحسان من الله، والإحسان إنما يكون لأهل الإحسان من خلقه، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم، أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]. ومعناه: هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن إليه ربه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50) واللفظ له، ومسلم برقم (9).

وقد أنعم الله على العباد وأحسن إليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر أن يحسن سبحانه إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه. وقد ندب الله المحسن الكريم عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق. وإذا عصم الله العباد من الذنوب فعلى من يتوب ويغفر، ويعفو ويصفح، ولو شاء الله ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يعصَ، ولكن حكمته تأبى ذلك. والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، يحسن إلى من أحسن إليه وإلى من أساء إليه، فالإحسان يطفئ نار العداوة والحسد والبغي. وكلما زاد عدوك أذىً وشراً وحسداً وبغياً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضربه المشركون حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (¬1). فقابل إساءتهم العظيمة إليه بأربع مقامات من الإحسان: عفوه عنهم عن حقه .. استغفاره لهم .. اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون .. استعطافه لهم بقوله قومي. وكل إنسان له ذنوب بينه وبين ربه يخاف عواقبها، ويرجوه أن يعفو عنها، ويغفرها له. ومع هذا لا يقتصر سبحانه على مجرد المسامحة والعفو حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. وإذا كان الإنسان يرجو هذا من ربه فما أجدره أن يعامل به خلقه ويقابل به إساءتهم، ليعامله الله هذه المعاملة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).

فالجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقاً. فانتقم بعد ذلك أو أعف، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان. ومن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. هذا مع ما يتعجله المحسن من ثناء الناس عليه، وكونهم معه على خصمه، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه مالاً ولا طعاماً. ولا بد للمحسن إلى عدوه وحاسده من إحدى حالتين: الأولى: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه. الثانية: وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته له، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه. والإحسان إلى الناس ومواساتهم بالمال له ثلاث مراتب: الأولى: أن تنزل أخاك المسلم منزلة عبدك فتقوم بحاجته من مالك، وتعطيه ابتداء، ولا تحوجه إلى السؤال. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك. الثالثة: وهي أعلاها أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه مرتبة الصديقين، ومنتهى درجات المتحابين. فإن لم تصادف نفسك في مرتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين.

والإحسان إلى الخلق نوعان: الأول: إحسان عام يستطيعه كل إنسان ببذل المال، وطيب الكلام. الثاني: إحسان خاص لا يستطيعه إلا خواص الخلق، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، خاصة من له حق كبير عليك كالأقارب والأصحاب، فمن أساء إليك منهم فقابل إساءته بالإحسان إليه. فإن قطعك فصِلْهُ .. وإن ظلمك فاعفُ عنه .. وإن حرمك فأعطِه .. وإن هجرك فطيب له الكلام .. وابذل له السلام .. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان .. حصلتْ فوائد عظيمة للطرفين. ولا يستوي عند الله ولا عند الخلق فعل الحسنات والطاعات التي يحبها الله، وفعل السيئات والمعاصي التي يبغضها الله، كما لا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم. بل ذلك كله مختلف في الذات والصفات والجزاء: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34]. فالنفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان إليه؟. ولا يصل إلى هذه الرتبة العالية إلا من صبر، وعرف جزيل الثواب، وامتثل أمر ربه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 35]. وكل ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فيه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق أن يحمد عليها لذاته. وجميع المخلوقات فيها إنعام على عباده يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه، وهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة على عظمة الله وقدرته، وما يحصل بها من الإيمان والعلم والعمل.

والعبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر، وداعي العلم بربه وآياته ومخلوقاته، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعظيم وإجلال من هو أكبر منها. والله عزَّ وجلَّ هو المنعم المحسن إلى جميع خلقه، فما بالعباد من نعمة فمنه وحده لا شريك له: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. وأفضل النعم وأجلها وأعظمها نعمة الإيمان والأعمال الصالحة. وما يصيب الإنسان نوعان: إن كان يَسُرهُ فهو نعمة بينة كالإيمان والأعمال الصالحة، والأهل والأموال والأولاد ونحوها. وإن كان يسوؤه فهو نعمة خفية كالمصائب والآلام، يكفر الله بها خطاياه، ويرفع بها درجاته، ويثاب بالصبر عليها، وفيها حكمة ورحمة لا يعلمها العبد. والنعمتان كلاهما إحسان من الله، وتحتاجان مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها. لكن لما كان في السراء اللذة ومن الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر ابتداءً لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون. وذنوب الإنسان من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره كذلك لما يحصل بها من الاعتبار: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]. ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، فإذا قضى الله بأن يحسن فهو مما يسره، وإذا قضى له بسيئة فهو إنما يستحق العقوبة إذا لم يتب. فإن تاب أبدلت حسنة، فيشكر عليها، وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها، فيصبر عليها، فيكون ذلك خيراً له.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). والله عزَّ وجلَّ يحب المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله، المحسنين إلى أنفسهم، المحسنين في جميع أعمالهم، ولمحبته لذلك أمر به فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. والله عزَّ وجلَّ يعطي على العمل الحسن الأجر الحسن، والدار الحسنى كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26]. وأحسن الناس وأسعدهم وأفضلهم هو المؤمن الذي استسلم لربه، وأحسن عبادته باتباع شريعته التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه، وجعلها طريقاً لخواص خلقه وأتباعهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. ومعية الله بالنصرة والتأييد والتمكين مع أهل الإيمان والصبر، وأهل التقوى والإحسان كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. وقد وعد الله كل من أحسن في عبادة الله، وأحسن إلى عباد الله بالثواب الجزيل كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)} [المرسلات: 41 - 44]. ومراتب الدين ثلاث: الإسلام .. والإيمان .. والإحسان. وكل مرتبة لها أركان، والإحسان أعلاها. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2999).

فالإسلام يمثل أعمال الجوارح .. والإيمان يمثل أعمال القلوب .. والإحسان إتقان تلك الأعمال، وحسن أدائها، مع كمال التوجه بها إلى الله. والإحسان في العبادة له مرتبتان: الأولى: أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، ورغبة ومحبة، وهذه أعلى المرتبتين. الثانية: إذا لم تعبد الله كأنك تراه فاعبده كأنه هو الذي يراك عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، معظم له ولأمره. والناس متفاوتون في هذه الرتب. فالحب لله يولد الشوق والطلب، والتعظيم يولد الخوف والهرب .. وفي هذا كمال العبودية لله .. وكمال الحب له .. وكمال التعظيم له .. وهذا هو الإحسان في عبادة الله سبحانه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22]. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ، فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قال: صَدَقْتَ. قال فَعَجِبْنَا لَهُ. يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قال: فَأخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال: صَدَقْتَ. قال فَأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسَانِ. قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (8).

والإحسان درجات، والمحسنون درجات، أفضلهم الأنبياء ثم أتباع الأنبياء. وكان الأغنياء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى الفقراء لإعطائهم الصدقات والزكاة، ولما فقدت الدعوة إلى الله قعد الأغنياء فجاء الفقراء إلى أبواب الأغنياء فحدث في المسلمين أربع آفات: الكبر في الأغنياء .. والذلة في الفقراء .. وشكوى الخالق إلى المخلوق .. وانشغال الخلق بطلب ما تكفل الله به عن أداء ما أمر الله به. وجاءت الذلة على المسلمين في أكثر بلاد الإسلام، ووقف أكثر الناس بأبواب المخلوقين ينشدون العزة والغنى عند الذليل الفقير، وتركوا باب الغني الحميد. والناس يتفاوتون في الأنس بالله، والأنس بغير الله. فالمؤمن أنسه بالله وطاعته وامتثال أمره ولذة مناجاته. فمن وجد أنسه بالله في الوحدة، وفقده بين الناس فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده في الخلوة وبين الناس فهو ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وبين الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس بنصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم. والراغبون ثلاثة أقسام: راغب في الله .. وراغب فيما عند الله .. وراغب عن الله. فالمحب راغب في الله .. والعامل راغب فيما عند الله .. والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه. ولا صلاح للقلب ولا نعيم له إلا بأن تكون رغبته إلى الله عزَّ وجلَّ وحده في جميع أحواله. ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه كل شر، وصانه من جميع الآفات، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره،

ومن كان لله كان الله له، ومن عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه، ويعينه على سفره إليه. وكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وأعقل الخلق من آمن بالله ورسوله ورغب فيما عند الله، وأسفههم من رغب عن ذلك كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130]. ومن رغب عن الله ونسيه فعقوبته أن ينساه الله، وينسيه حظ نفسه كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. وهذا تمام العدل من الرب بأن نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب لذتها وفرحها، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه وإحسانه. فقابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، فعدل فيهم: بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها .. وليس بعد تعطيل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به .. وتتألم بفوته غاية الألم. وإحسان الرب إلى الخلق لا يحيط به أحد، وأعظم إحسان الرب إلى عباده إنزال الوحي عليهم، وهدايتهم إلى الإيمان والتوحيد. وأعظم إحسان العبد إحسان العبودية لربه، بأن يعبده كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وإحسان العبد له ثلاث حالات: الأولى: إحسان إلى النفس بحملها على طاعة الله، والمسارعة إلى الخيرات، والأعمال الصالحة. الثانية: إحسان في عبادة الله بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الثالثة: إحسان إلى عباد الله تعالى، وذلك بإيصال جميع أنواع الخير لهم. وقد وعد الله المحسنين بالثواب الجزيل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120]. ومن أعظم الإحسان إلى الخلق تعليمهم ما ينفعهم في دينهم، وما يكون سبباً لنجاتهم في الدنيا والآخرة، من العلم بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، وتحذيرهم مسالك الشر والهلكات. وهي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباع الرسل، وبهذا كانوا أعظم الناس إحساناً إلى الخلق، لما يحملونه من الخير للبشرية، ولهم عليهم من المنّة والفضل ما لا يؤدي شكره أحد كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. والله سبحانه غني كريم يحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً. فهو لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، بل هو القوي العزيز، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة. لا يوالي سبحانه من يواليه من الذل كما يوالي المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحساناً ورحمةً ومحبةً لهم. وأما العباد فهم لفقرهم وحاجتهم يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إنما يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، أو معاوضة إحسانه، أو لتوقع حمده وشكره.

وكذلك هو إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم على هذا القصد فإنه فقير محتاج. فكل محسن إنما يحسن إلى نفسه في الحقيقة كما قال سبحانه: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. فالله سبحانه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه، فيربحوا هم عليه كل الأرباح التي مع كونها لا تخسر تضاعف لهم كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم: 44]. وقال الله سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. والله جل جلاله إذا أعطى عبده مالاً فإنما يريد منه أن يمتثل أمر الله فيه، وينفقه فيما شرعه الله، ويتحرى أفضل ما عنده فينفق منه، وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه. فالإنفاق تطهير للقلب، وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون. أما وجوه الإنفاق والإحسان: فقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها، وأباح له الطيبات من الرزق، وحثه على الانتفاع بها في غير إسراف ولا مخيلة. وعلم الله أن الإنسان يحب أول ما يحب أفراد أسرته الأقربين عياله ووالديه، فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم، ليعطيهم من ماله وهو راض، ويكفل أقرب الناس إليه. فأخذهم من القريب، أكرم لهم من أخذهم من البعيد، وفي ذلك إشاعة للحب

والسلام في المحضن الأول بمكافأة والديه على إحسانهم له، ورحمة صغاره وزوجه الذين هم أقرب الناس إليه. وعلم الله كذلك أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة، فسار به الرحمن الرحيم خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين. تساير عواطفه الفطرية .. وتقضي حاجة هؤلاء .. وتقوي أواصر الأسرة البعيدة: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 75]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» أخرجه الترمذي والنسائي (¬1). وعندما يفيض ما عند المسلم عن حاجة هؤلاء وهؤلاء بعد ذاته فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من البشرية، يثيرون بضعفهم، وحرج موقفهم عاطفة النخوة والرحمة فيه، وفي أولهم الفقراء من اليتامى والمساكين، ثم أبناء السبيل، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون. وهكذا، وهو في كل ذلك مأجور كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا». يَقُولُ: «فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ» أخرجه مسلم (¬2). ثم يربط الله هذا الإحسان وهذا الإنفاق بالأفق الأعلى فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي وفيما يفعل وفيما يضمر: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} [البقرة: 272]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (658)، صحيح سنن الترمذي رقم (531). وأخرجه النسائي برقم (2582)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2420). (¬2) أخرجه مسلم برقم (997).

وهؤلاء الذين أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا القول، وأحسنوا إلى أنفسهم، وأحسنوا إلى غيرهم، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم المؤدي إلى دار السلام. هؤلاء ماذا أعد الله لهم من النعيم والثواب الجزيل؟: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26]. فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة، وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف، والنجاة من هذا كله غنيمة وفضل من الله يضاف إلى ما سبق. والوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد والإحسان إليهما، والتضحية بكل شيء من أجلهم. وكما تمتص النابتة الخضراء كل شيء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق، وكل عافية، وكل جهد، وكل هم من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية عاجزة، وهما مع ذلك سعيدان. ولكن الأولاد سرعان ما ينسون هذا كله .. ويندفعون إلى الأمام .. إلى الزوجات والذرية .. ومن ثم يحتاج الأولاد إلى استجاشة وجدانهم بقوة .. ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف وهم الوالدان. ومن هنا يأتي الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله، يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله كما قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24]. والله تبارك وتعالى هو المحسن إلى عباده بصنوف النعم، وهو الذي خلق كل شيء، وكل ما خلقه الله يتجلى فيه الإحسان والإتقان.

فلا تجاوز ولا قصور .. ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص .. ولا إفراط ولا تفريط .. في حجم أو شكل أو وظيفة. كل شيء مقدر بحكمة، كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام، كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان. وكذلك الأعمال والأعمار، والأطوار والحركات كلها من خلق الله، مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي عملها وفي مآلها. وكل مخلوق أوجده الله ليؤدي دوره المقدر له في هذا الوجود، قد أعده الله لهذا الدور، وزوده بما يؤهله لأداء هذا الدور. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف .. هذا النبات الصاعد .. هذه الحيوانات التي تجول في هذا الكون، وهذه الأسماك التي تسبح في بحاره .. وهذا الطائر الذي يسبح في الفضاء .. وهذه الزواحف التي تدب على وجه الأرض .. وهذا الإنسان المختلف الألوان والأجناس واللغات .. وهذه الكواكب الثابتة والسيارة .. وهذه الشمس الملتهبة .. وهذا القمر الساري .. وهذه الأفلاك والعوالم، وكل شيء تبصره أو لا تبصره .. متقن الصنع .. بديع التكوين .. يتجلى فيه الإحسان والإتقان. هذا: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل: 88]. فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]. وسبحان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة: 7 - 9]. إن العين المفتوحة والقلب البصير يرى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه، ويراه في كل أجزائه وأفراده. والنظر والتأمل في مخلوقات الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن يمنح الإنسان رصيداً ضخماً من ذخائر الحسن والجمال المبثوث في هذا الكون،

فتسكب الإيمان والإجلال للرب في القلب، وهو يتجول في هذا المعرض الإلهي الكبير، ويتملى ما فيه من آيات الإحسان والإتقان، في كل ما يراه، وما يسمعه، وما يدركه. ويتصل من وراء هذه الأشكال الحسنة الفانية بالمحسن الباقي: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 6، 7]. ولا يدرك الإنسان شيئاً من هذا النعيم في رحلته على الأرض إلا حين يستيقظ من همود العادة، ويبصر بنور الله، فتنكشف له الأشياء عن جواهرها الثمينة الجميلة. فيتذكر الله الخالق البارئ المصور كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه، فيحس الصلة بين الخالق وما خلق، والمبدع وما أبدع، فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى من ورائه جمال الله وجلاله. والإحسان لب الإيمان وروحه وكماله بكمال الحضور مع الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه، والإخلاص له. ويتم الإحسان ويكمل بثلاثة أمور: الأول: الإحسان في القصد بأن يجعله تابعاً للعلم، والعلم هو اتباع أمر الله وشرعه، خالصاً لله صافياً من الأكدار. الثاني: الإحسان في الأحوال بأن يحفظها ويصونها بدوام الوفاء، وتجنب الجفاء، والانقياد للهدى. الثالث: الإحسان في الوقت بأن تعلق همتك بالحق وحده، ولا تعلق همتك بأحد غيره، وأن تجعل هجرتك إلى الله سرمداً. ولله على كل عبد هجرتان: هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإيمان، والإخلاص والإنابة، والمحبة والذل، والخوف والرجاء، والعبودية. وهجرة إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتحكيم له، والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه،

وطاعته وتلقي الأحكام من مشكاته. والإحسان نوعان: أحدهما: إحسان قاصر على النفس لا يتعداها إلى سواها، وأعلاه حملها على الإيمان بالله وطاعته وطاعة رسوله. الثاني: إحسان يتعدانا إلى غيرنا وهو يتعلق بالقلوب والأبدان. فإحسان القلوب يكون بإرادة كل نفع للعباد، والصبر على المظالم، وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويوقر من يستحق التوقير. وإحسان الأبدان أقسام: ومنه نقل الملك إلى الغير بالهبات والصدقات .. وإباحة المنافع والأعيان كالعواري والضيافات .. والإسقاط كالعتق والإبراء من الديون .. والعفو عن القصاص والحدود وسائر العقوبات. ومنه الإعانة على الطاعات بتعليمها والمساعدة على فعلها. ومنه الإعانة بكل نفع عاجل أو آجل فعليّ أو قوليّ كهداية الضال، وخدمة العاجز، وفك الأسير، وإرشاد الحيران. ومنه حسن الأخلاق كإظهار البِشر، وطلاقة الوجه، والتبسم في وجوه الإخوان. وإحسان الإحسان أن يفعل أعلى مراتبه خلياً من الشبه والأذية، والإذلال والمنّة، بالاستقامة على الدين، والدعوة إليه. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [افصلت: 33].

2 - فقه اليقين

2 - فقه اليقين قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2]. اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، فاليقين روح أعمال القلوب، التي هي روح أعمال الجوارح. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك، وكل سخط وحيرة، وكل هم وغم. وإذا وصل اليقين إلى القلب امتلأ بمحبة الله .. والخوف منه .. والرضا به .. والشكر له .. والتوكل عليه .. والإنابة إليه .. والتوجه إليه .. والأنس به .. وعدم الالتفات إلى غيره. واليقين لا يساكن قلباً فيه سكون لغير الله. واليقين: هو ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين .. فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً .. وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان. ومن علامات اليقين: النظر إلى الله في كل شيء .. والرجوع إليه في كل أمر .. والاستعانة به في كل حال .. والالفتات إليه في كل نازلة .. والإنس به في كل وقت .. وإرادة وجهه في كل حركة وسكون .. وعدم الالتفات عنه إلى غيره في كل حال. وإذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء عنده مصيبة؛ لأن البلاء يرده إلى معبوده، والرخاء يشغله عن معبوده غالباً.

واليقين على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق سبحانه من أوامره ونواهيه ودينه وشرعه الذي ظهر لنا منه، وعلمناه بواسطة رسله، فنتلقاه بالقبول والتسليم والانقياد. وقبول ما غاب للحق، وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمور المعاد كالجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ورج الأرض، ونسف الجبال، وطي العالم، وما قبل ذلك من أمور البرزخ، وعذاب القبر ونعيمه. فقبول هذا كله إيماناً وتصديقاً هو علم اليقين، بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا ريب. والوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، ونعوت كماله، وتوحديه. وهذه الثلاثة أشرف العلوم: علم الأسماء والصفات والتوحيد .. وعلم الأمر والنهي .. وعلم المعاد واليوم الآخر. الدرجة الثانية: عين اليقين، وهو رؤية الشيء عياناً، فعلمنا الآن بالجنة والنار علم يقين، فإذا أزلفت الجنة للمتقين، وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين، وعاينها الخلائق، فذلك عين اليقين. الدرجة الثالثة: حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين، وهي مباشرة الشيء والإحساس به، كما إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وتمتعوا بما فيها من ألوان النعيم، وأدخل أهل النار النار، وذاقوا ما فيها من ألوان العذاب، فذلك حينئذ حق اليقين. فعلم اليقين بالقلب، وعين اليقين بالبصر، وحق اليقين بالمباشرة والتذوق

والإحساس، ومعرفة القلب، ورؤية البصر. وقد شبهت المراتب الثلاث بمن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقيناً، ثم ذقت منه. فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين. ويحصل اليقين للإنسان من أربعة أبواب: السمع .. والبصر .. والكلام .. والفكر. فإذا سمع الإنسان كلام الله ورسوله تأثر بذلك. وإذا نظر إلى آيات الله الكونية وآياته الشرعية تأثر بذلك. وإذا تفكر في عظمة الله وكبريائه، وعظمه مخلوقاته وأفعاله تأثر بذلك. وإذا تكلم في عظمة الله، وعظمه أسمائه وصفاته، وتحدث بنعمه وآلائه جاء عنده اليقين، وتأثر بذلك. فإذا استعمل الإنسان هذه القوى في معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله تأثر القلب فجاء عنده اليقين على ربه، ولم يلتفت لغيره. فاليقين يورث التأثر .. ثم يأتي التوجه إلى الله .. ثم تأتي الرغبة في الأعمال الصالحة .. ثم تأتي السعادة في الدنيا والآخرة. واليقين لا يحصل إلا بالمجاهدة، فالقائم على النار يخاف منها ولا يلتفت إلى سواها، فكيف إذا وقف أمام الخالق الجبار كيف لا يخافه هيبةً وإجلالاً وتعظيماً. والطفل الصغير إذا أراد شيئاً من أمه أو أبيه سأله بيقين، لأنه لا يعرف غيرهما، فكذلك المسلم إذا سأل ربه باليقين، ولم يلتفت إلى غيره أجابه كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. والبكاء سبب لحصول المراد، فالطفل يبكي كلما أراد شيئاً من أمه أو أبيه، ولا يزال يبكي حتى يحصل على ما يريد.

وكذلك المسلم يبكي أمام الله خاشعاً ذليلاً، مستغفراً متضرعاً حتى يستجاب له كما قال سبحانه عن عباده المؤمنين: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 109]. ويقين البشر على قسمين: أحدها: يقين على الله، وهذا يقين المؤمنين، وهذا اليقين يولد الطاعة والمحبة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإقبال على الله، والتوجه إليه في جميع الأحوال. الثاني: يقين على الأسباب والأشياء، وهذا يقين الكفار، وهذا اليقين يولد عند الإنسان الاعتماد على الأسباب، والدعوة إلى الأسباب، والتوجه إليها في جميع الأحوال. وبسبب هذا اليقين يغفل الإنسان عن مراد الله منه، وعن مراده من الله، ويشغل بدنياه عن آخرته، فيشقى في دنياه، ويخسر آخرته. واليقين على شيء بجعل الإنسان يتوجه إليه، ويعتمد عليه، سواء كان مالاً، أو جاهاً، أو علماً، أو قوة، أو طعاماً، أو صنماً، أو دواءً. ولما كان الاعتماد على هذه الأشياء من دون الله في قضاء الحاجات شركاً بالله. لذا يجب نفي تأثير جميع المخلوقات والأشياء، وإثبات اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته ودينه، فهو الفعّال لما يشاء، وغيره لا يفعل شيئاً إلا بإذنه، فهو سبحانه الذي {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2]. ولهذا لا ينتفع بالقرآن حقاً إلا من نفى تأثير هذه الأشياء النفي الكامل، وجاء عنده اليقين على الله وحده، وتكل عليه وحده، وفوض الأمور كلها إلى الله وحده، كما قال سبحانه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [الجاثية: 20]. فمن آمن بالله وحده .. وسلم نفسه لله وحده .. وتوكل على الله وحده .. وصبر على ذلك .. نصره الله .. وسخر له الكائنات .. واستخلفه في الأرض .. وأسعده في الدنيا والآخرة .. وجعله داعياً إلى الله وإلى دينه .. كما قال سبحانه:

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. فبطاعة الله ورسوله، وامتثال الأوامر الشرعية، تقضى الحاجات، وتحل مشاكل الدنيا والآخرة، لا بالأموال والأسباب. وأهل الجاهلية كان عندهم مرضان خطيران: الأول: اليقين على الأسباب والأصنام، فاجتهد عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج من قلوبهم يقين الأسباب، ويقين الأصنام، إلى اليقين على الله وحده لا شريك له. الثاني: كان عندهم مرض آخر، وهو أن قاضي الحاجات هو الأسباب. فالله عزَّ وجلَّ أعطاهم الأوامر لقضاء حاجاتهم، فأخرج لهم الحوت العظيم من البحر .. وأنزل لهم بصلاة الاستسقاء الماء من السماء .. وأخرج لهم الماء في الحديبية من بين أصابع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ورأوا البركة في الطعام والماء واللبن بسبب امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، وقضى الله حاجاتهم ونصرهم مع قلة الأسباب أو عدمها. وبسبب الدعوة إلى الله يزيد الإيمان، ويخرج اليقين من على الأسباب إلى اليقين على الأعمال والأوامر كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. ويسهل خروج اليقين على الأصنام، لكن يقين الأسباب لا يخرج إلا بالمجاهدة المستمرة، والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله. والله عزَّ وجلَّ جعل القلوب مكان الإيمان واليقين والتوحيد، وأعطى الأجسام لامتثال أوامر الله في جميع الأحوال. وحتى يمشي الإنسان على أوامر الله أنزل الله القرآن الذي فيه أوامر الدين، وأوامر جهد الدين.

ولكي يمشي المسلم على أوامر الله ويؤديها على ما يحب الله، أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - قدوة للناس كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وإذا كان يقين المسلم على ربه قوياً فلن يقف له شيء، لأن الله معه، وإذا كان الله معه فمن ذا يقف له؟ .. ومن ذا يستهين به؟. وإذا نزعنا من قلوبنا اليقين على المخلوقات سلب الله قوتها وسخرها لنا، فماذا قال أصحاب موسى، وماذا قال موسى .. ؟، حين رأوا البحر وفرعون وقومه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61، 62]. فلما سلب موسى اليقين على الماء والعدو وتوكل على الله وحده، جاءته نصرة الله فوراً، فانفلق له البحر، فأنجى الله موسى ومن آمن معه، وأهلك عدوه بهذا البحر في آن واحد، أمر بالنجاة، وأمر بالهلاك كما قال سبحانه: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 63 - 68]. ومن كان يقينه على غير الله سلطه الله عليه وأذله به وخذله من جهته كما أذل الله قوم نوح مع كثرتهم، وعاداً مع قوتهم، وفرعون مع ملكه، وقارون مع ماله. والمؤمن في يقينه على ربه كالطير، فما دام الطير في الأرض، يرى كل شيء كبيراً، ويخاف من أي شيء، فإذا حلق في السماء، رأى كل شيء صغيراً، ولا يخاف من أحد لأنه ترقى في علو السماء. فكذلك المسلم ما دام متأثراً بالمخلوق فهو دائماً في خوف، فإذا تعلق بالله وتوكل عليه وحده سقط من عينه المخلوق مهما كان، ومهما كانت قوته. فالمؤمن إذا جاء عنده اليقين، وعرف حقيقة الإيمان رأى الدنيا ومن فيها صغيراً حقيراً فانياً، واستغنى بربه عما سواه، الذي هو خالق كل شيء، وهو على كل

شيء قدير، وبيده الأمر كله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وإذا جاء اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده، أقبل المسلم على ربه، وتلذذ بطاعته، ونفر من معصيته، وسارع إلى ما يرضيه، وجفل مما يغضبه، واستغنى بربه عما سواه. والفرق بين يقين المؤمن، ويقين الكافر: أن المؤمن يقينه أن كل شيء بأمر الله .. وجوده بأمر الله .. وزواله بأمر الله .. وزيادته بأمر الله .. ونقصه بأمر الله، ونفعه بأمر الله .. وضرره بأمر الله .. وكثرته بأمر الله .. وقلته بأمر الله. أما الكافر فيقينه على ما يراه من الأسباب فقط. وقد فسد يقين كثير من المسلمين من ثلاثة وجوه: الأول: إذا سألت المسلم، كيف نحصل على المال؟. قال بالعمل أو التجارة، وكذلك يقول اليهودي والنصراني وكل كافر، فصار يقين هؤلاء كيقين الكفار على الأسباب. الثاني: إذا سألت المسلم كيف نحصل على الأشياء كالطعام واللباس ونحوهما؟، قال بالمال، وهذا ما يقوله اليهودي والنصراني وكل كافر. الثالث: إذا سألت المسلم كيف تصلح أحوالنا؟، وكيف يذهب عنا الخوف والذلة والجوع؟. قال: إذا كانت عندنا القوة والمال والأشياء، وهذا ما يقوله اليهودي والنصراني، وكل كافر. ولكن مقتضى الإيمان أن يقول المؤمن: المال لا يأتي إلا بإرادة الله .. والعمل والتجارة سبب. والأشياء لا تأتي إلا بإرادة الله .. والأحوال لا تصلح إلا بإرادة الله .. فهو الذي يفعل ما يشاء .. ويغير إذا شاء .. ويبدل إذا شاء، فما شاء الله كان .. وما لم يشأ لم

يكن .. وبيده كل شيء كما قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. فالله عزَّ وجلَّ يفعل ما يشاء .. ويخلق ما يشاء .. تارة بالأسباب .. وتارة بضد الأسباب .. وتارة بدون الأسباب. واليقين يقوم على أصلين: الأول: يقين على المشاهدات، ويتركز في القلوب بمشاهدة المخلوقات والكائنات والنظر إليها نظر اعتبار وتفكر، فنرى المخلوقات ونذكر الخالق، ونرى الصور ونذكر المصور، ونرى الأرزاق ونذكر الرازق .. وهكذا. الثاني: يقين على الغيبيات كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، ويثبت في القلوب بكثرة المذاكرة حولها. وإذا جاء اليقين على ذات الله، وعلى عظمة الله وقدرته، فالله عزَّ وجلَّ يسخر الكائنات لخدمة أوليائه، وإهلاك أعدائه، حتى يكون الغائب كالشاهد. وإذا جاء اليقين على ذات الله، وعلى عظمة الله وقدرته، فالله عزَّ وجلَّ يسخر الكائنات لخدمة أوليائه، وإهلاك أعدائه. كما سخر الماء لتدمير كفار قوم نوح، وإهلاك فرعون وقومهم. وكما أرسل الريح لتدمير كفار قوم عاد .. وهكذا النار سخرها الله لحفظ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .. وهكذا النار أرسلها الله على قوم شعيب فأهلكتهم .. وهكذا جبريل أرسله الله إلى قوم لوط فقلب ديارهم عليهم .. وهكذا قوم ثمود أهلكهم الله بالصيحة .. ولكن الكفار اجتهدوا لإفساد يقين المسلمين على ربهم، فصرفوهم عن الاستفادة من قدرة الله إلى اليقين على الأسباب والأشياء، لأنهم يعرفون أن المسلمين لو رجعوا للاستفادة من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة لنصرهم الله وأعزهم فهزموهم، وكسروا دولتهم.

فلذلك جرُّوا المسلمين إلى يقينهم ليكونوا وراءهم ولا يسبقونهم. والله عزَّ وجلَّ أطلع إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على ما في ملكوت السموات والأرض من المخلوقات، فلما علم أنه ليس بيدها شيء، وأن أمرها بيد الله وحده، صرف وجهه عن هذه الأشياء إلى خالق هذه الأشياء، وتوكل عليه وحده في جميع أموره فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79]. وبهذا اليقين العظيم واجه الباطل، وأنجاه الله من ظلم الطغاة، فلما ألقوه في النار، أنجاه الله من النار، وانتصر التوحيد على الشرك. وكثير من الناس يقينه في الظاهر على الله، وفي الباطن على الأموال والأشخاص والأشياء، وهذا ليس بصحيح، فإن قاضي الحاجات واحد لا شريك له، وإن كان الله يقضي ببعض الأسباب حاجات بعض الناس امتحاناً وابتلاء، فالأسباب يبتلي بها المسلم، ويطمئن بها الكافر. فالمؤمن يقينه على الله وحده، والكافر يقينه على الأسباب وحدها. وكلما دخل حب الدنيا في القلب ضعف اليقين، ثم ضعف الإيمان، ثم ضعفت العبادة، ثم ضعف امتثال أوامر الله في جميع شعب الحياة، ثم جاء غضب الله وسخطه، ثم حلت العقوبات بالأمة. وكلما استعملت الأمة النفس والمال والوقت على مراد النفس لا على مراد الله جاءت العقوبات والمصائب في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 123، 124]. وثمرة الإيمان بالله وإخلاص العمل له حصول اليقين على ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وخزائنه ووعده ووعيده، وعدم الالتفات إلى ما سواه. وبكمال الإيمان، وكمال اليقين، وكمال التقوى تحصل الخيرات .. وتنزل

البركات .. وتقضى الحاجات في الدنيا والآخرة. وكلما زاد الجهد لدين الله زاد الإيمان، ثم زاد اليقين، ثم زادت التقوى. واليقين الكامل يحصل للعبد بأربعة أمور هي: اليقين الأول: أن يعلم العبد بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا تصريف ولا تدبير لجميع المخلوقات إلا بأمر الله وحده، فكل المخلوقات والموجودات ليس بيدها شيء. والأشكال والأسباب، والبواعث والنتائج، لا تأتي ولا تحصل ولا تفعل إلا بأمر الله وإذنه وإرادته سبحانه، ولا ينفع شيء في الكون ولا يضر إلا بإذن الله، وهذا هو معنى (لا إله). اليقين الثاني: أن يتيقن العبد أن الله هو القادر وحده لا شريك له، وأن قدرته مطلقة، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يحتاج لغيره في إرادته وأفعاله، وأنه خالق كل شيء، وبيده الأمر كله، وهو المعبود الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، وهذا هو معنى (إلا الله). اليقين الثالث: أن السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة هي بالإيمان والتقوى، ولا يمكن أن ينالها الإنسان في حياته إلا باقتدائه بالأسوة الحسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله، وعدم الاقتداء بشخصية أحد سواه كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. فقد علمنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كيفية الاستفادة من خزائن الله بالإيمان والتقوى، وإن كاننت الأسباب طريقاً آخر. فعلمنا كيفية العبادة وأوقاتها، وكيفية المعاشرات والمعاملات، وأداء الحقوق، والحلال والحرام، وكل ما تحتاج الإنسانية لسعادة الدارين. اليقين الرابع: أن جميع الأجسام والأشكال، والأسباب والأعمال لا تفيد بغير طريق ومنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

فالتجارة والصناعة والزراعة، والوظائف والمعاملات، والحكم والولايات هي وأصحابها في خطر دائم إن لم يكونوا جميعاً على طريق محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويقيننا على أي قوة غير قوة الله يسلطها الله علينا، وإذا نزعنا من قلوبنا اليقين على المخلوقات ولم نتأثر بها ولا منها سلب الله قوتها فوراً، وسخرها لنا. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حينما ألقي في النار، لم يتوجه إلى أي مخلوق، وإنما توجه إلى الله طالباً منه النجاة وحده. فسلب الله الإحراق من النار فوراً، وجعلها برداً وسلاماً عليه. وموسى - صلى الله عليه وسلم - لما تبعه فرعون وجنوده، ووقف أمام البحر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61، 62]. فسلب اليقين على ضر الماء والعدو فجاءته نصرة الله، وأنجاه الله ومن آمن معه، وفتح له البحر فعبره ونجا، وعبره فرعون ومن معه فأغرقهم الله. ويحصل اليقين وكمال الطاعة والعبودية بأمور أهمها: التوحيد، فيرى الأشياء والأحوال كلها من مسبب الأسباب سبحانه، ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها. فينزل الوسائط في قلبه منزلة القلم في حق المنعم بالتوقيع، فإنه لا يشكر القلم ولا يغضب عليه، بل يشكر المنعم بالتوقيع. ومنها الثقة بضمان الله له بالرزق، ومهما غلب على ظنه كان مجملاً في الطلب، ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته. ومنها أن يغلب على قلبه أن من يعلم مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، فيقبل على الطاعات، ويجتنب المعاصي. وذلك يثمر صدق مراقبة الله في الحركات والسكنات، والتحرز من السيئات. ومنها اليقين بأن الله مطلع عليك في كل حال، ومشاهد لهواجس ضميرك. وثمرة ذلك أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله، كالجالس بمشهد ملك معظم، ينظر إليه محترزاً من كل هيئة تخالف هيئة الأدب والوقار،

وكذا في فكره. وهذا يورث الحياء والخوف، وذلك يورث فعل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. والقلب إذا زاد نور الإيمان فيه أناب إلى الله، وتوكل عليه وحده، وأحب الطاعات، وكره المعاصي. وبامتثال أوامر الله وفعل كل سنة يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتحصل العقوبات. والإيمان يزيد بالطاعات والدعوة، والنظر في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، ولكن الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمةالله. والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله .. والمخلوق كله أوله وآخره .. صغيره وكبيره .. فقيره وغنيه .. أميره ومأموره .. تدبيره وتصريفه .. كله بيد الله وحده لا شريك له .. فهو خالقه ومالكه ومصرفه .. فكما أن أعضاء الإنسان تتحرك كلها بوجود روحه .. فكذلك هذا العالم وما فيه من المخلوقات لا يتحرك إلا بأمره سبحانه. وجميع المخلوقات نواصيها بيد الله وحده، فالأحوال الشديدة لما حصلت في غزوة بدر، النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لم يتفكروا من سيكون معهم الفرس أو الروم، ومن يستعينون به منهما؟. بل هم اجتهدوا كيف يكون الله معنا، فتوجهوا إليه، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما زالوا في الدعاء والبكاء حتى نزلت عليهم نصرة الله كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10]. ورحمة الناس تكون بتوجيه الناس إلى الله، وإلى عبادة الله، وإلى امتثال أوامر

الله، ليفوزوا برضاه، ويستفيدوا من خزائنه، ويسعدوا بجنته. وباليقين يحصل المسلم على نور التوحيد .. ويستفيد من خزائن الله. وبالرحمة يحصل على روح الرسالة .. وينفع الخلق .. لأنه يحب لهم ما يحب لنفسه. وقد أعطى الله كل نبي سلاحين: سلاح الدعوة .. وسلاح الدعاء. فبالأول تنزل الهداية، وبالثاني تقضى الحاجات. والشيطان أول من أفسد يقين آدم على ربه وعلى أوامره، حين أغراه بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد، فلما خالف أمر الله بالأكل من الشجرة، أخرجه الله من الجنة، وأهبطه والشيطان إلى الأرض بعد أن تاب عليه، وحذره وذريته من الشيطان بقوله: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]. ولا يزال الشيطان يفسد يقين الخلق، فاتبعوه إلا قليل منهم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. فهل من داعٍ إلى الله؟ .. وهل من مذكر بالله .. وهل من ناصح لعباده؟. {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إراهيم: 52].

3 - فقه الإيمان بالغيب

3 - فقه الإيمان بالغيب قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك: 12]. الله تبارك وتعالى وصف عباده المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب، وجعلها أول صفة لهم كما قال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 2، 3]. والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه الحواس إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير الذي تدركه الحواس. ويدرك ما وراء الكون من قدرة وقوة وتدبير وتصريف. ويدرك أن هذا الكون ظاهره وخفيه لا يساوي ذرة في ملك خالقه، الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول. فالغيب لا تدركه العقول ولا تحيط به، لأن العقل أداة لم تخلق لمعرفة ذلك، فالمحدود لا يدرك المطلق. وعدم إدراك المجهول لا ينفي وجوده في الغيب المكنون. فعلى الإنسان أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل، وأن يتلقى العلم من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، ويعلم الغيب والشهادة. والله وحده عالم الغيب والشهادة، أم الإنسان فمجال نشاطه عالم الشهادة، لكن الله تعالى أطلعه على قدر من عالم الغيب، يوسع دائرة وعيه وعلمه، ويميزه به عن غيره، ويحتاجه في مصالح دينه ودنياه وأخراه. فأرسل الله الرسل يأمرون الناس بعبادة الله وحده لا شرك له، وترك عبادة ما

سواه، ونقل القدر المناسب من عالم الغيب وفق ما حدده الله، وإخبار العباد به. وليس للإنسان أن يطلب علم الغيب خارج دائرة الوحي الإلهي وإلا ضل وأضل. فهو سبحانه وحده: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]. وإذا كنا في العلم البشري لا نأخذ إلا عن مصادر موثوقة يعول عليها، ففي علم الغيب لا ينبغي أن نأخذ إلا ممن يملكون حق الحديث عن الله، وهم الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله، وأطلعهم على شيء من الغيب، وجعل مصدر علمهم الوحي، وهم أعلم الخلق بالله. أما غيرهم فمصدر علمهم العقل، والعقل البشري وحده قاصر عن إدراك المعرفة المتصلة برب العالمين. وتكليف العقل بالبحث في عالم الغيب يشبه سؤال الكبد عن المشاهد التي تختص برؤيتها العين. ومن الظلم لعضو خلقه الله لعمل محدد أن نكلفه فوق طاقته، ونحاول استخدامه في غير محله، فنظلم أنفسنا، ونظلم غيرنا. ومن الحكمة والأدب وضع الشيء في موضعه، واستخدام الشيء فيما خلق له، وعدم تجاوز المعلوم إلى المجهول المحجوب إلا بعلم ويقين. والإيمان بالله هو إيمان بالغيب .. فذات الله سبحانه غيب بالنسبة للبشر في هذه الحياة .. فإذا آمنوا به سبحانه فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله .. ولا يدركون ذاته .. ولا كيفية صفاته وأفعاله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 102، 103]. والإيمان بالآخرة كذلك هو إيمان بالغيب، فكل ما في الآخرة موجود كالصراط والميزان، والجنة والنار، لكن لا يمكن للأبصار أن تراه في الدنيا.

فالساعة بالنسبة للبشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب، وثواب وعقاب، والجنة والنار، والصراط والميزان، كله غيب يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر الله ورسوله. والإيمان بالملائكة كذلك هو إيمان بالغيب، فهذا الخلق العظيم من خلق الله لا يعرف البشر عنه شيئاً إلا ما أخبرهم الله به، فنؤمن بهم تصديقاً لخبر الله ورسوله عنهم. والإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله من الإيمان بالغيب، يؤمن بها المؤمن تصديقاً لخبر الله ورسوله. والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده بدينه وشرعه هو من الإيمان بالغيب، يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر الله سبحانه. والإيمان بالقدر هو من الغيب الذي لا يتم الإيمان إلا بالتصديق به، وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع. والغيب عالم كبير، يحيط بالإنسان من كل جانب. غيب في الماضي .. وغيب في الحاضر .. وغيب في المستقبل .. وغيب في نفس الإنسان .. وغيب في عالم الجماد .. وغيب في عالم النبات .. وغيب في عالم الحيوان .. وغيب في العالم العلوي .. وغيب في العالم السفلي .. وغيب في الدنيا .. وغيب في الآخرة. وكل ذلك لا يعلمه إلا الله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65]. وعالم الغيب أوسع من العالم المشهود، والإنسان يسبح في بحر من المعلوم والمجهول، وبحر من الغيب والشهادة، والإنسان مخلوق ضعيف يجهل ما يجري في كيان نفسه فضلاً عما يجري في الكون كله. والله وحده عالم الغيب والشهادة، يعلم كل شيء، ويرى كل شيء: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ

طِينٍ (7)} [السجدة:6، 7]. فكل ذرة في هذا الكون، وكل خلية في أعماق الأرض، وقعر البحار، وجو السماء، هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سبأ: 3]. وسر الحياة في النبات والحيوان والإنسان ونشأتها غيب من غيب الله كنشأة الكون وحركته لا يعلمه إلا الله وحده كما قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51]. وخلق الإنسان من ماء الرجل، وكيفية خلقه، وكونه ذكراً أو أنثى أو توءماً من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا علم للبشر به: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 8، 9]. إن الناس في الدنيا لا يرون الله، ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون به، وقلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه. واستقرار حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته، والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة، والشعور بهذا الغيب شعورٌا يوازي بل يرجح الشهادة، حتى ليؤدي المؤمن شهادة أن (لا إله إلا الله) وهو لم ير الله. تلك نقلة كبرى لهذا الإنسان من عالم المحسوس إلى عالم الغيب .. من عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب إلى عالم أفضل وأعلى وأجل، وهو عالم الإنسان الذي يؤمن بالغيب. وهذا الكون العظيم مركب من عالمين: عالم الغيب .. وعالم الشهادة. وفي هذا الكون سنن ثابتة، وقد مكن الله الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له حسب طاقته وحسب حاجته للقيام بالخلافة في هذه الأرض.

وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية، وتسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، والانتفاع بأرزاقها وأقواتها. وإلى جانب هذه السنن الثابتة مشيئة الله المطلقة التي لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها. وهناك قدر الله الذي لا يخرج عنه أحد، الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها، فهي ليست آلية، وإنما هي مأمورة مدبرة. والقدر هو المسيطر على كل حركة فيها، وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها. وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها غيب لا يعلمه أحد علم يقين، وإنما أقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون. وملايين العمليات تتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة، وكلها غيب بالنسبة له، وهي تجري في كيانه. ومثلها مليارات الملايين من العمليات التي تتم في هذا الكون الهائل من حوله وهو لا يعلمها، وفي كل لحظة تتم هذه العمليات بإذن الله، وبأمر الله، وبعلم الله، في زمن معلوم، ومكان معلوم، وقدر معلوم، وذلك كله مما اختص الله بعلمه وحده. فمن هذه قدرته .. وهذا علمه .. وهذا خلقه. أيليق بالخلق أن يشركوا به؟ .. أتقبل عقولهم أن يعبدوا معه غيره؟. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 91، 92]. ومفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا

يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. فسبحان من اختص بعلم الغيب وحده، وطوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وغيرهم من العالمين: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6]. والله تبارك وتعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة .. والظواهر والبواطن .. والخفايا والسرائر .. والأوائل والأواخر. وقد يطلع الله من شاء من رسله، على بعض الأمور الغيبية، لكن هناك من أمور الغيب ما طوى علمه عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملَك مقرب فضلاً عن غيرهما، وهي الخمسة المذكورة في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]. ومن حكمته التامة إخفاء علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يخفى على مَن تدبر وتأمل. وإذا كان الله عزَّ وجلَّ هو المتفرد بعلم الغيب والشهادة، وبالظاهر والباطن، وبالسر والعلن، فهو الذي لا ينبغي العبادة إلا له، ولا يجوز لأحد أن يشرك معه غيره: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف: 191]. فيا ويل هذا الإنسان .. وما أجهله بربه .. وما أجهله بشرعه .. وما أجهله بنفسه .. وما أجسره على مجاوزة الحدود .. وما أجرأه على غشيان المحرمات. ماذا علم الإنسان؟ .. وماذا جهل؟ .. وماذا بيده؟ .. وماذا يملك؟. وماذا قدم لنفسه وماذا أخر؟. والساعة غيب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولكن المشركين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن موعدها، والرسول بشر لا يعلم الغيب، وهو مأمور أن يكل الغيب إلى من خلقه، وهو بشر لا يعلم إلا ما علمه

ربه. الله سبحانه الذي يعلم بها وحده، ولا يكشف عنها إلا في حينها، ولا يكشف غيره عنها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: 187]. فما أعجب هؤلاء القوم الذين لا يعرفون حقيقة الرسالة، ولا يدركون أدب الرسول في جانب ربه العظيم، الذي لا يسأل ربه عما هو مختص بعلمه، وهؤلاء يسألونه كأنه دائم السؤال عنها، مكلف أن يكشف عن موعدها. إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الأولين والآخرين، وأعرف الخلق بربه وأفضلهم عنده مكلف أن يعلن للناس أنه أمام غيب الله كله بشر من البشر، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، لأنه لا يطلع على الغيب، ولا يعلم الغايات قبل المذاهب، فما أحسن أدبه، وما أعظم خلقه. وعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية، ويقف العلم البشري: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. إن أمور الغيب كلها لله .. يكشفها الله إذا شاء .. ويعلم بها من شاء من خلقه .. وليست من شأن العقل. والجدل حول الغيب عبث عقلي، وإقحام للعقل في غير ميدانه، وذلك سفر في إنفاق الطاقة العقلية في غير ما خلقت له، فمجال إثبات الأمور الغيبية .. ورود النص الشرعي بإثباتها فقط. فالعين لها طاقة .. والأذن لها طاقة .. والعقل له طاقة. وما أسفه العقل الذي ينفق طاقته في غير مجاله المأمون، فليكف العقل عما ليس من مجاله، وفوق طاقته، وحينئذ يستريح العقل، بالتسليم لله فيما يعلمه، وما لا يعلمه.

ويستريح القلب بالإيمان باله القادر على كل شيء العالم بكل شيء. والقرآن يجيب الناس إذا سألوا عما هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته، ولا يبدد الطاقة العقلية فيما لا ثمرة فيه ولا في غير مجالها الذي لا تملك وسائله ولا تحيط به. ولذلك لما سأل الكفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله، اختص بعلمه دون سواه كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده ومجاله الذي يدركه. فلا جدوى من الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه، لأنه لا يملك وسائل إدراكه، فالعقل محدود، وإدراكه محدود. والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسر من أسراره، أودعه هذا المخلوق البشري، وكل ذي روح، وعلم الإنسان محدود بالنبة لعلم الله المطلق، بل علوم الإنسانية كلها التي علمها الله لا تساوي ذرة بالنسبة إلى علم الله. وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود. والإنسان عاجز ضعيف لا يدبر هذا الكون، فطاقاته ليست شاملة، وإنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته، ليقوم بالخلافة في الأرض. ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض وفي هذه الحياة ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام الروح، وأمام العقل، وأمام القلب، ذلك السر اللطيف المودع في الإنسان. لا يدري ما هو .. ولا يدري كيف جاء .. ولا كيف يذهب .. ولا أين يكون، لا يدري عن ذلك شيء إلا ما أعلمه به العليم الخبير. إن النفس البشرية خلق ضعيف لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه، وما لا تقدر عليه، فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام

الغيوب وكلته إلى الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل. والذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه بزعمهم أن يركعوا ويركنوا إلى الدين. هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه إنما يعاندون حقيقة الفطرة، وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم البشر، وبعضه لن يصل إليه، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، وخارج عن اختصاص الإنسان. فعلم البشرية كلها لا يساوي ذرة بالنسبة للعلم الإلهي: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]. وسر الحياة كان وما يزال مغلقاً على الناس كلهم، سواء كان في النبات أو الحيوان أو الإنسان، فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول كيف جاءت هذه الحياة؟، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق؟. ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور وهو الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [التغابن: 18]. وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله، بل كل من في السموات والأرض من خلق الله من ملائكة وأرواح، وإنس وجن، كلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم، فيبقى سره عند الله دون سواه. فالحياة غيب .. والموت غيب .. والروح غيب .. والعقل غيب .. والآخرة غيب .. والجنة غيب .. والنار غيب .. والملائكة غيب .. والجن غيب .. والأقدار غيب .. ونزول الغيث غيب .. وما في الأرحام غيب. ولا يعلم هذه الغيوب إلا الله وحده: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18]. والعلماء قسمان: علماء الدنيا .. وعلماء الدين.

فعلماء الدنيا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم غافلون عن الآخرة، يقفون عند هذا الظاهر ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه. ينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي انعقدت أسباب وجوده غير ناظرين إلى قضاء الله وقدره. ومن العجيب أن هؤلاء بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم الله عليه، فنظروا إليهم بعين الازدراء والاحتقار، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب. وهذه العلوم التي أعطاهم الله، لو بنيت على الإيمان، لأثمرت الرقي العالي، والحياة الطيبة. ولكن لما بني كثير منها على الإلحاد والمقاصد السيئة لم تثمر إلا هبوط الأخلاق، وأسباب الفناء والتدمير، فما أتعسهم وأشقاهم في الدنيا والآخرة. فهؤلاء الذين: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]. وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير مهما بدا للناس واسعاً شاملاً، والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل العظيم. والذي لا يتصل قلبه بخالق هذا الوجود، ولا يتصل حسه بالسنن الإلهية التي تصرفه يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يرى مصرفه، وينشغل بالمخلوق عن الخالق، وأكثر الناس كذلك: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 18]. لأن الإيمان الحق هو وحده الي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود، وهو الذي يمنح العلم روحه الذي به يدرك ويعرف خالق الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس، ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن معرفة الحق: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 6، 7].

فالدنيا صفحة من صفحات الكون الكثيرة، والآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة أخرى من الوجود، والذين لا يدركون حكمة النشأة ولا يعلمون صفحات الوجود، يغفلون عن الآخرة، ولا يحسبون حسابها ولا يعرفون أنها صفحة في كتاب الوجود ونقطة في خط سير الوجود لا بد أن يمر بها الإنسان. والغفلة عن الآخرة تجعل كل المقاييس والموازين، والأفكار والأعمال تختل عند هؤلاء الغافلين، فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً، لأن حساب الآخرة في نظر الإنسان، يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياة الإنسان في الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون، حيث كان في صلب أبيه، ثم خرج إلى بطن أمه، ثم خرج إلى الأرض، ثم ينزل إلى القبر، ثم يخرج في النهاية إلى دار القرار في الجنة أو النار .. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود، والأحداث التي تحصل في هذه الأرض إن هي إلا فصل قصير من كتاب كبير. إن المسلم والكافر كلاهما قادم إلى تلك الدار الآخرة، ولكن المؤمن مستعد لها لمعرفته بها، والكافر غير مستعد لها، لأنه لا يؤمن بها. ومن هنا لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينظر ما وراءها. فلكل منهما ميزان، ولكل منها خط، ولكل منهما اتجاه، ولكل منهما جزاء. هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر: يرى المخلوق ويتجاوزه إلى الخالق .. ويرى الصور ويتجاوزها إلى المصور .. ويدرك أن هذا الكون يسير بسنن لا تتبدل بأمر وإذن من رب العالمين .. سنن شاملة للظاهر والباطن .. والغيب والشهادة .. والدنيا والآخرة .. والحياة والموت .. والثواب والعقاب. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها

به إلى المكان الكريم اللائق بها في الدنيا والآخرة. فهذا الكون كله قائم على الحق، يسير وفق السنن الربانية. ومن مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى أهل الخير والشر عاقبتهما فيها كاملة، وإنما كل شيء له أجل مرسوم يسير وفق حكمة مدبرة، وكل شيء يجيء في موعده لا يتقدم لحظة ولا يتأخر. وإذا لم يعلم البشر متى تقوم الساعة فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون، ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ويخدعهم. فماذا ينتظر هؤلاء من العذاب والعقاب؟. {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8]. وماذا ينتظر المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان ومقتضاه من الأعمال الصالحة المشتملة على أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة؟. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 9، 10]. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. «اللَّهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (770).

4 - فقه الاستفادة من الإيمان

4 - فقه الاستفادة من الإيمان قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. الله تبارك وتعالى هو الغني وحده لا شريك له، وخزائن كل شيء عنده، وخزائنه مملوءة بكل شيء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويطعم من يطيعه ومن يعصيه، ويرحم من استرحمه، ويغفر لمن استغفره، ويعطي من سأله، ويجيب من دعاه، ويغيث من استغاثه، ويتقرب إلى من تقرب إليه، وهو الغني الحميد. غافر الذنوب، وساتر العورات، وكاشف الكربات، وفارج الهموم، وشافي الأمراض، وهادي الضال، ومعافي كل مبتلى، وميسر كل عسير، وواهب كل نعمة، ودافع كل نقمة. وهو سبحانه الذي خلق الخلائق، وخلق الأرزاق، وخلق الأحوال، وقسم الأرزاق، وقدر الآجال، وله خزائن السموات والأرض كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7]. وجميع المخلوقات والكائنات، وكل الأرزاق والنعم، وكل شيء في هذا الكون خزائنه عند الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. فكل شيء خزائنه عند الله: خزائن الأرزاق .. خزائن النعم .. خزائن الطعام .. خزائن المياه .. خزائن الحبوب .. خزائن الثمار .. خزائن النبات .. خزائن الأشجار .. خزائن الحيوان .. خزائن الرياح .. خزائن النجوم .. خزائن المعادن .. خزائن الذهب .. خزائن

الفضة .. خزائن الحديد. خزائن العزة .. خزائن الرحمة .. خزائن الهداية .. خزائن النعيم .. خزائن العذاب .. خزائن الحكمة .. خزائن العلم .. خزائن القوة .. خزائن النور .. خزائن السمع .. خزائن البصر .. خزائن العقول .. وخزائن كافة المخلوقات في العالم العلوي والسفلي .. وفي الدنيا والآخرة .. كلها في قبضة الله .. وبيد الله وحده لا شريك له. وللاستفادة من خزائن الله هناك طريقان: طريق الأموال والأسباب .. وطريق الإيمان والأعمال الصالحة. فالأول لعموم البشر، والثاني خاص بالمؤمنين. فكل مسلم بقدر إيمانه وأعماله الصالحة يستفيد من خزائن الله. وأكثر المسلمين اليوم يستفيدون من خزائن الله بواسطة الأسباب، لا بواسطة الأعمال. وبسبب ضعف الإيمان نقدم الأسباب على الأعمال، وهذا بسبب الخسارة في الدنيا والآخرة، فالواسطة بين المؤمنين وربهم هي الأعمال لا الأسباب كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وجميع الأنبياء جاءوا ليدلوا الناس على الاستفادة من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة. والله عزَّ وجلَّ أعطانا الأسباب التي نستفيد بها من قدرة الله وهي الإيمان والأعمال. وأعطانا الأسباب الظاهرية ابتلاء من الله، ليعلم من يعتمد عليها ممن يعتمد على الله في حصول المطلوب. فأحياناً تفعل، وأحياناً لا تفعل، حسب أمر الله الذي خلقها. فيحصل الشفاء بالدواء، والشبع بالأكل، والري بالشرب، والنبات بالماء

وهكذا. وهذا كله ابتلاء من الله يحصل أمام العبد، والمطلوب نفي هذه الأشياء، وإثبات اليقين على الله وحده. وإذا جاء اليقين على الأسباب والأشياء، اعتمد عليها الإنسان، فكانت سبباً لهلاكه كما حصل لفرعون الذي اعتمد على ملكه، وكما حصل لقارون الذي اغتر بماله. وكما حصل لقوم نوح الذين اغتروا بكثرتهم، وكما حصل لقوم عاد الذين اغتروا بقوتهم، وكما حصل لقوم ثمود الذين اغتروا بصناعتهم، وغيرهم ممن طغى وتجبر وأفسد في الأرض. وإذا كان اليقين على الله وحده لم يلتفت الإنسان إلى الأسباب، لأن الله معه، وإذا كان الله معه فلا يحتاج إلى أحد، سواء كانت عنده الأسباب، أم ليست عنده الأسباب. فالله يعطي وينصر ويعز بالأسباب .. وبدون الأسباب .. وبضد الأسباب .. وهو على كل شيء قدير. فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله؟. وكم من نبي نصره الله على أعدائه مع كثرتهم وقوتهم؟. وكم من ذليل فقير أعزه الله بالإيمان وليس معه من الأسباب شيء؟. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. وكلما تبدل اليقين وصار على الأسباب لا على الله أرسل الله نبياً يرد الناس إلى (لا إله إلا الله). فإذا جاء اليقين الصحيح على الله الذي بيده كل شيء، لم يلتفت الإنسان إلى الأسباب، بل يؤمن بها، ويفعلها ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله وحده. فيذهب إلى العمل .. ويأكل الطعام .. ويشرب الدواء .. ويعد القوة .. ويبذر الحب .. امتثالاً لأمر الله في هذه الأشياء .. فالأسباب نفعلها .. ولا نتوكل إلا

على الله وحده. فكل المخلوقات محتاجة في وجودها إلى الله .. ومحتاجة في بقائها إلى الله .. ومحتاجة في تأثيرها إلى الله .. فهي لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله. وكل ما في الكون ملك لله يعطي منه من يشاء، ويسلبه إذا شاء كما قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. والماء والنار والرياح مخلوقات عظيمة ولكن ليس بيدها شيء، وهي في قبضة الله، يصرفها كيف يشاء هي وجميع الكائنات في السماء والأرض. إن أمرها الله بالنفع نفذت أمر الله .. وإن أمرها بالضر نفذت أمر الله .. وهي عبيد من عبيده سبحانه، لا تعصي له أمراً .. ولا تملك إلا الطاعة لفاطرها ومبدعها: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 93، 94]. فالخلق كله والأمر كله لله وحده لا شريك له: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فالله على كل شيء قدير .. إن شاء أنزل الماء بالسنة الجارية، كما ينزل من السحاب .. وإن شاء أخرجه بضد الأسباب .. كما فجره عيوناً من الحجارة اليابسة لموسى - صلى الله عليه وسلم - وقومه. وقد جعل الله في الدنيا حياة الأسباب موجودة، وحياة الأعمال موجودة. فمن اجتهد على الأسباب، جاء عنده اليقين على الأسباب، ومن اجتهد على الإيمان والأعمال، جاء عنده اليقين على قدرة الله عزَّ وجلَّ. والله عزَّ وجلَّ يقضي الحاجات بالإيمان والأعمال قطعاً، ويقضيها بالأسباب امتحاناً وابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر. وأحياناً نفعل الأسباب ولا تظهر النتائج لتذكير العباد بالخالق. والله سبحانه يقضي حاجات العباد بهذا وهذا، بقدرته من الأرض أو من

السماء، بالأسباب وبدون الأسباب، وبضد الأسباب، فقد أعطى الله بني إسرائيل مع موسى - صلى الله عليه وسلم - الماء من الحجر من الأرض، وأعطاهم المن والسلوى من السماء، ورزق مريم طعاماً بلا شجر، وابناً بلا ذكر، وأخرج النبات من الأرض، وأظهر الثمر من الشجر، وأخرج الحليب من الضرع، والنور من الشمس، والكلام من اللسان. وهذا كله من الله وحده لا شريك له، وهذه المخلوقات مظاهر لقدرة الله، فلا الأرض تعطي، ولا السماء تعطي، وإنما المعطي والرازق واحد لا شريك له. فالخالق واحد، والمعطي واحد، وأماكن التسليم والنفع متعددة، ومظاهر القدرة مختلفة: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. فالمعطي والمانع، والنافع والضار، والمعز والمذل هو الله وحده لا شريك له. فالطعام مخلوق وقد أمر الله بأكله، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، يأكله الصغير فيكبر وينمو، ويأكله الكبير فيضعف وينقص. والماء مخلوق وقد أمرنا الله بشربه، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بأمر الله، يشربه الإنسان فيحيا، وأحياناً يشربه فيموت، ومن طبيعته الإغراق، ولكنه مملوك لله أمره الله فانفتح لموسى ومن آمن معه، وأغرق فرعون وقومه في آن واحد، وحمل موسى وليداً حتى أدخله في قصر فرعون، وأغرق كفار قوم نوح قاطبة. والنار مخلوقة وقد جعلها الله سبباً لمصالح العباد، ومن طبيعتها الإحراق، ولكنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، فهي مملوكة مدبرة. إن جاءها أمر الإحراق أحرقت، وإن جاءها أمر الحفاظة أطاعت وحفظت، كما جعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69].

فسبحان مالك الملك، وسبحان من نواصي الخلائق كلها بيده يفعل بها ما يشاء: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2]. وإذا جاءت مصيبة على الإنسان فحلها بيد الإنسان بأن يمتثل أوامر الله على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا غير ما في قلبه وجاء عنده اليقين على ربه غير الله بدنه وحاله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وإذا جاءت علينا أحوال شديدة نشكوها أمام الخالق وحده، ونتضرع إليه في كشفها، ولا نذكرها أمام المخلوق العاجز الضعيف، بل نشكو أحوالنا فقط إلى الله، ونفعل الأسباب التي أمر الله بها في حدود الاستطاعة. فالله أعطانا بمنه وكرمه الإيمان والأعمال، لجميع الأحوال، فإذا قمنا بالأعمال التي يرضى الله بها أصلح الله الأحوال بقدرته. كما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدر النصر على الكفار، فنصره الله بقدرته، ولم يتوجه إلى الفرس ولا إلى الروم، ولا لبشر ولا لسبب، بل توجه إلى الناصر الذي يملك النصر وحده كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه إلى الإيمان فأبوا وأرادوا إحراقه بالنار توجه إلى ربه في طلب النجاة، ولم يتوجه لأحد سواه، فأنجاه الله وخذلهم كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 68 - 70]. ونوح - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه إلى الإسلام فأبوا واستكبروا، وعادوه، دعا عليه ربه فأغرقهم بالماء، وأنجاه ومن آمن معه كما قال سبحانه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} [القمر: 10 - 15]. وقال سبحانه: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ

الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 76، 77]. وأيوب - صلى الله عليه وسلم - حين ابتلاه الله ببلاء شديد، فقد سلط الشيطان على جسده ابتلاء من الله، فنفخ في جسده فتقرح قروحاً عظيمة، ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله فوجده الله صابراً راضياً عن ربه. فدعا ربه، فكشف ضره، ومنحه مع العافية من الأهل والمال شيئاً كثيراً كما قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84]. فمتى يستفيد المؤمنون من قدرة الله، بالتوجه إليه وحده في كشف الكربات والأمراض، ودعائه، وحسن الصبر على بلائه، والله سميع مجيب. ويونس - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله إلى قومه فلم يؤمنوا، فوعدهم بنزول العذاب بأن سماه لهم، فلما جاءهم العذاب عجوا إلى الله وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98]. ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب مغاضباً لقومه، وخرج من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، وظن أن الله لا يقدر عليه، وعرض له هذا الظن فركب السفينة فأوشكت على الغرق، فاقترعوا من يلقى في البحر، لئلا تغرق السفينة، فأصابت القرعة يونس، فألقي في البحر، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات ربه ومولاه فأنجاه كما قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. فأقر لربه بكمال الألوهية، ونزهه عن كل عيب وآفة ونقص، واعترف بظلم نفسه

وجنايته فكشف الله ضره وأنجاه، وكذلك ينجي الله المؤمنين. وفي هذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ضرها لإيمانه كما فعل بيونس - صلى الله عليه وسلم -. وزكريا - صلى الله عليه وسلم - من رحمته للخلق، ونصحه لهم لما قرب أجله خاف ألا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله والنصح لعباده، وأن يكون في وقته فرداً ولا يخلف من يشفعه ويعينه على ما قام به. فاستجاب الله له، ووهب له ابناً سماه يحيى، وأصلح رحم زوجته للولادة كما قال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90]. ومريم ابنة عمران التي حفظت فرجها من الحرام، بل ومن الحلال فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها في طاعة ربها، وخدمة بيت المقدس، رزقها الله ولداً من غير أب، فنفخ فيها جبريل بأمر الله، فحملت بإذن الله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 12]. فهؤلاء الأنبياء والمرسلون وصفهم الله بالصبر: الصبر على طاعة الله .. والصبر عن معصية الله .. والصبر على أقدار الله المؤلمة. فهذه أقسام الصبر الثلاثة، ولا يستحق العبد اسم الصابر حتى يوفيها حقها. وهؤلاء الأنبياء قد وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي. ووصف الله الأنبياء كذلك بالصلاح، وهو يشمل: صلاح القلوب بمعرفة الله ومحبته والإنابة اليه كل وقت. وصلاح الجوارح باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي، والتحلي بمكارم الأخلاق.

فبصبرهم وصلاحهم أدخلهم الله في رحمته، وجعلهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين. وهؤلاء الأنبياء والرسل كانوا على خلق عظيم وعمل لله مستديم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. فكل مخلوق لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، والأشياء ومعية الأشياء لا تنفع، بل الذي ينفع هو الله وحده لا شريك له. فنجتهد حتى يكون الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج إلى غيره أبداً. ومعية الله تكون معنا بثلاثة أشياء: اجتماع القلوب .. العمل لوجه الله .. وأن يكون العمل على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبحسب اليقين على الله، وعلى قدرته ونصرته، تكون معيته معنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فحفظه الله سبحانه حتى بلغ الدين للأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ثم توفاه بعدما بلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه. وإذا تغير اليقين جاءت المصائب، ونقصت الطاعات، فقد يصلي المرء ويرى أن الصلاة تحجبه عن طلب الرزق. فلو قيل له تصلي وتدخل الجنة قال نعم. ولو قيل له تصلي والله يرزقك، قال هذا مشكل، ولذلك يترك الصلاة، ويشتغل بطلب الرزق، وهو يتلو: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]. فما أحرى المؤمنين بالاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله بالإيمان والأعمال الصالحة، في الدنيا والآخرة. ألا من مشمر إلى الجنة؟ .. ألا من منافس في الفضائل والأعمال؟ .. ألا من

مسارع إلى الخيرات؟ .. ألا من مشتاق إلى القصور والحور؟. يا حسرة على العباد ماذا علموا وماذا جهلوا؟ وماذا ضيعوا؟. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. إن كل ذهب في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات، وكل شجر وثمر في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات. وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام على الجواد المضمر السريع ولا يقطعها. فسبحان من بيده ملك الخلائق أولها وآخرها، وملك المسافات بدايتها ونهايتها. ومن قال (سبحان الله) غرست له نخلة في الجنة، وجميع أشجار الجنة من ذهب، فكم تكون أشجار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين؟. وقصور الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وعرضه وطوله مد البصر. ومن صلى كل يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة، فإذا صلى سنة كاملة كم يكون له قصر من ذهب؟. فكم تكون قصور الأنبياء؟، وكم تكون قصور المؤمنين في الجنة؟. ولو جمعنا جميع الذهب في الدنيا، وجميع الذهب الذي في جنات الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وجمعنا ما يعطى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الذهب، فكل ذلك بالنسبة لما في خزائن الله كالذرة بالنسبة للجبل، لأن ما في الدنيا والآخرة مهما يكن فهو محدود، وما في خزائن الله غير محدود. ولو أن الإنس والجن جميعاً سألوا الله، فالله يعطيهم كل ما طلبوا، ولا ينقص ذلك مما في خزائنه، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لأن ما سألوه محدود، وما عند الله غير محدود.

«قال الله عزَّ وجلَّ يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (¬1). هذا بالنسبة للذهب، فكيف بخزائن النعم الأخرى من المياه والثمار، والحبوب، والفواكه، وخزائن النجوم والكواكب والشهب. وخزائن الرحمة والقوة والمغفرة .. وخزائن الحكمة والحلم والعلم .. وخزائن الأرواح والأنفس .. وخزائن النبات والحيوان .. وخزائن النعيم والفرح والسرور .. وخزائن العذاب والغضب والبطش .. وخزائن الأمن والخوف .. وخزائن العالم العلوي والعالم السفلي. فسبحان من هذه خزائنه .. ومن هذا ملكه .. ومن هذا قدرته .. ومن هذه عظمته. يا حسرة على العباد ماذا فاتهم من الأوقات؟. وكم حرموا أنفسهم من الخيرات والبركات؟. ماذا زرعوا وماذا حصدوا؟ .. وماذا قدموا؟ .. وماذا أخروا؟. إن علينا أن نحاسب أنفسنا كم مشينا في مراد الله؟، وكم مشينا في مراد النفس؟. وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه. وأصل العبادة المحبة، وبرهانها ذكر المحبوب، وتنفيذ أوامره في كل وقت، فمتى يذكر العبد ربه؟، ومتى يستحي من معصيته؟. وإذا عرفنا قيمة العمل وثمراته زاد تقديرنا للعمل، والإكثار منه، والتلذذ بأدائه، والمسارعة إليه، والمنافسة فيه، وأحسن الأعمال طاعة الله ورسوله في كل حال. وأرزاق الدنيا والآخرة بيد الله، لكن أرزاق الدنيا تكفل الله بها، كما قال الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. وأرزاق الآخرة لا بد لها من العمل، كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]. وإذا عرفت القلوب عظمة الله، وسعة ملكه، وبره وإحسانه، وعظمة خزائنه فكيف لا تتوجه إليه، وتقف بباب أفقر خلقه إليه؟: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. وهل في الكون من يستحق أن يعبد، ويستحق أن يحمد، ويستحق أن يسأل إلا الله وحده لا شريك له: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]. فبالإيمان والأعمال الصالحة يحصل للمؤمنين في الدنيا: الفلاح .. والهداية .. والنصر .. والعزة .. والتمكين في الأرض .. وحفظهم من الأعداء .. والأمن .. والنجاة من الهلاك .. والحياة الطيبة .. ونزول البركات .. ومعية الله. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. ويحصل لهم في الآخرة: دخول الجنة .. والخلود فيها .. والتمتع بألوان النعيم .. والرضوان من الله .. ورؤيتهم له .. وسماع كلامه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا

وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وحقيقة الدين ولبه اليقين .. وهو تغيير العواطف من المخلوق إلى الخالق، ومن الدنيا إلى الآخرة. ومن ذات الله تنزل الأوامر الشرعية، ومن ذات النفس تخرج أوامر الشهوات، وللحصول على السعادة لا بدَّ من تقديم أوامر الله على أوامر النفس. وجميع الأوامر التي أمر الله بها لها مقابل من الحسنات قولاً وفعلاً واعتقاداً، وجميع النواهي التي نهى الله عنها لها مقابل من العقوبات في الدنيا والآخرة. وللاستفادة من قدرة الله لا بد من امتثال أوامر الله على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة والقلب متوجه إلى غير الله كانت هذه الأعمال سبباً للحرمان ودخول النار: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. فبكمال الإيمان والتقوى يستفيد المؤمن من خزائن الله، والتقوى هي طاعة الله في كل حال. وحفظ التقوى يقوم على أصلين: البيئة .. والمذكر .. فآدم في الجنة وقع في المعصية لعدم البيئة والمذكر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. فعلاج النسيان بالتذكير .. وعلاج ضعف العزيمة بتكوين البيئة الصالحة التي تنشط الإنسان للطاعة، وتزجره عن المعصية. وقد خلق الله الإنسان وجعل مقصد حياته عبادة الله وحده لا شريك له، وأذن له بالاستفادة من هذا الكون كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]. ولكن الإنسان خالف الأمر فجعل الضرورة مقصداً، وأسرف على نفسه، فنزلت به المصائب والعقوبات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ

السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. والإيمان يزيد وينقص، وبقدر الجهد للدين يزيد الإيمان، ثم تزيد الأعمال، وعلى قدر الإيمان تكون الاستفادة فذرة من ذهب وجبل من ذهب كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة. فذرة من ذهب، وجبل من ذهب، كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة. وهكذا الإيمان، بذر الإيمان مثل الذرة فأجره على قدر إيمانه، ولكن من اجتهد على إيمانه حتى صار قوياً فأجره على قدر إيمانه، واستفادته من الإيمان بحسب قوته، ومن عنده شجرة ولم يجتهد عليها تسمى شجرة، لكن من اجتهد عليها كبرت وأخذ منها الثمار الطيبة الكثيرة. وهكذا الإيمان، له شعب كثيرة، يجني المسلم من خلالها أنواع الثمرات، وجزيل الحسنات. اللهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].

2 - فقه الإيمان بالملائكة

2 - فقه الإيمان بالملائكة قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1]. وقال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]. الله تبارك وتعالى خلق جميع الكائنات: خلق السموات والأرض .. وخلق الشمس والقمر .. وخلق الليل والنهار .. وخلق ما نراه وما لا نراه. فخلق الدنيا والآخرة .. وخلق الأجساد والأرواح .. وخلق الإنس والجن .. وخلق الملائكة. والملائكة خلق عظيم من خلق الله خلقهم الله من نور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم» أخرجه مسلم (¬1). والملائكة من حيث الرتبة عباد مكرمون. وهم من حيث الطاعة لله منحهم الله عزَّ وجلَّ الانقياد التام لأمره، وأعطاهم القدرة على تنفيذه، وجبلهم على الطاعة فهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وهم من حيث العمل يعبدون الله ويسبحونه على الدوام: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19، 20]. وهم من حيث العدد خلق كثير لا يحصيهم إلا الله جل جلاله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2996).

منهم حملة العرش .. ومنهم الذين حول العرش .. ومنهم ملائكة السموات .. فالسموات السبع كل سماء مملوءة بالملائكة .. بل ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد لله .. يصلي منهم كل يوم في البيت المعمور فوق السماء السابعة سبعون ألف ملك، فإذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. ففي قصة المعراج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتى السماء السابعة قال: «فَرُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَألْتُ جِبْرِيلَ فَقال: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ» متفق عليه (¬1). والملائكة عالم غيبي لا يحصيهم إلا الله منهم من أعلمنا الله بأسمائهم وأعمالهم، ومنهم من اختص الله بعلمهم. فنؤمن بمن سمى الله منهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومالك خازن النار، ورضوان خازن الجنة، ومن لم نعلم اسمه منهم نؤمن بهم إجمالاً. والملائكة كغيرهم من المخلوقات: متفاوتون في الخلق .. متفاوتون في الصفات .. متفاوتون في الأعمال .. جعلهم الله رسلاً في تدبير أوامره القدرية .. ورسلاً بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره الدينية لرسله وأنبيائه. ومنحهم سبحانه من القوة والقدرة ما يستطيعون به تنفيذ أوامر ربهم في أسرع وقت. فقوة جميع الخلائق كلها لا تساوي قوة ملك من الملائكة، فكيف بقوة جميع الملائكة؟، فكيف بقوة من خلقهم سبحانه؟. فإسرافيل (ملك من الملائكة وكله الله بالنفخ في الصور، والصور قرن كالبوق، وبنفخة واحدة منه يصعق من في السموات السبع ومن في الأرضين السبع. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3207) واللفظ له، ومسلم برقم (162).

فهذه نفخة الصعق. ثم ينفخ في الصور نفخة البعث، فإذا الخلائق كلهم قيام ينظرون. بنفخة واحدة يصعق من في العالم العلوي، ومن في العالم السفلي، إلا من شاء الله. وبنفخة أخرى يقومون لرب العالمين كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. فهاتان نفختان من إسرافيل، بالأولى مات من في العالم، وبالأخرى دبت الحياة في جميع من في العالم. فماذا يملك إسرافيل من النفخات؟. وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكم تكون قوة جسده؟. وكم تكون قوة من خلقه وأمره جلَّ جلاله؟. فسبحان العزيز الجبار الكبير المتعال الذي قهر جميع الخلائق، وخلق القوة في كل قوي: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66]. وجبريل - صلى الله عليه وسلم - ملك من الملائكة وكله الله بالوحي إلى الأنبياء، خلق الله له ستمائة جناح، جناح واحد منها لما نشره سد الأفق. وبطرف جناحه قلع خمس قرى من قرى قوم لوط بما فيها من المخلوقات والجبال ثم رفعها إلى السماء، ثم قلبها عليهم بأمر الله عزَّ وجلَّ. وإذا كانت هذه قوة طرف جناحه، فكم قوة كامل جناحه؟. وكم قوة وعظمة أجنحته الستمائة التي خلقها الله له؟. وإذا كانت هذه قوة طرف جناحه .. فكم تكون قوة جميع أجنحته؟ .. وكم تكون قوة جسده؟. فكيف بقوة خالقه العزيز الجبار جلَّ جلاله؟.

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح. متفق عليه (¬1). وميكائيل - صلى الله عليه وسلم - ملك من الملائكة وكله الله بالقطر والنبات الذي به حياة الأبدان، فكم من المياه يكيلها ويفرقها في العالم بأمر الله؟، وكم من الأرزاق التي يكيلها للخلائق كل يوم بأمر الله؟. فسبحان من أعطاه القدرة على معرفتها وقسمتها وتوزيعها في العالم. وأحد حملة العرش خلقه الله ما بين شحمة أذنه ومنكبه مسيرة سبعمائة عام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود (¬2). وإذا كانت المسافة من الأذن إلى العاتق سبعمائة سنة، فكم تكون المسافة من رأسه إلى رجليه؟. وكم تكون قوة هذا الملك الذي يحمل العرش الذي السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في أرض فلاة؟. وكم عظمة العرش الذي هذا الملك أحد حملته؟. فكيف بقوة وعظمة الذي خلق العرش وخلق حملته، وخلق جميع ما في الكون؟. فما أجهلنا بالرب وأسمائه وصفاته .. وما أجرأنا على معصية أوامره. فاللهم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وخلق الملائكة سابق على خلق آدم أبي البشر، ولما كانت أجسام الملائكة نورانية لطيفة، فإن البشر لا يستطيعون رؤيتهم إلا إذا تمثلوا في صورة بشر. ولم ير الملائكة من هذه الأمة إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه رأى جبريل مرتين في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4857) واللفظ له، ومسلم برقم (174). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4727)، صحيح سنن أبي داود رقم (3953). انظر السلسلة الصحيحة رقم (151).

صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق. والملائكة ليسوا على درجة واحدة في الخلق والمقدار. فبعض الملائكة له جناحان .. وبعضهم له ثلاثة .. وبعضهم له أربعة .. وجبريل له ستمائة جناح. وفي خلقهم يقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1]. ومقاماتهم عند ربهم متفاوتة معلومة كما قال سبحانه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} [الصافات: 164 - 166]. وقال سبحانه في جبريل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 19، 20]. ومنازل الملائكة ومساكنهم في السماء، وينزلون إلى الأرض بأمر الله، لتنفيذ مهمات أوكلت إليهم كما قال جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]. ويكثر نزولهم في مناسبات وأوقات خاصة كليلة القدر التي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4]. والملائكة يموتون عند النفخ في الصور كما يموت الإنس والجن، وتقبض أرواحهم حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم بالبقاء كما قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. والملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى، يستغفرون لمسيئهم، ويثنون على مؤمنيهم، ويدعون لهم، ويعينونهم على أعدائهم من الكفار والشياطين. والشياطين أغش خلق الله لعباده، وعلى أيديهم حصل لهم كل شر وإضلال وغواية وإفساد.

والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة، ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم واستغفاره: استدراراً لمغفرته ورحمته .. ولما يحسون من علوه وعظمته .. ولما يعلمون من جماله وجلاله .. ولما يخشون من التقصير في طاعته وحمده. بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف يكفرون وينحرفون في أقوالهم وأفعالهم، حتى إن السموات ليكدن يتفطرن من فوقهن من شذوذ بعض أهل الأرض، وإشراكهم بالله وكفرهم به. بينما الملائكة الكرام يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} [الشورى: 5]. فتشفق الملائكة من غضب الله، ويروحون يستغفرون لأهل الأرض، مما يقع في الأرض من معصية وتقصير لفاطر السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، كما أخبر الله عنهم بقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. وقد وكل الله بالعرش ملائكة يحملونه .. وملائكة حوله يطوفون به .. لهم زجل بالتسبيح والتقديس والتعظيم لربهم .. صافون لا يسأمون ولا يفترون عن العبادة لربهم .. لا يغشاهم نوم العيون .. ولا سهو العقول .. ولا فترة الأبدان .. ولا غفلة النسيان .. ولا شراب ولا طعام. يا حسرة على العباد ماذا علموا، وماذا جهلوا، من عظمة الرب وقدرته وجلاله وجماله وكبريائه؟. وما الذي غرهم حتى أعرضوا عن ربهم، فعصوه وأطاعوا عدوه؟.

{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} [فصلت: 38]. وقد وكل الله سبحانه بالرياح ملائكة تصرفها بأمره .. ووكل بالقطر ملائكة .. ووكل بالسحاب ملائكة تسوقه وتفرغه حيث أمرت .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬1). ووكل سبحانه بالجبال ملائكة يقومون عليها .. ويحركونها ويرفعونها بأمر الله. ووكل سبحانه بالرحمة ملائكة .. ووكل بالعذاب ملائكة .. ووكل بالوحي ملائكة يؤدونه إلى أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} [النحل: 2]. ووكل سبحانه بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها .. ويصنعون أرائكها وسررها .. وصحافها ونمارقها .. وزرابيها وقصورها. ووكل بالنار ملائكة يبنونها، ويوقدونها ويسجرونها .. ويصنعون أغلالها وسلاسلها .. ويقومون بأمرها: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. ووكل سبحانه بالبحار ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها. ووكل جل جلاله ملائكة بأعمال بني آدم .. خيرها وشرها .. تحصيها وتحفظها وتكتبها كما قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]. وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80]. فالإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به، وهي: ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2984).

الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وإذا عرفنا ذلك فيجب أن نعلم أن كل حركة في العالم العلوي والسفلي فسببها الملائكة، وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته، فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعاً وقدراً، والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره. فهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء: 27، 28]. وجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة، وبها تحرك العالم ولأجلها، فما تحرك في العالم العلوي والسفلي إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها. والملائكة هم المقسمات أمر الله الذي أمرت به بين خلقه كما قال سبحانه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} [الذاريات: 4]. وهم المدبرات أمر الخلائق بأمر الله كما قال سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]. فالملائكة تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، وكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا، وأمور الآخرة، لا يتعدى منه ما قدر له، ولا ينقص منه. فالملائكة ينفذون أوامر الله في خلقه: في كل حال، وفي كل وقت، وفي كل مكان، وفي كل مخلوق .. لايعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. فجبريل - صلى الله عليه وسلم - ينزل بالوحي على الرسل والأنبياء، ويقسم العذاب وأنواع العقوبة على من خالف أمر الله ورسله. وميكائيل - صلى الله عليه وسلم - على القطر والنبات والبرد والثلج، يقسمهما بأمر الله على البلاد والعباد، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وملك الموت - صلى الله عليه وسلم - يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله، فلا يفر من الموت أحد، ولا

يموت أحد قبل أجله، ثم إلى ربهم يحشرون. وإسرافيل يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور. فتدبير أمر العالم العلوي والسفلي إنما هو بأمر الله، على أيدي الملائكة الذين يدبر الله بهم أمر العالم. هذا مع ما في خلق الملائكة من البهاء والحسن، وما فيهم من القوة والشدة، ولطافة الجسم، وحسن الخلق وكمال الانقياد لأمر الله، والقيام بعبادته، وتنفيذ أوامره في أقطار العالم. وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك والنجوم، والشمس والقمر، والرياح والسحاب، والنبات والحيوان، والتراب والجبال، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض ومن فيهن كما قال سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]. والقرآن العظيم كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين جبريل على قلب سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأضاف الله القرآن إلى الرسول الملكي وهو جبريل تارة فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير: 19 - 21]. وأضافه إلى الرسول البشري محمد - صلى الله عليه وسلم - تارة كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 40 - 43]. وإضافة القرآن إلى كل واحد من الرسولين الملكي والبشري إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، فهو كلام الله الذي تكلم به حقاً، وجبريل سمعه من الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والأمة سمعته وبلغها من محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد وصف الله رسوله الملكي جبريل بأنه كريم .. قوي .. مكين عند الرب تعالى .. مطاع في السموات .. أمين. فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن الكريم، فهذا الملك الذي ألقى

القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - ملك كريم جميل المنظر كثير الخير. وكل خير في الأرض من هدى وعلم، ومعرفة وإيمان، وتقوى وبر، فهو مما أجراه ربه على يده، وهذا غاية الكرم. وهو ذو قوة، فبقوته يمنع الشياطين أن تدنوا منه، وأن ينالوا منه شيئاً، وأن يزيدوا في القرآن أو ينقصوا منه. وهو قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته، مؤد له كما أمر به لأمانته. فهو القوي الأمين الذي تطيعه أملاك السموات فيما يأمرهم به عن الله تعالى، وله مكانة ووجاهة عند ربه، وهو أقرب الملائكة إليه، ولعلو منزلته صار قريباً من ذي العرش سبحانه. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - مطاع في الأرض .. وجبريل - صلى الله عليه وسلم - مطاع في السماء .. فكل من الرسولين مطاع في محله وقومه. ووصف الله عبده ورسوله جبريل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفات يدل على عظمة شأن المرسل .. والرسول .. والرسالة .. والمرسل إليه. حيث انتدب له الكريم، القوي المكين عنده، المطاع في الملأ الأعلى، الأمين حق أمين، فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف، ذوي الأقدار، والرتب العالية، فكيف برسول ملك الملوك جبريل - صلى الله عليه وسلم -. فعلينا أن نشعر بوجود هؤلاء الملائكة الكرام الذين هم معنا يكتبون الأعمال، والأقوال، ويحفظونها، وعلينا أن نجلهم ونوقرهم ونكرمهم ونستحي منهم. فالملائكة هم الذين يدافعون عن المؤمن، ويستغفرون له ويدعون له، فلا يليق بالمؤمن أن ينسى جوارهم، ويبالغ في أذاهم، وطردهم عنه. فالملك ضيف الإنسان وجاره، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف من لوازم الإيمان، والملائكة المرافقون للإنسان أكرم ضيف وأعز جار. وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والفواحش والكبائر دعا عليه ربه، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان.

ومعنا من الملائكة من لا يفارقنا فليستح العبد منهم، وليكرمهم، وقد نبه الله على هذا بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12]. أي استحوا من هؤلاء الحافظين الكاتبين الكرام، وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم. والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه وإن كان قد يعمل مثل عمله. فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟. وما الظن بمبارزة الملك العظيم الجبار بالمعاصي والفواحش؟. فما الذي غر الإنسان حتى غرق في بحر المعاصي والفواحش والمنكرات؟. أغره حلم ربه؟، أم يظن أن الله لا يراه؟، أم استغنى بما عنده عن ربه؟، أم يحسب أنه لا يعود إليه؟. {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. وللملائكة مع البشر ثلاثة أدوار: الأول: دورهم مع جميع بني آدم مؤمنهم وكافرهم من تشكيلهم للنطفة، وحراسة العباد، ومراقبة كل أحد، وتبليغ الوحي، ونزع الأرواح ونحو ذلك. الثاني: دور الملائكة مع المؤمنين، ومن ذلك: 1 - محبتهم للمؤمنين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُّحِبُّ فُلاناً فَأحْبِبْهُ، فَيُّحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُّحِبُّ فُلاناً فَأحِبُّوهُ، فَيُّحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرْضِ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3209) واللفظ له، ومسلم برقم (2637).

2 - صلاتهم على المؤمنين، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]. والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة ورحمته له. والصلاة من الملائكة بمعنى الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم. والملائكة يصلون على معلمي الناس الخير .. ويصلون على الذين ينتظرون صلاة الجماعة ما لم يحدثوا .. والله وملائكته يصلون على الصف الأول، وعلى الصفوف المتقدمة .. وعلى الذين يصلون الصفوف، ويسدون الفرج، وعلى الذين يتسحرون .. وعلى الذين يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم -. والملائكة يستغفرون للذين يعودون المرضى. 3 - تأمين الملائكة على دعاء المؤمنين، وبذلك يكون أقرب للإجابة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ، بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَكَ بِمِثْلٍ» أخرجه مسلم (¬1). وإذا كان الدعاء المؤمن عليه حرياً بالإجابة، فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يدعو على نفسه بشر. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدْعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ. فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» أخرجه مسلم (¬2). 4 - استغفارهم للمؤمنين ودعاؤهم لهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. 5 - شهود الملائكة مجالس العلم وحلق الذكر. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2733). (¬2) أخرجه مسلم برقم (920).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ للهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ الله تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأجْنِحَتِهِمْ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» متفق عليه (¬1). وإذا جلس المسلم في حلقة العلم استفاد من الملائكة فائدتين: الأولى: أن الملائكة تحف بمن يطلب العلم إكراماً لهم، وتدعو لهم، وتحرسهم. الثانية: أن الصحبة مؤثرة، فإذا حفتهم الملائكة استفادوا منها كرامتين: أنهم في ذلك المجلس لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وهذان مقصد الحياة: امتثال أمر الله .. وعدم معصية الله. فالأعمال الصالحة تقرب الملائكة منا وتقربنا منهم، ولو استمر العباد في حالة عالية من الإيمان والسمو الروحي لوصلوا إلى درجة مشاهدة الملائكة ومصافحتهم. عن حنظلة الأسيدي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً» أخرجه مسلم (¬2). 6 - تسجيل الملائكة للمسلمين الذين يحضرون الجمعة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى باب الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشاً، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» متفق عليه (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6408) واللفظ له، ومسلم برقم (2689). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2750). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (929) واللفظ له، ومسلم برقم (850).

7 - تعاقب الملائكة على المؤمنين فطائفة تأتي، وطائفة تذهب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه (¬1). ومن الملائكة من يتنزل عند قراءة القرآن يستمعون له. ولله ملائكة سياحون يبلغون سلام الأمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت. ومنهم من يحمل البشارات للأنبياء وغيرهم كما بشرت الملائكة إبراهيم كما قال سبحانه: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} [الذاريات: 28]. وبشرت زكريا بيحيى كما قال سبحانه: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)} [آل عمران: 39]. والملائكة تقاتل مع المؤمنين ضد أعدائهم كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12]. ومنهم من يرسله الله لحماية ونصرة صالحي عباده كما أرسل جبريل لإغاثة هاجر وابنها إسماعيل، فبحث بعقبه حتى خرج ماء زمزم بأمر الله. والملائكة تشهد جنائز الصالحين، وتظل الشهداء بأجنحتها، وتحمي مكة والمدينة من الدجال. والملائكة يؤمنون مع المؤمنين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأمِّنُوا، فَإنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555) واللفظ له، ومسلم برقم (632).

لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه (¬1). فهذه بعض أعمال الملائكة مع المؤمنين. فعلينا أن نتولى جميع الملائكة بالحب والتوقير والإكرام، ونتجنب ما يسيء إليهم ويؤذيهم من المعاصي والمنكرات، والروائح الكريهة. والملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى الله فيها، أو يوجد فيها ما يكرهه الله ويبغضه كالأنصاب والصور، والتماثيل والكلاب، والسكران، والجنب إلا أن يتوضأ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» متفق عليه (¬2). الثالث: دور الملائكة مع الكفار والفساق. فالملائكة لا يحبون الكفرة الظالمين المجرمين، بل يعادونهم ويحاربونهم ويلعنونهم. كما حاربت الملائكة مع المؤمنين ضد الكفار في بدر كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. وكما حاربوا الأحزاب في الخندق كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} [الأحزاب: 9]. وقد أرسل الله ملائكة إلى قوم لوط الذين جمعوا مع الكفر فاحشة إتيان الذكران من العالمين، فرفع جبريل ديارهم بمن فيها ثم قلبها كما قال سبحانه: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (780) واللفظ له، ومسلم برقم (410). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (854)، ومسلم برقم (564) واللفظ له.

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 81 - 83]. والملائكة تلعن الكفرة الذين كفروا بالله ولم يستجيبوا لرسله وماتوا على ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161]. ولا تلعن الملائكة الكفرة فحسب. بل قد تلعن من فعل ذنوباً معينة، كالمرأة التي يدعوها زوجها إلى الفراش فتأبى، فالملائكة تلعنها حتى ترجع. ومن أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، لما فيه من الترويع لأخيه. ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فما أعظم قدرة الله، وما أعظم مخلوقاته، وما أعظم خلقه من الملائكة الذين لا يحصيهم ولا يحصي أعمالهم إلا الله. وله الحمد سبحانه على عنايته ببني آدم حيث وكل من الملائكة من يقوم بحفظهم ونصرتهم والدعاء لهم، والاستغفار لهم. فعلينا محبة جميع الملائكة الذين يقومون بعبادة الله، والدعاء والاستغفار للمؤمنين، وتنفيذ أوامر الله، وتبليغ الوحي إلى رسل الله. إن الإيمان بالملائكة شأنه شأن الحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله، يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون عنده على ما تدركه الحواس وهو ضئيل. كما أنه يؤنس قلب الإنسان بهذه الأرواح المؤمنة من حوله، تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير بإذن الله.

3 - فقه الإيمان بالكتب

3 - فقه الإيمان بالكتب قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 2 - 4]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]. الله تبارك وتعالى هو خالق هذا الكون العظيم، وله ملك السموات والأرض وما فيهن، وله ملك الدنيا والآخرة، ولا بد للملك في ملكه من أوامر، ومن جنود تنفذ وتؤدي هذه الأوامر. وأوامر الله نوعان: أوامر كونية .. وأوامر شرعية. فأوامر الله الكونية القدرية وكل الله الملائكة بتنفيذها في هذا الكون في مخلوقاته سبحانه كما قال سبحانه عن الملائكة: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]. وأوامر الله الشرعية هي الكتب السماوية التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على رسله، وهي تشتمل على الأوامر الشرعية التي تصلح بها أحوال العباد، وتعرفهم بخالقهم ومعبودهم، وما يحب وما يكره، وما يرضيه وما يسخطه من الأقوال والأعمال والأخلاق، وتبين ما للناس بعد القدوم على ربهم في الآخرة من الثواب والعقاب. فلا بد للملك في ملكه من أوامر تصلح بها أحوال رعيته: من حث وتحريص، ونهي وتحذير، وترغيب وترهيب. فمن أحسن أثيب .. ومن أساء عوقب. ولا بد للملك من سفراء بينه وبين خلقه وهم الرسل الذين يستقيمون على أوامر

الله، ويطيعونه تمام الطاعة، ويبينون للناس ما نزل إليه من ربهم من أوامر وأحكام، ويحكمون بين الناس بالعدل والحق في الدنيا، وينفذون أوامره في خلقه، ويبلغون شرعه. ولا بد أن تكون للملك محكمة يحاسب فيها من أطاعه ومن عصاه، فيجزي على الخير خيراً، ويجزي على الشر ما يستحقه من العقوبة، وذلك يوم القيامة. وبعد الحساب يكون للناس فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير: فيكرم الله تبارك وتعالى بالجنة كل من آمن به وأطاعه وعمل بالكتاب الذي أنزله واتبع الرسول الذي أرسله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. ويهين ويذل كل من كفر به وعصاه بما أعد لهم من العذاب في النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. والإيمان بالكتب: هو التصديق الجازم بأن الله عزَّ وجلَّ أنزل كتباً على أنبيائه ورسله هداية لعباده .. وهي من كلام الله حقيقة .. وأن ما تضمنته حق لا ريب فيه .. منها ما سمى الله في كتابه .. ومنها ما لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله وحده لا شريك له. وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن أنه أنزل الكتب الآتية: 1 - صحف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. 2 - التوراة، وهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى - صلى الله عليه وسلم -. 3 - الزبور، وهو الكتاب الذي أنزله الله على داود - صلى الله عليه وسلم -. 4 - الإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى - صلى الله عليه وسلم -. 5 - القرآن، وهو الكتاب الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وهو آخر

الكتب السماوية إلى البشر. فنؤمن بأن الله عزَّ وجلَّ أنزل الكتب السابقة لهداية عباده، وهي شريعة الله ودينه في أوقاتها، ونصدق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة. ونعمل بأحكام ما لم ينسخ منها مع الرضا والتسليم، ونؤمن بما لم نعلم اسمه من الكتب السماوية إجمالاً. وجميع الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها منسوخة بالقرآن العظيم كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. وما في أيدي أهل الكتاب مما يسمى بالتوراة والإنجيل، أو العهد القديم، والعهد الجديد، لا تصح نسبته كله إلى أنبياء الله ورسله، فقد كتب بعدهم، ووقع فيهم التحريف والتبديل، ومنها ما كتموه، ومنها ما افتروه، كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، واتهام الأنبياء بما لا يليق بمقامهم، ووصف الخالق بما لا يليق بجلاله ونحو ذلك. فيجب رد ذلك كله، وعدم الإيمان إلا بما جاء في القرآن والسنة تصديقه. وإذا حدثنا أهل الكتاب فلا نصدقهم ولا نكذبهم ونقول: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان ما قالوه حقاً لم نكذبهم، وإن كان ما قالوه باطلاً لم نصدقهم، ونجادلهم بالتي هي أحسن إلا الظالم منهم، ومجادلتنا لهم مبنية على الإيمان بما أنزل إلينا، وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولنا ورسلهم، وأن إلهنا جميعاً واحد، فلا نقدح في شيء من كتب الله المنزلة، ولا في أحد من رسله كما قال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت: 46].

والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وأفضلها وأكملها، أنزله الله عزَّ وجلَّ على خاتم رسله، وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. فالقرآن العظيم أفضل الكتب .. نزل به أفضل الملائكة وهو جبريل .. على أفضل الخلق وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .. على أفضل أمة أخرجت للناس وهي هذه الأمة .. بأفضل الألسنة وأفصحها وهو اللسان العربي المبين .. بأفضل شريعة وأكملها وهي ما فيه من الأحكام والسنن والآداب. فيجب على كل أحد الإيمان به والعمل بأحكامه والتأدب بآدابه. ولا يقبل الله العمل بغيره بعد نزوله، وقد تكفل الله بحفظه، فسلم من التحريف والتبديل، ومن الزيادة والنقصان كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. وكتاب الله ومنهجه وشرعه للبشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. فلله الحمد والشكر، وله المنّة والفضل حيث أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا أفضل كتبه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وقد وصف الله عزَّ وجلَّ القرآن الكريم بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه، وجلالة قدره وعظمته فقال سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 77 - 80]. والكريم: هو البهي الحسن، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أفضله وأحسنه. وقد وصف الله نفسه بالكريم .. ووصف كتابه بالكريم .. ووصف عرشه

بالكريم .. ووصف رسوله الملكي جبريل بالكريم .. ووصف رسوله البشري محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالكريم. والقرآن الكريم لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة بنجاسة البدع والشرك والمعاصي أن تنال معانيه أو تفهمه كما ينبغي. إن القرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، فلا يفهمه ولا يجد طعمه إلا من آمن به، ولا يلتذ به وبقراءته وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله، تكلم به حقاً، وأنزله على رسوله وحياً. ولا ينال بركته ولا يستفيد من معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه فهو كتاب جليل القدر عظيم النفع، حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكم مفصل. أصدق الكلام وأحسنه وأكمله: فيه الأمر والنهي .. والوعد والوعيد .. والثواب والعقاب، تطمئن به القلوب .. وتنشرح له الصدور .. أنزله الله هدى ونوراً وشفاء للبشرية إلى يوم القيامة: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2]. فمن لم يؤمن بأن الله تكلم به وحياً ففي قلبه حرج منه. ومن لم يؤمن بأنه حق من عند الله ففي قلبه حرج منه. ومن قال إن له باطناً يخالف ظاهره ففي قلبه حرج منه. ومن قال إن له تأويلاً لا نفهمه ولا نعلمه، وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه حرج منه. ومن سلط عليه الآراء الشاذة، وجعله تابعاً لنحلته ومذهبه تعصباً، في قلبه حرج منه. ومن لم يأتمر بأمره، وينزجر عن زواجره، ويصدق أخباره، ويعمل بمحكمه،

ويؤمن بمتشابهه، ويرد ما سوى ذلك، ففي قلبه حرج منه. ومن لم يحكمه ظاهراً وباطناً في جميع شعب الحياة، ويسلم وينقاد لحكمه أيا كان وأين كان، ففي قلبه حرج منه. وكل كتاب من كتب الله عزَّ وجلَّ جاء بثلاثة أمور: الأول: تعريف الناس بربهم ليعبدوه ويطيعوه، ويجتنبوا عبادة ما سواه. الثاني: تعريفهم بالطريق الموصل إليه، والذي يحبه ويرضاه، وهو شرعه الذي أرسل به رسله، وما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي. الثالث: تعريفهم بحالهم بعد القدوم على ربهم بعد الموت، فللمؤمنين بالله الجنة، وللكفار النار، كل يجازى بحسب عمله. والشرائع التي أنزل الله ثلاث: شريعة عدل: وهي شريعة التوراة، فيها الحكم والقصاص بالعدل، وهي شريعة الجلال والقهر. وشريعة فضل: وهي شريعة الإنجيل، وهي مشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان، فهي شريعة الجمال والفضل والإحسان. وشريعة جمعت هذا .. وهذا (العدل والإحسان)، وهي شريعة القرآن. فإنه يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه، ويذكر الظلم ويحرمه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وقال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. وقد أرسل الله بهذه الشريعة محمداً - صلى الله عليه وسلم -. فشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءت في مظهر الكمال، الجامع للجلال والجمال، جمعت بين العدل والشدة في الله، وبين اللين والرأفة والرحمة في الله. فشريعة موسى جاءت بالجلال .. وشريعة عيسى جاءت بالجمال .. وشريعة

محمد جاءت بالكمال الجامع للجلال والجمال .. ولهذا رضيها الله للبشر ديناً إلى يوم القيامة. فشريعته - صلى الله عليه وسلم - أكمل الشرائع، وهو أفضل الأنبياء وأكملهم، وأمته أكمل الأمم، وكتابه أحسن الكتب. فهو سيد الأنبياء وخاتمهم .. وأمته أفضل الأمم وآخرها .. وكتابه أفضل الكتب وأحسنها .. وشريعته أكمل الشرائع وآخرها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، وعلى سيد الخلق نبينا محمد، الذي يحمده لجمال صفاته أهل السماء والأرض، أحمد الخلق لربه، وأحق بأن يحمد أكثر من غيره، فقد جاء من ربه بأعظم شرع، وأحسن كتاب. وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن القرآن الكريم: بأنه ذكر للعالمين بقوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)} [التكوير: 27]. وأنه تذكرة للمتقين بقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الحاقة: 48]. وأنه ذكر مبارك بقوله سبحانه: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} [الأنبياء: 50]. فالقرآن الكريم ذكر للعالم أجمع، فهو المنهج الكامل الوحيد الذي يسعدون باتباعه في الدنيا والآخرة. وهو ذكر لأهل الإيمان والتقوى، فهو هدى وذكرى. يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم .. ويذكرهم بالمبدأ والمعاد. ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده. ويذكرهم بالخير ليفعلوه .. ويذكرهم بالشر ليجتنبوه. ويذكرهم بنفوسهم وآفاتها وما تكمل به. ويذكرهم بعدوهم، وما يريد منهم، ومن أي الطرق يأتي إليهم؟، وبماذا يحترزون من كيده؟.

ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إلى ربهم، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه لحظة أبداً. ويذكرهم بنعم الله عليهم ليشكروه، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها. ويذكرهم برحمته وعفوه ليقبلوا عليه، ويتوبوا إليه. ويذكرهم بأسه وشدة بطشه وانتقامه، ممن عصى أمره، وكذب رسله، ليخافوه ويهابوه ويطيعوه. ويذكرهم بثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه ليقبلوا على ما ينفعهم، ويحذروا مما يضرهم، وينافسوا في الخيرات. ويذكرهم بما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يحبه الرب وما يبغضه. ويذكرهم بصفات أوليائه ليفعلوها ويتحلوا بها. ويذكرهم بصفات أعدائه ليجتنبوها ويحذروا منها. ويذكرهم بعاقبة هؤلاء وهؤلاء. ولهذا يأمر الله عباده أن يذكروا ما في كتابه من المواعظ والشرائع والأحكام وأن يأخذوها بقوة كما قال سبحانه: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} [الأعراف: 171]. وكون القرآن ذكراً للعالمين كلهم غير جهة كونه ذكراً للمتقين، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع. والكون كتاب الله المنظور .. والقرآن كتاب الله المقروء. وكلاهما دليل على الخلاق العليم، كما أن كليهما كائن ليعمل. فالكون كله بما فيه من مخلوقات ما زال يتحرك، ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه بطاعة تامة لربه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 49 - 50]. والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية التي آمنت به وحكمته، واستجابت لأوامره.

فهذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود. ووجهت به أحداث واقعية في حياة الأمة. واستقامت به حياة إنسانية في هذه الأرض. وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس الإنسانية، وفي رقعة من الأرض كذلك. فكانت النتائج طيبة مباركة، سعادة من تمسك به في الدنيا والآخرة، وخذلان من خالفه وشقاءه في الدنيا والآخرة. ذلك هو جيل الصحابة الذين تلقوا الدين والإيمان مباشرة قلبياً وعملياً من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والقرآن هو القرآن .. والإنسان ما يزال هو الإنسان .. والقرآن هو خطاب الله لكل إنسان إلى يوم القيامة. فالكون يتحرك بأمر الله الكوني القدري، والإنسان كذلك يجب أن يتحرك بأمر الله الديني الشرعي، ليوافق الكائنات في العبادة والطاعة، فالكون له أوامر .. والإنسان له أوامر .. وكل إليه راجعون. فهل نستفيد من القرآن كما استفاد الصحابة؟، وهل نعمل به كما عملوا لنسعد في الدنيا والآخرة؟. يا ويح البشرية إن الدواء والشفاء الذي يشفيها من عللها وأمراضها موجود بين أيديها ولكنها لا تستفيد منه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16]. وتلك مصيبة، ومصيبة أعظم منها، أنها تطلب شفاءها وسعادتها فيما يزيد آلامها، ويوسع جراحها، ويشقيها في الدنيا والآخرة، مما يخالف كتاب ربها وهدى نبيها - صلى الله عليه وسلم -، من قوانين الأمم الكافرة الأخرى.

فماذا أعد الله لهؤلاء في الدنيا والآخرة؟: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. ما الذي دهى كثيراً من المسلمين حتى رفعوا أحكام القرآن من واقع الحياة؟، وما الذي صرفهم عن مصدر عزهم وسعادتهم؟. لقد كان هذا القرآن العظيم هو مصدر المعرفة والتربية، والتوجيه والتكوين، لجيل من البشر فريد، وهو جيل الصحابة الكرام. لقد أنشأ الله بمشيئته وقدرته بهذا الكتاب تلك المعجزة المجسمة في عالم البشر، وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي معجزة واقعة مشهودة، وذلك المجتمع الفريد كانت تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب العزيز. وكان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية لما يتحلى به من مكارم الأخلاق وحسن الآداب، التي رضي الله عنهم بها، ورضوا عنه، وكانوا بإيمانهم وأخلاقهم وأعمالهم قدوة ورحمة للبشرية فرضي الله عنهم أجمعين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. والمجتمعات التي تفوق المسلمين في الإمكانات المادية، لا تطاولهم في الإيمان والأخلاق الكريمة العالية، وحياة اليوم كالأمس. فهل تحكم الأمة كتاب ربها ليعزها ويرفع ما بها من ذل؟. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10]. وإذا هجرت الأمة كتاب ربها .. وسكت العلماء عن بيان الحق وأحكام الدين .. وقعد الدعاة عن نشر الدين بين الأمم .. واشتغل الناس بالأموال والأشياء .. وزهدوا في الإيمان والأعمال .. وفقد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .. ونقضت الأمة عهد ربها وميثاقه. إذا حصل هذا في الأمة فقد أحلت بنفسها غضب الله وسخطه، واستوجبت

عقوبته: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44، 45]. لقد عاشت الأمة الإسلامية أزهى عصورها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وعهد خلفائه الراشدين، ولكن سرعان ما تصدع جدار الإيمان والتوحيد من بعدهم، فانقطعوا عن مصدر عزهم، فخضعت رقابهم وديارهم لعدوهم. فأصبحت الأمة من بعدهم بحاجة ماسة للعودة إلى مصدر عزها، حيث نالتها الضربات والأوجاع من كل ناحية. وكم كاد الكائدون لهذا الدين، وهذا القرآن بوسائل خفية عنيفة مستمرة طويلة الأمد، وطرق خبيثة ماكرة لئيمة، وحشدت لذلك الطاقات والأفكار، والأموال والحديد والنار؟. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8]. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا. وارزقنا حسن تلاوته، وحسن العمل به، وحسن الدعوة إليه.

4 - فقه الإيمان بالرسل

4 - فقه الإيمان بالرسل قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء: 152]. وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 179]. الإيمان بالرسل: هو التصديق الجازم بأن الله عزَّ وجلَّ، بعث في كل أمة رسولاً، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، واجتناب ما يعبد من دونه. وأنهم جميعاً مرسلون صادقون، وقد بلغوا جميع ما أرسلهم الله به. منهم من أعلمنا الله باسمه، ومنهم من استأثر الله بعلمه. والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع، وأمره بتبليغه إلى من لا يعلمه، أو يعلمه ولكنه خالفه. والنبي من أوحى الله إليه بشرع سابق، ليعلم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده. فكل رسول نبي ولا عكس، ويطلق الرسول على النبي، والنبي على الرسول، فإذا اجتمعا في آية فلكل معناه. وقد بعث الله إلى كل أمة رسولاً كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وعدد الأنبياء والرسل لا يعلمه إلا الله. منهم من بين الله أسماءهم في القرآن، وقص علينا أخبارهم وهم خمسة وعشرون: آدم .. ونوح .. وإدريس .. وهود .. وصالح .. وشعيب .. وإبراهيم .. وإسحاق .. وإسماعيل .. ويعقوب .. ويوسف .. وموسى .. وهارون .. وداود .. وسليمان ..

وأيوب .. واليسع .. ويونس .. ولوط .. وإلياس .. وزكريا .. ويحيى .. وذو الكفل .. وعيسى .. ومحمد .. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فنؤمن بهؤلاء جميعاً وبما جاء من أخبارهم وقصصهم. ومن الأنبياء والرسل من لم نعلم أسماءهم، ولم يقص الله علينا خبرهم، فنؤمن بهم إجمالاً تصديقاً لخبر الله عنهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} [غافر: 78]. وأولو العزم من الرسل خمسة ذكرهم الله بقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. وأول الرسل من ذرية آدم نوح، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعث الله كل رسول إلى قومه خاصة، وبعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله رحمة للعالمين كما قال سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وهو رسول الله بالإٍسلام إلى الناس كافة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28]. وقد أرسل الله الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وتحذيرهم من عبادة ما سواه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وأمرهم الله ببيان الطريق الموصل إليه، وما للناس بعد القدوم عليه وإقامة الحجة على الناس، وأرسلهم رحمة للناس كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].

وجميع الأنبياء والرسل رجال من البشر اصطفاهم الله بالرسالة، واجتباهم من بين سائر عباده، وفضلهم بالنبوة والرسالة. والأنبياء بشر مخلوقون يأكلون ويشربون .. ويقومون وينامون .. ويسهون وينسون .. ويصيبهم المرض والموت. وهم كغيرهم لا يملكون شيئاً من خصائص الربوبية والألوهية، فلا يملكون النفع والضر لأحد إلا ما شاء الله، ولا يملكون شيئاً من خزائن الله، ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه كما قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. والأنبياء والرسل أطهر البشر قلوباً، وأصدقهم إيماناً، وأكملهم ديناً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقواهم عبودية، اصطفاهم بالوحي والرسالة، وأمرهم بإبلاغها إلى الناس، ووعدهم على ذلك الجنة، وقد صدقوا وبلغوا عليهم الصلاة والسلام. فيجب علينا الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، ومحبتهم، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعاً. ويجب تصديق ما صح عنهم من أخبارهم مع أممهم، والاقتداء بهم في صدق الإيمان، وكمال التوحيد، وحسن الخلق، والعمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم وأفضلهم وسيدهم، المرسل إلى الناس كافة، وإلى العالم قاطبة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136]. وعلينا محبة جميع أنبياء الله ورسله، والثناء عليهم من غير إطراء، وتوقيرهم، لأنهم رسل الله قاموا بعبادته، وإبلاغ رسالاته، والنصح لعباده وصبروا على ذلك. ألا ما أعظم رحمة الله بعباده، وشدة عنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم الرسل

يدعونهم إلى ربهم، ويبينون لهم كيف يعبدونه. فلله الحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى في الأولين والآخرين. هو أحق من عُبد، وأحق من حُمد، وأكرم من سُئل، وأرأف من مَلك، وأعظم من عَفا. ورسل الله إلى خلقه هم أفضل البشر على الإطلاق. لأنهم يدعون الناس إلى ربهم، ويهدونهم إلى خالقهم، ويتعبون من أجل راحتهم. فما أسعد من آمن بهم، وتشرف بصحبتهم واتباعهم، وما أحسن صحبتهم في الدنيا والآخرة، وإنما ينال العبد ذلك إذا أطاع الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذاقوا طعم صحبته في الدنيا يتشوقون إلى صحبته في الآخرة، فقد كان أمر الصحبة في الآخرة يشغل قلوبهم وأرواحهم. وإنه حقاً لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم، وعرف ما قام به، وما جاء به من الخير. عن رَبِيعَةُ ابْنُ كَعْبٍ الأسْلَمِيُّ، قال: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ، فَأتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَقَالَ لِي: «سَلْ». فَقُلْتُ: أسْألُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قال: «أوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟». قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قال: «فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» أخرجه مسلم (¬1). وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (¬2). وهذه المحبة للرسل إنما تنشأ من معرفة عظمة ما جاءوا به من الخير .. ومن ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (489). (¬2) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (6170) واللفظ له، ومسلم برقم (2641).

حسن أخلاقهم .. ومن معرفة رحمتهم للبشر .. وبذلهم ومواساتهم .. ومن صبرهم وتحملهم من أجل هداية البشرية .. ومن معرفة كمال عبوديتهم لربهم .. وشكرهم لمولاهم. ووظيفة الرسول أداء الرسالة، لا إحداث الخير، ولا إحداث السوء فهذا من أمر الله. وأمر الناس مع الرسول أن من أطاعه فقد أطاع الله. ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه، ولم يرسل الرسول ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال، فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول، ولا داخلاً في قدرة الرسول، وإنما ذلك بيد الله وحده: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 99 - 100]. فكل ما يحصل في الكون لا يكون إلا بإذن الله وإرادته، وقدره ومشيئته، وكل ما يحصل للناس من الحسنات والسيئات، والنعم والمصائب، فلا يقع إلا بإذن الله وإرادته. وما يصيبهم من حسنة ونعمة فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته، وفضله وإحسانه. وما يصيبهم من سيئة ومصيبة فهو من عند أنفسهم، لأنه حصل لهم بسبب تنكبهم عن منهج الله، والإعراض عنه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. والإيمان بالرسول: طاعته فيما أمر .. وتصديقه فيما أخبر .. واجتناب ما نهى عنه وزجر .. وألا بعبد الله إلا بما شرع. والرسول - صلى الله عليه وسلم - وظيفته أنه رسول يبلغ ما جاء به من عند الله إلى خلقه، وطاعته

فيما يأمر به طاعةً لله. وليس هناك طريق لطاعة الله غير طاعة رسوله. والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي بعد البلاغ والبيان: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]. والأنبياء والرسل هم مصابيح الدجى، وينابيع الهدى في هذه الأرض، فهدى الله للبشر جاء بواسطتهم، وما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الله الكتب إلا ليحكم بها بين الناس بالعدل. وما قدر الله حق قدره، ولا عرف حكمته ورحمته، وعدله وإحسانه وكرمه وفضله من أنكر بعثة الأنبياء وإرسالهم إلى الناس، فما أسفه هؤلاء وأجهلهم بربهم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91]. وكل هذا جهل بقدر الله سبحانه، فالله العظيم الكريم، العدل الرحيم، العليم الحكيم، لا يدع هذا الإنسان وحده وهو الذي خلقه، ويعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، وحاجته إلى منهج يعتمد عليه، ومبادئ يرجع إليها في أفكاره وأقواله وأفعاله. ويعلم سبحانه أن العقل الذي أعطاه، لا يستقل بمعرفة ما ينفعه وما يضره، ويتعرض لضغوط كثيرة من رغباته وشهواته، فضلاً على أنه موكل بالاستفادة من طاقات الأرض التي سخرها الله له. وليس العقل موكلاً بصياغة نظام للحياة، فهذا مجال الدين والشريعة التي تأتي من الله بواسطة رسله فيؤمن بها ويتبع ما جاءت به. ومن ثم لا يكل الله الإنسان إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع في فطرته من معرفة ربه، وشوقه إليه، ولجوئه إليه في الشدائد.

فهذه الفطرة قد تفسد بسبب المؤثرات، وبسبب الإغواء والتزيين الذي يقوم به شياطين الإنس والجن، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير. إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله، وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية الظلام والتضليل الذي أصابهم. وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه. فما كان الله ليخلق البشرية، ويجمعهم في الأرض، ثم يتركهم سدى، ثم يحاسبهم يوم القيامة، ولم يبعث فيهم رسولاً يبين لهم ما يتقون، وينزل عليهم كتاباً به يهتدون. بل منَّ الله على البشرية كافة، ببعثة الأنبياء والرسل إليهم كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره .. وأمروهم بعبادة الله وحده .. وأخبروا أممهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً .. ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه .. ولا يملكون بسط الرزق أو قبضه لأحد .. وأنذروا قومهم الآخرة .. وما فيها من حساب وجزاء، وثواب وعقاب. فهذه الأصول التي دعا إليها كل رسول من رسل الله إلى عباده. والإيمان بالرسل ليس فقط اعتقاد بالقلب، بل هو مع ذلك عمل إيجابي في تنفيذ جميع ما جاءوا به، في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه .. وهو إبلاغ رسالة الله إلى عباده. فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ودينه وشرعه مقتضاه أن ينهض المؤمن لينصر ما آمن به، وليقيمه في الأرض، وليحققه في حياة الناس كافة.

وذلك يحتاج إلى دعوة وبذل الأنفس والأموال والأوقات لنشره في العالم، ويحتاج إلى نصرة وجهاد لتحقيقه، ولحمايته من أعدائه بعد تحقيقه. إن الإيمان بالرسل والإقرار بالرسالة والعمل بموجبها هو الذي يجعل هناك قاعدة لما يريده الله من البشر، كي يتلقى البشر كل ما يتعلق بالعبودية لله من مصدر واحد. هذا المصدر الأمين الذي اصطفاه الله واجتباه هم فقط الأنبياء والرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى عباده. وذلك حتى لا يقوم كل طاغوت مفترٍ، يقول للناس قولاً، ويشرع للناس شرعاً، ثم يزعم أن الله شرعه وأمر به. بينما هو يفتريه من عند نفسه، وفي كل جاهلية في الأرض يقوم بين الناس من يشرع الشرائع والنظم، ثم يقول هذا من عند الله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79]. وما يحسم هذه الفوضى، وهذا الاحتيال على الناس باسم الله، إلا أن يكون هناك مصدر واحد مبلغ عن الله هم رسله الذين اختارهم وأرسلهم. وما أعظم جرم هؤلاء الناس الذين يفترون على الله الكذب، ويضلون الناس بباطلهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144]. إن الدين عند الله الإسلام، والشرائع السماوية يكمل بعضها بعضاً، ومقصودها الإيمان بالله، والتسليم له في كل شيء، وعبادته وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 179]. والشرائع السماوية السابقة كلها أكملها الله بالإسلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليكمل اللبنة الناقصة في البناء الإيماني، ليكمل البناء، ويكون صالحاً مفتوحاً

لكل فرد من البشرية إلى يوم القيامة، وإنها لنعمة كبرى من الكريم على خلقه لو كانوا يفقهون: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قال: فَأنَا اللَّبِنَةُ، وَأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» متفق عليه (¬1). فما أعظم فضل الرب على الناس .. وما أعظم رحمته لهم .. وما أعظم عنايته بهم. يرسل إليهم رسولاً بعد رسول .. وينزل عليهم أمراً بعد أمر .. ويهديهم بكتاب بعد كتاب .. حتى أكمل الله الدين .. وبعث به رسول الله خاتم النبيين .. ورضيه منهاجاً للحياة إلى يوم الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. فيا لها من نعمة ما أعظمها، وتكرمة ما أجلها، وحلية ما أحسنها. وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غيره عذب به. فمن يشعر ويحس بقيمة هذه النعمة الكبرى؟: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61]. إن البداية من الله .. وإن البقاء في الدنيا بأمر الله .. وإن النهاية إلى الله .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. فلا حل ولا نجاة ولا فلاح للبشرية في الدنيا والآخرة إلا بالتسليم لله وطاعته وعبادته وحده لا شريك له: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3535) واللفظ له، ومسلم برقم (2286).

وقد ألقى الله سبحانه على الأنبياء والرسل تبعة ثقيلة عظيمة، وألقاها من بعدهم على المؤمنين برسالاتهم تجاه البشرية كلها. وهي تبعة عظيمة ثقيلة بمقدار ما هي جسيمة وكبيرة. إن مصائر البشرية كلها في الدنيا والآخرة منوطة بالرسل .. وبأتباعهم من بعدهم .. فعلى أساس تبليغهم ما أمرهم الله به للبشر تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم .. ويترتب عليه ثوابهم أو عقابهم في الدنيا والآخرة. ولهذا أكد الله على رسله إبلاغ جميع ما أرسلوا به للناس، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. إن أمر الرسالة وإبلاغ أوامر الله لعباده أمر هائل عظيم كبير، ومن ثم كان الرسل يحسون بجسامة ما كلفوا به، وكان الله يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم، ويعلمهم كيف يتهيأون له، ويستعدون للقيام به، كما قال الله لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 1 - 5]. فالأنبياء ليس لهم عمل إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، ودعوة الناس إلى دينه، وتعليمهم أحكامه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - خير من عبد ربه .. فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه .. وهو خير من دعا إلى ربه .. فقد بلغ البلاغ المبين .. ودعا إلى ربه حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. وهو خير من علم أحكام الشرع .. فقد ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك. حقاً، إنه أمر هائل عظيم، أمر رقاب الناس، أمر حياتهم ومماتهم، أمر سعادتهم

وشقاوتهم، أمر ثوابهم وعقابهم. فالبشرية في أنحاء الأرض قاطبة: إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها يوم القيامة لأنها لم تبلغ ولم تعلم، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها، وعذابها في الآخرة، معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ؟. والله يقول لكل مسلم: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. فأما رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فقد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، وجاهدوا في الله حق جهاده. بلغوا الرسالة دعوةً باللسان .. وقدوة حسنة للعباد .. وجهاداً مضنياً بالليل والنهار .. ودعوة ودعاء يملأ الأوقات، والألسنة، والقلوب. وجهاداً في سبيل الله متواصلاً لإزالة العقبات والعوائق: سواء كانت هذه العقبات شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة، وتفتن الناس عن دينهم. ثم مضى هؤلاء الأنبياء والرسل إلى ربهم مبلغين لدين ربهم، خالصين من هذا الالتزام الثقيل، من أول الرسل نوح - صلى الله عليه وسلم - إلى خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. وبقي هذا الواجب الثقيل على من بعده من المؤمنين برسالته. فهناك أجيال وأجيال جاءت وستجيء من بعده - صلى الله عليه وسلم -، ودعوة هؤلاء إلى الإسلام وتبليغهم الدين منوط بعده بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة، تبعة إقامة حجة الله على الناس، وتبعة استنقاذ البشرية من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء، على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى:

جهد وتضحية .. وحكمة ورحمة .. وحلم وصبر .. وبذل وإحسان .. ودعوة ودعاء. فالرسالة هي الرسالة، والناس هم الناس، والوظيفة هي الوظيفة. وهناك في كل زمان وفي كل مكان: ضلالات وأهواء .. وشبهات وشهوات .. وقوى طاغية في البر والبحر والجو .. تقوم دون الناس .. ودون الدعوة .. وتفتنهم عن دينهم بالتضليل .. وبالقوة والقهر .. وبالسخرية والاستهزاء .. وبالقتل والتشريد: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8]. وأمام هذا ليس هناك إلا حل واحد، ومركب واحد ينقذ البشرية والإنسانية مما هي فيه من الجاهلية والضلال، والفتن والظلام، ألا وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. لا بد من استقامة على الدين. ولا بد من إبلاغ للدين الحق. بلاغ للبشرية بالبيان .. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية للدين والأخلاق .. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة .. وتفتن الناس بالباطل وبالقوة، وإلا فلا بلاغ ولا أداء. ومن العقوبة والخسران أنه الأمر الواجب على المؤمنين الذي لا حيلة في النكوص عن حمله، وإلا فهي التبعة الثقيلة المؤلمة: تبعة ضلال البشرية كلها، وحرمانها من حقها، وشقوتها في الدنيا والآخرة .. وتبعة عدم قيام حجة الله عليها في الآخرة .. وحمل التبعة في هذا كله .. وحرمانها من الجنة، وعدم النجاة من النار. ألا ما أخطر الأمر؟ .. وما أعظم نقض العهد .. وعدم أداء حق البشرية. من ذا الذي يستهين بهذه التبعة العظيمة، التي تقصم الظهر، وتهز المفاصل، وترعد لها الفرائص؟.

إن المسلم إما إن يستقيم كما أمر الله، ويبلغ ويؤدي هكذا، وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا أخرى. وحين يقول المرء أنه مسلم ثم لا يبلغ الدين، ولا يؤديه إلى الآخرين إنما هذا يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه، بدلاً من أداء شهادة له تحقق فيه قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فهذه الأمة عدل خيار وسط، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر. فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين: وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك. ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيبات أحلت لهم عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا كل شيء. ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل وا لإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم. فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أحسنها، ومن الأعمال أفضلها، ولهذا كانوا وسطاً كاملين، ليكونوا شهداء على الناس، بسبب عدالتهم، وحكمهم بالقسط. وتبدأ شهادة المسلم للإسلام بأن يكون هو بذاته، ثم بيته وعائلته، ثم أسرته وعشيرته صورة واقعية حية من الإسلام الذي يدعو إليه. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بدعوة الأمة إلى الله، لتحقق الإسلام في حياتها كلها، حسب أمر الله ورسوله. وتنتهي شهادته بالجهاد في سبيل الله لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم

عن دينهم، من أي لون كانت هذه العوائق. فإذا استشهد في هذا فهو إذاً شهيد .. أدى شهادته لدينه .. ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو الشهيد .. بل هو أعلى الشهداء. وهذا عمل الأنبياء، بل عمل سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه. والله رؤوف بالعباد، والملك ملكه، والخلق خلقه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا يمكن أن يترك خلقه للشياطين تعبث بهم. فحين حرف اليهود والنصارى كتاب ربهم .. وبدلوا شرائعه .. وكذبوا وافتروا .. وظلموا وطغوا .. وجحدوا وكتموا الحق .. وصدوا عن سبيل الله .. وقتلوا الأنبياء والرسل .. وتركوا العمل بدينهم .. ونقضوا العهد .. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .. واشتروا به ثمناً قليلاً .. وقالوا على الله ورسله غير الحق. بعد هذا الظلم والعناد، والإعراض والإفساد، اقتضت حكمة الله ورحمته بالبشرية أن يرسل رسولاً يهديها إلى الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله. فأرسل الكريم الرحمن جل جلاله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} [النساء: 170]. فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات، يبلغ إلى الناس كافة، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة، ولم يكن بد من هذ الرسالة العامة. فكانت حقاً هذه الرسالة الكاملة رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وأهل الأرض قاطبة، واليهود والنصارى، كل هؤلاء مدعوون إلى الإسلام، مدعوون إلى الإيمان بالله، والإيمان بهذا الرسول، ونصره وتأييده، كما أخذ

عليهم ميثاقه بالإيمان به. فهو رسوله إلى أهل الكتاب، كما أنه رسوله إلى العرب، ورسوله إلى الناس كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل زمان، وكل مكان. فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله، أو الادعاء أنها خاصة بالعرب، أو أنها غير موجهة إلى أهل الكتاب: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15]. فهو رسول الله إلى الناس وإليكم، ودوره أن يبين لكم ويكشف ما تواطأتم على إخفائه، من حقائق كتاب الله الذي معكم. وقد أخفي اليهود كثيراً من أحكام الشريعة كرجم الزاني، وتحريم الربا، وقصة أصحاب السبت الذين مسخهم الله قردة وخنازير. وأخفى النصارى الأساس الأول للدين وهو التوحيد، فقالوا تارة إن الله ثالث ثلاثة، وتارة قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وتارة قالوا المسيح ابن الله. كما أخفى أهل الكتاب خبر بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]. والله تبارك وتعالى يتودد إلى أهل الكتاب، ويبين لهم أنه بُعث إليهم، وإلى غيرهم رسولاً يهديهم إلى ربهم، بعدما ضلوا وانحرفوا عن الحق كما قال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} [المائدة: 19]. إن الله الذي خلق هذا الكون وعجائبه، وسيره بأوامره، هو الذي خلق الإنسان

وفطرته، وهو الذي وضع للإنسان المنهج الذي يسير عليه. وهو سبحانه الذي رضي للبشرية هذا الدين. فبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، حيث لا يهديهم منهج غيره من نتاج البشر العاجزين. فالواجب على البشرية كافة أن تشكر الله على ما أنعم به عليها من هذا الدين الكامل، وتتبع الصراط المستقيم والدين القويم الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. فأما القول بأن الله هو المسيح ابن مريم، أو أن المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة فهو الكفر والشرك. وأما القول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أو أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، فهو الافتراء والكذب الذي لا دليل عليه. فهل يستحق قيادة البشرية من ظلمها .. وصد عن سبيل الله .. وكفر بالله .. وقتل رسله .. ونقض العهد: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155]. وهل يستحق الإمامة من يقول عن ربه: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181]. أو يقول عن خالقه إنه بخيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]. أو يقول عن ربه إنه أب: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. وهل يستحق إمامة البشرية من استهان بالإله وأشرك به، وهل بعد هذا من كفر؟:

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [المائدة: 73]. وماذا بقي من شريعة اليهود والنصارى؟. وهل قامت هذه الشريعة في حياتهم؟. وما هو مصير البشرية لو بقيت بدون إيمان يصلها بربها، وشريعة تستقيم بها حياتها؟. ومن هنا كانت رحمة الله بالبشرية، ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الله الحجة على أهل الكتاب وغيرهم، فهو مبعوث إلى الناس كافة إلى يوم القيامة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. إن أشد القلوب استعصاءً على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت، كاليهود المغضوب عليهم، ثم يليهم النصارى الضالون. فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها، وينف عنها الركام والغبار، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها أول مرة. فأما القلوب التي نوديت من قبل، فالنداء الثاني لا تكون له جدته، ولا تكون له هزته، ولا يقع فيها الإحساس بجديته وأهميته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف، والصبر الطويل، وهذا ما حصل. فلم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى إلا القليل، بينما أسلم من الكفار والمشركين ما يزيد على مائة ألف، شهدوا معه حجة الوداع، ثم تتابع دخول الناس في دين الله أفواجاً.

إن الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الإٍسلام في صورته النهائية الأخيرة، ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً، ولتهيمن على كل ما كان قبلها، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله للحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. ويحكم بها بين الناس: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. ولا يحل لأحد أن يترك شريعة الله في أي حال، طالما أنه ليس هناك رسول جديد ولا رسالة جديدة. لقد أكمل الله عزَّ وجلَّ لنا هذا الدين، وتمت به النعمة على العباد، ورضيه الله منهج حياة للناس أجمعين، ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقد علم الله سبحانه حين رضيه للناس أنه يسع الناس جميعاً، وعلم حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً، وعلم سبحانه أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم، وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله. وحذر سبحانه من اتباع أهواء الضالين الذين في نفوسهم رغبة خفية لتأليف القلوب ولو على غير الدين، ومن مسايرة بعض رغباتهم عندما تصطدم ببعض أحكام الشريعة. وقد حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من اتباع الأهواء، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49]. وبذلك أغلق الله عزَّ وجلَّ مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيراً

وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة الإسلام في مقابل إرضاء الجميع، والمحافظة على وحدة الصف. إنه إما حكم الله .. وإما حكم الجاهلية .. ولا وسط بينهما. وهل يليق بالعاقل أن يرفض شريعة الله ويتبع حكم الجاهلية؟. وهل أحد أحسن من الله حكماً وديناً، إن هذا لعجب: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. أيستطيع أحد أن يقول أنه أعلم بالناس من خالق الناس؟. أيستطيع أن يقول أنه أرحم بالناس من رب الناس؟. أيستطيع أن يقول أنه أعرف بمصالح الناس من رب الناس؟. ألا ما أظلم من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة .. ويستبدل بها شريعة الجاهلية .. ألا ما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به سفلة الخلق. إنه إما إسلام وإما جاهلية .. وإما إيمان وإما كفر .. وإما حكم الله وإما حكم الجاهلية .. وإما إلى الجنة وإما إلى النار: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 162، 163].

5 - فقه الإيمان باليوم الآخر

5 - فقه الإيمان باليوم الآخر قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة: 69]. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعله يمر بأربع دور، وجعل لكل دار أحكاماً، وجعل له في كل دار أجلاً. فخلق الله الإنسان في بطن الأم، وأمهله تسعة أشهر حتى تكمل أعضاؤه وجوارحه. فإذا كملت خرج من بطن الأم إلى بطن الدنيا، وهي دار العمل، وطلب منه تكميل الإيمان والأعمال الصالحة. فإذا كملت مدته جاءه أجله، وخرج من الدنيا إلى مكان الانتظار وهو القبر، وهو برزخ يعذب فيه الإنسان أو ينعم حسب عمله. فإذا اكتمل من قدر الله خلقه من أهل الجنة وأهل النار قامت الساعة، وخرج الناس من قبورهم إلى دار القرار، حيث ينال المؤمنون كمال النعيم في الجنة، وينال أهل النار كمال العذاب في النار: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. والإنسان في هذه الدنيا عبد مربوب كغيره، هيأ الله له كل ما يحتاجه من الطعام والشراب، والسكن والمركب، واللباس والمال. فإذا جاء يوم القيامة هدمت أبنية الدنيا، ودكت الأرض، وسيرت الجبال، وشقت السماء، وكورت الشمس، وانتثرت النجوم، وخسف القمر، وعطلت

العشار، وتم تخريب هذا العالم وهدمه بأجمعه. فالله تبارك وتعالى عزيز حكيم، لما بنى للناس دار الدنيا، للسكن بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال بها على وحدانيته، وجميل صنعه، بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، والعمل بدينه وشرعه. فلما انقضت مدة السكنى بها، واستوفى كل إنسان رزقه وأجله، وأثره وعمله، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم ربك منها، وهدمت وخربت لانتقال الخلق منها، وبدلت بدار أخرى، أبقى منها وأدوم، ثم نقل الخلق إليها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم: 48]. والعبد المسلم في الدنيا كالأجير، والأجير حال اشتغاله بالعمل لا تدفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها كاملة لا يجتهد في العمل، فإذا أكمل عمله كان له الحق في المطالبة بكامل أجرته. وهكذا الإنسان يعبد ربه ويمتثل أوامر خالقه في الدنيا، فيسعده الله في الدنيا، ويوفيه كامل أجرته يوم القيامة بعد فراغه من جميع أعماله. وإذا كان محل أخذ الأجرة الكاملة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل. والله عزَّ وجلَّ عزيز حكيم منزه عن الظلم والعبث، وله عبيد بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وهو رحيم عدل، فلا بد أن ينصف عباده المظلومين ممن ظلمهم. وإذا لم يحصل هذا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى، يظهر فيها العدل والإنصاف وهي الدار الآخرة التي فيها الحكم لله وحده: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} [غافر: 17]. والله سبحانه أمر بالطاعات، ورغب فيها بربط الثواب بفعلها، ونهى عن المعاصي والقبائح، وحذر منها بربط العقاب بفعلها.

والثواب المرغب فيه، والعقاب المهدد به، غير حاصل كله في دار الدنيا، فلا بد من دار أخرى يحصل فيها للعبد المطيع كمال الثواب، ويحصل للعبد المسيء كمال العقاب. والحكمة تقتضي تمييز المحسن من المسيء، والظالم من المظلوم، والمؤمن من الكافر، وإكرام من أطاع، وإهانة من عصى، والقصاص للمظلوم ممن ظلمه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]. والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والإنسان في الدنيا لا يزال في الحبس: فأول الحبوس صُلب الأب .. وثانيها بطن الأم .. وثالثها المهد .. ورابعها الكد على العيال .. وخامسها مرض الموت .. وسادسها القبر. فإن خرجت منه إلى الجنة نسيت مرارة كل حبس تقدم. وإن خرجت منه إلى النار، فذاك حبس الأبد، وخسارة الأبد. فالناس يوم القيامة قسمان: إما خارج من سجن الدنيا إلى الجنة .. وإما ذاهب إلى سجن الآخرة إلى الأبد. وأوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيخرج من بطن أمه إلى دارهم .. ويوم يموت ويدفن مع الموتى فيجاور جيراناً لم ير مثلهم .. ويوم يبعث فيشهد مشهداً لم ير مثله قط. ولذلك قال عيسى بن مريم: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 33]. والدين بالنسبة للعباد قسمان: دين شرعي أمري .. ودين حسابي جزائي. وكلاهما لله وحده، فالدين كله أمراً وجزاءً لله وحده لا شريك له. والمحبة أصل ذلك كله: فما شرعه الله لعباده وأمر به، فإنه يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يكرهه

ويبغضه، لمنافاته لما يحبه ويرضاه. ودين العبد لله به إنما يقبل إذا كان عن محبة ورضى. وكذلك دين الله الجزائي، فإنه يتضمن مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وكل من الأمرين محبوب للرب عزَّ وجلَّ، فإنهما عدله وفضله، وكلاهما من صفات كماله. والله عزَّ وجلَّ يحب أسماءه وصفاته، ويحب من يحبهما، ويحب من يعمل بموجبهما. وكل واحد من الدينين: الأمري الشرعي، والحسابي الجزائي .. صراطه المستقيم الذي هو عليه. فهو سبحانه على صراط مستقيم في أمره ونهيه، وفي ثوابه وعقابه كما قال هود - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. فكل ما يقضيه الله ويقدره ويأمر به فلا يخاف العبد ظلمه ولا جوره، ولا يخرج تصرفه في عباده عن العدل والفضل. إن أعطى سبحانه وأكرم وهدى ووفق وأسعد فبفضله ورحمته. وإن منع وأهان وأضل وخذل وأشقى فبعدله وحكمته. وهو سبحانه على صراط مستقيم في هذا وهذا. ولله سبحانه حكم عظيمة في بعثه الأموات بعدما أماتهم: منها: أن يبين الله للناس الذي اختلفوا فيه، وهذا بيان عياني تشترك فيه الخلائق كلهم، والذي في الدنيا بيان إيماني بالآخرة اختص به بعضهم. الثانية: علم الكافر المبطل بأنه كان كاذباً، وأنه كان على باطل، فيخزيه الله بذلك أعظم خزي كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 38، 39].

الثالثة: جزاء العامل على عمله كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} [غافر: 17]. الرابعة: ظهور عدل الله في الحكم بين عباده، وعظمة فضله عليهم، ورحمته لهم كما قال سبحانه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} [الحج: 56، 57]. الخامسة: تقرير كمال علم الرب وكمال قدرته كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} [الحجر: 85 - 86]. السادسة: تقرير كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115 - 116]. وقد أقسم الله جل جلاله على وقوع المعاد والجزاء بسيد الجبال وهو الطور. وأقسم بسيد الكتب المنزلة من عند الله لعظمته وجلاله، وما تضمنه من آيات ربوبيته وهداية خلقه وهو القرآن. وأقسم بسيد البيوت وهو البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة. وأقسم بسقف العالم وهو السماء العظيمة وما فيها من الآيات. وأقسم بالبحر المسجور، وهو آية عظيمة من آيات الله وعجائبه لا يحصيها إلا الله. فقال سبحانه: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 1 - 8]. وأقسم الله عزَّ وجلَّ على ثبوت الجزاء، ومستحق الجزاء، وجمع بين محل الجزاء وهو يوم القيامة، ومحل الكسب وهو النفس اللوامة فقال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ

الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 1 - 4]. وأمر سبحانه أصدق خلقه أن يقسم للناس بوقوع المعاد كما قال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس: 53]. ويوم القيامة يوم عظيم يجمع الله فيه الأولين والآخرين والمؤمنين والكافرين، والمطيعين والعاصين، ويجازي كلاً بعمله كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)} [التغابن: 9، 10]. يجمع هؤلاء الخلائق ويحاسبهم الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرقها البلى ومزقها. ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير وشر. ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله وعباده المؤمنين. يجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه. ويجمع الكافرين في دار الهوان فيهينهم بحجابهم عنه. وهو قادر على جمع الخلق كما جمع خلق الإنسان من نطفة من مني يمنى، ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء، بعدما كانت نطفة متفرقة في جميع بدن الإنسان. فكيف ينكر الإنسان أن يجمع الله عظامه، وأن يجمع الله بينه وبين عمله وجزائه، وأن يجمع مع جنسه اليوم الجمع، وأن يجمع عليه من أمر الله ونهيه وعبوديته، فلا يترك سدى مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 36 - 40].

بلى .. وهو الخلاق العليم .. العزيز الحكيم. والإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، له قيمة كبرى في تعليق أنظار بني آدم وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض. فلا تستبد بهم ضرورات الحياة، ولا يسيطر عليهم الهم والقلق، وعندئذ يملكون العمل لوجه الله، وانتظار الجزاء حيث يقدره الله في طمأنينة ويقين. إن حياة البشر لا تستقيم على منهج الله ما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير، وما لم يتق المسلم المحدود العمر إلى أن له حياة أخرى أدوم وأسعد، تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على ما وعده الله من العوض فيها. والإيمان بالحياة الآخرة نعمة يفيضها الإيمان على القلب، ونعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني المحدود الأجل. وما أغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلا وحياته ناقصة، أو مطموسة، أو مضطربة. فالإيمان بالآخرة فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى، هو ذاته باعث للحيوية في النفس دافع لها نحو الدار الباقية، والمنازل العالية، والنعيم المقيم. والإيمان باليوم الآخر نعمة يفيض السلام منها على روح المؤمن وعالمه، وينفي عنه القلق والسخط والقنوط. فالحساب الختامي للبشرية ليس في هذه الأرض، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26]. فلا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة، فسوف يوفاه قطعاً بميزان الله غداً تاماً كاملاً أحوج ما يكون إليه. ولا قنوط كذلك من العدل إذا توزعت الحظوظ في رحلة الحياة الدنيا على غير ما يريد ويراه الإنسان، فالعدل لا بد واقع في الدار الآخرة، وحين يحكم الله

وحده بين عباده فهناك العدل والفضل والكرم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. والإيمان باليوم الآخر، حاجز عن الصراع والمنافسة في حطام الدنيا وملذاتها، والخوض في الحرمات والمحرمات، بلا تحرج ولا حياء. فهناك الدار الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. والإيمان بالآخرة يخفف من السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذ العمر القصير المحدود، فيطمئن قلبه أن النعيم الأوفى والأدوم ينتظره في الآخرة. والإيمان باليوم الآخر أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله، ذلك أن الإيمان باليوم الآخر يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض، بعهد منه يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاط الإنسان في الأرض. وأن الله خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء. وهذا الإيمان هو الذي يكف قلب المسلم وسلوكه وعمله في هذه العاجلة، فهو يمضي في طريق الطاعة، والقيام بالحق، وفعل الخير، سواء كانت ثمرة ذلك في الأرض راحة له أم تعباً، نصراً له أم هزيمة، حياة له أم موتاً، لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء جنة عرضها السموات والأرض. إن الإيمان باليوم الآخر يعطي الإنسان طاقة وقوة، فلا يزحزحه عن الطاعة والحق، والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى، والشر والقتل، فهو إنما يتعامل مع ربه العزيز الرحيم، وينفذ عهده وشرطه، وينتظر الجزاء المضمون هناك. وما أقصر هذه الحياة الدنيا التي تزحم حسن الناس، وتشغل نفوسهم، وتأكل أوقاتهم، إنها رحلة سريعة يقضيها الإنسان هناك، ثم يعود إلى مقره الدائم، وداره الأصلية: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45].

حقاً كأنها ساعة من نهار قضاها الخلق في التعارف ثم رحلوا، وكأن الناس دخلوا ثم خرجوا ولم يفعلوا شيئاً سوى التعارف. فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون فيما بينهم، ويقع بينهم من سوء التفاهم كل ساعة ما يقع، هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي؟. وهل هذه الأمم والشعوب المتناحرة، والدول المتخاصمة، التي تتعارك على الحطام والأعراض، هل هذه عرف بعضها بعضاً؟. حقاً إنها الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا بلقاء الله، وشغلوا عنه، فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم. ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية. فماذا ينتظر مثل هؤلاء من العذاب والتوبيخ والإهانة؟. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20]. والاعتقاد باليوم الآخر ليس طريقاً لنيل الثواب في الآخرة فحسب، وإنما هو كذلك حافز على فعل الخير في الحياة الدنيا، وحافز على إصلاحها وإنمائها حسب أمر الله، على أن يراعى في هذا النماء على أنه ليس هدفاً في ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان، الذي نفخ الله فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وكرمه على كثير من خلقه، ورفعه عن درك الحيوان. ولتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان، ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته. إن الإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال، فالذي لا يؤمن بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة، أو يكبح فيها نزوة. فالذي لا يحسب حساب الوقفة بين يدي الله، ولا يتوقع ثواباً ولا عقاباً يوم القيامة، ما الذي يمسكه عن إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته؟:

{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 27، 28]. ومن لا يتوقع الحساب في الآخرة يندفع لنيل جميع شهواته بلا معوق من تقوى أو حياء. والنفس مطبوعة على حب ما يلذ لها، وأن تجده حسناً جميلاً، ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني، فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى، وأشواق أخرى، تصغر إلى جوارها لذات البطون والأجسام. والله تبارك وتعالى هو الذي خلق النفس البشرية، وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدى. وجعلها مستعدة للعمى إن طمست منافذ الإدراك فيها. ومشيئة الله نافذة وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها في حالتي الاهتداء والضلال. فالذين لا يؤمنون بالآخرة نفذت فيهم سنة الله، في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم، فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء، حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب، وعاقبتهم الخسران وسوء العذاب في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)} [النمل: 4، 5]. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال، فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي لا أمل له ولا رجاء في إنصاف ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في هذه الحياة. وفي الحياة مواقف مخيفة، وابتلاءات جسيمة، لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن، وعقابها للمسيء، وابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الاخر، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة.

والذي يحرم هذه النافذة المضيئة، الندية المريحة، يعيش بلا ريب في العذاب والضلال في الدنيا والآخرة، فماذا عند الكفار من النعيم والسرور: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} [سبأ: 8]. وفي يوم القيامة يجمع الله جميع الخلائق في جميع الأجيال والقرون، ولا يتأخر منهم أحد: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]. ويعرض الخلق كلهم على ربهم: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)} [الكهف: 48]. ويحضر هذا الجمع العظيم الملائكة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، ويصفون جميعاً صفوفاً محيطة بالخلق كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]. والسموات السبع العظيمة مملوءة بالملائكة، وحملة العرش ومن حوله، كل هؤلاء يحضرون لفصل القضاء بين الناس. فكم يكون عدد الملائكة في هذا الجمع، وهم حافون من حول العرش؟: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]. ويأتي الرب جل جلاله للفصل بين الخلق يوم القيامة، ويحمل عرشه سبحانه ثمانية من الملائكة الذين لا يعلم عظمتهم وقوتهم وقدرتهم إلا الله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 17، 18]. وفي ذلك اليوم العظيم يحصل التغابن، لما فيه من فوز المؤمنين بالنعيم، وحرمان الكافرين من كل شيء منه، ثم سوقهم إلى الجحيم. وذلك يوم عظيم، يوم الحسرة والندامة، يندم فيه كل كافر وكل عاصٍ على ما فرط وظلم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ

الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان: 27 - 29]. إن الإنسان الذي خلقه ربه في أحسن تقويم، والذي ميزه بهذه الإنسانية التي من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء، وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبساً من نوره. هذا الإنسان يقطع رحلة حياته على الأرض كادحاً إلى ربه بفكره وجهده وعمله، ليصل في النهاية إلى ربه. فإليه سبحانه المرجع والمآب بعد الكد والكدح والجهاد: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الانشقاق: 6]. إن الإنسان لا يجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك في الجنة لمن يقدم لها بالإيمان والطاعة والعبادة. التعب في الأرض واحد، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح ما قبله من كد وكدح. فالمؤمن السعيد يحاسب حساباً يسيراً، فلا يناقش ولا يدقق معه الحساب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الانشقاق: 7 - 9]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ إِلا هَلَكَ». قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، ألَيْسَ يَقُولُ الله عزَّ وجلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ: «ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» متفق عليه (¬1). هذا حال المؤمن. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4939) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).

أما حال المعذب الكافر الهالك المأخوذ بعمله السيئ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره فهذا هو التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحاً، وقطع طريقه إلى ربه كدحاً في المعاصي والآثام والضلال، فهو يدعو ثبوراً، ويتمنى الهلاك لينقذ نفسه مما هو مقدم عليه من الشقاء والعذاب، ولكن أنى يستجاب له؟. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 10 - 12]. وهذا الصنف من الناس كان في الدنيا مسروراً بين أهله، غافلاً عن ربه، لاهياً عما ينتظره في الآخرة من العذاب، وهو يظن أنه لن يرجع إلى بارئه، وربه يعلم بكل خطواته وحركاته، ويعلم أنه صائر إليه. فما أعظم خسرانه: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} [الانشقاق: 13 - 15]. إن الإيمان بالغيب هو الذي يحكم السلوك الإنساني، فالذي يؤمن بالغيب وباليوم الآخر، وبالحساب والجنة والنار، يخشى الله سبحانه وتعالى في كل عمل يعمله: فإذا أراد أحد أن يسرق تذكر الله، وتذكر أنه ملاقيه، وأنه سيحاسبه على ذلك، فيتراجع عن هذه السرقة. وإذا أردت أن ترتكب ما حرم الله، وتذكرت الآخرة والحساب، خشيت الله وتراجعت. فأساس السلوك البشري في الدنيا هو الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يدخل فيه أساساً الإيمان باليوم الآخر. والإيمان بالغيب والآخرة هو أساس الإيمان كله. فإذا لم يعتقد الإنسان بالآخرة فممن يخاف ويخشى؟. من ذا الذي يرفع يدك عن ضعيف تغتصب حقه إلا إيمانك بالآخرة. ما الذي يوقفك عن أن تأكل أموال الناس بالباطل؟.

وما الذي يمنع الناس من الظلم والبغي؟. إن الوازع الذي يقول لك قف مكانك، هو الإيمان بالآخرة، لأنك ستحس أن كل عمل عملته مكتوب عليه، وسيسألك الجبار عنه، فلولا الإيمان بالآخرة لتحولت الدنيا إلى مجموعة من الوحوش. يقتل القوي الضعيف .. : ويعتدي القادر على العاجز .. ويضيع الحق .. وتباح الحرمات .. وتتنهب الأموال .. وتنتهك الأعراض. وأخشى ما يخشاه المؤمن هو حساب الله له في الآخرة. وأخشى ما يخشاه الكافر هو الحساب في الآخرة. فالكافر وإن كان لا يؤمن بالآخرة ولكن في داخله شيء يؤرقه، والموت الذي يراه كل يوم في أهله وقومه يملأ حياته بالرعب والفزع، وينغص عليه عيشه. والله عزَّ وجلَّ على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة. وهو قادر على أن يخلق يوماً مقداره أربعة وعشرون ساعة. وقادر على أن يخلق يوماً مقداره ساعة. وقادر على أن يخلق يوماً مقداره مائة ألف سنة. وقادر على أن يخلق يوماً يستمر بلا نهاية كيوم القيامة الذي لا ليلة بعده أبداً. فالمخلوق ليس قيداً على قدرة الخالق، فالزمان والمكان كل خاضع لإرادة الله وحده، والأجسام والأحجام والأشكال والألوان خلقها بيد الله وحده. وموعد قيام الساعة لا يعلمه إلا الله وحده، فهو الذي ينتهي إليه أمرها، ويعلم موعدها وحده، فلا يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا ذكي فطن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)} [النازعات: 42 - 44]. أما الرسول فوظيفته إنذار من يخشاها، فهو الذي ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بمجيئها، فيخشاها ويعمل لها قبل مجيئها.

وهي من ضخامة وقوعها في النفس بحيث تتضاءل أمامها الحياة الدنيا بكل ما فيها، وتبدو كأنها بعض يوم: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46]. واليوم الآخر هو يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الخلائق للحساب والجزاء سمي بذلك لأنه لا يوم بعده، حيث يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق الجازم بكل ما أخبر الله ورسوله به مما يكون في ذلك اليوم العظيم من البعث والحشر، والحساب والوزن، والحوض والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك مما يجري في عرصات القيامة. ويلحق بذلك ما يكون قبل الموت من علامات الساعة، وأشراطها الصغرى والكبرى. وما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذاب القبر ونعيمه. والإيمان بالله واليوم الآخر أعظم أركان الإيمان، ولأهمية هذين الركنين يقرن الله بينهما كثيراً في القرآن كما قال سبحانه: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق: 2]. إن اليوم الآخر يوم عظيم، وستجري على العباد فيه أحوال عظيمة. ولعظمته وهوله تعددت أسماؤه بحسب ما يجري فيه: فهو يوم القيامة .. ويوم البعث .. ويوم الفصل .. ويوم الدين .. ويوم الخروج .. ويوم الخلود .. ويوم الحساب .. ويوم الوعيد .. ويوم الجمع .. ويوم التغابن .. ويوم التلاق .. ويوم التناد .. ويوم الحسرة، والغاشية والصاخة والواقعة والحاقة والقارعة والطامة الكبرى، وغير ذلك، وكلما عظم الشيء تعددت أسماؤه وصفاته. وستحدث في هذا اليوم العظيم أحداث فلكية ضخمة، وكلها تشير إلى اختلال

كامل في النظام الكوني المنظور بأفلاكه ونجومه وكواكبه، وانقلاب في أوضاعه وأشكاله وارتباطاته، تكون به نهاية العالم. وكلها ينبئ بأن نهاية هذا العالم ستكون نهاية مروعة مخيفة مذهلة للخلائق كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1، 2]. إنها نهاية مخيفة مروعة حقاً: ترج فيها الأرض وتدك .. وتنسف فيها الجبال وتبس .. وتسجر فيه البحار وتفجر .. وتطمس فيها النجوم وتنكدر .. وتشق فيها السماء وتنفطر .. وتسقط الكواكب وتنتثر .. وتكور الشمس .. ويخسف القمر .. وتختل المسافات فيجمع الشمس والقمر .. وتبدو السماء مرة كالدخان .. ومرة وردة كالدهان .. ومرة ملتهبة حمراء .. إلى آخر هذا الهول الكوني العظيم. وقد بين الله بالتفصيل أهوال ذلك اليوم العظيم، ليتقيه الناس، ويعملوا لما ينجيهم كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. فما ذلك اليوم؟ .. وماذا يجري فيه؟ .. وما هي أهواله؟ .. وما حال الناس فيه؟. قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ: 17 - 20]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} [المزمل: 14]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)} [النازعات: 6 - 9]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم: 48].

وقال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر: 16]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} [المعارج: 8، 9]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} [القارعة: 4، 5]. إنه يوم عظيم، ويوم عسير، يهز القلوب هزاً بهذه المشاهد المزلزلة، والتقلبات المخيفة، والأهوال المرعبة: قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} [التكوير: 1 - 14]. وقال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار: 1 - 5]. وقال الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 1 - 5]. وقال الله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} [الواقعة: 1 - 6]. وإذا حصلت هذه الأمور العظيمة تميز الخلق، وعلم كل أحد ما قدمه لآخرته، وما أحضره فيها من خير أو شر. وحينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفياً، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران. وهنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف،

والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي. وهنالك يفوز المتقون بالفوز العظيم، والنعيم المقيم، والسلامة من عذاب الجحيم. إنه يوم العدل والحساب الدقيق: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 6 - 8]. إنه يوم الموازين: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 6 - 11]. إنه يوم بياض الوجوه وسوادها: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106، 107]. وكيف تكون حال الإنسان أمام هذه الأهوال العظام: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} [الواقعة: 4 - 6]. {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} [الانشقاق: 1 - 4]. ومن يطيق هذه المشاهد المروعة؟، وهل من مفر منها؟. {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)} [الحاقة: 13 - 15]. وأنى يفر الإنسان من ملك الله؟. {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 7 - 13]. فهل تهز هذه المشاهد والأهوال من هم بعد في هذه الأرض يكذبون بلقاء الله،

ولا يؤمنون به، ولا يوقرونه، ولا ينقادون لأمره؟. إنه يوم الحسرة والندامة، يوم الصراخ والبكاء .. يوم الذل والهوان، يوم العذاب والشقاء، لكل ظالم ضال، ولكل كافر جاحد، ولكل مفسد وطاغ: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ: 21 - 30]. وهو يوم الفرح والسرور، ويوم التسليم والتسبيح بحمد الله، ويوم العزة والتكريم، ويوم السعادة والحبور، ويوم اللذات والنعيم، لكل مؤمن تقي عرف هذا اليوم واستعد له، فنال بذلك الفوز والفلاح كما قال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)} [النبأ: 31 - 36]. ويوم القيامة هو اليوم الحق الذي لا يروج فيه الباطل، ولا يقبل فيه الكذب، وجميع الخلق ساكتون لا يتكلمون إلا من أذن الرحمن له بالكلام، وقال صواباً: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)} [النبأ: 38، 39]. فعلينا الاستعداد لذلك اليوم العظيم بالإيمان والأعمال الصالحة، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب، والاستغفار من كل خلل أو تقصير: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. إن من آمن بالله واطمأن بذكره، وصدق رسله، وعمل بشرعه، فهذا هو الفائز يوم القيامة وهو الذي يقال له: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. فليتق العبد ربه، وليستعد لذلك اليوم العظيم، الذي فيه الوعد على فعل الخير

والوعيد على فعل الشر كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. فمن علم أنه راجع إلى الله .. فمجازيه على الصغير والكبير .. والجلي والخفي .. وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة .. أوجب له ذلك الرغبة والرهبة .. والانتباه من الغفلة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95]. اللهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 192 - 193].

6 - الإيمان بالقضاء والقدر

6 - الإيمان بالقضاء والقدر 1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50]. وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22، 23]. القدر: هو علم الله تبارك وتعالى بكل شيء، وبكل ما أراد إيجاده أو وقوعه من الخلائق، والعوالم، والأحداث، والأشياء، وتقدير ذلك وكتابته في اللوح المحفوظ. والقدر سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والإيمان بالقدر: هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الكون، وكل ما يقع من الخير والشر فهو بقضاء الله وقدره. لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو الحكيم العليم. وأحكام الله على عباده ثلاثة أقسام: أحدها: الحكم الكوني القدري الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته، كطوله ولونه، وكونه ذكراً أو أنثى، والأحداث والمصائب التي تجري بغير اختياره كالزلازل والبراكين والعواصف ونحوها. فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه العبد كالميت بين يدي الغاسل.

وعليه فيه عبوديات أخرى: وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه .. وعدله في قضائه .. وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه .. وما أخطأه لم يكن ليصيبه .. وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة .. فقد جف القلم بما سيلقاه كل عبد .. فمن رضي فله الرضى .. ومن سخط فله السخط. ويشهد أن القدر ما أصابه .. إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله .. وأن القدر قد أصاب مواقعه .. وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به .. وأن ذلك موجب أسمائه وصفاته، وحكمه وعدله .. فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره. الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة كقدر المرض والجوع والعطش. فهذا حقه أن يدافع وينازع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحك الكوني أيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق، فيكون منازعاً للقدر، لا واقفاً مع القدر، ويفر من قدر الله إلى قدر الله كما أمر الله، ويدفع قدر الله بقدر الله. فإذا جاء قدر الله من الجوع أو العطش، أو البرد أو الحر، أو الألم أو المرض، دفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس والدواء. وهكذا لو وقع حريق في داره، فهو بقدر الله فلا يستسلم له، بل ينازعه ويدافعه ويطفئه بالماء أو غيره، حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله. وهكذا لو أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر، يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض كما أمر الله. فحق هذا الحكم الكوني القدري أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه من الأسباب التي نصبها الله وأمر بها. فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر، بل هذا حقيقة

الشرع والقدر. فلو أن عدواً للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على المسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ويأمر به وهو الجهاد في سبيل الله بيده وماله وقلبه، دفعاً لقدر الله بقدر الله. الثالث: الحكم الديني الشرعي، وهو الدين الذي شرعه الله لعباده. فهذا حقه أن يتلقى بالتسليم والقبول، بل بالانقياد المحض وترك المنازعة. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة، وإنما هو الانقياد التام، والتسليم والإذعان، والقبول لما جاء به الله ورسوله. وهذه حقيقة القلب السليم الذي سلم من كل شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وسلم من كل شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه. فهذا حق الحكم الديني: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. والطاعات والمعاصي كلها واقعة بقضاء الله وقدره، وكلها عدل، والدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع، ومن لا ذنب له، فهذا قد نزّه الله نفسه عنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. والله سبحانه وإن أضل من شاء، وقضى بالمعصية والغي على من شاء، فذلك محض العدل فيه، لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كما وضع الهداية والنصر في موضعه اللائق به. فأفعاله سبحانه كلها حق وعدل، وسداد وصواب. والله سبحانه قد أوضح السبل .. وأرسل الرسل .. وأنزل الكتب .. وأزاح العلل .. ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول .. وهذا عدله. ووفق جل وعلا من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه، فهذا

فضله وإحسانه. وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله: إما جزاءً منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثاره عدوه عليه في الطاعة، وتناسى ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وإما أن لا يشاء الله له الهداية ابتداء، لعلمه منه سبحانه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليها، ولا يثني عليه بها ولا يحبه، فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله لها ما قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]. فإذا قضى الله عزَّ وجلَّ على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل، كما قضى على الحية والعقرب بأن تقتل، وذلك محض الإحسان والعدل، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة لحكمة يعلمها الله. وبسبب الجهل، وقلة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. كثير من الخلق غير راض عن الله عزَّ وجلَّ .. معترض على أسمائه وصفاته .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى قضائه وقدره. حتى قال بعضهم: أرأيت إن منعني الله الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟. فهذا وأمثاله يقال له: إن منعك الله ما هو لك فقد ظلم وأساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء، وأعلم بمن يصلح لكرامته. ويهون الرضا بما يقضيه الله من المصائب علم العبد بأن تدبير الله خير من تدبيره، والرضا بالألم لما يتوقع من جزيل الثواب المدخر .. والرضا به لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب.

فيكون ألذ الأشياء عنده ما يه رضا محبوبه. وعلى العبد أن يعمل عمل رجل يعلم أنه لا ينجيه إلا عمله، ويتوكل على ربه توكل رجل يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له. فليس لأحد أن يصعد على السطح ثم يلقي نفسه ثم يقول مقدر علي، ولكن نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا كما قال سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51]. ولا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. والقدر الإلهي كله عدل ورحمة. ففي كل حادثة سببان: الأول: سبب ظاهري يحكم الناس على وفقه، وكثيراً ما يظلمون. الثاني: سبب حقيقي يجري القدر الإلهي على وفقه. فإذا ألقي مثلاً أحد الأشخاص في السجن بتهمة السرقة التي لم يرتكبها، ولكن قضى القدر الإلهي عليه بسجنه لجناية له خفية، أو تربية له، فيعدل من خلال ظلم البشر له نفسه ويستقيم. وفي امتحان العلماء والدعاة والصالحين انطواء على سببين: أحدها: خدمة الدين خدمة عالية فائقة، حتى أثار حفيظة أهل الدنيا والأعداء، وقد نظر البشر إلى هذا السبب فحصل الظلم. الثاني: لما لم يبين كل منا إخلاصاً تاماً، ولا أظهر تسانداً في نصرة الحق، نظر القدر الإلهي إلى هذا السبب، وعدل في حقنا رحمة بنا. إن كل شيء في هذا الكون إنما يحصل بقضاء الله وقدره خيراً أو شراً. فهل يرضى المسلم بما قدره الله من المعاصي التي نهى الله عنها؟.

وجوابه: أننا لسنا مأمورين بأن نرضى بكل ما قضى الله وقدر .. ولكننا مأمورون بأن نرضى بكل ما أمرنا الله أن نرضى به كطاعة الله ورسوله .. وأن نرضى بدينه وشرعه .. وأن نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله .. لا بالمقضي الذي هو مفعوله. فالمعاصي لها وجهان: وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه. ووجه إلى الرب من حيث أنه هو قضاها وخلقها وقدرها لحكمة يعلمها. فنرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله، ولا نرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد. واختيار الرب تعالى لعبده نوعان: أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد، ألا يختار في هذا النوع غير ما اختاره الله له: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. الثاني: اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلى الله بها الناس، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يدفعها عنه، ويدفعها ويكشفها كدفع قدر المرض بقدر الدواء، بل هو مأمور بذلك. وأما القدر الذي يسخطه الله، ولا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعائب والمعاصي، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها. ومشيئة الله ومحبته بينهما فرق: فقد يشاء ما لا يحبه .. ويحب ما لا يشاء كونه. فالأول: كمشيئة الله لخلق إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه. والثاني: كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة

الفاسقين. ولو شاء لوجد ذلك كله، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فإذا علم العبد أن القضاء غير المقضي، وأنه سبحانه لم يأمر عباده بالرضى بكل ما خلقه وشاءه، زالت الشبهات، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض. فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. والرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والعافية، والغنى واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة، لأنه ملائم للعبد، موافق له، محبوب له. فليس في الرضى به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشكر، والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا يعصى المنعم بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك. والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره، مستحب. وهذا كالمرض والفقر، والحر والبرد، وأذى الخلق له، ونحون ذلك من المصائب. والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان محرم يعاقب عليه، وهو مخالفة لله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه. فإن قيل: كيف يريد الله أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟. قيل الله عزَّ وجلَّ يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره. فقد خلق الله جل جلاله إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال،

والاعتقادات والإرادات. وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى، فهو مبغوض للرب مسخوط له، لعنه الله وغضب عليه ومقته. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها. منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب في خلق المتضادات، فخلق سبحانه إبليس هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها، في مقابلة جبريل - صلى الله عليه وسلم - التي هي أشرف الذوات، وسبب كل خير. وكما خلق سبحانه الليل والنهار، والحر والبرد، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر ونحو ذلك. وخلق ذلك يدل على كما ل قدرته وتدبيره، وعزته وسلطانه. فتبارك الله خالق هذا وهذا، ومدبر هذا وهذا .. ومخرج المنافع والمضار من هذا وهذا. ومنها: ظهور أسمائه وأفعاله القهرية كالقهار والمنتقم، والعدل والضار، وشديد العقاب، وسريع الحساب، والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال. ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد. ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فهو سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه: فلا يضع الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان

الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يضع العطاء موضع الحرمان، ولا الحرمان موضع العطاء، ولا الإنعام مكان الانتقام، ولا الانتقام مكان الإنعام. ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، أو أن يضعها عند غير أهلها. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه. ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح، فهذه فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر. ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن الله يحب عبودية الجهاد، ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، من الموالاة في الله والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى. ومنها: عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها. ومنها: أن يتعبد لله بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده. ومنها: عبودية مخالفة عدوه الشيطان، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه. ومنها: أن عبيده سبحانه يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه، لما خالف أمر ربه بطرده ولعنه، فيلزمون طاعة ربهم ولا يعصونه.

ومنها: أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب، وهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته من ربهم. ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد. فخلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل. وخلقت الرسل وأرسلت لتستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل. فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليرتب عليه آثاره، وما في قو ى أولئك من الشر، ليرتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين. فالملائكة ظنت أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه. فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا الإنسان ما لا تعلمه الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. ومنها: أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة. كآية الطوفان .. وآية الريح .. وآية إهلاك ثمود بالصيحة .. وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. وآية قلع قرى قوم لوط وقلبها عليهم .. وآيات موسى مع فرعون وبني إسرائيل كفلق البحر .. وانفجار عيون الماء من الحجر .. وانقلاب العصا حية، ونحو ذلك. فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة. ومع ظهورها فما أقل من يؤمن بها: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} [الشعراء: 139، 140].

ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة، التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب. لكن ظهور آثارها وأاحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي. فالعبودية والآيات والعجائب والفوائد التي ترتبت على خلق ما لا يحبه الله ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه سبحانه من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها فإن قيل: فإن كانت هذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟. قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها. فإن قيل: هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟. قيل: هذا سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. وسر المسألة: أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته .. وأفعاله وأحكامه .. ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها. بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه. فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته له؟. قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة ت ألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له. فإن قيل: كيف يحب الله لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟. قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له.

وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه، يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47]. والطاعة: هي موافقة الأمر الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة. ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، ولكان قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله. فيكون سبحانه قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه. والله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء وربه ومليكه. والعبد مأمور بطاعة الله ورسوله، ومنهي عن معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله يثاب عليها. إن عصى ربه كان مستحقاً للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره. لكن الله عزَّ وجلَّ يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم. ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم. وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه، وكل ذلك كائن بمشيئة الله وقدره. فلا بد للعبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن يوقن بشرع الله وأمره. فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله. وآدم - صلى الله عليه وسلم - لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه. وإبليس لما أذنب أصر واستكبر، واحتج بالقدر وكفر، فلعنه الله وأقصاه. فمن أذنب وتاب كان آدمياً .. ومن أذنب واحتج بالقدر كان إبليسياً.

والقدر نظام التوحيد: فمن وحد الله .. وآمن بالقدر .. تم توحيده، ومن وحد الله .. وكذب بالقدر .. نقض تكذيبه توحيده. والمخاصمون في القدر فريقان: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كما قال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]. الثاني: من ينكر قضاء الله وقدره السابق. والطائفتان كلاهما خصماء لله، ومن كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، فإن الله تبارك وتعالى قدر أقداراً، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم العافية بقدر، وقسم البلاء بقدر، وأمر ونهى، وأحل وحرم، كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52، 53]. والقدر هو تقدير الله للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله ومن شاء من خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء أكان خيراً أم شراً. ومراتب الإيمان بالقدر أربع: الأولى: العلم، بأن يؤمن العبد أن الله تعالى علم كل شيء جملةً وتفصيلاً، يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما سيكون كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} [العنكبوت: 62]. الثانية: الكتابة، بأن يؤمن العبد أن الله تعالى كتب كل شيء جملةً وتفصيلاً كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. الثالثة: المشيئة، بأن يؤمن العبد أن كل شيء في العالم العلوي والسفلي كائن بمشيئة الله وإرادته، إذ لا يكون في ملكه سبحانه ما لا يريده، فما شاء الله كان،

وما لم يشأ لم يكن كما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. الرابعة: الخلق، بأن يؤمن العبد أن الله خالق كل شيء، ومدبره ومالكه، حتى فعل المخلوق، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وينبغي أن يعلم الإنسان أن القدر له كالطبيب مع المريض. فإن قدم إليه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه. وإن منعه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني. وهذا غاية اللطف من الله تعالى، ومن لم يعتقد هذا لم يصح توكله على الله عزَّ وجلَّ. والدعاء لا يناقض الرضا بالقدر، فقد تعبدنا الله به، وأمرنا به. وأمرنا به، وإنكار المعاصي وعدم الرضا بها قد تعبدنا الله به، وذم الراضي به. فإن قيل: وردت الأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى، والمعاصي بقضائه فكراهتها كراهة لقضائه؟. وجواب هذا أن يقال: المعاصي لها وجهان: الأول: وجه إلى الله تعالى من حيث أنها اختياره وإرادته، فنرضى بها من هذا الوجه، تسليماً للملك إلى مالك الملك سبحانه. الثاني: وجه إلى العبد، من حيث أنها كسبه ووصفه، وعلامة لكونه ممقوتاً عند الله، بغيضاً عنده، حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم. والإيمان بالقدر على درجتين: الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، وأهل الجنة منهم، وأهل النار منهم، وأعد لهم الثواب والعقاب قبل خلقهم، وكتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد تجري على

ما سبق في علمه وكتابته كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها من الإيمان والكفر، والطاعات والمعاصي، وشاءها منهم كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8]. والمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب. والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، ولا يعذر بالقدر من أساء إليه، ولا يذكر القدر عندما تحصل له نعمة. والواجب على العبد إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله هو يسرها وتفضل بها، فلا يعجب بها، وإذا عمل سيئة، استغفر الله، وتاب منها. وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد علم أنها مقدرة مقضية عليه لا بد من وقوعها، وللعبد منفعة في حصولها. وكل ما خلق الله حق، وله سبحانه في كل مخلوق حكمة يحبها ويرضاها. وهو سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه، فكل خلق وأمر من الله حسن جميل، وهو سبحانه محمود عليه، وله الحمد على كل حال، وإن كان في بعضها شر بالنسبة إلى بعض الناس. والمؤمن مأمور أن يصبر على المصائب .. ويطيع الأوامر .. ويستغفر من الذنوب والمعائب. وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر في فعل ما يشاء، بل القدر نؤمن به ولا نحتج به، ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً ولا معاقباً: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11]. وكل شيء سوى الله تعالى فهو مخلوق، وأفعال العباد كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ونفس العبد، وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله عز وجل. والعبد مأمور منهي، مثاب معاقب، والله جعله حياً مريداً، قادراً فاعلاً، يصوم ويصلي، ويزكي ويحج، ويؤمن ويكفر، ويقتل ويسرق، ويطيع ويعصي،

باختياره ومشيئته. والله خالق ذات العبد وصفاته وأفعاله. فله مشيئة والله خالق مشيئته، وله قدره والله خالق قدرته، وهو مصل صائم والله خالقه وخالق أفعاله. والعبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، وهو الفاعل لهذه الأفعال والمتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد كسباً وهي مفعولة للرب كغيرها. فالله وحده هو الذي له الخلق والأمر، وما سواه مخلوق مربوب. فهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيضَ، والأسود أسودَ، والساكن ساكناً، والمتحرك متحركاً، والذكر ذكراً، والأنثى أنثى، والحلو حلواً، والمرَّ مراً. وهو سبحانه الذي جعل المسلم مسلماً، والمطيع طائعاً، والمصلي مصلياً، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. وهو سبحانه الذي جعل الكافر كافراً والعاصي عاصياً كما قال سبحانه عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص: 41]. فالله سبحانه خالق الذوات .. وخالق صفاتها .. وخالق أفعالها. وكون الله خالقاً للعبد وفعله لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128]. والله تبارك وتعالى حكيم عليم، له الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء بحكمته، يعطي ويمنع .. ويهدي ويضل .. ويعز ويذل .. ويسعد ويشقي .. ويعفو وينتقم. وهو الذي جعل المسلم مسلماً، والكافر كافراً، وهذا يدعو إلى الخير، وهذا

يدعو إلى الشر. وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يفعل ما يشاء لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته، وحكمته ورحمته. ومن حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه. والله عزَّ وجلَّ له الحجة البالغة على جميع خلقه، حيث أنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول، التي يعرفون بها ربهم، وما شرعه لهم. ومع هذا فلو شاء سبحانه لهدى الخلق أجمعين إلى اتباع شريعته، كما خلقهم أجمعين، وكما فطر جميع الكائنات على معرفته وعبادته. لكنه سبحانه يمن على من يشاء، فيهديه فضلاً منه وإحساناً. ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149]. والقدر قدران: أحدها: قدر مطلق مثبت، وهو ما في أم الكتاب، اللوح المحفوظ، الإمام المبين، فهذا لا يتبدل ولا يتغير، ولا يعلمه إلا الله وحده. الثاني: قدر معلق أو مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات كما قال سبحانه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]. والقدر الذي هو علم الله ومشيئته وكلامه غير مخلوق. أما المقدرات من الآجال والأرزاق والأعمال والأحوال فكلها مخلوقة. وكذلك الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق، لأنه كلامه.

وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فهي مخلوقة. فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع صفاتهم وأفعالهم مخلوقة. والعبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر .. وحال بعد القدر. فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله، ويتوكل عليه، ويدعوه. فإذا وقع المقدور بغير فعله: فإن كان نعمة شكر الله عليها، وإن كان مصيبة صبر عليها، وإن رضي بها وشكر الله عليها فهو الأفضل. وإن وقع المقدور بفعله: فإن كان نعمة حمد الله عليها، وإن كان ذنباً استغفر ربه منه. وعلى العبد أن يفعل ما أمره الله به، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره فليتقبل قضاء الله بالرضا والطمأنينة والاستسلام، لأنه الأصل الذي كان مجهولاً له، فكشف عنه الستار: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232]. وعلى العبد كذلك أن يستعين بالله في فعل ما أمره الله به، ويتوكل عليه ويدعوه، ويرغب إليه مفتقراً إليه في طلب الخير، وترك الشر، ينظر إلى القدر في المصائب لا في المعائب، فيصبر على المصائب، ويستغفر من المعائب. وهذان الأصلان يحصل بهما راحة القلب وطمأنينته لكل ما قدر الله عزَّ وجلَّ. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالاستفادة بكلمات الله التامات كل من نزل منزلاً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2708).

وكلمات الله التي يستعان بها نوعان: كلمات كونية .. وكلمات شرعية. والكلمات الكونية: هي التي كون الله بها الكائنات، لا يخرج عنها بر ولا فاجر، ولا أي مخلوق في الكون. فما من ملك ولا سلطان، ولا مال ولا جمال، ولا علم ولا حال، ولا تحريك ولا تسكين، ولا تدبير ولا تصريف إلا هو واقع بمشيئة الله وقدرته، وكلماته التامات. ولكن من ذلك ما هو محبوب لله مأمور به، ومنه ما هو مكروه لله منهي عنه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. والطاعات والمعاصي كلها واقعة بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته. لكنه سبحانه لم يأمر بالمعاصي والذنوب، ولا يرضاها ولا يحبها، بل يبغضها ويعاقب من فعلها وإن كان ذلك بإرادته وقدره. فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى كذلك بعقابها، كما يقدر على العبد أمراضاً تعقبه آلام. فالمرض بقدره، والألم بقدره، فإذا قال العبد قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض، قد تقدمت الإرادة بالمرض، فلا أتألم ولا أعالج. وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه، بل اعتلاله بالقدر، ذنب ثان يعاقب عليه؛ لأنه أذنب، وكذب على الله. وإنما اعتل بالقدر إبليس، وأما أدم فتاب فتاب الله عليه. فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. ومن أراد الله شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها فأبى واستكبر وكفر كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ

الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34]. فالقدر نؤمن به ولا نحتج به .. ومن احتج بالقدر فحجته داحضة .. ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول. ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً، لقبل من إبليس وغيره من العصاة. ولو كان القدر حجة للعباد على أفعالهم، لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولو كان القدر حجة لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا حد شارب، ولا أقيم حد، ولا جاهد أحد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف أحد، ولا نهى عن المنكر أحد. والله سبحانه علم الأمور وكتبها على ما هي عليه. فهو جلَّ وعلا قد كتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة. وفلاناً يكفر ويعصي ويفسق فيدخل النار. كما علم سبحانه أن فلاناً يتزوج فيأتيه ولد، ويأكل فيشبع، ويشرب فيروى. فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان وعمل صالح كان ظنه باطلاً، كمن اعتقد أنه يأتيه ولد بلا وطء، فالله قدر الأسباب والمسببات، وقد جعل الله لكل شيء سبباً. فللدنيا أسباب .. وللجنة أسباب .. وللنار أسباب. والله سبحانه كتب أفعال العباد خيرها وشرها، وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة، لكمال علمه بالشيء قبل وقوعه. لكنه جعل الأعمال سبباً للثواب والعقاب وكتب ذلك وعلمه، كما كتب الأمراض وجعلها سبباً للآلام، وكما كتب أكل السم وجعله سبباً للموت. فالله قدر وكتب هذا .. وهذا، لأنه الذي أحاط وحده بكل شيء علماً. وكذلك بأن من فعل ما نهى الله عنه من الكفر والمعاصي فإنه يعمل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك.

فكل ما يجري في هذا الكون كائن بقضاء الله وقدره. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان. وأن نزيل الكفر بالإيمان، ونزيل البدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، والسيئة بالحسنة، فيدفع المسلم ما قدره الله من الشر، بما قدره الله من الخير مستعيناً بالله، كما يدفع شر الكفار والفجار بالقوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة اللذين يدفعان البلاء، وكالدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء وهكذا. وما يكون من الشر جعله الله محنةً لنا وابتلاءً، والله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان. فندفع قدر الله بقدر الله وبما أمر الله مع الصبر والتوكل عليه والاستعانة به في كل أمر، وهذا هو الابتلاء: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر، فهو الخالق لكل شيء، ولكل ما يقع في هذا الكون، ولكل ما يقع للناس من أحوال، ولكل ما يقع من الناس من أعمال. فالناس يملكون بما أقدرهم الله عليه أن يتجهوا وأن يحاولوا، ولكن تحقق الفعل ووقوعه لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر. فالإنسان قد يتجه ويحاول فعل الخير بالوسائل التي أرشد الله أنها تحقق الخير، ولكن تحقق الخير فعلاً يتم بإرادة الله وقدره، لأنه ليست هناك قدرة غير قدرة الله تنشئ الأشياء والأحداث، وتتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: 17]. وإذن يكون تحقق الخير بوسائله التي اتخذها الإنسان، وباتجاه الإنسان وجهده، عملاً من أعمال القدرة الإلهية، فالله أقدره على الفعل، والله سدد رميته فأصاب. وكذلك الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء، أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء،

ولكن وقوع السوء فعلاً لا يتم إلا بقدرة الله، وقدر الله، لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله. وفي الحالين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78]. وكذلك الإنسان يسمع ويرى، ويعقل ويفهم، ويريد ويعمل، ويحاسب على إرادته وعمله كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]. والهدى هدى الله، فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً، ومن أضله الله فهو الخاسر حقاً كما قال سبحانه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178]. والله سبحانه يهدي من يجاهد لطلب الهداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وكذلك يضل من يبغي الضلال لنفسه، ويعرض عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان، ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. إن مشيئة الله تبارك وتعالى التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني: أنه خلق هذا الإنسان باستعداد مزدوج للهدى والضلال، مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية والاتجاه إليها، ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى، ومع إرسال الرسل بالبينات، لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت، وهداية العقل إذا ضل. وكذلك اقتضت مشيئة الله أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى، وأن يجري قدر الله كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل، وما أعطاه الله من أجهزة الرؤية والسمع في رؤية وإدراك الآيات التي بثها الله في صفحات

الكون، والآيات الشرعية التي جاء بها الرسل. وفي كل الأحوال تتحقق مشيئة الله وحده، ولا يتحقق سواها، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقوة سواه، وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر الله. وفي حدود هذا التقدير يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178]. وكثير من الجن والإنس مخلوقون لجهنم، وهم مهيؤون لها، فما بالهم كذلك؟. هنالك اعتباران: الأول: أن الله بعلمه الأزلي يعلم أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم. الثاني: أن هذا العلم الأزلي بأحوال العباد ومصائرهم، ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم، إنما هم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا، وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية، ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة. لقد عطلوا هذه الأجهزة وعاشوا غافلين، فهم أضل من الأنعام، لأن الأنعام لها استعدادات فطرية تهديها، تقبل إذا دعيت، وتنزجر إذا زجرت. أما الجن والإنس، فقد زودوا بالقلب الواعي، والعين المبصرة، والأذن السامعة، فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا، فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها الفطرية الهادية. فكفار الجن والإنس، كل حيوان بهيم أهدى منهم، وهم أضل منه سبيلاً. فما أضل هؤلاء في الدنيا، وما أخسرهم في الآخرة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. إن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون مخلوقة بقدر، مدبرة بحكمه، فلا شيء

جزاف، ولا شيء عبث، ولا شيء مصادفة، ولا شيء ارتجال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. قدر يحدد وجوده .. وقدر يحدد حقيقته .. وقدر يحدد صفته .. وقدر يحدد وظيفته .. وقدر يحدد مقداره .. وقدر يحدد عمره .. وقدر يحدد مكانه .. وقدر يحدد زمانه .. وقدر يحدد ارتباطه بما حوله من أشياء .. وقدر يحدد تأثيره في كيان هذا الوجود. قدر في كل شيء .. قدر يحدد الأبعاد بين النجوم والكواكب .. وأحجام المخلوقات وكتلها .. وألوانها وصورها .. ونموها وتكاثرها .. وسيرها وحركتها: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. قدر يحدد وضع الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها. فحجم هذه الأرض .. وبعدها عن الشمس .. وكتلة الشمس .. ودرجة حرارتها .. وميل الأرض على محورها بهذا القدر .. ودورة الفلك .. وبعد الشمس والقمر عن الأرض .. وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض .. ومهاب الرياح .. واختلاف الفصول .. إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً دقيقاً .. لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء. فسبحان العليم القدير، الذي قدر هذه المقادير والأقدار. والنسبة بين عوامل الحياة والبقاء .. وعوامل الموت والفناء .. في البيئة، وفي طبيعة الأحياء .. من نبات وحيوان وإنسان .. محفوظة دائماً بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها .. وامتدادها وانضباطها. فمثلاً الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، قليلة التفريخ، ولا تعيش إلا في مناطق محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ، تستطيع الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور، وأفنتها على كثرتها

وكثرة تفريخها، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى في هذه الأرض. فسبحان من خلق كل شيء وقدره تقديراً. وهكذا الماء موزون بأمر الله، لو طغى لأفسد الأرض، ولو نقص لاختلت الحياة ومات الأحياء من نبات وحيوان وإنسان. وكذلك الهواء موزون بأمر الله، لو زاد وصار عواصف قوية، لدمر كل شيء، وما استطاع أن يعيش حي، ولو نقص لاختل وضع الحياة والأحياء. فقدر الله عام شامل لجميع المخلوقات، وكل ما خلقه الله في هذا الكون من المخلوقات، وما يجري فيه من الأحوال من الحركات والسكنات، والحياة والموت، والتغيير والتبديل، كل ذلك كائن بقدر الله القوي العزيز. تقدير في الزمان .. وتقدير في المكان .. وتقدير في المقدار .. وتقدير في الأشكال .. وتناسق مطلق بين جميع الكائنات والأحوال. فسبحان الذي خلق السموات والأرض: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 2]. إن كل شيء بقدر، وله حكمة معلومة أو مطوية: فزواج يعقوب - صلى الله عليه وسلم - من امرأة أخرى، هي أم يوسف وبنيامين لم يكن حادثاً عارضاً، إنما كان قدراً مقدوراً، ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، ويأخذوه ويلقوه في الجب، ليلتقطه بعض السيارة، ثم يباع في مصر، لينشأ في قصر العزيز، لتراوده امرأة العزيز عن نفسه، ليستعلي على الإغراء، ليلقى في السجن، لماذا؟. ليلتقي في السجن مع خادمي الملك، ليفسر لهما الرؤيا. لماذا يتعذب يوسف؟. ولماذا يتعذب يعقوب بفقد ابنه حتى عمي بصره؟. ولماذا يُسام يوسف الطيب الزكي كل هذه الآلام؟.

لماذا يمضي في هذا العذاب أكثر من ربع قرن؟. لأن الله يعده ليتولى أمر مصر وشعبها، والشعوب المجاورة في سني القحط السبع، ثم ماذا؟. ليستقدم أبويه وإخوته، ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل، ليضطهدهم فرعون، لينشأ من بينهم موسى - صلى الله عليه وسلم -، وما صاحب حياته من تقدير وتدبير، وظهور آيات الله، التي غيرت مجرى العالم كله. وزواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية، لم يكن ذلك حادثاً شخصياً. إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق، ومروره بمصر ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل، ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم. ليبلغ إسماعيل ثم يتزوج، ليكون من نسله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى البشرية كافة. إن قدر الله وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير، إنه قدر الله النافذ الشامل الدقيق العميق. ولكن البشر أحياناً يرون طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد، وأحياناً يتطاول الزمن بين البدء والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير والتصريف. فيستعجلون ويقترحون، وقد يسخطون أو يتطاولون. والله تبارك وتعالى يعلمهم في القرآن أن كل شيء بقدر كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. يعلمهم ليسلموا الأمر إلى صاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح، ويسيروا مع قدر الله في توافق وتناسق، وفي أنس بصحبة القدر الذي قدره المولى الكريم الرحيم.

ومع التقدير والتدبير القدرة الإلهية التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50]. وبأيسر الكلمات: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. إنها إشارة واحدة .. أو كلمة واحدة .. يتم بها كل أمر .. الجليل والصغير سواء .. وليس هنالك كبير ولا صغير أمام قدرة الله .. فهو الكبير وحده .. وما سواه صغير .. إنما ذلك تقدير البشر للأشياء. وليس هناك زمن ولا ما يعادل لمح البصر، إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر، فالزمن إن هو إلا تصور بشري، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة. فسبحان الملك الجبار، الواحد القهار، الخالق البارئ، الذي يخلق ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء بكلمة واحدة: واحدة تنشئ هذا الوجود العظيم الهائل .. وواحدة تبدل فيه وتغير .. وواحدة تذهب به كما يشاء الله .. وواحدة تحيي كل حي .. وواحدة تذهب به هنا وهناك .. وواحدة ترده إلى الموت .. وواحدة تبعثه في صورة من الصور .. وواحدة تصعق الخلائق جميعاً .. وواحدة تبعثهم جميعاً .. وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب. واحدة لا تحتاج إلى جهد .. ولا تحتاج إلى زمن .. واحدة من الرب تفعل كل شيء .. ومعها التقدير .. وكل أمر معها مقدر ميسور: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50]. وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون، قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، وقوم شعيب، فهل من يتذكر ويعتبر؟. وكل حدث .. وكل عمل .. وكل تدمير .. مكتوب مرقوم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ

وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 51 - 53]. فما أعظم الله، وما أعظم قدرته، وما أوسع ملكه، وما أشمل تدبيره، وما أعظم بطشه بمن عصاه. إن هذا الفضاء الشاسع الرهيب مملوء بالكواكب والنجوم، لا يختل مدار نجم فيه بمقدار شعرة، ولا يختل حساب السير والتوازن والتناسق في حجم ولا حركة: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40]. فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3]. وسبحان الذي خلق الخلق، ويدبر الأمر في السموات والأرض، ولا يشغله شأن عن شأن، ينفذ أقداره وتدابيره في خلقه، في أوقاتها التي اقتضتها حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، وأحكامه القدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. إن هذا الوجود الكبير الذي لا تعرف له حدود، ما نبصره وما لا نبصره، العالم العلوي، والعالم السفلي، كل منوط بقدر الله سبحانه، متعلق بمشيئته، وهو قائم بتدبيره سبحانه الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم. وهذا التدبير يتناول الوجود كله جملة، ويتناول كل فرد فيه على حدة، ويتناول كل عضو، ويتناول كل خلية، ويتناول كل ذرة، ويعطي كل شيء خلقه كما يعطيه وظيفته .. ثم يراقبه وهو يؤدي وظيفته: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} [الأحزاب: 52]. هذا التدبير والتصريف، وهذه المراقبة والمتابعة، التي تتبع كل ما ينبت وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس، وكل حيوان وطائر. تدبير يتبع الطيور في جوها .. ويتبع الأسماك في بحارها .. ويتبع الحيوانات في

أرضها .. والديدان في مساربها .. والحشرات في مخابئها .. والوحوش في أوكارها .. ويتبع كل بيضة .. وكل فرخ .. وكل جناح .. وكل ريشة .. وكل خلية في جسم حي. وصاحب الخلق والتدبير والتصريف لا يشغله شأن عن شأن، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]. ومن هذا شأن العباد وأعمالهم، من ملائكة في السماء، ومن إنس وجن في الأرض. يسمع سبحانه كلامهم .. ويبصر أفعالهم .. ويعلم أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. فسبحان من خلق هذه الخلائق، وتولى أمرها بالتصريف والتدبير، وأحاط بها كلها فلا يخفى عليه شيء منها. إن هذا الكون العظيم من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقرر قبل خلقه، محسوب زمان وقوعه، ومكان حدوثه، وحجم ذلك الحدث. لا مكان فيه للمصادفة، ولا شيء فيه جزاف. وقبل خلق الأرض، وقبل خلق الأنفس، كان في علم الله الشامل الكامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22، 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2653).

والله بكل شيء عليم، وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا نحن أبناء الفناء، نرى بها حدود الأشياء، فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها، حدود من الزمان، وحدود من المكان، وحدود من الأحجام. أما الله سبحانه فهو كامل الذات والصفات، وهو الحق الذي يطلع جملةً على هذا الوجود بلا حدود ولا قيود، ولا يند عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]. وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته، كائن في علم الله جملة، لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان. ومعرفة القلب بهذه المقادير التي قدرها الله يسكب فيه الطمأنينة والسكون عند استقبال الأحداث خيرها وشرها: فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعاً، وتذهب معه حسرات عند الضراء، ولا تفرح الفرح الذي تستطار به، وتفقد الاتزان عند السراء، فكل شيء لا يكون إلا بأمر الله ومشيئته: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]. إن الإنسان ضعيف، يجزع وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود، ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير. فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به وتمر بغيره والأرض كلها ذرات في جسم كبير، هو هذا الوجود، وأن هذه الذرات كائنة في موضعها، في الصنع الكامل الدقيق، لازم بعضها البعض، وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون. حين يستقر هذا في تصور الإنسان وشعوره فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء. فلا يأسى على فائت أسىً يؤلمه ويزلزله، ولا يفرح بحاصل فرحاً يستخفه

ويذهله. ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية ورضى، رضا العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون. وهذه درجة عالية قد لا يستطيعها ولا يصل إليها إلا القليلون من البشر. فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله، وذكره بهذه وبتلك. ولن يجد أحد طعم الأيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أن ما كان لا بد أن يكون. ومن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه ويفعل ما أمره الله به فهو حسبه وكافيه، لأنه الغني القوي العزيز، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخير طلبه إلى الوقت المناسب له، فأمر الله لا بد من نفوذه، ولكنْ له وقت مقدر لا يتعداه ولا يقصر عنه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3]. وكل ما يفعله الله ويقضيه ويقدره على خلقه فيه مصالح وحكم: فما يفعله سبحانه من المعروف والإحسان دال على رحمته. وما يفعله من البطش والانتقام دال على غضبه. وما يفعله من اللطف وا لإكرام دال على محبته. وما يفعله من الإهانة والخذلان دال على بغضه ومقته. وما يفعله بمخلوقاته من النقص ثم الكمال، والحياة بعد الموت، دال على وقوع المعاد. وخلق الله لا يبدله أحد، فما جبل الله الناس عليه من الفطرة لا يبدل كما قال سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. وما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، ولكن ذلك لا يقتضي أن

تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدل سيئاته بالحسنات، وحسناته بالسيئات كما قال سبحانه: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل: 10، 11]. وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108]. وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة، فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره، وهو سبحانه لا يبدله. بخلاف تبديل الكفر بالإيمان، والإيمان بالكفر، فإنه يبدله كثيراً، والعبد قادر على تبديله بإقدار الرب له على ذلك كما قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]. وقال سبحانه في تبديل العباد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الذي له الخلق والأمر وحده، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر، وأحكامه جارية على خلقه قدراً وشرعاً. ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري، وأما حكمه الديني الشرعي ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1359)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).

فيطيعه الأبرار، ويعصيه الفجار. والأمران غير متلازمين، فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرع سبحانه ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفى الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر. وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي فيما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي. والقضاء في كتاب الله نوعان: أحدها: كوني قدري كقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} [سبأ: 14]. الثاني: ديني شرعي كقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. والله تبارك وتعالى خلق الإنسان وخلق صفاته وأفعاله، ويسر هذا لليسرى ويسر هذا للعسرى، وذلك بحسب ما يعمله العبد من الطاعات والمعاصي كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]. فالتيسير لليسرى يكون بثلاثة أمور: أحدها: إعطاء العبد ما أمر به، وسمحت به طبيعته بإعطائه من نفسه الإيمان والطاعة، والإخلاص والتوبة، والحمد والشكر، وإعطاؤه الإحسان والنفع بماله وبدنه. فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها. فهي بمنزلة العين التي يشرب الناس منها، ويسقون زروعهم ودوابهم منها، فهي ميسرة لذلك. وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى

كما كانت نفسه ميسرة للعطاء. الثاني: التقوى: وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دينه ودنياه وآخرته. وتارك التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه، تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى. وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقوى. فإن طيب العيش، ونعيم القلب، ولذة الروح، وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]. الثالث: التصديق بالحسنى: وهي (لا إله إلا الله) وما لأهلها من الثواب العظيم في الجنة، فلا تحصل النجاة من العذاب إلا بها وبحقها. والعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها أو ترك حقها. فالنفس فيها ثلاث قوى: قوة البذل والإعطاء .. وقوة الكف والامتناع وهي التقوى .. وقوة الإدراك والفهم. فهذه القوى الثلاث عليها مدار صلاحها وسعادتها، وبفسادها يكون فساده وشقاوتها. وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث، ودخول النقص بحسب نقصانها. فمن كملت له هذه القوى يسر لكل يسرى، فيجري الخير على يديه، وييسر على قلبه ولسانه، ويديه وجوارحه، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، منقادة لا تستعصي عليه، لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7].

أما التيسير للعسرى فيكون بثلاثة أسباب إذا فعلها العبد كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 8 - 10]. فمن عطل قوة الإدراك والإعطاء عن فعل ما أمر به، واستغنى بترك تقوى ربه فعطل قوة الانكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه، وكذب بالحسنى فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه يسره الله للعسرى. فحال بينه وبين الإيمان بالله ورسوله، فعسر عليه أن يعطى خيراً، وتيسر له فعل الشر الذي يؤدي به إلى العذاب، وهو الخلة العسرى، والخير يؤدي إلى اليسرى وهي الجنة. والتيسير للعسرى يكون بأمرين: أحدهما: ان يحول بينه وبين أسباب الخير، فيجري الشر على قلبه ونيته، ولسانه وجوارحه. الثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه، فليس له بعد ذلك إلا العسرى وهي النار. ولا يمكن للعبد أن يستغني عن ربه طرفة عين، فالمتقي لما استشعر فقره وفاقته وشدة حاجته إلى ربه اتقاه، ولم يتعرض لسخطه وغضبه بارتكاب ما نهاه عنه. فمن احتاج إلى أحد اتقى غضبه، واجتنب ما يكرهه، وفعل ما يحبه ويؤثره. أما من استغنى عن ربه، فاستكبر عن طاعة ربه، وفعل ما يغضبه، فإنه سيعذبه في الدنيا والآخرة، ويلقى العسر والشدة في الدنيا والآخرة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ، إِلا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ». ثُمَّ قَرَأ: «{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى

وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة فيسرهم لليسرى .. وأهل شقاوة فيسرهم للعسرى. واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها. وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما. بل حكمة آحاد خلقه تأبى ذلك، ومن جعل محل المسك والرجيع واحداً فهو من أسفه السفهاء. والقدر السابق من الله على عباده لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، فالعبد إنما ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه، ومكن منه، وهيئ له. فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب. وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه. ومن قدر الله أن يرزقه الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح. ومن قدر الله له أن يكون أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه. ومن عطل العمل، اتكالاً على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب، اتكالاً على ما قدر له، وهل يفعل هذا من له مسكة من عقل؟. وقد فطر الله تبارك وتعالى الإنسان والحيوان على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية. فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية، فهو سبحانه رب الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4949) واللفظ له، ومسلم برقم (2647).

وقد يسر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيء له ميسر له. وإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها من الإيمان والأعمال الصالحة كان أشد اجتهاداً في فعلها من القيام بها في أسباب معاشه ومصالح دنياه. وإذا علم العبد أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه. ومن سبقت له من الله سابقة، وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها. والقدر السابق إحاطة بعمل الإنسان قبل أن يعمله، فإذا وقع انكشف للعبد ما كان يجهله، والقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتضي لها، لا أنه منافٍ لها وصاد عنها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد .. والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره .. وتحجز عن شره .. وذلك نظام الشرع. فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر. فإن قيل: لم جعل هذا لا يليق به إلا الكرامة؟، وهذا لا يليق به إلا الإهانة؟. قيل: شأن الربوبية خلق الأشياء وأضدادها، والملزومات ولوازمها. ولولا خلق المتضادات لما عرف الخلق كمال قدرة الله، وكمال حكمته، وكمال مشيئته، ولما ظهرت أحكام الأسماء والصفات. وإذا أعطي الإنسان اسم (الملك) حقه ولن يستطيع، علم أن الخلق والأمر .. والثواب والعقاب .. والعطاء والحرمان .. أمر لازم لصفة الملك .. وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد .. والملك الحق يقتضي إرسال الرسل .. وإنزال

الكتب .. وأمر العباد ونهيهم .. وثوابهم وعقابهم .. وإكرام من يستحق الإكرام .. وإهانة من يستحق الإهانة. كما تستلزم حياة الملك وعلمه، وقدرته وإرادته، وسائر صفات كماله. إن شعور المؤمن وتذكره دائماً، بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله، لتحقيق مراد الله، وما يحبه الله. وعلمه بأن الله خلق هذا الكون، وقدر ما يجري فيه من الحركات والسكنات، والحسنات والسيئات. وإيمانه بأن الأمور كلها بيد الله .. حلوها ومرها .. خيرها وشرها. ذلك كله يسكب في روحه وقلبه الطمأنينة والسلام والأمن والاستقرار، والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق، ولا سخط على العقبات والمشاق، بلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].

2 - فقه المشيئة والإرادة

2 - فقه المشيئة والإرادة قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 29، 30]. وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: 107]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. إن جميع الخلائق، وجميع المؤمنين والكفار، وجميع المطيعين والعصاة، كلهم في قبضة الله سواء، وكلهم تحت قهره وسلطانه سواء. وهم جميعاً لا يملكون أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله، وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد. ولكن المؤمنين في القدر المتروك لهم للاختيار، بين الخضوع القهري المفروض عليهم بسلطان الله في ذوات أنفسهم، وفي حركة خلاياهم، وفي تكوينهم العضوي، وفي لونهم وطولهم. وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموساً واحداً، وسلطاناً واحداً، وحاكماً واحداً. وأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا عنه. بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه، أشقياء باختيارهم ما يضرهم، وما يغضب الله، ولهم أمد ثم يحاسبون على ما اختاروا يوم القيامة. وهم بعد هذا كله في قبضة الله، لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا

بقدره ومشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29]. والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومكن من أسباب الهداية بالسمع والبصر والفؤاد، وجعل الهداية بيده وحده، فالأمر كله له: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39]. ومشيئة العباد من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه، فما شاء كان ولا بدَّ، وما لم يشأ لم يكن البتة. والكون كله متعلق بمشيئة الله: الملائكة والشياطين .. والمؤمنون والكفار .. والطاعات والمعاصي .. والمتعلق بمحبته طاعتهم وإيمانهم. فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لايستقر فب النار شيء لله أبداً، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته. ومشيئة الله عزَّ وجلَّ لها حالتان: تارة تتعلق بفعله .. وتارة تتعلق بفعل العبد. فتعلقها بفعله: أن يشء من نفسه إعانة عبده وتوفيقه وتهيئته للفعل. فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته، ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله لمشيئة عبده، دون أن يشاء فعله، فإنه سبحانه قد يشاء من عبده المشيئة وحدها. فيشاء العبد الفعل ويريده ولا يفعله، لأنه لم يشأ سبحانه إعانته عليه وتوفيقه له لعلمه بحاله كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29]. ومشيئة الله عز وجل محيطة بالخلائق كلها، وبالعباد جميعاً إنسهم وجنهم، وجريان الأحداث في هذه العوالم كلها بمشيئة الله وقدره. واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن، وإمهاله لهم، ليقترفوا ما هم مقترفون: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].

ولو شاء الله لقهرهم على الهدى، ولكفهم عن الضلال قهراً، أو لهداهم إلى الحق، وشرح صدورهم له. أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم، فهم لا يعادون الرسل، ولا يقترفون ما يقترفون خروجاً عن سلطان الله ومشيئته، فهم أعجز من أن يخرجوا عن ذلك. إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار، والقدرة على الهدى والضلال، وهم في قبضة الله على كل حال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111]. وإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل وأتباعهم سنة يجري بها قدر الله، ليميل أهل الباطل وعشاق الدنيا إلى الباطل، ويتميز الصادق من الكاذب. وأن هؤلاء الشياطين على كل ما يرتكبونه هم في قبضة الله. فكيف يتوجه المرء إلى غير الله؟ .. وكيف يبتغي حكماً غيره؟: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: 114]. وقد أكمل الله الدين، ويسره للأمة، فلم يعد هناك قول لقائل، ولا حكم لبشر: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115]. فهداية المهتدين، وضلال الضالين، كلاهما إنما يتم بقدر من الله، وهؤلاء كهؤلاء كلهم في قبضة الله وسلطانه، وتحت مشيئته وقدره: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125]. ومشيئة الله سبحانه مطلقة لا يند عنها شيء، وهو فعّال لما يشاء.

فالخلق خلقه، والأمر أمره، وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس: 99]. فلو شاء سبحانه لخلق هذا الإنسان خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً، هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً. أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان. ولو شاء كذلك لأجبر الناس وقهرهم على الإيمان .. وما الذي يمنعه من فعل ما يشاء؟. ولكن حكمة الخالق عزَّ وجلَّ اقتضت خلق هذا الإنسان باستعداد للخير والشر .. وللهدى والضلال .. وللطاعة والمعصية. ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك الطريق. وقدرت أنه إذا أحسن استخدام ما وهبه الله من حواس ومشاعر ومدارك، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس، وما يجيء به الرسل من آيات وبينات، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص. وعلى العكس حين يعطل ما وهبه الله من حواس، ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الهدى والإيمان، يقسو قلبه، ويستغلق عقله، وينتهي بذلك إلى التكذيب والجحود، وإلى ما قدر الله للمكذبين الجاحدين من جزاء. فالإيمان إذاً متروك للاختيار لا يكره عليه أحد، لأنه لا مجال للإكراه على مشاعر القلب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 100]. فالإيمان له سنة ماضية جارية، فلا تصل النفس إلى الإيمان، وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه. وإنما تصل إلى الإيمان إذا سارت وفق أمر الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة الجارية العامة.

وعندئذ يهديها الله، ويقع لها الإيمان بإذنه، فلا شيء يتم وقوعه إلا بإذن الله. والذين عطلوا عقولهم عن التدبر، فهؤلاء يجعل الرجس عليهم بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر، وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفر، والآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون، وهي معروضة عليهم، ولكنهم لا يستفيدون منها، ولا يتعظون بها لعدم إيمانهم: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعل له مشيئة يختار بها ما يشاء، وميزه بالقدرة على الاختيار بين البدائل، وهو ما لم يعطه لغيره من الخلق. وفوق مشيئة الإنسان مشيئة الله التي يخضع لها كل شيء في الكون كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27، 29]. وبعض الناس يرى في هذا تعارضاً، وفي الواقع أنهما متفقان تماماً. فالإنسان حر في أن يختار هذا أو ذاك، ولكنه لا يستطيع أن يحقق ما يريده بالضبط إلا إذا شاء الله. فقد يريد الإنسان نفع أحد أو أذى أحد، ولكنه لا يصل إلى ما يريد دائماً، فإذا التقى ما يريده مع المشيئة تم، وإذا لم يلتق مع مشيئة الله فإنه لا يتم. وقد يسعى رجلان لهدف واحد، أحدهما يحققه، والآخر لا يحققه، سواء اختار طريق الخير أو الشر، الاختيار لهما، ولكن التوفيق أو الإتمام يأتي بمشيئة الله. ولذلك يصف الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأنه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق: 9]. فإذا وقف شخصان مثلاً أمام رجل فقير محتاج: أحدهما: يضع في يده المال سراً. والثاني: يعطيه المال أمام الناس رياءً. فتكتب للأول حسنة، ولا تكتب للثاني. فمشيئة الله عزَّ وجلَّ أن يصل للرجل درهمان، ولو عن طريق غير طريق إرضاء

الله بالإحسان إلى الفقير. فيأتيه درهم بالإحسان .. ويأتيه درهم آخر بالتباهي والتفاخر. ورغم أن هدفهما مختلف، إلا أن مشيئة الله تمت، ووصل إلى هذا الرجل رزقه الذي قدره الله له. فالإنسان يختار بين البدائل، ويسعى في الخير أو الشر، ويأتي الشيطان ليغري، وطاعة الله لتذكر الإنسان، ثم يتم العمل إذا التقت المشيئة به، أما إذا لم تلتق، فقد يأتي شيء يوقف هذا كله. والله عزَّ وجلَّ مالك كل شيء، وبيده كل شيء، وهو الذي يملك القدرة على الفعل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. أما البشر وغيرهم من المخلوقات فهم عاجزون تماماً عن الفعل أو الترك إلا بمشيئة الله. فالذي يريد من البشر أن يفعل شيئاً لا بد أن يملك أولاً القدرة على الفعل .. والوقت الذي سيتم فيه الفعل .. والمكان الذي سيتم فيه الفعل. فإذا قلت: سأذهب إلى فلان غداً، فيجب أن أملك القدرة في أن أكون موجوداً غداً على قيد الحياة، وأنا لا أملك هذه القدرة بل الله وحده هو الذي يملكها. وقد أكون موجوداً لكنني لا أستطيع أن أذهب لمقابلة هذا الشخص، قد أمرض فجأة، وقد يأتيني شيء عاجل يشغلني عنه، أو قد يهبط علي ضيف غير متوقع. وقد أكون على قيد الحياة، وبصحة جيدة، وليس لدي ما يمنعني من أن أتم هذه المقابلة، لكن من سأذهب إليه، قد أذهب إليه فلا أجده في منزله لأي سبب من مرض أو شغل مفاجئ يمنعه من المقابلة. فالإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر القدرة على العمل، ليقول أنه سيفعل كذا في مكان كذا في وقت كذا. ولكن الذي يملك القدرة هو الله سبحانه، فهو القادر الذي يقول للشيء كن فيكون، ولا يعجزه شيء، ولا يمنعه شيء.

فالفعال لما يشاء هو الله وحده، أما نحن جميعاً فكلنا فعالون لما يشاء الله سبحانه. فما دام العمل يدخل في المشيئة فهو سيتم قطعاً، لأن الله وحده هو الفعال، لا راد لقضائه. وما دام العمل لا يدخل في المشيئة فلن يتم قطعاً، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 23، 24]. فالله هو الفعّال لما يشاء، وأما الإنسان فليس له من الأمر شيء، والله يريد أن يذكرنا بنعمه، وأن نعلم أن الفضل منه، وأن الذي أعطى يستطيع أن يأخذ، وأن الذي منح يستطيع أن يمنع. إن الإنسان حين يغتر بقدرته يبطش ويظلم، ويفتك بالضعفاء، ويطغى ويفسد في الأرض. أما إذا تذكر أن هذا كله من قدرة الله، وأن الله إن شاء منح، وإن شاء أخذ، وإن شاء أعطى، وإن شاء أوقف هذا العطاء، فإن خشيته تدخل في قلبه، فتجعله يراجع نفسه فلا يبغي ولا يظلم، ويخشى الله في كل عمل يعمله، وفي هذا صلاح الكون كله. وقد فرق الله بين مشيئته ومحبته، فقد يشاء الله ما لا يحبه كمشيئته لخلق إبليس وجنوده، وكل شر ومصيبة ومعصية. وقد يحب ما لا يشاء كونه، كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء لوجد ذلك كله. والله سبحانه لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه، فإن المراد نوعان: مراد لنفسه .. ومراد لغيره. فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير كالطاعات. والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له.

فالله عزَّ وجلَّ خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الله، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل حيلة، وهو مبغوض للرب لعنه الله ومقته، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إلى الله من عدمها كما ذكرناها آنفاً. وكل شيء في هذا الكون واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، فإنه سبحانه يخلق ما يحب وما يكره، وهو الحكيم العليم. فكما أن الأعيان كلها خلقه، وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وذريته، وسائر الأعيان الخبيثة. وفيها ما يحبه ويرضاه كأنبيائه ورسله، وملائكته وأوليائه. فهكذا الأفعال كلها خلقه. ومنها ما هو محبوب له .. ومنها ما هو مكروه له. فالمحبوب كالطاعات والحسنات، والمبغوض كالمعاصي والسيئات التي خلقها لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان. والكفر والشرك واقعان بمشيئة الله وقدره، والإيمان والتوحيد واقعان بمشيئة الله وقدره. وأحدهما محبوب للرب مرضي له .. والآخر مبغوض له مسخوط. فالإيمان والطاعات والحسنات كلها محبوبة لله، وقد أمر بها. والشرك والمعاصي والسيئات كلها مكروهة لله، وقد حذر منها. وكل ذلك واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، لكن الأول محبوب له والآخر مكروه له، والمحبوب والمكروه كله بقضاء الله وقدره كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [الزمر: 7].

ومشيئة الله عزَّ وجلَّ هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت مشيئة الله أن يبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء. وجعل الله سبحانه هذا القدر موضع ابتلاء وامتحان للبشر. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى، والتطلع إليه، والرغبة فيه، فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وآياته فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله ويبعده عن الطريق، وأن يدعه يتخبط في الظلمات. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة. فالأمر كله مرهون بمشيئة الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي شاء أن يهدي هؤلاء، لأنهم أخذوا بأسباب الهدى، وهو الذي شاء ألا يهدي هؤلاء، لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى. وهو الذي شاء أن يدع للبشر هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء. وهو الذي يهديهم إذا جاءوا للهدى .. وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8]. والله سبحانه خالق هذا الكون وما فيه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا تعارض بين مشيئة الله وقدره، وبين إرادة الإنسان وعمله. فإذا قيل أن إرادة الله تدفع الإنسان دفعاً إلى الهدى أو الضلال، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية. وإذا قيل أن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية. بل الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة بين طلاقة المشيئة الإلهية، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي، بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم.

فالذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له، هو من صنع الله قطعاً، فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه. والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقاً وعسراً، هو من صنع الله قطعاً، لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه، وكلاهما من إرادة الله بالعبد، ولكنها ليست إرادة القهر، إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الإنسان بهذا القدر من الإرادة. وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125]. إن كثيراً من الكفار والمشركين والعصاة يلوحون بأن الله أجبرهم على ما فعلوه من كفر أو معصية كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35]. إن أمر الله ظاهر لمن تدبره، فالله يأمر عباده بالخير، وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين في الدنيا أحياناً بعقوبات ظاهرة، يتضح فيها غضبه عليهم لعلهم يتوبون كما قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21]. فلا مجال بعد هذا لأن يقال: إن إرادة الله ترغم العصاة على الانحراف، ثم يعاقبهم الله عليه، إنما هم متروكون لاختيار طريقهم، وهذه هي إرادة الله. وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر، من هدى أو ضلال، يتم وفق مشيئة الله. لكن الله يحب لهم الإيمان والطاعات، ويرضى بها، ويأمر بها. ويكره لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بها، بل يمقتها ويبغضها، وينهى عنها.

وقد بين الله عزَّ وجلَّ لرسوله سنته في الهدى والضلال بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} [النحل: 37]. فوظيفة الرسول البلاغ، أما الهدى والضلال فيمضي وفق سنة الله، وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها. فمن أضله الله، لأنه استحق الضلال وفق سنة الله فإن الله لا يهديه، لأن لله سنناً شرعية تعطي نتائجها، وسنناً كونية تعطي نتائجها، وهكذا شاء الله، والله فعال لما يشاء، وقدرته سبحانه فوق كل شيء، لأن الله لا يعجزه شيء. وكل شيء في الوجود مرده إلى مشيئة الله، وما يأذن به الله للناس من قدرته على الاختيار هو طرف من مشيئة الله، ككل تقدير آخر وتدبير، شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون به، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29]. فلا يفهم الناس أن مشيئتهم منفصلة عن مشيئة الله التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار ويسر الاهتداء إنما يرجع إلى تلك المشيئة المحيطة بكل شيء كان أو يكون أو سيكون. ولا بد أن يعلم المؤمنون هذه الحقيقة ليدركوا ما هو الحق لذاته، وليلجأوا إلى مشيئة الله الشاملة لكل شيء، يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون ويدعون في الطريق. فكل ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وقد نهى الله سبحانه أن يقول العبد في الأمور المستقبلة: إني فاعل ذلك من دون أن يقرنه بمشيئة الله، لما فيه من المحذور برد الفعل إلى مشيئة العبد وحده، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله.

ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد بربه، كما قال سبحانه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 23، 24]. ولما كان العبد بشراً لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر، ليحصل المطلوب، ويندفع المحذور. ويحسن بالعبد ذكر الله عند النسيان فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه. وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين.

3 - فقه خلق الأسباب

3 - فقه خلق الأسباب قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} [الكهف: 83، 84]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، وما نصبه من الأسباب في خلقه وأمره وأحكامه، وثوابه وعقابه، فذلك مظهر أسمائه وصفاته، ومظهر حكمته ونعمه، ومظهر قدرته وعزته. إذ ظهور هذه الأسماء والصفات تستلزم محال وتعلقات تتعلق بها، ويظهر فيها آثارها، فصفة الخلق والرزق، والرحمة والإحسان تستلزم وجود مخلوق ومرزوق، ومرحوم ومحسن إليه. وهذا الكون العظيم كما هو محل الخلق والأمر، ومظهر الأسماء والصفات، فهو بجميع ما فيه شواهد وأدلة وآيات دعا الله عباده إلى النظر فيها، والاستدلال بها على وجود الخالق جل جلاله. والاعتبار بما تضمنته من الحكم والمصالح والمنافع، على علمه وحكمته، ورحمته وإحسانه. والاعتبار بما تضمنته من العقوبات، على عدله، وأنه يغضب ويسخط، ويكره ويمقت من عصاه. والاعتبار بما تضمنته من المثوبات والإكرام، على أنه يحب ويرضى ويفرح بأهل طاعته. وذلك موجب كماله، وكمال أسمائه وصفاته، وبها عرف الخلق ربهم وإلههم، وعظمة أسمائه وصفاته. والأسباب والوسائط لم يخلقها الله سبحانه عن حاجة منه إليها، ولا يتوقف كماله المقدس عليها، فلم يتكثر بها من قلة، ولم يتعزز بها من ذلة، ولم يتقوَّ بها

من ضعف. بل اقتضى كماله المطلق أن يفعل ما يشاء، ويحكم ويتصرف، ويأمر ويدبر كما يشاء، وأن يحمد ويعبد، ويعرف ويذكر، ويعرف الخلق صفات كماله، ونعوت جلاله وجماله. ولذلك خلق سبحانه خلقاً يعصونه ويخالفون أمره، وذلك لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمال مغفرته وعفوه، وحلمه وإمهاله من عصاه. ثم أقبل سبحانه بقلوب من شاء منهم إليه، فظهر كرمه في قبول توبته، وبره ولطفه في العود إليه بعد الإعراض عنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» أخرجه مسلم (¬1). فخلق العبد المغفور له، وتقدير الذنب الذي يغفر، والتوبة التي يغفر بها، هو نفس مقتضى العزة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى والصفات العلا. والله سبحانه كل وقت يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها، ويظهرها بأسبابها التي سببها لها، ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة التي عينها لها. والدين هو إثبات الأسباب .. والوقوف معها .. والنظر إليها. والله تعالى أمرنا بالوقوف بها بمعنى أننا نثبت الحكم إذا وجدت، وننفيه إذا عدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني. وهل يستطيع حيوان أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب، فتنفسه بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته بها، وشقاؤه بالإعراض عنها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. فالأسباب التي خلقها الله هي محل الأمر والنهي .. والثواب والعقاب .. والفلاح ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2749).

والخسران. وبالأسباب عُرف الله .. وبها عُبد الله .. وبها أطيع الله .. وبها تقرب إليه المتقربون .. وبها نال أولياؤه رضاه وجواره. ولكن الأسباب ليست مستقلة بالإحداث والتأثير، وليست أرباباً من دون الله، فلا تستقل بشيء من دون الله. بل الله خالق الأسباب ومسبباتها: فقد خلق سبحانه النار وجعل فيها قوة الحرارة والإحراق .. وخلق الماء وجعل فيه قوة مروية .. وخلق الطعام وجعل فيه قوة مشبعة .. وخلق الدواء وجعل فيه قوة مذهبة للداء .. وخلق العين وجعل فيها قوة باصرة .. وخلق الأذن وجعل فيها قوة سامعة .. وخلق الحديد وجعل فيه قوة قاطعة .. وهكذا. فنقف مع الأسباب حيث أمرنا أن نقف معها، وندور معها حيث دارت، مع النظر إلى من أزمتها بيده. ونلتفت إليها التفات العبد المأمور بتنفيذ ما أمر به، فهي مأمورة مدبرة، ونرعاها حق رعايتها، وننظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إياها، ولا نتجاوز بها حدها. والله سبحانه يرزق العباد تارة بالأسباب، وتارة بدون الأسباب. فالرزق بالأسباب عام للمسلم والكافر، والرزق بدون الأسباب خاص بالمؤمنين كما في قصة مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]. والله يرزقنا الجنة بسبب الإيمان والأعمال الصالحة، وهذه أسباب. والله خالق هذا .. وخالق هذا. والأحوال من فقر ومرض ونحوهما لا تتغير بالأسباب، بل تتغير بالإيمان والأعمال الصالحة.

وإن تغيرت أحياناً بالأسباب فهي ابتلاء للمؤمن، هل يركن إليها ولا يلجأ إلى الله؟. وهي كذلك اطمئنان للكافر فهو لا يعرف غيرها. فالكفار يتفكرون لتغيير أحوالهم من الفقر إلى الغنى، ومن المرض إلى الصحة بالأسباب، وإذا جاءت عليهم أحوال سيئة يتفكرون لتغييرها بالأموال والأسباب. وتغيير الأحوال بالأسباب جهد فرعون. أما جهد الأنبياء فهو تغيير الأحوال بالإيمان والأعمال الصالحة لا بالأسباب، بل بأمر الله وسنته فهو مالك الملك، وبيده كل شيء كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وقال الله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]. فالفقر والمرض أحوال لا نتوجه لحلها إلى الأسباب فقط، بل نتقي ونحذر، ونتوجه إلى الله أولاً بالإيمان والأعمال التي ترضيه، ثم هو سبحانه يغير الأحوال بقدرته. فهو وحده القادر على تغيير الأحوال: إما بالأسباب كما هو معلوم .. أو بدون الأسباب فيقول للشيء كن فيكون كما رزق مريم طعاماً بلا شجر، وابناً بلا ذكر .. أو بضد الأسباب كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما جعل البحر سبباً لنجاة موسى في التابوت، وحين كان مع بني إسرائيل. فلا نتوجه إلى الأسباب في حل المشاكل، وتغيير الأحوال، بل نتوجه إلى الله، ونفعل ما يرضيه، وننظر ما هو أمر الله في حال الفقر أو الجوع أو المرض أو الخوف فنفعله كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله سبحانه خالق الأسباب التي يتم بها ما أراد، كما جعل المطر سبباً

للإنبات .. والدواء سبباً لذهاب الداء .. ووطء المرأة سبباً للحمل .. والنار سبباً للإحراق .. والأكل سبباً لذهاب الجوع .. والماء سبباً لذهاب العطش .. والسكين سبباً للقطع. كما جعل سبحانه الدعاء سبباً لما يحصل للمدعو له أو المدعو عليه .. وسؤال العلماء سبباً لزوال الجهل .. وطاعة الله سبباً لرضاه .. ومعصية الله سبباً لسخطه وانتقامه. فالأسباب المأذون فيها شرعاً والمأمور بها والمنصوص عليها لا تنكر، لكن لا نتكل عليها، فنفعلها ولا نتوكل عليها، إذ في إنكارها نقص في العقل، وفي الاتكال عليها شرك في الدين. وكل من الاتكال عليها، والإنكار لها، منتفٍ شرعاً وعقلاً. فالواجب الإيمان بها وفعلها، وعدم التوكل إلا على الله وحده. كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} [الفرقان: 58]. ومن سنة الله أن من اعتمد على غير الله من الملك والمال والأسباب، أعطاه الله إياه، وخذله من جهته فـ: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. ومن سنته كذلك جعل الأسباب في أيدي أعداء الله، لأن أعداء الله اعتمادهم على غير الله من الأسباب كالملك والمال والسلاح ونحوها. ومن سنته كذلك إعطاء الفقر والمسكنة لأنبياء الله وأتباعهم، لأن اعتمادهم على الله، ليس على الملك والمال والأساب كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)} [الملك: 29]. فاعتماد المؤمنين في كل شيء على الله، واعتماد الكفار على الأسباب، والأسباب بدون الإيمان سبب للهلاك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ

مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. والكفار يستعملون هذه الأسباب التي أعطاهم الله في عداوة المؤمنين وإيذائهم، والله سبحانه يأمر المؤمنين بالصبر عليهم، والله قادر أن يهلكهم بالحر او البرد أو بالحجارة أو يحرقهم بالنار أو يغرقهم بالماء، أو يخسف بهم الأرض أو بغير ذلك. وكانت مثل هذه الأحوال في مكة، فقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، وظلموا وعذبوا، وفي كلها أمرهم الله بالصبر، وتحمل الأذى والدعوة والرحمة كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وهذا الصبر ليس بسبب الضعف، بل ليلقي في قلوب المؤمنين والدعاة الشفقة والرحمة على الناس أكثر من شفقة الأم على ولدها، الذي يؤذيها فترحمه، لأنها تعلم ما لا يعلم. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يتفكر ويعمل لهداية الناس، وأعداؤه يتفكرون ويعملون للقضاء عليه. همُّ الرسول وفكره في هدايتهم .. وفكرهم وهمهم لجهلهم لقتله، وشتان بينهما. فقلبه - صلى الله عليه وسلم - مملوء رحمةً وإيماناً وعلماً، وقلوبهم مملوءة غلظةً وكفراً وجهلاً وظلماً. وكلما زادوا في أذاه ازداد رحمةً لهم وشفقةً عليهم، ولم تأت في قلبه عاطفة الانتقام لنفسه. وإذا كان الله معنا لم نهزم ولم نغلب كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. ولكن ليس معنى هذا ترك الأسباب المادية البتة، بل لا بد من الأخد بالأسباب المأمور بها، لأننا في دار الأسباب، والله أمر بها وأذن، وسخرها لنا لنستعملها

في طاعته، وفيما ينفعنا ولا يضرنا كما قال الله سبحانه لنبيه نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]. وقال لداود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80]. وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بين درعين، ولبس المغفر على رأسه يوم الفتح، وأكل الطعام، وشرب الماء والحليب .. وغير ذلك. وقال سبحانه لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]. وفعل الأسباب له شرطان: الأول: أن نفعل الأسباب ولا نعتمد عليها، بل نعتمد على الله وحده، وإلا أصابنا ما أصاب المسلمين في غزوة حنين حين أعجبتهم كثرتهم، وقال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة، فرفع الله عنهم النصر ثم ولوا مدبرين فلما أنابوا إلى الله ثبتهم الله ونصرهم بجنود من عنده كما قال سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26]. الثاني: أن نفعل الأسباب المادية الممكنة، ولا نخالف أمر الله ورسوله، وإلا أصابنا ما أصاب المسلمين في أحد، حيث خالف الرماة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلوا من الجبل يجمعون الغنائم لما رأوا النصر للمسلمين، فكانت الفرقة والفشل والتنازع ثم رفع الله النصر، وكثر في المسلمين القتل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ

عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. وفي غزوة بدر كانت الأسباب المادية في العدد والعدة قليلة، لكن الأسباب الروحية الإيمانية من صدق الاعتماد على الله، وطاعة الله ورسوله، كانت قوية فكان النصر للمسلمين. وفي صفوف الأعداء كانت الأسباب المادية قوية وكثيرة، فالعدد كثير، والعدة كثيرة. لكن كان اعتماد الكفار على المخلوق .. واعتماد المؤمنين على الخالق .. فغلب جند الخالق جند المخلوق كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. وفي بدر أظهر الله قدرته .. وفي أحد أظهر الله سنته .. وفي حنين أظهر الله قدرته وسنته. وفي بدر ظهرت قوة لا إله إلا الله .. وفي أحد ظهرت قوة محمد رسول الله، فلا بد في كل عمل من (لا إله إلا الله) أخلاصاً وتوكلاً ومن (محمد رسول الله) طاعةً واتباعاً. وإنما حصل النصر الكامل للمسلمين في بدر، لما في قلوبهم من صفات الإيمان والتقوى، والصبر والاستعانة بالله، ودعائه والاعتماد عليه كما قال سبحانه: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 125]. وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. إن الله جل جلاله خلق هذا الكون العظيم، سمواته وأرضه، علويه وسفليه، وله الملك وحده لا شريك له. وجميع المخلوقات مخلوقات مربوبة مدبرة، ليس بيدها شيء، ولا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.

والأسباب من أموال وتراب، ونبات وحيوان وغيرها، ليس بيدها شيء، وإنما الأمر كله لله، وهي أمام رب الأسباب كالخدم ينفقون من خزائن الملك بأمره. فلو أن ملكاً من الملوك جعل لقصره مائة باب، وجعل على كل باب خادماً، وقال لكل خادم من جاء من الناس يسأل فأعطه فلساً فقط، فإن اعترض معترض، فقل هذه أوامر الملك، وأنا ليس بيدي شيء. فجاء جليس الملك وقال: أنا أحتاج مائة ألف فأعطني؟. فقال الخادم: أنا لا أملك أن أعطيك إلا فلساً واحداً فقط، لكن إن كنت من خواصه فادخل عليه من الباب الآخر، وهو يعطيك إذا شاء ما يريد. ولله المثل الأعلى، جميع الأسباب جعلها الله باباً صغيراً ينتفع منه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، والله يرزقهم بواسطتها، فهذا باب الأسباب. أما العطاء الجزيل، العطاء الكبير، فالله يعطيه بنفسه، فيطلب من الملك مباشرة بالإيمان والأعمال الصالحة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وإذا عاش الإنسان مع الأسباب بدون الإيمان نزلت به خمس عقوبات، كل واحدة أشد مما قبلها: الأولى: الإسراف: فإن من لم يتقيد بأوامر الله وحدوده، أصيب بآفة الإسراف، وبغض الله له، فهو مسرف على نفسه، ومحروم من محبة الله، فإن الله لا يحب المسرفين. الثانية: التبذير: فبعد الإسراف يأتي التبذير، لعدم الإيمان بالله، فهو يسرف ثم يبذر، والتبذير من صفات الشياطين، فيكون أخاً لهم، لأنه اتصف بصفاتهم: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27].

الثالثة: الترف: وهو فوق التبذير، وإذا حصل الترف جاء الفسق كما قال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16]. الرابعة: الإجرام: فتأتي الجرائم بعد الترف، فحيثما كان الترف كانت الجرائم كما قال سبحانه: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)} [هود: 116]. الخامسة: العقوبة والتدمير: فرداً كان المسرف المبذر كقارون كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81]. أو تكون العقوبة جماعية، إذا كانت المعصية اجتماعية، كما أغرق الله الطاغية المستكبر فرعون وجنوده في اليم، حينما قال أنا ربكم الأعلى فأطاعوه: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} [القصص: 40]. والأسباب التي أمر الله بها نوعان: الأول: أسباب دنيوية كالأكل والشرب، والنكاح واللباس، والسكن والمركب والأشياء والأموال ونحوها. الثاني: أسباب أخروية كالإيمان، والعبادات، والأعمال الصالحة، والدعوةإلى الله، والجهاد في سبيله ونحو ذلك. ونحن مأمورون أن نأخذ من الأسباب الدنيوية ما أحل الله لنا بقدر الحاجة والبقاء، ونأخذ من الأسباب الأخروية التي تقرب إلى الله ما استطعنا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن: 16]. والأسباب والنعم والجوارح إذا لم يدخلها الدين تكون سبباً للبعد عن الله، ونزول العقوبات. والله عزَّ وجلَّ قد جعل لكل حق حداً، من تجاوزه خرج من الحق إلى الباطل.

وقد جعل الله لكل شيء سبباً، فتقع الأحداث مرتبة على أسبابها، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها بلا تعارض بين هذا وهذا، فلكل حادث سبب، ووراء كل سبب تدبير من اللطيف الخبير. وقد خلق الله الأسباب لحكم عظيمة، ومنافع ومصالح للعباد. وقد ابتلى الله عباده بالأسباب، وجعل لها ثلاثة أحوال: الأول: أن الله سبحانه خلق أسباب الحلال وأسباب الحرام، فيستطيع الإنسان أن يكسب المال بالحرام عن طريق الربا والغش، والكذب والسرقة، وبيع المحرمات كالخمر والخنزير والصور ونحوهما. ويستطيع أن يكسب المال بالحلال حسب أمر الله بالبيع والشراء والإجارة ونحو ذلك. لكن الشيطان يخدع الإنسان ويقول له بكسب الحرام يزداد رزقك، وبكسب الحلال يقل رزقك، لكن الله يجعل البركة في القليل، ويجعل في القلوب السكينة. وبكسب الحرام تخرج الطمأنينة من القلب، وترفع البركة والرحمة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268]. الثاني: أن الله عزَّ وجلَّ أحياناً يقلل الرزق وأحياناً يزيده كما قال سبحانه: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]. فلا تحزنوا عند فقد المال، ولا تتكبروا وتبطروا عند كثرته، فالأرزاق بيد الله، وما كان ربك نسياً، فاستقيموا على أمر الله زاد الرزق أو نقص. الثالث: أن الله أحياناً يأمرنا بفعل الأسباب وأحياناً يأمرنا بترك الأسباب فإذا جاء الأمر من الله بفعل الأسباب نستجيب فوراً ونفعل الأسباب. وإذا جاء الأمر من الله بترك الأسباب، نترك الأسباب طاعةً لله وثقة به، وامتثالاً

لأمره كما قال سبحانه في الحالين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9، 10]. والأموال والأسباب مثل حنفيات الماء مظهر المنافع، ليست موجدة للمنافع، لأن المنافع عندالله وبيد الله. فكما أن كل حنفية لها علاقة بخزان الماء تكون سبباً لخروج الماء، لا أنها موجدة للماء. وكل حنفية ليس لها علاقة بخزان الماء لا تعطيك قطرة ماء، ولو مكثت الدهر كله. فكذلك جميع المنافع والخلائق والأحوال في خزائن الله سبحانه. تأتي بأمره .. وتزيد بأمره .. وتنقص بأمره .. وتتحرك بأمره .. وتسكن بأمره .. وتظهر على الأموال والأسباب بأمره. فزوال العطش بأمر الله، وقد جعل الله الماء سبباً لزوال العطش فنشربه لأمر الله ولا نعتمد عليه في زوال العطش. وقد يجعل الله الماء سبباً لزيادة العطش، كا حصل لبني إسرائيل لما شربوا من النهر، فكلما شربوا من النهر زاد العطش. فزوال العطش بأمر الله وحده، والماء سبب، وزوال الجوع بأمر الله وحده، والطعام سبب، والله هو الذي يطعم ويسقي كما قال سبحانه: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 79، 80]. فالله سبحانه هو الذي بيده كل شيء، وليس بيد أحد من الخلق شيء، فالأمر كله لله، والأمر لله من قبل ومن بعد. والمؤمن كلما ترك أوامر الله سلط الله عليه الكفار يؤذونه، ويعذبونه ويذلونه حتى يعود إلى ربه فيحفظه منهم.

فالصحابة في أحُد لما خالفوا أمراً واحداً رفع الله عنهم النصرة، وأصابتهم المصيبة بكثرة قتلاهم. ولما اختل يقين بعض الصحابة في حنين، وأعجبوا بكثرتهم رفع الله عنهم النصرة، فلما تجدد يقينهم على ربهم نصرهم على عدوهم في الحال، وأغنمهم أعظم الغنائم، وأمدهم ربهم بجنود من عنده. وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن قصص أهل الأسباب حتى لا ننخدع بها، ولا نتوكل عليها، ولا نطمئن إليها: ففرعون خدع بملكه، فطغى واستكبر وتجبر وأفسد في الأرض .. فماذا فعل الله به؟. وقوم نوح اغتروا بكثرتهم واعتمدوا عليها، فاستكبروا وسخروا .. فماذا فعل الله بهم؟. وقوم عاد خدعوا بالقوة، وقالوا من أشد منا قوة، فكفروا وكذبوا .. فماذا فعل الله بهم؟. وقوم سبأ تعلقوا بالزراعة من دون الله .. فماذا فعل الله بهم؟. وقوم صالح خدعوا بالصناعة، ورغد العيش .. فماذا فعل الله بهم؟. وقوم شعيب اغتروا بالأموال والتجارة .. فماذا فعل الله بهم؟. وجميع هؤلاء قالوا العزة بهذه الأشياء والأسباب، ولا حاجة لنا بالإيمان والأعمال والتقوى .. وكل هؤلاء عصوا رسل الله .. وكذبوهم وآذوهم .. فماذا حصل لهم؟. وكيف كانت عاقبتهم؟. لقد دمرهم الله وأهلكهم، وأنجى رسله والذين آمنوا معهم، كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. والله عزَّ وجلَّ أرسل الأنبياء والرسل إلى الناس، يدعونهم إلى عبادة الله وحده،

وبذلك يستفيدون من قدرة الله، ومن خزائن الله، بالإيمان والتقوى، فمن أطاع الله أكرمه، ومن عصاه عذبه. وعند القيام بالدين يأتي البلاء والاختبار، فمن صبر فاز وأفلح، لأن الإنسان لا يترقى إلا بالاختبار كما في أمور الدنيا، فالحديد والذهب لا يصفو إلا بعد عرضه على النار: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23]. وضعيف الإيمان، وقوي الإيمان، لكل منهما ابتلاء يخصه حسب إيمانه، وبقدر قوة الإيمان تكون قوة الابتلاء، حتى يترقى المسلم في درجات الإيمان، وكلما يترقى يفوز في الدنيا والآخرة، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]. عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجة (¬1). والأسباب كلها مخلوقة مأمورة، مملوكة لله عزَّ وجلَّ، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بفعل الأسباب، لأننا في دار الأسباب. وإذا أردنا فعل الأسباب فلا بد من العلم بأمور: أحدها: أن نفعل الأسباب ولا نتوكل عليها، بل نتوكل على الله وحده. الثاني: ألا نجعل الشيء سبباً إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو خالف الشرع كان مبطلاً كمن يظن أن النذر سبب في دفع البلاء، وحصول النعماء، وقت ثبت شرعاً أن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).

الثالث: أن السبب المعين وحده لا يستقل بحصول المطلوب، بل لا بد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإذا لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع، لم يحصل المقصود، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الرابع: أن الأعمال لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً إلا أن تكون مشروعة، فكما جعل الله الماء سبباً للحياة والإنبات، فقد جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك. فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو معه غيره، أو يعبده بالبدع التي تخالف الشرع، والشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وهل بعد الشرك من ذنب؟. ولا بد لكل عبد من الجمع بين الأمرين: التوكل على الله .. وفعل الأسباب المأمور بها. فيزرع الزرع .. ويتوكل على الله في إنمائه وحفظه وحصول ثمرته. ويتزوج .. ويتوكل على الله في حصول الأولاد، فالزواج سبب وهو منك وأنت الذي تفعله، وأما حصول الأولاد فهو من الله. وتدعو إلى الله .. وتتوكل على الله في حصول الهداية، وهكذا. والله عزَّ وجلَّ يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسباباً تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب. كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها. فلو قال أحد إذا علم الله وقدر أنه يولد لي فلا حاجة الي الوطء، كان أحمقَ، لأن الله علم أنه سيكون بما يقدره من الوطء. وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل، وهذا يروى بالشرب، وهذا يموت بالقتل، فلا بد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها. وكذلك إذا علم الله أن هذا يكون سعيداً في الآخرة، وهذا يكون شقياً في الآخرة، وهذا في الجنة، وهذا في النار.

فالله علم أن هذا يدخل الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة، فإن لم يكن معه إيمان دخل النار. وهذا يعمل بعمل السعداء .. وذاك يعمل بعمل الأشقياء. والجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته، فمن قدر أن يكون منهم، يسره الله للإيمان والطاعة. ولا يعاقب الله عزَّ وجلَّ العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله، ولهذا أمر الناس بالدعاء، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالاً على القدر كان مخطئاً. لأن الله جعل الدعاء والسؤال، من الأسباب التي تنال بها مغفرته ورحمته، وهداه وتوفيقه، ونصره ورزقه. وإذا قدر الله للعبد رزقاً أو خيراً يناله بالدعاء، لم يحصل بدون الدعاء. وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم، فإنما قدره الله بأسباب، وليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات، وخلق فيها الأثر كما خلقها. وليس فعل الأسباب المشروعة كافياً في حصول المطلوب، فالولد لا يحصل بمجرد الوطء فقط، بل لا بد من تمام الشروط، وانتفاء الموانع، وأن يشاء الله خلقه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. وكذلك أمر الآخرة، فليس بمجرد العمل يدخل الإنسان الجنة، بل العمل سبب، وليس العمل عوضاً وثمناً كافياً في دخول الجنة. بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6467)، واللفظ له، ومسلم برقم (782).

ومن له عذر من خلقه كالطفل الذي لا يميز، ومن مات في الفترة، والمعتوه والمجنون والأصم، ومن لم تبلغه الدعوة، فهؤلاء لا يعذبهم الله بلا ذنب البتة، وله فيهم حكم آخر في المعاد. حيث يمتحنون، فمن أطاع منهم أدخله الله الجنة، ومن عصى أدخله النار. ومن قدر الله له أن يكون سعيداً يكون سعيداً، لكن بالأعمال التي جعله الله يسعد بها. ومن قدر الله له أن يكون شقياً يكون شقياً، لكن بالأعمال التي جعله الله يشقى بها، والتي من جملتها الاتكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة. والله على كل شيء قدير، أقدر عباده على أشياء، ومنعهم من أشياء. وما لا يقدر عليه العبد نوعان: أحدهما: ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه، والطيران في الهواء ونحوهما. الثاني: ما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين كالماء والنار، وكالحركة والسكون ونحوهما. والأسباب كلها مظاره لقدرة الله وجماله وجلاله، وهي نوعان: أسباب معتادة .. وغريبة. فالمعتادة: كولادة الإنسان من أبوين، وخروج الثمر من الشجر، وخروج الحليب من البقر، والكلام من اللسان، ونحو ذلك. والغريبة: كولادة الإنسان من أم فقط كما ولدت مريم عيسى، أو من أب فقط، كما خلقت حواء، أو من غير أبوين كما خلق الله آدم من تراب، وخروج الماء من الحجر لموسى، وانقلاب العصا حية لما ألقاها موسى، وحصول الطعام لمريم في المحراب، ونحو ذلك. والأسباب التي يحصل بها الرزق، هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأن الله يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب. وما قدر الله له من الرزق بغير اكتساب كالميراث والهدية والوصية، يأتيه بغير

اكتساب. وأكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم إما صدقة أو هدية أو نذراً، أو غير ذلك مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم. والتاجر يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته، وغاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها وعرضها. أما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا ليس مقدوراً للعبد. والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق كالتجارة والعمل. وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. والله تبارك وتعالى لا ريب أنه قضى وفرغ من تدبير أمور الخلق، ولكنه قدرها بأسبابها المفضية إليها. فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعاً له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقاً لحصول ما قضاه منها. فيباشر العبد الأسباب التي بها حفظ حياته من الطعام والشراب، واللباس والسكن ونحوها، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعاً له من تعاطيها. وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاء النوع من النكاح والتسري، ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعاً له من فعل ما أمر به. وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغاً منها قضاءً وقدراً، فهي منوطة بأسبابها التي يتوقف حصولها عليها شرعاً وقدراً. فكما جعل الله عزَّ وجلَّ الطعام سبباً للشبع والماء سبباً للري، كذلك جعل فعل المأمور وترك المحظور سباً للنجاة، وجعل فعل المحظور وترك المأمور سبباً للهلاك، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.

وفعل الأسباب لا ينافي التوكل على الله، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل المتوكلين، وأشد عباد الله حرصاً على فعل الأسباب قد ظاهار بين درعين في أحد .. وأمر بإطفاء السراج .. وإغلاق الأبواب .. وأمر بنفض الفراش والتسمية عند النوم .. وأخذ الزاد في السفر .. وأخذ من يدله على الطريق في الهجرة .. وكان يتقي الحر والبرد .. ويأكل ويشرب .. وأمر بالتداوي .. ولم ينقص ذلك من توكله. والله عزَّ وجلَّ يعطي عباده ويرزقهم من ثلاثة أبواب: بالأسباب .. وبدون الأسباب .. وبضد الأسباب. فيعطي الأسباب ليتبين به ما أفاض من صنعه، وما أودع في مخلوقاته من القوى والطبائع والمنافع. ويعطي بدون الأسباب ليبين للعباد أن قدرة الله غير مفتقرة إلى واسطة في فعله. ويعطي بضد الأسباب ليعلم العباد أن الله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وأخرج الماء من الحجر لموسى وقومه. ولا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذن الله، والأسباب تفعل فعلها، وتظهر آثارها بإذن الله. فلو عرض الإنسان يده للنار فإنها تحترق، ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله، فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق، وأودع يدك خاصية الاحتراق بها. وهو سبحانه قادر أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة يريدها، كما وقع لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، فالنار تشتعل ولكن الله منعها من حرق إبراهيم، بل جعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. وكذلك السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ينشئ هذا الأثر بإذن الله، والله قادر أن يوقف هذا الأثر فيه حين لا يأذن لحكمة يريدها كما قال سبحانه عن

السحرة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]. والأمر كله لله، والله لا مقيد لمشيئته، فالمشيئة التي تريد النتيجة، هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشية ووجود الأسباب، وهذا الكون وما يجري فيه كله يسير وفق مشيئة الله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 4، 5]. فالعقيدة الصحيحة ترد الأمر كله لله، ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب المشروعة، والتي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع بأمر الله. أما إن تحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تحقق فليس داخلاً في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله، فالتوكل مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله وحده، وهذا محل الابتلاء. وظاهر الأسباب في الدنيا هو من أساس حكمة الحياة، أن يكون ظاهراً أمامك أن هذا يعطي، وهذا يمنع. وهذا يستطيع أن يعطيك المال والخير، وهذا يستطيع أن يمنع عنك الرزق. وأنت إما أن تندفع لإرضاء بشر على حساب معصية الله، وإما أن تلتزم بمنهج الله ولا تخشى أحداً. فظاهرية الملك .. وظاهرية الأسباب .. لازمة في الحياة الدنيا .. غير لازمة في الآخرة. ولذلك فإن هذا الظاهر، وهذه الأسباب، كل ذلك يختفي في الآخرة، ويكون الشيء مباشرة من الله لعبيده. لماذا؟ .. لأن الآخرة هي دار الخلود، وليست مرحلة اختبار للعباد. فظاهر الملك في الدنيا لأحد غير الله، هو أمر تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا، من

أنها امتحان يمر به الإنسان، ليوصله إلى الجنة أو النار. أما في الآخرة فظاهر الملك يختفي كما تختفي الأسباب: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر: 16]. والله تبارك وتعالى كما أنه خالق كل شيء، فهو مالك كل شيء، ومدبر كل شيء، ولكنه استخلفنا في الدنيا في مال أو حكم أو سلطان بإذنه وبأمره، متى شاء وكيف شاء، كما قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. فالله عزَّ وجلَّ استخلفنا في الأرض والأموال والمناصب ليرى ماذا نفعل؟. هل نطيعه فيها أم نعصيه؟ .. وهل نعتمد عليها، أم نتوكل على الله وحده؟. كما قال سبحانه: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129]. والله سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً، وخلق لها الأسباب التي تحصل بها، والعوامل التي تحكمها، إظهاراً لكمال قدرته، وابتلاء العباد. ولكن هذه العوامل والأسباب لا يمكن أن تكون قيداً على قدرة الله سبحانه، ذلك أن الله لو قضى بالأسباب وحدها في الأرض، لعبد الناس الأسباب وحدها، ونسوا المسبب الخالق سبحانه. ولذلك بقيت طلاقة قدرة الله في الكون، لتلفت الناس إلى أن الذي خلق الأسباب، لا تقيده هذه الأسباب في قدرته. فله سبحانه سنة .. وله قدرة .. فسنته جارية .. وقدرته مطلقة لا يحكمها شيء. وهو يفعل ما يشاء في أي وقت شاء، ولكن ظهور القدرة لا يحدث إلا بين حين وآخر، لأنها ليست حكم الله في الدنيا ولا سنته، ولا هي وسيلة الحياة فيها. وإذا حدثت طلاقة القدرة كل يوم انتفت الأسباب، ولم يعد لأسباب الدنيا وجود، ولكنها تأتي لفتة كما خرج الماء من الحجر لموسى - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا

فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة: 60]. وكما خرج الماء من بين أصابع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية. فظهور قدرة الله أحياناً، تلفت الناس إلى القدرة الإلهية التي هي فوق الأسباب، حتى لا تعبد الأسباب، وهي في مجيئها مكلفة من الله سبحانه بأمره. فقد ينخفض محصول القمح مثلاً، مع أن الأسباب اللازمة كلها متوفرة، ولكن الأرض رفضت أن تنفعل بالأسباب بأمر الله، لماذا؟. إنها لفتة من الله حتى لا نعبد الأسباب، ونترك الله. فالدنيا دار الأسباب والعمل، وتظهر قدرة الله أحياناً بدون الأسباب لمن شاء وهم المؤمنون، ولكن سنة الله وقدرته في الحياة الدنيا عموماً تظهر بالأسباب، لأن ظهور القدرة الإلهية مباشرة بدون الأسباب في الآخرة. فكل شيء في الآخرة يأتي العبد بمجرد ما يجول في خاطره أو يفكر فيه، لا عمل في الآخرة ولا سعي، وإنما نعيم ورضوان من الله، وعطاء بلا حدود ولا نفاد. أما في الدنيا فهناك طريق الأسباب لعموم الناس، ومعه عطاء الرب بلا أسباب، وهذا خاص بالمؤمنين. وأرزاق الأحياء مخفية وراء الأسباب التي أمرنا الله بها، ولكن الله يعطي إذا شاء بغير حساب، وبغير أسباب، لمن شاء من عباده كما قال سبحانه عن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]. فالأسباب ليس بيدها شيء، ولكنها وسيلة للحصول على الرزق الذي كتبه الله للعبد، ولذلك أمرنا الله بذكره عند مباشرة الأسباب كما قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} الجمعة: 10] فالأرزاق كلها بيد الرزاق وحده، والأسباب وسيلة للوصول إليها، والله خالق

الرزق، وخالق المرزوق، وخالق السبب الموصل إلى الرزق: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والاستعانة بالله في كل عمل استعانة بالقادر الذي لا يعجزه شيء، ورد الفعل إلى الفاعل الذي بيده كل شيء. فالأسباب تعمل بأمر الله، ونسبة العمل إلى الأسباب وحدها تبعدنا عن الله سبحانه. فالله مالكها، ومالك الكون كله، وهي لا تخرج عن تدبيره وأمره. ولقد مكن الله بعض خلقه من الأسباب الظاهرة في الأرض، فهذا رئيس دولة .. وهذا ميسر له أسباب النفوذ والسلطان .. وهذا ميسر له أسباب المال، وجعل الله العطاء ظاهراً فقط من هذه الأسباب ليسير الكون فماذا حدث؟. لقد ظن أكثر الناس أن عطاء الأسباب في يد هؤلاء وحدهم، وأن مخالفتهم ستؤدي إلى الحرمان من مقومات الحياة، وأن طاعتهم ولو في معصية الله ستعطي الإنسان الحياة الرغدة التي يتمناها، فماذا حصل؟. لقد وقف الناس بأبوابهم لا يرجون إلا إياهم، ولا يخافون إلا منهم، وازدحم الناس على باب العبد الفقير، أما باب الملك الغني القوي العزيز فقلما يقف عليه أحد، وهذه خطورة الأخذ بالأسباب وحدها. وهي خطورة تعرض الكون كله للاختلال والفساد، وتكثر من البغي في الأرض، والشرك بالله، والإعراض عنه، والاعتماد على غيره. فالأسباب نؤمن بها ولا نتوكل عليها، بل نباشرها ونتوكل على الله وحده. وما من أمة عبدت الأسباب، إلا انتشر فيها الظلم، وعم فيها الإرهاب والفوضى، وضاع فيها الحق، وقام فيها سوق الباطل، واستعبد فيها الإنسان، وضل عن ربه، وحل بها البلاء والعقوبة، كما حكى الله أحوال أهل الأسباب في سورة الأعراف وهود والشعراء.

إن ظهور القدرة الإلهية، بجانب الأسباب تنبيه للناس ليعلموا أن الله هو الذي أعطى الأسباب، ويستطيع كما أعطاها أن يمنعها، فهو الذي بيده كل شيء. فمن ترك المسبب وعبد السبب فقد ضل. فمن كان يملك الجاه والسلطان ثم أصبح طريداً لا يجد من يصافحه. ومن ينتقل من الحكم إلى السجن، ومن يخرج من السجن إلى الحكم، ومن كان يملك الثروة والأموال ثم أصبح فقيراً تجمع له الصدقات. كل ذلك وغيره يحدث أمامنا ليذكرنا بقدرة الله وحكمته ومشيئته، وأنه هو الذي يعطي الملك والجاه والسلطان، وهو الذي يسلبها إذا شاء. فإذا عبد الناس هذه الأسباب، وانطلقوا يسجدون لها أزالها الله، ولكن لماذا؟. لكي يفيق الناس ويعلموا أن الله هو الذي أعطى الأسباب، وأن هذه الأسباب ليست ذاتية للحاكم أو الغني. ولو كانت ذاتية لما زالت عنه، بل جميع المخلوقات والأسباب ملك لله وحده: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. وجميع الأسباب التي خلقها الله في قبضة الله، فهي لا تعمل بذاتها، ولا تعطي بذاتها، وإنما تعمل وتعطي بإرادة الله، الذي هو على كل شيء قدير، والذي ترى قدرته في ضعيف ينصره الله على قوي كما نصر الله موسى على الطاغية الجبار فرعون، ونرى قدرته في مظلوم ينصره الله على ظالم. وحين تضيق الأسباب وتعجز، يأتي فرج الله كما قال سبحانه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 26]. فإذا انتصر قوي على ضعيف فهنا ظهور قدرة الله بالأسباب، وإذا انتصر ضعيف على قوي فهنا ظهور قدرة الله بضد الأسباب، وتارة تظهر قدرة الله بدون

الأسباب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. والمؤمن إذا عزت عليه الأسباب توجه إلى ربه فسأله، لأنه يعلم أنه إذا كانت الأسباب لا تعطيه، فإن الله الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء قادر أن يعطيه بدون الأسباب، وينجيه كما أنجى يونس في الظلمات حين ناداه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. وكما طلب زكريا الولد مع كبر سنه وسن زوجته فاستجاب الله له كما قال سبحانه: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 7 - 9]. ولكل مؤمن حظ من الاستفادة من قدرة الله فإن الله لا يعجزه شيء، والمؤمن لا ييأس كما أمره الله بقوله: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 87]. فحين تضيق الأسباب بالناس، وتغلق الدنيا أبوابها أمامهم، الكافر وغير المؤمن بالله يصيبه يأس قاتل ينتهي به إما إلى الجنون أو الانتحار. أما المؤمن بقضاء الله وقدره فيظل ثابتاً لا تزعزعه الأحداث، ويتوجه إلى ربه وهو مؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله سيجعل له بعد العسر يسراً، ويجعل له بعد الكرب فرجاً ومخرجاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3]. اللهم علمنا ما ينفعنا .. وانفعنا بما علمتنا .. إنك أنت العليم الحكيم.

4 - فقه خلق الخير والشر

4 - فقه خلق الخير والشر قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. الله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره حلوه ومره، وخيره وشره. وعلى العبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره: إن أصابته نعمة علم أنها من الله فشكره عليها، وإن أصابته مصيبة صبر عليها ليثاب عليها. وعليه إذا أذنب أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا يحتج بالقدر. بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته. إذ لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وخلقه، فهو خالق كل شيء، لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وظلم نفسه، وفعل الفاحشة، كما أنه هو الذي صلى وصام، وحج وجاهد. فهو الموصوف بهذه الأفعال، وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب لها، له ما كسب، وعليه ما اكتسب. والله خالق كل ذلك بقدرته ومشيئته، والعبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وعلى هذا، وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله. فلله مشيئة، وللعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].

والذنوب للأرواح كالسموم للأبدان، والذنوب مثل أكل السم، فالإنسان إذا أكل السم مرض او مات، فهو الذي يمرض ويتألم، ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله. وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم، فإن شرب الدواء النافع عافاه الله. فالذنوب كأكل السم، والدواء النافع كالتوبة النافعة. والمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب. والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقياً في الدنيا والآخرة. وأساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فيتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فيشكر الله عليها، ويتضرع إليه ألا يقطعها عنه، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فيبتهل إلى الله أن يحول بينه وبينها، ولا يكله في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه. فكل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصله من خذلانه لعبده .. والتوفيق بيد الله ومفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجوء إلى الله. فمن أعطاه الله هذا المفتاح فتح له، ومن أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجاً عليه. وجماع الخير الذكر والطاعات .. وجماع الشر الغفلة والشهوات. فالغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر والطاعات، والشهوات تفتح باب الشر والسهو والخوف. فيبقى القلب مغموراً فيما يهواه، غافلاً عن ربه، ساهياً عن ذكره، قد انفرط أمره، وران حب الدنيا على قلبه. والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان. والخير: ما يلائم العبد من الطاعات والأحوال الطيبة، من غنى وصحة

ونحوهما. والشر: ما لا يلائم العبد من المعاصي والأحوال المكروهة، من فقر ومرض ونحوهما. والخير ينسب إلى الله، والشر لا ينسب إليه سبحانه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم (¬1). فالشر لا ينسب إلى الله لا فعلاً ولا تقديراً، ولا حكماً ولا إرادة، بل الشر في مفعولاته سبحانه لا في فعله. ففعله كله خير، فالابن حين يشتكي المرض ويحتاج إلى كي، فإن أباه يكويه بالنار، فالمفعول الذي هو الكي شر، لكن الفعل خير، لأنه يعقبه الشفاء بإذن الله. ثم إن ما يقدره لا يكون شراً محضاً، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنسبة إليه، أما لغيره ممن يتعظ به فيكون خيراً. وقطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه بالتأمل خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره. أما بالنسبة له، فإن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضاً خير بالنسبة لغير السارق، لأن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضاً حفظ الأموال. والحق والخير ينتشران بالتعاون .. والشر والباطل ينتشران بالتعصب، لذلك أعمال الدين تقوم على الشورى، فكل محتاج إلى الآخر في إقامة الدين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» متفق عليه (¬2). والله تبارك وتعالى أصلح الأرض بما خلق فيها، وما خلق على ظهرها، من ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (771). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2446)، ومسلم برقم (2585).

الأشياء والأسباب التي تلائم الإنسان. وأصلحها ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله وتوحيده والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له. إن فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك بالله، ومخالفة أمره كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. وقد نهانا الله عزَّ وجلَّ عن الفساد في الأرض بقوله سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)} [الأعراف: 85]. ولا صلاح للأرض وأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، ورسوله هو المتبوع، وشرعه هو الذي يحكم حياة الناس. ومن تأمل أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله. وكل شر في العالم من فتنة وبلاء، وقحط وتسليط عدو فسببه الكفر بالله ومخالفة أمر الله ورسوله، والدعوة إلى ما يغضب الله ويسخطه. والشر الواقع في العالم قسمان: أحدهما: شرور هي أفعال العباد وما تولد منها. الثاني: الشرور التي لا تتعلق بأفعال العباد كالسموم والأمراض، وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده، وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان. والله سبحانه له في كل ما خلقه وأمر به وشرعه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، لأجلها خلق وأمر، ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها، كما يحمد ويثنى عليه لأسمائه الحسنى، وصفاته العلا. فهو سبحانه المحمود على ذلك كله أتم حمد وأكمله، لما اشتملت عليه

أسماؤه من الحسن، وصفاته من الكمال، وأفعاله من الحكم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمه، الموافقة لمحابه. فإنه سبحانه كامل الذات والأسماء والصفات، فلا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة، موجب للحمد، يترتب عليه من محابه ما فعل لأجله. والله سبحانه فعال لما يريد، وله المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وجميع الأسباب والأشياء التي نصبها الله هي مظهر حكمته وحمده، وجماله وجلاله، وهي مقتضية لمسبباتها. ولكنه سبحانه فقد يخرق العادة، ويعطلها أحياناً، إذا كان فيه مصلحة راجحة لإظهار قدرته، ونصر أوليائه، وقهر أعدائه، كما عطل سبحانه النار عن الإحراق نصرة لرسوله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. لما في ذلك من المصالح العظيمة، وإلا فطبيعة النار التي خلقها الله عليها الحرارة والإحراق. وكذلك تعطيل الماء من إغراق موسى وقومه، وعما خلق عليه من الإسالة، لما فيه من الآيات الباهرة، والمصالح العظيمة، والحكمة التامة. فهكذا سائر أفعاله سبحانه. وقد أشهد الله عباده أنه مسبب الأسباب، وأن الأسباب خلقه، وأنه يملك تعطيلها عن آثارها، وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو سبحانه الذي جعلها كذلك، وأنه إذا شاء أن يسلبها آثارها سلبها، لأنه على كل شيء قدير، ويفعل في ملكه وخلقه ما يشاء. وإذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن، فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عوض عنها أجل عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى ربه بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن

كان نائياً عنه، وانطراحه ببابه بعد أن كان عاكفاً على أبواب غيره، كما قال سبحانه عن أعدائه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21] .. فالبلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه، إلا أن فيها شفاءه وفلاحه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. فأفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة والتعب هي خير بلا شك. وأفعال الشر التي تحبها النفوس لما تتوهمه فيه من الراحة واللذة فهي شر بلا شك. فالجهاد مثلاً مكروه للنفس، لما فيه من التعب والتعرض للتلف، ومع هذا فهو خير محض، لما فيه من الثواب العظيم، والنجاة من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء، والظفر بالغنائم، وغير ذلك من المصالح التي تفوق ما فيه من الكراهة. والقعود عن الجهاد لطلب الراحة شر، لأنه يعقب الخذلان وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم، وحصول العقاب الأليم. وإن لم يرد ذلك البلاء العبد إلى ربه، بل شرد قلبه عنه، ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه، والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته، وإرادة الشر به: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44. 43]. فهذا إذا أقلع عنه البلاء، رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه،

فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر، والإعراض عن شكر المنعم عليه، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء. فبلية هذا وبال عليه وعقوبة له، ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له، وترقية له، ورحمة له. والشر لا يدخل في شيء من صفات الله ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه. وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شراً بالنسبة إليهم. وهنا أمران: أحدهما: ما هو شر أو يتضمن الشر، فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، لا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله. الثاني: أن كونه شراً أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه. فالسارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة لعموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم. وهو خير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً ومباشرة. لما في ذلك من الإحسان إ لى عبيده، بإتلاف هذا العضو الفاسد المؤذي المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به وتنفيذه. وكل ما خلقه من خير وشر له فيه حكمة، والضرر الذي يحصل بالشر لله فيه حكمة مطلوبة ليس شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به، لكنه مغمور بالنسبة لما حصل به من النفع، ولذلك لا يضاف الشر وحده إلى الله عزَّ وجلَّ. بل الشر له ثلاثة أحوال: أحدها: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، ومن هذا أسماء الله المقترنة

كالمعطي والمانع، والمعز والمذل، والنافع والضار، ونحو ذلك، وليس في أسماء الله اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر في مفعولاته المنفصلة. الثاني: أن يضاف الشر إلى الفاعل كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. الثالث: أن يحذف الفاعل كما قال سبحانه: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10]. إن في عقوبة من يصول على أموال الناس بالقطع خير محض. وفي عقوبة من يصول على دين الناس ويحول بينهم وبين الهدى بالقتل خير محض. وفي دفع هذا الصائل بالقطع .. ودفع ذلك بالقتل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة للصائل الباغي. فسبحان الحكيم العليم الذي يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته، وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب. ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، وقد قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36]. وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]. وقد فطر الله عقول العباد على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، أو وضع الرحمة والإحسان في موضع العقوبة والانتقام. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها .. وحكمته التي لا يخلو شيء في الكون منها. فما للعقول والفطر لا تشهد حكمة الله البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة؟.

فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يعصون أمره، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، يوالون أعداءه وأبغض خلقه إليه، ويظاهرونهم على الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]. والشر يطلق على شيئين: على الألم .. وعلى ما يفضي إليه .. وليس له مسمى سوى ذلك. فالشرور هي الآلام وأسبابها، فالكفر والشرك، والمعاصي والظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور لأنها أسباب الآلام. وترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار ونحو ذلك، ما لم يمنع السبب مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها، فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى الأضعف. فالأسباب والمعاصي التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام شهي لكنه مسموم، فهذه المعاصي والذنوب تأتي بالبلاء، وتزيل النعم. وأحوال الأمم الذين أزال الله عنهم نعمه، فإنما سبب ذلك هو مخالفة أمره، ومعصية رسله، فهذه الأسباب شرور ولا بد. وأما كون مسبباتها شروراً فلأنها آلام نفسية وبدنية، فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم. ولو عرف العاقل ذلك لحذر منه أشد الحذر وهرب منه، ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. وإنما يظهر له هذا حق الظهور عند مفارقة هذا العالم والوصول إلى عالم البقاء

فحينئذ يقول: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} [الزمر: 56]. ويقول: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24]. ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعها مدارها على هذين الأصلين، فكل ما استعاذ منه، أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه. فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع، وأمر بالاستعاذة منهن وهن: عذاب القبر، وعذاب النار، وهذان أعظم المؤلمات، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، وهذان سبب العذاب المؤلم، فالفتنة سبب العذاب. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (¬1). فالسخط سبب الألم، والعقوبة هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام، وأقوى أسبابها. اللهم إنا نسالك من الخير كله عاجله وآجله، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (486).

5 - فقه النعم والمصائب

5 - فقه النعم والمصائب قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53، 54]. وقال الله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. الله تبارك وتعالى أنعم على خلقه بنعم لا تعد ولا تحصى، فهو المنعم بجميع النعم المادية والروحية: نعم على البدن .. ونعم على الروح .. ونعم ظاهرة .. ونعم باطنة .. نعم داخل الإنسان .. ونعم خارج الإنسان .. ونعم في حصول محبوب .. ونعم في دفع مكروه .. ونعم في الدنيا .. ونعم في الآخرة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [لنحل: 18]. ولله سبحانه في كل ذرة في الكون نعمة .. وله فيها حكمة .. وله فيها أمر بالإيجاد .. وأمر بالبقاء .. وأمر بالنفع والضر. وأجل النعم وأعلاها وأشرفها وأكملها نعمة الإسلام، وهي فضل من الله، فهو المانُّ بها ابتداء بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه. وكل ما وصل إلى العبد من خير فهو لله، وبالله، ومن الله. والعاقل كلما رأى هذه النعم أحدث له ذلك ذلاً وانكساراً، وكلما جدد له نعمة ازداد له ذلاً وانكساراً، وخشوعاً وخضوعاً، وخوفاً ورجاءً، ومحبة. وإنما يحصل هذا للعبد بأمرين: الأول: علمه بربه وكماله، وبره وغناه، وجوده وإحسانه، وفضله ورحمته، وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه يؤتي منه من يشاء، ويمنع منه من يشاء، وله الحمد على هذا وهذا أكمل حمد وأتمه. الثاني: علمه بنفسه، ووقوفه على حدها وقدرها، ونقصها وضعفها، وظلمها

وجهلها، وتقصيرها وتفريطها، وأنها ليست بشيء، ولا بيدها شيء، ولا تقدر على شيء. فإذا صار هذان العلمان صبغة لها علمت حينئذ أن الأمر كله لله، وأن الحمد كله لله، والخير كله بيد الله، وأنه سبحانه المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب، والفقر والذل واللوم. ومن أعجب الأشياء: أن تعرف ربك ثم لا تحبه .. وأن تسمع داعيه ثم لا تجيبه .. وأن تعرف قدر نعمه ثم لا تشكره .. وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره .. وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له بمعصيته .. وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته. وأعجب من هذا: علمك بأنك راجع إليه، حامل أوزارك بين يديك، ومعروضة أعمالك عليه .. فسبحان الله كم لعب الشيطان بعقول الناس وأفسد حياتهم؟. ونعم الله على العباد ثلاث: نعم حاصلة يعلم بها العبد .. ونعم حاصلة هو فيها لا يشعر بها .. ونعم منتظرة يرجوها. فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة، وأعانه على شكرها حتى لا تشرد، فإنها تقيد بالشكر، وتشرد بالمعصية. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره لاجتناب الطرق التي تسدها وتمنع وصولها. وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها ليشكر ربه عليها. والله عزَّ وجلَّ أعطى من شاء من خلقه من النعم، كالملك أو المال أو الجاه، أو الأشياء، أو القوة، لينظر من يستخدمها كما أمر الله، ومن يضحي بها من أجل الدين، ومن يستعملها في طاعة الله، وفي إعلاء كلمة الله، ومن يشكره ويحمده

عليها، ويستعين بها على طاعة الله. وليعلم من يستعملها في معصية الله، ومن يترك الدين من أجلها، ومن يشتغل بها عن المنعم بها. وهكذا الأولاد والزوجات، والصحة والأمن، وسائر النعم كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15]. فإن تعارضت هذه النعم مع ما يحب الله، تركها من أجل الدين، ولا يترك الدين وأعمال الدين من أجلها. ونعم الله لا تعد ولا تحصى، لأن الإحصاء إنما يكون لشيء محدود، ونعم الله لا حد لها، وخزائنه مملوءة بكل شيء كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وظلم الإنسان له صورتان: إما بأخذ حق الغير .. أو الحكم للغير بحق ليس له. وكفر الإنسان للنعم له صورتان: إما بسترها وعدم البحث عنها في خبايا الأرض، وذلك هو الكسل. أو نسبتها لغير المنعم بها، أو الاستهانة بها وعدم شكرها، أو صرفها فيما لا يجوز في محرمات أو إسراف أو تبذير. وإما أن يستنبطها ويتملكها ويحجزها عن الغير، فذلك هو الظلم. والنعم على ثلاثة أقسام: الأولى: نعم تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق. الثانية: نعم وصلت إلينا من غيره، وهي في الحقيقة منه، لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الإنعام بالنعمة في قلب ذلك المنعم. الثالثة: نعم وصلت إلينا من الله بسبب طاعاتنا وهي من الله، لأنه هو الذي وفقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأزاح العلل عنا، فله الحمد والشكر،

وهو للحمد أهل. قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. وكل إنسان سوف يحاسب على النعم التي أنعم الله بها عليه، ويسأل عن شكرها .. وعن استعمالها فيما خلقت له .. وعن صرفها فيما يرضي الله .. وعن أداء حق الله فيها كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]. وقد أنعم الله على عباده بنوعين من الرزق: أحدهما: رزق الأبدان من الطعام والشراب وسائر الأموال. الثاني: رزق القلوب من الإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة. وفاوت سبحانه بين عباده في قسمة هذين الرزقين بحسب علمه وحكمته، ومعرفته بأحوال عباده، ومن يصلح لهذا، ومن يصلح لهذا، ومن يصلح لهم معاً. فمنهم من وفر حظه من الرزقين، ووسع عليه فيهما. ومنهم من قتر عليه في الرزقين. ومنهم من وسع عليه رزق القلب، وقتر عليه رزق البدن. ومنهم من وسع عليه رزق البدن، وقتر عليه رزق القلب. وهذا الرزق بنوعيه إنما يتم ويبقى ويزيد بالشكر، وترك الشكر سبب زواله وانقطاعه عن العبد. والنعم كلها من الله وحده: نعم الطاعات .. ونعم اللذات .. فعلى العبد أن يرغب إلى الله أن يلهمه ذكرها، ويوزعه شكرها كما قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)} [الأحقاف: 15].

وكما أن النعم منه سبحانه ومن مجرد فضله، فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه وعونه، والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده. وقد أنعم الله عزَّ وجلَّ على كل عبد بنعم لا تعد ولا تحصى، وهي نوعان: نعم خاصة .. ونعم عامة. فالخاصة: ما أنعم الله به على المسلم من الإيمان في القلب، والطاعة في الجوارح، وحسن الخلق. أما العامة: فهي قسمان: متصلة: كالسمع والبصر، والعقل واللسان، وسائر الجوارح والمنافع. ومنفصلة: وهي الأموال والأشياء. فالأولى: خاصة بالمسلمين .. والثانية عامة للمسلمين وغيرهم. وأرزاق الدنيا تكفل الله بها لجميع خلقه كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وأرزاق الآخرة لا بد لها من العمل كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} [الطلاق: 11]. والرزق يطلب الإنسان في الدنيا عمل أو لم يعمل كما يطلبه أجله مهما هرب، وسيأخذ رزقه المقدر له، فإن كان يقينه على الله أخذه بعزة، وإن كان يقينه على المخلوق أخذه بذلة. فسبحان من قدر الأرزاق والآجال، والأحوال والأنفاس. والله تبارك وتعالى هو الرزاق وحده، ينعم على المؤمن والكافر، وعلى المطيع والعاصي، وعلى كل ما في الكون، لأنه وحده خالق الأرزاق ورازقها. فالنعمة للمؤمنين تكون برضى الله تعالى، والنعمة للعصاة والكفار تكون من غضب الله تعالى.

وكذلك المصائب تكون على المؤمنين والمطيعين برضا الله تعالى ابتلاءً وامتحاناً، وتكفيراً للسيئات، ورفعة في الدرجات. والمصائب على الكفار تكون من غضب الله تعالى وبعدها الهلاك، وهي لازمة لهم، لا تنفك عنهم حتى يأتي وعد الله كما قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. والنعمة لأهل الإيمان والطاعات كالطعام الذي يوضع في قفص البلابل. والنعمة لأهل الكفر والمعاصي كالطعام في قفص الفئران، ليست بسبب الرضا، بل للبطش والهلاك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. فالنعمة الأولى تقدم بالفرح والسرور، ثواباً وإكراماً لأهل الإيمان والطاعة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. والنعمة الثانية تقدم بالغضب والبطش كما قال سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. والمصيبة على الكفار والعصاة كالسكين بيد الغضبان، والمصيبة على أهل الإيمان والطاعات كالسكين للعملية الجراحية. فالسكين بالغضب يكون بها الموت، والسكين بالرضا يكون بعدها الشفاء. ومثال سكين الغضب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. ومثال سكين الرضا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ

رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. ونعم الله على عباده على ثلاث درجات: الأولى: نعمة الإيجاد: فالله وحده هو الذي أوجد المخلوقات كلها. الثانية: نعمة الإمداد: فبعد إيجادهم أمدهم الله بأرزاقهم فرداً فرداً، وجيلاً بعد جيل. الثالثة: نعمة الهداية للإسلام، وهذه خاصة بالإنس والجن. فأرسل الله إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ليسعدوا في الدنيا والآخرة. فمن قبل النعمة نجا وسعد في الدنيا والآخرة. ومن ردها هلك وشقي في الدنيا والآخرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38، 39]. والمنَّة تكدر النعمة، وهذه منّة المخلوق على المخلوق، وإنما قبحت منّة المخلوق، لأنها منّة بما ليس منه، وهي منّة يتأذى بها الممنون عليه، وهي مذمومة مبطلة للثواب كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. أما منَّة الخالق على المخلوق فبها تمام النعمة ولذتها وطيبها كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وهل المنَّة كل المنَّة إلا لله المانّ بفضله، والذي جميع الخلائق من مننه وفي مننه، وما طاب العيش إلا بمنَّته سبحانه.

وكل نعمة في الدنيا والآخرة فهي منَّة يمنّ بها الله على من أنعم عليه، ودخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك محض منَّته على أهل طاعته. فهو سبحانه المانّ بإرسال رسله .. وإنزال كتبه .. والتوفيق لطاعته .. والإعانة عليها .. والمانّ بالجزاء عليها .. فلا يدخل أحد الجنة بعمله .. وإنما برحمة الله وفضله .. ولكن الأعمال سبب .. وهو المانّ سبحانه برفعة الدرجات .. ومضاعفة الحسنات .. وتكفير السيئات .. وهو المانّ بكل نعمة .. وبكل رحمة .. وبكل إحسان .. وبكل هداية .. ولا منَّة لأحد على الله .. بل لله المنَّة على خلقه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. وإنعام الله على عباده يتضمن: إنعامه بكل ما يحتاجونه في حياتهم من طعام وشراب ومال ونحو ذلك. وإنعامه بالهداية التي هي الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح. وإنعامه بحسن الثواب والجزاء يوم القيامة، فهذا تمام النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة .. ونعمة مقيدة. فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد وهي الإسلام، وهي خاصة بالمؤمنين، وهي معروضة على سائر البشر، وحق لهم جميعاً. فمنهم من قبلها وهم المؤمنون فأورثهم سعادة الأبد. ومنهم من ردها وبدلها فأورثهم ذلك شقاوة الأبد، وهؤلاء بمنزلة من أعطي مالاً ليعيش به فرماه في البحر، فأعقبه فعله الندامة والخسران والهلاك. فما أعجب حال هؤلاء، وما أشد عقوبتهم إذا قدموا على ربهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ

الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)} [إبراهيم: 28 - 30]. ونعمة الإسلام هي النعمة الكبرى التي يفرح بها المؤمنون كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. أما النعمة الثانية: فهي النعمة المقيدة، وهذه النعمة مشتركة بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بأشكالها وأنواعها كنعمة الصحة والغنى، والأمن والرخاء، ونعمة الولد والزوجة الحسناء، ونحو ذلك. وأفضل النعمتين نعمة الإيمان. وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة. وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها. وهاتان النعمتان تحتاجان مع الشكر إلى الصبر. أما نعمة الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر. وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها ومعها، فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. والعبد مأجور في كلتا الحالتين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). ومحبة النعم .. ومحبة المنعم .. بينهما كما بين المشرق والمغرب. فالمؤمن عند النعم يذكر المنعم، ويتوجه إليه بالعبودية بالذكر والحمد والشكر. والكافر يشتغل بالنعم عن المنعم، لأنه يعرف قدر النعم، ولا يعرف قدر المنعم. ولو أن ملكاً عظيماً أهدى لأحد جوهرة نفيسة مثلاً، فإنه سيكون لها نوعان من ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2999).

المحبة، وسيتلذذ بها بشكلين من اللذة: الأولى: المحبة التي تعود إلى أصل الجوهرة من حيث جمالها وحجمها وقيمتها، والتلذذ بحسنها، وهي لذة جزئية إلى زوال. الثانية: محبة للتكرمة السلطانية التي ظهرت بالجوهرة، فهي ثناء مجسم من السلطان. وهكذا الإنسان إذا وجه محبته إلى النعم والأموال بالذات، فتلك محبة نفسانية زائلة مؤلمة، أما إذا كانت المحبة متوجهة إلى جهة التكرمة الربانية له، فهي شكر معنوي، ولذة تورث أكمل سعادة. وإذا أنعم الله على إنسان بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها الله عليه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه فـ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وكل من زالت عنهم النعم من الأمم الماضية إنما هو بسبب مخالفة أمر الله ومعصية رسله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53]. فما حفظت نعمة الله بشيء مثل طاعته .. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره .. ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه .. فالمعاصي نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. والله عزَّ وجلَّ هو الرزاق الذي يرزق المخلوقات جميعاً، وما من مؤمن ولا فاجر إلا وقد كتب الله تعالى له رزقه من الحلال، فإن صبر حتى يأتيه، وطلبه بوجوه الحلال آتاه إياه حلالاً. وإن جزع فتناول شيئاً من الحرام، نقصه الله من رزقه الحلال. والله على كل شيء قدير وهو العليم الحكيم .. قسم جميع أرزاق الخلائق .. وجميع الدواب .. وجميع ما في البر والبحر من الحيوانات والدواب .. والحشرات والطيور .. والإنس والجن .. وغيرهم مما لا يعلمه إلا الله.

قسم سبحانه رزق كل مخلوق: من حيث الكمية والنوعية .. ومن حيث الزمان والمكان. فقدر سبحانه رزق كل مخلوق فلا يزيد .. وقدر نوع الأرزاق فلا تتغير .. وقدر وقت الأرزاق فلا تتقدم ولا تتأخر .. وقدر مكان الأرزاق فلا تتغير، فمن قطع له رزقه في بلد لم يأخذه إلا من ذلك البلد. والرزق يطلب الإنسان كما يطلبه أجله، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأثرها وعملها. ولا بد لكل مخلوق من الرزق، وقد تكفل الله بأرزاق الخلق كلهم، وكل ما يتناول الإنسان من الحلال والحرام دال في هذا الرزق. فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة، ويرزقون رزقاً حسناً، وقد لا يرزقون إلا بتكلف. والمؤمنون يرزقهم الله بالأسباب المشروعة، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3]. ولا يكون رزقهم بالأسباب المحرمة، ولا يكون خبيثاً، والله يرزق المؤمن ما يحتاج إليه، ويحميه من فضول الدنيا، رحمة به وإحساناً إليه، وصيانة له. والغنى والفقر ليس دليلاً على إكرام الله للعبيد .. فقد يوسع الله الرزق على العبد إملاًْ واستدراجاً .. وقد يقدر عليه رزقه حماية له وصيانة .. وقد يضيق الله على بعض المؤمنين لما لهم من الذنوب .. فيحرم الرزق بالذنب الذي يصيبه .. فالطاعات سبب للرزق والراحة .. والمعاصي سبب للحرمان والمصائب. والإنسان ماكينة الأعمال، كالشجرة ماكينة الثمار، خلقه الله متفكراً عاملاً. فإن اجتهد على الأموال والأشياء والمشاهدات تخدر قلبه عن الغيبيات، وثقلت عليه الطاعات، فارتكب المحرمات، وترك الطاعات، واشتغل بما قسم الله له، عن ما وعده الله به، وهو الجنة فلم يعمل لها.

وإن اجتهد على الإيمان والأعمال الصالحة تخدر قلبه عن المشاهدات، وأقبل على ربه، فاشتغل بالطاعات، واجتنب المحرمات، واشتغل بما وعده الله به، عن ما قسم له، من الرزق. وفي هذه الحياة الدنيا متاع جذاب براق، وهناك أولاد وأرزاق، وشهوات ولذائذ، وجاه وسلطان. وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفاً منه، وهبة خالصة لم يعلقها بطاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، وإن كان يبارك للطائع ولو في القليل، ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير. ولكن هذا كله ليس له قيمة ثابتة باقية، إنما هو متاع زائل، محدود الأجل. ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 56]. إنما هو متاع، وما عند الله خير وأبقى، خير في ذاته، وأبقى في مدته، ومتاع الحياة الدنيا زهيد معدود الأيام، وهو بالنسبة لنعيم يوم القيامة ومضة عين أو تكاد: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. والرزق نوعان: أحدهما: ما علم الله وقدر أنه يرزقه لعبده، فهذا لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص. الثاني: ما كتبه الله وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب التي قدرها الله. فإذا كان الله قد قدر أنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب. وما قدره له من الرزق بغير اكتساب ولا سعي كالميراث والهبات والصدقات والوصايا يأتيه بغير اكتساب ولا سعي. والرزق يراد به شيئان:

أحدهما: ما ينتفع به العبد. الثاني: ما يملكه العبد من الحلال. فالأول: هو المذكور بقوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. والثاني: هو المذكور في قوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} [المنافقون: 10]. والعبد قد يأكل الحلال والحرام، فهو رزق بهذا الاعتبار، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه ولم ينتفع به، هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول. ومن سرق أو أكل الحرام، فليس هذا من الرزق الذي أباحه الله له، ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره. فكما أن الله كتب ما يعمله العبد من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر. فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام، فكل شيء واقع بمشيئة الله وقدره. والرزق الذي ضمنه الله لعباده هو لمن يتقيه، بأن يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. ومن ليس من المتقين ضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا على تفاوت بين هؤلاء، ثم يعاقبه في الآخرة. والله عزَّ وجلَّ أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، ولذلك كانت أموال الكفار غير مغصوبة، بل مباحة للمؤمنين، وتسمى فيئاً إذا عادت إلى المؤمنين، لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله بها لا من يعصيه كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لربه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة: 126]. ولما كان مقصود ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق للوصول إلى ذلك إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة، ومن هنا كان الأكل من الدين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]. فيأكل المرء مقتصداً بسنة، ولا يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المراعي. لقد أكرم الله الإنسان من بين سائر المخلوقات، وشرف المسلم وأكرمه بالدين على سائر البشر، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى، وأباح له جميع الطيبات، وحرم عليه الخبائث، وخلقه، وهداه، واشتراه، وأكرمه بمنهج يسير عليه، وهداه الطريق الموصل إليه، وله بعد موته الجنة والرضا من ربه، فله الحمد والمنَّة على نعمه الظاهرة والباطنة، وعلى إحسانه في الدنيا والآخرة: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وكل ما عند أهل السماء من النعم .. وكل ما عند أهل الأرض من النعم .. وكل ما في الجنات من النعم .. كل ذلك بالنسبة لما في خزائن الله من النعم كقطرة من بحر .. أو ذرة من جبل. قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ

ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحانك ما أعظمك، وسبحانك ما أكرمك، وسبحانك ما أرحمك، تفعل ما تشاء، وأنت على كل شيء قدير. وتبارك اسمك الذي بثثت فيه أرزاق العباد فوجدت .. ووضعته على الأرض فاستقرت .. وعلى السموات فاستقلت .. وعلى الجبال فرست .. وعلى الرياح فتحركت .. وعلى النهار فاستنار .. وعلى الليل فأظلم .. وعلى الشمس فأشرقت .. وعلى الأرض فأنبتت .. وعلى اللسان فتكلم .. وعلى العين فأبصرت .. وعلى الأذن فسمعت .. وعلى المريض فشفي .. وعلى الجاهل فعلم: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. سبحانك أنت الكريم الرحمن .. وأنت القوي العزيز .. وأنت الخلاق العليم. كم وحياً أوحيته إلى أنبيائك ورسلك رحمة بعبادك؟، وكم قضاء قضيته؟، وكم رزقاً أنزلته؟ .. وكم ضالاً هديته؟ .. وكم فقيراً أغنيته؟ .. وكم مريضاً شفيته؟ .. وكم سائلاً أعطيته؟ .. وكم ذنباً غفرته؟ .. وكم هماً فرجته؟ .. وكم كرباً نفسته؟ .. وكم عسيراً يسرته؟ .. وكم داعياً أجبته؟. فلك الحمد والشكر كثيراً، كما تنعم وترحم كثيراً. ولك الحمد والشكر حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد في الآخرة والأولى. خلقتنا .. ورزقتنا .. وهديتنا .. وعافيتنا .. ورحمتنا .. وأكرمتنا: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السموات وَالأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أحَقُّ مَا قال الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللَّهُمَّ! لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ» أخرجه مسلم (¬2). ألا ما أعظم نعم الله على عباده، وما أرأفه بهم، وما أشد عنايته بأمورهم، وما ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577). (¬2) أخرجه مسلم برقم (477).

ألطف تدبيره لما يصلحهم: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. لقد خلقك الله ورزقك وعافاك وهداك .. وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك .. وعصم مالك بقطع يد من سرقه .. وأباح لك الميتة عند الضرورة سداً لرمقك .. وزجرك عما يضرك بحد عاجل ووعيد آجل .. وأسقط شطر الصلاة في السفر عنك رحمة بك. وأنزل عليك الكتب .. وأرسل إليك الرسل .. وأطعمك وسقاك .. وألبسك وكساك .. وأسكنك الديار .. وأركبك المراكب .. ورزقك الأموال والأولاد .. وزودك بالسمع والبصر والعقل .. وأمرك بالعمل الصالح .. ووعدك على ذلك الجنة. أما يليق بهذا المنعم العظيم الذي هذه بعض نعمه أن توقره؟ .. وتعظم شعائره؟ .. وتطيع أوامره؟ .. وتجتنب زواجره؟ .. وتحذر من عدوه؟. أيحسن بك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك عنه مقبلاً؟، ولما أمرك تاركاً؟. وعن داعيه معرضاً، ولداعي عدوه مطيعاً؟. ما أفحش تلاعب الشيطان بالإنسان، بينما هو بحضرة الحق، والملائكة سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، إلى أن يوجد مع البهائم عاكفاً على الشهوات .. أو يوجد ساجداً لصورة في حجر .. أو لشجرة من الشجر .. أو لشمس أو قمر .. أو لحيوان أو بشر. لا يليق بهذ الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يُرى إلا عابداً لله في دار التكليف، ومجاوراً له في دار الجزاء والتشريف، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]. إن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء .. والخير والشر .. والرخاء والشدة .. فالرخاء ابتلاء من الله وفتنة .. والشدة كذلك ابتلاء من الله وفتنة. والصبر على الرخاء، أشق من الصبر على الشدة.

فكثير من الناس يصبرون على الشدة ويتماسكون لها. وأما الرخاء فينسي ويلهي، ويهيء الفرصة للغرور بالنعمة، والاستنامة للشيطان، والإعراض عن الرحمن. فنعمة المال كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر، وقلة الشكر، مع السرف أو البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة. ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى البطر، وقلة الشكر، مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله. ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه والغرور، والتردي في مدارك الإثم والغواية. ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين، وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله. وكل ما رزقه الله لعباده فهو مقيد محدود محسوب، لما يعلمه الله من أن هؤلاء البشر لا يطيقون في الأرض أن يفتح عليهم فيض الله غير المحدود، ولما يحدثه من البغي في الأرض كما قال سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشورى: 27]. أما فضل الله في الآخرة فهو مطلق بلا حساب ولا حدود، ولا قيود ولا جهود، يكرم الله به أهل طاعته كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} [غافر: 40]. وكل ذرة .. وكل حشرة .. وكل طائر .. وكل حيوان .. وكل إنسان .. وكل أمة في البر أو في البحر .. كل مخلوق من هؤلاء سيصل إليه رزقه .. فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً لا محالة. فإن سد الله عليك بحكمته طريقاً، فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه. وتأمل حال الجنين في بطن أمه يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو

السرة. فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح الله له طريقين اثنين لبناً خالصاً. فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطع الطريقان بالفطام، فتح له مولاه طرقاً أربعة أكمل منها، طعامان من النبات والحيوان، وشرابان من المياه والألبان. فإذا مات الإنسان، انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، وفتحت له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. وهكذا الله عزَّ وجلَّ الكريم المنان لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له، وليس ذلك إلا للمؤمن. والله حكيم عليم قسم الأرزاق بين عباده بالسوية، ونعم الله ظاهرة وباطنة، ومن الناس من لا يرى إلا النعم الظاهرة، ويغفل عن النعم الباطنة. وبعض الناس يرى أنه ينبغي أن يعطى فوق ما هو فيه، ويرى أنه مظلوم مع الرب، لا ينصفه ولا يعطيه مرتبته، وأن ينبغي أن ينال الثريا، ولكنه مظلوم مبخوس الحظ. وهذا الضرب من الخلق من أبغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عنده، لا يذكرون إلا ما ينبغي لهم، ولا يذكرون ما يجب عليهم لله وخلقه. وحكمة الله عزَّ وجلَّ تقتضي أن هؤلاء لا يزالون في سفال، فهم بين عتب على الخالق، وشكوى له، وذل لخلقه، وحاجة إليهم، وخدمة لهم. أشغل الناس قلوباً بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغسالة أيديهم. وأفرغ الناس قلوباً عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذذ بمناجاته والطمأنينة بذكره، والافتقار إليه، وبث الشكوى له. وليس لأحد حجة على الله، بل لله الحجة على الناس جميعاً فقد خلقنا وأعطانا المكان .. وأعطانا الزمان .. وأعطانا العقل .. وأعطانا السمع والبصر .. وأرسل

إلينا رسله .. وأنزل علينا كتبه .. ورزقنا من الطيبات .. وهدانا للإسلام .. وما جعل علينا في الدين من حرج .. ووعدنا بعد الموت الجنة في الآخرة. فهل فوق هذا من عطاء؟ .. وهل بعد هذا من إكرام؟ .. فماذا عملنا؟ .. وماذا قدمنا؟ .. وماذا أخرنا؟: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. ونعم الله سبحانه على عباده لا يحصيها أحد، والاستعانة بها على طاعته هو ما يقتضيه الشرع والعقل، فإن من أحسن إليك بشيء لا يجوز لك أن تقابله بالإساءة إليه، ومن فعل ذلك من الناس فهو في نظرهم وقح ناكر للجميل وجاحد له، فكيف إذا استعان بإحسانه على الإساءة إليه، فهو أشد وقاحةً وجحوداً للجميل. والنعم إنما خلقها الله عزَّ وجلَّ ليستعين بها أهل الإيمان على طاعة الرحمن، وأما أهل الكفر والفجور فإنها محرمة عليهم، لأنهم يستعينون بها على معصية الله، وهم محاسبون عليها يوم القيامة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32]. وفي كل جارحة من جوارح الإنسان نعمة .. وعلى كل جارحة شكر يخصها .. وعلى اللسان من ذلك ما على سائر الجوارح .. وشكر كل جارحة إنما هو باستعمالها بتقوى الله، بامتثال ما يخصها من الطاعات، واجتناب ما يخصها من العصيان. فشكر البدن ألا تستعمل جوارحه في غير طاعة الله. وشكر القلب ألا تشغله بغير ذكر الله ومعرفته. وشكر اللسان ألا تستعمله في غير الثناء على الله ومدحه، وذكره وسؤاله، وتلاوة كتابه، والدعوة إلى دينه، وتعليم أحكام شرعه، والإصلاح بين عباده.

وشكر المال ألا تنفقه في غير رضاه ومحبته وطاعته. وكلما كملت للعبد معرفة الله، ومعرفة آلائه ونعمه، ازداد شكر العبد وثناؤه على ربه، فقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفَلا أكُونُ عَبْداً شَكُوراً» متفق عليه (¬1). وكل ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فيه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق أن يحمد عليها لذاته، وجميع المخلوقات فيها إحسان وإنعام على عباده، تحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه. ونعمة السراء والضراء تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، لكن لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر ابتداء لأكثر الناس، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون. وذنوب الإنسان من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره لما يحصل بها من الاعتبار: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. والله تبارك وتعالى ذو فضل على العالمين: بين سبحانه بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر الله به .. وجميع ما نهى الله عنه .. وجميع ما أحله .. وجميع ما حرمه .. وجميع ما عفا عنه .. وجميع ما يحب .. وجميع ما يكره .. وجميع ما يرضيه .. وجميع ما يسخطه. وبهذا كان دينه كاملاً، ونعمته تامة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وسعادة الإنسان في الدنيا مبنية على ثلاثة أركان: الإيمان بالله .. والاتباع لرسول الله .. والعافية. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4836) واللفظ له، ومسلم برقم (2819).

وأوامر الله عزَّ وجلَّ كلها رحمة وإحسان، وشفاء ودواء، وغذاء للقلوب، وزينة للظاهر والباطن، وحياة للقلب والبدن. وكم في ضمنها من مسرة وفرحة، ولذة وبهجة. فما يسميه بعض الناس تكاليف إنما هو قرة للعيون .. وبهجة للنفوس .. وحياة للقلوب .. وإحسان تام إلى النوع الإنساني .. أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية، والطعام والشراب. فنعمته سبحانه على عباده بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، وتعريفهم بأمره ونهيه، وما يحبه وما يبغضه، أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها. بل لا نسية لرحمتهم بالشمس والقمر، والغيث والنبات، والطعام والشراب، إلى رحمتهم بالعلم والإيمان، والشرائع، ومعرفة الحلال والحرام. ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافدون تسافد الحيوانات بين الملأ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى رشد. فاللهم لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. والأمكنة والأزمنة التي خفيت فيها آثار النبوة أو ضعفت ساد فيها الجهل والظلم، والكفر والشرك، وعمت فيها المنكرات والقبائح والفواحش. فالإسلام غذاء للأصحاء، وشفاء للمرضى، وعافية للقلوب، وزينة للجوارح: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. والفرق بين النعمة والفتنة، أن على الإنسان أن يفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى به الاستدراج إلى العقوبة والعذاب.

فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه، وستره عليه مع معاصيه. فإذا كملت هذه الثلاثة فيه (النعمة، والثناء عليه، وقضاء حوائجه) عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه يجمعه على الله فهو نعمة حقيقة. وما فرقه عنه، وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة، فليحذر فإنما هو مستدرج كما قال سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182]. ويميز كذلك بين المنّة والحجة، فإن العبد بين منّة من الله عليه، وحجة منّه عليه، ولا ينفك عنهما. والحكم الديني متضمن لمنّته وحجته كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وكل علم صحبه عمل يرضي الله ورسوله فهو منّة، وإلا فهو حجة. وكل قوة ظاهرة أو باطنة صحبها تنفيذ لأوامره فهي منّة، وإلا فهي حجة سيسأل عنها. وكل مال، وكل حال، وكل طاقة صحبها تأثير في نصرة دين الله، والدعوة إليه فهو منّة عليه، وإلا فهو حجة سيسأل عنها. وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منّة عليه، وإلا فهو حجة سيسأل عنه. وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب، وذل له وانكسار، ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النصيحة للخلق، فهو منّة، وإلا فهو حجة من الله عليه، سيسأل عنه. وكل موعظة وتذكير بالرب، اتصل به عبرة ومزيد في العقل، ومعرفة الإيمان فهي منّة، وإلا فهي حجة من الله عليه، سيسأل عنها.

ونعم الله على عباده تفوت الحصر، وأعظمها نعمة الإسلام، وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في الدنيا قبل عقاب الآخرة، كما حصل لبني إسرائيل حين بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة والاستسلام لله، وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد .. ونقضوا العهد والميثاق. فماذا حصل لهم؟ .. وماذا حل بهم؟. لقد: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} [آل عمران: 112]. وأمم من المسلمين اليوم بدلوا نعمة الله، فحل بهم ما حل ببني إسرائيل، فهي تعاني العقاب الشديد، وتتمرغ في الشقوة والنكد، وتعاني القلق والحيرة، ويأكل بعضها بعضاً، ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، والكل يعيش في حيرة قاتلة لا طمأنينة فيها ولا سلام. وإن هو إلا عقاب الله لمن حاد عن منهجه ورد دعوته: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} [البقرة: 211]. ومن سافر بفكره أو ببصره في أحوال العالم الخاصة والعامة استغنى عن تعريف غيره له، وساءه انبطاح الأمة للشياطين والفجار. وجميع المجتمعات البشرية المحرومة من نعمة الإسلام، مجتمعات بائسة، ولو غرقت في الرغد المادي، خاوية ولو تراكم فيها الإنتاج، قلقة ولو توفرت لها الحريات والأمن والسلام. وهذه الأمم الكافرة تمضي في الأرض كالبهائم تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع، وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش، وتزاول الطغيان والجبروت، والبغي والبطش، وتنشر الفساد، ثم تمضي ملعونة من الله، ملعونة من الناس: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)} [آل عمران: 87].

وما أعظم نعم الله علينا، حيث اختار لنا أفضل الأديان، وأفضل الشرائع، وأفضل الكتب، وأفضل الرسل، وجعلنا خير الأمم، وأكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً. فهل فوق هذا من نعمة؟. وهل يستطيع أحد أن يكافئ هذه النعم؟. ومن يستطيع أن يعرف كل نعم الله؟ .. ثم من يستطيع أن يحصيها؟ .. ثم من يستطيع أن يقوم بشكرها؟. ولكن رحمة الله واسعة، طلب منا القليل وأعطى الكثير، وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم، وإدراك الواجب، ثم القيام بما يستطاع منه، ومعرفة الحرام ثم الحذر منه، وطلب المغفرة عن التجاوز أو التقصير: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. فما أنكد وما أحمق، وما أضل من يرفض ما رضيه الله له، ويختار لنفسه غير ما اختاره الله له. وإنها لجريمة كبرى لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها ناجياً أبداً، وقد رفض ما ارتضاه الله له. وقد يترك الله الذين لم يعرفوا الإسلام، أو لم يتخذوه ديناً لهم، يرتكبون ما يرتكبون، ويمهلهم إلى حين. فأما الذين عرفوا هذا الدين، ثم أهملوه أو تركوه أو رفضوه، واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه الله لهم. فهؤلاء لن يتركهم الله أبداً، ولن يمهلهم أبداً، حتى يذوقوا وبال أمرهم، وهم مستحقون: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء: 137]. والناس في الأرزاق التي قسمها الله لهم متفاوتون، وهم في وقت حصولهم على

أرزاقهم مختلفون: فمنهم من يجمع الله له رزقه في أول عمره، ومنهم في وسطه، ومنهم في آخره. وهم في الحصول عليه متباينون: فمنهم من يساق إليه عفواً بلا تعب .. ومنهم من يصل إليه بعد جهد وعناء. وهم في طريقة الحصول عليه مختلفون: فمنهم من يأخذه عن طريق الحلال حسب أمر ربه وهدى رسوله .. ومنهم من يأخذه عن طريق الحرام كالسرقة والربا والرشوة ونحوها. ومكان أرزاق العباد مختلف: فمنهم من يأخذه من تحت قدميه .. ومنهم من فرق الله رزقه في البلاد .. فهو يجمعه من الأمصار والبلدان، في البر والبحر. وهم كذلك مختلفون في صرف هذه الأرزاق: فمنهم من يصرفها فيما رضيه الله وأحبه وأمر به .. ومنهم من يبذرها فيما يغضب الله .. ومنهم من يستعين بها على طاعة الله .. ومنهم من يستعين بها على معصية الله. إن الإسلام أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، والأموال والأعراض في الإسلام خادمة للعبد لا مخدومة، والإنسان فوقها ينتفع بها، ولا يكون عبداً خاضعاً لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها، إنما هو يزنها بوزنها، ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة، طلقاء اليد. مطمحهم أعلى من هذه الأرض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض، الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف، والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم، لا سلطان لها عليهم. فالنعمة الكبرى، والرحمة الواسعة، هي ما جاء من عند الله من موعظة وهدى. فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته، فذلك كله تابع.

وإذا حصل للأمة استخدمته في إعلاء كلمة الله ونشر دينه. فالأرزاق ليست هي التي تحدد مكانة الناس في هذه الأرض، فضلاً عن مكانتهم في الآخرة، بل إنها يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية، لا في الآخرة المؤجلة بل في الدنيا المعجلة كما هو مشاهد اليوم. {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. والذين يركزون على جمع الأموال، ويغفلون قيمة الدين، هم حقاً أعداء البشرية، الذين لا يريدون لها أن ترتفع عن مستوى الحيوان، ولا على مطالب الحيوان. ويهدفون من وراء ذلك إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان، دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية من الطعام والشراب، واللباس والنكاح ونحوها. وهذا الصياح والصراخ المستمر بكل وسيلة وبكل مكان، وفي كل وقت بتضخيم الأموال والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم ودينهم، ومتطلبات إيمانهم من العمل الصالح، والدعوة والجهاد. وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء الدرهم والدينار، وتعدها قيمة الحياة الكبرى، وتنسى في عاصفة الصياح المستمر: الإنتاج .. الإنتاج .. الإنتاج. تنسى كل القيم الروحية والأخلاقية، وتهمل الشعائر التعبدية، وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي. هذا الصياح الذي عمّ وطمّ ليس بريئاً مراداً لذاته، إنما هو خطوة مدبرة محكمة لإقامة أصنام تعبد في الأرض، بدل أصنام الجاهلية الأولى، وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً. وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس من أجله، ويطوفون به صباحاً ومساء، فإن الدين والأخلاق والقيم تداس في سبيله.

وتنتهك الأعراض والأخلاق والأسر والحريات، وتداس كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج .. وهذا ما حصل .. ولا يزال يحصل. فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هذه البلوى، التي جعلت المال مكان الإيمان، والأشياء مكان الأعمال الصالحة؟. وخدعت الناس بعمارة الدنيا، وتخريب الآخرة؟. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33]. إن الأموال نعمة من الله كسائر النعم، ولكنها بدون الدين تجعل الإنسان عبداً لها، وتصبح لعنة يشقى بها الناس، لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية على حساب القيم الإيمانية العليا. إن اعتراف الإنسان بأن الله هو الخالق الرازق يتبعه قطعاً أن يكون الله هو الرب المعبود، وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله، ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله البشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض. فليس لأحد أن يحلل أو يحرم فذلك حق الله وحده. وهؤلاء الذين يحللون ويحرمون بما لم يأذن به الله، إنما يعتدون على حق الله وهو أمر التشريع، وهؤلاء ظالمون كافرون، كاذبون، ومن أطاعهم فهو مشرك مثلهم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]. فالمشروعون اعتدوا على حق الله في الربوبية، وأتباعهم اعتدوا على حق الله في العبودية، وهو تناقض قبيح .. يدمغ الطرفين بالكفر والشرك، وكلاهما مركب إلى النار: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60]. والله رؤوف بالعباد، وذو فضل على الناس برزقه المادي الذي أودعه في هذه

الأرض وفي هذا الكون من أجلهم، وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره، وأقدرهم على الاستكثار منه، ومكنهم من الانتفاع به. والله كذلك ذو فضل على الناس بدينه الذي أنزله هدى ورحمة للناس، ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60]. فإذا لم يشكروا الله على هذا الرزق، وذلك الرزق، فإنهم يشقون في الدنيا بالهم والتعب، ويشقون في الآخرة بنار الجحيم والسعير. إن شكر النعمة دليل على استقامة النفس البشرية، فالخير يُشكر، لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة. والنفس التي تشكر الله على نعمته تراقبه في التصرف بهذه النعمة بلا بطر وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والفساد. وهذا كله مما يزكي النفس ويدفعها للعمل الصالح والتصرف الصالح في النعمة بما ينميها، ويبارك فيها كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. والكفر بنعم الله له صور: فقد يكون بعدم شكرها .. أو بإنكار أن الله واهبها .. أو نسبتها إلى العلم والخبرة .. أو الكد الشخصي والسعي .. كأن هذ الطاقات ليست نعمة من نعم الله .. وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس .. وقد يكون باستغلالها للشهوات والفساد .. وكل ذلك كفر بنعمة الله. والعذاب الشديد الذي يصيب من كفر بالنعمة له صور: فقد يتضمن حق النعمة عيناً بذهابها .. أو سحق آثارها في الشعور .. فكم من نعمة شقي بها صاحبها وحسد الخالين .. وقد يكون عذاباً مؤجلاً إلى أجله في الدنيا .. أو مؤجلاً في الآخرة .. فهو وإن تأخر فهو واقع .. لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء.

والله غني عن العباد وعن طاعاتهم، وهم الفقراء إليه. وصلاح الحياة يتحقق بشكر الناس لربهم، ونفوس الناس تزكو بالاتجاه إلى الله، وتستقيم بشكر الخير، وتطمئن إلى الاتصال بالمنعم، فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها، ولا تذهب حسرات وراء ما ينفق أو يضيع منها، فالمنعم موجود، والنعمة بشكره تزكو وتزيد. وأعظم النعم نعمة الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، ولكن النفوس المريضة لا تقبل هذه النعمة ولا تحس بالحاجة إليها، بل قد تشعر أنها تضرها كم قال كفار مكة للرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57]. ألا ما أعجب حال هؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الإيمان، الذي هو النور الذي يهتدي به الإنسان إلى السعادة في الدنيا، ويصل به إلى الجنة في الآخرة. ثم هم يتركون هذا كله .. ويأخذون بدله كفراً .. أولئك هم السادة والقادة من الكبراء .. وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم وأنزلوهم بها، وبئس ما أحلوهم من مستقر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29]. إن عقيدة الإيمان والتوحيد هي النعمة الكبرى على البشرية كلها، وبها يصل إلى كل ذي حق حقه، وهي خطر على سلطان الطواغيت في كل زمان ومكان، يحذرونها ويحاربونها ويتقونها بكل وسيلة، لأنهم لا يسمحون بإعطاء كل ذي حق حقه. إن الله تبارك وتعالى غني كريم، فتح باب الكون على مصراعيه، تنطق سطوره الهائلة بآيات الله الكبرى، وبنعم الله التي لا تحصى، وتتوإلى صفحاته بألوان هذه النعم على مد البصر، معروضة ومبذولة كل آن: السموات والأرض .. والشمس والقمر .. والليل والنهار .. الماء النازل من

السماء .. الثمار النابتة من الأرض .. البحر الذي تجري فيه الفلك .. وتسبح فيه المخلوقات .. والأنهار تجري بالأرزاق .. والجبال خزائن المعادن والذهب والفضة .. والماء الذي ينبع من الأرض .. والبترول الذي يخرج من الأرض. أرأيت أعظم من هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، والتي تدل على عظمة خالقها وقدرته، وعلمه وحكمته، وكرمه ورحمته؟. ولكن البشر المنحرفين عن منهج الله لا ينظرون ولا يتدبرون ولا يشكرون. إن الإنسان لظلوم كفار يبدل نعمة الله كفراً، ويجعل لله أنداداً، وهو سبحانه الخالق الرازق المسخر هذا الكون كله للإنسان: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 22]. أفكل هذا مسخر للإنسان؟ .. أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ .. أفكل هذه النعم موضوعة بين يديه وتحت تصرفه؟. ثم هو لا يشكر ربه ولا يذكره .. وبعد ذلك يجعل لله أنداداً ليضل عن سبيل الله؟ .. ويحارب ربه ودينه بنعمه؟. ألا ما أجهل الإنسان .. وما أظلمه .. وما أكفره. إن المطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله الكون عليها، وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله، لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة، وإمداها بعوامل الحياة من تربة وماء، وأشعة وهواء. إن أقل رزق يرزقه الله الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام لا يعلمه إلا الله حتى يصل إليه هذا الرزق. فمتى يدرك الإنسان كيف هو محمول مكفول من ربه؟. وكيف ربه الغني عن العالمين يحتفي به ويتودد إليه؟. وكيف يعطيه من كل ما سأل من مال وذرية، وصحة وغنى، وزينة ومتاع؟. قال الله سبحانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا

تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. أفيليق بالإنسان بعد رؤية هذه الآيات العظمى ألا يؤمن بالله؟. وبعد رؤية هذه النعم الكبرى ألا يشكر ربه؟. وبعد رؤية هذه، وهذه أن يبدل نعمة الله كفراً؟. وبعد ذلك كله أيليق به أن يجعل لله نداً يعبده من دون الله؟. حقاً إن الإنسان ظلوم جهول كفار، خاصة إذا لم يهتدِ بوحي السماء، ولم يؤمن بما جاء به الأنبياء. إن المؤمن حين ينظر في ملكوت السموات والأرض، ويتأمل ويتدبر ما فيهما من آيات وعجائب، يرتجف فؤاده، ويخشع قلبه، وتخضع جوارحه، ويقف بين يديه ساجداً شاكراً. إن النموذج الكامل للإنسان الذاكر الشاكر هم المؤمنون: وأفضل المؤمنين الأنبياء والرسل .. وأفضل الأنبياء والرسل أولو العزم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد) صلوات الله وسلامه عليهم .. وأفضل هؤلاء الخليلان: إبراهيم أبو الأنبياء، ومحمد سيد الأنبياء، وأفضل الخليلين محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، وقد مدحه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. فهل لنا بهم من أسوة؟ .. وهل لنا بهم من قدوة؟: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 89، 90]. وقال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. إن الكفر بنعم الله وجحدها، واستعمالها في معصيته، جريمة تستحق العقوبة كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا

رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112]. فالغنى يولد الطغيان والاستكبار، والطغيان يولد الإسراف والظلم، والإسراف يسوق الإنسان إلى التبذير، والتبذير دليل على الترف .. والترف يولد الجريمة .. وبعد الجريمة تنزل العقوبة. والترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب. ومن هنا يحارب الإسلام الترف، ويقيم نظامه على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة. لأن الترف كالعفن يفسد ما حوله، حتى لنيخر فيه السوس، ويسبح فيه الدود. فأين مصير المترفين الذين اشتغلوا به عن الإيمان بالله وطاعته وعبادته؟. وأين هي دارهم؟: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)} [الواقعة: 41 - 45]. والمترفون أشد الناس استغراقاً في المتاع والانحراف والذهول عن المصير، فهاهم يستيقظون على الكارثة الباغتة المفاجئة: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون: 64 - 67]. والله عزَّ وجلَّ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ومسألة بسط الرزق وقبضه ليست دليلاً على غضب الله ورضاه، فهذه مسألة، وهذه مسألة أخرى، ولا علاقة بينهما: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)} [سبأ: 35، 36]. فقد يغدق الله على أهل الشر استدراجاً لهم ليزدادوا إثماً وبطراً وسوءاً، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة عقوبة على معاصيهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56]. وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً، وجريمةً وجزعاً، وضيقاً ويأساً من رحمة الله، فيتضاعف رصيدهم من الشر والضلال. فالله سبحانه حكيم خبير بصير بعباده. قد يغدق الله على أهل الشر استدراجاَ لهم، ليزدادوا إثماً وبطراً وسوءاً، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة، عقوبة على معاصيهم كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا

نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 56. 55]. وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً، وجريمة وجزعاً، وضيقاً ويأساً من رحمة الله، فيتضاعف رصيدهم من الشر والضلال. فالله سبحانه حكيم رحيم، خبير بصير بعباده. وقد يغدق الله على أهل الخير ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة، وما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق، وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل، ويدخرون بهذا كله رصيداً من الحسنات. وقد يحرمهم فيبلون صبرهم على الحرمان، وثقتهم بربهم، ورجائهم فيه، واطمئنانهم إلى قدره، ورضاهم بربهم وحده، وهو خير وأبقى، وينتهون بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان. وبهذا نعلم أن الله قد يغدق الرزق على من هو عليه غاضب .. كما يغدقه على من هو عليه راضٍ .. وقد يضيق الله على أهل الشر .. كما يضيق على أهل الخير. فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف ضاعف الله له الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله، وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله، ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد وفق أمر الله هو الذي يضاعف لهم الجزاء: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم في معرض دعوتهم إلى الهدى بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. فهو سبحانه الغني الحميد، المحمود لذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. ولا بد من تذكيرهم بعظمة ربهم وقدرته، وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه، فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133]. والناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، الأغنياء والفقراء، العامة والخاصة، السادة والعبيد، كلهم بحاجة أن يذكروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله عزَّ وجلَّ يعني بهم، ويرسل إليهم الرسل، ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، فيركبهم الغرور، فيظنون أنهم شيء عظيم عند الله، وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملك الله تعالى وهو الغني الحميد. إن الله جل جلاله إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً، وكرماً ومناً، لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته، لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم، أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم، ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة، عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم، لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل. وإن الله بالناس لرؤوف رحيم، يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله، بتسخير ما في السموات والأرض لهم، وإرسال رسله إليهم، وإنزال كتبه عليهم، واحتمال رسله ما يحتملون من إيذائهم وإعراضهم والسخرية منهم، وهم يعفون عنهم، ويصبرون على أذاهم.

إن الإنسان ليحار ويدهش في فضل الله ومنّه وكرمه حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل، الجاهل القاصر .. الضعيف العاجز، ينال من كرامة الله وعنايته ورعايته كل هذا القدر الهائل. وإلإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض السابحة في الفضاء، والسماء والأرض مملوءة بمخلوقات لا يحصيها إلا الله، ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية والعناية كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. فكم فضل الله وإحسانه إلى العباد، خلق الله الإنسان، واستخلفه في الأرض ووهبه كل أدوات الخلافة، سواء كان في تكوينه وتركيبه، أو تسخير القوى والطاقات الكونية الملازمة له في خلافته، ويظل هذا المخلوق يتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره. فيرسل الله إليه الرسل رسولاً بعد رسول، وينزل على الرسل الكتب والآيات والمعجزات، ويخبرهم عن ذوات أنفسهم، وعمن سبقهم، ويسوقهم إلى ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم، كل ذلك من أجل هذا الإنسان. والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة، ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته، وليستحيوا أن يقابلوا فضل الله الخالص، ورعايته المجردة، ورحمته الفائضة بالإعراض والجحود والإنكار. وكتاب الله سبحانه يلمس بمثل هذه الحقائق الكبرى قلوب البشر، لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس، ولأنه هو الحق، وبالحق نزل، فلا يتحدث إلا بالحق، ولا يقنع إلا بالحق، ولا يعرض إلا الحق، ولا يشير ويوصي بغير الحق. فما أحوجنا إلى تدبر القرآن بنور الإيمان: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. والله عزَّ وجلَّ لطيف بعباده يرزق من يشاء، يرزق الصالح والطالح، والمؤمن

والكافر، وهوالغني المالك لذلك، القادر عليه: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 19]. والبشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً، وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية، ولو منع الله رزقه عن الكافر والفاسق ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم، ولماتوا جوعاً وعطشاً وعرياً، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت الحكمة من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم. ومن ثم أخرج سبحانه الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة، واستعداد الأفراد، وجعله فتنةً وابتلاءً يجزي عليهما الناس يوم الجزاء. ثم جعل سبحانه الدنيا حرثاً والآخرة حرثاً يختار المرء منهما ما يشاء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20]. فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد الله له في حرثه، وبارك له في عمله، وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئاً ولا مثقال ذرة. ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له، لا يحرم منه شيئاً، لكن ليس له في الآخرة نصيب، فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب. وما أحمق الذين يريدون حرث الدنيا فقط، فالله بفضله يمد هؤلاء وهؤلاء، ولكل إنسان نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله، ثم يبقى حرث الآخرة خالصاً لمن أراده وعمل فيه. وأرزاق العباد كلها في السماء، ومكان الاستلام في الأرض كما قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22].

إن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض حيث يكد فيها الإنسان ويكدح، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب. ولكن القرآن يرد بصر الإنسان، ونفسه إلى السماء، إلى الغيب، إلى الله، ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم، والخط المرسوم. أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة فهي آيات للموقنين، آيات ترد القلب إلى الله، ليتطلع إلى الرزق من فضله، ويتخلص من أثقال الأرض، وأوهاق الحرص، والأسباب الظاهرة للرزق، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب. والقلب المؤمن بربه يدرك هذه اللفتة، ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها، فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها، إنما المقصود هو ألا يعلق نفسها بها، وألا يغفل عن الله في عمارتها. ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء، وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، وما وعد الله لا بد أن يكون في مكانه وزمانه ومقداره. وبذلك ينطلق قلبه من أسار الأسباب الظاهرة في الأرض، ويراها آيات تدله على خالق الأسباب، ويعيش قلبه موصولاً بالسماء، وقدماه على الأرض، والإيمان هو الوسيلة التي تجعل الإنسان مفضلاً على العالمين. وإذا استقام الناس على الدين، أفاض الله عليهم الرزق والرخاء، وابتلاهم به، لينظر أيشركون أم يكفرون. فإذا آمنوا واتقوا فتحت عليهم بركات السماء والأرض، وتدفقت عليهم الأرزاق. وإذا حادوا عن الطريق استلبت منهم الخيرات، وما يزالون في نكد، وفي شظف حتى يعودوا إلى الله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن، 16، 17].

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على دين الله ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها، أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء والطمأنينة، وتحيل الحياة إلى تعاسة وتردٍ في الأخلاق. والرخاء كالشدة ابتلاء من الله للعباد وفتنة كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. والصبر على الرخاء، والقيام بواجب الشكر عليه، والإحسان فيه، أشق على النفس من الصبر على الشدة. فكثيرون يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة، ومن ذكر لله والتجاء إليه، واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة، فلا يبقى إلا ستره وعونه. فأما الرخاء فيلهي وينسي ويطغي، ويرخي الأعضاء، ويقيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة، والاستنامة للشيطان، والكبر والطغيان: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. والله سبحانه الذي أعطى النعم للإنسان قادر على أخذها. ولذلك فأول الأشياء في بقاء النعم: نسبة الفضل إلى الله في حصولها للعبد .. وشكر الله عليها .. واستعمالها في طاعته .. وأداء حق الله فيها من الزكاة .. وإخراج حق من أوصى الله بهم من الفقراء والمساكين .. وذلك الذي يحفظها ويزيدها بركةً ونماءً. فإن أنكر الإنسان قدرة الله في حصول النعمة ونسبها إلى نفسه، عاقبه الله بتلفها وزوالها كما حصل لقارون، حيث خسف الله به وبداره الأرض. وإن منع حق الفقراء والمساكين منه، عاقبه الله كذلك بزوالها، وانتقم لحق

الفقراء منه. وقد تكفل بأرزاق الخلائق كلها كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وليس المقصود هنا أن هناك رزقاً فردياً مقدراً لا يأتي بالسعي ولا يتأخر بالقعود، ولا يضيع بالسلبية والكسل. وإلا فأين الأخذ بالأسباب التي أمر الله بالأخذ بها؟. إن لكل مخلوق رزقاً علم الله كميته ونوعيته، وحدد زمانه ومكانه، وهذا الرزق مذخور في هذا الكون، مقدر من الله في سننه التي ترتب الإنتاج على الجهد، فلا يقعدن أحد عن السعي وابتغاء فضل الله، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات، حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحداً، ولا تتخلف أو تحيد. إنما هو كسب طيب .. وكسب خبث .. وكلاهما يحصل من عمل وجهد. فالأول له ثواب .. والثاني عليه عقاب. إن الإسلام نعمة الله الكبرى على البشرية فهل من يأخذها، ويشكر المنعم بها، ويتقرب إلى الله بها، ويمشي بها في الناس؟. والإنسان مغمور بنعم الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحيط بقدرها ولا يحصي أنماطها، فهل ذكرته بربه؟، وهل جعلها عوناً له على طاعته؟، وهل دفعته إلى إخلاص العبادة للمنعم الشاكر؟. {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. واستمرار النعم تترى على العباد مع معاصيهم دليل على أن المنعم غفور رحيم، ومن رحمته أنه لا يعطي النعمة للشاكرين وحدهم، أو للمؤمنين

وحدهم، بل غمر بها المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والبر والفاجر. ومن رحمته أنه لا يحرم من يعصيه من نعمه، ولو لم يكن الله رحماناً رحيماً لمنع نعمه عمن عصاه، ولو لم يكن الله عفواً غفوراً لمنع نعمه عمن كفر به، ونعم الله لا تعد ولا تحصى، وخزائنه مملوءة بكل نعمة، وهي لا تنقص ولا تفنى. والله سبحانه تارةً يعرض نعمه الواسعة على الخلق، ثم يعرض بعد ذلك ما فعل الإنسان بهذه النعم كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وتارةً يذكر نعمه على الخلق، ثم يذكر عموم مغفرته ورحمته لمن أطاعه وعصاه كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. ولولا رحمة الله، ولولا عفو الله، ولولا مغفرة الله ما بقيت لنا نعمة. والله حكيم عليم غني كريم، فقبل أن ينزل الإنسان إلى الأرض خلق الله له النعم، وهيأ له ظروف الحياة، وقسم لكل إنسان رزقه، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فالنعمة سبقت المنعم عليه. فالله خلق الإنسان فوجد الكون مهيأ له من ربه. الشمس تدفئه وتعطيه الحياة .. والأرض تطعمه وتعطيه الثمر .. والمطر ينزل عليه فيسقيه .. والهواء موجود أينما كان لتنفسه بسهولة .. والنهار مسخر له ليعمل وينتج .. والليل لينام ويستريح. فكل هذه الأشياء خلقها الله ليجدها الإنسان في الكون في خدمته قد سبقته: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا

يَشْكُرُونَ (73)} [يس: 71 - 73]. والنعم التي أنعم الله بها على الخلق، والمصائب التي تصيب الخلق، كلها قد كتبت في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل منه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22]. وقد أخبر الله عباده بذلك لأجل ألا يأسوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، فلا بد من وقوعه، فلا سبيل إلى دفعه. ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بذكر وشكر من أولى النعم، ودفع النقم: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]. وجميع المصائب في النفس والمال، والأهل والأولاد، والأحباب ونحوهم، كل ذلك كائن بقضاء الله وقدره، وقد سبق بذلك علم الله تعالى، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته. والشأن كل الشأن هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟. فإن قام بها فله الثواب الجزيل والأجر الجميل في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله فرضى بذلك وسلم لأمر الله، هدى الله قلبه فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، وصبر على قضاء الله، حصل له بذلك ثواب عاجل مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11]. ومن لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، فلم يلحظ قضاء الله وقدره، بل وقف مع

مجرد الأسباب، فإن الله يخذله ويكله إلى نفسه، والنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد قبل عقوبة الآخرة. والله تبارك وتعالى لا بد أن يبتلي عباده بالمصائب والمحن ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والمؤمن من المنافق. وهذه سنة الله في عباده، لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، وهذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين. والله سبحانه يبتلى عباده حسب إيمانهم بأنواع المصائب، ويبتليهم بشيء يسير من الخوف والجوع، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، لأنه سبحانه لو ابتلاهم بالخوف كله أو ذهاب الأموال كلها، أو الثمرات كلها ونحو ذلك لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك. وهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن الله أخبر بها، وقد وقعت وما زالت تقع كما أخبر الله. فإذا وقعت تلك المصائب انقسم الناس قسمين: قسم صابرون .. وقسم جازعون. فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر الذي يناله بالصبر عليها، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكر، وحصل له السخط الدال على نقص الإيمان. وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظ من المصيبة التي حصلت له، فإن المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله فيها، وفاز بالثواب

الجزيل، والأجر بغير حساب كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وهؤلاء الصابرون إذا أصابتهم مصيبة مما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما يعلمون أنهم مملوكون لله، مدبرون تحت أمره، وليس لهم من أنفسهم شيء. فإذا تصرف فيهم أرحم الراحمين بشيء، فإنما يتصرف بمماليكه ومخلوقاته، فلا اعتراض عليه، والله أرحم بالعبد من نفسه، فينبغي للعبد الرضا عنه، والشكر له فيما قدر وفعل. وكل عبد راجع إلى ربه، فإن صبر واحتسب وجد أجره موفراً عنده، وإن جزع وسخط لم يكن حظه إلا السخط وفوات الأجر. فكون العبد يعلم أنه لله، وكونه راجعاً إليه، من أقوى أسباب الصبر. وجزاء هؤلاء الصابرين صلوات من ربهم ورحمة وهداية كما قال سبحانه في جميع ما سبق: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. فعلى العباد توطين نفوسهم على المصائب قبل وقوعها .. لتخف وتسهل إذا وقعت .. وعليهم معرفة ما تقابل به إذا وقعت وهو الصبر .. ومعرفة ما يعين على الصبر من إدراك العبد أنه لله، وإليه راجع .. ومعرفة ما للصابر من الأجر .. وهو أنه يعطى من الأجر بغير حساب .. ويصلي الله عليه ويرحمه ويرزقه الهداية .. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وما يصيب العباد من الخير والشر، ومن الحسنات والسيئات، كله بقضاء الله وقدره، فكل حصب وكثرة مال، فهو من عند الله، وكل جدب وقحط وهلاك أموال، فهو من عند الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].

وما أصاب الإنسان من الحسنات كالرخاء والخصب، والصحة والسلامة، فمن الله وبفضله ورحمته. وما أصاب الإنسان من الجهد والبلاء والشدة فهو من الله أيضاً، ولكنه بسبب من نفس الإنسان، بذنب أتاه فعوقب عليه كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. وما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وفيما يحبون ويكون عزيزاً عليهم إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن العباد أنفسهم يظلمون: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} [الشورى: 30، 31]. وما أصاب المسلمين من المصائب فقد قدره الله وأجراه في اللوح المحفوظ، فعليهم الرضا بقضائه وقدره، والتوكل عليه وحده في جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم كما قال الله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51]. وللذنوب عقوبات عاجلة وآجلة: ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد، ويزين له ترك اتباع الرسول وذلك لفسقه، فمن تولى عن اتباع الحق فتلك عقوبة له على فسقه كما قال سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49]. والناس حال المصيبة على أربع مراتب: الأولى: التسخط، وهو إما أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه، ويضجر مما قدر الله عليه، أو يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، أو يكون بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب ونحوها. الثانية: الصبر، فيرى أن المصيبة ثقيلة عليه ويكرهها، لكنه يتحمل ذلك ويصبر،

ويحميه إيمانه بالله من التسخط. الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها. فالكل عنده سواء، لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى. الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، فيكون من عباد الله الشاكرين، فإنه إذا عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، أو رفعة درجاته، أو زيادة حسناته، شكر الله على ذلك. فللإنسان عند المصائب أربعة مقامات وأربعة أحكام: الأول: الجزع .. وهو محرم. الثاني: الصبر .. وهو واجب. الثالث: الرضا .. وهو مستحب. الرابع: الشكر .. وهو أحسن وأفضل وأكمل، فإن المصيبة يترتب عليها أجر عظيم وتلك نعمة، وكل نعمة لا بد لها من الشكر، والإنسان إذا لم يأت بخطيئة، وأصابته مصيبة فنقول له: إن هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، وهذه المصيبة لا تلاقي ذنباً تكفره، لكنها تلاقي قلباً تمحصه، ليصل المرء بصبره إلى أعلى درجات الصابرين. وفي كل مصيبة وفي كل بلاء خمس فوائد، ينبغي للعبد أن يشكر الله عليها: الأولى: أن كل مصيبة مهما كانت فالله قادر أن يجعلها أعظم، فليشكر الله إذ لم تكن أعظم، فمن ذهب بعض ماله فليحمد الله أنه لم يذهب كل ماله. الثانية: أن المصيبة كانت في الدنيا أو النفس، ولم تكن في الدين. الثالثة: أنها عجلت في الدنيا، ومصائب الدنيا يتسلى عنها فتخف، ومصيبة الآخرة دائمة لاذعة وقاسية. الرابعة: أن هذه المصيبة مكتوبة عليه في أم الكتاب، ولم يكن بد من وصولها إليه، فقد وصلت واسترا ح منها، فهي نعمة، فليرض بذلك ويشكر الله عليها،

لينال أجر ذلك. الخامسة: أن ثواب المصيبة أكثر منها كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (¬1). وللعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه مشاهد: الأول: مشهد القدر، وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقدره، لا يمكن دفعه، فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم، وانقطاع الأمطار. فإن الكل أوجبته مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الثاني: مشهد الصبر، فيشهده ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه الله ذلك ندامة. الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإن ذلك يورث من الحلاوة والطمأنينة والسكينة ما ليس في الانتقام، ومن عفا وصفح عمن أساء إليه غفر الله له. الرابع: مشهد الرضا، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، خاصة إن كان ما أصيب به سببه القيام لله. وهذا شأن كل محب صادق، يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخط وتشكى منه، كان ذلك دليلاً على كذبه في محبته. الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كما أساء هو إليه. ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك، فهذا المسكين قد ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) واللفظ له، ومسلم برقم (2573).

وهبك حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها. ويهونه عليك أيضاً علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإذا عفوت عمن أساء إليك فهكذا يفعل معك المحسن العزيز القادر بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك. السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف لمن عرفه، وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الثأر، وشفاء نفسه. بل يفرغ نفسه من ذلك، ويرى أن سلامته من ذلك أنفع له، وأطيب وألذ، فإن القلب إذا اشتغل بشيء، فاته ما هو أهم عنده منه فيكون مغبوناً. السابع: مشهد الأمن، فإذا ترك الإنسان المقابلة والانتقام، أمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، فإذا غفر ولم ينتقم أمن من تولد العداوة وزيادتها، وعفوه وحلمه، يكسر عنه شوكة عدوه، ويكف من جزعه. الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له، من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن وهو الجنة. فإذا أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة، ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاها، فإنه قد وجب أجره على الله، والله يتولى الدفاع عنها. فمن قام لله، حتى أوذي في الله حرم عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]. التاسع: مشهد النعمة، وهو أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب المقت والأخذ. ويشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه، فإنه ما أصاب المؤمن من

هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه. وأذى الخلق كلهم لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك، فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته، ومن كان على يديه. وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته، فلله در هذه الأنفس الزكية التي وصلت إلى هذا الشعور. ويشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، وسلامة الإسلام والتوحيد أهم من سلامة البدن والمال. ويشهد كذلك توفية أجر المصائب وثوابها يوم الفقر والفاقة. والعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً. العاشر: مشهد الأسوة الحسنة، وهو مشهد شريف جداً، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة حسنة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق بلاء، وأشد الخلق ابتلاء بالناس. وأذى الناس لهم سريع ومتنوع، وكثير ومستمر، خاصة سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - الذي عودي وأوذي، وأخرج وكذب، فما انتقم لنفسه، وإنما أمره الله بالصبر الجميل، والصفح الجميل كما قال سبحانه: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85]. الحادي عشر: مشهد التوحيد. وهو أجل المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له، وحسن معاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، واطمأن إليه، وسكن إليه، وفوض إليه أموره كلها، ورضي به، وتوكل عليه، وخافه ورجاه، فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره بطلب الانتقام والمقابلة. ومن امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها، فإنه لا يلتفت إلى ما دونها: {ذَلِكَ

فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. إن نعم الله على عباده لا يمكن ان يحصيها أحد، وهي نعم لا يمكن لأحد أن يحيط بها كما قال سبحانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. إن الشمس التي تشرق كل صباح هي نعمة من نعم الله التي سخرها لعباده، وهي تشرق كل يوم بإذن ربها وأمره، لتذكر الإنسان بنعمة الله عليه، وتسخيرها له، وكذلك القمر، وكذلك النجوم، وكذلك الأرض، وكل ما تعطي من عطاء للبشر من ماء ونبات، وحجر ومعدن وغاز. وكذلك الأنعام التي تدر الألبان. والإبل والخيل التي يركبها الإنسان، كلها مذللة ومسخرة للإنسان ومنقادة له. وهذه الطاعة ليست للبشر، ولكن لأمر الله في التسخير للبشر، فالجمل أو الحصان لا يخضع للطفل الصغير خوفاً منه، ولا عن عدم قدرة، ولكنه يخضع له، لأن الله أمره أن يخضع له. وحتى يذكرنا الله بهذه النعمة، خلق الله بعض الحيوانات ولم يجعلها مذللة له، بل تركها غير مسخرة له، كالسباع والأسود والثعابين، ونحوها مما يخاف الناس منه. وهذه الحيوانات ظلت وستظل لا تخضع لبشر، فهو سبحانه وحده الذي سخر ما شاء من خلقه لبعض خلقه، فهي مطيعة في كل زمان ومكان لأمر ربها في هذا التسخير: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. والله عزَّ وجلَّ غفور كريم رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها.

وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في تسبيحه وتقديسه، والاستغفار للمؤمنين في الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، وطلب وقايتهم من عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: 7 - 9]. فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله .. وما أجمل هذا الإحسان .. وما أعظم نعمه على عباده .. وما أعظم هذه الرحمة .. وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد .. واللطف التام بهم. ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله. فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله الغنى، ومحتاجهم إلى أن يسأله قضاء حاجته، وذلك كل ليلة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). فباب النعم والإحسان باب عظيم، يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات، وهي ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758).

لا تحصى ولا تستقصى. فهذه محبة للرب الرحيم الكريم، تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها، ازدادت محبته لربه وتأكدت. ولا نهاية لها فيقف القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظراً ازاد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه. والله تبارك وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب .. حتى إذا دخلوا فيه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماء والصفات .. الذي إنما يدخل فيه خواص خلقه .. وهو باب المحبين حقاً .. الذي لا يدخل منه غيرهم .. ولا يشبع من معرفته أحد منهم. فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام، إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة وطاعة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير. فالله قد فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أسمائه وصفاته من خلقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه، وهو الذي لا يحد كماله، ولا يحاط بوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

6 - فقه الشهوات واللذات

6 - فقه الشهوات واللذات قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. وقال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 70، 71]. الشهوة واللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان، بل ولكل حي، فلا تذم من جهة كونها لذة، وإنما تذم ويكون تركها خيراً من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل وأنفع، أو أعقبت ألماً حصوله أعظم من ألم فواتها. ومتى عرف العاقل التفاوت بين اللذتين والألمين هان عليه ترك الأدنى لتحصيل الأعلى، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما. وإذا تقرر هذا: فلذة الآخرة أعظم وأدوم .. ولذة الدنيا أصغر وأقصر .. والآخرة خير من الأولى كما قال سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]. وألم الدنيا أخف وأقصر .. وألم الآخرة أشد وأبقى كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. وإذا قوي اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب. والصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة: فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة .. وإما أن تقطع لذة أكمل منها .. وإما أن تضيع

وقتاً إضاعته حسرة وندامة .. وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه .. وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه .. وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة .. وإما أن تجلب هماً وغماً، وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة .. وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة .. وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً .. وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة .. وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول .. فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق. والشهوات في الدنيا موجودة، لكن الدنيا ليست محل قضاء الشهوات، فإن محل قضاء الشهوات وتكميلها في الآخرة. ولو جمعنا ما في الدنيا كلها ما كفى لقضاء شهوة رجل واحد، لكن في الدنيا المطلوب تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وكل ما يحب الله من الصفات، ويوم القيامة فيه تكميل ما يحب المخلوق من الشهوات واللذات. فالدنيا محل قضاء الضرورات، وليست محل تكميل الشهوات. وقد خلق الله بطن الأم لتكميل أعضاء الإنسان وجوارحه. وخلق الدنيا لتكميل الإيمان والأعمال الصالحة. وخلق الآخرة لتكميل شهوات الإنسان .. وتحقيق القسط والعدل .. وإبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا من النعيم. وأغلب شهوات الإنسان وأظهرها ثلاث: شهوة بطنه .. وشهوة فرجه .. وشهوة لسانه. ثم الغضب الذي هو كالجندي لحماية الشهوات، ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا، ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه، وإذا طلب المال والجاه وحصلهما، حدث فيه الكبر والعجب، وحب الرياسة. وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأساً، وتمسك من الدين بما فيه الرياسة، وغلب عليه الغرور، وثقلت عليه الأوامر، وهانت عليه المعاصي. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أصناف الشهوات بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ

النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. فذكر سبحانه أربعة أصناف من المال، كل نوع يتمول به صنف من الناس: أما الذهب والفضة فيتمول بهما التجار .. وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك .. وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي .. وأما الحرث فيتمول بها أهل المزارع. فتكون فتنة كل صنف، في النوع الذي يتمول به، أما النساء والبنون ففتنة للجميع. والإنسان مبتلى في هذه الحياة فهو يمشي في وادي اللذات، ويسبح في بحر الشهوات، ولقطع هذا الوادي وعبور هذا البحر لا بد من الإيمان الذي يحجزه عن محارم الله، ويدفعه لطاعة الله، حتى يصل إلى الجنة بسلام، فإن لم يكن معه إيمان غرق في هذا البحر وهلك وشقي شقاوة الأبد. وكل شهوة ولذة محرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها أو فعلها، مثمرة للألم حال انقضائها، موجبة للعقوبة حال اشتهارها: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. فعلينا أن نحسب كم مشينا في متطلبات الدنيا والشهوات؟. وكم مشينا في متطلبات الآخرة، وتحقيق أحكام الله؟. وكم مشينا في مراد الله، وكم مشينا في مراد النفس؟. وكم طاعة فعلناها، وكم معصية اقترفناها؟. نفعل ذلك في الدنيا قبل نشر الصحف ونصب الموازين، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. وقد انقسم الناس بالنسبة للشهوات إلى قسمين:

الأول: قسم جعلوها هي المقصودة، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها. فهؤلاء كانت لهم زاداً إلى دار الشقاء والعناء والعذاب. والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها امتحاناً وابتلاء لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته، على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقاً يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم، وفارقوها بقلوبهم، وجعلوها معبراً إلى الدار الآخرة، ومتجراً يرجون بها سكن القصور الفاخرة. فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى الجنة، وإلى مرضاة ربهم. وهؤلاء المستحقون لها لهم صفات: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} [آل عمران: 16، 17]. وهم الذين اتقوا ربهم بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه. فهم مؤمنون صابرون على أداء ما يحبه الله من طاعته، صابرون عن معصيته، صابرون على أقداره المؤلمة. وهم صادقون في إيمانهم وأقوالهم، وأفعالهم وأحوالهم. منفقون مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم. واللذة والبهجة، والفرح والسرور، وقرة العين به، مقصود كل حي، فلا بد من مراد مطلوب محبوب للنفس، فإذا حصل المطلوب المراد، فاقتران اللذة والنعمة، والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه. وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها، فهي إنما تذم إذا أعقبت ألماً أعظم منها، أو

منعت لذة خيراً منها، وتحمد إذا أعانت على اللذة الدائمة المستقرة، وهي لذة الدار الآخرة، ونعيمها الذي هو أفضل نعيم وأجله كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} [النحل: 30]. والله عزَّ وجلَّ إنما خلق الخلق لدار القرار، وجعل اللذة كلها بأسرها فيها، فالدنيا متاع فتمتع بها إلى غيرها، والآخرة هي المستقر والغاية. كما قال سبحانه: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77]. فلذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة، ولذلك خلقت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأةُ الصَّالِحَةُ» أخرجه مسلم (¬1). فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهي محبوبة للرب مرضية له، وصاحبها يتلذذ بها من وجهين: من جهة تنعمه وقرة عينه بها. ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربه، وإفضائها إلى لذة أكمل منها. فهذه اللذه هي التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذة الي تعقبه غاية الألم، وتفوت عليه أعظم اللذات، ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذات الآخرة ونعيمها، فيثاب مثلاً على أكل الطيبات، وعلى وطء زوجته، وعلى سماع القرآن، وعلى النظر في ملكوت السموات والأرض. ويعاقب الإنسان على أكل المحرمات والخبائث، وعلى الزنا، وعلى السرقة، وعلى السماع والنظر إلى المحرمات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَفِي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أيَأتِي أحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أجْرٌ، قال: أرَأيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1467).

وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أجْراً» أخرجه مسلم (¬1). وهذه اللذة تزيد وتتضاعف بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله، وإخلاص العمل له، والرغبة في الدار الآخرة، وهذا أطيب نعيم ينال من الدنيا، فخير الدنيا والآخرة يناله العبد، قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة حسناء، إن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله. فالفرح والسرور يحصل ويكمل بمعرفة المحبوب وإرادته وإيثاره ومحبته. والألم والحزن والهم والغم ينشأ من عدم العلم بالمحبوب، أو من عدم إرادته وإيثاره مع العلم به، أو من عدم إدراكه والظفر به مع محبته وإرادته، وهذا من أعظم الألم. ولهذا يكون ألم الإنسان في البرزخ وفي دار الحيوان بفوات محبوبه أعظم من ألمه بفواته في الدنيا، لمعرفته هناك بكمال ما فاته ومقداره، وشدة حاجته إليه، وشوق نفسه إليه هناك، وحصول ضده المؤلم له، فيا لها من مصيبة ما أوجعها وما أشدها؟. وأين هذا ممن يلتذ في الدنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل والشرب، واللباس والنكاح والجهاد، فضلاً عما يلتذ به من معرفة ربه وحبه له، وتوحيده، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وفرح القلب، وسروره بقربه. وهذه اللذة لا تزال في الدنيا في زيادة، فإذا تجردت الروح وفارقت دار الأحزان والآفات، واتصلت بالرفيق الأعلى، وأفضت إلى دار النعيم، فهناك من أنواع اللذة والبهجة والسرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبؤساً للنفوس الدنيئة التي لا يهزها الشوق إلى ذلك طرباً وطلباً، تجول حول الحشى إذا جالت النفوس العلوية حول العرش، وتندس في الأحجار إذا طارت ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1006).

النفوس الزكية إلى أعلى الأوكار. وكل لذة أعقبت ألماً أو منعت لذة أكمل منها فليست لذة في الحقيقة، وإن غالطت النفوس في الالتذاذ بها. فأي لذة لأكل طعام شهي مسموم يقطع أمعاءه عن قريب؟. وهذه هي لذات الكفار والفساق بعلوهم في الأرض، وفسادهم وفرحهم فيها بغير الحق ومرحهم كلذة الذين اتخذوا من دون الله أولياءه، ولذة العقائد الفاسدة، ولذة غلبة أهل الجور والظلم، ولذة أهل الزنى والسرقة وشرب الخمر، ولذة أهل الكبائر والفجور. ولم يمكنهم الله من ذلك لخير يريده بهم، بل هو استدراج منه ليبتليهم به فيحصل لهم أعظم الألم كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56]. ولا غبطة فيما عند الكفار من الأموال والأولاد فإن أول عقوباتها عليهم أن قدموها على مراضي الرب، وعصوه لأجلها: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فكم ينالهم من المشقة في تحصيلها، والسعي في طلبها، وهم القلب فيها، وتعب البدن من أجلها؟. فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم لم يكن لها نسبة إليها، ومن وبالها عليهم أن قلوبهم تتعلق بها، وإرادتهم لا تتعداها، فتكون منتهى مطلوبهم، وغاية مرغوبهم، ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيب، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا بلا أرباح، وتزهق أنفسهم وهم كافرون. فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم، والحسرة الأبدية؟. وكل ما يصد عن اللذة المطلوبة الباقية، فهو وبال على صاحبه، لكن لما كانت النفوس الضعيفة كنفوس النساء والصبيان لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى إلا

بإعطائها شيئاً من لذة اللهو واللعب، بحيث لو فطمت عنه كل الفطام طلبت ما هو شر لها منه، رخص لها من ذلك فيما لم يرخص فيه لغيرها. وذلك من باب الشفقة والرحمة والإحسان كما مكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عمير من اللعب بالعصفور بحضرته، ومكن الجاريتين من الغناء بحضرته، ومكن عائشة من النظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ومكن تلك المرأة أن تضرب على رأسه بالدف. ومثله إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم من الزكاة والغنيمة، لضعف قلوبهم عن قلوب الراسخين في الإيمان من أصحابه. ومزاحه - صلى الله عليه وسلم - مع من كان يمزح معه من الأعراب والصبيان والنساء تطييباً لقلوبهم، واستجلاباً لإيمانهم، وتفريحاً لهم. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يبذل للنفوس من الأموال والمنافع، ما يتألفها به على الحق المأمور به، ويكون المبذول مما يلتذ به الآخذ ويحبه، لأن ذلك وسيلة إلى غيره. ولا يفعل ذلك مع من لا يحتاج إليه كالمهاجرين والأنصار، بل يبذل لهم أنواعاً أخر من الإحسان إليهم والمنافع في دينهم ودنياهم، بتوجيه قلوبهم إلى مولاهم. واللذات ثلاثة أقسام: لذة جثمانية .. ولذة خيالية .. ولذة عقلية. فاللذة الجثمانية لذة الأكل والشرب، والجماع والنوم، وهذه اللذة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان البهيم، فليس كمال الإنسان بهذه اللذة، لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها، ولأنها لو كانت كمالاً لكان أفضل الناس وأشرفهم وأكملهم أكثرهم أكلاً وشرباً وجماعاً ونوماً، ولو كانت كمالاً لكان نصيب رسل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكمل من نصيب أعدائه. فلما كان الأمر بالضد تبين أنها ليست في نفسها كمالاً، وإنما تكون كمالاً إذا تضمنت إعانة على اللذة الدائمة العظمى.

وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرياسة، والتعاظم على الخلق، والفخر والاستطالة عليهم، وهذه وإن كان طلابها أشرف نفوساً من طلاب اللذة الأولى، فإن آلامها وما توجبه من المضار والمفاسد أعظم من التذاذ النفس بها. فإن صاحبها منتصب ومستعد لمعاداة كل من تعاظم وترأس عليه، واحتقار من دونه. فهذه في الحقيقة ليست بلذة، وإن فرحت بها النفوس وسرت بحصولها. وربما قيل أنه لا حقيقة للذة في الدنيا وإنما غايتها دفع آلام، كما يدفع ألم الجوع والعطش وألم الشهوة بالأكل والشرب والجماع، وألم الخمول وسقوط القدر عند الناس بالرياسة والجاه، لكن لا ريب أن اللذة أمر وجودي يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد. وأما اللذة العقلية الروحانية، فكلذة العلم والمعرفة، والاتصاف بصفات الكمال، من الكرم والجود والعفة، والشجاعة والصبر، والمروءة والحلم ونحوها، فالالتذاذ بذلك من أعظم اللذات، وهو لذة للأنفس العلوية الشريفة. فإذا انضمت اللذة بذلك إلى لذة المعرفة بالله ومحبته وعبادته والرضا به عوضاً عن كل شيء، صاحب هذه اللذة في جنة عالية، نسبتها إلى لذات الدنيا كنسبة لذة الجنة إلى لذة الدنيا. فإنه ليس للقلب والروح، ألذ ولا أطيب، ولا أحل ولا أنعم، من لذة محبة الله، والإقبال عليه، وعبادته ورؤيته والأنس به. ومثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدله أمثال الجبال من لذات الدنيا. وأكمل الناس لذة من جمع له بين: لذة القلب .. ولذة الروح .. ولذة البدن. فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه. فهذا ممن قال الله فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ

هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32]. وأنجس الناس حظاً من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيقال له يوم القيامة، يوم استيفاء اللذات: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20]. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات .. وأولئك تمتعوا بالطيبات، وافترقوا في وجه التمتع. فأولئك تمتعوا بالطيبات على الوجه الذي أذن لهم فيه، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة. وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، سواء أذن لهم فيه أم لا؟. فانقطعت عنهم لذة الدنيا، وفاتتهم لذة الآخرة، فما أخسر هؤلاء، فلا لذة الدنيا دامت لهم، ولا لذة الآخرة حصلت لهم. فمن أحب اللذة العظمى الدائمة فليجعل لذة الدنيا موصلة له إلى لذة الآخرة، فكلما التذ بلذات الدنيا، ذكرته بالله ولذات الجنة الأبدية. فيستعين بها على فراغ قلبه لله وعبادته، ويتناولها بحكم الاستعانة بها على طاعة الله، لا بمجرد الشهوة والهوى. وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها، فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجم نفسه هاهنا بالترك، ليستوفيها كاملة يوم القيامة. وطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة. وبئس القاطع لمن كانت هي همه ومقصوده وحولها يدندن. وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة. وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة. فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعاً وإلا

خسرهما جميعاً. ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والإيمان به، وتوحيده، والعمل بطاعته، والأنس به .. أكمل نعيم للعبد في الدنيا والآخرة .. ولذة هذا النعيم بالنسبة للذات الدنيا بنسبة الذرة للجبل أو القطرة للبحر، وهو كالجنة بالنسبة لما سواه من النعيم. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الجنة بقوله: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ حِلَقُ الذِّكْر» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). ولذات الدنيا متاع وسبيل إلى لذات الآخرة، ولذلك ما خلقت الدنيا لذاتها، بل للتزود منها، والاستعانة بما فيها على طاعة الله وعبادته، فكل لذة أعانت على لذة الآخرة، وأوصلت إليها، لم يذم تناولها، بل يحمد بحسب إيصالها إلى لذة الآخرة. وإذا علم العبد هذا، فليعلم أن أعظم نعيم الآخرة ولذاتها النظر إلى وجه الله جل جلاله، وسماع كلامه، والقرب منه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَمَا أُعْطُوا شيئاً أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ» أخرجه مسلم (¬2). وأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة، هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق، وهي لذة معرفته سبحانه، ولذة محبته، فإن ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي. وأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته، وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته، فمحبته ومعرفته قرة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها. فليست الحياة الطيبة إلا بالله ولله، والروح والقلب والبدن إنما خلقت لعبادة الله، والتلذذ بطاعته ومناجاته والقرب منه. والطيبات نوعان: ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (12551)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2562). وأخرجه الترمذي برقم (3510)، صحيح سنن الترمذي رقم (2787). (¬2) أخرجه مسلم برقم (181).

طيبات للأبدان .. وطيبات للقلوب. فطيبات القلوب في هذه الحياة هي ما تلتذ به من الإيمان بالله وتوحيده ومعرفته، والوقوف بين يديه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه ونعمه. وذلك لون يجد فيه القلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع، إنه متاع اللقاء مع الله ومناجاته في الصلاة بتكبيره وتعظيمه، وحمده والثناء عليه، وسؤاله واستغفاره في جو من الطهر والخشوع، والقرب من الرب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم (¬1). وطيبات الأبدان هي ما تلتذ به من الطعام والشراب والطيبات من النساء، وكلاهما أمر مطلوب في حياة الإنسان، وبهما تكمل حياته، ويسعد في الدنيا والآخرة. والمسلم يرتقي من متاع الطعام والشراب والزواج، إلى متاع الطهارة والصلاة، ويتبع هذه بهذه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. والخير كله .. وكمال اللذات والشهوات .. وكمال النعيم والسرور .. كله بحذافيره في الجنة كما قال سبحانه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. والشر كله .. وكمال العذاب والعناء .. وكمال الحسرة والندامة .. كل ذلك بحذافيره في النار يوم القيامة كما قال سبحانه عن أهل النار: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (482).

7 - فقه السعادة والشقاوة

7 - فقه السعادة والشقاوة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وقال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126]. السعادة التي تؤثرها النفوس ثلاث مراتب: الأولى: سعادة خارجة عن ذات الإنسان، وهي مستعارة له من غيره تزول باسترداد العارية، وهي سعادة المال والجاه والمنصب، وهي سعادة وهمية. الثانية: سعادة في ذات الإنسان كالصحة، واعتدال المزاج، وحسن القامة، وصفاء اللون، وجماله، وقوة أعضائه، فهذه ألصق به من الأولى، فالأولى تصحبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه، والثانية معرضة للزوال. الثالثة: السعادة الحقيقية، وهي سعادة نفسية روحية قلبية، وهي سعادة الإيمان بالله، والعلم به، وبدينه وبشرعه، فهذه السعادة هي الباقية على تقلب الأحوال، وبها يترقى في معارج الفضل، ودرجات الكمال، وهذه كلما طال الأمد زادت قوةً وعلواً، ويظهر أثرها بعد مفارقة الروح للبدن إذا انقطعت السعادتان الأولتان. وأهل هذه السعادة هم أسعد الناس في الدنيا والآخرة. {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

وهذه السعادة لا يعرف قدرها، ويبعث على طلبها، إلا العلم بها، وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها لوعورة طريقها وتعب تحصيلها، والجهل بقيمتها. ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه السعادة، وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حفت بحجاب من المكاره، وحجبوا عنها بحجاب من الجهل، ليختص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم. وسعادة العبد تتم بثلاثة أشياء: التوحيد .. وضده الشرك. السنة .. وضدها البدعة. الطاعة .. وضدها المعصية. ولهذه الثلاثة ضد واحد، وهو خلو القلب من الرغبة إلى الله، وفيما عند الله، ومن الرهبة من الله، ومما عنده. والإنسان لجهله يعتقد أن العزة في الدنيا بثلاثة أشياء: بالمال .. والمنصب .. والجاه. لكن الصحيح أن العزة في الدنيا والآخرة تحصل للإنسان بالإيمان والأعمال الصالحة، وطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. ومن استقام على أوامر الله، وقام بالدعوة إلى الله، وصبر على ذلك أعزه الله في الدنيا، وأكرمه بخمس كرامات: الأولى: أن الله يعزه وإن لم تكن عنده أسباب العزة كبلال. الثانية: أن الله يجعل جميع أعمال الدين محبوبة لديه. الثالثة: أن الله يجعل له محبة في قلوب الناس. الرابعة: أن الله يطوي بساط الباطل من حوله.

الخامسة: أن الله يؤيده بنصرة من عنده، فإذا دعا الله استجاب له. وأما في الآخرة فهو من المقربين في جنات النعيم. وتتحقق السعادة في الدنيا والآخرة بالدين الكامل، والطاعة التامة لله ورسوله في جميع الأحوال. والاستقامة تتحقق للعبد بأربعة أمور: الأول: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة لكل مسلم في كل مكان .. وفي كل زمان .. في فكره .. وفي عمله .. وفي عبادته .. وفي معاملته .. وفي معاشرته .. وفي أخلاقه .. وفي جهاده .. وفي دعوته .. وفي سلوكه .. وفي سائر أحواله، وأن تكون نساؤه قدوة لنساء العالم. الثاني: أن يكون مسجده - صلى الله عليه وسلم - أسوة لجميع المساجد في العالم في شكله وأعماله، وفي عمارته بألوان العبادة. الثالث: أن يكون بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة لجميع البيوت في العالم من حيث بناؤه وسعته وشكله، والأعمال التي تقام فيه، وما يجري فيه من حسن المعاشرة، وتطبيق السنن والآداب في جميع الأمور. الرابع: أن تكون مدينته - صلى الله عليه وسلم - أسوة لجميع المدن في العالم، من حيث محبة أهلها بعضهم لبعض، وإيثارهم وصدقهم، وحسن أخلاقهم ومعاملاتهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتعاطفهم وتراحمهم وتناصحهم. فبالاستقامة تتحقق السعادة في الدنيا والآخرة للأفراد والشعوب والأمم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. ومدار السعادة في الدنيا والآخرة على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا

نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين. فالاعتصام بحبله يعصم من الضلالة .. والاعتصام به سبحانه يعصم من الهلكة. فالاعتصام نوعان: اعتصام بالله كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. واعتصام بحبل الله كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. والاعتصام هو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف. فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل. والاعتصام بالله مما هو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه مما يضره، ويعصمه مما يؤذيه أو يهلكه. ومدار السعادة وقطب رحاها على التصديق بالوعيد، فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خرب خراباً لا يرجى معه فلاح البتة. والله تبارك وتعالى أخبر أنه إنما تنفع الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} [هود: 103]. وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45]. ومن كملت عظمة الخالق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص من الجناية التي توقعه فيه. ولا مناص للإنسان الذي يبتغي السعادة والراحة .. وطمأنينة القلب .. وصلاح الحال في الدنيا والآخرة .. من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه .. وفي نظام

حياته .. وفي منهج مجتمعه. وذلك ليتناسق مع النظام الكوني كله، الطائع لربه المنقاد لأمره. فلا يحل للإنسان أن ينفرد بمنهج من صنع نفسه لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه. وبتحكيم منهج الله في الأرض يحقق الإنسان وظيفة الخلافة في الأرض، كما وهبها الله له، وشرفه بها، واختاره لها. وحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن منهج الله لا يصطدم مع الكون فحسب، بل يصطدم أولاً بفطرته التي بين جنبيه فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق، ويحيا كما تحيا البشرية الضالة التائهة اليوم. فهي في عذاب يأكلها ويلعب بأحشائها من الداخل، وينخر في أجسادها من الخارج، خوف دائم، وقلق مستمر، ورعب وإرهاب، وجرائم تفتك بالأفراد والأمم والدول، فهي في عذاب دائم، على الرغم من جميع الانتصارات العلمية الباهرة .. وجميع التسهيلات الحضارية المادية .. والإنتاج الوفير .. والفراغ الكثير .. والرخاء المادي. إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير، خواء الروح من الإيمان التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليه. وخواء حياتها من المنهج الإلهي الذي ينظم حياتها، وينسق بين حركتها، وحركة الكون الذي تعيش فيه. ولذا تجد في هذه الأمة التائهة الشقاء والقلق، والحيرة والاضطراب، وتحس الخواء والجوع والحرمان، فتهرب من واقعها النكد المشين، إلى المسكرات والمخدرات، والشذوذ في الحركة واللباس والأخلاق، وكلما زاد الرخاء والإنتاج زادت الحيرة والمشاكل والاضطراب: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21].

وكل إنسان .. وكل بيت .. وكل مجتمع .. وكل دولة .. وكل أمة .. وكل أهل الأرض .. غرقى في المشاكل والظلم والحروب والفقر .. وكل يفتش في حل مشاكله في أنحاء الأرض. فطلبوا حل المشاكل في المناصب والأموال والأشياء، وفروا لتحصيل ذلك ليحلوا مشاكلهم، وكلما اجتهدوا زادت المشاكل، وتضاعفت المحن والمصائب والأمراض. فكانت المعاصي والفقر والخوف، والفرقة والتمزق، وتحول المجتمع إلى مجموعة من الوحوش المتناحرة، وتمرغ كثير من الناس في المحرمات والرذائل والفواحش، فزاد البؤس واليأس والفقر. فقالوا: نجتهد حتى نكسب الأموال .. وإذا جاءت الأموال نشتري الأشياء من مسكن ومركب، ومطعم ومشرب .. وإذا توفرت الأموال والأشياء تحل مشاكلنا. ثم توفر المال بيد المسلمين وغيرهم، وما زاد الأمر إلا اضطراباً وشدة فما السبب؟. السبب أن المسلمين يبحثون عن العلاج من غير الكتاب والسنة. فالله أرسل الرسل، وأنزل الكتب لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة. وإذا أخذ المسلمون بذلك تغيرت حياتهم .. ورضي الله عنهم .. كما تبدلت حياة أهل الجاهلية لما آمنوا .. فسعدوا بالأمن بعد الخوف .. وبالعلم بعد الجهل، وبالعدل بعد الظلم، وبالإيمان بعد الكفر، وبالعزة بعد الذلة. وفي الحياة طريقان: طريق الملك والمال والأشياء .. وطريق الإيمان والأعمال الصالحة. وطريق الملك والمال والأشياء فيه طريقان: إما أن يحصل به الفلاح والسعادة كما حصل لسليمان - صلى الله عليه وسلم -.

وإما الخسران كما حصل لفرعون مع وجود الملك والمال، بسبب عدم امثتال أوامر الله. وكذلك الزراعة كانت عند قوم سبأ فخسروا، لعدم امتثالهم أوامر الله. وكانت الزراعة عند الأنصار، ولكنهم ربحوا لامتثالهم أوامر الله. وكذلك التجارة كانت عند قوم شعيب فخسروا لعدم امتثالهم أوامر الله. وكانت التجارة عند المهاجرين فربحوا في الدنيا والآخرة لامتثالهم أوامر الله عزَّ وجلَّ. أما طريق الإيمان والأعمال الصالحة ففيه وجه واحد فقط، وهو الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وسعادة الإنسان مبنية على صلاح بدنه وروحه، وصلاح البدن والروح متوقف على مدى معرفة الواضع للتشريع بالذي يصلح العباد، وبقدر معرفة الواضع له بأحوال الخلق وظروفهم وما يصلحهم ظاهراً وباطناً، تكون الثمرة، وتحصل السعادة. ولا أعلم بالخلق من خالقهم، فلا يكون التشريع إلا لله، لأنه أعلم بالخلق وما يصلح أجسامهم وأرواحهم وحياتهم. والتشريع الذي وضعه الله لإصلاح البدن يدور على الأكل من الطيبات، وعلى تحريم ما حرم الله من المطعومات والمشروبات التي تضر البدن. وعلى تحريم المفاسد والمضار التي تضر بالإنسان في نفسه أو ماله أو عرضه أو عقله أو دينه، وهي الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على صيانتها والمحافظة عليها وهي: حفظ الدين .. والنفس .. والعرض .. والعقل .. والمال.

أما التشريع المتعلق بإصلاح الروح فإنه يدور على الوظائف والأعمال التعبدية التي شرعها الله، وأذن بفعلها كالصلاة والزكاة، والصيام والحج ونحوها. فهذه العبادات تزكي الروح وتطهرها. ومن علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه، زاد في تواضعه وخشيته .. وكلما زيد في عمله زاد خوفه وحذره .. وكلما زيد في عمره نقص من حرصه .. وكلما زيد في ماله زاد في سخائه وبذله .. وكلما زيد في قدره وجاهه زاد في قربه من الناس، وقضاء حوائجهم، والتواضع لهم .. وعلامات الشقاوة: أنه كلما زيد في علمه زاد في كبره وتيهه .. وكلما زيد في عمله زاد في فخره واحتقاره للناس، وحسن الظن بنفسه .. وكلما زيد في عمره زاد في حرصه .. وكلما زيد في ماله زاد في بخله وإمساكه .. وكلما زيد في قدره وجاهه زاد في كبره وتيهه. والله عزَّ وجلَّ كلف هذه الأمة بأمرين: الأول: إظهار الدين في حياة الإنسان في جميع الأحوال. الثاني: أن ينقل هذا الدين بالجهد إلى العالم كله. وجعل سبحانه سعادة القلوب بـ (لا إله إلا الله)، فكل قلب يخلو منها فهو أشعث مضطرب. وجعل سعادة الأبدان بـ (محمد رسول الله)، فكل بدن يخلو من السنن والأحكام والآداب والمعاشرات والأخلاق التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو في شقاء وضلال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. وأصل سعادة العبد وفلاحه بثلاثة أشياء: العبادة .. والاستعانة .. الهداية.

قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 5، 6]. فأسعد الخلق أهل العبادة، وأهل الاستعانة، وأهل الهداية. وأشقاهم من عدم ذلك. والهداية: معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله عالماً بالحق عاملاً به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء. فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها، وهي جعل العبد مريداً للهدى، محباً له مؤثراً له، عاملاً به. فهذه الهداية بيد الله وحده، لا يملكها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وطلب هذه الهداية لا يكون إلا ممن هو قادر عليها وهي بيده، وهو الله سبحانه، إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها لكونه ليس لها بأهل، ولا تليق به، وكل ذلك يجري وفق العلم والحكمة. وكل إنسان خلق الله فيه قوتين: قوة علمية .. وقوة عملية. وسعادته موقوفة على استكمال هاتين القوتين. واستكمال القوة العلمية يتم بخمسة أمور: الأول: معرفة الرب تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. الثاني: معرفة الطريق الموصل إليه، وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه، واستعانته با لله على عبادته. الثالث: أن يعلم أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، ولا سبيل له إلى الاستقامة إلا بهداية ربه له، كما لا سبيل له إلى عبادته إلا بمعونته.

الرابع: معرفة طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وهما انحراف إلى الضلال الذي سببه فساد العلم والاعتقاد، وانحراف إلى الغضب والمعاصي الذي سببه فساد القصد والعمل. أما استكمال القوة العملية فلا تتم إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على عباده، والقيام بها إخلاصاً وصدقاً على أكمل الوجوه، مع شهود تقصيره في أداء حقه سبحانه. فهو مستحٍ من مواجهة ربه الملك الجبار بتلك الخدمة، لعلمه أنها دون ما يستحقه سبحانه، لا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعرفته سبحانه. وقد تضمنت ذلك كله سورة الفاتحة كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 2 - 7]. فأول السورة رحمة .. وأوسطها هداية .. وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه من الهداية على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته سبحانه. وهو سبحانه رب العالمين، فلا يليق به أن يترك عباده سدى وهملاً، لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به. والله عزَّ وجلَّ هو المألوه المعبود، ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله، وهو سبحانه الرحمن الرحيم، ورحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. واسم الرحمن الرحيم متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات النبات.

فأسعد الناس المؤمن بربه، المطيع له، العابد له، وبسبب إيمانه وإخلاصه الله يحفظه من السوء والشرور، ويدفع عنه ما يضره، ويجلب له ما يسره ويسعده، ويغفر ذنوبه كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. وقد أجرى الله على عباده في الدنيا أحكامه الشرعية .. فمنه من آمن وهم السعداء .. ومنهم من كفر وهم الأشقياء. فأهل الإيمان والتقوى لهم المثوبة والسعادة في الدنيا والآخرة. وأهل الكفر والعناد لهم العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية. ويوم القيامة تجري على العباد أحكام الله الجزائية على ما عملوا من خير أو شر، وذلك يوم عظيم مشهود، يوم تجمع فيه الخلائق كلها لتستوفي أجر أعمالها في الدنيا، يشهده الله والملائكة وجميع المخلوقين: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} [هود: 105]. فالأشقياء: هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره. والسعداء: هم اللذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وأطاعوا أمره. فأما جزاء الأشقياء فهو الخلود في النار كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 106، 107]. وأما جزاء السعداء فهو الخلود في الجنة كما قال سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108]. وسعادة البشرية في الدنيا والآخرة مبنية على استقامتها على أوامر الله وتوحيده والإيمان به، وطاعته وطاعة رسوله، والسير على هديه في كل حال. وإذا تركت الأمة ذلك أو بعضه فقد أحلت بنفسها عذاب الله وعقابه، والله قادر

على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء، وكيف شاء، إذا عصوه وتركوا عبادته، فيستأصلهم ويدمرهم فوراً. والله سبحانه قادر على أن يعذبهم بعذاب بطيء طويل، لا ينهي أمرهم كله في لحظة، ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار، فيلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد، الذي يذوقونه بأيديهم، ويجرعونه لأنفسهم، إذ يجعلهم شيعاً وأحزاباً متداخلة لا يتميز بعضها من بعض، ولا يفاصل بعضها بعضاً. فهي أبداً في جدال وصراع وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصيب هذا الفريق أو ذاك، والله على كل شيء قدير، وهو بالناس رؤوف رحيم، وما ربك بظلام للعبيد: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65]. وقد عرفت البشرية في فترات كثيرة ذلك اللون من العذاب كلما انحرفت عن منهج الله، وتركت لأهواء البشر وشهواتهم ونزواتهم تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالات. وقد جاء ذلك صريحاً في القرآن في قصص الأنبياء، فنزلت بالأمم السابقة عقوبات متنوعة على جرائم مختلفة، كلما انحرف الناس عن منهج الله. والعالم اليوم يعيش في هذا العذاب البطيء المديد، بسبب إعراض أكثر المسلمين عن منهج الله، وكلما تخبط الناس وهم يصنعون أنظمة للحياة، وقوانين من عند أنفسهم يستعبد بها الناس بعضهم بعضاً، ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وقوانينه البعض الآخر. والبعض الآخر يأبى ويعارض، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض، فيتصارعون فيما بينهم، ويذوق بعضهم بأس بعض، ويحقد بعضهم على بعض، وينكر بعضهم بعضاً، لآنهم لا يفيئون إلى منهج واحد، وضعه لهم المعبود

الذي يعنو له كل العبيد. حيث لا يجد الإنسان في نفسه استكباراً عن الخضوع له، ولا يحس في نفسه صغاراً حين يخضع له لأنه حكم رب البشر: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وستظل الأمة شيعاً يذيق بعضها بأس بعض كما هو الواقع فما هو الحل؟. الحل الذي يرفع الشقاء والعناء عن الأمة، ويأتي بالسعادة للبشرية في الدنيا والآخرة .. أن تتميز العصبة المؤمنة بما أكرمها الله به من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق العالية .. وإقامة الشعائر والشرائع في حياتها .. وتستقيم على هذا متيقنة أن الله معها يؤيدها وينصرها .. وتتميز بذلك عن الجاهلية المحيطة بها. والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها، وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها .. باعتبار نفسها أمة متميزة عن غيرها من الذين يؤثرون البقاء على الجاهلية. ولا نجاة للعصبة المؤمنة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب، لا نجاةله إلا بأن تنفصل بإيمانها، ومنهج حياتها عن أهل الجاهلية، حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخل فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية، وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج. وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق، وهو خير الفاتحين: {اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. فإنه لم تفعل هذا حق عليها وعيدالله هذا .. وهو أن تظل مع غيرها شيعة من الشيع في المجتمع .. لا تتبين نفسها .. ولا يتبينها الناس مما حولها، وعند ذلك

يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد. وهذا التميز، وهذه المفاصلة .. قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات، غير أن ذلك لن يكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزها، ونتيجة اندماغها وتميعها في قومها .. والمجتمع الجاهلي من حولها. ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله في القرآن على أيدي جميع الرسل والأنبياء، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعد الله بغلبة رسله والذين آمنوا معهم، لم يقع مرة واحدة، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها، على العقيدة، وعلى منهج الحياة، وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها. وطريق هذه الدعوة واحد، ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعاً الذين اختارهم الله ورباهم وأرسلهم. فمتى تفقه الأمة كلام ربها، وتستجيب له، وتستقيم عليه؟. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65]. إن هذا الدين كامل وشامل، له حكم في كل مناسبة .. ليس مجرد عقيدة تستكن في القلب فحسب .. وليس مجرد شعائر تؤدى في أوقاتها .. إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه .. وفيما يشرعه ويسنه. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب .. ولم يأمرهم بالشعائر التعبدية فحسب .. ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله، ولا رجاء أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].

والتمسك بالكتاب في جد وقوة .. وأداء شعائر العبادة .. هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة وسعادة البشرية. فتحكيم هذا الكتاب في حياة الناس، لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة، لإصلاح قلوب الناس، هما طرفا المنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]. وما تفسد الحياة إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني، ترك الاستمساك الجاد بالكتاب، وتحكيمه في حياة الناس، وترك العبادة التي تصلح القلوب، فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص كالذي يصنعه أهل الكتاب حين تفتر القلوب عن العبادة، فتفتر عن تقوى الله كما حصل لأهل السبت حين احتالوا لأخذ الحيتان فقلبهم الله قردة خاسئين. إن الإسلام منهج متكامل يقيم الحكم على أساس الكتاب، ويقيم القلب على أساس العبادة لله، ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة. إنه منهج الله، لا يعدل عنه، ولا يستبدل به منهجاً آخر إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب. إن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه، لا في البر ولا في البحر، والبشر وجميع المخلوقات كلهم في قبضة الله في كل لحظة، وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر، كما هم في قبضته في الجو. فكيف يأمنون أن يخسف الله بهم إذا عصوه جانب البر، بزلزال أو بركان أو بغيرهما من الأسباب التي يأمرها الله فتفعل ما يشاء؟. أو يرسل عليهم عاصفة بركانية، تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار، فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلاً يحميهم ويدفع عنهم؟.

ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا، ثم يأمنوا أخذه وبطشه، وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة، ثم ينسونه بعد النجاة: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: 67 - 69]. فإن أعرض الناس عن ربهم في الشدة والرخاء، فتلك الطامة الكبرى، والتي بعدها تتنزل العقوبة فوراً كما قال سبحانه: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن: 17]. إن السعادة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا بالتوحيد والإيمان .. واتباع السنة .. وطاعة الله ورسوله. والله سبحانه لم يجعل السعادة في الملك والمال، وإلا لكان فرعون وقارون من أسعد الناس. وإنما جعل السعادة في أمرين، يسعد بهما الناس جميعاً الأمراء والعامة، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء وهما: الأول: (لا إله إلا الله) لإسعاد الروح. الثاني: (محمد رسول الله) لإسعاد البدن. فالروح لا يسعد إلا بالتوحيد والإيمان بالله. فنعظم الله ونكبره .. ونحمده ونشكره .. ونحبه ونتوكل عليه .. ونخافه ونرجوه .. ونعبده ونستعين به وحده لا شريك له .. وبذلك غذاؤه وشفاؤه. والبدن لا يسعد إلا بالأحكام والسنن والآداب الشرعية. فنصلي ونصوم، ونأكل ونشرب، ونلبس ونتزوج، ونبيع ونشتري .. وهكذا على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل عمل وحال له سنة.

فمن استقام على هذا فهو السعيد حقاً في الدنيا والآخرة، وبذلك ينال محبة الله ورسوله والملائكة وأهل الأرض والسماء، لأنه حقق مراد الله عزَّ وجلَّ منه بالإيمان والطاعة والعبادة. وكلما أكمل الإنسان السنن في حياته، جاءت السعادة والطمأنينة، وزاد نور القلب، وكلما فقدت سنة، جاء الشقاء والكدر، وأظلم القلب. اللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].

8 - فقه كون الحمد كله لله

8 - فقه كون الحمد كله لله قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]. وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1]. وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 2 - 4]. الله تبارك وتعالى أنعم على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وهذه النعم نوعان: نعم مادية .. ونعم روحية. فالنعم المادية هي كل ما خلقه الله في هذا الكون من أجل الإنسان كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. والنعم الروحية هي الدين الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، لإسعاد العباد في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وله سبحانه الحمد على جميع نعمه المادية والروحية حمداً كثيراً طيباً مباركاً، فيه ملء السماء وملء الأرض وملء ما شاء الله من شيء بعد. له الحمد سبحانه على نعمة الصحة والعافية .. وله الحمد على نعمة الأمن والرخاء .. وله الحمد على نعمة الطعام والشراب .. وله الحمد على نعمة

السكن واللباس، وله الحمد على نعمة المراكب في البر والبحر والجو .. وله الحمد على خلق الليل والنهار، وله الحمد على خلق الزروع والثمار .. وله الحمد على خلق ما يؤكل وما يركب من الحيوان. وله الحمد على نعمة الإسلام .. وعلى نعمة الهداية .. وعلى نعمة الاستقامة، وعلى نعمة الطاعة والعبادة. والله عزَّ وجلَّ رب العالمين، يربيهم بنعمه المادية والروحية. والمربون قسمان: منهم من يربي شيئاً ليربح عليه المربِّي .. ومنهم من يربي ليربح المربَّى. وتربية الخلق كلهم على القسم الأول، لأنهم يربون ليربحوا إما ثواباً أو ثناءً. والقسم الثاني: تربية الحق سبحانه، فهو يربينا بنعمه المادية والروحية، لنربح نحن، فهو يربي ويحسن من أجل الإنسان، بخلاف سائر المربين وسائر المحسنين، فهم يربون لمصالحهم. والله سبحنه يربينا ولا تنقص خزائنه، وغيره تنقص خزائنه. والله سبحانه وصل إحسانه إلى جميع الخلق، وغيره لعجزه إحسانه لقوم دون قوم، وفي وقت دون وقت، وفي حال دون حال. والله لا ينقطع إحسانه البتة عن الخلق، وغيره ينقطع بسبب الفقر أو الغضب، أو الحسد، أو الموت. ومن العجيب أن الله يربيك، كأنه ليس له عبد سواك، وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره، ويفتح لك أبواب خزائنه، وأنت واقف بباب أضعف خلقه. فما أعظم وما أحسن هذه التربية من الرب لعباده. أليس الله يرزقك ويطعمك ويسقيك كل يوم من غير عوض؟. أليس مولاك يمدك كل يوم بالصحة والعافية، والنور والهواء من غير عوض؟. أليس الله يحفظك في النهار من الآفات من غير عوض؟. أليس الله يحفظك بالليل من المخافات من غير عوض؟.

أليس الله والذي هداك إلى الصراط المستقيم وأعانك على سلوكه من غير عوض؟. والعبد لجهله وظلمه قد زج نفسه بالليل والنهار في أنواع المحظورات، وأقسام المحرمات والمنكرات، والله يوالي عليه نعمه وإحسانه. فما أعظم إحسان الله إلى عباده .. وما أحسن تربيته لهم .. وما أحبه لرحمتهم وإكرامهم .. وما أشد عنايته بهم: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]. إنه الملك القدوس السلام .. العزيز الجبار .. القوي القهار .. الحليم الكريم .. الرحمن الرحيم .. العليم الحكيم: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. إن أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك. فإذا كان عمرا لإنسان سبعين عاماً .. نصفها نهار .. ونصفها ليل .. فهو في النوم خمس وثلاثون سنة .. وفي اليقظة خمس وثلاثون سنة .. فإذا أخذنا منها خمس عشرة سنة قبل البلوغ .. فبقي عشرون سنة .. وفي هذه العشرين سنة أعذار وأحوال مختلفة: لعب ولهو .. وسفر ومرض .. وغفلة وسهو .. إلخ .. فيبقى عشر سنوات هي عمر الإنسان الديني .. وهذه العشر سنوات لا تعدل يوماً واحداً في الجنة .. وكان العدل أن يبقى في الجنة بقدر ما عمل، ولكنه فضل الله وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء، فله الخلود أبداً، والنعيم أبداً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 107، 108]. فمن قيد نفسه بأومر الله في هذه الحياة لساعات قصيرة في الدنيا، فالعدل أن يأخذ ثواب هذه الساعات مثلاً بمثل يوم القيامة.

ولكن الكريم المنان أعطاه حياة أبدية .. وسعادة أبدية .. وطيبات أبدية .. ولذات أبدية .. وخدمة أبدية .. وقصوراً أبدية .. وفوق ذلك كله رضاه سبحانه ورؤيته: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. فسبحان العزيز الغني الكريم، صاحب الجود والفضل والإنعام والإحسان وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا من نعمه الظاهر ة والباطنة في الدنيا وله الحمد والثناء والشكر على ما أعد لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم يوم القيامة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. والله تبارك وتعالى في هذه الحياة يعطي المؤمنين والكافرين من نعمه. وفي الكون من عطاء الله شيئان: شيء من نعم الله خلقه الله ينفعل لك ولغيرك مؤمناً أو كافراً بدون جهد، كالشمس والهواء والمطر، والحرارة والبرودة، والليل والنهار ونحوها. وشيء من نعم الله خلقه الله ينفعل بك مؤمناً أو كافراً، إذا قام به العبد وفق الأسباب التي خلقها الله، فمن زرع حصد، ومن اكتسب ربح، ومن تعلم علم، ومن تزوج أنجب. لكن المؤمن يزيد بحصول البركة في عمله، لأنه يذكر الله، ويستعين به، فتحصل له البركة كما قال سبحانه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. فالحمد كله .. والثناء كله .. والشكر كله .. لله رب العالمين: فهو سبحانه المحمود لذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وهو المحمود سبحانه على ما خلقه في العالم العلوي والسفلي. وهو المحمود على أوامره الكونية، وأوامره الشرعية. وهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم، وإيمانهم وكفرهم. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار، والملائكة والشياطين، وعلى خلق

الرسل وأعدائهم. وهو المحمود على عدله في أعدائه، وعلى فضله وإنعامه على أوليائه. فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. والحمد: هوالإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له. ومحاسن المحمود تعالى، إما قائمة بذاته وهي أسماؤه الحسنى وصفاته العلا، وإما ظاهرة في مخلوقاته. فأسماء الله كلها حسنى، ليس فيها اسم سوء. وصفاته كلها كمال، ليس فيها صفة نقص. وأفعاله كلها حكمة، ليس فيها فعل خالٍ عن الحكمة والمصلحة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]. فالله عزَّ وجلَّ هو المستحق للحمد كله، فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي. فهو المحمود على كل شيء، وإن كان بعض خلقه يُّحمد أيضاً، كما يحمد رسله وأنبياؤه وأولياؤه، فذلك من حمده تبارك وتعالى، وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده، فهو المحمود أولاً وآخراً. والله سبحانه له الملك، وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاء، وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه، فحمده أيضاً داخل في حمده. فما من محمود يحمد على شيء مما دق أو جل، إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية. وله سبحانه الحمد التام كله، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه فهو المحمود على كل حال، وعلى كل شيء، فله أكمل حمد وأعظمه،

كما أن له الملك التام العام، فلا يملك كل شيء إلا هو. فحمده سبحانه وحكمته في خلقه وأمره شامل لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة، وامتحان وبلية، وما يقضيه الله من طاعة ومعصية. والله تعالى محمود على كل ذلك مشكور، وله حمد المدح، وحمد الشكر. أما حمد المدح فالله تعالى محمود على كمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المحمود على كل ما خلق وأمر، فهو رب العالمين، والحمد لله رب العالمين. وأما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة في حق المؤمن، إذا اقترن بواجبه من الإحسان. والنعمة إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والابتلاء إذا اقترنا بالصبر كانا نعمة، والطاعات من أجل نعمه سبحانه. والمعاصي إذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة، والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضاً، وإن كان سببها مبغوضاً مسخوطاً للرب سبحانه، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار. والله سبحانه أفرح بتوبة عبده من فرح رجل أضل راحلته في أرض مهلكة، ثم طلبها وأيس منها ثم وجدها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ العَبْدِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أوْ مَا شَاءَ الله، قَالَ: أرْجِعُ إلى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ» متفق عليه (¬1). فهذا الفرح العظيم الذي لا يشبهه شيء، أحب إليه سبحانه من عدمه، وله ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6308) واللفظ له، ومسلم برقم (2747).

أسباب ولوازم لا بد منها، وما يحصل لتقدير عدمه من الطاعات، وإن كان محبوباً له فهذا الفرح أحب إليه بكثير. فله سبحانه من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة، ونعمة سابغة هذا بالإضافة إلى الرب سبحانه. وأما بالإضافة إلى العبد فإنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفاً على أسباب لا تحصل بدونها. فتقدير الذنب عليه، إذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار، كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه، وإن كان من الامتحان والابتلاء باعتبار صورته ونفسه. والرب سبحانه محمود على الأمرين: فإن اتصل بالذنب الآثار المحمودة للرب سبحانه، من التوبة والإنابة فهو عين مصلحة العبد، وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خبث نفسه وشره، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ الأعلى. والنفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل، ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها، ومساكنة من تليق مساكنته، ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحل الأسفل. فإن هذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك، فمن الحكمة أن تستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه. والرب سبحانه محمود على ذلك أيضاً، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه إلى أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلاً لنعمته تعالى. وحكمته وحمده تقتضي ألا يودع نعمه وإحسانه في محل غير قابل لها. والحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غير قابلة لنعمته، قد تقوم أن خلق الأضداد والمتقابلات، وترتب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته، وعلمه وعزته، وأن تقدير عدم ذلك هضم لجانب الربوبية.

وأيضاً فإن هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنها إذا وقعت فهو مأمور أن يجاهد أربابها بحسب الإمكان، فيترتب على الإنكار والجهاد من مصالح نفسه وبدنه، ومصالح دنياه وآخرته، ما لم يكن ينال بدون ذلك. والمقصود الأول إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية الحكمة، وكان في تمكين الكفار والفساق والعصاة من ذلك إيصال إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم له. وتمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، والمحبة الصادقة علامتها أن يبذل المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة، في مرضاة محبوبه، والتقرب إليه، فإن بذل روحه كان هذا أعلى درجات المحبة الصادقة. ومن لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها، أن يخلق ذواتاً وأسباباً، وأعمالاً، وأخلاقاً وطبائع، تقتضي معاداة من يحبه، ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها. وكل أحد يحب الإحسان والراحة، والدعة واللذة، ويحب من يوصل إليه ذلك. ولكن الشأن كل الشأن في محبته سبحانه، ومحبة ما يحبه، مما هو أكره شيء إلى النفوس، وأشق شيء عليها مما لا يلائمها. فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته، ويحب ما يحب، ممن يحبه لأجل نعمه ومخلوقاته، فإن أعطي منها رضي، وإن منعها سخط وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. فلولا خلق الأضداد، وتسليط أعدائه، وامتحان أوليائه، لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه،

والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه، والعطاء له، والمنع له، ولا عبودية ذل الأحوال والأرواح والقوى في جهاد أعدائه، ولا عبودية مفارقة الأهل والناس مع حاجته إليهم من أجل مرضاته سبحانه. ولا يتحيز إليهم، وهو يرى محاب نفسه وملاذها بأيديهم، فيرضى بمفارقتهم وموالاة الحق عليهم. فلولا الأسباب والأضداد التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار النافعة. وكذلك لولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد، لم تحصل له فضيلة الصبر، وجهاد النفس، ومنها من حظوظها وشهواتها محبةً لله، وإيثاراً لمرضاته، وطلباً للزلفى لديه، والقرب منه. وأيضاً فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية، بل كانت ملكية، فإن الله خلق خلقه أطواراً: فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها وجبلها على طاعته .. وخلق الحيوانات شهوات لا عقول لها .. وخلق الثقلين الجن والإنس .. وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة .. وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء .. وهم المعرضون للثواب والعقاب. فخلق سبحانه الملائكة وطبعهم على الخير، وخلق الشياطين وطبعهم على الشر، وخلق الثقلين وجعلهما محل الابتلاء. ولو شاء الله عزَّ وجلَّ لجعل خلقه على طبيعة واحدة، وخلق واحد، ولم يفاوت بينهم، ولكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة، ولو كان الخلق كله على طبيعة واحدة ونمط واحد لقيل هذا مقتضى الطبيعة، ولقيل كذلك لو كان الله فاعلاً بالاختيار لتنوعت أفعاله ومفعولاته، ولفعل الشيء وضده، والشيء وخلافه. فتنوع أفعاله سبحانه ومفعولاته، من أعظم الأدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه وقدرته.

ولهذا خلق الله عزَّ وجلَّ النوع الإنساني أربعة أقسام: أحدها: من خلقه لا من ذكر ولا أنثى، وهو أبوهم آدم. الثاني: من خلقه من ذكر بلا أنثى، وهي حواء خلقها الله من ضلع آدم. الثالث: من خلقه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح عيسى ابن مريم. الرابع: من خلقه من ذكر وأنثى، وهم سائر النوع الإنساني. وذلك كله ليدل عباده على كمال قدرته، وكمال حكمته، ونفوذ مشيئته، وأن الأمر ليس كما يظنه الكافرون به الجاحدون له، من أن ذلك أمر طبيعي. والطبيعة مخلوق من مخلوقاته، وعبد من عبيده، مسخرة لأمره، منقادة لمشيئته، لا تخلق ولا تفعل، ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضلاً عن إسناد الكائنات إليها. فتنوع المخلوقات واختلافها، من لوازم الحكمة والربوبية والألوهية، وهو أيضاً من موجبات الحمد، فلله الحمد على ذلك كله أكمل حمد وأتمه. وأيضاً فإن مخلوقاته هي موجبات أسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أثر لا بد من ظهوره فيه. وتنويع أسباب الحمد أمر مطلوب للرب محبوب له، فكما تنوعت أسباب الحمد تنوع الحمد بتنوعها، وكثر بكثرتها. والله تبارك وتعالى محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة .. كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان، فهو محمود على هذا .. ومحمود على ذلك .. وهو سبحانه المحمود على حلمه بعد علمه .. المحمود على عفوه ومغفرته .. المحمود على عفوه عن كثير من جنايات العبيد كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. فنبه سبحانه باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذي عفا عنه، وأنه لو عاجلهم بعقبوته، وأخذهم بحقه لقضي إليهم أجلهم، ولما ترك على ظهرها من

دابة. ولكنه سبحانه سبقت رحمته غضبه .. وعفوه انتقامه .. ومغفرته عقابه. فله الحمد على عفوه وانتقامه .. وله الحمد على عدله وإحسانه. والله عزَّ وجلَّ قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاء لفعل ذلك، لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأبى ذلك، وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة. فأقام سبحانه الحجة، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، ونوع الأدلة، ليعرف سبحانه، وليقيم على عباده حجته البالغة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149]. والله عزَّ وجلَّ هو الملك الذي كل ما في الكون ملكه، وحقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع .. والإكرام والإهانة .. والمثوبة والعقوبة .. والتولية والعزل .. وإعزاز من يليق به العزة .. وإذلال من يليق به الذل كما قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. والله تبارك وتعالى هو المحمود على ذلك كله. وهو سبحانه المحمود على قضاء حاجات العباد، وعلى إجابة دعائهم، وعلى تصريف وتدبير ما في الكون كله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. فهو سبحانه كل يوم هو في شأن: يغفر ذنباً .. ويفرج كرباً .. ويكشف غماً .. ويعطي سائلاً .. ويجيب داعياً .. وينصر مظلوماً .. ويأخذ ظالماً .. ويفك عانياً .. ويغني فقيراً .. ويشفي مريضاً .. ويجبر كسيراً .. ويعز ذليلاً .. ويرحم مسكيناً .. ويقيل عثرةً .. ويستر عورةً .. ويذهب بدولة .. ويأتي بأخرى .. ويرفع أقواماً .. ويضع آخرين .. فعال لما يشاء. فله الحمد على كل ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماء، وملء الأرض،

وملء ما شاء من شيء بعد. وهو سبحانه مالك الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، وتصرفه في الملك والممالك والمماليك دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة، والرحمة واللطف، فلا يخرج تصرفه عن ذلك. فله الحمد كله على خلقه وأمره وتدبيره. والملك والحمد في حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه شمله حمده، فهو المحمود في ملكه، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، فهو المحمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناء ومدح، ويجمعها التبارك كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. والحمد أوسع الصفات وأعم المدائح، لأن جميع أسمائه حمد، وصفاته كلها حمد، وأحكامه حمد، وأفعاله حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد. والله عزَّ وجلَّ هو الملك الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، ولكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. العالم بكل شيء، الذي لكمال علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها الملك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب. البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، ويرى جريان دمها في عروقها وعظامها النحل، ويسمع ويرى دبيب الذرة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.

ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع. السميع الذي يسمع كل شيء، واستوى في سمعه سر القول وجهره، الذي وسع سمعه الأصوات فلا يخفى عليه شيء، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا صوت عن صوت، ولا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الطلبات والحاجات والسؤالات. القدير الذي لا يعجزه شيء، ولكمال قدرته يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً، والبر براً، والفاجر فاجراً. فهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه، ويهدون بأمره، وجعل فرعون وآله وقومه أئمة يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعلمه إياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك إليه. ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأرض، وهو المحيط بكل شيء، ولم يحط به أحد من مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء، القاهر فوق كل شيء. لا تنفذ كلماته ولا تبدل، ولو كانت بحار الأرض مداداً، وأشجار الأرض أقلاماً، وكتب بذلك المداد وتلك الأقلام، لنفد ذلك المداد، وفنيت تلك الأقلام، ولم تنفذ كلمات الله كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]. كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، لا يعاقب أحداً بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعل مالا قدرة له على تركه. شكور يحب الشاكرين .. حميد يحب الحامدين .. محسن يحب المحسنين ..

رحيم يحب الرحماء .. غفور يحب المستغفرين .. تواب يحب التوابين. فكل صفة عليا، وكل اسم حسن، وكل ثناء جميل، وكل حمد ومدح، وكل تسبيح وتنزيه، وكل إجلال وإكرام، فهو لله عزَّ وجلَّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، سبحانه وبحمده لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه. فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه. فهذا أحد نوعي حمده وهو حمد الأسماء والصفات. النوع الثاني: حمد النعم والآلاء. وهذا معلوم مشهود للخليقة، برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، والتكرم بها من غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها. وحبب سبحانه إلى خواص خلقه الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين. فله الحمد والشكر على جميع آلائه وإحسانه. وكتب سبحانه في قلوب أوليائه الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه. فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً، وكما يعطي جزيلاً. وتحبب إليهم بنعمه، مع غناه عنهم، وتبغضهم إليه بالمعاصي، وشدة فقرهم وحاجتهم إليه. ومع هذا فأعد لهم إذا آمنوا به وأطاعوه داراً حسنة، وأعد لهم فيها ما لا عين

رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين. ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير من العمل، في هذه المدة القصيرة بالنسبة إلى البقاء في دار الخلود. وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم. وذكرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمةً منه وإحساناً، لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حمايةً وصيانةً لهم، لا بخلاً منه عليهم، فله الحمد والشكر حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده. وفتح لهم أبواب العلم والهداية، وعرف لهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، فله الحمد والشكر عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته. وأعلم عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ومن أراد مطالعة أصول النعم المادية والروحية، الظاهرة والباطنة، فليتأمل القرآن من أوله إلى آخره، وسيرى ما عدد الله فيه من نعمه، وتعرف بها إلى عباده، وتوفيقه لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ومنازل هؤلاء، ومنازل هؤلاء. فقد خلق الله البشر وابتلاهم بإبليس وحزبه، وتسليط أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى، لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها. فلله على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه، وإكرامه

لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدره: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)} [الجاثية: 36]. والشكر: معناه طاعة المنعم، ويكون في ثلاثة مواضع: في القلب .. واللسان .. والجوارح. ومعنى كونه في القلب أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، ويرى لله فضلاً عليه، وأن كل النعم في الكون من الله، وأعظمها نعمة الإسلام. وشكر اللسان أن يتحدث بنعم الله على وجه الثناء على الله بها، والاعتراف بأنها منه سبحانه، لا على سبيل الفخر والخيلاء. وشكر الجوارح: أن تستعملها بطاعة المنعم سبحانه في كل حال. فشكر الله على نعمة الإيمان .. أن تعمل بموجبه الطاعات، وتعلمه الناس. وشكر الله على نعمة العلم .. أن تعمل به وتعلمه الناس. وشكر الله على نعمة العافية .. أن تستعمل البدن فيما يرضيه سبحانه. وشكر الله على نعمة الطعام .. أن تستعمله فيما خلق له، وتستعين به على طاعة الله، وتطعم منه خلقه. وهكذا في بقية النعم حمد وشكر وثناء ومدح للمنعم، الذي شمل بنعمه عموم خلقه، يعطي بلا سؤال، وإذا أعطى أجزل في العطاء، يأمر بالأمر لمصلحة العبد، ويعين على فعله، ويقبله إذا فعل، ويثيب عليه بالثواب الجزيل الدائم الذي لا ينقطع: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وحقيقة الحمد يجب أن توجه إلى الله وإن توجهت إلى غيره مجازاً، لأنه سيؤول إليه، فأنت لا تحمد فلاناً لأنه أعطاك بذاته، وإنما أعطاك لأن الله أعطاه فأعطاك، وأمره أن يعطيك فأعطاك، وحبب ذلك إليه فوضعه في يدك. فهو سبحانه المحمود على ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المحمود على جماله وجلاله، وهو المحمود على نعمه وآلائه، وهو المحمود على حلمه

ولطفه، وهو المحمود على قضائه وقدره، وهو المحمود على دينه وشرعه. فـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1]. و: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1]. و: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]. وأصول الشكر وقواعده التي لا يكمل إلا بها ستة: خضوع الشاكر للمشكور سبحانه .. وحبه له .. واعترافه بنعمه .. وثناؤه عليه بها .. واستعمالها فيما يحب الله .. وعدم استعمالها فيما يكره. ومتى نقص منها واحدة اختلت قاعدة من قواعد الشكر للرب. وأسباب الشكر ومنابعه كثيرة: فحياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر .. والمعرفة بعظيم حلم الله شكر .. والمعرفة بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر .. والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر .. وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر .. وتلقي النعم بحسن القبول شكر .. واستعظام صغيرها شكر .. ووضعها في مكانها شكر .. وصرفها في طاعة الله حسب أمر الله شكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12]. والله عزَّ وجلَّ هو المنعم بجميع النعم، والنعم كلها أثر من آثار رحمته. وتربية الله لخلقه نوعان: تربية عامة .. وتربية خاصة. فالعامة: هي خلقه للمرزوقين ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيته لأوليائه المؤمنين، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم،

ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه بالتوفيق لكل خير، وعصمتهم من كل شر. فله الحمد والشكر على كماله وجلاله وجماله وآلائه وإنعامه وإحسانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65]. له الملك كله فلا يخرج مخلوق عن ملكه، والحمد كله له: حمد على ما له من صفات الكمال، وحمد على ما خلقه من الأشياء .. وحمد على ما أسداه من جزيل النعم .. وحمد على ما شرعه من الأحكام .. الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه (¬1). فكل ما خلقه الله هو نعمة، ودليل على قدرة الله، وعلى حكمته. وكل مخلوق فيه نعمة تستوجب من الخلق الحمد والشكر لله. والحمد لله على كل حال، لأنه ما من حال يقضيها الله، إلا وهي نعمة على عباده، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

شيء قدير. هو المحمود على خلقه .. وعلى علمه .. وعلى رحمته .. وعلى حكمته .. وعلى حلمه .. وعلى نعمه .. وعلى قدرته .. وعلى كماله وجلاله وجماله. والحمد لله أحق ما قال العبد، يقوله المسلم في كل صلاة، وفي كل خطبة، وفي كل أمر ذي بال، وفي كل حال. فلله الحمد والشكر على كل حال، لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان.

9 - فقه الولاء والبراء

9 - فقه الولاء والبراء قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} [الممتحنة: 13]. الله تبارك وتعالى ولي المؤمنين، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والشيطان ولي الكفار، والكفار والمنافقون بعضهم من بعض. والفرق بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان: أن أولياء الرحمن: هم المؤمنون المتقون الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، وتحصل لهم كرامات بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة كنزول المطر بالاستسقاء، وشفاء المريض بالدعاء ونحو ذلك. وهؤلاء لهم العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64]. أما أولياء الشيطان: فهم الضالون المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة، إما بعبادة غير الله، أو بعبادة لم يشرعها الله. وهؤلاء تتمثل لهم الشياطين، ولهم أحوال شيطانية، وهم من جنس الكهان، يكذبون تارة، ويصدقون تارة، وفي أعمالهم يخالفون أوامر الله، وتقترن بهم الشياطين، لكنها لا تقترن بهم وتعينهم إلا مع نوع من البدعة، إما كفر وإما فسق، وإما جهل بالشرع.

فتحمل الشياطين أحدهم في الهواء، وتخبره ببعض الأمور الغائبة، وقد تأتيه بنفقة أو كسوة أو طعام ونحو ذلك من الأحوال الشيطانية، فتجد أحدهم ظالماً مرتكباً للفواحش، وملابساً للخبائث من النجاسات والأقذار التي تحبها الشياطين كما قال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء: 221 - 223]. وكل من أعرض عن الله التحق به شيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37]. وقد نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موالاة الكافرين، وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم. ومن صور موالاة الكفار: التولي العام لهم .. المودة والمحبة لهم .. الركون إليهم .. مداهنتهم وموالاتهم .. مجالستهم ومزاورتهم .. مصاحبتهم ومعاشرتهم .. الرضا بأعمالهم .. مشاورتهم وطاعتهم .. تقريبهم في المجالس .. استعمالهم في أمور المسلمين .. اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين .. البشاشة لهم وإكرامهم .. تعظيمهم وتسويدهم .. السكنى معهم في ديارهم .. استئمانهم وقد خونهم الله .. معاونتهم في أمورهم .. التشبه بهم، ونحو ذلك من صور الموالاة. والمؤمن لا يستقيم إيمانه، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح بهم بالعداوة والبغضاء كما قال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وقوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى

تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. والناس في الولاء والبراء ثلاثة أقسام: الأول: من يجب علينا محبته محبة خالصة، وهم المؤمنون وفي مقدمتهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، وفي مقدمتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أهل بيته الطيبون، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الكرام، خاصة الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة المفضلين، والمهاجرون والأنصار، وأهل بدر وبيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم، ثم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين. الثاني: من يبغض ويعادي، فلا محبة له ولا موالاة، وهم الكفار والمشركون، والمنافقون والملاحدة، والمرتدون ونحوهم كما قال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. لكن من لم يؤذ المسلمين منهم فيحسن بره والإحسان إليه لعل هذا يكون سبباً لهدايته. الثالث: من نحبه من وجه، ونبغضه من وجه، وهم عصاة المؤمنين، نحبهم لما فيهم من الإيمان، ونبغضهم لما فيهم من المعاصي التي هي دون الكفر، ومحبتنا لهم تقتضي مناصحتهم والدعاء لهم، والإنكار عليهم، حتى يتوبوا ويكفوا عن معاصيهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (49).

وقد وقع الناس في البلاء بسبب عدم التمييز بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، والفرقان أعز ما في العالم، وهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن يفرق به بين الحق والباطل، ويزن به حقائق الأمور خيرها وشرها، وصالحها وفاسدها. ومن فقد الفرقان وقع ولا بد في أشراك الشيطان وحبائله. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من ضده. فعلى المسلم أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والحج والأعياد، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله، والدعوة والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات. فإن دعت الحاجة إلى مخالطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم، فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكنه أذى يعقبه عزٌ له ومحبة وتعظيم، وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين. وموافقتهم على الشر يعقبه ذل له وبغض، ومقت وذم، منهم، ومن المؤمنين ومن رب العالمين. وإن دعت الحاجة إلى مخالطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعةً لله إن أمكنه، فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً ببدنه، غائباً بفكره، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية. وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. وقد حذرنا الله عزَّ وجلَّ من موالاة اليهود والنصارى، وكل من لا ينتمي إلى الإسلام، ولا يقف تحت رايته فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى

أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51]. فأهل الكتاب بعضهم أولياء بعض، فقد حاربوا الإسلام والمسلمين منذ زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهذه الحرب سواء كانت سافرة معلنة، أم مستورة مبطنة .. وهذه العداوة، وهذا الكيد، وهذ الحسد، وهذا الظلم. كل ذلك وصف لهاتين الأمتين، الذين غضب الله عليهم ولعنهم، بسبب كفرهم وظلمهم وفسادهم. وإذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض .. فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم .. وكل فرد يتولاهم من الصف الإسلامي .. إنما يخلع نفسه من صف المسلمين .. ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف .. ويلحق نفسه بأحفاد القردة والخنازير الذين كفروا بالله .. وقتلوا الأنبياء .. وسعوا في الأرض فساداً .. وأكلوا أموال الناس بالباطل .. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .. واتبعوا وحي الشياطين .. ونقضوا العهود والمواثيق، وصدوا عن سبيل الله. فكيف يتولاهم مسلم وهذه صفاتهم؟ .. وكيف يتولى قوماً غضب الله عليهم ولعنهم؟. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} [الممتحنة: 13]. ألا ما أضل الإنسان حين يترك الدين وموالاة المؤمنين، ويتولى أحفاد القردة والخنازير: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60]. وكل مسلم تولى اليهود والنصارى فإنه ظالم لنفسه، وظالم للمسلمين، مسيء إلى الدين، ومن تولاهم أدخله الله في زمرتهم، ولا يهديه إلى الحق، ولا يرده إلى الصف المسلم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144].

إنه لا يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى، ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم. إن ولاء المسلم لكل من يرفع راية الحق، ولا ولاء لمن يرفع راية الباطل. إن الإسلام يأمر أهله أن تكون علاقاتهم بالناس جميعاً على أساس العقيدة، فالولاء والبراء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة، ومن ثم لا يكون الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم، إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة، وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه. فالدين هو الإسلام، وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام، وبعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -. وما كان يقبل قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - من النصارى لم يعد يقبل الآن، كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى - صلى الله عليه وسلم - لم يعد يقبل منهم بعد بعثته. ووجود يهود ونصارى بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي .. كلا. فلا دين بعد بعثة محمد إلا الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وإذا كان الإسلام لا يُكره اليهود والنصارى على ترك معتقداتهم، واعتناق الإسلام فليس معنى هذا أنه يعترف بما هم عليه ديناً، أو يراهم على دين. ومن ثم وعلى هذا فليس هناك دين مع الإسلام، هناك دين وهو الإسلام، وهناك لا دين وهو غير الإسلام. والمسلم مطالب بحسن معاملة أهل الكتاب وغيرهم ما لم يؤذوه في الدين، ومطالب أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو سائر الكفار إلى الإسلام سواء.

وهو غير مأذون له في أن يكره أحداً من هؤلاء وهؤلاء على الإسلام، لأن الإيمان لا يدخل القلوب بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له، ولا منفعة منه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]. فالإسلام جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب وعموم الكفار، ويدعوهم للدخول فيه، لأنه الحق وحده، وما سواه باطل غير مقبول. فلا ولاء إذاً بين المسلمين وأهل الكتاب لا من ناحية الإيمان، ولا من ناحية إقامة منهج الله في الحياة، فكيف يكون التولي؟. وكيف يكون تعاون المسلم مع من لا يؤمن بالإسلام ديناً ومنهجاً ونظاماً للحياة؟. فالولي هو الله، والناصر هو الله، والاستنصار بغيره ضلالة، كما أنه عبث لا ثمرة له، ولكن لا يواليهم إلا من في قلبه مرض من المنافقين الذين لا يدركون حقيقة الإيمان: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52]. فالواجب على المسلمين أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى فضلاً عن سائر الكفار، لأنهم بموالاتهم يكونون معهم، ويرتدون بذلك عن الإسلام، ومن ارتد عن الإسلام بهذا الولاء أو بغيره فليس عند الله بشيء، وليس بمعجز الله، ولا ضار لدينه. ولله أولياء وناصرون مدخرون في علم الله، إن ينصرف هؤلاء، يجيء الله بهؤلاء، يقومون بكل ما تركه أولئك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].

فالله على كل شيء قدير، يختار من عباده المؤمنين من يقوم بإقرار دين الله في الأرض، وتمكين سلطانه في حياة البشر، وتحكيم منهجه في حياتهم، وتنفيذ شريعته في خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن رفض هذا الفضل، فالله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم، من قوم يحبهم ويحبونه، ولا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي، الذي يعرف من هو الله. وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته، وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً، وفضلاً من الرب جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه، وتعريفه هذا المذاق الجميل، هو إنعام هائل عظيم، وفضل من الله جزيل: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]. فليست العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع، بل بين الله وعباده علاقة الرحمة، علاقة العدل، علاقة الإحسان، علاقة العفو، علاقة الود: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. وقد حدد الله للمؤمنين جهة الولاء الوحيدة، والتي تتفق مع صفة الإيمان، وبين لهم من يتولونه بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]. وهكذا كشف الله جهة الولاء بأن تكون لله ورسوله والمؤمنين، وأن يكون الإسلام هو الدين، ويكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وغيره. ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان، أو مجرد راية وشعار، أو مجرد كلمة تقال باللسان، فإن الله وصف المؤمنين الذين يتولاهم المسلم ويتولونه بأنهم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون ربهم. والله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة به، والتوكل عليه، والولاء له وحده،

ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية، وفي مقابل نبذ الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله، يعدهم النصر والغلبة والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وماذا يبقى من الكرامة للمسلم إذا أهين دينه، وأهينت عبادته، وأهينت صلاته، واتخذ موقفه بين يدي ربه مادةً للهزء واللعب؟. فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الأفعال الشنيعة؟. فليحذر المسلم من موالاة هؤلاء كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 57، 58]. فما يستهزئ بدين الله، وعباده المؤمنين به، إنسان سوي العقل، فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله دلائل الإيمان بالله، وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الدلائل والآيات، لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله. فالوجود كله يوحي بأن له إلهاً يستحق العبادة والإجلال والتعظيم، والحمد والشكر، والعقل حين يصح ويستقيم، يستشعر جمال العبادة وجلالها لإله هذا الكون فلا يتخذها هزواً ولعباً وهو صحيح مستقيم. وقد وقع هذا الاستهزاء واللعب من الكفار واليهود والنصارى وما زال يقع، فكيف يواليهم المسلم؟. إن الإسلام يأمر أهله بالسماحة، وحسن الخلق، وحسن المعاملة، مع أهل

الكتاب، خاصة النصارى، ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعاً. لأن الولاء هو النصرة، ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار، وكيف تكون النصرة مع اختلاف الدين والعمل والهدف؟. وكيف يتولى المسلم هؤلاء وهم كفار؟ {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)} [المائدة: 61] وكيف يوالي المسلم أهل الكتاب وهم يسارعون في الشر، ويتسابقون في الإثم والعدوان، وأكل الحرام، خاصة اليهود: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)} [المائدة: 62] وعلامة المجتمع الخيِّر الفاضل أن يسود فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يوجد فيه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأن يوجد فيه من يستمع إلى من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. وهذه صفة المسلمين الذين قال الله عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110] أما أهل الكتاب فقد لعنهم الله وغضب عليهم بعد كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وعدوانهم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. فكيف يوالي هؤلاء هؤلاء؟ وهما متواجهان متقابلان؟. وكيف يوالي المسلم أهل الكتاب وهم لا يقيمون الدين في نفوسهم ولا في حياتهم؟. فهم ليسوا على شيء من الدين كما قال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى

شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68] إن دين الله له روح وجسد .. ليس رايةً ولا شعاراً ولا وراثة .. دين الله حقيقة تتمثل في النفس والحياة .. تتمثل في عقيدة تعمر القلب .. وشعائر تقام للتعبد .. ونظام يصرف الحياة ورفق منهج الله .. ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل الشامل الجامع المانع. ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وحياتهم، فأين أهل الكتاب من هذا؟. إن البشرية كلها تنقسم في نظر المسلم إلى صفين: صف المؤمنين .. وصف الكافرين .. على مدار الرسالات .. وعلى مدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة بكل دين .. وبكل عقيدة من عند الله هي أمته، وأهلها هم إخوانه من لدن آدم إلى بعثة خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة .. وفي كل دين .. وفي كل زمان .. فيوالي المؤمنين .. ويتبرأ من الكافرين .. ويؤمن بالرسل جميعاً .. ويكفر بالطواغيت جميعاً. إن البشرية لا تنقسم في تقرير المسلم إلى أجناس، وألوان، وأوطان، ولغات. إنما تنقسم إلى أهل الحق، وأهل الباطل، وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل من كانوا، وأين كانوا، في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل حال. وهكذا يتوحد الميزان الذي يقيم به الإنسان أياً كان، ويرتفع المسلم عن عصبية الجنس واللون، واللغة والوطن، إلى القمة العليا التي تصل الإنسان بالرب إيماناً وعبادة وتقوى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. إنها قيمة الإيمان التي تشمل الجميع .. ويقوم بها الجميع .. ويحاسب بها

الجميع .. وعليها يوالي المسلم ويعادي .. ويحب ويبغض .. ويسالم ويحارب .. فالمؤمنون إخوانه .. والكفار أعداؤه. فلا يجوز للمؤمنين موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم في أمر من أمور المسلمين أبداً إلا عند الضرورة كما قال سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} [آل عمران: 28]. ومدار السعادة في الدنيا والآخرة على الاعتصام بالله .. والاعتصام بحبله. فأما الاعتصام بالله فإنه يعصم من الهلكة .. وأما الاعتصام بحبل الله فإنه يعصم من الضلالة. فالاعتصام بالله: معناه التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101]. والاعتصام بحبل الله: معناه التمسك بكتابه وشرعه الذي يحمي من البدعة وآفات العمل كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، أنت مولانا، فنعم المولى، ونعم النصير: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155].

الباب الخامس كتاب التوحيد

الباب الخامس كتاب التوحيد ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه التوحيد 2 - خطر الجهل 3 - خطر الكفر 4 - خطر الشرك 5 - خطر النفاق 6 - فقه التوفيق والخذلان 7 - فقه حمل الأمانة 8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

1 - فقه التوحيد

1 - فقه التوحيد قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110] التوحيد: هو أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده هو رب كل شيء ومليكه، وأنه وحده الخالق الذي يدبر الكون كله وحده، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال، منزه عن كل عيب ونقص، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا. والتوحيد: مراد الله من عباده، وهو أحب شيء إلى الله، وهو المقصود من خلق الجن والإنسان، بل خلق الكون كله. والتوحيد: ألطف شيء وأنزهه، وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كالثوب الأبيض يدنسه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها. ولهذا تشوشه وتؤثر فيه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية. فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه والتخلص منه. والتوحيد: مفزع أولياء الله وأعدائه. فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها كما قال الله عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65] وأما أولياؤه فينجيهم من كرب الدنيا والآخرة. ولذلك فزع إليه نوح - صلى الله عليه وسلم - فأنجاه الله، ومن آمن به، وأغرق من كفر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ

الْعَظِيمِ (76)} [الصافات: 75 - 76]. وفزع إليه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فنجاه الله من النار، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68 - 69]. وفزع إليه يونس - صلى الله عليه وسلم - فنادى ربه، وهو في بطن الحوت في ظلمات البحر فنجاه الله كما قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88]. وفزع إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى المدينة فحفظه الله، وفي بدر فنصره الله كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. وفزع إليه أتباع الرسل، فنجوا مما عُذب به المشركون في الدنيا، وما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة. ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند معاينة الموت لا يقبل، وهذه سنة الله في عباده لا تتبدل كما قال سبحانه: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 18]. وقوة التوحيد والإيمان تقهر ما يضادها وتحرقه. ومن الناس من يكون توحيده عظيماً كبيراً، ينغمر فيه كثير من الذنوب ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه، فيخلط توحيده الضعيف بما خالط به صاحب التوحيد العظيم توحيده فيسقط ويهلك. وصاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات، يسامَح بما لا يسامَح به مَنْ أتى مثل تلك السيئات، وليست له تلك المحاسن.

فما حصلت المطالب إلا بالتوحيد، ولا دفعت الشدائد إلا بالتوحيد، ولا ظفر بالجنة إلا بالتوحيد، ولا نجاة من النار إلا بالتوحيد، ولا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فالتوحيد مفزع الخلائق كلها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها. ولله عزَّ وجلَّ على كل عبد ثلاثة أمور: أمر يأمره به .. وقضاء يقضيه عليه .. ونعم ينعم بها عليه. فواجبه في الأمر الطاعة .. وواجبه في القضاء الصبر .. وواجبه في النعم الشكر .. وهو لا ينفك عن هذه الثلاثة. والتقصير والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فلا بدَّ له مع تلك الثلاثة من الاستغفار الكثير المستمر، لعظمة حجم النقص، والتقصير في حق الرب. والقضاء نوعان: إما مصائب .. وإما معائب. وأحب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه، من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب كلها. فعبوديته في الأمر امتثاله إخلاصاً واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعبوديته في النهي اجتنابه خوفاً من الله، وإجلالاً له، وحياءً منه، ومحبة له. وعبوديته في قضاء المصائب الصبر عليها، ثم الرضا بها، وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها، وهو أعلى من الرضا. وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكن حب الله من قلبه، وعلم حسن اختياره له، وبره به، ولطفه به، وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كرهها. وعبوديته في قضاء المعائب المبادرة إلى التوبة منها، ووقوفه أمام ربه في مقام الاعتذار والانكسار، مستيقناً أنه لا يرفعها إلا هو، ولا يقيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرت أبعدته من قربه، وطردته من بابه. فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن، فهو

عائذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجير وملتجئ إليه. يعلم يقيناً أنه إذا تخلى عنه، وخلى بينه وبين نفسه، وقع في أمثالها أو شر منها، وأنه لا سبيل إلى الإقلاع عنها والتوبة منها إلا بتوفيقه سبحانه وإعانته، وأن ذلك كله بيده سبحانه لا بيد غيره. ويستيقن أنه أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه، أو يأتي بما يرضي سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته. فهو ملتجئ إليه، ملق نفسه بين يديه، يعلم أن الخير كله بيديه، وأنه ولي نعمته، أعطاها له بدون سؤال، وابتدأه بها من غير استحقاق، وأجراها عليه، وساقها إليه، مع تبغضه إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته، فحظه وحقه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظ العبد الندم والنقص والعيب والتقصير. فالحمد كله لله رب العالمين، والفضل كله منه، والمنَّة كلها له، والخير كله في يديه. فمنه سبحانه الإحسان، ومن العبد الإساءة، ومنه التودد إلى العبد بنعمه، ومن العبد التبغض إلى ربه بمعاصيه. وأما عبودية النعم: فمعرفتها والاعتراف بها أولاً، وعدم إضافتها إلى سواه وإن كان سبباً، فهو مسببه ومقيمه، فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار، ثم الثناء بها عليه، ومحبته عليها، وشكره باستعمالها في طاعته. ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه .. ويستقل كثير شكره عليها .. ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها .. وأنها لله لا للعبد .. فلا تزيده النعمة إلا انكساراً وذلاً وتواضعاً ومحبة للمنعم .. وكلما جدد الله له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة، وخضوعاً وذلاً .. وكلما أحدث له قبضاً أحدث له رضىً .. وكلما أحدث العبد ذنباً أحدث له توبة وانكساراً واعتذاراً. فهذا هو العبد الكيِّس: الذي عرف أن مولاه واحد، بيده كل شيء، ومنه كل شيء، فأحبه وتولاه، ولزم بابه.

فليس للعبد غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن تخلى عنه وأهمله هلك، لأنه ليس له من يعوذ به ويلوذ به غير سيده، وهو عبد مربوب مدبر مأمور منهي، يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، وليس عند العبد عمل إلا تنفيذ أوامر سيده، والعمل بما يرضيه. فهؤلاء هم عبيد الطاعة الذين آمنوا بربهم، وهم المضافون إليه سبحانه في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65] ومن عداهم عبيد القهر والربوبية وهم الكفار، وشأنهم شأن الملوك والأحرار، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهي إضافة مبنية على الملك والاقتدار. لا على الطاعة والامتثال. والعبد حقاً من يعبد ربه في جميع أحواله: فيكون عبداً مطيعاً من جميع الوجوه صغيراً أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، معافىً أو مبتلى، بالقلب واللسان والجوارح. فالعبد وما يملك لسيده ومولاه، لا يتصرف إلا بأمره، وكيف يكون له في نفسه تصرف، ونفسه بيد ربه، وناصيته بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه. وموته وحياته، وسعادته وشقاوته، وعافيته وبلاؤه، كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو ومن في العالم العلوي والسفلي في قبضته سبحانه، فكيف يرجو أو يخاف غيره؟. فمن شهد ذلك صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته ومعرفته. ومعرفة الله نوعان: الأولى: معرفة إقرار: وهي التي اشترك فيه جميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]

والثانية: معرفة توجب الحياء من الله، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إليه، والأنس به، ومحبته، والإنابة إليه، والفرار من الخلق إليه. وهذه أعلى المعارف وأعظمها، وتفاوت الخلق فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم. وكل يعبد الله ويطيعه ويتلذذ بذلك بحسب تلك المعرفة، وما كشف له منها، وقد قال أعرف الخلق به: «لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (¬1). وأشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور في القلوب، وتفاوت أهلها في ذلك النور لا يحصيه إلا الله عزَّ وجلَّ. فمن الناس من نور (لا إله إلا الله) في قلبه كالشمس .. ومنهم من نورها في قلبه كالقمر .. ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري .. ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم .. ومنهم من نورها في قلبه كالسراج المضيء .. وآخر كالسراج الضعيف .. وهكذا. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوب المؤمنين من نور هذه الكلمة. وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معه شبهة، ولا شهوة، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً. فأي شبهة، أو شهوة أو ذنب أو معصية دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا عند غفلته، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعاف مكسبه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (486).

فهو هكذا مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزائنه، وولى الباب ظهره، وتركهم يسرقون ويفسدون. وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه فقط. بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها. ولا يحصل هذا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بدَّ من قول القلب وقول اللسان. ومعرفة الله لها بابان واسعان: الباب الأول: النظر والتفكر في آيات الله المتلوة، والنظر والتفكر في آيات الله المشهودة. وتأمل حكمته فيها وقدرته، ولطفه وإحسانه وعدله، ويتم ذلك بمعرفة أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر. فيكون العبد فقيهاً في أسماء الله وصفاته .. فقيهاً في أوامره ونواهيه .. فقيهاً في قضائه وقدره .. فقيهاً في الحكم الديني الشرعي .. فقيهاً في الحكم الكوني القدري .. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. والله سبحانه المالك لهذا الكون، يدبره بحكمته، ويتصرف فيه بما يشاء، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، وفي قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، وفي ثوابه وعقابه. خبره كله صدق .. وقضاءه كل عدل .. وأمره كله مصلحة .. وما نهى عنه كله مفسدة .. وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته .. وعقابه لمن يستحق

العقاب بعدله وحكمته. وحكم الله في عباده نوعان: حكمه الديني الشرعي .. وحكمه الكوني القدري. والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني القدري لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه. والقضاء هو الإتمام والإكمال، وإنما يكون بعد مضيه ونفوذه، فالحكم الذي نفذه الله في عبده عدل منه فيه، وذلك يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وعفو كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» أخرجه أحمد (¬1). فجعل المضاء للحكم، والعدل للقضاء. وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه، وقد يشاء تنفيذه، وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينياً فهو ماضٍ في العبد، وإن كان كونياً، فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه على كل شيء قدير، يمضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء، ويقدر أمراً، ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي ما شاء في أي وقت شاء، وفي أي مكان شاء. وصلاح الحياة واستقامتها إنما تتم إذا كان الآمر في المملكة واحداً، فإن تعدد الآمرون بالحركات تعارضت حركات البشر بعضهم مع بعض وتعاندت، ثم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4318)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).

فسدت الحياة والأحياء. فالوحدانية أساس استقامة حركة الحياة. فكما نوحده سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كذلك نوحده بعبادته وطاعته وحده لا شريك له. فنطيع أمره وحده، ونجتنب نهيه وحده، ونؤمن به وحده .. ونتوكل عليه وحده، ونعبده وحده، ونستعين به وحده. فلكي لا تتعاند الأقوال والأفعال، والأوامر والحركات، لا بدَّ أن يكون الهدف واحداً، والآمر واحداً، فإن اختلفت الأهداف، وتعدد الآمرون كان الفساد والفوضى. والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. والعابد حقاً من يأتمر بأوامر الله في جميع الأحوال، والشعائر كالصلاة والأذكار تعينك وتعطيك القوة ليزيد إيمانك، فيسهل عليك امتثال أوامر الله في كل حال. والتوحيد هو الأصل العام الذي يرتبط بجميع الأعمال، وهو القاعدة التي ترجع إليها جميع التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات. فيجب قبل الدخول في الأوامر والنواهي .. وقبل الدخول في التكاليف والفرائض .. وقبل الدخول في الشرائع والأحكام .. أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم .. كما يعترفون بألوهيته وحده لهم في عقيدتهم. لا يشركون معه أحداً في ألوهيته .. ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته. فالشرك بكل أقسامه وصوره هو المحرم الأول، لأنه يجر إلى كل محرم، وهو المنكر الأول الذي يجر إلى كل منكر. فيجب فوراً حشد الإنكار كله له، حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله .. ولا رب لهم إلا الله .. ولا حاكم لهم إلا الله .. ولا مشرع لهم إلا الله. فمعرفة التوحيد أول واجب، وأعظم واجب على كل إنسان كما قال سبحانه:

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور: أحدها: بل أعظمها التفكر في سنن الله وآياته الكونية، وآياته الشرعية، ثم تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فذلك يوجب بذل الجهد في التأله والتعبد للرب الكامل الصفات. الثاني: العلم بأن الله هو المتفرد بالخلق والتدبير، ومنه يعلم أنه المستحق للعبادة، المتفرد بالألوهية. الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بهبة النعم الظاهرة والباطنة، المادية والروحية، الدنيوية والأخروية، فذلك يوجب تعلق القلب به، محبة ورغبة، وخوفاً ورهبة. الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه، القائمين بتوحيده، من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين. الخامس: معرفة الطواغيت التي فتنت الناس، وصرفتهم عن دين الله وكتبه ورسله، وأنها ناقصة باطلة من جميع الوجوه، لا تملك لنفسها ولا لعبَّادها نفعاً ولا ضراً. السادس: أن خواص الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعلماً، وهم الأنبياء والرسل والملائكة والعلماء الربانيون قد شهدوا بذلك كما قال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18]. وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله). لها وزن وثقل .. ولها عظمة .. ولها قيمة .. ولها قوة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن نبي الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة، قال لابنه: «إِنِّي قَاصّ ٌعَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّ

السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْر» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (¬1). فكلمة التوحيد وزنها عظيم، فلو كانت لا إله إلا الله في كفة، وسبع أرضين بجبالها وسهولها .. وبحارها وأنهارها، ومدنها وقراها .. وإنسها وجنها .. وحيواناتها وطيورها .. وذهبها وفضتها، ومعادنها وحديدها .. وترابها ونباتها، وما في ظاهرها وما في باطنها .. والسموات وما فيها من النجوم والكواكب .. السماء الأولى بملائكتها .. وهكذا إلى السابعة .. والجنة وكل ما فيها من القصور والحور، والولدان والغلمان، والأنهار، وجبريل وميكائيل وإسرافيل .. والصور وكل ما تحت العرش في كفة. فلو وضعت السموات والأرض وما فيهما كما سبق في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله. فمن كانت في قلبه كلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) كيف يكون وزنه عند الله؟ وكيف تكون منزلته عند الله؟ وكيف تكون جنته يوم القيامة؟ والدين أول ما يبنى من أصوله، ويكمل بفروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله: من التوحيد والإيمان، والأمثال والقصص، والوعد والوعيد. ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة: من الأذان والإقامة، وصلاة الجمعة والجماعة، والجهاد والصيام، وتحريم السرقة والزنا، والخمر والميسر، وغير ذلك من واجباته ومحرماته. فأصوله تمد فروعه وتثبتها وتقويها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها. وإذا جرد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (6583)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (558). انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (134).

العبد التوحيد لله، خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله. فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه، وخوفه منه، واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفاع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا. وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم وأكمل، وإن مَزج مُزج له، وإن كان مرة ومرة، كان الله له مرة ومرة. وكلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) مركبة من جملتين: (لا إله) نفي .. (إلا الله) إثبات. فالنفي أن يخرج فكره ويقينه عما سوى الله، من الأرض إلى السماء .. ومن الذرة إلى أعظم جبل .. ومن قطرة الماء إلى البحر .. ومن البعوضة حتى الفيل .. ومن النملة حتى جبريل .. ومن أصغر مخلوق إلى أكبر مخلوق. فكل هذه مخلوقات ليس بيدها ولا بيد غيرها من المخلوقات نفع ولا ضر، فكلها ليست بإله، وإنما هي مخلوقة مملوكة مقهورة بأمر الله. (إلا الله): إثبات الألوهية لله وحده، فيركز فكره ويقينه بأن الله وحده هو الإله الواحد الأحد القهار، فيعبده وحده ويطيعه، فإذا اعتقد ذلك أتبعه بشهادة أن محمداً رسول الله، فيتبعه في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، لأن الله بعثه إلينا رحمة بنا وبالعالمين جميعاً، لنقتدي به كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والخلق والإيجاد، والتصريف والتدبير من صفة الربوبية. والدين والشرع، والأمر والنهي، من صفة الألوهية. والجزاء بالثواب والعقاب، والجنة والنار، من صفة الملك. فأمر الله خلقه بإلهيته .. وأعانهم ووفقهم، وهداهم وأضلهم بربوبيته .. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله.

فهو محمود في إلهيته .. ومحمود في ربوبيته .. ومحمود في رحمته ... ومحمود في ملكه كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويهدي ويضل. فكيف يتوجه الناس إلى غيره وهذه صفاته .. وهذه أفعاله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. وقد فطر الله الناس على التوحيد، والفطرة فطرتان: الأولى: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله، ومحبته، وإيثاره على ما سواه. الثانية: فطرة تتعلق بالبدن، وهي فطرة عملية، وقد أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ (أوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ» متفق عليه (¬1) فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تزكي البدن وتطهره وتجمله. وتوحيد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله هو الأصل، ولا يغلط في توحيد العبادة إلا من لم يعطه حقه، فمن عرف الله أطاعه وخافه ورجاه. وتوحيد العبادة أشهر نتائج توحيد الربوبية. وكذلك الصبر، والرضا، والتسليم، والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، كل ذلك من نتائج توحيد الربوبية. فإن توحيد العبادة إنما يكون بعد معرفة الرب، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه وآلائه ونعمه، ومعرفة مخلوقاته. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5889)، ومسلم برقم (25)، واللفظ له.

والتوحيد هو أساس الأعمال كلها، وهو قلبها ولبها وروحها، فكل عمل ليس معه التوحيد فهو باطل ولو كان على السنة، فقبول الأعمال له شرطان: أن تكون خالصة لله، وأن تكون على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110] فالقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده بكل شيء، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره، ولا يعتمد على أحد من خلقه. فالله وحده هو القوي عنده، وهو القاهر فوق عباده، والعباد كلهم ضعاف مهازيل لا يملكون له نفعاً ولا ضراً. فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم، وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. والله وحده هو الغني وما سواه فقير، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بأنه الإله الذي يصرف الوجود كله، ومن ثم لا يختار غير ما اختار الله من الأحكام والشرائع، بل يطيع أمره وشرعه. والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت قدرة الله في هذا الكون من أشياء وأحياء، فيأنس بالله، ويتفكر في مخلوقاته، ويتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء، أو التصرف في شيء إلا بإذن الله. خالق كل شيء .. ورب كل شيء .. ومالك كل شيء. والقلب المؤمن بحقيقة التوحيد .. هو القلب الذي عرف الله فتعلق به، ولم يلتفت إلى أحد سواه. فهو يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدىً وبصيرة، لأن قلبه وبصره معلق باتجاه واحد، ولأنه لا يعرف إلا مصدراً واحداً للحياة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للعطاء والمنع. فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، ويعبد رباً واحداً، يعرف ماذا يرضيه

فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه. والمخلوقات كلها أولها وآخرها، وصغيرها وكبيرها، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، وهي كالميت لا تعمل ولا تتحرك إلا بإذن الله، ومثالها كالحجر لا ينفع ولا يضر ولا يتحرك إلا إذا جاءت قوة خارجة أقوى منه فحركته، وهكذا كافة المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله وإرادته. والمخلوقات قسمان: شكل للنفع كالطعام والماء .. وشكل للضرر كالنار والسم. وكل المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله لا بذاتها، وهي مملوكة مأمورة مدبرة. فالنَّار التي ألقي فيها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مظهر للضرر، ولكن لما جاء إليها أمر الله لنصرة وليه، قلب حالها الذي خلقها، فصارت نافعة، وكانت برداً وسلاماً على إبراهيم. والماء الذي يشربه قوم نوح مظهر للنفع، فجاء إليه أمر الله بالضرر فأغرق من كفر واستكبر من قوم نوح. فالطيبات كلها أشكال للنفع، فإذا جاء إليها أمر الله بالضرر انقادت وأطاعت فضرت بإذن الله من شاء الله. والطعام وإن جعله الله شكلاً للنفع، فهو لا ينفع ولا يضر بنفسه، فهو مخلوق ليس بيده شيء. يأكله الصغير فيكبر، ويأكله الضعيف فيسمن، ويأكله الكبير فيضعف، ويأكله الشاب فأحياناً يزيد، وأحياناً ينقص، وأحياناً لا يزيد ولا ينقص، فالفعال هو الله وحده لا شريك له. والطعام خلقه الله، وأنعم به على خلقه، وهو سبب يتلذذون به، ويمتثلون أوامر الله عند أكله، وهو مملوك مربوب لا ينفع ولا يضر كغيره إلا بإذن الله. والخبائث والمؤذيات والمهلكات كلها أشكال للضرر، فإذا جاء إليها أمر الله

بالنفع نفعت وانقادت وأطاعت لأمر ربها. وحقيقة التوحيد: التعلق بالله وحده ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وعدم التعلق بغيره، أو الالتفات إلى ما سواه. فحصول الضرر والنفع .. واختلاف الليل والنهار .. وتبدل الحر بالبرد .. وحصول الجوع والشبع .. والأمن والخوف .. والصحة والمرض .. والعزة والذلة .. والفقر والغنى .. ليست بذاتها .. بل أمر الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. فالموحد لا يتعلق قلبه بالأسباب النافعة كالطعام والدواء مثلاً، ولا يتعلق بالأسباب الضارة كالنار والسموم، بل يتعلق قلبه بالله وحده، الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وبيده مقاليد الأمور. و {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)} [الحديد: 5]. والله عزَّ وجلَّ ابتلى كل إنسان بثلاثة أشياء: ابتلاه بالمصائب، لينظر أين يتوجه القلب في جميع الأحوال، إلى الله أم إلى الأسباب؟. فقلب المؤمن يتوجه عند الجوع إلى الله، وعند المرض إلى الله، وقلب الكافر يتوجه عند الجوع إلى الطعام، وعند المرض إلى الدواء .. وهكذا .. وابتلاه الله بالشهوات والأوامر، لينظر من يقدم أوامر الله على الشهوات، فالمؤمن يقدم أمر الله على المباحات، ومحبوبات النفس، والكافر يقدم محبوباته وشهواته على كل شيء. وابتلاه بالحلال والحرام، ليعلم من يخافه بالغيب كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} [المائدة: 94]. فالمؤمن إيمانه يدفعه للانتفاع بالحلال، واجتناب الحرام، في جميع الأحوال، والكافر يقترف المحرمات والكبائر، لأنه ليس لديه إيمان يحجزه عن

المحرمات والكبائر. والتوحيد يقوم على ثلاثة أصول: الأول: الاعتقاد واليقين بوحدانية الله، ومكانه القلب. الثاني: النطق والإقرار، ومكانه اللسان. الثالث: العمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، ومكانه الجوارح. فإن أخل العبد بشيء من هذه لم يكن المرء مسلماً. فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند مستكبر كفرعون وإبليس. وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يعتقده باطناً. فهو منافق أشرُّ من الكافر. والتوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان: الأول: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو سبحانه الكامل وحده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، الذي بيده كل شيء، خالق كل شيء المالك لكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي ليس كمثله شيء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. الثاني: توحيد في القصد والطلب، وهو توحيد العبادة، وهو إفراد الله بجميع أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، فيتيقن العبد ويقر أن الله وحده ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه. فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، والتوكل والاستعانة، والذبح والنذر ونحوها إلا لله وحده دون سواه. ومن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 117]. والله تبارك وتعالى وحده هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولكماله

وجلاله وجماله وإحسانه، استحق أن يعبد وحده لا شريك له. فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، وأن يعظم غاية التعظيم .. وأن يخضع له غاية الخضوع .. فهو وحده المعبود الذي تألهه القلوب وتحبه وتخضع له، وتذل له، وترجوه وتخافه، وتنيب إليه عند الشدائد، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتسكن إليه، وتطمئن بذكره وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وقد اجتهد الشيطان لإفساد هذا اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بين عموم البشر. فزيَّن لآدم وزوجه الأكل من الشجرة، ليحصل لهما الملك والخلد بزعمه كما قال الله عن الشيطان: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} [طه: 120]. فأكل آدم من الشجرة، وعصى ربه، ثم تاب إلى ربه، فتاب الله عليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. وزيَّن الشيطان كذلك لقوم نوح أن يصوروا الصالحين من الأموات ليتذكروهم ويتعظوا بعبادتهم، وينشطوا للعبادة إذا رأوهم. ثم زيَّن لهم أن البناء على قبورهم، والعكوف عندها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب. ثم نقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور، والإقسام به على الله في قضاء الحوائج، لمكانته عند الله. فلما تقرر ذلك عندهم. نقلهم إلى دعاء الميت وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور والزهور، ويطاف به، ويستلم، ويحج إليه، ويذبح عنده. فلما تقرر ذلك عند هؤلاء وألفوه، والشياطين تعينهم لما أشركوا بالله غيره،

نقلهم الشيطان منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً يقصده الناس من كل مكان. فلما تقرر ذلك عندهم، زيَّن لهم الشيطان ونقلهم منه إلى اعتبار أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وحط من قدرهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام. وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد؛ ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس منهم وعنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه، ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: 34]. فهذه خطوات الشيطان في إفساد يقين العباد على ربهم، وإغرائهم بعبادة الأصنام من دون الله، وقد حذرنا الله منه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. والتوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم هو إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهم، فمن عبد الله ليلاً ونهاراً، ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)} [النحل: 51]. ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد اتخذ إلهين اثنين، وهذا هو الشرك الذي حذرنا الله منه، وأمرنا بالتوحيد في جميع الأحوال كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو المؤمن الموحد الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو المشرك، ومن عبد غيره

من دونه فهو الكافر الجاحد. والناس كلهم مأمورون بالتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. والتوحيد يرد الأشياء كلها إلى الله وحده خلقاً وإيجاداً، وبقاء واستمراراً، ونفعاً وضراً، ونجاة وهلاكاً، وحياة وموتاً، وغنى وفقراً. والكفر والشرك يرد الأشياء كلها إلى غير الله. فالتوحيد أعدل العدل .. والشرك أظلم الظلم. ومن علامات ضعف التوحيد واليقين: ضعف الدعاء، وهو غير تركه، فتركه استكبار .. وعدم الكلام عن عظمة الله .. وعدم التحدث بنعمه .. وقلة ذكره .. وقلة حمده وشكره .. وعدم الثناء عليه .. وعدم نشر دينه وشرعه .. وقلة ذكر أسمائه وصفاته .. وتعظيم المخلوق .. وكثرة ذكره .. وثقل الطاعات عليه .. وخفة المعاصي عليه .. وقلة الرغبة في سماع كلامه .. وعدم الطمأنينة والسكينة في مجالس الذكر. والله عزَّ وجلَّ واحد لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. هو وحده أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخير الرازقين، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وله ملك الدنيا والآخرة. وهو وحده الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء، ويفرج الكربات، ويقيل العثرات. وهو وحده الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر، ويرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده. وهو سبحانه الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات ما لا يحصيه إلا هو، الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، وسبحت بحمده الأرض والسماوات.

وهو سبحانه الذي لا تسكن الأرواح إلا بحبه، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تزكو العقول إلا بمعرفته، ولا تحيا القلوب إلا بلطفه، ولا يقع أمر إلا بإذنه، ولا يزول إلا بأمره، ولا يزيد ولا ينقص إلا بعلمه ومشيئته. وهو سبحانه الذي لا يهتدي ضال إلا بهدايته، ولا يستقيم معوج إلا بتقويمه، ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته، ولا يحفظ شيء إلا بكلاءته، ولا يحصل شيء إلا بإذنه، ولا يفتتح أمر إلا باسمه، ولا يتم شيء إلا بحمده. وهو سبحانه الذي لا يُدرك محبوب إلا بتيسيره، ولا تنال سعادة إلا بطاعته، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأوسع كل مخلوق فضلاً وبراً. وهو سبحانه الرب الحق، الإله الحق، الملك الحق، المتفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه، المتفرد بالجلال المطلق من كل الوجوه، المتوحد بالجمال المطلق من كل الوجوه، المبرأ من النقائص والعيوب من كل الوجوه. لا يبلغ المثنون وإن استوعبوا جميع الأوقات بكل أنواع الثناء ثناء عليه، بل ثناؤه على نفسه أعظم وأكبر وأشمل من ثناء الخلق عليه. سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} [الزمر: 4]. إن مدلول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) يقتضي أن تكون الحاكمية العليا لله وحده في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في تدبير الكون سواء. فهو سبحانه الحاكم الذي يحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو الحاكم الذي يحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته. وبناء على هذا لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه .. ولا يتقدم بالشعائر التعبدية إلا لله وحده .. ولا يتلقى الشرائع والأوامر في شئون الحياة إلا من الله وحده .. ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يشرع أو يحكم في شيء من هذا كله مع الله. وإن من الغيورين على الإسلام اليوم وقبل اليوم من يتحدثون لتصحيح شعيرة

تعبدية، أو استنكار انحلال أخلاقي، أو مخالفة من المخالفات، وهذا واجب، ومن قام به مأجور. لكن أوجب منه إنكار المنكر الأكبر، وهو قيام حياة الناس على غير التوحيد في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق وغيرها. والمرض المنتشر في العالم اليوم هو تصدع جدار التوحيد، فالناس يتوجهون في عباداتهم إلى الله، ويتوجهون في قضاء حاجاتهم إلى غير الله، من الناس والأحوال والأشياء والأحجار والأشجار والأموات والحيوانات. ولإزالة هذا المرض الخطير نتوجه إلى الله في كل شيء، فهو الذي بيده كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، والقادر على كل شيء. نتوجه إلى الله وحده لقضاء حوائجنا في جميع الأحوال، والله بيده خزائن الأموال، وبيده تغيير الأحوال، ولا ننظر إلى أحوالنا مهما كانت شديدة، فالله على كل شيء قدير: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ليس معه قوة ولا جيش، ولكن الله معه، فقلب الله سبحانه سلاح الأعداء وهو النار من ضار إلى نافع، وصارت النار بأمر الله برداً وسلاماً على خليل الرحمن. والمشركون في بدر معهم قوة الأسباب، والمؤمنون مع رسول الله قلة في العدد والعدة، لكن الله معهم، فتوجهوا إليه فنصرهم، وأهلك أعداءهم. فالمؤمن حقاً هو الذي يعلم ويتيقن أن الملك والتصريف والتدبير بيد الله تعالى لا بيد غيره. فلا يرى نفعاً ولا ضراً .. ولا حركة ولا سكوناً .. ولا ظلمة ولا نوراً .. ولا خفضاً ولا رفعاً .. ولا قبضاً ولا بسطاً .. ولا حياة ولا موتاً ... إلا والله عزَّ وجلَّ خالقه وفاعله ومدبره، فلا يحصل في ملكه سبحانه حركة ولا سكون، ولا حياة ولا موت، ولا نفع ولا ضر إلا بإذنه وأمره وإرادته سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1].

وأهل التوحيد متفاوتون في توحيدهم علماً ومعرفة وحالاً تفاوتاً لا يحصيه إلا الله الذي خلقهم ويعلم سرهم ونجواهم. فأكمل الناس توحيداً الأنبياء والرسل، والمرسلون منهم أكمل في ذلك. وأولو العزم من الرسل أكمل توحيداً وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وأكمل أولي العزم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فقد قاما بالتوحيد بما لم يقم به غيرهما، علماً ومعرفة، وحالاً وجهاداً، ودعوة للخلق إلى ربهم. فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم من أجله، وصبروا على إبلاغه. ولهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. ولما قاموا بحقيقة التوحيد جعلهم الله أئمة الخلائق، يهدون بأمره، ويدعون إليه، وجعل الخلائق تبعاً لهم كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. إن التوحيد هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأخذ بها الميثاق عليهم في ذات أنفسهم، وهم بعد في عالم الذر. فالاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الخالق فيه، وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: 172 - 174]. فالله عزَّ وجلَّ قد فطر البشرية كلها على التوحيد، أما الرسالات فتذكير وتحذير

لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى، فيحتاجون إلى التذكير والتحذير فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ بداية خلقهم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. فلا حجة لهم في نقض الميثاق، حتى لو لم يبعث الله إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم، ولكن رحمة الله وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف، وألا يكلهم إلى عقولهم فقد تضل، فبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ومذكرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ألا ما أعظم قدرة الخلاق العليم، إنه مشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته، وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى وهي تجمع وتستشهد وتخاطب خطاب العقلاء، وتستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد، ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب. إنه مشهد عظيم، مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تقف أمام الذي خلقها وفطرها، فيسألها ألست بربكم؟ فتعترف كلها لله بالربوبية .. وتقر له سبحانه بالعبودية .. وتشهد له سبحانه بالوحدانية .. وهي منثورة كالذر في الكثرة والحجم. إن الإنسان ليصيبه الذهول .. ويرتعش من أعماقه .. وهو يتملى هذا المشهد العظيم .. ويتصور هذا الذر السابح .. وفي كل خلية حياة .. وفي كل خلية استعداد كامن للاستماع والفهم والإجابة .. وفي كل خلية إنسان كامل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور .. ويقطع على نفسه العهد والميثاق بالتوحيد قبل أن يبرز إلى حيز الوجود. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ

يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآيَة. [الروم: 30]. متفق عليه (¬1). وقد أنشأ الله البشر مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، أودع هذا في فطرة كل حي فهو ينشأ عليه، حتى ينحرف عنه بفعل فاعل يفسد إيمانه، ويميل به عن فطرته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم (¬2). فالتوحيد ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها، مودع في كل خلية منذ نشأتها، وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات، وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله سبحانه. فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها، ولا سبيل إلى أن يقول أحد إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد. أو يقول إني خرجت إلى هذا الوجود فوجدت آبائي على الشرك، ولم يكن أمامي سبيل إلى معرفة التوحيد، إنما ضل آبائي فضللت فهم المسئولون وحدهم، فلن يقبل هذا كله يوم القيامة: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172، 173]. ولكن الله رؤوف بالعباد، يعلم أن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف، فرحمة منه بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به، حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، ليستنقذ فطرهم من الانحراف، ويستنقذ عقولهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1358) واللفظ له، ومسلم برقم (2658). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2865).

ولو كان الله تبارك وتعالى يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى، دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات، لأخذ الله عباده بها. ولكنه سبحانه رحمهم بعلمه، فجعل الحجة عليهم هي الرسالة، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: 174]. يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله، وإلى ما أودعه الله في نفوسهم من قوى البصيرة والإدراك. وذلك كفيل بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب التي ضلت، وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد، ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير. وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي عهد الله الذي عقده مع البشر، المركوز في طبيعة كل حي أن يعرف خالقه، ويتجه إليه وحده بالعبادة. فإذا نقض هذا العهد العظيم فقد دخل في الشرك الذي لا يغفر الله لصاحبه. ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه .. فالله هو فاطر السموات والأرض .. وهو خير الناصرين. وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرزاق المطعم للخلائق كلها. ففيم الولاء لغير صاحب السلطان المنعم الرزاق؟: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} [الأنعام: 14]. وقد كان كفار قريش يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يداً أخرى للإغراء والمصالحة واللين، وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر الله رسوله أن يقذف هؤلاء بالاستنكار العنيف، والحسم الصريح بقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]. ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟

ولماذا يعرض نفسه للشرك الذي نهى الله عنه؟ ولماذا يخالف الإسلام الذي أمره الله به؟ إن كان ذلك كله رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا، فهذا كله بيد الله، وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب، وله القهر على العباد، وبيده وحده النفع والضر، والعطاء والمنع: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17]. وهل يكون الإنسان مسلماً لله في عبادته، بينما هو يتلقى من غير الله في شئون الحياة، وبينما هو يخضع لغير الله، ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله؟ والمحبة الصادقة لله تقتضي توحيد المحبوب في كل شيء، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، التي تستلزم كمال التعظيم لله، مع كمال الذل له، وكل محبة لغير الله فهي عذاب ووبال على صاحبها. ومن أعرض عن محبة الله، وذكره، والشوق إلى لقائه، ابتلاه بمحبة غيره، وعذبه بها في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة. فإما أن يعذبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصلبان، أو بمحبة المردان .. أو بمحبة النسوان .. أو بمحبة الدينار .. أو بمحبة الغناء والفحش .. وغيرها مما هو في غاية الحقارة والهوان. والإنسان عبد محبوبه كائناً ما كان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. والله سبحانه رب السموات والأرض وما فيهن، وهو الخالق وحده، القاهر وحده، الذي له الأمر كله، وما سواه مخلوق مربوب مقهور مأمور، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16].

والله سبحانه هو الواحد القهار .. المدبر للكون والحياة، العليم بالظواهر والبواطن، والحق والباطل، والباقي والزائل. فمن آمن به ووحده واستجاب لأمره فله الجنة، ومن أشرك به ولم يستجب لأمره فله النار {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} [الرعد: 18]. وهو سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، وهو الرقيب المسيطر عليها في كل حال، فكيف يجعل له البشر شريكاً الله خالقه ومالكه، وهو رقيب عليه: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [الرعد: 33]. إن هؤلاء ستروا نفوسهم عن دلائل الهدى .. فحقت عليهم سنة الله .. ومن اقتضت سنة الله ضلاله .. لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد .. لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد. والكفار إن أصابتهم قارعة في الدنيا فهو عذاب، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق وتوقع الشر، وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب. ومواجهة كل حادث وكل مصيبة بلا إدراك الحكمة عذاب، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أدوم وأشق: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. إن المؤمن حقاً هو الذي يعلم أن إلهه هو الذي يستحق أن يكون رباً لا رب سواه، ولا حاكم سواه، ولا مشرع سواه، ولا متصرف سواه، ولا معبود سواه، ولا مالك سواه. ومن ثم فهو يعبد الله وحده، ويدين له وحده، لا في أوقات الصلاة فحسب، بل

في كل شأن من شئون الحياة. إن عبادة الأصنام والأوثان والأحجار وسائر الأوثان التي كان يزاولها أهل الجاهلية لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، وإنما هي صورة من صور الشرك بالله التي يجب تغييرها، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له. والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها في ميادين الحياة في كل زمان ومكان. إن التوحيد هو الدينونة لله في كل شيء، والشرك بالله يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة خالصة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة، فالرب واحد، والمعبود واحد، والمطاع واحد، والآمر واحد لا شريك له: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. إن العبد الذي يتوجه إلى الله بالاعتقاد في ألوهيته وحده .. ثم يدين لله في الوضوء والصلاة، والصوم والحج، وسائر الشعائر .. بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاجتماعية والاقتصادية لشرائع من غير الله .. ويدين في قيمه وأخلاقه وأزيائه لأرباب من البشر .. تفرض عليه هذه الأخلاق والمعاملات والأزياء مخالفة لشرع الله وأمره .. فتارة ينفذ أوامر الله .. وتارة ينفذ أوامر البشر .. يدين لربه في حال .. ويدين لغيره في حال. إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويخالف شهادة أن (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) في أخص حقيقتها. فأي إيمان؟ .. وأي توحيد؟ .. وأي اقتداء مع هذا الخلط العجيب؟. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].

إن الإسلام هو الدين الحق الذي جاء لتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية التي تعبد من دون الله، وتوجيه الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. كما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن من شئون الحياة، وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة، وفي كل شأن من شئون الحياة. فلا بدَّ من عرض الهيئات والصور والحركات على الشرع الإلهي، وتتبعها عند كل فرد، لتضبط وتعرف ويقرر ما إذا كانت توحيداً أم شركاً؟ موافقة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم مخالفة له؟ يدين بها العبد لله وحده، أم لشتى الطواغيت؟ إن دين الله عزَّ وجلَّ منهج كامل شامل لجزيئات الحياة اليومية. والدينونة لله في كل جزئية من جزئيات الحياة، فضلاً عن أصولها وكلياتها، هي دين الله، وهو الإسلام الذي رضيه الله لنا إلى يوم القيامة، فلا يقبل من أحد ديناً سواه. والشرك لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غير الله معه، ولكنه كذلك يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه. فلينظر الناس لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ .. ولمن الطاعة الكاملة؟ ولمن الاتباع والامتثال؟ فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله .. وإن كان لغير الله معه أو من دونه فهم في دين الطواغيت: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وتوحيد الله عزَّ وجلَّ، وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان فقط، إنما هو منهاج حياة كامل يصبغ الحياة كلها بلونه. يبدأ من اعتقاد بوحدانية الله .. وينتهي بنظام يشمل حياة الفرد والجماعة في

جميع الأحوال والأماكن والأزمان. وقد أنزل الله الكتاب بالحق على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. الحق الواحد الذي يصرف السموات والأرض .. ويصرف أهل السموات والأرض .. وهو المنهج الذي يسير عليه البشر في أنحاء الأرض بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد. والقلب الذي يوحد الله، يدين لله، وحده لا شريك له، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره. والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله، ويؤمن بأن الدين الذي اختاره الله للبشر لا تصلح حياة البشر إلا به، ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه، ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم والسنن والأحكام، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله، ونظام الحياة الشامل. وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات، وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً وفق أمر الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} [الزمر: 2]. إن التوحيد والشرك متقابلان، لا يجتمعان أبداً، فكما لا يجتمع النور مع الظلام، فكذلك لا يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد، وفي آن واحد. وقد ضرب الله مثلاً للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء، يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتعارضة. وعبد آخر يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلب منه، فهو مستريح مستقر على منهج واحد من مصدر واحد كما قال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}

[الزمر: 29]. فهما لا يستويان، فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب لا يستقر على حال، ولا يرضي واحداً منهم فضلاً عن أن يرضي الجميع. وهكذا حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو الذي يسير في هذه الحياة على هدى، لأن قلبه وبصره معلقان بإله واحد، يستمد منه الهدى والتوجيه، ويعتصم بحبله، لا يزوغ عنه بصره، ولا يتجه إلى غير فكره. ويخدم سيداً كريماً غنياً قوياً واحداً، يعرف ماذا يرضيه فيفعله، ويعرف ماذا يغضبه فيجتنبه. وبذلك تجتمع الطمأنينة وتتوحد، فالحمد لله الذي اختار لعباده طريق الأمن والإيمان، والراحة والطمأنينة، وطريق الاستقامة والاستقرار. فهل يليق بالناس مع هذه النعمة الكبرى أن ينحرفوا عنه، ويقفوا بباب غيره؟ .. ويعرضوا عن باب الغني، ويقفوا بباب الفقير؟ .. وماذا يملك الفقير؟ وماذا يعطي؟ .. وماذا يملك العاجز للعاجز؟. وهل يقضي الحاجات إلا الملك العزيز الجبار، الغني الكريم؟ الملك الذي كل شيء ملكه .. الغني الذي كل شيء في خزائنه .. العزيز الذي كل شيء تحت قهره .. الكريم الذي كل شيء من فضله .. العفو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً .. الرحمن الذي يرحم الخلائق كلها .. التواب الذي يتوب على من أناب إليه .. الودود الذي يتحنن إلى عباده بنعمه .. الخلاق الذي خلق الكون وما فيه. هو الأول الذي ليس قبله شيء .. الآخر الذي ليس بعده شيء .. الظاهر الذي ليس فوقه شيء .. الباطن الذي ليس دونه شيء .. العليم الذي لا يخفى عليه شيء: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 101 - 103]. إذا طلعت الشمس ميز الإنسان بين الذهب والحجر .. وإذا جاء نور الإيمان والتوحيد في القلب ميز العبد بين الكبير والصغير، والقوي والضعيف، ومن يستحق العبادة ممن لا يستحقها، وميز بين الدنيا والآخرة، ورأى كل شيء على حقيقته، ورأى الحق حقاً، ورأى الباطل باطلاً. والتوحيد والإيمان حق الله على العباد، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق. وقيمة الإنسان عند الله بإيمانه وتوحيده وصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه وتصريفه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للمخلوقات كلها بيد الله وحده، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا. وللعبد رب واحد هو ملاقيه، وبيت هو قادم إليه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه. وإن من المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في حق المخلوق وهذا حق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، وهذا حق أكبر من ذلك وأوجب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564).

دِمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الإسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» متفق عليه (¬1). والمؤمن حقاً من جمع في كل وقت بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية: فيشهد قيومية الرب تعالى فوق عرشه .. يدبر أمر عباده وحده .. يخلق ويرزق .. ويعطي ويمنع .. ويعز ويذل .. ويحيي ويميت .. ويدبر جميع الأمور في العالم العلوي والسفلي .. وما شاء الله كان .. وما لم يشأ لم يكن. لا تتحرك ذرة إلا بإذنه .. ولا يجري حادث إلا بمشيئته .. ولا تسقط ورقة إلا بعلمه .. ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاه علمه .. وأحاطت به قدرته .. ونفذت به مشيئته .. واقتضته حكمته .. يفعل ما يشاء .. ويحكم ما يريد .. فهذا جمع توحيد الربوبية وشهوده. وأما جمع توحيد الإلهية فهو أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله .. ويجمع إرادته وحركاته على أداء حقه تعالى .. والقيام بعبوديته سبحانه .. فتجتمع شئون إرادته على مراد الله الديني الشرعي. وهذان الجمعان هما حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. فإن العبد يشهد من قوله {إِيَّاكَ} الذات الجامعة لجميع صفات الكمال والجلال والجمال. ثم يشهد من قوله: {نَعْبُدُ} جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة التي أمر الله بها خلقه، والتي تؤديها جميع الكائنات في ملكه. ثم يشهد من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} جميع أنواع الاستعانة والتوكل والتفويض والتسليم لله. ثم يشهد من قوله {اهْدِنَا} هداية الله له للعلم والإيمان .. وأن يقدره عليه .. ويجعله مريداً له، وأن يجعله فاعلاً له .. وإلا فهو غير قادر بنفسه .. وأن يثبته ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (25)، واللفظ له، ومسلم برقم (22).

على ذلك .. وأن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له .. وأن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة. وأن يشهده المقصود في الطريق فيكون مطالعاً له في سيره. وأن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة. وأن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها، وهما طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن اتباع الحق قصداً وعناداً بعد معرفته وهم اليهود، وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً بعد معرفتها وهم النصارى. ثم يشهد جمع {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} في طريق واحد، عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين. فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم، فمن حصل له هذا الجمع فقد هدي إلى الصراط المستقيم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70]. وأول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية .. ثم يرتقي منه إلى توحيد الإلهية .. والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر .. ويحتج عليهم به .. ويقررهم به .. ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف: 87]. فأين يُصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره، ولا خالق سواه. فجميع الخلق مقهورون تحت قبضة الله، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب كلها بيده، وكلها مملوكة له، مكشوفة كغيرها له. من يهده الله فلا مضل له .. ومن يضلل فلا هادي له .. يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه .. وهذا عدله

وقضاؤه .. فإذا ثبت قدم العبد في توحيد الربوبية رقى منه صاعداً إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الخلق والأمر، والضر والنفع، والعطاء والمنع والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، وكل شيء بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها وحده، وأنه لا موفق إلا من وفقه الله وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وأن أصح القلوب وأسلمها من اتخذه وحده إلهاً ومعبوداً، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، فهذا علامة توحيد الإلهية في قلب العبد. والله تبارك وتعالى يريد منا تحقيق التوحيد في حياتنا، وحياة البشرية كلها، كما حققه الله في الكون كله، وفطر كل مخلوق على التسبيح بحمده. فخلق الله القلوب للتوحيد والإيمان واليقين .. وخلق اللسان لذكره وتكبيره .. وحمده والثناء عليه .. والدعوة إليه .. وتعليم دينه. وخلق الجوارح لعبادته وطاعته وتنفيذ أوامره. وكما يحرك الله الكون كله وما فيه بالسنن الكونية، كذلك هو يحب سبحانه من البشر أن يتحركوا بالسنن الشرعية التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، لأن له الخلق والأمر في الكون كله. فلا سعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، ولا طمأنينة لها إلا بالإيمان والتوحيد. فيطمئن كل قلب، وتحصل له السكينة بالإيمان بالله وتوحيده وذكره. ويتحقق التوحيد في اللسان بالإقرار بالشهادتين، وذكر الله وتكبيره، وحمده والثناء عليه في كل حين. ويتحقق التوحيد في الجوارح بطاعة الله ورسوله، وتطبيق مقتضيات الإيمان على كل عضو من أعضاء الإنسان. فللبدن سنن .. وللقلب سنن .. وللسمع سنن .. وللبصر سنن .. ولليد سنن .. وللرجل سنن .. وللعقل سنن .. وللأكل سنن .. وللنكاح سنن .. وللوضوء

سنن .. وللصلاة سنن .. وللباس سنن .. وللسفر سنن .. وللكسب سنن .. وللعبادات سنن .. وللمعاملات سنن .. وهكذا. فالكون له سنن .. والإنسان له سنن، والكون كله عابد لربه مطيع، فالإنسان كذلك لا بدَّ أن يكون عابداً مطيعاً لربه ليفوز بالجنة والسعادة، فإن عصى تحمل تبعة معصيته بالعقوبة في الدنيا والآخرة. فهذه السنن والآداب والأحكام من لوازم التوحيد والإيمان، وهي مظهره وثمرته، لكنها لا تنفع ولا تقبل إلا مع الإيمان والتوحيد، كما أن التوحيد والإيمان لا ينفع بدونها: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].

2 - خطر الجهل

2 - خطر الجهل قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64]. وقال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. العلم شجرة الزينات والحسنات .. والجهل شجرة القبائح والسيئات. والناس متفاوتون في الجهل .. كما هم متفاوتون في العلم .. فجاهل بأسماء الله وصفاته .. وجاهل بدينه وشرعه .. وجاهل بقضائه وقدره .. وهم متفاوتون في الجهل بذلك فمستقل ومستكثر. والجهل شجرة خبيثة تثمر كل شر وبلاء وقبيح، والعلم شجرة طيبة تثمر كل خير وبركة ومليح. والجاهل يضر نفسه، ويضر غيره، والعالم ينفع نفسه، وينفع غيره. فالعالم والجاهل لا يستويان في العمل، ولا يستويان في الجزاء، ولا يستويان في القيمة عند الله، وعند الناس: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. والجهال بأسماء الله وصفاته يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون. فلجهلهم يقرُّون في قلوب الضعفاء، أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة وإن طال زمانها، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكر الله. وأنه سبحانه يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى مكان الفساد، ومن التوحيد

والطاعة إلى الشرك والمعصية، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. وقوله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]. وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال24]. ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة، وأنه كان عابداً في السماء، لكن جنى عليه جاني القدر، وأنه ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك. ويحتجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». متفق عليه (¬1). وبنوا هذا وأفعاله على أصلهم الباطل، وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب، وإنما يفعل بمشيئة مجردة من الحكمة والتعليل والسبب، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب، وينعم على أعدائه وأهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء. ألا ما أخطر الجهل على صاحبه وعلى من اقتدى به؟ فأي جهل يصد عن الله وعن دينه فوق هذا؟ فإذا رجع العاقل إلى نفسه، وفهم منهم هذا قال: من لا يستقر له أمر، ولا يؤمن له مكر، كيف يوثق بالتقرب إليه، وكيف يعول على طاعته واتباع أمره؟. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208)، ومسلم برقم (2643)، واللفظ له.

وقال: ليس لنا إلا هذه المدة اليسيرة، فإن هجرنا اللذات، وتركنا الشهوات، وتكلفنا أثقال العبادات، وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفراً، والتوحيد شركاً، والطاعة معصية، والبر فجوراً، ويديم علينا العقوبات كنا خاسرين في الدنيا والآخرة. فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم، وتخمر في نفوسهم، صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات، بمنزلة من يقول لولده: معلمك إن أحسنت وأطعته ربما عاقبك، وإن أسأت وعصيته ربما أكرمك. فيودع في قلبه ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة، ولا على وعده على الإحسان. وإن كبر الصبي وصلح للمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس، فيجعله وزيراً أو أميراً، ويأخذ المحسن المتقي، فيخلده في الحبس أو يقتله. فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة، والبريء بالعذاب. فانظر إلى جناية الجهل وأهله، وإلى ما حصل بها وبهم من الفساد وترك العمل، وبغض الدين عند من وقع في شراك هؤلاء؟ وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد الكفار والملاحدة على تبغيض الدين للناس، والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا. وهذا الصنف من الناس يظن أنه يقرر التوحيد والقدر، ويرد على أهل البدع، وينصر الدين. ولو علم هؤلاء أن كتب الله المنزلة كلها .. ورسله كلهم .. شاهدة بضد ذلك .. ولا سيما القرآن .. لعلموا أنهم ليسوا على شيء .. وأنهم يفسدون أكثر مما يصلحون .. وينفرون الناس من دين الله أكثر مما يجمعون.

ولو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه، لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. فالله سبحانه قد أخبر في كتابه، أنه إنما يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ولا يظلمها كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. ويجزي سبحانه بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ويجزي السيئة بمثلها كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وهو سبحانه الحكيم العليم الذي هدى الضالين .. وأصلح الفاسدين .. وأنقذ الجاهلين .. وآوى الشاردين .. وتاب على المذنبين .. وعلَّم الجاهلين .. وإذا أوقع عذاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه عن أهل النار: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11]. ولهذا قال الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 45]. فهذا قطع إهلاك يحمد عليه الرب تعالى، لكمال حكمته وعدله، ووضعه العقوبة في موضعه، الذي لا يليق به غيرها، فلا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة. ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن الحكم بين عباده يوم القيامة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ

بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]. فكأن الكون كله قال: الحمد لله رب العالمين، لما شاهدوا من حكمة الحق وعدله وفضله وإحسانه. وقد أخبر سبحانه أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة، كما قال سبحانه عن نوح - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)} [الشعراء: 117 - 121]. ولما سأله نوح - صلى الله عليه وسلم - نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي بلا ذنب ولا سبب. كما أنه سبحانه ضمن زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم، وكذلك ضمن زيادة الهداية، وحصول البركات للمتقين، الذين يتبعون رضوانه. وأخبر سبحانه أنه لا يضل إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وأنه إنما يضل من آثر الضلالة على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه إنما يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به، ودفعه ورده. فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه للحق، وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته كما قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]. وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن يصلح للهداية هداه، ولا يضل إلا الفاسقين والظالمين، ولا يهدي المسرفين والمكذبين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، وإذا أعرض عن

الله أعرض الله عنه. فيختار العبد لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى، والغي على الرشاد كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. فهؤلاء لما انصرفوا عن الحق باختيارهم عاقبهم الله فلم يوفقهم للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، لأنهم أغلقوا على أنفسهم أبواب الهدى. وأما المكر الذي وصف الله به نفسه، فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة. وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فهي منهم أقبح شيء، ومن الله أحسن شيء، لأنها عدل ومجازاة. أما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا الرجل عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه، فإن فيه آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، فلو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض. وأما شأن إبليس، فإن الله قال لملائكته: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا تعلمه الملائكة. فلما أمرهم الله بالسجود، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد لأمر الله فبادروا إلى الامتثال والطاعة. وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

وأما خوف أولئك من مكره فحق، فإنه يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيروا إلى الشقاء. فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمة ربهم. أما قوله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]. فهذا إنما هو في حق الكفار والفجار، ومعناه: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون. والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الذنوب، فيحصل لهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة وفترة قبل التوبة. أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، فيكون مكره بهم تخليه عنهم. أو أن يعلم سبحانه من ذنوبهم، ما لا يعلمون من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون. أو يبتليهم ويمتحنهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنوا به وذلك مكر. هذا خطر الجهل بأسماء الله وصفاته، يولد مثل هذه الطامات، والقول على الله بلا علم، وظن الناس بربهم غير الحق. فماذا ينتظر هؤلاء من العقوبة؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144]. وأما الجهل بدين الله وشرعه، فقد نشأ بسببه من البدع والمخالفات ما عمَّ وطمَّ، وبلغ السهل والجبل. والناس متفاوتون في ذلك، فمن الناس من يعبد الله مخلصاً لكن على جهل، ومنهم من ابتدع في الدين عبادات لم يشرعها الله ورسوله، فصارت عبادات يتقرب بها الجاهلون إلى الله، ويدافعون عنها، ويعادون من أنكرها عليهم،

ويدعون الناس إليها، وينسبونها لله ورسوله فبأي شيء يفرح الشيطان بأكثر من هذا؟. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. وأما الجهل بقضائه وقدره، فقد نشأ بسببه نسبة ما لا يليق به إليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فالجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، والعارف إنما يشكو إلى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. فالمراتب ثلاث: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه .. وأعلاها أن تشكو نفسك إليه .. وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. والجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة في ثنايا التاريخ .. وليست المقابل لما يسمى بالعلم والحضارة. وإنما حقيقة الجاهلية: هي رفض الاهتداء بهدي الله .. ورفض الحكم بما أنزل الله .. ورفض العمل بشرع الله. فالجاهلية في الحقيقة هي التي تستنكر هدى الله .. وتستحب العمى على الهدى .. وتزعم أن ما هي فيه هو الخير المحض .. وأن ما تدعى إليه من الهدى هو الضرر والخسران كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. وزوال هذه الجاهلية يكون بالإيمان، والأعمال الصالحة، وبذل الجهد لإعلاء

كلمة الله. ولما جاء الإسلام ذهب الكفر، ولما جاء الحق زهق الباطل. وذهاب الإسلام يكون على يد أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون .. وصنف يعملون بما لا يعلمون. وهذان الصنفان فتنة لكل مفتون، فالأول العالم الفاجر، والثاني العابد الجاهل، والناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على العامة والخاصة، فليحذر العبد من هؤلاء، ولا يخالف قوله فعله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2]. والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة كما قال الله عنهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. والصنف الرابع: الذين يمنعون الناس من العلم والعمل، ويثبطونهم عنهما، وهؤلاء هم نواب إبليس في الأرض، وهم أضر على الناس من شياطين الجن. وهؤلاء كالسباع الضارية، ومَنْ قبلهم كالأنعام السائمة. والله حكيم عليم، يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في طاعته، والله أعلم بمن يصلح لهذا، ويصلح لهذا. والله عزَّ وجلَّ أعطاك السمع والبصر والعقل .. وعرفك الخير والشر .. وبين لك ما ينفعك وما يضرك، وأرسل إليك رسوله، وأنزل عليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل .. وأعانك بمدد من جنده الكرام يحفظونك ويثبتونك، ويحاربون عدوك. أمرك الله بشكره لا لحاجته إليه، بل لتنال به المزيد من فضله. وأمرك بذكره، ليذكرك بإحسانه إليك، وأمرك بالسؤال ليعطيك، بل أعطاك أجلَّ العطايا بلا سؤال.

فكيف ينسى الإنسان ربه، ويكفر بنعمه، ويسأل غيره، ويشكو مَنْ رَحِمَهُ إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه، ويدعو من يعاديه ويظلمه. ألا ما أجهل الإنسان بربه .. وما أظلمه لنفسه ولغيره. إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلبه ذلك ظل ساخطاً على ربه وهو شاكيه، لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء. العافية والمال تلقيه إلى مساخطه، والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه. عجيب أمر هذا الإنسان؟ .. وغريب منه الإعراض والكفران؟. دعاه الله إلى بابه فما وقف عليه، ثم فتح له فما عرج عليه، أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصاه، وقال: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به. ومع هذا الجحود والإعراض لم يؤيسه من رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتك، ومتى استغفرتني غفرت لك، رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقوبتي: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]. إن الإنسان بالعلم والإيمان تحصل له الطمأنينة والسكينة، والانقياد والتسليم، وطاعة الله ورسوله. وبسبب الجهل والكفر تحصل له الوحشة والاضطراب، والرياء والاستكبار، ومعصية الله ورسوله، والاعتراض على أسماء الله وصفاته، والاعتراض على شرعه وقدره. وقلَّ من يسلم من هذا، فكل نفس بسبب الجهل معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فأناخت ببابه. ألا ما أعظم الجهل بالرَّب والدين والشرع.

ماذا يملك الإنسان من أمره إذا كانت ناصيته بيد الله، ونفسه بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته وموته بيده، وسعادته وشقاوته بيده، وعافيته ومرضه بيده، وغناه وفقره بيده؟. وحركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله بإذن الله ومشيئته؟ إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة، وتفريط وخطيئة. وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه، وجعله أسيراً له، فهو لا غنى له عنه طرفة عين، ومع ذلك فهو لجهله متخلف عنه، معرض عنه، يتبغض إليه بمعصيته مع حاجته إليه. نسي ذكره، واتخذه وراءه ظهرياً مع أنه إليه مرجعه، وبين يديه موقفه، وفوق هذا رافق عدوه، واستجاب لأوامره: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38]. وقد ذم الله عزَّ وجلَّ أهل الجهل في كتابه، وشبههم بالأنعام، بل وصفهم بأنهم أضل سبيلاً كما قال سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وأخبر سبحانه بأن الجهال شر الدواب عند الله، على اختلاف أصنافها من الحمير والسباع، والكلاب والحشرات، وسائر الدواب والأنعام. فالجهال شر منهم، وليس على دين الرسل أضر من الجهال، بل هم أعداؤه على الحقيقة، كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]. فهؤلاء الجهال صمٌّ عن استماع الحق .. بكْمٌ عن النطق به .. لا يعقلون ما ينفعهم .. ولا يؤثرونه على ما يضرهم .. فهم شر من جميع الدواب .. لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ليستعملوها في طاعة الله، فاستعملوها في

معاصيه، وحرموا بذلك أنفسهم وغيرهم خيراً كثيراً، فكانوا شر البرية، ولو أطاعوا الله وآمنوا به لكانوا من خير البرية. وأخبر سبحانه عن عقوبته لأعدائه بأن منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 45، 46]. وأثنى على عباده المؤمنين بالإعراض عنهم وتركهم فقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]. ومن أعظم الجهال بالله الذين قالوا اتخذ الله ولداً، قالها اليهود في العزير، وقالها النصارى في عيسى. وقالها المشركون في الملائكة. وأي حاجة بالغني القوي الذي له ملك السموات والأرض أن يتخذ ولداً؟ أيعينه الولد في تدبير الملك؟ أم يخلفه على خلقه؟ فأيُّ جهل بعظمة الخالق فوق هذا؟ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]. إن الله أرسل الأنبياء والرسل ليجمعوا الناس على الدين، فجمعوهم عليه فتحابوا، ولو جمعوهم على الدنيا لتقاتلوا عليها. والجاهلية في أي مكان .. وفي أي زمان .. تجمع الناس وتجعل الرابطة بينهم. أحياناً الدم والنسب .. وأحياناً الأرض والوطن .. وأحياناً القوم والعشيرة .. وأحياناً الحرفة والطبقة .. وأحياناً المصالح المشتركة. وكل هذه تصورات جاهلية تخالف مخالفة أصيلة دين الله عزَّ وجلَّ، وتطل بوجهها الكالح الخادع، وتفسد حياة الناس، وتغير فطرتهم. ويعيش الناس في ظلها في عذاب وعناء، وشدة وفساد، وكل ذلك مما يشترك

فيه الإنسان مع البهائم، بل مع الكلاب والحمير. لقد كان الكفار في مكة، وما زالوا في كل مكان وزمان يتخذون الأوثان والأصنام لينالوا بها النصر، بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد، أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 74، 75]. فأي سخف وأي جهل انحدر إليه البشر فوق هذا؟ وأعظم ما يلهي الناس عن الله والدار الآخرة هو طلب التكاثر في الأموال والأولاد، والتمرغ في الشهوات، والتفاخر بذلك كما قال سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 1، 2]. والتكاثر والتفاخر في كل شيء، فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية. فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال .. ومن الناس من يلهيه التكاثر بالأولاد .. ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم أو بالجاه، فيجمعه تكاثراً وتفاخراً. ومن جمع العلم تكاثراً وتفاخراً فهو أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه، فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها، وكاثر بأسبابها. والنعيم التام: هو في الدين الحق علماً وعملاً، فأهله هم أصحاب النعيم الكامل، والشقاء التام: هو في الباطل علماً وعملاً، وأهله هم أصحاب الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. ولكن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب .. وما ينال كثيراً من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والأموال وغيرها.

فيعتقد لجهله أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل. وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، فإذا سمع في القرآن: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 173]. ونحو هذه الآيات، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإننا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، والقرآن لا يرد بخلاف الحس. ويعتمد على هذا الظن، إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، ويرى صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق. فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال هذا في الآخرة. وإذا قيل له كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق؟. فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. وإن كان ممن يعلل الأفعال قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة، وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب. ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحث وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك. والقلوب تغلي كالقدور بما فيها من حلو ومر، وطيب وخبيث، وحق وباطل. وكثير من الناس لجهله يصدر منهم من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.

وهذه الأقوال والظنون الكاذبة سببها أمران: أحدهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب لله عليه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأن نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه. الثاني: اعتقاده أن الله سبحانه قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا، بل يعيش عمره مظلوماً مقهوراً، مع قيامه بما أمره الله به ظاهراً وباطناً. فهو عند نفسه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وهو تحت أهل الظلم والفجور والعدوان. فلله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل .. ومتدين لا بصيرة له .. ومنتسب إلى العلم لا معرفة له؟. ومعلوم أن العبد وإن آمن بالآخرة، فإنه طالب في الدنيا لما لا بدَّ له منه، من جلب نفع، ودفع ضر، بهما قوام معيشته. فإذا اعتقد أن الدين الحق، واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة، ينافي ذلك، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله. فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين .. بل قد يدخل مع الظالمين .. بل مع المنافقين. وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لا بدَّ له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة. فسبحان الله كم صدَّت هذه الفتنة الكثير من الخلق عن القيام بحقيقة الدين؟ وأصل ذلك ناشئ من جهله بحقيقة الدين، وجهله بحقيقة النعيم، الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها.

فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم. وكمال العبد أن يكون عارفاً بالنعيم الذي يطلبه، وبالعمل الذي يوصله إليه، مع إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم. والعبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق ظاهراً وباطناً، فهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه، وما هو المراد منه. فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدراً ونوعاً وصفة. وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين. فهذا من جهله بوعد الله ووعيده، وما أعده الله لأهل طاعته، وما أعده لأهل معصيته. فأما المقام الأول، فإن العبد كثيراً ما يترك واجبات لا يعلم بها، فيكون مقصراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلاً وإما تهاوناً، وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك من الأسباب. فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات. فترى بعض الناس يتحرج من ترك فرض أو واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها من التقوى والتوكل، والخشية والإنابة، والخوف والرجاء، ونحو ذلك. ويتحرج من فعل أدنى المحرمات الظاهرة، وقد ارتكب من محرمات القلوب كالنفاق والرياء، والحسد والكيد، ونحو ذلك مما هو أشد تحريماً، وأعظم إثماً. بل ما أكثر من يتعبد لله بترك ما أوجب الله عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله بذلك

مجتمع على ربه. فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه من خواص أوليائه وأصفيائه. والله عزَّ وجلَّ إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق. وكذلك العزة والعلو إنما هو لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال. فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)} [آل عمران: 129]. وله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. فإذا فات العبد حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علماً وعملاً، ظاهراً وباطناً. وكذلك الدفع عن العبد بحسب إيمانه، فإذا ضعف الدفع عنه، فهو من نقص إيمانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38]. وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]. فكفاية الله لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله. وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد. ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما ذلك

بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]. فانتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل .. فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم .. فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز عالٍ، مؤيد منصور، مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهراً وباطناً: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} [محمد: 35]. فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله، يحفظهم الله بها، ويعزهم بها، وينصرهم بها. وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط واللبس، فكثير من الناس لجهله يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائماً، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى، وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده. وهذا سببه الجهل، وسوء الفهم لكتاب الله، فإنه سبحانه بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. وما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدوه عليه، فذلك بسبب ذنوبه كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وفوق هذا لا بدَّ أن نعلم أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والأذى والمحن دون ما يصيب الكفار، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير، والواقع شاهد بذلك. وما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم

الرضا، فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته. فإنهم كلما شاهدوا العوض، هان عليهم تحمل المشاق، بخلاف الكفار فلا رضا عندهم ولا احتساب: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]. والمحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط، فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه، ورفعة له. وما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العزِّ والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وهوان، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه. وابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة. وما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان، أمر لازم لا بدَّ منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم. فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2999).

فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه، ولفاتت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر. وفي ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم حكم عظيمة: منها استخراج عبوديتهم لله وذلهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مغلوبين مقهورين، لما قامت للدين قائمة، ولا قامت للحق دولة. فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه. ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مغلوبين مقهورين لم يدخل معهم أحد. ولكي يتميز من يريد الله ورسوله، ومن يريد الجاه والدنيا، جعل الله لهم الدولة تارة .. وعليهم تارة: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141]. والله سبحانه حكيم عليم، يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلكل حالة عبودية خاصة لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والري والعطش، والشبع والجوع. فامتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم. والله سبحانه إنما خلق السموات والأرض، وخلق الحياة والموت، وزيَّن الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ممن يريد الدنيا

وزينتها، وليعلم الصادق من الكاذب: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]. فلا بدَّ من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن قد يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة. والكافر والمنافق والفاجر قد تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم والحسرة، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم البتة. والإنسان لا بدَّ له أن يعيش مع الناس، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم. والكافر كالأعمى الذي يتردى في حفرة، لا بدَّ من رحمته والأخذ بيده قبل أن يسقط، ولو تركناه حتى يسقط نكون ظالمين. فكذلك الكافر لو تركناه على كفره حتى يموت يدخل النار، فلا بدَّ من رحمته ودعوته والأخذ بيده، والإحسان إليه، حتى يدخل نور الإيمان في قلبه. ولكن أكثر المسلمين اليوم بسبب جهلهم وغفلتهم تركوا العاصي ومعصيته، فكيف بالكافر، وحُرموا الحزن على العاصي، ثم حرموا الحزن على الكفار، فقل نزول الهداية بسبب ترك الدعوة، والفكر في هداية البشرية، وتحول الفكر من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى الفكر في زيادة الأموال وتملك الأشياء. وهذا كله من جهل الإنسان بربه، وكفره بنعمه، فإن الإنسان كفور للنعم، إلا من هدى الله، فمَنَّ عليه بالعقل السليم، واهتدى إلى الصراط المستقيم، فإنه يعلم أن الخالق البارئ المصور، العزيز الرحيم، الغني الكريم، الذي يكشف الشدائد، وينجي من الأهوال، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، وتخلص له سائر الأعمال في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء. لقد أكرم الله بني آدم بجميع وجوه الإكرام.

فكرمهم بالعلم والعقل، والسمع والبصر، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب. وجعل سبحانه منهم الأولياء والأصفياء، والصديقين والشهداء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة. وحملهم سبحانه في البر على الإبل والخيل، والبغال والحمير، والمراكب البرية والجوية. وحملهم سبحانه في البحر على السفن والمراكب. ورزقهم سبحانه من الطيبات من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به، ويسره لهم غاية التيسير. وفضلهم عزَّ وجلَّ على كثير من خلقه، بما خصهم به من المناقب، وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. أفلا يقوم الناس بشكر من أولى النعم، وحباهم بها، ودفع عنهم النقم؟. ألا ما أجهل البشر حين تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم، بل ربما استعانوا بها على معصيته؟ إن كل من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق فلم يقبله ولم ينقد له، بل اتبع الشر والضلال فهو في الآخرة أعمى عن سلوك طريق الجنة، كما لم يسلكه في الدنيا، وأضل سبيلاً: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]. وضلال البشر ضربان: الأول: ضلال في العلوم النظرية الاعتقادية كالجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ووحدانيته. وهذه يعبر عنه بالضلال البعيد كما قال سبحانه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12].

الثاني: ضلال في العلوم العملية كالجهل بالأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات كالصلاة والصيام، والبيوع والحدود ونحوها. يا من أكثر عمره قد مضى في الجهل والغفلة، أما تخاف مصرعاً تحت الثرى، وحساباً بين الورى؟ ألا ما أخطر الجهل والتعصب إذا اجتمعا على العبد؟ نعوذ بالله من جهل بلا علم، ومن سفه بلا حلم، ومن دنيا بلا دين، ومن جزم بلا علم.

3 - خطر الكفر

3 - خطر الكفر قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، ليردوهم إلى فطرة التوحيد، وليحكموا بينهم بكتاب الله الذي يشتمل على الأخبار الصادقة، والأوامر العادلة كما قال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:: 213]. وبعد بعثة الرسل كان الناس ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: أهل الإيمان والصدق، الذين استقر الإيمان في قلوبهم، وظهرت آثاره على جوارحهم، وهؤلاء خير الناس كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 7]. الطائفة الثانية: أهل الكفر والشرك، الذين استقر الكفر والشرك في قلوبهم، وظهرت آثاره على جوارحهم، فهؤلاء أخسر الخلق وأضلهم وأشرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. الطائفة الثالثة: أهل النفاق، الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، وهؤلاء أشر الطوائف عند الله، وعذابهم من أشد العذاب يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 145، 146]. وكما أن للإيمان أركاناً، فكذلك للكفر أركان. وأركان الكفر أربعة وهي: الكبر .. والحسد .. والغضب .. والشهوة. فالكبر يمنع الإنسان من الانقياد للحق .. والحسد يمنعه من قبول النصيحة وبذلها .. والغضب يمنعه من العدل .. والشهوة تمنعه من التفرغ للعبادة. فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة. ومنشأ هذه الأربعة من أمرين: جهل العبد بربه .. وجهله بنفسه. والكفر بالله أقسام: أحدها: كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الأسلاف، وهو كفر أكثر الأتباع والعوام الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23]. الثاني: كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق، ككفر اليهود والنصارى، وزعماء قريش بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رئاسة علمية في قومه كالأحبار والرهبان .. أوله رئاسة سلطانية كفرعون وكسرى وقيصر .. أوله تجارة وأموال في قومه كقارون وأبي بن خلف. فيخاف هذا على ماله، وهذا على سلطانه، وهذا على مكانته، فيؤثر الكفر على الإيمان عمداً. الثالث: كفر إعراض محض، فلا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه ولا يبغضه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرض عنه إلى غيره.

وموانع الإيمان كثيرة: فقد يعرف الإنسان الحق، ويلتذ به ويحبه، لكن يمنعه مانع من قبوله، إما لضعف المعرفة .. أو لعدم الأهلية وإن كانت المعرفة تامة كالأرض الصلبة لا تنتفع بالماء، فكذلك القلب الحجري لا يقبل التزكية ولا تؤثر فيه النصائح، كما لا تنبت الأرض الصلبة، ولو أصابها كل مطر. والسبب الثالث: قيام مانع من حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهذان داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وهما اللذان منعا اليهود والمنافقين وزعماء قريش من الإيمان، حملهم الكبر والحسد على الكفر بالله ورسوله. والسبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يكن بصاحبه حسد أو كبر، لكن يمنعه من الانقياد الضن بالملك والرياسة، كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار. وهو داء فرعون وقومه الذين قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)} [المؤمنون: 47]. والسبب الخامس: مانع الشهوة والمال، وهو الذي منع كثيراً من الناس من الإيمان، خوفاً من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم الكفار. وكذلك الرغبة في الشهوات من الخمر والزنا، فتتفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال. السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة، فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، فيبقى على كفره بينهم. السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، ولكن يرى أن في الإسلام خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة، فيضن بداره ووطنه عن الإسلام.

السبب الثامن: من رأى أن في الإسلام، ومتابعة الرسول، إزراءً وطعناً منه على آبائه وأجداده، وذماً لهم. وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام، لئلا يسفه عقول وأحلام آبائه وأجداده، حتى قال عند موته لما عرض عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإسلام: هو على ملة عبد المطلب، مع يقينه بصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقه. السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسبقه إلى الدخول في الإسلام، وعلو شأنه فيه، فيحمله ذلك على معاداة الحق وأهله، كما جرى لليهود مع الأنصار، فلما أسلم الأنصار، وكانوا أعداء اليهود، حملتهم معاداتهم لهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم. السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ، وهذا السبب أغلب على الأمم، فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثابتة، وعن دار إلى دار أخرى. فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، خصوصاً خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. كيف غيروا عوائد الأمم الباطلة، وطريقة حياتهم المعوجة، ونقلوهم إلى الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق العالية، وبذلوا كل ما يقدرون عليه من أجل إعلاء كلمة الله. وكل من كفر بالله واستكبر عن عبادة الله لا بدَّ أن يعبد غيره، فالإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وكل إرادة لا بدَّ لها من مراد تنتهي إليه، فلا بدَّ لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته. فمن لم يكن الله معبوده، ومنتهى حبه وإرادته، فلا بدَّ أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله. إما المال .. وإما الجاه .. وإما الصور .. وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس والقمر .. والكواكب والأوثان .. وقبور الأنبياء والصالحين .. أو من الملائكة

والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً من دون الله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. وكلما كان العبد أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو مقصود القلب، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات، إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه. وكلما قويت عبودية العبد لله أبرأه الله من الكبر والكفر والشرك. والكبر غالب على اليهود .. والشرك غالب على النصارى. واليهود كثيراً ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به، حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل، ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها، وهي من صفات خلقه. والنصارى كثيراً ما يعدلون المخلوق بالخالق، حتى جعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وكلما كان في القلب حب لغير الله، كانت فيه عبوديته لغير الله بحسب ذلك، ولا يجوز لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا يخرجه من الإسلام بعمل، إلا إذا تضمن ترك ما أمر الله به كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت فإنه يكفر به. وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلاة والزكاة

ونحوهما. وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالشرك والفواحش، والظلم والقتل ونحو ذلك. والإنسان لا يقطع علاقته بالله، ولا يبتعد عنه، إلا إذا تغلبت عليه الأهواء واللذات، فيقبل عليها ويبتعد عن ربه، ويشتغل بها عن طاعة الله وعبادته. وسبب هذا الضلالة والجهالة التي قادته إلى الكفر والذل والهوان، فإن الله أكرم الإنسان فخلقه بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة. وجعله أشرف المخلوقات، ليتذوق حلاوة الإيمان، ولذة مناجاة الله، وسماع كلامه، والابتهاج بذكره. فكيف يذل نفسه الكريمة فيتخذ حجراً أو صنماً أو معبوداً غير الله، ويفقد شعوره بعظمته ومكانته؟. وكيف يذل نفسه لنظيره، أو لما هو أدنى من نوعه، ذل عبودية وعبادة؟ وقد يذل نفسه لعضو من أعضائه، فيكون عبداً له، كمن يصرف كل قواه الفكرية في نيل شهوة بطنه ليأكل ما حل وحرم، أو فرجه لينكح ما حل وحرم، أو أذنه ليسمع ما حل وحرم، أو عينه فيرى ما حرم الله، أو لسانه فيتكلم بما يغضب الله. فيكون الإنسان بذلك من أذل العبيد وأحقرهم، لأن تلك الأعضاء خلقها الله لتخدمه وتنفعه، لا لتسخره وتستعبده. وسبب هذا كله جهالته، فإن كمال الإنسان بقهر ملذاته الحسية بإرادته، والإقبال على كمالاته الروحية وإخضاعها لأوامر الله عزَّ وجلَّ. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد. ويطلق الطاغوت على كل ما صرف عن عبادة الله وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه. فالشيطان طاغوت .. لصرفه الناس عن عبادة خالقهم، وإغوائه لهم حتى عبدوا

غير الله، وسفكوا الدماء، وأحلوا الحرام، وحرموا الحلال. والأوثان والأصنام، والقباب والأشجار التي تعبد من دون الله، كلها طواغيت .. لأنها صرفت عن عبادة الله تعالى بعبادة الناس لها. والحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت .. لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع، فبدل أن يحكم بما أنزل الله، تجاوز ذلك وأصبح يحكم بهواه، وتجاوز حده من عبد لله ينفذ أحكام الله إلى مشرع يحكم بما يريد. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نؤمن بالله ونعبده، ونكفر بالطاغوت ونجتنبه أياً كان شكله ومنزلته: سواء كان إنساً أو جناً، أو حجراً أو شجراً، أو وهماً أو خيالاً، أو هوى أو شهوة، أو مالاً أو جاهاً، أو وظيفة أو غيرها كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. فكل ما صرف القلوب عن طاعة الله إلى طاعة غيره فهو طاغوت. وكل ما تنعم به الكافرون من النعم، وكل ما تركوه من واجبات الدين كالصلاة والزكاة والصيام ونحوها، وكل ما اقترفوه من الآثام والمحرمات، فهذا كله يحاسب عليه الكفار يوم القيامة. لكنهم إذا أسلموا لا يجب عليهم قضاء الواجبات، لأنهم كفار، سواء كانت الرسالة بلغتهم أم لم تبلغهم، وسواء كان كفرهم جحوداً أو عناداً أو استكباراً أو جهلاً. وإذا أسلم الكفار فإن الله يغفر لهم ما سلف من الذنوب كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: 38]. وكما أن الإيمان له شعب، فكذلك الكفر له شعب كالكذب والشك، والسخرية والكبر، والنفاق والظلم، والحسد والبغي ونحو ذلك. فكفار مكة لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام عارضوه بشعب الكفر والشرك.

فكذبوا بوحي الله فقالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. وشككوا في وحدانية الله فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5]. وأنكروا لقاء الله يوم القيامة فقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق: 3]. وسخروا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} [الفرقان: 41]. واقترحوا أن يكون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملك كما قال سبحانه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)} [الفرقان: 7]. وقالوا لو أنزل هذا القرآن على ذي سلطان ومال لاتبعناه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]. وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو اتبعناك فمن يحمينا من الناس؟ {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57]. إلى آخر ما قالوا من الكذب والبهتان، والتهكم، والسخرية، والعناد والجحود، وما فعلوه برسول الله من السب والأذى. والله عزَّ وجلَّ يأمره بالصبر والحلم عليهم كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10]. ويأمره بالثبات على الدين، ولزوم عبادة الله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]. ومن أقبل على الله وطلب هداه، شرح الله صدره للإسلام، وملأ قلبه بالإيمان، واستعمل جوارحه في طاعته وعبادته.

ومن أعرض عن الهدى فلم يسمعه ولم يطلبه ولم يقبله، شقى في الدنيا والآخرة، واستعمل الشيطان فكره وقلبه وجوارحه في معصية الله، وسخطه وغضبه: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38]. وأمهات الذنوب والمعاصي تنحصر في أربع صفات: الأولى: صفات ربوبية .. ومنها يحدث الكبر والفخر، وحب المدح والثناء، والعز وطلب الاستعلاء ونحو ذلك. الثانية: صفات شيطانية .. ومنها يتشعب الحسد والبغي .. والحيل والخداع .. والمكر والنفاق .. والغش والفساد والإفساد. الثالثة: صفات سبعية .. ومنها يتشعب الغضب والحقد، والتهجم على الناس بالقتل والضرب، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، والظلم والقهر. الرابعة: صفات بهيمية .. ومنها يتشعب الشره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، فيتشعب من ذلك الزنا والفواحش، والسرقة وأخذ الحطام لأجل الشهوة ونحو ذلك، وهذه أكثر ذنوب الخلق، لعجز أكثرهم عما قبلها. وهذه الصفات التي يتمرغ فيها الكفار لها تدرج في الفطرة. فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً .. ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً .. فإذا اجتمعت هاتان استعملتا العقل في الصفات الشيطانية من المكر والخداع والحيل. ثم تغلب الصفات الربوبية فيحدث الكبر والفخر، وحب المدح، وحب العلو. ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع إلى الجوارح، فتفسد بقية المملكة. فبعضها في القلب كالكفر والبدع والنفاق .. وبعضها في العين والأذن واللسان .. وبعضها في البطن والفرج .. وبعضها في الأيدي والأرجل. وهذه الذنوب منها ما يتعلق بالنفس .. ومنها فيما بين العبد والرب .. ومنها فيما بين العبد والخلق: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].

وبسبب ترك الدعوة إلى الله يزداد الكفر والشرك والبدع، ويكثر الخراب والفساد، وقد حرمنا الحزن على الكفار، ثم حرمنا الحزن على العصاة، ثم انتقلت إلينا صفات الكفار، ثم قام فينا من يدعو إليها، ويحمل الناس عليها، وذلك كله بسبب ترك الدعوة. والكفار يعيشون في الدنيا عيشة البهائم، ويقضون أوقاتهم كالأنعام على حد سواء، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام. بل هم أضل من الأنعام، لأنهم لم يستعملوا ما وهبهم الله من العقول والأسماع والأبصار فيما خلقت له من عبادة الله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. وإذا كان الناس يعيشون على الهوى لا على الهدى فكم تكون المصائب؟ وكم يكون الاضطراب في العالم؟ .. وكم تفسد الحياة والأحياء؟. فالهدى يوحد الحركات في العالم .. والهوى يحدث التصادم في العالم. وإذا كان لكل إنسان هوى خاص فكم تكون الأهواء في العالم؟ وكيف تستقيم الحياة وكل يريد تحقيق هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. والله تبارك وتعالى خلق الخلق ليعبدوه .. وركب فيهم العقول ليعرفوه .. وأسبغ عليهم نعمه ليشكروه .. وأرسل إليهم الرسول ليطيعوه .. وأنزل عليهم الكتاب ليتبعوه .. فمتى يعرف الناس قدر هذه النعم؟ .. ومتى يدركون قيمة هذا التكريم لهم من ربهم؟ .. ومتى يشكرون من أنعم عليهم بجزيل النعم؟ {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12]. والكفر موجب للعذاب والشقاء والخلود في النار يوم القيامة، وبحسب غلظ

الكفر يكون غلظ العذاب يوم القيامة. وغلظ الكفر الموجب للعذاب له ثلاث مراتب: الأولى: من حيث العقيدة الكافرة في نفسها كمن جحد رب العالمين بالكلية، وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كفرعون وهامان وقارون. وهؤلاء هم الدهرية الذين جحدوا وجود الرب: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} [الجاثية: 24]. الثانية: تغلظه بالعناد والضلال عمداً على بصيرة، مثل من شهد قلبه أن الرسول حق، لما رآه من آيات صدقه، وكفر عناداً وبغياً كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل وزعماء قريش ونحوهم. الثالثة: من سعى في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه، بما تصل إليه قدرته. فهؤلاء أشد الكفار عذاباً يوم القيامة، وعذابهم بحسب غلظ كفرهم، فمنهم من يجتمع في حقه الجهات الثلاث، أو اثنتان، أو واحدة، فليس عذاب هؤلاء كعذاب من هو دونهم في الكفر: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. فمن دون هؤلاء في الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون منه في سلامة فلا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ أولئك، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته، وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر، وإن شارك أولئك في كفرهم بالرسول، فقد زادوا عليه أنواعاً من الكفر. فكُفر أبي طالب ليس ككفر أبي جهل وأمثاله ممن آذوا الرسول والمؤمنين وحاربوهم، وعذاب أبي طالب أخف من عذاب أبي جهل وأمثاله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أهْوَنُ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا

دِمَاغُهُ» أخرجه مسلم (¬1). فالمؤمنون في الجنة متفاوتون في الدرجات، والكفار في النار متفاوتون في الدركات، كل حسب عمله ينعم أو يعذب، ويكرم أو يهان. وأهل الكفر والشرك هم أصحاب الظلمات، المنغمسون في الجهل، بحيث أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. وأعمالهم كلها ظلم وظلمات وهباء، فلا يقبل منها شيء في الآخرة كما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]. وما عملوه من خير في الدنيا يجازون به في الدنيا من صحة في الأبدان، ونماء في الأموال، ورغد في العيش، حتى يلاقوا ربهم يوم القيامة وليس لهم حسنة واحدة يجزون بها. والكافر ظالم، والمشرك ظالم، ومن كان ظالماً يعيش في الظلمات في الدنيا والآخرة: ظلمة الكفر .. وظلمة الشرك .. وظلمة الجهل .. وظلمة الشك والريب .. وظلمة الإعراض عن الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]. فأنى يكون لهذا الظالم الذي يعيش في الظلمات نوراً بدون نور الإيمان؟ وكيف تكون حاله إذا فقد النور في الدنيا والآخرة؟ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. فكل معرض عما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق يتقلب في بحور ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (212).

الهم والغم والظلمات، وإن كان فيما يرى الناس سعيداً. فقلبه مظلم .. ووجهه مظلم .. وكلامه مظلم .. وعمله مظلم .. وفكره مظلم .. وحياته مظلمة .. ومصيره إلى الظلمة. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. فتلاطم أمواج الشبه والباطل في صدور الكفار كتلاطم أمواج البحار. وقد شبه الله عزَّ وجلَّ أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له. وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق، فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً، والأكثرون يدعونهم الرسل، ويهدونهم السبيل، فلا يستجيبون ولا يهتدون، ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم. والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه، وبين ما ينفعها فتؤثره: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. والله عزَّ وجلَّ لم يخلق للأنعام قلوباً تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل الله لهم من القلوب والعقول والألسنة والأسماع والأبصار. فهم أضل من البهائم، فمن لا يهتدي إلى الرشد، وإلى الطريق مع الدليل، أضل وأسوأ حالاً ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه. والمؤمن حي، والكافر ميت، والميت لا يخاطب بأحكام الله الشرعية، ولا يطلب منه العمل بها، فإن القلب إذا مات لم يعد فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة للحق، وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.

فإذا دخل الإيمان في قلبه دبت فيه الحياة، وصار حياً يعرف الحق ويقبله ويحبه، ويعمل به، ويؤثره على غيره كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. والله جلَّ جلاله فعال لما يريد، يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب. والختم والطبع، والغشاوة والقفل، عقوبات عاجلة للكفار في الدنيا كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 6، 7]. ويمكن للعبد أن يفعل الأسباب التي يكشف الله بسببها عنه الطبع والختم، وفتح ذلك القفل يفتحه الذي بيده مفاتيح كل شيء. فأسباب الفتح مقدورة للعبد، وإن كان فتح القفل، وفك الختم، غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة، وحصول العافية، غير مقدور له. فإذا استحكم به المرض لم يكن له عذر في ترك ما يستطيع من أسباب الشفاء، وإن كان الشفاء غير مقدور له. فالعبد إذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به، وآثر عليه الضلال، مع تكرر تعريفه بما يضره وما ينفعه، فقد سدَّ على نفسه باب الهدى بالكلية، ولو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده نفعه وهداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال، وسأل الله أن يقبل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه، وفقه الله وهداه كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا

مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). ولو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك الضلال، ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره، لكان هداه أقرب شيء إليه. لكن إذا استحكم الطبع والختم، حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكه، وفتح قلبه. والرين الذي غطى الله به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. فغلظ الكفر سببه سوء الكسب والعمل، وكلما زاد زاد الرين الذي يمنع من قبول الحق ومعرفته ومحبته والعمل به. والطبع والختم والغشاوة عقوبات لم يفعلها الله بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان، ودعاه إليه. وإنما عاقبه الله بها بعد تكرار الدعوة منه للكفار، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوبهم، ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك. والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع، بل كان منهم اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. وليس هذا حكماً يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفاراً قبل ذلك، ولم يختم على أسماعهم وقلوبهم. فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين معاندين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا، بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، وبعضهم بخسف ديارهم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين. وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك. وكيف يكفر العبد بربه وهو الذي خلقه، ووهبه الحياة، ثم يميته، ثم يحييه، ثم يعود إليه؟ فكما ذرأهم في الأرض إليه يحشرون، فيجازي كلاً بعمله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]. أفيليق بالناس أن يكفروا بربهم وهم تحت تصرفه وتدبيره، ويتقلبون في نعمه؟. وهل هذا إلا جهل عظيم، وسفه وحماقة، وإنكار للجميل والإحسان؟ فاللائق بأهل العقول أن يؤمنوا بالله ويتقوه ويشكروه، ويخافوا عذابه، ويرجوا ثوابه. وكيف يكفر بالله من خلق الله له ما في الأرض جميعاً، وجعله خليفة في الأرض، مالكاً لما فيها؟. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض من بين المخلوقات فكيف لا يطيع ربه الذي خلقه ورزقه، وملكه وسوده؟: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]. إن الكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء العظام كفر قبيح بشع، مجرد من أي حجة أو برهان. والقلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً، إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له. ومن يرتد عن الإسلام بعد ما ذاقه وعرفه، فارتد تحت مطارق الأذى والفتنة، فمصيره عند الله: حبوط عمله في الدنيا والآخرة، ولزوم العذاب في النار خلوداً: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. ولا زال أعداء هذا الدين من الكفار والمشركين، واليهود والنصارى، والمجوس والمنافقين يكيدون له ويحاربون أهله، ويشككون في حقائقه، وينهون عنه وينأون عنه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. لقد كفر الكفار بآيات الله، ولبسوا الحق بالباطل، وضلوا وأضلوا، ومكروا بالمسلمين وكادوا لهم، ودسوا في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون، وما سلم شيء من التراث الإسلامي إلا كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي تكفل بحفظه إلى يوم الدين، فسلم من التحريف والتبديل، ومن الزيادة والنقصان. ودسوا في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي بما يندى له الجبين، ودسوا ولبسوا وجندوا من الرجال والنساء بالمئات والألوف من الكفار الذين كانوا دسيسة خبيثة على التراث والمجتمع الإسلامي. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على أيدي الصهيونية الماكرة، والصليبية الحاقدة، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات والخيانات والغدر والفساد ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين. وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً يركض في كل مكان، تراه العيون وتبصره في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل مجتمع، وفي كل دولة {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. ورغبة الكفار إخراج المسلمين من النور إلى الظلمات، ومن الإيمان إلى الكفر:

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء: 89]. ولكن الله عزَّ وجلَّ حفظ دينه، وما تزال مثابة الأمان والنجاة من كيدهم هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ، والعودة إليه، والعمل بما فيه فهو الحق، ومن قام به فالله معه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. ألا ما أخطر كيد الكفار؟، وما أشد لسعته، خاصة مع غفلة المسلمين وتفرقهم وتناحرهم فيما بينهم مما سبب فشلهم: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]. وقوى الكفار منتشرة في أنحاء العالم، ولهذه القوى الماكرة اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيش جرار من المنافقين، في صورة علماء ودعاة، وفلاسفة ودكاترة، وباحثين وفنانين، وصحفيين وأطباء، وغيرهم، يحملون أسماء إسلامية، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة. وهذا الجيش المنظم من المنافقين موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، وتوهين العقيدة والشريعة في الأمة على حد سواء، وتمجيد حياة الأعداء، والتزين بزيهم، ونقل أجساد أهل الشهوات إلى ديارهم، وجلب طلاب المسلمين إلى مدارسهم ليحملوا أفكارهم، وينفذوا رغباتهم في أجسادهم وجسد الأمة الكبير، ويسعون لإطلاق الشهوات من عقالها، وسحق قواعد الأخلاق، لتخر الأمة في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30]. إنهم يريدون تحويل العالم الإسلامي إلى قطيع من الأنعام التي لا تعرف إلا قضاء شهواتها، ولا تبالي بما وراء ذلك: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ

عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. ويتعاون شياطين الإنس والجن معاً، فيقفون بالعداوة والأذى للأنبياء وأتباعهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليخدعوهم به، ويغروهم بحرب الرسل، وما جاءوا به من الهدى. وقدر الله أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للحق وأهله، ومن الضلال والفساد في الأرض، وقد شاء الله ذلك كله لحكم يعلمها سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} [الأنعام: 112، 113]. وهؤلاء الأعداء من شياطين الإنس والجن لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وأتباعهم وإيذائهم بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم وأهل السموات والأرض في قبضة الله وتحت قهره. لكنه سبحانه يبتلي بهؤلاء عباده المؤمنين لأمر يريده من تمحيص هؤلاء الأنبياء وأتباعهم، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء، فإذا اجتازوا الامتحان بقوة، كف الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء، وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله، وآب أعداء الله بالضعف والخذلان، وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم. وكل هذا الكيد محاط بمشيئة الله وقدره، وما يضر هؤلاء أحداً من أولياء الله بشيء إلا بما أراد الله في حدود الابتلاء: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} [الفتح: 24]. ألا ما أخطر الكفر والشرك والتعطيل والإلحاد.

ولما كان أحب الأشياء إلى الله عزَّ وجلَّ حمده ومدحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر به، وهو شر من الشرك، فالمعطل أشر من المشرك. فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه، والتشريك بينه وبين غيره في الملك. فالمعطلون هم أعداء الرسل بالذات، بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به لما أشرك به كما قال سبحانه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86، 87]. أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟ أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟. أم ظننتم أنه قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم هو ذليل فيحتاج إلى أولياء يتكثر بهم من قلة، ويتعزز بهم من ذلة؟ أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟ تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68]. فما أسوأ هذا الظن بالله، وما أخسر من ظن به ظن السوء، ونسب إليه ما لا يليق به وبجلاله وعظمته وكبريائه: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 23]. ألا ما أخطر الجهل على الإنسان، وما أشنع الكفر والشرك بالله، وما أقبح

الكذب على الله ورسوله. لقد قال الكفار: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5]. {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} [الإسراء: 49]. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7، 8]. فهل فوق هذا من جهل بالله وآياته ورسله؟ لقد جهلوا أشد الجهل، حيث كذبوا على الله ورسوله، وجحدوا آيات الله، وقاسوا قدرة الجبار خالق السموات والأرض بقدرتهم الضعيفة العاجزة، وأنكروا ما يحيل العقل والحس إنكاره، وضلوا ضلالاً بعيداً. فسبحان من جعل خلقاً من خلقه يزعمون أنهم أولو العقول والألباب مثالاً في جهل أظهر الأشياء وأجلاها، وأوضحها برهاناً، وأبينها وأعلاها، ليري عباده أنه ما ثم إلا توفيقه وعونه، أو الهلاك والضلال: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

4 - خطر الشرك

4 - خطر الشرك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. الكفر والشرك إذا افترقا فهما بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى. وإذا اجتمعا في آية أو حديث أو كلام، فالمراد بالكفر جحود الخالق سبحانه، والمراد بالشرك جعل شريك لله من مخلوقاته، وإشراكه معه في العبادة. الشرك بالله أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، وأنجس النجاسات، ولذلك كان أبغض الأشياء إلى الله، وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه لشدة نجاستهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} [التوبة: 28]. وحرم سبحانه ذبائح أهل الشرك، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم وأولادهم ونساءهم أن يتخذوهم عبيداً. ونجاسة الشرك نوعان: نجاسة مغلظة .. ونجاسة مخففة. فالنجاسة المغلظة: هي الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به إذا مات العبد ولم يتب منه. والنجاسة المخففة: هي الشرك الأصغر كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه ورجائه.

ونجاسة الشرك عينية كالبول والغائط، بل هي أنجس منهما. فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم. والأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن، أو القلب، أو تؤذيهما معاً، والنجس قد يؤذي برائحته، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة. والنجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على القلب والروح الخبث والنجاسة. حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من يشم رائحة النتن، ويظهر ذلك كثيراً في عرقه. ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب الناس عرقاً. وإذا خرجت النفس الطيبة من البدن، وجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض، وإذا خرجت النفس الخبيثة من البدن وجد لها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فالشرك أقبح القبائح، وأنجس النجاسات، لأنه هضم لحق الرب، وتنقيص لعظمته، وسوء ظن به كما قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]. فلم يجمع الله عزَّ وجلَّ على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا بالله ظن السوء، وما قدروا الله حق قدره، إذ سووا به غيره كما قال الله عن المشركين أنهم يقولون لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98]. ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، ولا أنها تحيي وتميت. وإنما سووها به في محبتهم لها، وتعظيمهم إياها، وعبادتهم لها. فما قدر الله حق قدره من جعل له عدلاً ونداً وشريكاً يحبه كحب الله، ويخافه

ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، وهذا هو الضلال البعيد، والافتراء العظيم، والظلم الكبير. {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86، 87]. فما ظننتم به من السوء حتى عبدتم معه غيره؟ فإن المشرك إما أن يظن أن الله عزَّ وجلَّ يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عون. وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وإما أن يظن أنه تعالى إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي عبده وحده، أولا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به. أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الأرض، وهذا أصل شرك الخلق. أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه به كما يتوسل الناس إلى الملوك والأكابر يمن يعز عليهم، ولا يمكنهم مخالفته. وكل هذا تنقص للرَّب، وهضم لحق الإله، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب المشرك، وذلك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف ذلك التعظيم والخوف والرجاء والمحبة بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شناعته. فالشرك كله تنقص لرب العالمين شاء المشرك أم أبى. ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه في

النار، ويجعله أشقى البرية. فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك الشرك. كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة، فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً، وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله. ولهذا جعل الله البدعة قرينة الشرك في كتابه كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عزَّ وجلَّ، ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك. واستقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة كبول الصبي الرضيع، والنجاسة في محل الاستجمار ما لا يعفى عن المغلظة. وكذلك يعفى عن صغائر الذنوب ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي المسلم الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه ربه بقرابها مغفرة. ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك، فالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله وتعظيمه وإجلاله، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي فلا تثبت معه. ولكن نجاسة الزنا وفاحشة قوم لوط أغلظ من غيرهما من النجاسات من جهة أنها تضعف القلب وتفسده وتضعف توحيده جداً.

ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً. فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً كان منها أبعد كما قال الله تعالى عن يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. وليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تعبيد القلب لغير الله، فإنهما من أعظم الخبائث، وكلما ازداد القلب خبثاً ازداد من الله بعداً. ولما كانت هذه حال الزنا كان قريناً للشرك في كتاب الله كما قال سبحانه: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3]. والله سبحانه سمى الزناة والزواني خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل فد شرعت فيه الطهارة وإن كان حلالاً، وسمى فاعله جنباً لبعده عن الصلاة حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراماً يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة، وطهراً لبدنه بالماء. فالعاصي إنما ينقم على أهل الطاعة تجريدهم الطاعة وتركهم المعصية كما حكى الله عن قوم لوط قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]. وهكذا كل مشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالشرك. وهكذا المبتدع إنما ينقم على صاحب السنة تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بما يخالفها: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59].

والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح .. وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم دعوا الله عندها، ثم عبدوها من دون الله. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر. وكل هؤلاء إنما يعبدون الجن، فإن الشياطين تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وتتصور لهم بصور الآدميين، فيرونهم بأعينهم. والجن كالإنس فيهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والمنافق والفاسق. والشياطين من الجن يوالون وينفعون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان من الآدميين: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41]. فنوح - صلى الله عليه وسلم - أول من غير الشرك الأرضي، وهو عبادة أهل الأرض للأصنام، وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول من غير الشرك السماوي، وهو عبادة قومه للكواكب والنجوم. وكلما ضعف الإيمان ضعف اليقين على الله، ثم حصل الشرك، فيبعث الله نبياً يرد الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حتى ختمهم ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع أهل الأرض إلى يوم القيامة بالإسلام الذي يقوم على أصلين: شهادة أن لا إله إلا الله ... وشهادة أن محمداً رسول الله. ومعناها: عبادة الله وحده لا شريك له، على طريقة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، في كل شأن من شئون الحياة، وامتثال أوامره سبحانه في جميع الأحوال، وتحقيق العبودية لله في كل أمر: في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. فعبادة الأصنام لا تعني فقط الصور الساذجة التي كان يزاولها العرب في

الجاهلية مجسمة في أحجار أو أشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو كوكب، أو أرواح أو نار. فهذه الصور لا تستغرق الشرك كله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، فلا بدَّ من معرفة معنى الأصنام. فالشرك بمعناه المطلق يتمثل في كل حالة لا يكون فيها الحكم لله. فالإنسان الذي يتوجه إلى الله معتقداً بألوهيته، ثم يدين لله في الوضوء والصلاة والصيام وسائر الشعائر، بينما هو في الوقت ذاته يدين في معاملاته ومعاشراته وطريقة حياته لغير الله، ويدين في قيمه وأخلاقه، وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر، فهذا العبد إنما يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويجعل مع الله شريكاً يطيعه. فلهؤلاء الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. فالإسلام هو توحيد الله في جميع الأحوال، وطاعته وحده في كل أمر وفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه. لم يأت الإسلام بتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل جاء ليُعبد الله وحده لا شريك له، وليكون الدين كله لله: في كل أمر .. وفي كل هيئة .. وفي كل صورة .. وفي كل بلد .. وفي كل زمان. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. والشرك قسمان: أحدها: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو نوعان: الأول: شرك التعطيل، وهو جحد الرب، وهو أقبح أنواع الشرك كقول فرعون:

{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} [الشعراء: 23]. الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته، ولم يجحد ربوبيته كقول النصارى إن الله ثالث ثلاثة، ومنه شرك عباد الأصنام والكواكب الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر. القسم الثاني: الشرك في العبادة، وهذا الشرك دون الأول، فإنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته. فيعمل لحظ نفسه تارة .. ولطلب الدنيا تارة .. ولطلب الرفعة تارة .. فلله من عمله نصيب .. ولنفسه نصيب .. وللشيطان نصيب .. وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فالرياء كله شرك، والتوحيد ضد الشرك. فالواجب علينا كما أفردنا الله بالربوبية .. أن نفرده بالألوهية .. ونفرده بالعبودية: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وهذا الشرك مبطل للعمل كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (¬1). والشرك في العبادة يبطل ثواب العمل وهو قسمان: شرك أكبر .. وشرك أصغر. فالشرك الأكبر: هو صرف العبادة أو بعضها لغير الله كدعاء غير الله، والذبح لغير الله .. وسؤال غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله كنزول الغيث، وشفاء المرضى ونحو ذلك. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2985).

ومن الشرك الأكبر الشرك بالله في المحبة والتعظيم، والطاعة والتأله، والخضوع والتذلل، والخوف والتوكل. فمن أحب مخلوقاً أو عظمه، كما يحب الله ويعظمه، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. ومن أطاع العلماء والأمراء، والرؤساء والحكام، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وذلك كله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. ومن خاف غير الله من وثن أو صنم أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يضره أو يصيبه بما يكره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها، فمن صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. ومن توكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالتوكل على الموتى والغائبين ونحوهم في دفع المضار، وتحصيل المنافع والأرزاق والأولاد، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. ويتبع هذا الشرك الشرك بالله: في الأقوال .. والأعمال .. والإرادات والنيات. فالشرك بالله في الأقوال كالحلف بغير الله، وقول الإنسان: ما شاء الله وشئت، أو مالي إلا الله وأنت، أو أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا في حسب الله وحسبك، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك ونحو ذلك. والشرك بالله في الأعمال كالسجود لغير الله، والطواف بغير بيته، والسجود

للقبور، والطواف عليها، وتقبيلها واستلامها ونحو ذلك. والشرك بالله في الإرادات والنيات بحر لا ساحل له، وقلّ من يسلم منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، وهذا حال أكثر الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والمحبة والطاعة والتوبة والدعاء، كله محض حق الله تعالى الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه: من ملك مقرب أو نبي مرسل فضلاً عن غيرهم: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وحقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق، والتشبيه للمخلوق به، فالمشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية من التفرد بملك النفع والضر، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل بالله وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، فضلاً أن يملكها لغيره، شبيهاً لمن له الخلق والأمر كله، وبيده كل شيء، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهذا من أقبح التشبيه، حيث شبه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له، والتعظيم والإجلال كله له، والخوف والخشية والرجاء كله له، والدعاء والمحبة والطاعة كلها له سبحانه. فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا ندَّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم فإن الله لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ

يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116]. ومن خصائص الإلهية العبودية وهي: غاية الحب لله، مع غاية التعظيم له، والذل له. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه وتعظيمه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه سبحانه. ومن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، وصرف له ما لا يستحقه. وأما التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى مدحه وتعظيمه، والخضوع له، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته. وما عبد أحد غير الله من الملائكة والكواكب .. والأصنام والأوثان، إلا وقعت عبادته للشيطان كما قال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61]. وقال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)} [مريم: 44]. والله عزَّ وجلَّ كما أنه لا يرضى أن يكون معه آلهة أخرى يخلقون ويرزقون ويدبرون .. فإنه لا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يشرعون ويحللون ويحرمون .. ولا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يعبدون من دون الله. فالشرك الأكبر: مخرج من الملة .. ومحبط لجميع الأعمال .. مبيح للدم والمال .. وصاحبه مخلد في النار. والشرك الأصغر: ينقص التوحيد .. لكنه لا يخرج من الملة .. وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر .. يعاقب عليه صاحبه .. ولا يخلد في النار خلود الكفار.

والشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، لكن الشرك الأصغر يحبط العمل الذي قارنه، كأن يعمل عملاً لله يريد به ثناء الناس عليه، كأن يحسن صلاته أو يتصدق أو يصوم أو يذكر الله لأجل أن يراه الناس، أو يسمعونه أو يمدحونه. فهذا الرياء إذا خالط العمل أبطله. ومن الشرك الأصغر الحلف بغير الله، وقول الإنسان ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وفلان، ونحو ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). والشرك الأصغر قد يكون أكبرَ على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، الأكبر والأصغر، فالشرك ظلم عظيم لا يغفره الله. والشرك نوعان: شرك جلي .. وشرك خفي فالجلي ما سبق ذكره، والخفي لا يكاد يسلم منه أحد، مثل أن يحب مع الله غيره، وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، وأكثر الأمة واقعون فيه كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. فمن نقصت محبته لله أحب غيره، إذ لو كملت محبته لله لم يحب سواه، وكلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلَّت، وكلما ضعفت محبته لله كثرت محبوباته من المخلوقات وانتشرت. وإذا كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وكلما نقص خوفه من ربه زاد خوفه من غيره. وإذا كمل رجاء العبد في مولاه لم يرج أحداً سواه، وإذا نقص رجاؤه وضعف وقف بباب المخلوق ورجاه، وذل لغير مولاه. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2354)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (137). وأخرجه أبو داود برقم (4980) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود رقم (4166).

ومن توكل على ربه كفاه، واستغنى به عمن سواه، وإذا نقص توكله توجه إلى المخلوق، واتكأ على عاجز مثله. فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصم الله سبحانه. وكثيراً ما يقرن الناس بين الرياء والعجب. فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس. وهذا حال المستكبر: فمن حقق (إياك نعبد) خرج من الرياء. ومن حقق (وإياك نستعين) خرج من العجب. فاللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. واتخاذ الوسائط بين الله وخلقه قبيح عقلاً وشرعاً، فإن الوسائط بين الملوك والناس على أحد وجوه ثلاثة: الأول: إما لإخبار الملوك عن أحوال الناس بما لا يعرفونه، والله عزَّ وجلَّ يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء، العليم بكل شيء، فلا يحتاج لذلك. الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلضعفه وعجزه يتخذ أعواناً وأنصاراً. والله سبحانه هو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل كلهم محتاجون إليه. الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه أو يعظمه، أو يرجوه أو يخافه، تحركت همة الملك وإرادته لقضاء حوائج رعيته، وقبل شفاعتهم بإذنه وبدون إذنه، لحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة جزاء لإحسانهم إليه.

والله عزَّ وجلَّ لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل شيء إنما يكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الملك وكل ما سواه عبيد: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18]. وقال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]. والمشرك إنما يتخذ معبوداً من دون الله لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من أربع: إما مالك لما يريده عابده منه .. فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك .. فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً .. فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]. فما أعجب حال المشرك، لقد استكبر عن الانقياد للرسل بزعمه أنهم بشر، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر والحجر، واستكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه من الأصنام، طاعة لأعدى أعدائه الشيطان: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 5، 6]. ومن السفاهة والحماقة أن يتخذ الناس آلهة من دون الله، يعبدونها ويحبونها، ويرجونها ويخافونها، ويتقربون إليها، وهي غافلة عنهم لا تسمع ولا تعقل. فماذا خلقت هذه الآلهة، وماذا صنعت؟ {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ

يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف: 191]. وهذا الكون قائم معروض على الأنظار والقلوب فماذا لهم فيه؟ وأي قسم من أقسامه أنشأوه؟ .. وأي جزء من أجزائه شاركوا في بنائه. والله سبحانه يلقن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليواجه الكفار بشهادة كتاب الكون المفتوح، الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]. فهذه الأوثان والأصنام التي تعبدونها من دون الله ماذا عملت؟ هل خلقت من أجرام السموات والأرض شيئاً؟ هل خلقوا جبالاً؟ .. هل أجروا أنهاراً؟ .. هل خلقوا حيواناً؟ .. هل أنبتوا أشجاراً؟ .. هل أرسلوا رياحاً؟ .. هل أنزلوا غيثاً؟. هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ .. كلا .. وكلا. فهذه الأنداد لا تملك نفعاً ولا ضراً، فهي عاجزة ضعيفة، وعبادة العاجز الضعيف الذليل قبيحة باطلة لا تليق بعاقل. فهذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تستحق شيئاً من العبادة: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. فتلك المعبودات من دون الله لم تخلق شيئاً فكيف تُعبد؟ وليس هناك كتاب إلهي يقر هذا الشرك، أو بقية علم يقر خرافة هذه الآلهة التي تعبد من دون الله؟ فما أحسن العقل والفهم والبصيرة، وما أقبح الجهل والتقليد والتعصب؟ {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]. وعقائد المشركين في مكة مختلفة:

فمنهم من يعبد الملائكة .. ومنهم من يعبد الجن .. ومنهم من يعبد الشمس والقمر .. ومنهم من يعبد الأصنام المختلفة .. وكل يعمل على شاكلته. وكان أقل عقائدهم انحرافاً من يقولون عن هذه الآلهة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. ومن العجيب حقاً أننا لو عرضنا على أحد المسلمين صنماً من الذهب، وقلنا هذا يأتي بالرزق والأولاد؟ لقال: أعوذ بالله هذا شرك. فإذا حولناه إلى نقود ذهبية وجئنا به إليه، قال هذا المسلم: احفظوه، فإنه قاضي الحاجات، المغني عن الناس، فارج الكربات، ومغيث اللهفات. فبلسانه يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وبيده يمسك النقود الذهبية، كما يمسك الغريق بحبل النجاة. وبقلبه يتعلق بها ويرى فيها قضاء حاجاته من دون الله. وهذا هو الشرك الخفي الذي يقول الله عنه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. إن أي فكرة وأي عقيدة وأي شخصية .. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر .. وهذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من الحق الذي أمر الله به. وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان المؤثرين في هذا الوجود، وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة وانتفاش. والمشركون في أنحاء الأرض يشركون مع الله آلهة أخرى في صور شتى. ويقوم الشرك ابتداءً على إعطاء غير الله سبحانه شيئاً من خصائص الإلهية ومظاهرها، ظلماً وعدواناً. وفي مقدمة ذلك حق التشريع للعباد في شئون حياتهم كلها. وحق الاستعلاء على العباد، وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات.

ثم تأتي مسألة تشريع العبادات الشعائرية للبشر، وكل ذلك ظلم للعباد. فإن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد. وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده لا شريك له. ولتتلقى منه الشريعة والأخلاق والآداب بلا منازع. ولتعبده وحده بلا أنداد. فكل ما خرج عن قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق، ومن ثم فهو واهٍ هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطاناً، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة، وكيف يؤثر وهو لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة؟. وما دام المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً، فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبداً في رعب وخواء: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)} [آل عمران: 151]. وفطرة الله التي فطر الناس عليها تعرف ربها، وتلجأ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة. فالهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم القيامة، فالناس في الدنيا يصادفون ويواجهون الهول والكرب في ظلمات البر والبحر، فلا يتوجهون عند الكرب إلا إلى الله، ولا ينجيهم من الكرب إلا الله، ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)} [الأنعام: 63، 64]. إن الفطرة عند الشدائد تلفظ كل شيء من دون الله، وتطرح كل شيء، وتتعرى من كل شيء، وتتوجه إلى بارئها وفاطرها، وتتجه إلى الإله الحق بلا شريك، ولا تلتفت لشيء سواه. لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك.

والانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة. والجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل. إن الله عزَّ وجلَّ فطر كل نفس على التوحيد، فتتوجه إلى بارئها عند الخوف، وعند الطمع، وعند الشدة. وكثير من الناس يعترفون بالله رباً، ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً، بينما يجعلون أوامر الطاغوت مقدمة، تخالف في سبيلها أوامر الله وشريعته، بل تنبذ نبذاً، لاعتقادهم أنها سبب التخلف والمصائب: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57]. والجاهلية القديمة على ما فيها من شرك أكثر أدباً مع الله، فقد كانت تتخذ مع الله آلهة أخرى لتقربها إلى الله زلفى. فكان الله في حسها الأعلى. فأما الجاهلية الحديثة، فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله سبحانه عندها. فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة .. وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً شنيعاً. إن الله تبارك وتعالى يأمر المرأة بالعفة والحشمة، والفضيلة والقرار في البيوت، ولكن الوطن والإنتاج يأمرها بأن تخرج وتتعرى، وتعمل مضيفة سافرة على ظهور الطائرات، وصالات الفنادق، وساحات المصانع، وأماكن الرذيلة. فمن الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه؟ .. أم أوامر الطاغوت؟ والله سبحانه يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة، ولكن الوطن والقومية تستبعد العقيدة، وتأمر أن يكون الجنس أو القوم هم القاعدة. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله جلَّ جلاله .. أم هي الآلهة المدعاة؟ والله عزَّ وجلَّ يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة، ولكن عبداً من العبيد أو

مجموعة من الشعب تقول كلا، إن العبيد هم الذين يشرِّعون، وشريعتهم هي الحاكمة، وهذا كله قائم ظاهر في جميع بلاد الإسلام إلا ما شاء الله. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه؟ .. أم هي الآلهة المدعاة؟. والقرآن الكريم يحاور المشركين، ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري أياً كانت طفولته فيقول: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف: 191، 192]. إن الإله الذي يخلق هو الذي يستحق أن يُعبد، فكيف يشركون به من لا يخلق، بل هو مخلوق؟ والملك الذي يملك أن يرزق عباده، ويملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم، هو الذي يجب أن يعبد. فالخلق والأمر .. والقوة والقهر .. والغنى والملك .. هي خصائص الربوبية .. وموجبات العبادة والعبودية. وما يشركون به لا قوة لها ولا سلطان، لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا نصر غيرهم، فكيف يجعلونها شريكة لله؟. يا حسرة على العباد كيف لعب الشيطان بعقولهم إلى هذا الحد؟. إن العقل البشري لو خلي بينه وبين واقع الأمة اليوم، وما حل بها من شرك وظلم وفساد، فإنه لا يقره ولا يرضاه. ولكنها الشهوات والأهواء، والتضليل والخداع، هي التي جعلت البشرية ترتد إلى هذه الجاهلية، فتشرك بالله ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون. إن البشرية لفي حاجة اليوم، كما كانت في حاجة بالأمس، إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى، لتؤوب إلى ربها، وتسعد بهداه.

في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام، ويخرجها من الظلمات إلى النور، ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية، كما أنقذها الدين أول مرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فهل من مشمر؟. إن شرك تلقي الأحكام من البشر، مثل شرك عبادة الأوثان والأصنام سواء. هذا شرك في العبادة .. وهذا شرك في الشريعة. وهذا كله شرك، وخروج من التوحيد الذي يقوم عليه دين الله، والذي تعبر عنه شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). والله تبارك وتعالى ينبه هؤلاء المشركين إلى سخف ما هم عليه من الشرك، إذ كيف يتخذون آلهة لا تخلق بل هي مخلوقة؟ ولا تنصر عبَادها، بل لا تملك لنفسها ولا لغيرها نصراً؟ أين عقول هؤلاء، كيف يدعون من دونهم أو أمثالهم؟ وكيف يدعون من لا يستجيب لهم؟. وكيف يعبدون من هو غافل عنهم؟. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 5، 6]. فما أعجب حال الإنسان إذا أضل؟ وما أخسر البشر الذين لا يستفيدون عن عقولهم؟ {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} [الأعراف: 191 - 194]. إن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله أحجار هامدة، ليس لها أرجل ولا أيدي، وليس لها أعين ولا آذان، وليس لها عقول ولا إدراك. هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم، فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه

الأحجار الهامدة؟: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} [الأعراف: 195]. فلا بدَّ لصاحب الدعوة إلى الله أن يستهين بهذه الأسناد والأصنام، وأن يتجرد منها، فهي في ذاتها واهية واهنة، مهما بدت قوية قادرة. وحتى لو قدرت على أذاه، فإنما تقدر على أذاه بإذن ربه، فليواجههم بقوة مولاه، وليتوكل على الله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196]. إن صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة، وإلا بمثل هذا اليقين: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} [الحجر: 94 - 96]. ولقد كان مشركو العرب يعرفون أن الله هو خالق هذا الكون، فإن معرفتهم بالله لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة كما يظنه بعض الناس. ولم يكن شرك العرب متمثلاً في إنكار الله سبحانه، ولا في عدم معرفتهم الحقيقة كما قال الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38]. إنما كان أكثر شركهم يتمثل في عدم إخلاصهم العبودية لله، وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره، وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم له. فأما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهيتها كألوهية الله سبحانه.

وإنما اتخذوا الشعائر والعبادة لها، لتكون مجرد شفعاء عند الله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فلا يكفي للمسلم الاعتقاد وأداء الشعائر لله وحده فقط .. بل لا بدَّ مع ذلك من إقامة الحياة كلها على منهج الله .. وتحقيق التوحيد في شعب الحياة كلها .. ورفض العبودية لغير الله في كل عمل كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. وأهل الكتاب بعدما حرفوا كتابهم، وبدلوا شرائعه، هم كفار مشركون كما قال الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. والأحبار: جمع حبر، وهو العالم من أهل الكتاب، وكثر إطلاقه على علماء اليهود. والرهبان: جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة، وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب. واليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم، ومع هذا فقد حكم الله عليهم بالشرك والكفر، لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها. وهذا وحده يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله. والآية الكريمة تسوي في الوصف بالشرك بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوهم واتبعوهم، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً، وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من الإيمان إلى

الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك. فالشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته، ولا تقديم الشعائر التعبدية له. عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالََ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ» وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي (¬1). إن دين الحق الذي لا يقبل الله ديناً غيره هو الإسلام، والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة، بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، وتقديم الشعائر التعبدية له وحده لا شريك له. فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله، صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى .. من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله. لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم، يثبت منه أنهم لا يتبعونهم إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه. فالدين يتجلى في ثلاثة أمور: إيمان في القلب .. وأداء الشعائر التعبدية لله .. وتنفيذ الشرائع التي أنزلها الله لعباده. والذين يعتقدون بألوهية الله سبحانه، ويقدمون له وحده الشعائر، ويتلقون الشرائع من غيره، هم مشركون بنص القرآن. وهذا أخطر شيء على الدين، وهو من أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه، ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).

الذين يخدعون بعض الناس على أنهم بهذا مسلمون. والله سبحانه يقرر في أمثالهم أنهم مشركون، لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. وهؤلاء الأرباب يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، فيتبعونهم ويطيعونهم، فتلك عبادتهم إياهم. والله تبارك وتعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل المشركين عما يعبدونه من الشركاء، وماذا يملكون من الأمر الذي به يستحقون العبادة؟. فقال له: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35]. والمشركون مقرون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، ولكنهم غير مسلمين بإعادته ولا بالبعث والنشور كما قال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7]. ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق، ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم. إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم، وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره، وعدله ورحمته. وإذا كان هؤلاء الكفار يؤمنون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، فما لهم لا يؤمنون بأنه كذلك قادر على أن يعيده، وهذه الإعادة قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يؤمنون به. ثم يسألهم مرة أخرى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ

تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35]. هل من شركائكم الذين أشركتموهم مع الله من ينزل كتاباً، ويرسل رسولاً؟ وهل فيهم من يضع نظاماً، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير، ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس، ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة، كما هو معهود لكم من الله، ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله، وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟. ولوضوح الحجة قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله يهدي للحق، ومن هنا تنشأ قضية جوابها مقرر: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35]. فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالإتباع ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا ينطبق على كل معبود من دون الله سواء كان حجراً أو شجراً أو كوكباً، أو كانوا من البشر بما في ذلك عيسى بن مريم عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بُعث هادياً للناس، فغيره من باب أولى. فما أعجب حال أكثر البشر، كيف يحيدون عن الحق الواضح المبين، ويتعلقون بأوهام وظنون لا تغني من الحق شيئاً: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} [يونس: 36]. وعجيب أمر هؤلاء الكفار إنهم يقرون أن الله خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ولكنهم مع هذا يعبدون الأصنام أو الجن أو الملائكة، ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء في الخلق، وهو تناقض عجيب. فأنى يؤفكون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب؟ وعجيبة أخرى تقع منهم، وفيها التناقض والاضطراب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65].

فهم مضطربون متقلبون؟ إذا خافوا وحدوا الله في مشاعرهم وألسنتهم سواء. وإذا أمنوا أشركوا مع الله غيره، وانحرفوا من التوحيد إلى الشرك. وهذا الانحراف ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة، وما آتاهم من الفطرة، وما آتاهم من البينة، وأن يتمتعوا في الدنيا إلى الأجل المقدور، ثم تكون عاقبتهم الشر والسوء: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)} [العنكبوت: 66]. والشرك: معناه أن تجعل لله شريكاً في ربوبيته أوألوهيته، أو أسمائه أوصفاته. فإذا اعتقد الإنسان أن مع الله خالقاً أو معيناً فهو مشرك. وإذا اعتقد أن أحداً سوى الله يستحق أن يعبد فهو مشرك. وإذا اعتقد أن لله مثيلاً في أسمائه أو صفاته فهو مشرك. والشرك بالله ظلم عظيم؛ لأنه اعتداء على حق الله تعالى الخاص به وهو التوحيد، فالتوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم، وأقبح القبائح؛ لأنه تنقص لرب العالمين، واستكبار عن طاعته، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، ولعظيم خطره فإن الله لا يغفره. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ للشرك أربع قبائح في أربع آيات وهي: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. 2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116]. 3 - وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. 4 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 31]. والجبت: هو كل ما لا خير فيه من السحر والكهانة والعرافة وغيرها، وهو من

الشرك. والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود كالأصنام، أو متبوع كعلماء الضلالة، أو مطاع كالأمراء والرؤساء، وهو من الشرك. والعيافة: هي زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإن ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب شمالاً تشاءم، وهي من الجبت. والطرق: هو الخط على الأرض على سبيل السحر والكهانة، ثم يقول: سيحصل كذا، أو حصل كذا، وهو من الجبت. والتطير: هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم كالأيام والشهور، وهي من الجبت، وأضيفت إلى الطير؛ لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، وكان العرب يتشاءمون بالطير والمكان والزمان والأشخاص والنبات والحيوان، وهذا كله من الشرك. والكهان: هم رجال أو نساء في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، تنزل عليهم الشياطين التي تسترق السمع وتخبرهم، ثم يضيف الكاهن إلى هذا أخباراً كاذبة، فيقول: حصل كذا، أو سيقع كذا، فيصدقه الناس إذا وقع ما أخبر به، ويعتقدون أنه عالم بالغيب، وهذا من الشرك. والعراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، ويخدع بها ضعاف العقول، وهذا من الشرك. وهناك أقوال وأفعال من الشرك أو من وسائله ومنها: لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه، وذلك شرك، وتعليق التمائم على الأولاد، سواء كانت من خرز أو عظام أو كتابة، وذلك اتقاء للعين، وذلك شرك. والتبرك بالأشجار والأحجار والآثار والقبور ونحوها، فطلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء شرك؛ لأنه تعلق بغير الله في حصول البركة. والسحر: وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، وهو عزائم ورقى وكلام يتكلم به،

وأدوية، فيؤثر في القلوب والأبدان، فيقتل أو يمرض أو يفرق بين المرء وزوجه. وهو عمل شيطاني، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك. والسحر شرك؛ لما فيه من التعلق بغير الله من الشياطين، ولما فيه من ادعاء علم الغيب. قال الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. وقد يكون السحر معصية من الكبائر إذا كان بأدوية وعقاقير فقط. والاستسقاء بالنجوم هو عبارة عن نسبة نزول المطر إلى طلوع النجم أو غروبه كأن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فينسب نزول المطر إلى الكوكب لا إلى الله، فهذا شرك؛ لأن نزول المطر بيد الله، لا بيد الكوكب ولا غيره. ونسبة النعم إلى غير الله شرك؛ لأن كل النعم من الله، فمن نسبها إلى غيره فقد كفر، وأشرك بالله. كمن ينسب نعمة حصول المال أو الشفاء إلى فلان، أو ينسب نعمة السير والسلامة إلى السائق والملاح والطيار. وينسب نعمة حصول النعم، أو اندفاع النقم، إلى جهود الحكومة أو الأفراد أو العلم ونحو ذلك. فيجب نسبة جميع النعم إلى الله كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. والله جل جلاله خلق الخلق لعبادته، المتضمنة لكمال محبته وتعظيمه، والخضوع له. ولهذا خلق الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق السموات والأرض. والله تبارك وتعالى يحب نفسه .. ويحمد نفسه .. ويقدس نفسه .. ويحب من يحبه .. ويحمده ويثني عليه.

بل كلما كانت محبة عبده له أقوى، كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه. ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض شيء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به. ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده، إذا كان من المخلوقين. فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً؟. ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده، وبين غيره في هذه العبودية والمحبة؟. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 156]. فما أجهل الإنسان وما أضله حين يعبد من دون الله أصناماً ناقصة في ذاتها وفي أفعالها، فلا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً؟. بل لا تملك لنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مهجناً لأبيه عبادة الأوثان: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42]. فهذا برهان جلي يدل على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله وأحواله مستقبح عقلاً وشرعاً .. فهل يليق بالإنسان عبادته، وترك عبادة الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؟. ومن شناعة الشرك وقبحه أن الحيوانات اشمأزت منه، فالهدهد جاء إلى نبي الله سليمان - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره بما رأى من الشرك، وصار داعياً إلى التوحيد، فقد ذهب الهدهد إلى مملكة سبأ، فلما جاء إلى سليمان قال له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ

وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 22 - 26]. فمتى يغار أهل التوحيد على البشرية من الشرك؟. ومتى ينقذونهم من عدوهم الذي زين لهم الشرك والبدع والمعاصي؟. ومتى يؤدوا أمانة الدعوة إلى التوحيد التي كلفهم ربهم بها؟. {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].

5 - خطر النفاق

5 - خطر النفاق قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. المنافقون قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر، ومعاداة الله ورسله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف منهم عذاباً، والمنافقون تحتهم في دركات النار. فالطائفتان اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، وهم الذين يدلون العدو على عورات المسلمين، ويتربصون بهم الدوائر صباحاً ومساءً. وهم أشقى الأشقياء، ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، كما استهزؤوا بالمسلمين في الدنيا، ويعطون نوراً يتوسطون به على الصراط، ثم يطفئ الله نورهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد: 13]. ويضرب الله بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد: 13 - 15]. فهؤلاء المنافقون خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداء.

فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم، كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]. وجماعة المنافقين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام بعد أن غلب وظهر وعلا أمره. فرأى هؤلاء أن حب السلامة، وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف سرا، بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف علانية. وهؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى الجهاد والبذل تخلفوا عن الركب، ونكصوا عن البذل، ومالوا إلى عرض تافه، أو مطلب رخيص في كل زمان، وفي كل مكان: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)} [التوبة: 42]. إن هؤلاء المنافقين يعيشون على هامش الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع، ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي. يهلكون أنفسهم بهذا الحلف، وبهذا الكذب، وما يكذب إلا الضعفاء الأقزام. ويخيل إليهم أن الحلف والكذب على الناس سبيل النجاة. والله يعلم الحق، ويكشفه للناس، ويهلك الكاذب في الدنيا والآخرة. ألا ما أخطر المنافقين على المسلمين، خاصة في ميدان الجهاد، فالنفوس الخائنة خطر على الجيوش المتماسكة: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 47]. إن القلوب الحائرة تبث الخدر والضعف في الصفوف، ولو خرج المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم، بل لزادوهم اضطراباً وفوضىً، ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة، والفرقة والتخذيل، وفي المسلمين من يسمع لهم.

والله عزَّ وجلَّ عليم بالمنافقين لا يبعث فيهم همة الخروج مع المسلمين للجهاد، لما يعلمه من سوء نواياهم، فأقعدهم مع القاعدين الذين لا يستطيعون الغزو، فهذا مكانهم اللائق بالهمم الساقطة، والقلوب المرتابة، والنفوس الخاوية من اليقين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46]. وقد وقف المنافقون في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبذلوا ما في طوقهم لتمزيق كلمة المسلمين، حتى غُلبوا على أمرهم، فاستسلموا وفي القلب ما فيه: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} [التوبة: 48]. وكان ذلك عند مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه، ثم جاء الحق، وانتصرت كلمة الله، فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون لله ورسوله ودينه، وأتباعه. وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين، وهم كذلك إلى يوم القيامة ولا يخلو منهم زمان ولا مكان. إن الإيمان الحق متى استقر في القلب، ظهرت آثاره في السلوك، والإيمان عقيدة متحركة من الشعور الباطن إلى حركة سلوكية واقعية، فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم، ويبذلون في سبيله أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم. والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها، ثم يدعها ويمضي مخالفاً لها، وقد كان المنافقون يدعون الإيمان، ويخالفون مدلوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} [النور: 47]. وهذا الفريق الذي يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان. المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام، ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله إلا أن تكون لهم مصلحة،

لعلمهم أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف عن الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن. هذا الفريق الناقص من الناس لا يريد الحق، ولا يطيق العدل، ومن ثم يعرضون عن التحاكم إليه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)} [النور: 48، 49]. إن الرضا بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق، وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يرفض حكم الله ورسوله إلا سيئ الأدب، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان. إن حركة النفاق حركة مدنية، لم يكن لها وجود في مكة، لأنه لم يكن هناك ما يدعو إليها، فالمسلمون في مكة كانوا في موقف المضطهد الذي لا يحتاج أحد أن ينافقه. فلما أعز الله الإسلام والمسلمين بالأوس والخزرج في المدينة، وانتشر في العشائر والبيوت، بحيث لم يبق بيت إلا دخله الإسلام، اضطر ناس ممن كرهوا للإسلام وللرسول أن يعز ويستعلي، ولم يملكوا في الوقت ذاته أن يجهروا بالعداوة، اضطروا للتظاهر بالإسلام على كره، وهم يضمرون الكفر والحقد والبغضاء، ويتربصون بالرسول وأصحابه الدوائر. وكان وجود اليهود في المدينة، وتمتعهم فيها بقوة عسكرية ومالية، وكراهيتهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولدينه وأتباعه مشجعاً للمنافقين. وسرعان ما جمعتهم البغضاء والحقد، فأخذوا جميعاً يحيكون الدسائس والمؤامرات في كل مناسبة ضد المسلمين. فإن كان المسلمون في شدة جهروا بعدائهم وبغضائهم .. وإذا كان المسلمون في رخاء ظلت المؤامرات والدسائس سرية .. ودبرت المكايد في الظلام. فما أخطر المنافقين الذين تولوا عن الإيمان بعد إذ شارفوه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا

عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)} [محمد: 25، 26]. ألا ما أخسر صفقة النفاق والمنافقين، إنهم عند الموت تُضرب وجوههم وأدبارهم، الأدبار التي ارتدوا إليها من بعد ما تبين لهم الهدى، فيا لها من مأساة وخسارة: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 27، 28]. فالمنافقون هم الذين اختاروا لأنفسهم هذا المصير، وهم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه من اليهود. وهم الذين كرهوا رضوانه فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه، فأحبط أعمالهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)} [محمد: 28، 29]. تلك الأعمال التي يُعجبون بها، ويحسبونها مهارة وبراعة، يتآمرون بها على المؤمنين، ويكيدون لهم، فإذا بهذه الأعمال تورثهم ذلة في الدنيا، وعذاباً في الآخرة: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140]. إن بلية الإسلام والمسلمين بالمنافقين شديدة جداً، وخطرهم على المسلمين قوي جداً، لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه، يهدمون ويفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} [البقرة: 11]. يخرجون عداوتهم للإسلام في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو

غاية الجهل والإفساد: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة: 32]. فارقوا الوحي، وتركوا الاهتداء به، ونزلت عليهم نصوص الوحي نزول الضيف على أقوام لئام، فقابلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام. يرون أنفسهم أهل العلم والمعرفة، ويرون المتمسك من الناس بالكتاب والسنة سفيهاً غير مقبول، فلا يسمعون منه، ولا يستجيبون له: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 13]. ألا ما أخطرهم على جسد الأمة، لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والغل والكفران، ألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8]. رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} [البقرة: 9]. قد أنهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت المقاصد السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 10]. فسادهم في الأرض كثير، يخرجون العباد من الدين، ويحولون بينهم وبين التصديق، لكل منهم وجهان: وجه يلقي به المؤمنين .. ووجه ينقلب به إلى إخوانه الملحدين. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [البقرة: 14]. قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاءً بأهلهما واستحقاراً، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحاً بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا شراً،

يستهزؤون بالمؤمنين، ويعظمون إخوانهم الكافرين: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 15]. خرجوا في طلب التجارة البائرة، والعلوم السافلة، في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك، فهلكوا وأهلكوا وخسروا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]. أضاءت لهم مصابيح الإيمان، فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال، ثم طغى ذلك النور، وبقيت نار تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون، وفي تلك الظلمات يعمهون: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 17، 18]. أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان. وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن. وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 18]. ألا ما أجهل المنافقين وما أسفههم، نزل عليهم صيِِّب الوحي، وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد، والأمر والنهي، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وجدوا في الهرب: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} [البقرة: 19]. قام بهم الرياء وهو أقبح مقام قام به الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم ثقيلاً: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. هم بين الناس كالشاة التائهة بين الغنمين، تفيء إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، ولا

تستقر مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين، ينظرون أيهم أقوى، وأعز قبيلاً: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} [النساء: 143]. يتربصون بالمسلمين الدوائر، فإن كان للمؤمنين نصر وغنائم قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكفار نصيب قالوا ألم نكن معكم ضد المؤمنين. ألا ما أسفه المنافقين؟ .. حقاً إن المنافقين هم الكافرون: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]. يعجب السامع من قول أحدهم لحلاوته ولينه، ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ولينه، فتراه عند الحق نائماً، وفي الباطل قائماً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204]. يأمرون بكل فساد، وينهون عن كل صلاح، يلبسون لباس التقوى، وفي قلوبهم الكفر البواح، يقول أحدهم ما لا يفعل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]. ألا ما أخزاهم، وأشد كفرهم، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله أن ينفقوه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]. ألا ما أغلظ كفر المنافقين؟ .. وما أقسى قلوبهم؟ .. وما أخطر كيدهم؟. إن حاكمتهم إلى صريح الوحي نفروا، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61].

فكيف لهؤلاء بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم ودينهم؟. وأنى لهم التخلص من الضلال والردى وقد اشتروا الكفر بالإيمان؟. {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} [النساء: 62]. وقد أقسم الله عزَّ وجلَّ محذراً لأوليائه، ومنبهاً على حال هؤلاء بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. تسبق يمين أحدهم كلامه، لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)} [المنافقون: 2]. برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق، وبعد الشقة، نكصوا على أعقابهم ورجعوا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]. أحسن الناس أجساماً، وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخبثهم قلوباً. فهم كالخشب المسندة، التي لا ثمر لها ولا ينتفع بها: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} [المنافقون: 4]. يؤخرون الصلاة عن وقتها، ولا يشهدون الجماعة إلا قليلاً: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. تلك معاملتهم للخالق، أما معاملتهم للخلق فكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه (¬1). يحلفون كذباً إنهم منكم وما هم منكم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33) واللفظ له، ومسلم برقم (59).

مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} [التوبة: 56]. ليس في قلوبهم شجاعة، يخافون إن أظهروا حالهم من المؤمنين، ويخافون أن تتبرؤوا منهم فيتخطفهم الأعداء، قد جمعوا بين رذيلتين: رذيلة الكذب، ورذيلة الجبن، فما أشد خوفهم وجبنهم: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: 57]. إن أصاب المؤمنين عافية ونصر، ساءهم ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله، وامتحان يمحص قلوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120]. ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها ووضعوها، وتفلتت منهم السنن فلم يحفظوها، ولم يعملوا بها، فأحبط الله أعمالهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 9]. وهؤلاء المنافقون متفقون تماماً مع أعداء الله ورسوله في محاربة الإسلام وأهله، ينفذون من ذلك ويظهرون حسب الظروف المناسبة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)} [محمد: 26]. أسروا سرائر النفاق، فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم، وفلتات اللسان: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} [محمد: 29، 30]. فكيف بهم إذا جمعوا ليوم التلاق، وتجلى الله جل جلاله للعباد، وعُرضت أعمالهم عليهم في المعاد؟: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم: 43]. وكيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به

مواطئ الأقدام، فقسمت بين الناس أنوار الإيمان، وبقوا هم في الظلمات يتخبطون. تباً لهم إن ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكفار. فماذا يقول المنافقون حينذاك؟ .. وماذا يقال لهم؟ .. وإلى أين يصيرون؟. {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد: 13 - 15]. إن زرع النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب .. وساقية الرياء. ومخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة .. وعين ضعف العزيمة. فإذا تمت تلك استحكم نبات النفاق وبنيانه، ولكنه على شفا جرف هار، فإذا شاهد المنافقون سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، تبين للمنافق أن بضاعته التي حصلها كالسراب: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39]. ألا ما أخطر النفاق، وما أشد عقوبة المنافقين يوم القيامة: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 145، 146]. اللهم طهر قلوبنا من النفاق .. وأعمالنا من الرياء .. وألسنتنا من الكذب .. وأعيننا من الخيانة .. وجوارحنا من المعاصي.

6 - فقه التوفيق والخذلان

6 - فقه التوفيق والخذلان قال الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]. وقال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. النعم كلها من الله وحده .. نعم الطاعات كلها .. ونعم اللذات كلها. وعلى كل عبد أن يرغب إلى الله، أن يلهمه ذكرها، ويوزعه شكرها، وكما أن النعم منه سبحانه، ومن مجرد فضله، فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه. والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده، وتخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده، فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه، فهو مضطر إلى التضرع والابتهال إلى ربه، ليدفع عنه أسبابها، حتى لا تصدر منه. وإذا وقعت كذلك بحكم القدر، فهو كذلك مضطر إلى الدعاء والتضرع إلى ربه، ليدفع عنه عقوباتها. فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها: الشكر ... وطلب العافية .. والتوبة النصوح. ومدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد، بل بيد مقلب القلوب، ومصرفها كيف يشاء. فإن وفق عبده أقبل بقلبه إليه، وملأه رغبة ورهبة، فصار من السعداء. وإن خذله تركه ونفسه ونسيه، ولم يأخذ بقلبه إليه، فصار من الأشقياء.

وللتوفيق والخذلان أسباب وهي: أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت. فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان، والنوعان متفاوتان في القبول. فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت. وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول أعظم تفاوت، لكنه أقل من النوع الإنساني. فإذا كان المحل قابلاً للنعمة .. بحيث يعرفها .. ويعرف قدرها وخطرها .. ويشكر المنعم بها .. ويثني عليه بها .. ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود .. وعين المنَّة .. من غير أن يكون هو مستحقاً لها. بل هي لله وحده، ومنه وبه وحده، فوحده بنعمته إخلاصاً، وصرفها في محبته شكراً. وشهدها من محض جوده سبحانه، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزاً وضعفاً وتفريطاً. وعلم أن الله إن أدامها عليه فذلك محض فضله وصدقته وإحسانه. وإن سلبه إياها قهراً فهو أهل لذلك مستحق له. وكلما زاده الله من نعمه، ازداد ذلاً له وانكساراً، وقياماً بشكره، وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيقه شكرها، كما سلب نعمته من لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها. فإن لم يشكر نعمته سبحانه، وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سبحانه، سلبه إياها ولا بدَّ كما قال عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال سبحانه عن

قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 78]. والواجب أن يقول كما قال سليمان - صلى الله عليه وسلم - لما أوتي الملك: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]. والمؤمن يرى كل نعمة من ربه هو المالك لها، وهو المتفضل بها، منَّ بها على عبده من غير استحقاق منه، بل هي صدقة تصدق بها على عبده، وله أن لا يتصدق بها، وله أن يسلبها. فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئاً هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أنه أهلاً ومستحقاً، فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة، وعلت بها واستطالت على غيرها، فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 9، 10]. وإذا علم الله هذا من قلب عبد. يأس وكفر عند الضراء .. وفرح وفخر عند النعماء .. وكلاهما فتنة وبلاء .. وذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه. فإن محله غير قابل لها، ولا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22 - 23]. فأسباب الخذلان من النفس وفيها .. وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة. فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق سبحانه أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة، وخلق الشجر، هذه قابلة للثمرة، وهذه لا تقبلها.

وخلق النحلة قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانها، والزنبور غير قابل لذلك. وخلق سبحانه الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، ومحبته وتوحيده، وإجلاله وتعظيمه، ونصح عباده. وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل قابلة لضده، وهو الحكيم العليم. فكل خير فأصله توفيق الله للعبد .. وكل شر فأصله خذلانه لعبده. فالتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك .. والخذلان أن يخلى بينك وبين نفسك. وإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجوء والرغبة والرهبة، وحسن التوجه إليه. فمتى أعطى الله العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له أبواب الخير والبركات. ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مرتجاً عليه، فهو واقف دونه. وعلى قدر نية العبد وهمته ورغبته في ذلك، يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة تنزل من الله على عباده بقدر همهم ورغبتهم ورهبتهم. والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك. والله بصير بالعباد .. وهو الحكيم العليم .. يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به .. ويضع الخذلان في مواضعه اللائقة به. وما أُتي من أتي إلا من قِبل إضاعته الشكر والافتقار والدعاء. وما ظفر من ظفر بتوفيق الله وعونه إلا بقيامه بالشكر والافتقار والدعاء. وملاك ذلك كله الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وقد ضل أكثر الخلق عن باب التوفيق: إما لاشتغالهم بالنعمة عن شكر المنعم بها .. أو رغبتهم في العلم وتركهم العمل .. أو المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة .. أو الاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم .. أو إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها .. أو إقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها .. أو الاهتمام بالعادات والتقاليد وترك السنن

والآداب. والناس في الحياة قسمان: أحدهما: من قابلوا أمر الله بالترك ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بعدم الشكر ومنعه بالتسخط، ولم يستجيبوا لله والرسول. فهؤلاء أعداء الله ورسوله، وهم شر البرية، وليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى الحسرة والعذاب الأليم. وهؤلاء أكثر الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]. وهؤلاء هم الأشقياء في الدنيا، المخلدون في النار يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. الثاني: قسم قالوا: أنت ربنا ونحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك. سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله ورسوله، فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى النعيم المقيم كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. فانظر لنفسك من أي الفريقين أنت؟ وبأي العملين اشتغلت؟ .. ومن أطعت ومن عصيت؟ .. وماذا قدمت وماذا أخرت؟ وكل إنسان يوم القيامة سوف يخبر بما قدم وأخر: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 13].

هل قدم حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟ .. أو أخر حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟. وهل قدَّم أوامر الله على شهوات النفس؟. أو أخَّر شهوات النفس أو أوامر الله عزَّ وجلَّ؟ .. وهل قدم محبوبات الرب على محبوبات النفس؟. والله عزَّ وجلَّ خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أموالهم وأنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم، ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له، فتطيع ربها وتعبده بشرعه الذي أنزله. وقد خلق الله عباده، وخلق كل شيء من أجلهم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق بالعقل والعلم .. والبيان والنطق .. والشكل والصورة الحسنة .. والهيئة الشريفة .. واكتساب العلوم، والتخلق بالأخلاق الشريفة الفاضلة من البر والصدق والإيمان، والطاعة والانقياد. وقد اشترى الله عز وجل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل ثمن ذلك الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة لله، مصطفاة عنده، مرضية لديه، وقدر السلعة يُعرف بجلالة قدر مشتريها، وبمقدار ثمنها. فإذا عرف الإنسان قدر السلعة .. وعرف مشتريها .. وعرف الثمن المبذول فيها .. علم شأنها ومرتبتها في الوجود. فالسلعة أنت أيها المؤمن، والله المشتري، والثمن الجنة، والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام والخلود. والله عزَّ وجلَّ هو الملك العزيز الجبار، لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها وأعظمها قيمة وقدراً.

وإذا كان الرب قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه، يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه، وحياته وموته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض. ثم إن العبد لجهله أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه. ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه الشيطان، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه وخالقه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه، على عدوه الشيطان، أبغض خلقه إليه، واستبدل غضب ربه برضاه، ولعنته برحمته ومحبته. فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر: 15]. وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ خذلان من عصاه استدرجه، والاستدراج معناه أن يعامل الله العصاة والمجرمين باللطف والإحسان، مع تماديهم في الغي والإجرام. وذلك بأن يزيد الله نعمه عليهم، فيظنون أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي، حتى تحق عليهم كلمة العذاب كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183]. فكلما أحدثوا ذنباً، فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير والنعم، فيزدادون بطراً وإمعاناً في الغي والفساد، ثم يأخذهم الله تعالى أغفل ما يكونون: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183]. فالتوفيق أن لا يكل الله العبد إلى نفسه، بل يتولاه ويعينه ويدافع عنه. والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد ونفسه ويكله إليها. والعبد مطروح بين الله، وبين عدوه إبليس.

فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]. لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا لأحد من خلقك طرفة عين. ولضعف الإيمان، وضعف اليقين على الأعمال الصالحة، غيَّر أكثر المسلمين مكان الاجتماع، وغيَّروا موضوع الاجتماع، وغيروا أعمال الاجتماع. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كان المسجد مكان اجتماعهم، وموضوع الاجتماع الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وتعلم الدين، ومواساة الفقراء، واستقبال الضيوف، وتعلم القرآن والذكر والعبادة ونحو ذلك. وكان الاجتماع في المسجد لجميع المسلمين أغنياء وفقراء، وسائر الطبقات وأعمال الاجتماع إقامة الدين في أنحاء الأرض، وخروج الناس للدعوة إلى الله، وتعليم الناس أحكام دينهم، وقراءة القرآن، والعمل به، والخروج للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك. واليوم تغيرت الأحوال: فتغير مكان الاجتماع، فأصعب شيء على المسلم اليوم هو الاجتماع في المسجد، وصار الاجتماع في غير المسجد سهلاً، بل لذيذاً ومحبوباً، كالاجتماع في الفنادق والحدائق، والمطاعم والأسواق، والملاعب وأماكن الترفيه، فضلاً عن أماكن اللهو والفساد. وتغير موضوع الاجتماع فصار كله للدنيا، وأقيمت الدنيا بأركانها الخمسة على حساب الآخرة. وأركان الدنيا الخمسة بينها الله بقوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ

الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. فحل المال مكان الإيمان .. وحلت الشهوات مكان الأعمال .. وأعمال الدنيا مكان أعمال الدين .. فقام سوق الدنيا .. وتعطل سوق الدين عند كثير من المسلمين .. فنزلت بهم من الله المحن والشدائد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. ومتى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ. ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله، والاستعداد للقائه، وحل فيه حب المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا فاعلم أنه قد خسف به. ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس بالله إلى الأنس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى حب الخلوة مع غيره، فاعلم أنك لا تصلح له. والموجودون الآن من بني آدم أربعة أصناف: الصنف الأول: مؤمنون بالله، تعلموا الدين، وعملوا بالدين، ودعوا إلى الدين، بنية النبي، وبيقين النبي، وبفكر النبي، وبترتيب النبي، فهؤلاء خير القرون، ونصرة الله معهم، وفي مقدمتهم الصحابة رضي الله عنهم. الثاني: مؤمنون صالحون، لكنهم لا يقومون بالدعوة، فهم قانعون بالأعمال الصالحة، فالله يعطيهم في الدنيا حياة طيبة بقدر ما عملوا، وفي الآخرة لهم الجنة. لكن في الدنيا إذا جاءت الأحوال والمصائب فغالباً لا يستطيعون حفظ أنفسهم من الفتن. الثالث: مسلمون، ولكنهم غارقون في المعاصي والمحرمات. وهؤلاء مقلدون للكفار، يحبون معاشرتهم، فهم عبيد لهم، ولشهواتهم. الرابع: كفار ومشركون، وهؤلاء يبقون في الدنيا إلى آجالهم، ولكن إذا آذوا وقاتلوا الصنف الأول، فالله ينصر المؤمنين عليهم، ولو كانوا قليلي العدد والعدة.

والمطلوب جهد الصنف الأول على الصنف الثاني، ليأتي عندهم مع الصلاح الإصلاح .. وعلى الصنف الثالث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والترغيب والترهيب .. ليغيروا حياتهم من الاقتداء بالكفار، إلى الاقتداء بالأنبياء والصحابة في الدعوة والعبادة والاستقامة، وعلى الصنف الرابع بالدعوة إلى الله، وعرض الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة لعلهم يهتدون. والله عزَّ وجلَّ هو العزيز الحكيم الذي يأمر بالعدل والإحسان، عم بعدله عموم عباده، وخص من شاء منهم بفضله وإحسانه. ولو أن ملكاً أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولاً، وكتب معه كتاباً يعلمهم فيه أن العدو مصبحهم عن قريب، ومخرب البلد، ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكب وزاداً وعدة وأدلة، وقال: ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة لتنجوا. ثم قال لجماعة من مماليكه اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده، واحملوه ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى فلان وفلان كذلك، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي، فذهب خواص الملك إلى من أمروا بحملهم، فحملوهم إلى الملك، واجتاح العدو من بقى في المدينة، وقتلهم وأسر من أسر، فلا يعد الملك ظالماً لهؤلاء؟ بل هو عادل فيهم، لأنه حذرهم، وبين لهم سبيل النجاة. نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم، إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. والله تبارك وتعالى هو الذي جعل في قلوب عباده المؤمنين محبته والإيمان به، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان، وذلك محض فضله ومنته عليهم، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم؟ بل تولى سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده، فجاد عليهم به فضلاً منه ونعمة.

والله عليم بمواقع فضله، ومن يصلح له، ومن لا يصلح له، حكيم بجعله في مواضعه كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7 - 8]. والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له محباً له مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه، وهذا مجرد فضله، والعبد محل له. فلم تكن محبتكم للإيمان، وإرادتكم له، وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك. والذي حبب إليكم الإيمان، أعلم بمصالح عباده منكم، وأنتم لولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان. والنفس أمَّارة بالسوء، وهي منبع كل شر، وكل خير فيها ففضل من الله منَّ به عليها لم يكن منها كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. فحب الإيمان، وكراهية الكفر، وتزكية النفس بالإيمان محض فضل الله ونعمته على عبده، وهو الذي جعل العبد بسبب ذلك من الراشدين: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 8]. فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل، ويزكو عليه وبه، ويثمر عنده، وهو الحكيم فلا يضعه عند غير أهله، فيضيعه بوضعه في غير موضعه. والحسنات كلها من إحسان الله ومنِّه وتفضله على العباد بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]. فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب

سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول وقوة منهم إلا به، وهو سبحانه خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر، فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبه من نفسه. وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر ربه على ذلك، فزاده من فضله عملاً صالحاً، ونعماً يفيضها عليه. وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه، استغفر ربه وتاب، فزال عنه سبب الشر. فيكون دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. والعالم كله قسمان: سعداء .. وأشقياء. فالسعداء أربعة أنواع كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. وأما الأشقياء فهم نوعان: كفار .. ومنافقون. فذكر الكفار بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد: 19]. وذكر المنافقين بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. أما المخلط فليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه، لأنه أتى بسببه، فعسى الله أن يتوب عليهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى

اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} [التوبة: 102]. ومسارعة الكفار إلى الكفر لا تضر الله شيئاً، وإنما هي فتنة لهم، وقدر الله بهم. فقد علم الله من أمرهم وكفرهم، ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة، فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته. وقد كان الهدى مبذولاً لهم، فآثروا عليه الكفر، فتركهم يسارعون في الكفر، وأملى لهم ليزدادوا إثماً، مع الإملاء في الزمن، والإملاء في الرخاء. فهذا الإمهال والإملاء، إنما هو وبال عليهم وبلاء: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} [آل عمران: 176].

7 - فقه حمل الأمانة

7 - فقه حمل الأمانة قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. إن السموات والأرض والجبال، من المخلوقات العظيمة التي يبدو الإنسان أمامها شيئاً صغيراً ضئيلاً، هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى من يحكمها ويدبرها، وتطيع أمر الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري في تنفيذ أوامر خالقها دائبة منقادة. فهذه الشمس تدور في فلكها، وترسل أشعتها، وتجري لمستقر لها، وتؤدي وظيفتها التي قدر الله لها بلا إرادة منها. وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها، ولا كد ولا محاولة. وهذه السماء المرفوعة بما فيها من العجائب والمخلوقات الهائلة. وهذه الأرض بما فيها من الآيات والعبر، تخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها، وفق سنة الله بلا إرادة منها. وهذا الماء الجاري .. وهذه النباتات المختلفة .. وهذه الأشجار المثمرة .. وهذه الجبال العالية .. وهذه البحار الواسعة .. وهذه السهول .. وهذه الوهاد .. وهذه البطاح .. كلها تؤدي دورها .. وتقوم بوظيفتها طائعة منقادة بإذن بارئها .. خاشعة لربها .. تنفذ أمره بلا إرادة منها. هذه المخلوقات العظيمة في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، كلها أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.

وحملها الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى بارئه بتدبره وبصره، ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. حقاً إنها أمانة عظيمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الظلوم الجهول، الكفور العجول، الذي تحيط به المغريات، وتناوشه الشهوات، وتستبد به النزغات والميول والأطماع، وإنها لتبعة ثقيلة جسيمة. وبسبب ظلمه لنفسه .. وجهله بطاقته .. زج نفسه لحملها. وإنه لمقام عال كريم حين ينهض الإنسان بالتبعة، ويصل إلى معرفة بارئه، والاهتداء المباشر إلى ربه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، كالمخلوقات الأخرى، التي تعرف ربها مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا يحول بينها وبين بارئها حائل، ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء. إن الإنسان حين يصل إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد، فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد. إن الإرادة، والإدراك، والمحاولة، وحمل التبعة، هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله في السماء والأرض. وهي مناط التكريم، الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهوأمر الملائكة بالسجود لآدم، وأكرم بذلك ذريته من بعده. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان. واختصاص الإنسان بحمل الأمانة، وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه، ويهتدي

بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه. هذا كان ليتحمل عاقبة اختياره .. وليكون جزاؤه على عمله .. وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات .. والمشركين والمشركات .. وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات .. فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من ضعف ونقص .. وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم ويجذبهم من الشهوات والمغريات .. فذلك فضل الله وعونه. وقد حمل الإنسان هذه الأمانة: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب: 73]. والأمانات في الدين كثيرة، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأداء جميع الأمانات كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى، الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان، والتي أبت السموات والأرض أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهي أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته، وألزمه طاعة أمره بغير جهد منه. والإنسان وحده هو الذي وكله الله إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وقد حمل الإنسان هذه الأمانة العظيمة، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات، ومن هذه الأمانة تنبثق سائر الأمانات التي أمر الله أن تؤدى. ومن هذه الأمانات أمانة الشهادة لهذا الدين.

الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له، ترجمة حية في شعورها وسلوكها، حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس، فيقولون: ما أحسن هذا الإيمان وأطيبه وأزكاه، وهو يصوغ أصحابه على الجمال والكمال، وحسن الأخلاق والآداب. فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون فيدخلون فيه. والشهادة له كذلك بدعوة الناس إليه، وبيان فضله وجماله، فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان، وهي إحدى الأمانات الكبرى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجاً للبشرية كلها، بكل ما يملكه الفرد .. وتملكه الأمة من وسائل، فإقرار منهج الله في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان بالله، ولا يعفى من هذه الأمانة فرد ولا جماعة. ومن الأمانات التي يجب أداؤها، أمانة التعامل مع الناس، ورد أماناتهم إليهم، وأمانة المعاملات والودائع، وأمانة النصيحة للراعي والرعية، وأمانة القيام على الأهل والأولاد، وأمانة المحافظة على العبادات وأدائها في وقتها بصفتها خالصة لله، وسائر ما ورد في الدين من أحكام وواجبات، وسنن وآداب. فهذه من الأمانات التي يجب أن تؤدى كما أمر الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. ومن أعظم الأمانات وأهمها الحكم بما أنزل الله في أي جيل، وفي أي قبيل، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فإنما يرفض ألوهية الله ويرد أمره، وذلك كفر. وقد وصف الله عزَّ وجلَّ من لم يحكم بما أنزل الله بثلاث صفات هي: الكفر .. الظلم .. الفسق فقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة:

44]. وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]. وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47]. فالظلم صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله، فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله سبحانه، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده. وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة الله الصالحة المصلحة لأحوالهم، وهو ظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس وهو معهم للفساد. وصفة الفسق صفة ثالثة، تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل، فهو فاسق بخروجه عن منهج الله، واتباع غير طريقه. فالكفر برفض ألوهية الله ممثلاً في رفض شريعته .. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله .. والفسق بالخروج عن منهج الله وتجاوزه إلى غيره. لقد ربى الله تبارك وتعالى هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله، في نفوسها وحياتها وقوامتها على البشرية. لقد رباها الله عزَّ وجلَّ بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى التشريعات، وشتى الابتلاءات. وأعدها سبحانه بعقيدتها، وسلوكها، وأخلاقها، وشريعتها، ونظامها، لأن تقوم على دين الله في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر. وقد حقق الله ما يريده بهذه الأمة، فقامت في واقع الحياة الأرضية في عهده - صلى الله عليه وسلم - تلك الصورة الوضيئة من دين الله، حين كان دين أولئك سمعنا وأطعنا. وتملك البشرية ذلك اليوم حين تعود إلى ربها، وتجاهد لبلوغ رضاه، فيعينها

الله، والله غالب على أمره، وبيده مقاليد الأمور. والناس في الدنيا قسمان: 1 - قسم خلقه الله لجهنم، وهؤلاء هم الذين ينكرون الحق ويكذبون به فلهم جهنم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. 2 - وقسم متمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به، ويدافعون عنه، ولا ينحرفون عنه كما قال سبحانه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181]. فهذه الأمة الثابتة على الحق، العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، فهم يهدون بالحق، ويدعون إلى الحق، فهم لا يقتصرون على معرفة الحق والعمل به، إنما يتجاوزونه إلى الهداية به والدعوة إليه، ويتجاوزون معرفة الحق والهداية به، إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس، والحكم به بينهم، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس .. ولا مجرد وعظ يهدى به ويعرف .. إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله بلا استثناء. يحكم اعتقادهم .. ويحكم شعائرهم التعبدية .. ويحكم حياتهم الواقعية .. ويحكم أخلاقهم وسلوكهم .. ويحكم أفكارهم وعلومهم .. يصبغها بلونه .. ويضبطها بموازينه: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]. وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق وحده. والأموال والأولاد فتنة قد تقعد الناس عن الاستجابة لله والرسول خوفاً وبخلاً. والحياة التي يدعو إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياة كريمة .. لا بدَّ لها من تكاليف ..

ولا بدَّ لها من تضحيات. ولقلع هذا الحرص ينبه الله عباده إلى فتنة الأموال والأولاد، فهي موضع فتنة وابتلاء، ويحذرهم من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد، وعن النكوص عن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة. واعتبار هذا كله خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض. وهي إعلاء كلمة الله في الأرض .. وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل، وتنفيذ أوامر الله في عباده على مدار الزمان. ومع هذا التحذير، التذكير بما عند الله من أجر عظيم، يرجح بالأموال والأولاد التي تقعد الناس عن التضحية والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 27، 28]. فعلى الأمة المسلمة التي آمنت بالله أن تجاهد لتقرير عقيدة الإيمان في القلوب، وإقامة منهج الله في خلقه، وبذلك تكون قد أدت الأمانة التي حملتها. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان فقط .. وليس مجرد عبادات وأدعية وأذكار فقط .. إنما هو مع ذلك منهج حياة كاملة شاملة لبناء واقع الحياة الإنسانية على قاعدة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق، ورد المجتمع كله إلى حكمه وشرعه، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء، وتأمين الحق والعدل ومكارم الأخلاق للناس جميعاً. وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، وتعمير الأرض، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله، بمنهج الله، وفق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكل هذه أمانات عظيمة من لم ينهض بها فقد خانها، وخاس بعهد الله الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.

وأداء ذلك كله يحتاج إلى الصبر والتضحية، وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، والى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم لمن أدى الأمانة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28]. فقد وهب الله عباده الأموال والأولاد ليبلوهم بها، ويفتنهم بها، فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله فيها صنع العبد وتصرفه. أيشكر الله عليها، ويؤدي حق النعمة فيها؟. أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟ فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة، لئلا يخفق في الامتحان، ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض. فقد يضعف لثقل الأمر، خاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد، فيلوح الله له بما هو خير من ذلك وأبقى، ليستعين به على مقاومة الفتنة، ويتقوى ويثبت. وبعض الناس يظن أن الاعتراف بألوهية الله في ذاته هو الإيمان .. وأن الناس متى اعترفوا بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية .. دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو العبودية .. فيطيعونه ويخضعون له في كل شيء .. فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له .. ولا يحكمون في أمرهم كله غيره. وبعضهم يظن أن العبودية تتحقق بمجرد تقديم الشعائر لله .. ويحسبون أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده .. فقد عبدوا الله وحده، بينما كلمة (العبادة) مشتقة من عبد، وعبد تفيد ابتداء: دان وخضع. وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع، لا يستغرق كل حقيقة الدينونة، ولا كل مظاهرها. يا حسرة على العباد من سوء الفهم .. وسوء الظن .. وسوء الجهل.

إن الجاهلية ليست فترة من الزمان مضت فقط، إنما هي انحسار معنى الألوهية والعبادة على هذا النحو، هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك، وهم يحسبون أنهم على دين الله كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. فهل يليق بالمسلمين أن يؤدوا الشعائر لله، بينما أربابهم في الحياة غير الله، يشرعون لهم بما لم يأذن به الله فيطيعونهم، وتلك عبادتهم إياهم. والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق هذا الكون، وله الأمر والحكم فيه، فهو الذي يحكم العباد بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له وحده، ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما شرعه لهم في جميع أحوالهم، فلا يجوز لهم أن يشركوا معه أحداً سواه. إن على المصلحين والدعاة إلى الله أن يعملوا لإعادة هذا الدين في حياة الأمة إلى الوجود الفعلي في مختلف شعب الحياة، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في أغلب بقاع الأرض، وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام، وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر' تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين، وتوهمهم أنه لا يزال بخير، وهو يمحى من الوجود محواً، وتطرد شرائعه وأحكامه من واقع الحياة طرداً، وتهدم أركانه وواجباته وسننه كل حين. إن مجتمع التوحيد والإيمان قد وجد في مكة، قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد، وجد من يوم قيل للناس: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]. فعبدوه، ولم تكن عبادتهم حينئذ ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة لله وحده في كل شيء قبل نزول الشرائع.

وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع والشعائر، ودان الناس لربهم بهذا وهذا على حد سواء. إن الناس لا تتحول أبداً من الجاهلية وعبادة لطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده، إلا عن طريق ذلك الطريق الطويل البطيء، الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة من أول يوم فأفلحت. ذلك الطريق الذي بدأه فرد، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم تتبعه طليعة مؤمنة، ثم تتحرك هذه العصبة في وجه الجاهلية، وتعاني ما تعاني، حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق، ويمكن لها في الأرض فتقيم الشعائر والشرائع في جميع أحوالها، ثم يدخل الناس في دين الله أفواجاً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. وهذه الأمة التي اختارها الله لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، لها صفات، وعليها واجبات، ولها مكانة عند الله، ومكانة عند الناس. وقد جمع الله المنهاج الذي رسمه لهذه الأمة، ولخص التكاليف التي ناطها به، وقرر مكانها الذي قدره لها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 77، 78]. إن الله عزَّ وجلَّ يناديهم بالصفة التي ميزهم بها عن غيرهم وهي الإيمان، ثم يأمرهم بالركوع والسجود، وهما ركنا الصلاة البارزان، ثم يأمرهم ثالثاً بالأمر العام بالعبادة، وهي أشمل من الصلاة. فعبادة الله تشمل الفرائض كلها، وتزيد عليها كذلك كل عمل، وكل حركة، وكل

نية، يتوجه بها العبد إلى ربه، ثم يختم بفعل الخير عامة في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة. يأمر الله عزَّ وجلَّ الأمة المسلمة بذلك رجاء أن تفلح، فهذه هي أسباب الفلاح: العبادة تصلها بالله خالقها .. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة على قاعدة الإيمان بالله. فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة، من الصلة بالله، واستقامة الحياة، نهضت بالتبعة الشاقة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. والجهاد في سبيل الله يشمل: جهاد النفس .. وجهاد العدو .. وجهاد الشر والفساد .. كلها سواء. وجاهدوا في الله حق جهاده فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة، واختاركم لها من بين عباده، وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة، ينبغي أن يقابل منها بالشكر، وحسن الأداء لهذه الأمانة. وهو تكليف محفوف برحمة الله، فلا حرج فيه ولا مشقة. وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه، ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته، فلا تبقى طاقته حبيسة مكتومة، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم الذي يتلف كل شيء بلا حساب. إنه منهج الله الذي أكرم به البشرية، ملة أبيكم إبراهيم، منبع التوحيد الذي بقي في ذريته، لم ينقطع من الأرض، كما انقطع من قبل إبراهيم، وقد سماكم الله بالمسلمين من قبل، وبعد نزول القرآن. والإسلام هو إسلام الوجه والقلب لله وحده لا شريك له، فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الرسل والرسالات والأجيال، حتى انتهى بها

المطاف إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحتى سلمت إليها الأمانة، وعهد الله إليها بالوصاية على البشرية إلى يوم القيامة. فهذه الأمة هي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وهي أمينة على ذلك، ومسئولة عنه. فعليها أداء الشهادة لهذا الدين من خلال واقعها، ومنهج حياتها، كما أراد الله، ليدخل الناس في دين الله أفواجاً، وهي مسؤولة عنهم، وشاهدة عليهم. فما أعظم الكرامة .. وما أكبر المهمة .. وما أثقل الأمانة. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة، وهذه الأمة تشهد على الناس: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. وقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، ومشت به في الناس. حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله من مكان القيادة والعزة، إلى مكان التابع في ذيل القافلة، حتى تحكم فيها أحفاد القردة والخنازير من اليهود والنصارى. وما تزال ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اصطفاها الله له. وهذا الأمر العظيم يقتضي الاحتشاد له، والاستعداد له: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها الله لها، وشرفها بها. إن الإيمان أمانة الله في الأرض، ولا بدَّ من الابتلاء، ليعلم الله الصادق من الكاذب كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]. ومن الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي

يسانده ويدافع عنه، ولا يملك النصر لنفسه ولا المنعة، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة، فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت هي أمر وأدهى. هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً. وقد يهتفون به ليسالم أويستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك. وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين ومرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصاغ لهم الأمجاد، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا تقضي له حاجة، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه، إلا القليلون من أمثاله، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً. وهناك كذلك فتنة الغربة في البيئة، حين يرى المؤمن كل من حوله غارقاً في تيار الضلالة، سابحاً في بحر الشهوات، وهو وحده موحش غريب طريد. وهناك كذلك فتنة من نوع آخر، فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله ورسوله. وهناك فتنة أكبر من هذا كله، إنها فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الأرض، والرغبة في المتاع والسلطان، وفي الدعة والراحة، وصعوبة الاستقامة على صراط الله، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة. فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك

الأمانة الكبرى. أمانة السماء في الأرض .. وأمانة الله في قلب الإنسان. وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء .. وأن يؤذيهم بالفتنة .. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة .. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية الشاقة .. وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات .. وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام .. وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه .. على الرغم من طول الفتنة .. وشدة الابتلاء .. واقتحام الأهوال. والنفس تطهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها. وكذلك تفعل الشدائد بالمؤمنين، فلا يبقى صامداً إلا أصلبهم عوداً، وأشدهم اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده. وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها، بعد الاستعداد والاختبار. وإن هؤلاء الأخيار ليتسلمون الأمانة، وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما بذلوا لها من الصبر على المحن، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. فهؤلاء هم الذين يشعرون بقيمة الأمانة، فلا يهون عليهم أن يسلموها رخيصة، بعد كل هذه التضحيات والآلام. فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية، فأمر تكفل به الله، وما يشك مؤمن في وعد الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة .. ويقع عليهم البلاء .. أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله ودينه، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة .. فهو يختارهم للابتلاء حسب إيمانهم.

سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشد الناس بلاء؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). والذين يفتنون المؤمنين ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} [العنكبوت: 4]. فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. فإن الله عزَّ وجلَّ الذي جعل الابتلاء سنة، ليمتحن إيمان المؤمن، ويميز بين الصادقين والكاذبين، هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد. وإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب، وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين، وأخذ المفسدين، سنة جارية لا بدَّ أن تجيء. وهذه النفوس التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، إنما تجاهد لنفسها ولخيرها، واستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها، وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. فلا يقفن أحد في وسط الطريق يطلب من الله ثمن جهاده .. ويمن عليه وعلى دعوته .. ويستبطئ المكافأة على ما ناله .. فإن الله لا يناله من جهاد العبد شيء .. ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249). انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل. وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده .. وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} [العنكبوت: 7]. فليطمئن المؤمن على ماله عند الله، وليصبر على تكاليف الجهاد، وليثبت على مرارة الفتنة والابتلاء: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. ومن أدى الأمانة فاز بالجنة والرضوان، ومن ضيع الأمانة باء بالنار والخسران: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20]. هذا مبدأ الجزاء العادل الذي يفرق بين المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة، والذي يعلق الجزاء بالعمل على أساس العدل والإحسان. فما يستوي المؤمنون والفاسقون، في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا والآخرة سواء. المؤمنون متجهون إلى الله مؤمنون به عاملون بمنهجه. والفاسقون منحرفون شاردون، مفسدون في الأرض، لا يلتقون مع المؤمنين على منهج الله في الحياة. فلا عجب أن يختلف طريق المؤمنين وطريق الفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده، وما قدمت يداه. وميثاق الله تبارك وتعالى مع النبيين عامة، ومع أولي العزم خاصة، هو حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها.

وهو ميثاق واحد مطرد من لدن نوح - صلى الله عليه وسلم - إلى خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو منهج واحد، وأمانة واحدة، يتسلمها كل منهم، ويقوم بحقها، حتى يسلمها إلى من بعده، حتى انتهت إلى سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7]. والله عزَّ وجلَّ يطمئن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه على صراط مستقيم، ويوصيه بالتمسك بما أوحي إليه من ربه، والثبات عليه، مهما لاقى من عنت الشاردين عن الطريق بقوله سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} [الزخرف: 43]. إن هذا القرآن العظيم يرفع ذكرك وذكر قومك، بما فيه من الهدى والرشاد الذي سعدت به البشرية، وما زالت تسعد، والذي تحقق بفضل الله على يد الرسول ومن آمن معه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 44]. فأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن ملايين الشفاه تصلي وتسلم عليه في كل لحظة، في كل زمان ومكان، ومئات الملايين من القلوب، تخفق بذكره وحبه، من بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذي جعل لهم الدور الأكبر في حياة البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا، فعرفتهم بالصدق والأمانة والعدالة، ودانت لهم طول الفترة التي تمسكوا فيها به. فلما تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين. وإنها لتبعة ضخمة ستسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة إذا هي تخلت عن الأمانة. وقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من المهاجرين والأنصار على التضحية بكل شيء

من أجل إعلاء كلمة الله. والتضحية تكون ببذل المحبوب للوصول إلى ما هو أحب منه، وترك المحبوب لما هو أحب منه، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، وذلك لا يكون إلا مع كمال الإيمان. فالمهاجرون أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد من قرابتهم وعشيرتهم، لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله. وقد خرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً كما قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. خرجوا بدينهم معتمدين على الله، لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون، ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك هم الصادقون الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه، تمشي به في الناس. وهؤلاء السابقون من المهاجرين بذلوا كل شيء من أجل إعلاء كلمة الله، وضحوا بكل شيء من أجل نصرة دين الله. فهم أفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا غرابة فقد ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله: فضحوا بستة أشياء من أجل لا إله إلا الله، ضحوا بالأوقات .. والأنفس .. والأموال .. والبلدان .. والشهوات .. والجاه ولهذا سماهم الله بالصادقين، لأنهم أتبعوا القول بالعمل، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه .. ثم يليهم في الفضل الأنصار الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى

أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. هذه المجموعة العجيبة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاماً طائرة. هؤلاء الذين تبوءوا المدينة دار الهجرة قبل المهاجرين، كما تبوؤوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار. وهذا موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم، ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء إلى داره. ولم تعرف البشرية كلها حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين، لقد استقبلوهم بالحب الكريم، والبذل السخي، والمشاركة الطيبة في الأموال، وشاركوهم في الشعور والمشاعر، والإيمان والأعمال. وتسابق الأنصار إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين. فلله در هذه الأنفس ما أعزها وما أكرمها وما أشرفها. وهؤلاء الأنصار نفوسهم عزيزة كريمة، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون من مقام مفصل، ومن مال يختصون به، كهذا الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، وخصهم به دون الأنصار. بل يؤثرون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد له البشرية نظيراً، وكانوا كذلك في كل مرة، وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر. وحين أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمة ما أفاء الله عليه من أموال بني النضير قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة»؟.

وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم من الغنيمة شيء؟ فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فلله در هذه النفوس الأبية، وتلك القلوب الزاكية النقية. وشح النفوس هو المعوق عن كل خير، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، وقد حمى الله الأنصار منه. ولا يمكن أن يفعل الخير شحيح يهم أن يأخذ دائماً، ولا يهم مرة أن يعطى. على يد هؤلاء المهاجرين. وهؤلاء الأنصار .. قام شكل الدين .. وقامت روح الدين .. وقامت أخلاق الدين .. وكمل بناء الدين على أجمل صورة. وانتقلت أعمال الدين من جسد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هؤلاء، وكانوا نواة الإسلام الأولى، فحملوا الأمانة، وقاموا بها خير قيام، فرضي الله عنهم ورضوا عنه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. فأيُّ رجال أولئك؟ .. ماذا تركوا من الفضائل والأخلاق ما تجملوا به؟ .. وماذا تركوا من البلاد والأمصار ما فتحوها بلا إله إلا الله؟ أما الصورة الثالثة الجميلة الرضية الواعية فهي تمثل أول مجموعة انتقلت إليهم صفاتهم، وهم التابعون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. فهذه الآية تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أهم خصائص الأمة الإسلامية على الإطلاق، في جميع الأوطان والأزمان. هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى الله في طلب المغفرة لنفسها، ولسلفها الذين سبقوها بالإيمان، وفي طلب براءة

القلب من الغل على المؤمنين على وجه الإطلاق، مع الشعور واليقين برأفة الله ورحمته. هذه قافلة الإيمان تحمل جمال الظاهر .. وجمال الباطن .. وإنها لقافلة كريمة على الله وعلى الناس. إنها تقف صفاً واحداً، وكتيبة واحدة، على مدار الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والأنساب واللغات، تحت راية الله ورسوله. تقف بإيمانها مترابطة، متكافلة، متوادة، متعاونة صاعدة في طريقها إلى الله. فهل عرفتَ بشراً أفضل من هذا الطراز؟ وهل رأيت صدقاً وجمالاً وحسناً بلغ كماله في أحسن من هؤلاء؟ فأي جزاء وثواب، وأي مغفرة وأجر، ينتظر هؤلاء عند ربهم؟ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات من المؤمنين، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة: أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، وأدوا حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. انتقلت إليهم صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا القرن الأول الذين تلقوا أحكام الدين وسننه وآدابه وأخلاقه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة. وبذلوا من أجل ذلك كل شيء، فكانت أوقاتهم للدين .. وأفكارهم للدين، وأنفسهم للدين .. وأموالهم للدين .. وأعمالهم كلها قائمة على الدين. أئمة في العبادة .. وأئمة في الدعوة .. وأئمة في التعليم .. وأئمة في التعاون على البر والتقوى .. والتواصي بالحق .. والتواصي بالصبر.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، وَلا نَصِيفَه» متفق عليه (¬1). إن حرية الاختيار التي أعطاها الله سبحانه للإنسان عبر عنها في القرآن الكريم بكلمة الأمانة فقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. والأمانة معناها العام: أن يعطيك أحد شيئاً تحفظه عندك كأمانة بلا شهادة أحد، فإن كان هناك شهود، أو كُتب على ورقة، فهو دَيْن لا أمانة. والأمانة التي حملها الإنسان، عرضها الله قبل ذلك على عدد من مخلوقاته العظام، السموات والأرض والجبال، لكن هذه المخلوقات جميعاً رفضت أن تحمل الأمانة، لأنها أحست أنها لن تستطيع أن تفي بها. فالنِّعم التي أعطاها الله سبحانه لنا، لها حق أداء الشكر، وهذه المخلوقات كلها أحست بعجزها عن أداء حق الشكر لله عليها، ولذلك رفضت تحملها. وجاء الإنسان وقَبِل حمل الأمانة، قَبِل أن يأخذ النِّعم، ويؤدي عنها حق الشكر، وحق العبادة لله، وأن يكون في ذلك مختاراً يفعل أو لا يفعل، وفرح الإنسان بأن لديه رصيداً من النعم التي سخرها الله له، يستطيع أن يسحب منها كما يشاء، دون أن يؤدي حق الله فيها، حق الشكر، وحق العبادة، وحق الطاعة. ولقد كان الإنسان حين فرح بذلك ظلوماً لماذا؟ لأنه ظلم نفسه، فتحمل ما لا تقدر عليه هذه النفس الضعيفة، أمام مغريات الكون وشهواته. ولأنه ظلم غيره، لأن البعد عن منهج الله سبحانه لا يتم إلا بظلم، فلو اتبعنا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2540) واللفظ له.

جميعاً الحق ما بعدنا عن منهج الله، ولا فسدت الأرض، فالحق هو ما يطالبنا الله به. فإن اتبعناه فنحن لم نخن الأمانة، لأننا اتبعنا منهج الله في الأرض. ولكن متى نخون الأمانة؟. عندما نظلم، عندما نأخذ حق الغير، عندما نعتدي على حرمة غيرنا وماله وعرضه. حينئذ نكون قد ظلمنا أنفسنا، وظلمنا الناس، وخنَّا الأمانة. والإنسان عندما فعل ذلك كان جهولاً لماذا؟ لأنه ظن أنه سيكسب شيئاً، فقاد نفسه إلى الهلاك دون أن يكسب أي شيء. فالإنسان حمل الأمانة .. أمانة الشكر على عطاء الله .. الشكر على نعمة الحياة .. الشكر على رزق الله .. الشكر على أن الله سبحانه يبارك له ويعطيه ويرزقه .. وينجيه من كل سوء .. ويدفع عنه كل شر .. حمل الأمانة التي تلزمه بالحق بين الناس .. وبالعدل في حكمه .. وباحترام حقوق الآخرين مهما كانوا ضعفاء. لقد حمل الإنسان الأمانة، ونزل إلى الأرض، فماذا فعل؟ لقد استطاع الشيطان أن يصل إلى قلبه، وصوَّر له أنه يستطيع أن يملك، وأن يملك بلا حساب، ليشغله بذلك عن وظيفته، ويفسد عليه دينه. بينما في الحقيقة أن ملك الإنسان ينحصر فيما ينفقه لحاجاته. فأحياناً نجد إنساناً غنياً تقدم به العمر، ومع ذلك فهو يحاسب على كل قرش أنفقه، ويحاول أن يوفر بقدر ما يستطيع، وقد تعجب من ذلك، كيف تكون هذه الأموال كلها عند هذا الرجل، ثم يقتر على نفسه؟ إنها مسألة لا تتمشى مع حكم العقل، ولا مع منطق التفكير، ولكنها تتمشى مع قدر الله العليم الخبير. فالمال رغم أن الرجل قد كسبه، ليس من رزقه، ولو كان رزقه لتمتع به، ولكنه

مجرد حارس عليه، ليسلمه إلى صاحبه، وهو في دوره هذا بالحراسة على هذا المال. إنما يأخذ منه رزقه فقط، ويبقى أميناً حافظاً على الجزء الباقي، حتى يوصله إلى أصحابه فيأخذوه، وربما أنفقوه فيما ينفع، أو فيما لا ينفع. وقد حمل الله الإنسان أمانة الطاعة لله، والشكر لله، وجعل هذه الأمانة بينه وبين الله سبحانه، لا يطلع عليها أحد. فالأمانة تكون بين العبد وربه، ولا يعرف ثالث عنها شيئاً، كذلك العبادة، وكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، يكون بين الله والعبد. وأفعال الإنسان الاختيارية قسمان: قسم لا ثواب ولا عقاب عليه، كأن تحب أن تأكل صنفاً معيناً من الطعام أحله الله لك، أو تختار نوعاً من الفاكهة، أو تختار لون ثوبك، فهذه أنت حر فيها، وليس عليها ثواب ولا عقاب. والقسم الآخر: الأعمال الاختيارية التي أنزل الله فيها أحكاماً بالفعل أو الترك، وهذا هو الاختبار الإيماني في الحياة، اختبار لحرية الإنسان في الفعل. وقد يريد الإنسان أن يعمل عملاً، ولكنه لا يملك القدرة لإتمامه، فقد لا يتم العمل، لأن الله وحده هو الذي يريد، ويفعل ما يريد، ويقول للشيء كن فيكون. وقد وضع الله عزَّ وجلَّ الإرادة الحرة للإنسان، في مكان لا يستطيع أحد في العالم أن يسيطر عليها. إنها في القلب، وما هو داخل القلب لا يستطيع أحد، ولا تستطيع الدنيا كلها أن تصل إليه. فأنت قد تكره إنساناً، ولكن ربما تحت التعذيب أو التهديد أو الخوف تتظاهر بالحب له، ولكن الحقيقة أنك تكرهه من داخل قلبك. فالحساب هنا على الإرادة الحرة، التي لا يستطيع بشر ولا قوة في الأرض أن تجبرك على شيء فيها، ولكنها متروكة لك وحدك. وهي لا تتغير ولا تتبدل، سواء كنت غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، هذه المنطقة

بالذات هي التي يتم على أساسها الحساب، تركها الله سبحانه وتعالى حرة لك، وجعلها مركز الأسرار والنيات والأمانات الخاصة بك. هذه هي منطقة الأمانة التي حملتها. ولكن لماذا هي أمانة؟ لأن ما فيها بينك وبين الله وحده؟. فلا يستطيع أحد أن يعرف عنه شيئاً، فما في القلب سر بين العبد وربه، وهو الأمانة التي حملها الإنسان في الأرض، فإن فعل إثماً بإرادته الحرة بلا إكراه استحق العقاب. وإن فعل خيراً، وقلبه مصدق لعمله، بلا محاولة للتظاهر أو التفاخر أثيب. فالله سبحانه حينما أعطانا الاختيار .. حدد منطقة الاختيار في أعمالنا، وأخرج منها عدداًَ من الأعمال التي ليس فيها تشريع، وترك لنا حرية الاختيار بلا ثواب ولا عقاب، ثم جاء لمنطقة الأمانة، وجعل الثواب والعقاب فيها. ولكن لماذا جعل الله منطقة الثواب والعقاب هي القلب؟. والجواب: لأنه الجزء الوحيد الذي لا يسيطر على مشاعره أحد إلا أنت، فما في قلبك ملكك وحدك، بإرادتك وحدك، وليس لأحد سيطرة عليه. وبذلك يكون الحساب عدلاً، لا يدخل فيه ظلم أبداً. إن الكون كله قد أسلم لله، ورفض أن يكون مختاراً في أن يؤمن أو لا يؤمن، أسلم طوعاً، واختار الإيمان بالله دون أن تكون له إرادة في المعصية. أما الإنسان فقد قبل حمل الأمانة، وأن يؤمن بالله باختياره عن حب، فأعطاه الله حرية الاختيار أن يؤمن أو لا يؤمن. والله عزَّ وجلَّ حين أعطانا حرية الاختيار، وأعطانا وسخَّر لنا كلَّ ما في الكون، كان هذا من أجل الإنسان، ثم أعطانا الأمانة، وهي العقل وحرية الاختيار، وأشهدنا على نفسه بأنه الرب الخالق المالك لكل شيء، وبيده كل شيء، وله كل شيء.

خلق الدنيا من أجلنا، وجعلها مكان مؤقتاً للعمل. وخلق الآخرة من أجلنا، وجعلها مكاناً دائماً للثواب والعقاب. وأنزل إلينا المنهج الذي يسعدنا في الدنيا والآخرة. وحملنا هذه الأمانة، فمن أدى الأمانة أسعده الله في الدنيا والآخرة. وبعض الناس حمل الأمانة وراح يضيعها فيما لا ينفع، وفيما نهى الله عنه، معتقداً أن الدنيا دائمة، وأن الحياة بلا نهاية، كافراً بلقاء الله. إن كل الذين أسلموا في عهد النبوة وبعده، أتوا باختيارهم طائعين، ولا يقبل قول من قال إن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه، ذلك لأن السيف في الإسلام وضع لحماية حرية الإنسان في أن يؤمن أو لا يؤمن، ولمنع الإكراه. فقد كانت هناك قوى متسلطة على الناس بالسيف تكرههم على عبادة غير الله، وتمنعهم من عبادة الله، وترغمهم على عقائد زائفة، بل منهم من أكره الناس على عبادته. فكان الحاكم ينصب نفسه إلهاً، فمن عبده فله الأمان، ومن لم يعبده فدمه مباح. وهنا قال الإسلام: دعوا الناس أحراراً في اختيار ما يعتقدون، نعرض عليهم الإسلام، واعرضوا أنتم عليهم ما أردتم، وبعد ذلك: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. إن سماحة الإسلام، وعظمة الإسلام، وجمال الإسلام، ورحمة الإسلام، وعدل الإسلام، هي الدافع لأن يعتنقه ملايين البشر، لأنهم رأوا فيه دين الحق والعدل والإحسان. وكل من علم به، وأعرض عنه فهو مطرود محروم، ليس أهلاً لهذه النعمة التي أكرم الله بها عباده، فهو شاذ عن سائر المخلوقات بمعصيته للواحد القهار: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. إن الإسلام هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة من حياة البشرية.

وسبقته تجارب في حياة الرسل والأمم السابقة، تمهد كلها لهذه الصورة الكاملة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، وأن يظهره على الدين كله في الأرض. فقوم موسى الذين أرسله الله إليهم آذوه، وانحرفوا عن رسالته، فضلُّوا، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله، فلم يعودوا أمناء عليه، فقد زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغاً، وأزاغ قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى .. وكيف يهدون وهم غير مهتدين؟. وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً، والله لا يهدي القوم الفاسقين. وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، وهم على هذا الزيغ والضلال. ثم تتابعت الرسل من بني إسرائيل، ثم أرسل الله عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - ليقول لبني إسرائيل إنه جاء امتداداً لرسالة موسى - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة، ومبشراً برسولها كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6]. فلم يقل لهم نبي الله عيسى أنه الله، ولا أنه ابن الله، ولا أنه ثالث ثلاثة، بل قال إنه رسول الله، إنه عبد الله، جاء بدين الله الذي هو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها. فلما اختلف بنو إسرائيل في عيسى - صلى الله عليه وسلم - وآذوه، وانحرفوا عن عقيدة التوحيد، وضلوا عن شريعتهم، وأضلوا غيرهم، لم يعودوا صالحين لحمل الرسالة الإلهية للناس.

فلما ضلَّ الناس، وانتشر الظلم والفساد في الأرض، ونحيت شريعة الله من حياة الناس، فلم يعمل بها، وكان مقرراً في علم الله، أن يستقر دين الله في الأرض كاملاً شاملاً في صورته الأخيرة على يد رسوله الأخير. فأرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى البشرية كافة إلى يوم القيامة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9]. وقد وقفت بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد، الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتى الطرق والوسائل، وأعلنوها حرباً شعواء، لم تضع أوزارها حتى اليوم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8]. ولقد ظهرت إرادة الله، فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وصفائه، وشعائره وشرائعه، وأخلاقه وآدابه. فأما الديانات الوثنية فهي هزيلة ليست بشيء؛ لأنها من أوهام البشر. وأما الديانات الكتابية كاليهودية والنصرانية ونحوها، فهذا الدين الإسلامي خاتمها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها. ولقد حرفت تلك الديانات .. وبدلت .. وشوهت .. ومزقت .. وزيد فيها ما ليس منها .. ونقصت من أطرافها .. وكتم بعضها .. وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة .. لا في العقيدة .. ولا في الشعائر .. ولا في الشرائع. وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود، ولجيل محدود. أما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق الله وعده، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله. فقد دانت له معظم الرقعة المعمورة من الأرض في مدى قرن من الزمان .. ثم

زحف سلمياً إلى قلب آسيا وأفريقيا. وما يزال يمتد بنفسه في كل بيت، وفي كل قرية، وفي كل مدينة، وفي كل دولة، على الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، تحقيقاً لوعد الله، بأن يظهر دينه على الدين كله. فهل نؤدي الأمانة التي اختارنا الله لها، بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى، في العمل بالدين، وإبلاغه للبشرية كافة؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28] إن هذا ليسكب في قلوب المؤمنين الطمأنينة، وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة. وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد الله، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر، حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله. إن الله تبارك وتعالى ينادي المؤمنين، ويهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة، تجارة الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 10، 11]. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة، ثم يكسب مغفرة ذنوبه كلها، وإسقاط ديونه كلها، والفوز بالجنات والمساكن والقصور، ورضوان من الله أكبر: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف: 12]. فهل انتهى حساب هذه التجارة الرابحة عند هذا؟ إنه لربح ضخم هائل أن يعطى المؤمن الدنيا، ويأخذ الآخرة. لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة من أول يوم حين بايع الأنصار رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة في مكة. عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس، فقال: «تُبَايِعُونِي عَلَى أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» متفق عليه (¬1). ولكن فضل الله عظيم، وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض، فيبشرها بما قدره في علمه المكنون، من إظهار هذا الدين في الأرض كما قال سبحانه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 13]. وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح في الدنيا والآخرة، والذي لا يملكه إلا الله، ولا يعطيه إلا الله. الله الغني الذي لا تنفد خزائنه، والذي لا ممسك لرحمته. فمن الذي يدله الله على هذه التجارة، ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟. أما له في جنة الخلد من رغبة؟ .. أما له في العزِّ من نصيب؟. ألا من مشمر إلى الجنة؟ .. ألا من مسارع إلى الخيرات؟. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} [الصف: 14]. وهل هناك أرفع من هذا المكان؟. وهل هناك أشرف من هذا العمل؟. لقد قام الحواريون مع عيسى - صلى الله عليه وسلم - بنصرة دين الله، فآمنت طائفة من بني اسرائيل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7199)، ومسلم برقم (1709) واللفظ له.

وكفرت طائفة، ثم أيد الله المؤمنين بالله، ونصرهم على أعدائهم، وأظهرهم عليهم. لقد انتدبوا لهذا الأمر، ونالوا هذا التكريم من ربهم، لقيامهم بنصرة دين الله مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. فما أجدر أتباع سيد الرسل أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت. إن أتباع سيد الرسل وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - هم الأمناء على منهج الله في الأرض، وهم ورثة العقيدة والرسالة الإلهية بعد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وهم المختارون من بين الأمم لهذه المهمة الكبرى، والأمانة العظمى. وقد منَّ الله على العرب الأميين، فاختارهم ليجعلهم أهل الكتاب المبين، ويرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم، ويخرجهم من أميتهم وجاهليتهم إلى نور العلم والإيمان، ويميزهم على العالمين كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} [الجمعة: 2، 3]. ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من جهل وضلال، فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة، الأمناء عليها، بما علم سبحانه في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح، ومن طاقة تنهض بهذه العقيدة الجديدة، ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة، ونشرها صافية في العالم، وإقامة حياة الناس في الأرض على أساسها. فاستلمته أول طليعة من هذه الأمة .. وتلقته بالقبول والسمع والطاعة أول مجموعة من هذه الأمة، هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد فرغت منه ونبذته نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر .. فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات .. ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى ولا من بعده.

ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وحرفوا في دينهم، وبدلوا وغيروا، وظلموا وكذبوا، وصدوا عن سبيل الله، وقتلوا الأنبياء: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79]. وقد منَّ الله على بني إسرائيل، فأرسل إليهم كليمه موسى - صلى الله عليه وسلم -، وآتاه التوراة، ثم تابع من بعده الرسل الذين يحكمون بالتوراة من بني إسرائيل، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم -، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر. ثم مع هذه النعم التي لا يعرف قدرها إلا الله، كلما جاءهم رسول بما لا تهواه أنفسهم استكبروا عن الإيمان به، ففريقاً من الأنبياء كذبوهم، وفريقاً قتلوهم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]. وقد خان اليهود الأمانة ونقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فطبع الله على قلوبهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155]. فلما فعلوا هذه الكبائر والجرائم والقبائح والفواحش، كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة، فلم يعودوا صالحين للاقتداء، ولا مؤهلين لحمل الأمانة، فلا يستحقون إلا الذلة واللعنة والغضب: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61]. فلما صار اليهود أشر خلق الله كفراً وظلماً وفساداً وعناداً أذلهم الله ولعنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60].

وقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، ويعزهم بعد ذلهم، وكانوا يستفتحون بذلك على العرب. ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب الأميين غير اليهود، فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الكاملة للبشرية، بعدما ضلت وزاغت وكفرت بآيات الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89]. وإن اختيار الله لفرد أو جماعة أو أمة، لحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله، وموضع تلقي فيضه، إن ذلك لفضل عظيم لا يعدله فضل. فضل عظيم يربي على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته. والله عزَّ وجلَّ يذكر المؤمنين باختيارهم لحمل هذه الأمانة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. فاليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله، فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل، فهم كما وصفهم الله بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5]. فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة على أيدي الرسل، ثم لم يحملوها ولم يعملوا بها، ولم يعلِّموها. فهم لم يقدروا هذه الأمانة، ولم يفقهوا حقيقتها، ولم يعملوا بها، ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها. والذين حملوا أمانة العقيدة من هذه الأمة ثم لم يحملوها، فهؤلاء كأولئك اليهود، وأولئك كلهم كالحمار يحمل أسفاراً.

إن هذا الدين العظيم الذي أنزله الله أمانة، وأمر الدين والعقيدة جد خالص، حازم جازم، جد كله لا هزل فيه، ولا مجال فيه للهزل واللعب. جد في الدنيا .. وجد في الآخرة .. وجد في ميزان الله وحسابه .. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك، قليلاً ولا كثيراً. وأي تلفت عنه من أي أحد، أو إدخال فيه ما ليس منه، يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم، ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول، فالأمر عظيم أكبر من الرسول، وأكبر من البشر، إنه الحق الذي لا تستقيم الحياة إلا به، الحق من رب العالمين: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47]. فمتى يشعر الإنسان بعظمة القاهر الجبار؟. ومتى يحس بضآلة نفسه أمام قدرة الله التي لا يقف لها شيء؟. ومتى يقدر عظمة الأمانة التي تحملها؟. إن الله قادر على أخذه أخذاً شديداً في الدنيا والآخرة، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا المنهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلاً فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة. فهذا المنهج وهذا الحق لا يجيء ليهمل ولا ليبدل، إنما يجيء ليطاع ويحترم، ويقابل بالاستجابة والتقوى، وإلا فهو الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع فقد: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)} [الحاقة: 4 - 10]. فثمود كذبوا رسولهم، فأخذهم الله بالصيحة الطاغية. وعاد كذبوا رسولهم، فأخذهم بريح صرصر عاتية.

وفرعون ومن قبله من المكذبين أخذهم الله بالنقمة الرابية الغامرة الطامرة. إنها تذكرة تلمس القلوب الخامدة، والآذان البليدة، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر، وكل ما سبق من المصائر، وكل ما سبق من الآيات، وكل ما سبق من العظات، وكل ما سبق من آلاء الله ونعمه على هؤلاء الغافلين. وكل هذه المشاهد المروعة، الهائلة القاصمة الحاسمة، تبدو صغيرة ضئيلة إلى جانب الهول والموقف الأكبر، هول الحاقة والقارعة والصاخة والواقعة التي يكذب بها المجرمون، والتي ستقع بلا شك: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)} [الحاقة: 13 - 15]. فإذا نفخ إسرافيل في الصور، قامت الخلائق لربها، ويتبع ذلك حركة هائلة للأرض والجبال، فترفع وتدك دكة واحدة، لتصبح أرضا مستوية. إنه مشهد عظيم مروع، يشعر معه الإنسان بضآلته، وضآلة عالمه، إلى جانب هذه القدرة العظيمة، ولا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)} [الحاقة: 16]. ويحشر الناس إلى ربهم، فيحاسب من قام بأداء الأمانة، ومن خان الأمانة فرداً فرداً، ونية وقولاً وعملاً، ويجازي كل إنسان بما عمل من خير وشر: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف: 47]. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة كان يَعِدُ المؤمنين به، المبايعين له، وهم يبذلون الأموال والأنفس، ويضحون بالأوقات والشهوات، يعدهم بالجنة على الإيمان والعمل الصالح. لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، واستقبال المكاره، هذه القلوب يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد، بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء، إلى أي شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا

الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، والفوز بالجنة. قلوب مؤمنة مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء، وحرمان وعذاب، وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة، وغلبة الإسلام، وظهور المسلمين. حتى إذا وجدت هذه القلوب التي ذاقت حلاوة الإيمان .. وعرفت ما يجب عليها .. وعلمت أنه ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل .. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء .. وموعداً كذلك للفصل بين أهل الحق والباطل .. وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت .. أتاها النصر في الأرض .. وائتمنها على الحق لا لنفسها فقط .. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي .. وهي أهل لأداء الأمانة .. تعمل بالدين .. وتحكم بالدين في حياتها .. وتدعو البشرية إلى الدين. فقد كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه. وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه، والفوز بالجنة في الآخرة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وبعد أن استقرت هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين، جاء نصر الله في المدينة بعد أن أصبح المؤمن لا يتطلع إليه، وإنما يتطلع إلى رضوان الله والجنة. وجاء نصر الله ذاته، لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج ولهذا الدين واقعية في الحياة الإنسانية، تقرره في صورة عملية محددة، وتبرزه في منتهى الجمال والكمال، ويكون قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة: في الإيمان .. وفي العبادات .. وفي المعاملات .. وفي المعاشرات .. وفي

الأخلاق. تراها الأجيال، وتقتدي بها الأمم في كل زمان ومكان. فلم يكن النصر للمؤمنين جزاء على التعب والنصب والتضحية، وإنما كان قدراً من قدر الله له حكمته ومنافعه، به مكن الله المؤمنين أن يقيموا حياتهم وفق مراد الله، كما يحب الله، أما جزاؤهم فهو ينتظرهم في الآخرة: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. إن الله عزَّ وجلَّ يريد من المؤمنين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها في جميع الأحوال: أمانة العبادات .. أمانة المعاملات .. أمانة الأخلاق .. أمانة العلم .. أمانة الاستقامة .. أمانة الدعوة .. أمانة الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام. فيقفون في وجه الشر والفساد والطغيان، ولا يخافون لومة لائم: سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين كفرعون .. أو الأغنياء المتسلطين بالمال .. أو الأشرار المتسلطين بالأذى .. أو العامة المتسلطين بالهوى .. وكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فتعم جميع وظائف الدين. والأمانة تشتمل على ثلاثة أمور: الأول: اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه، وعدم التفريط به أو التهاون بشأنه. الثاني: عفة الأمين عما ليس له به حق. الثالث: تأدية الأمين ما يجب عليه من حق لغيره. وأداء الأمانة من صفات المؤمنين كما وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8]. وقد أمرنا الله عز وجل بأداء الأمانات إلى أهلها كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ

أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والأمانة لفظ عام يشمل كل ما استودعك الله أمره، وأمرك بحفظه. فيدخل فيها حفظ القلوب والجوارح عن كل ما لا يرضي الله .. وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق العباد. وتعم الأمانات كذلك جميع الواجبات على الإنسان. سواء كانت واجبة لحق الله كالعبادات من صلاة وصيام ونحوهما، أو كانت واجبة لسبب من الأسباب كالكفارات والنذور ونحوهما من الحقوق الواجبة لله. أو كانت واجبة لحقوق العباد بعضهم على بعض، بسبب من الأسباب كالودائع والديون ونحوهما. ويدخل في ذلك الولايات كالإمامة والإمارة والوزارة والرئاسة والوظائف، وغير ذلك مما يؤتمن عليه الإنسان. فكل ذلك داخل في الأمانة التي أمرنا الله بأدائها. ويدخل في الأمانة التي يجب حفظها حفظ الجوارح عن المحرمات: فاللسان أمانة .. والأذن أمانة .. والعين أمانة .. والقلب أمانة .. والبطن أمانة .. والفرج أمانة .. واليد أمانة .. والوقت أمانة .. والمال أمانة .. والأهل أمانة. فاللسان أمانة يجب على المسلم استعماله في تلاوة القرآن، وقراءة الكتب النافعة، وتعليم أحكام الدين، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، والإصلاح بين الناس، وما أوجبه الله من الأذكار. يباح استعماله في حاجات المسلم كالبيع والشراء، والحديث النافع من الأهل والضيف. ويحرم استعماله في الغيبة والنميمة، والسب والشتم، والسخرية والاستهزاء، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك ونحوه فقد خان الأمانة، وقد حذر الله من ذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ

تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. والأذن أمانة يجب على المسلم أن يسمع بها ما ينفعه، وما أمره الله به، كالقرآن والحديث، وما فيه صلاح دينه ودنياه. ولا يجوز أن يسمع بها ما حرمه الله من السوء والفحشاء، واللغو والسب، والغيبة والنميمة، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة. والعين أمانة يجب على المسلم أن يبصر بها ما أباحه الله له، وما فيه نفعه في العاجل والآجل، كالنظر في ملكوت السموات والأرض، ومصالح معاشه. ولا يجوز أن ينظر بها إلى ما حرم الله من العورات والنساء الأجنبيات، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة. والقلب أمانة، يجب عليه أن يملأه بالتوحيد والإيمان، والخوف والخشية من الله، والمحبة له، وتعظيمه، والذل له، والصدق والإخلاص، والخشوع والتقوى. ولا يجوز أن يملأه الإنسان بالشرك والنفاق، والكبر والحسد، ونحو ذلك، فإن فعل فقد خان الأمانة. والبطن أمانة، فيجب أن لا يدخل فيه إلا ما أحله الله من الطيبات بلا إسراف. ومن أدخل بطنه شيئاً من المحرمات من مأكول ومشروب فقد خان الأمانة. والفرج أمانة فيجب حفظه فيما أحل الله من الزواج والتسري، ومن تجاوز ذلك إلى الزنا والفواحش فقد خان الأمانة. واليد أمانة فيجب استعمالها في طاعة الله، وكفها عما حرم الله، فمن استعمل يده في السرقة أو الغش أو تناول بها المحرمات أو قتل بها النفوس المعصومة فقد خان الأمانة. والرجل أمانة، فيجب استعمالها في طاعة الله، كالمشي إلى الصلوات والجهاد، ومجالس العلم والذكر، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام ونحو ذلك.

ومن استعمل قدميه فيما حرم الله كالمشي للإفساد في الأرض، ومواطن الريب، وأماكن اللهو واللعب والخنا، فقد خان الأمانة. والعقل أمانة، وأداء الأمانة فيه استعماله في طاعة الله ورسوله، بالتفكير في العلوم النافعة، وما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ونحو ذلك. ومن استعمل عقله في المكر والكيد، والخديعة والظلم، والكذب والتزوير، والحيلة الباطلة، والإضرار بالمسلمين فقد خان أمانة العقل. والعلم أمانة، وأداء الأمانة فيه العمل به، ودعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه، والصبر على الأذى الذي يحصل بسببه. ومن لم يعمل بعلمه، ولم يدع الناس إليه، ولم يصبر على ذلك، فقد خان الأمانة. والنفس أمانة، فيجب حملها على طاعة الله ورسوله، والعمل بالدين، والدعوة إليه، ومن أطلق لنفسه العنان، وتركها ترتع في اللهو والشهوات فقد خان الأمانة. والوقت أمانة، فيجب حفظه بالعبادة والتعليم والدعوة والأعمال الصالحة، وطلب اللازم من المعاش. ومن أضاع أوقاته في الشهوات والقيل والقال، والأعمال السيئة فقد خان الأمانة. والمال أمانة فيجب كسبه من الحلال، وإنفاقه فيما يرضي الله، ونفع النفس والأهل والمسلمين به، ومواساة المحتاجين منه. ومن اكتسبه من المحرمات، وأنفقه في المحرمات فقد خان الأمانة. والأهل والأولاد أمانة، فيجب على المسلم رعاية هذه الأمانة، بشكر المنعم بها، وتربية الأهل والأولاد على الحق والدين، والسنن وحسن الأخلاق، بتعليمهم القرآن والسنة، والفقه الشرعي، وترغيبهم في معالي الأمور، وحفظهم من كل ما يضرهم، وأداء حقوقهم.

ومن أرخى لزوجته وأولاده العنان، وترك لهم الحبل على الغارب، يفعلون ما يشاؤون، ويأكلون ما يشاؤون، ويسمعون ما يشاؤون، وينظرون إلى ما يشاؤون، فقد خان الأمانة، وأضاع من تحت يده، وغدر بأقرب الناس إليه. ومن أعظم الأمانات التي يجب رعايتها، ما ائتمن الله عليه بعض عباده، من ولاية عامة أو خاصة. فولي أمر المسلمين يجب عليه أداء الأمانة .. بالنصح لرعيته .. وإيصال حقوقهم إليهم .. والحكم بينهم بما أنزل الله .. ونشر العدل والأمن .. والضرب على أيدي العابثين .. والمفسدين في الأرض .. ونصر المظلوم .. وقمع الظالم .. والإحسان إلى الناس .. وتعليمهم الدين .. ونشر الدين .. والجهاد في سبيل الله. ومن تولى أمور المسلمين فغشهم .. ومنع حقوقهم .. وحكم بينهم بالظلم والجور .. ونشر الفساد .. وقمع الدعاة .. وأسكت العلماء .. وقعد عن نصر الدين ونشره، فقد خان الأمانة. ويجب على الرعية طاعة إمام المسلمين، وأداء الأمانة له بالسمع والطاعة .. وعدم شق عصا الطاعة .. وعدم الخروج عليه .. ولزوم النصح له .. والتعاون معه على البر والتقوى .. والدعاء له بالهداية والصلاح والنصر. وتجب طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. ومن غش الإمام، وشق عصا الطاعة، وخرج عليه ظلماً وعدواناً، فقد خان الأمانة. والقاضي والأمير والوزير والموظف يجب عليه أن يؤدي الأمانة بالعدل بين الناس والإحسان إلى الخلق، والنصح لهم، وقضاء حوائجهم. ومن تعمد ظلم الناس وغشهم وأكل أموالهم فقد خان الأمانة. ألا ما أعظم الأمانة .. وما أشد حملها .. وما أثقل أداءها .. وإنه ليسير على من عرف ربه .. وعرف جزيل إنعامه .. وعرف ثوابها .. وعرف عقوبة الخيانة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ

تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» أخرجه مسلم (¬1). والأمانة من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنوح وهود وصالح وغيرهم، كل رسول من هؤلاء قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)} [الشعراء: 107، 108]. وجبريل - صلى الله عليه وسلم - أمين الوحي كما وصفه الله بذلك بقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 192 - 194]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2582).

8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. وقال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38، 39]. الله عزَّ وجلَّ خلق آدم من الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه الجنة: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35]. ولكن الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة فأكلا منها .. وعصيا ربهما: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 36]. فأهبط الله آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض، وجعل لهم فيها مسكناً وقراراً ومتاعاً إلى حين انقضاء آجالهم، ثم ينتقلون إلى الدار التي خلقوا لها، وخلقت لهم. فخلق الله الثقلين: الجن والإنس، وأسكنهم في الأرض، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فمن آمن بالله فله الجنة، ومن عصاه فله النار. وقد أخرج الله آدم أبا البشر من الجنة، وأهبطه إلى الأرض لحكم عظيمة .. تعجز العقول عن معرفتها، وتعجز الألسن عن وصفها، وهذه إشارة إلى بعضها. فقد أراد الله تبارك وتعالى أن يذيق آدم وذريته من نصب الدنيا وهمومها، وغمومها وآلامها، ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم الجنة في الدار الآخرة، إذ لو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.

وأراد سبحانه ابتلاءهم وأمرهم ونهيهم، فأهبطهم إلى الأرض، وعوضهم بذلك أفضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الأمر والنهي. وأراد عزَّ وجلَّ أن يتخذ من بني آدم رسلاً وأنبياء، وأولياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم في هذه الدار. فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه، نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلاً، ولم يكن ينال هذا إلا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض. والله سبحانه له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم، العفو الحليم، القاهر القادر، الكريم الرزاق، التواب الخلاق. وهو الذي يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويرزق ويشفي. ولا بدَّ من ظهور أثر هذه الأسماء وغيرها، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلا. فيغفر لمن يشاء .. ويعذب من يشاء .. ويرحم من يشاء .. ويعز من يشاء .. ويذل من يشاء .. ويعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء، إلى غير ذلك .. وكذلك الله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، والملك الذي هو الذي يأمر وينهى، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب. فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً تجري عليهم فيها أوامر الملك، ثم ينقلهم إلى دار تتم عليهم فيها أحكام الملك. وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب، فلو خلقوا في دار النعيم، لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب، واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه. والله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث، والكريم واللئيم، والسهل والحزن. فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله وذريته إلى دار

استخرج فيها الطيب من الخبيث. ثم ميزهم سبحانه بعد القدوم عليه بدارين: فجعل الطيبين أهل جواره، ومساكنته في داره دار السلام. وجعل الخبيثين في دار الخبث والخبثاء والأشقياء دار البوار. وأراد سبحانه أن يظهر لعباده وخلقه وملائكته، ما جعله في الأرض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه، ومن يتقرب إليه، ويبذل نفسه في مرضاته ومحبته، مع مجاهدة شهوته وهواه ابتغاء مرضاته، لا كمن يعبده من غير معارض له، ولا شهوة تعتريه، ولا عدو سلط عليه كالملائكة. وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر ما خفى على خلقه من شأن عدوه إبليس، ومحاربته له، وتكبره عن أمره، وسعيه في خلاف مرضاته. وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في أبي البشر آدم - صلى الله عليه وسلم -، وفي أبي الجن إبليس، فأنزلهم إلى دار أظهر فيها ما كان الله سبحانه منفرداً بعلمه، لا يعلمه سواه، وظهرت حكمته وتم أمره، وظهر للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون. وكذلك الله سبحانه لما كان يحب الصابرين، ويحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الشاكرين، ويحب المتقين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات. اقتضت حكمته أن أسكن آدم وذريته داراً يأتون بها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم. وأيضاً فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من بني آدم ذرية يواليهم ويودهم، ويحبهم ويحبونه، فمحبته لهم هي غاية كمالهم وشرفهم. ولا يتحقق لهم ذلك إلا بموافقة رضاه، واتباع أمره، واجتناب ما يكره. فأنزلهم داراً أمرهم فيها ونهاهم، ليقوموا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، فينالوا درجة محبتهم له، ومحبته لهم.

وأيضا فإنه سبحانه خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وفضَّل آدم وذريته على كثير من مخلوقاته، وجعل عبوديته أفضل درجاتهم، وجعلها لأنبيائه ورسله وأتباعهم. فاقتضت حكمته سبحانه أن أسكن آدم وذريته داراً ينالون فيها هذه الدرجة العالية، بكمال طاعتهم له، وتقربهم إليه بمحابه، وترك مألوفاتهم من أجله، فكان ذلك من تمام نعمته عليهم، وإحسانه إليهم. وكذلك الله سبحانه أراد أن يعرف عباده الذين أنعم عليهم تمام نعمته عليهم، ويعرفهم قدرها، ليكونوا أعظم محبة له، وأكثر شكراً له، بما أعطاهم من النعيم. فأراهم سبحانه فعله بأعدائه، وما أعدلهم من العذاب، وأشهدهم تخليصهم من ذلك، وتخصيصهم بأعلى أنواع النعيم، ليزداد سرورهم، وتكمل غبطتهم، ويعظم فرحهم. ولم يكن بدّ في ذلك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم، وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلاً، وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلاً، وهو الحكيم العليم. وهو سبحانه خلق الخلق لعبادته، وكمال العبودية لا يحصل في دار النعيم والبقاء، إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء. وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم، لا دار امتحان وابتلاء. وأيضاً فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والغضب، وداعي العقل والعلم، فخلق في البشر داعي العقل والشهوة ليتم مراده. فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته، وعرفه ما جنت عليه شهوته وهواه، ليكون أعظم حذراً فيها، وأشد هروباً. فمن تمام نعمة الله على آدم - صلى الله عليه وسلم - وذريته، أن أراهم ما فعل العدو بهم وبأبيهم، ليستعدوا له ويحذروه، ويأخذوا أهبتهم منه. فإن قيل: كان من الممكن ألا يسلط عليهم العدو؟

قيل: الله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به. ولو شاء الله خلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات، فلم يكن لعدوهم طريق إليهم، وبنو آدم ركبوا على العقل والشهوة. ولما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال ولا سعادة له أصلا بدونها. وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفس، واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته. اقتضت حكمة العزيز الحكيم إخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس من مطعوم ومشروب، وملبوس ومنكوح، ومركوب ومسموع، ومرئي، والتي بإيثار محبوب الحق عليها، والإعراض عنها يتحقق حبهم له، وايثارهم إياه على غيره. وأيضا فإنه سبحانه له الحمد المطلق الكامل، وظهور الأسباب التي يحمد عليها، من مقتضى كونه محموداً، وهي من لوازم حمده تعالى، وهي نوعان: فضل .. وعدل .. وهو سبحانه المحمود على هذا .. وعلى هذا. فلا بدَّ من ظهور أسباب العدل، واقتضائها لمسبباتها، ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله. فكما أنه سبحانه محمود على إحسانه وبره، وفضله وثوابه، فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه. إذ مصدر ذلك كله عن عزته وحكمته ورحمته. فما وضع نعمته ونجاته لرسله ولأتباعهم إلا في محلها اللائق بها. وما وضع نقمته وإهلاكه لأعدائه إلا في محلها اللائق بها. والله تبارك وتعالى لكمال حكمته فاوت بين عباده أعظم تفاوت وأبينه، فجعل فيهم الغني والفقير، والصحيح والسقيم، والمؤمن والكافر، وذلك ليشكره من

ظهرت عليه نعمته وفضله، ويعرف أنه قد حبي بالإنعام، وخص دون غيره بالإكرام. ولو تساووا في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها. فاقتضت حكمته خلق الأسباب التي يكون شكر الشاكرين عندها أعظم وأكمل. والله عزَّ وجلَّ أحب شيء إليه من عبده تذلله بين يديه، وخضوعه وافتقاره، وانكساره وتضرعه إليه، وهذا لا يتم إلا بأسبابه التي يتوقف عليها، وحصول هذه الأسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة ممتنع، وهو مستلزم للجمع بين الضدين. وأيضاً الله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، والأمر هو شرعه ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وليست الجنة دار تكليف، وإنما هي دار نعيم ولذة. فاقتضت حكمة الله عزَّ وجلَّ استخراج آدم وذريته إلى دار تجري عليهم فيها أحكام دينه وأمره، ليظهر فيهم مقتضى الأمر ولوازمه. والله سبحانه يحب من عباده أموراً يتوقف حصولها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها، ولا تحصل إلا في دار الابتلاء والامتحان. فإنه سبحانه يحب الصابرين، ويحب المحسنين، ويحب الشاكرين، ويحب التوابين، وحصول هذه المحبوبات بدون أسبابها ممتنع. فاقتضت حكمته ومحبته لذلك، خلق الأسباب المفضية إليه، ليترتب عليه المسبب الذي هو محبوب له. وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض، فأراد سبحانه أن ينقلهم من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد. وعلم سبحانه أنه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الفاني الخسيس على الآجل الباقي النفيس. فالإنسان خلق عجولاً، وخلق من عجل، وعلم سبحانه ما في طبيعته من

الضعف والخور. فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة، ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً، فيكون إليه أشوق، وعليه أحرص، وله أشد طلباً. واقتضت حكمته أن أراها أباهم آدم، وأسكنه إياها، ثم قص على بنيه قصته، فصاروا كأنهم مشاهدون لها، حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خلق لها وخلقت له، وسارع إليها، فلم يثنه عنها حب العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها، ثم سباه العدو، فهو دائم الحنين حتى يعود إليها. فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم. والله عزَّ وجلَّ جعل النبوة والرسالة، والخلة والتكليم، والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه، ونهايات كمالهم، فأنزلهم داراً أخرج منهم فيها الأنبياء، وبعث فيها الرسل، واتخذ من اتخذ منهم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيداً، وخاصة يحبهم ويحبونه، وكان إنزالهم إلى الأرض من تمام الإنعام عليهم، والإحسان إليهم. ومن تأمل آيات الله المشهودة والمسموعة ورأى آثارها علم تمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم. فالله عزَّ وجلَّ إنما خلق الجنة لآدم وذريته، وجعل الملائكة فيها خدماً لهم، ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم داراً يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم، وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20].

الباب السادس فقه القلوب

الباب السادس فقه القلوب ويشتمل على ما يلي: 1 - خلق القلب 2 - منزلة القلب 3 - صلاح القلب 4 - حياة القلب 5 - فتوحات القلب 6 - أقسام القلوب 7 - غذاء القلوب 8 - فقه أعمال القلوب 9 - صفات القلب السليم 10 - فقه سكينة القلب 11 - فقه طمأنينة القلب 12 - فقه سرور القلب 13 - فقه خشوع القلب 14 - فقه حياء القلب 15 - أسباب مرض القلب والبدن 16 - مفسدات القلب 17 - مداخل الشيطان إلى القلب 18 - علامات مرض القلب وصحته 19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها 20 - أدوية أمراض القلوب 1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه 2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان 3 - شفاء القلوب والأبدان

1 - خلق القلب

1 - خلق القلب قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. وقال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، والإنسان له ظاهر وباطن، وفي باطنه أكثر الأعضاء وأهمها كالقلب والكبد والمعدة. ولفظ القلب يطلق على معنيين: أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، يدخل فيه الدم، ثم يدفعه بواسطة العروق لتغذية البدن. الثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان. وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني. أما الروح: فهو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أجزاء البدن. وجريانه في البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس، والسمع والبصر والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت. وسريان الروح، وحركته في باطن الإنسان، يشبه حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه. أما النفس: فتطلق على ذات الإنسان، وهي اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته، وتطلق على المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان.

أما العقل: فهو ما يعقل الإنسان عما يشينه ويدنسه من الأقوال والأفعال وضده الجنون. فيطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب. ويطلق ويراد به تلك اللطيفة المدرك للعلوم فيكون هو القلب. ولما خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان ابتلاه وامتحنه، بما يعرف به صدقه وكذبه، وطاعته ومعصيته وطيبه وخبثه. فمزج في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السبعية .. والبهيمية .. والشيطانية .. والربانية .. وكل ذلك مجموع في قلبه. فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع، من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالشتم والضرب والقتل. وهو من حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشره والحرص والنكاح والشبق وغير ذلك. وهو من حيث اختصاصه عن البهائم بالتمييز، مع مشاركته لها في الغضب والشهوة، حصلت فيه شيطانية، فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين. ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني، فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء والاستعلاء في كل شيء، ويحب الاستبداد في الأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع. ويدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور. والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف

الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. وكل إنسان فيه شوب من هذه الأوصاف الأربعة. فمعرفة القلب، وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس طريق السالكين: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40]. والقلب يغرق فيما يستولي عليه من محبوب أو مكروه أو مخوف. فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه .. والخوف يحذره. والرجاء يتعلق بالمحبوب .. والخوف يتعلق بالمكروه. ولا يأتي بالحسنات والمحبوبات إلاّ الله، ولا يذهب بالسيئات والمكروهات إلاّ الله والله أعلم حيث يجعل رسالته: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107].

2 - منزلة القلب

2 - منزلة القلب قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى فضَّل الإنسان، وشرفه على كثير من خلقه، باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله، وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عدته وذخره. وإنما استعد للمعرفة بقلبه، لا بجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات. يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، واستخدام الإنسان للآلة. فالقلب هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله، إذا صار مستغرقاً بغير الله. وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره. وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء بما فيه ينضح، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

وصلاح العالم وفساده يكون بحسب حركة الإنسان في الحياة، إذ هو قلب العالم ولبه، وصلاح بدن الإنسان وفساده قائم على صلاح القلب وفساده كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربَّه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربَّه، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء. ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وحيلولته: بأن يمنعه سبحانه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته. وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، أنه كيف يهوي مرة إلى أسفل سافلين، وينخفض إلى رتبة الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين. وحاجة القلب إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب. بل نسبة حاجات القلب إلى الإيمان، ومعرفة الله عزَّ وجلَّ، وحاجات البدن للطعام والشراب كالذرة بالنسبة للجبل، والقطرة بالنسبة للبحر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل إنسان ثلاث أوانٍ أساسية وهي: الدماغ ... والقلب .. والمعدة. فالدماغ آنية العقل والعلم .. والقلب آنية الإيمان والتوحيد .. والمعدة آنية الطعام والشراب .. فلكل آنية غذاء .. ولك غذاء ثمرة. فالقلب محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والانقياد له، والتسليم له سبحانه. ولذا صار القلب محل نظر الله من العبد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). وأصل العلم الذي يورث العمل .. ويوجب خشوع القلب .. وخشيته لربه .. ومحبته له .. والقرب منه .. والأنس به .. والإقبال عليه .. ولزوم طاعته .. هو العلم بالله .. وهو معرفة أسمائه وصفاته .. وآلائه ونعمه .. وصفات جلاله وجماله .. ثم معرفة وعده ووعيده .. وماذا أعد الله من النعيم للمتقين .. وماذا أعد من العذاب للمجرمين. ثم يتلوه العلم بأحكام الله .. وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد .. ويستقيم على ذلك إلى أن يموت. ومن فاته هذا العلم النافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا» أخرجه مسلم (¬2). والله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم .. خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء .. وخلق العين يرى بها الأشياء .. وخلق الأذن يسمع بها الأصوات .. وخلق العقل يعقل به الأشياء .. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2722).

كما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للأكل، والأنف للشم، وكذلك سائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، لكل وظيفة وحكمة. فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له، وأعد لأجله فذلك هو الحق، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه، وللشيء الذي استعمل فيه. وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالاً، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً. وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، والفكر للقلب كالإصغاء للأذن. وصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء: فيعرف ربه ومعبوده وفاطره .. وما ينفعه وما يضره .. وما يصلحه وما يفسده .. ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك .. ويميز بين هذا وهذا .. ويختار ما ينفعه وما يصلحه .. ويعتصم بالله .. ولا يلتفت إلى ما سواه. والناس متفاوتون في الخلق .. ومتفاوتون في عقلهم الأشياء .. من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير .. وجيد ورديء. وإذا آمن العبد بالله أكرم الله قلبه بعشر كرامات: الأولى: الحياة: كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وكذلك الله عزَّ وجلَّ خلق القلب، وجعل فيه نور الإيمان، فلا يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب. الثانية: الشفاء: كما قال سبحانه: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: 14]. فالعسل شفاء الأبدان .. والإيمان شفاء القلوب .. والعلم شفاء من الجهل.

الثالثة: الطهارة: فالصائغ إذا امتحن الذهب مرة لا يدخله النار، وكذلك الله إذا امتحن قلوب المؤمنين لا يدخلهم النار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]. الرابعة: الهداية: كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11]. الخامسة: ثبوت الإيمان: فكما أن الورقة إذا كتب فيها قرآن لم يجز إحراقها، فكذلك قلب المؤمن إذا كتب فيه الإيمان لم يجز إحراقه: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. السادسة: السكينة: كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. السابعة: الإلفة: كما قال سبحانه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: 63]. الثامنة: الطمأنينة: كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. التاسعة: المحبة: كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]. العاشرة: الزينة والحفاظة من السوء: كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].

3 - صلاح القلب

3 - صلاح القلب قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11]. أصل كل خير وسعادة للعبد كمال حياته وكمال نوره، فالحياة والنور مادة الخير كله في الدنيا والآخرة. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. وكلما قويت حياته، قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته، ضعفت فيه هذه الصفات. وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك فيعطب. وكذلك إذا قوي نور القلب وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه. فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح. والقرآن نور تستضيء به القلوب وتشرق به، وروح تحيا به القلوب، فالمؤمن حي أكرمه الله بالنور الذي يبصر به الحق من الباطل. والكافر ميت القلب، مغمور في ظلمة الجهل، والكافر لانصرافه عن طاعة الله، وجهله بمعرفته وتوحيده، وشرائعه وسننه، وترك العمل بما يؤد به إلى نجاته وسعادته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه ولا يدفع عنها مكروه.

فإذا هداه الله للإسلام، وجعل قلبه حياً بعد موته، ومشرقاً ومستنيراً بعد ظلمته، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه، وأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور يستضيء به، ويمشي به في الناس كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. وحياة القلب واستنارته تحصل بالاستجابة لله والرسول، وما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وحياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق .. مريداً له .. مؤثراً له على غيره .. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه. والقلب فيه قوتان: قوة العلم والتمييز .. وقوة الإرادة والمحبة. وكمال القلب وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه. فكمال استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته، وايثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال .. ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه .. ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه. فالمسلمون أخص بالحق؛ لأنهم عرفوه واتبعوه. واليهود أخص بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، عرفوا الحق فلم يتبعوه. والنصارى أخص بالضلال؛ لأنهم أمة جهل، عرفوا الحق وضلوا عنه. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بطلب الهداية إلى طريق الحق، وهو طريق المنعم عليهم بمعرفة الحق والعمل به بقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. وكل إنسان خاسر في هذه الحياة، إلا من كملت قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعة الله، فهذا كماله في نفسه. ثم كمَّل غيره بوصيته له بذلك، وأمره إياه به، والصبر على ذلك، كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب. بل إن استعمل العبد قوته العلمية في معرفة الحق وادراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل. وكذا قوته الإرادية، إن استعملها في العمل بالحق، وإلا استعملها في ضده. ولا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره ومعبوده وحده لا شريك له. فكل مخلوق، وكل حي، سوى الله سبحانه، من ملك أو إنس أو جن أو حيوان أو نبات فهو فقير إلى ربه في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا بتصوره للنافع والضار. والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب. فلا بدَّ للعبد من أمرين: أحدهما: معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذ بإدراكه. والثاني: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران: أحدهما: مكروه بغيض ضار. والثاني: معين دافع له عنه. فهذه الأربعة ضرورية لكل عبد، بل لكل حيوان. وإذا ثبت ذلك فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو

والمطلوب الذي يراد وجهه، ويبتغي قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه، والالتفات إليه، والتعلق به، هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون سواه. فهو المعبود المحبوب المراد .. وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له .. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدره .. وهو المعين لعبده على دفعه عنه. والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له. فبذكره سبحانه تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم. فلا يعطيهم سبحانه في الآخرة شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه، ورضوانه عليهم. ولم يعطهم في الدنيا شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره وعبادته. وحاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه أعظم من حاجتهم إليه في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم. فإن العبادة هي الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح ولا سعادة لهم بدون ذلك. والله تبارك وتعالى يريد من خلقه أن يعرفوا أطيب ما في الدنيا .. وأطيب ما في الآخرة .. فيقبلون عليه علماً وعملاً. ويعرفوا شر ما في الدنيا .. وشر ما في الآخرة .. فيحذروه ويجتنبوه. والأصل هو القلب، فإن كان صالحاً صلحت أعمال الجوارح، وإن كان فاسداً فسدت أعمال الجوارح. والعين تبصر في ضوء الشمس صورة الشيء لا حقيقة الشيء، امتحاناً وابتلاءً،

ولكن لا يعرف الحقيقة إلا القلب، ويعرف القلب ذلك إذا كان فيه نور الإيمان. فكما تحتاج العين إلى الضوء الخارجي لمعرفة الأشياء ورؤيتها، فكذلك القلب لا يعرف حقيقة الشيء إلا بنور الإيمان، ومن اسود قلبه لا يعرف حقيقة الأشياء، بل يعرف صور الأشياء. وإذا استنار القلب بنور الإيمان أناب إلى الله، فأحب الطاعات وكره المعاصي، وبنور القلب تبين قيمة الأموال والأشياء، وقيمة الإيمان والأعمال، ولا يبقى للعبد تعلق بالدنيا، بل يكون تعلقه بالآخرة. ونور الإيمان في القلب يرسخ حقيقة الوعد والوعيد. وإذا جاءت حقيقة الوعد والوعيد زدنا في الطاعات، ونفرنا من المعاصي، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة. ونور القلب في الدنيا يكون مستوراً، وفي الآخرة يكون ظاهراً للمؤمنين. وبامتثال أوامر الله، وفعل كل سنة، يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتثقل الطاعات. ومحبة الله نور في القلب والوجه .. ومحبة غير الله ظلام في القلب والوجه. وكل من أقر بـ (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) جاء النور في قلبه، وإذا جاء نور الهداية في القلب سهل تطبيق أوامر الله، والإكثار منها، والتلذذ بها، ودعوة الناس إليها، والصبر على كل ذلك. ونور الهداية في القلب: أن يتيقن العبد أن المعطي والمانع، والمعز والمذل، والنافع والضار، والمحيي والمميت فقط هو الله وحده لا شريك له. وحاجات القلب كثيرة كالبحر، وحاجات البدن كالقطرة، لأن القلب محل الإيمان، والإيمان ليس له حد، وبالإيمان يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة. والإيمان يزيد في القلوب بكثرة الطاعات، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، والجهد للدين، وتحصل بذلك الهداية. ولكن الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله

بالأموال، والأنفس، والشهوات، والجاه، والأوقات. ولما تركت الأمة التضحية بذلك نقص الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، فجاء البلاء والفساد والعقاب. فالشيطان يزين للإنسان الشهوات التي عاقبتها الهلاك، والأنبياء يأمرون الناس بالإيمان والأعمال الصالحة التي عاقبتها الفلاح. وزينة القلب بالإيمان، وزينة الجوارح بالأعمال، وزينة الإنسان الداخلية والخارجية تكمل بالأخلاق الحسنة التي وصف الله بها نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وليس في الوجود شيء غير الله سبحانه يسكن إليه القلب، ويطمئن به، ويأنس به، ويتلذذ بالتوجه إليه. ومن عبد غير الله سبحانه، وحصل له به نوع لذة ومنفعة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ. وكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى، فسد فساداً لا يرجى صلاحه، إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون لله وحده هو إلهه ومعبوده ومحبوبه. وفقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب والنفس، لكن بينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له ولا سعادة إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو. فلا يطمئن إلا بذكره .. ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه .. ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك. وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته. وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت، وفي كل حال، وأينما كان.

فنفس الإيمان به، ومحبته وعبادته، وإجلاله وذكره، هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه. أما من قال إن عبادة الله وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل، كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها، ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، فهذا قول من قل نصيبه من العلم والتحقيق، ومن ذوق حقائق الإيمان وحلاوته. بل عبادته سبحانه ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان. وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها لأسباب اقتضته لا بدَّ منها. فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم، هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسورها، وبها شفاؤها وسعادتها، وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 57، 58]. ولم يسم الله عزَّ وجلَّ أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفاً، وإنما سماها روحاً ونوراً، وهدى وحياة، ورحمة وشفاء، وعهداً ووصية، ونحو ذلك، وما ذكر في القرآن من ذكر التكليف فإنما ورد في جانب النفي كما قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وأجل نعيم في الجنة، وأفضله وأعلاه على الإطلاق، هو النظر إلى وجه الرَّب جل جلاله، وسماع خطابه. فالمؤمنون مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يعطهم ربهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه. وإنما كان ذلك أحب إليهم، لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم، والفرح

والسرور، وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب، والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعمتين البتة. وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة، إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فكذلك لا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه، والأنس به. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، رَبَّنَا! وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ! وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدًا» متفق عليه (¬1). والمخلوق كله، كبيره وصغيره، قويه وضعيفه، ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل. بل الله الواحد القهار هو الذي يملك كل ذلك وحده دون سواه. والعبد ضعيف مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، وإلى من يجلب له منافعه برزقه، فلا بدَّ له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين. ومن كمال إيمان العبد أن يعلم أن الله إذا مسه بسوء، لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله بنعمة، لم يرزقه إياها سواه. وهذا يقتضي من العبد التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاؤه وسؤاله وحده دون سواه، ومحبته وعبادته، لإحسانه إلى عبيده، وإسباغ نعمه عليهم. فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه، فتح الله لهم من لذيذ مناجاته، وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه، ما هو أحب إليهم من قضاء حاجاتهم: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6549)، ومسلم برقم (2829)، واللفظ له.

فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. وقال الله سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]. وتعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته. فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك. ولو أحب العبد ما سوى الله ما أحب، فلا بدَّ أن يُسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بدَّ أن تضره محبته، ويعذب بمحبوبه، إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معاً، وهذا هو الغالب كما قال سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فكل من أحب شيئاً سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى ولا لكونه معيناً له على طاعته، عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة ولَّى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا، فكان معه إما منعماً أو معذباً. فالمؤمن الذي يحب المؤمنين، يكون معهم في الجنة، والكافر الذي اجتمع مع الكفار على غير طاعة الله ورسوله، يجمع الله بينهم يوم القيامة في النار، ويعذب كلاًّ منهم بصاحبه، ويلعن بعضهم بعضاً كما قال سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67]. فكل من أحب شيئاً سوى الله فالضرر حاصل له بمحبوبه، إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه، وتألم على قدر تعلق قلبه به. وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد والتعب في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما في حصوله من اللذة. واعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه، يوجب له الضرر من جهته هو ولا

بدَّ، عكس ما أمَّله منه، فلا بدَّ أن يُخذل من الجهة التي قدر أن يُنصر منها، ويُذم من حيث قدر أن يُّحمد كما قال سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81، 82]. فالمشرك يرجو بشركه النصر تارة .. والعز تارة .. والسعادة تارة .. والحمد تارة .. والثناء تارة .. وأنى له ذلك. فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} [الشعراء: 213]. وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به، فاحذر ذلك: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. والله عزَّ وجلَّ غني كريم، عزيز رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة. بل رحمة منه وإحساناً ومحبة له، وهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ينفعوه أو يدفعوا عنه أو يرزقوه: كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [لذاريات: 56 - 58]. وماذا يملك العبد الفقير حتى يعطي؟ .. وماذا يعلم من الخلق حتى يواسي غيره؟ .. وماذا يملك من العمر حتى يبقى؟. إن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة لذلك. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، فهو الذي بيده الخير كله، واليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره ضرر محض لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك، وغالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما يريدون قضاء

حوائجهم ولو بمضرتك. والرَّب تبارك وتعالى إنما يريد لك المصلحة، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره؟ والله سبحانه رفيع الدرجات، الذي تعالت ذاته أن يُتقرب إليه إلا بالعمل الصالح الزكي الطاهر، وهو الإخلاص الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه، ويجعلهم فوق خلقه. والوحي للأرواح والقلوب، بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر: 14، 15]. إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية. وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، بيد الله وحده لا شريك له. وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله .. والأجساد مزينة بالسنن، فتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. وإذا أحب الله عبداً، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. اللهم اهدنا فيمن هديت .. وعافنا فيمن عافيت. وتولنا فيمن توليت .. واستعمل ألسنتنا بذكرك .. وجوارحنا في طاعتك وعبادتك.

4 - حياة القلب

4 - حياة القلب قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. حياة القلب ونعيمه وسروره وبهجته بالإيمان بالله، ومعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله. فإنه لا حياة أطيب من هذه الحياة، ولا نعيم فوق نعيمها إلا نعيم الجنة الذي يجتمع فيه كمال الإيمان، وكمال النعيم. وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فطابت كما طاب. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وحياة القلب تكون بثلاثة أشياء: قصر الأمل .. وتدبر القرآن .. وتجنب مفسدات القلب. فأما قصر الأمل، فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب. فإنه يبعثه على تدارك الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب، ويثير عزمات القلب إلى دار البقاء والخلود، ويزهده في الدنيا، ويرغبه في الآخرة كما قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. وأما تدبر القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره

وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، واقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر، وتدله على مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صور الدنيا والآخرة، والجنة والنار. وتحضره بين الأمم السابقة، وتريه أيام الله فيهم، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله وما يبغضه. وتريه طريق أهل الجنة، وأهل النار، ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وتطلعه على تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والترغيب والترهيب، والمواعظ والصبر وغيرها. وأما مفسدات القلب فكثرة الخلطة. والتمني .. والتعلق بغير الله .. وكثرة الشبع وكثرة النوم .. فهذه الخمسة أكبر مفسدات القلب. فالقلب السليم يسير إلى الله تعالى والدار الآخرة، وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتضعف قواه، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه. فإنه لا نعيم للقلب ولا لذة، ولا ابتهاج ولا كمال، إلا بمعرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والابتهاج بقربه، والشوق على لقائه، فهذه جنته العاجلة. كما أنه لا نعيم له في الآخرة، ولا فوز ولا فلاح إلا بجوار ربه في دار النعيم في الجنة الآجلة. فله جنتان: لا يدخل الثانية منهما حتى يدخل الأولى، وهذه الأشياء الخمسة قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه.

ولحياة القلب علامات أهمها: وجل القلب من الله سبحانه، وشدة خوفه منه، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. ومنها: القشعريرة في البدن، ولين الجلود والقلوب عند سماع القرآن كما قال الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. ومنها: خشوع القلب عند ذكر الله سبحانه كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. ومنها: الإذعان للحق والإخبات له كما قال الله سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 54]. ومنها: كثرة الإنابة إلى الله كما قال الله سبحانه: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} [ق: 33]. ومنها: السكينة والوقار كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. ومنها: خفقان القلب بحب المؤمنين كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. ومنها: سلامة القلب من الأحقاد كما قال الله سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ

فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. وإذا مات قلب العبد تعطلت جوارحه عن الطاعة والعبادة .. ولم يؤد حق الله من الطاعة والعبودية .. ولم يعمل بكتاب ربِّه .. ولا بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وعادى الرحمن .. ووالى الشيطان. وأكل رزق الله ولم يشكره .. ودفن الموتى ولم يعتبر .. وعلم أن الموت حق ولم يستعد له .. وأقبل على الدنيا يعمرها ويجمعها وينافس في جمع حطامها .. ويتعذب بذلك ليله ونهاره كله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. ومحركات القلوب إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثة: المحبة .. والخوف .. والرجاء. فالمحبة أقواها، ويحركها في القلب كثرة ذكر المحبوب، ومطالعة آلائه ونعمائه، فيسير إلى محبوبه الذي يرى كل نعمة منه. والخوف، المقصود منه المنع والزجر عن الخروج عن الطريق. ويحركه في القلب مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب والنار وأهوالها، والعقوبات التي حلت بالمجرمين. أما الرجاء، فيقود الإنسان إلى الطريق. ويحركه في القلب مطالعة الكرم والإحسان، والحلم والعفو، والعطاء والمنّ. وقلوب العباد كلهم بيد الله: فمن أقبل على الله أقبل الله بقلوب عباده إليه فأحبوه. ومن أعرض عن الله أعرض الله بقلوب عباده عنه. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96].

5 - فتوحات القلب

5 - فتوحات القلب قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه (¬1). القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا، وتعلق بالآخرة، وتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره. فعند ذلك يتحرك قلب العبد لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وينبعث لمعرفة ما يسخطه منه فيجتنبه. فإذا تمكن العبد في ذلك، فتح الله له باب الأنس بالخلوة والوحدة، ومحبة الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك. فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وإقباله على ربه، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه، وتمزق شمله. ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات. ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له. ثم يفتح له باب شهود عظمة المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك. ثم يفتح له باب الحياء من الله عزَّ وجلَّ، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1073).

خلواته وجلواته. ويرزقه الله عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى ربه، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، مطلعاً على حركاتهم. فإذا استولى هذا على العبد، غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود بين يدي ربه ووليه، والناس في وجود آخر. ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية لربه على جميع الكائنات، فيرى سائر التقلبات الكونية، وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده. فيشهده ذلك ربه العظيم، مالك النفع والضر، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به رباً ومدبراً، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه. فإذا استمر له ذلك، فتح عليه باب القبض والبسط، فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده، وتفيض أنوار المعرفة والمحبة والإخلاص من قلبه، كما يفيض نور الشمس من جرمها. وكلما سار إلى ربه من الطريق الموصل إليه، زادت الهداية في قلبه، وزاد نور الإيمان، وانشرح صدره، ووجد اللذة في طاعة مولاه. فإذا استمر على حاله، واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يجيب غير من يدعوه إليه، ويعلم أنه لم يصل بعد، رجا أن يفتح له فتح آخر، هو فوق ما كان فيه. فيستغرق قلبه في أنوار مشاهدة جلال الله، بعد ظهور أنوار الوجود الحق، ويبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال والجمال لربه، فتنبع الأنوار من باطنه، كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء. ثم يرقيه الله تبارك وتعالى فيشهد قلبه أنوار الإكرام، بعد ما شهد أنوار الجلال

والعظمة لمولاه. فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال والإكرام، والإنعام والإحسان، فيذوق المحبة الخاصة، الملهبة للارواح والقلوب، الباعثة لحسن العبادة، ولذة المناجاة. فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه العزيز الكريم، ووليه الغفور الرحيم، ممتحناً بحبه، مستسلماً لطاعته، متلذذاً بعبادته، مستغرقاً في جلاله وجماله، وهذا غاية مراد الرب من عبده: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى، من الأموال والأشياء، والصور والرئاسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله. وأشرفهم منزلة، وأعلاهم مرتبة، من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة، بالأكل والشرب والجماع واللباس. وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على غيره، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته عند ربه، وقرب منزلته من حبيبه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه (¬1). وهذا العبد معية الله معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831)، واللفظ له.

غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. فهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق، فيقع أجره على الله، وله ما نوى. والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، ولها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت نشطت للفرائض والسنن، وتلذذت بذلك، ونافست في الخير، وسارعت إليه قولاً وفعلاً. وإذا أدبرت وضعفت نلزمها على الأقل الفرائض والواجبات.

6 - أقسام القلوب

6 - أقسام القلوب قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. وقال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [البقرة: 74]. تنقسم قلوب العباد إلى ثلاثة أقسام: صحيح .. وسقيم .. وميت. فالقلب الصحيح هو السليم الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما. بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وخشية وإخباتاً وخوفاً ورجاء. وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أزكى القلوب، وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89]. والقلب الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه. بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي

إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله حباً وخوفاً ورجاءً، ورضاً وسخطاً، وتعظيماً وذلاً. إن أحب أحب لهواه .. وإن أبغض أبغض لهواه .. وهواه أحب إليه وآثر عنده من رضا مولاه. فالهوى إمامه .. والشهوة قائده .. والجهل سائقه .. والغفلة مركبه .. والسيئات تجارته .. والمعاصي بضاعته .. والمحرمات سلعته. لا يستجيب لداعٍ ولا ناصح، ويتبع كل شيطان مريد .. من الإنس والجن، فهذا أخبث القلوب وأنجسها وأركسها: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35]. والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فهو السقيم. فله مادتان: تمده هذه مرة .. وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما. ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، ما هو مادة حياته ونجاته. وفيه من محبة الشهوات وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، والظلم، ما هو مادة هلاكه وعطبه. وهو ممتحن بين داعيين: داعٍ يدعوه إلى الله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأعلاهما صوتًا، وأكثرها حضوراً. فالقلب الأول حي مخبت واع لين، والثاني يابس ميت، والثالث مريض. فإن كان له مذكر فهو إلى السلامة أدنى، وإن لم يكن له مذكر فهو إلى العطب أدنى، وهوصيد من يسبق إليه. وقد جمع الله بين هذه القلوب الثلاثة في قوله سبحانه: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ

بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 53، 54]. فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو الإدراك للحق، ثم الانقياد له والقبول. والقلب الميت القاسي لا يقبل الحق ولا ينقاد له. والقلب المريض إن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم، وإن غلب عليه مرضه التحق بالقلب الميت القاسي. وكل ما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ .. وفي القلوب من الشبه والشكوك .. فتنة لهذين القلبين .. وقوة للقلب الحي السليم .. لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه .. ويعلم أن الحق في خلافه. ويستدل على معرفة ما في القلوب بحركة اللسان، فإن القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها. فلسان المرء يغرف لك من قلبه: حلو وحامض .. وعذب وأجاج .. وحار وبارد .. وطيب وخبيث .. وحسن وقبيح .. وحق وباطل .. وخير وشر. فالقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل .. ومن الحقد والحسد .. ومن الشح والبخل .. ومن الكبر والعلو .. ومن حب الدنيا .. وحب الرياسة. فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة. ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد .. ومن بدعة تخالف السنة .. ومن شهوة تخالف الأمر .. ومن غفلة تناقض الذكر .. ومن هوى يناقض الإخلاص.

والقلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم إلى قسمين: أحدها: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة. الثاني: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب: فالإعراض مرتبة ... والتكذيب مرتبة فوقها .. ثم الاستهزاء مرتبة فوقها .. والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. والله جل جلاله جعل القلوب على ثلاثة أقسام: مخبتة .. ومريضة .. وقاسية. فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به. والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله. ومن آثار الإخبات: وجل القلوب لذكر الله سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35]. فالقلب المخبت ضد القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتًا إليه، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا. اما القلوب القاسية الحجرية، فهي التي لا تقبل ما يبث فيها، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة. فالقسوة يبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظه وقساوته، لا لصبره واحتماله. ومن آثار قسوة القلب: تحريف الكلم عن مواضعه .. وعدم قبول الحق .. والصدّ عنه .. ونسيان ما ذكِّر

به، وهو ترك ما أمره الله به علمًا وعملاً كما قال سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [البقرة: 74]. أما القلوب المريضة فهي التي يكون الحق ثابتًا فيها، لكن مع ضعف وانحلال كما قال سبحانه: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} [الحج: 53]. فذكر سبحانه القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، ثم القلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه. فهذان القلبان شقيان معذبان. ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به. وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف ما في القلوب الثلاثة. فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى، وزيادة محبة الرب، وبغض الكفر والشرك. والقلب عضو من أعضاء الإنسان، وهو أشرف أعضائه، وكل عضو كاليد مثلاً، إما أن يكون جامدًا يابسًا، أو يكون مريضًا ضعيفًا، أو يكون حيًا قويًا. فالقلوب كذلك ثلاثة: قلب قاسٍ بمنزلة اليد اليابسة .. وقلب مائع رقيق جدًا .. وقلب رقيق صاف صلب. فالأول لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص. وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب .. فهو يرى الحق من الباطل بصفائه .. ويقبله ويؤثره برقته .. ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته. وهذا أحب القلوب إلى الله، وهو القلب المستقيم المخبت المطمئن: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي

الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35]. وأبغض القلوب إلى الله القلب القاسي، والقلب القاسي والمريض كلاهما منحرف عن الاعتدال، هذا بمرضه، وهذا بقسوته: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. وهؤلاء أصحاب القلوب المريضة والقاسية، المعرضون عن دين الله، المعارضون له، ألا يتدبرون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟. فإنهم لو تدبروه لدلهَّم على كل خير، وحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر؟. ولعرفهم بربهم سبحانه، وبأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل. أم قلوبهم مقفلة على ما فيها من الشر، فلا يدخلها خير أبدًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وارزقنا حسن تلاوة كتابك، وحسن العمل بشرعك، وصدق الإخلاص في عبادتك: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].

7 - غذاء القلوب

7 - غذاء القلوب قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإٍسراء: 82]. الله عزَّ وجلَّ جعل للقلوب نوعين من الغذاء: الأول: الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله. الثاني: غذاء روحاني معنوي، خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماويًا علويًا، وبالغذاء المشترك كان أرضيًا سفليًا، وقوامه بهذين الغذاءين. وللقلب ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وله غذاء يصل إليه منها كحاسة السمع والبصر، وحاسة اللمس والشم والذوق، وارتباطه بحاستي السمع والبصر أشد من ارتباطه بغيرهما، ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس. وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما، واقترانه في القرآن بهما أكثر من اقترانه بغيرهما. بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. وتأثر القلب بما يراه ويسمعه، أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه، ولأن هذه الثلاثة هي أهم طرق العلم وهي السمع والبصر والعقل.

وتعلق القلب بالسمع والبصر، وارتباطه بهما، وتأثره بهما لا يخفى، لكن ما يدركه بحاسة السمع من العلم والهدى أعم وأشمل، وما يدركه بحاسة البصر أتم وأكمل. فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، وللبصر التمام والكمال. وهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح، وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها. فمن الناس من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها، فهو بمنزلتها كما قال سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44] ولهذا نفى الله تبارك وتعالى عن الكفار السمع والبصر والعقل، لعدم انتفاعهم بها كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. فهم يسمعون ويبصرون بالحواس الظاهرة، وبهما قامت عليهم الحجة، ولا يسمعون ولا يبصرون بالحواس الباطنة، التي هي سماع القلب، التي هي روح حاسة السمع، التي هي حظ القلب، ولو سمعوه من هذه الجهة، لحصلت لهم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. وتعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب، أشد من تعلق البصر به، وآثاره على قلب الإنسان أسرع وأشد، فربما غشي على الإنسان إذا سمع كلامًا يسره أو يسوؤه، أو صوتًا لذيذًا طيبًا مناسبًا، ولا يحصل له ذلك من رؤية الأشياء بالبصر الظاهر إلا نادرًا. فإذا كان المسموع معنى شريفًا بصوت لذيذ، حصل للقلب حظه ونصيبه من إدراك المعنى، وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له، كما يحصل للقلب عند سماع آيات القرآن المرتلة.

وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه، فيحصل لها الارتياح، ويتم الابتهاج، وتتضاعف اللذة، حتى ربما فاض الابتهاج والسرور على البدن والجوارح وعلى الجليس. ويكاد القلب لكمال لذته، وتوفر غذائه، أن يفارق هذا العالم، ويلج عالمًا آخر، ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره البتة. وذلك لمحة من حال أهل الجنة في الجنة. فيا له من غذاء ما أصلحه .. وما أنفعه .. وما أيسره. والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، سمع كلام محبوبه، وتأثر به وانتفع به. وقلوب البشر على ثلاثة أقسام: أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه، بحيث صار قلبه نفسًا محضة، فغلبت عليه آفات الشهوات والأهواء. فهذا حظه من السماع الديني كحظ البهائم، لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه، فصارت نفسه قلبًا محضًا، فغلبت عليه المعرفة والمحبة، والعقل واللب. وعشق صفات الكمال، فاستنارت نفسه بنور قلبه، واطمأنت إلى ربها، وقرت عينها بعبوديته، وصار نعيمها في حبه وقربه. فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة، وسماعه غذاء قلبه وروحه، وقرت عينه. الثالث: من له منزلة بين منزلتين، وقلبه باق على فطرته الأولى، لكن ما تصرف في نفسه تصرفًا أحالها إليه، ولا قويت النفس على القلب فأحالته إليها، فبين النفس والقلب منازلات ووقائع. تدال النفس عليه تارة .. ويدال عليها تارة .. والحرب سجال. فهذا حظه من السماع حظ بين الحظين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظه

منه قويًا، وإن صادفه وقت دولة النفس كان ضعيفًا. ومن هنا يقع التفاوت في الفقه عن الله، والفهم عنه، والابتهاج به، وحصول النعيم واللذة بسماع كلامه. وخلاصة غذاء القلوب يمكن الحصول عليه من أربعة أبواب: الأول: الكلام في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله والتحدث بذلك، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية. الثاني: الكلام في آلاء الله ونعمه، ورؤية إحسانه وجماله وإكرامه والتحدث بذلك كما قال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]. الثالث: معرفة وعد الله لعباده المتقين بالجنة، وذكر منازلها وقصورها، ورؤية ما فيها من النعيم واللذات، والتنعم برؤية الرب جل جلاله، وسماع كلامه، والتحدث بذلك بين الناس. الرابع: معرفة وعيد الله لمن عصاه، وتذكر النار وما فيها من السعير والسموم، والقمع والإحراق، وعند ذلك ترق القلوب وتمتلئ بالخوف والوجل من معصية الرب، وتقبل على ربها بلباس الإيمان والتقوى. وحاجات الإنسان قبل الموت كالقطرة، وحاجات الإنسان بعد الموت كالبحر. وحاجات البدن في الدنيا كالقطرة، وحاجات القلب كالبحر. وليس للقلوب سرور ولا لذة ولا نعيم إلا بالإيمان بالله ومحبته، والتقرب إليها بما يحبه، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله والمعرفة به. ومن كان محبًا لغير الله في الدنيا، فهو معذب في الدنيا والآخرة، فإن نال مراده عذب به، وإن لم ينله فهو في العذاب والحسرة والحزن. وكل من استقام على الدين، واجتهد للدين، ظهرت شعب الإيمان في حياته، من التوكل والخشية، والخوف والرجاء، والمحبة والإنابة، والاستعانة بالله في جميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وفاز بالسعادة في الدنيا .. ودخل الجنة في الآخرة.

8 - فقه أعمال القلوب

8 - فقه أعمال القلوب قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52]. الأوامر تنزل في كل لحظة من ذات الله تبارك وتعالى، والأعمال تصدر من ذات الإنسان، فإذا تطابقت الأوامر والأعمال، فلهذا الإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، وإذا خالفت أعمال الإنسان أوامر الرب، شقي هذا الإنسان في الدنيا والآخرة. والأعمال التي تصدر من الإنسان نوعان: أعمال القلوب .. وأعمال الجوارح. وأعمال القلوب من أصول الإيمان وقواعد الدين: كالإيمان والتوحيد .. ومحبة الله ورسوله .. والتوكل على الله .. وإخلاص الدين له .. واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته .. والخوف منه .. والرجاء له .. والخشية منه .. والخشوع له .. والتذلل والتضرع بين يديه .. والصبر على حكمه، والاستعانة به ونحو ذلك. فهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات: ظالم لنفسه .. ومقتصد .. وسابق بالخيرات. فالظالم لنفسه: هو العاصي بترك مأمور، أو فعل محظور. والمقتصد: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات. والسابق بالخيرات: المتقرب إلى ربه بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، التارك للمحرم والمكروه، الذاكر لربه في كل حين.

وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كلاهما مطلوب، لكن الأول أساسي للثاني، والثاني مظهره وعلامته، لكنه لا يقبل بدونه. وإنما خص الله أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فلولا إرادة القلب لم تحصل أفعال الجوارح ولهذا قال سبحانه: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} [العاديات: 9 - 11]. وجعل الله القلوب الأصل في المدح كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. وجعلها الأصل في الذم كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وأعظم المخلوقات، وأنزهها وأطهرها، وأنورها وأشرفها، وأعلاها ذاتًا وقدرًا، وأكرمها وأوسعها، عرش الرحمن جل جلاله، ولذلك صلح لاستوائه عليه. وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان، وأشرفها وأنورها وأجلها، لقربها من عرش الرحمن إذ هو سقفها. وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة، وأضيقها وأبعدها من كل خير، وهي النار. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ القلوب، وجعلها محلاً لمعرفته ومحبته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفة الله ومحبته وإرادته كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60]. والقلب إن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها، لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة، وإلا استوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها

وإرادتها، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن: ففيه النور والحياة، والفرح والسرور، والبهجة وذخائر الخير. وقلب هو عرش الشيطان: فهناك الضيق والظلمة، والموت والحزن، والهم والغم. والنور الذي يدخل القلب إنما هو من آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم تكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق. والتوحيد والإيمان والإخلاص شجرة في القلب، فروعها الأعمال الصالحة، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب فروعها الأعمال السيئة، وثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم، وفي الآخرة عذاب الجحيم. فشجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة، في السماء دائمًا، يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن، وينفع غيره كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]. وأما شجرة الكفر فهي شجرة خبيثة المأكل والمطعم كشجرة الحنظل ونحوها، لا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها. كذلك كلمة الكفر والمعاصي ليس لها ثبوت نافع في القلب، ولا تثمر إلا كل قول خبيث، وعمل خبيث، يضر صاحبه ولا ينفعه، ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح كما قال سبحانه: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} [إبراهيم: 26]. والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.

والقلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه ألينها وأرقها وأصفاها. وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الغالية. ولا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا، وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته، وصرف قلبه عما سواه. والقلب يعمل، والبدن يعمل، والقلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه بالتوبة والحمية .. والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر .. والقلب يعرى كما يعرى الجسم، وزينته بالتقوى .. والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، وطعامه وشرابه العلم بالله والمعرفة، والمحبة والتوكل، والإنابة والعبادة. والوصول إلى المطلوب المحبوب موقوف على ثلاثة أمور: هجر العوائد .. وقطع العلائق .. وإزالة العوائق. فالعوائد: ما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والعادات التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عند بعضهم أعظم من الشرع، وهذه الرسوم قد استولت على طوائف من بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والعامة والخاصة. ينكرون على من خالفها، وربما كفروه أو بدعوه، أو ضللوه أو قتلوه، واتخذها الناس سننًا، وهُجر لأجلها الكتاب والسنة. وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب من دون الله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم. ولا سبيل إلى قطعها إلا بقوة التعلق بالمطلوب الأعلى، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه. وأما العوائق: فهي أنواع المخالفات التي تعوق القلب عن سيره إلى الله وهي ثلاثة: الشرك، والبدعة، والمعصية.

والإيمان مبني على أصلين: أحدهما: تصديق الخبر عن الله ورسوله، وبذل الجهد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته. الثاني: طاعة أمر الله ورسوله، ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة. فالشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده. كما أن الأصلين الأولين: تصديق الخبر، وطاعة الأمر، أصل فلاح العبد وسعادته في معاشه ومعاده. وكل عبد له قوتان: الأولى: قوة الإدراك والنظر، وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام. الثانية: قوة الإرادة والحب، وما يتبعهما من النية والعزم والعمل. فالشبهات تؤثر فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها. والشهوات تؤثر فسادًا في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها بإخراجها. ومن تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً، ولو تفرغت هذه النفوس لكانت أئمة تدعو إلى النار. وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد بالعيان، فإن داء الأولين والآخرين أمران: اتباع الشهوات المانعة من متابعة الأمر .. والخوض بالشبهات المانعة من الانقياد للأمر. وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، ولا تزال ساعية في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، فاحذر هؤلاء ومجالسهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ

الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68]. ومن رزقه الله قلبًا سليمًا، رأى الحق حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه. فإذا رأى الناس متوكلين على تجارتهم، وصحة أبدانهم، توكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وإذا رآهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق اشتغل بما لربه عليه، لعلمه أن رزقه سيأتيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وإذا رآهم يتحاسدون في دنياهم ترك ذلك لهم، لعلمه أن نصيبه من الرزق سيصل إليه، ولن يأخذه غيره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. وإذا رأى الناس يطلبون العزة والمكانة عند المخلوق بالمال والجاه والمناصب، طلب المكانة عند ربه بالتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وإذا رأى الناس يركضون وراء شهواتهم، أجهد نفسه في دفع الهوى حتى تستقر على طاعة الله عزَّ وجلَّ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. وإذا رأى الخلق كل له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، جعل محبوبه حسناته التي لا تفارقه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].

9 - صفات القلب السليم

9 - صفات القلب السليم قال الله تعالى: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 87 - 89]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 2، 3]. القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله يوم القيامة، هو القلب الذي قد سلم من مرض الشهوات، وسلم من مرض الشبهات، الذي قد سلم لربه، وسلم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره. فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله عزَّ وجلَّ. فالله وحده غايته .. وأمره وشرعه وسيلته .. لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره .. ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه. ومتى كان قلب العبد كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من المعاصي، وسليم من الغي، وسليم من الباطل. فالقلب السليم هو الذي سلم لعبودية ربه حبًا وخوفًا، ورجاءً وطمعًا، وسلم لأمره وسلم لرسوله تصديقًا وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، فلم يتهمه ولم ينازعه، ولم يتسخط لأقداره. فأسلم لربه ومولاه انقيادًا وخضوعًا، وذلاً وعبودية. وسلم جميع أحواله وأقواله، وأعماله الظاهرة والباطنة، لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسالم أولياء الله وحزبه المفلحين، الذابين عن دينه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والقائمين بها، والداعين إليها.

وعادى أعداءه المخالفين لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، الخارجين عنهما، الداعين إلى خلافهما. والمؤمن حي، والكافر ميت، والميت لا يؤمر بصلاة ولا صيام حتى تنفخ فيه روح الإيمان، وإن كان سيحاسب على تركه الإيمان والأعمال يوم القيامة. فإذا حيي قلبه بالإيمان، صار قابلاً ومستعدًا لقبول الأوامر والنواهي. فالمؤمن حي، والحي إما صحيح، وإما مريض، فصاحب القلب السليم هو الصحيح، وصاحب القلب المريض هو السقيم. والمرض قسمان: مرض شبهة .. ومرض شهوة. فالأول كما قال سبحانه عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 10]. والثاني: كما قال سبحانه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب: 32]. وشفاء هذين المرضين في القرآن كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44]. ويحصل تأثر القلب بالقرآن أو بالمواعظ أو غيرها بأربعة أمور: الأول: المؤثر كالقرآن مثلاً يسمعه أو يقرؤه. الثاني: المحل القابل، وهو القلب الحي الذي يعقل عن الله. الثالث: وجود الشرط، وهو الإصغاء. الرابع: انتفاء المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب. فإذا تمت هذه الشروط، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر والاستقامة. كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} هذا هو المؤثر. {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} هذا هو المحل. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} وهذا هو الشرط وهو الإصغاء. {وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} وهذا انتفاء المانع. وقلب الإنسان له أربعة أبواب، وكلها تصب في القلب وهي: اللسان .. والأذن .. والعين .. والدماغ. فما يتكلم به اللسان يتأثر به القلب، فإذا تكلم بالإيمان، وتلاوة القرآن، تأثر بذلك قلبه، وزاد إيمانه. والأذن باب إلى القلب، فإذا سمع كلمات الإيمان والقرآن تأثر بها قلبه، وزاد إيمانه. والعين باب إلى القلب، فالنظر إلى المخلوقات، وعظيم صنع الباري يؤثر في القلب، وتعلم الإيمان بالنظر للكاملين في الإيمان، فكلما نظروا إلى المخلوق زاد إيمانهم بالخالق سبحانه. أما ناقص الإيمان فينظر إلى المخلوق ويغرق فيه، فينقص إيمانه، لأنه اشتغل به ولم يتعداه إلى خالقه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. وكلما تفكر الدماغ في عظمة الله، وعظيم إحسانه، تأثر بذلك القلب، وزاد إيمانه. والقلب السليم هو ما سلم من ستة أدواء: فهو سليم من الشرك .. سليم من الجهل .. سليم من الكبر .. سليم من الغفلة .. سليم من حب الدنيا .. سليم من سيئ الأخلاق. فهو قلب طاهر زكي، مملوء بالإيمان والتوحيد والعلم، والتواضع لربه، ولزوم ذكره، يحب الله والدار الآخرة، متجمل بمكارم الأخلاق. فهذا القلب السليم إذا نظر الله إليه، - رضي الله عنه - وأحبه واجتباه، وأعانه على كل خير،

ومنع عنه كل سوء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وإذا تأكد المسلم من صحة قلبه وسلامته، فهو مطالب بالمحافظة عليه بما يحفظ عليه قوته بالإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية من المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي والمحرمات. وإلى استفراغ المواد الفاسدة التي تعرض له بالتوبة النصوح والاستغفار، وإلى شغله بكل ما يورث القلب إيمانًا، ويزيده من العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، فكل ذلك أغذية له. والقلب السليم: هو الذي سلم من الغل والحقد، والحسد والشح، وسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، حيث كمال النعمة، وكمال النعيم، ورؤية المنعم جل جلاله. ولا تتم سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد .. ومن بدعة تخالف السنة .. ومن شهوة تخالف الأمر .. ومن غفلة تناقض الذكر .. ومن هوى يناقض التجريد. وهذه الخمسة حجب عن الله، ولهذا اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم كل يوم، بل في كل صلاة، بل في كل ركعة. والقلب يتعلق به أحكام من جهة خلقه وشكله .. ومن جهة الوارد عليه من الله، ومن النفس، والشيطان .. ومن جهة المطلوب منه من العبادة وطاعة الله ورسوله. وخير القلوب ما كان داعيًا للخير ضابطًا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا

يقبله، فهذا قلب حجري، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبل، ولكن لا يحفظ ولا يضبط. والفرق بين سلامة القلب، والبله والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته .. فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به .. وهذا بخلاف البله والغفلة .. فإنها جهل وقلة معرفة .. وهذا لا يحمد إذ هو نقص. فالكمال أن يكون القلب عارفًا بالخير، مريدًا له، عارفًا بالشر، سليمًا من إرادته. وأصل أعمال القلوب المأمور بها: الإيمان .. والإحسان .. والتقوى .. والتوكل .. والخوف .. والرجاء .. والإنابة .. والتسليم ونحوها. وأصل ذلك كله الصدق، فكل عمل صالح ظاهر وباطن فمنشؤه الصدق، وأضداد ذلك من أعمال القلوب المنهي عنها هي: الرياء .. والعجب .. والكبر .. والفخر .. والخيلاء .. والبطر .. والأشر .. والعجز .. والكسل .. والجبن، وغيرها. وأصل ذلك كله الكذب، فكل عمل فاسد ظاهر وباطن فمنشؤه الكذب. والله عزَّ وجلَّ يعاقب الكذاب، بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق، بأن يوفقه للقيام بمصالح دينه ودنياه وآخرته. فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا استجلبت مضار الدنيا والآخرة ومفاسدهما بمثل الكذب. ولهذا رغب الله عباده المؤمنين بالصدق، وأمرهم بلزوم أهل الصدق في القول والعمل كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. ولهذا كان الصدق أساس البر، والكذب أساس الفجور، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى

يَكُونَ صِدِّيقاً. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً» متفق عليه (¬1). وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، كما أفسد على اللسان أقواله. فيعم الكذب أقواله، وأعماله، وأحواله. فيستحكم عليه الفساد، ويترامى داؤه إلى الهلكة، إن لم يتداركه الله بدواء الصدق الذي يقلع تلك المادة من أصلها: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094)، واللفظ له، ومسلم برقم (2607).

10 - فقه سكينة القلب

10 - فقه سكينة القلب قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]. السكينة: هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف. فلا ينزعج مما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات. ولهذا أخبر الله عزَّ وجلَّ عن إنزالها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رؤوسهم، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم. والسكينة اسم لثلاثة أشياء: أولها: سكينة بني إسرائيل التي أعطوها في التابوت، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. الثانية: التي تنطق عل لسان المحدثين، ليست شيئًا يملك، إنما هي شيء من لطائف صنع الحق، تلقى على لسان المحدث الحكمة. فالسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو وكل باطل. وربما ينطق من في قلبه السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ولا روية، ويستغربه هو من نفسه. وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصدق الرغبة من السائل والمجالس، وصدق

الرغبة منه هو إلى الله، وحضرته مع تجرده من الأهواء. الثالثة: السكينة التي نزلت على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلوب المؤمنين. وهذه السكينة تشتمل على النور .. والقوة .. والروح. فبالروح الذي فيها حياة القلب .. وبالنور الذي فيها استنارته وإشراقه .. وبالقوة ثباته وعزمه ونشاطه. فالنور يكشف للعبد عن دلائل الإيمان، ويميز له بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشد .. والحياة توجب كمال يقظته وفطنته .. والقوة توجب له الصدق وصحة المعرفة .. وقهر داعي الغي .. وضبط النفس عن جزعها وهلعها .. واسترسالها في النقائص والعيوب .. ولكي يزداد بالسكينة إيمانًا مع إيمانه. والإيمان يثمر له النور والحياة والقوة، فإذا حصلت هذه الثلاثة بالسكينة، سكن إليها العاصي، وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة، لعدم سكينة الإيمان في قلبه، صار سكونه إليها عوض سكونه عن الشهوات والمخالفات. فيجد في هذه السكينة مطلوبه، وهي اللذة التي كان يطلبها في المعصية، فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بلذتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية، وصارت لذته روحانية قلبية، بعد أن كانت لذته جسمانية بهيمية، وسكن خوفه، وذهب همه وغمه. فالسكينة: هي طمأنينة القلب واستقراره .. وأصلها في القلب .. ويظهر أثرها على الجوارح .. والناس فيها متفاوتون: فسكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخص مراتبها وأعلاها، وذلك مثل السكينة التي نزلت على إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار التي أضرمها له أعداؤه. فلله عظمة وطمأنينة تلك السكينة التي أنزلها الله على قلبه. وكذلك السكينة التي حصلت لموسى - صلى الله عليه وسلم - وقد غشيه فرعون وجنوده من

ورائهم، والبحر أمامهم. فلله ما ألذ تلك السكينة التي أنزلها الله على قلب موسى - صلى الله عليه وسلم - حين ضرب البحر، وحين عبر البحر، وحين رأى أعداءه يغرقون في البحر. وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له عند الشجرة. وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا أمام فرعون وملئه. وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى، فأوجس في نفسه خيفة، ثم ألقى عصاه التي ابتلعت تلك العصي والحبال. فلله عظمة تلك السكينة حين رأى فعل ربه بعدوه، ونصره لنبيه. وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وقد أشرف عليه أعداؤه، فصرفهم الله عنه. فلله كم لذة تلك السكينة التي رأى فيها حفظ وليه من كيد أعدائه. وكذلك السكينة التي نزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به في يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم حنين، وغيرها. فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي آية عظيمة على صدق الأنبياء. وأما سكينة أتباع الأنبياء، فتكون للمؤمنين بحسب متابعتهم، وهي سكينة الإيمان واليقين. وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. ولما علم الله ما في قلوب المؤمنين من الاضطراب والقلق، وذلك حين منعتهم قريش من دخول بيت الله عام الحديبية، وعلم ما فيها من الإيمان والصدق والخير، وحب الله ورسوله ثبتها بالسكينة وأنزلها عليهم كما قال سبحانه:

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]. ومنها السكينة التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبودية، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعية القلب على الله، بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه قانتًا لله عز وجل. والخشوع نتيجة هذه السكينة، وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب. والأسباب المؤدية إلى السكينة سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه. وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة، والمحبة والخضوع، والخوف والرجاء، ما لا يحصل بدونها، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصول أعمال القلوب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله: «الإحسان: أنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (¬1). وكل عبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة، وعند الخطرات السيئة، ليثبت قلبه ولا يزيغ، وعند المخاوف ليثبت قلبه ويسكنه جأشه، وعند الفرح، لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد، وعند هجوم الأسباب المؤلمة، لئلا ييأس ويقنط. ولهذا أنزل الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في مواقع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة حينما أحاط المشركون بالغار، كما قال الله سبحانه: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} ... [التوبة: 40]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، واللفظ له، ومسلم برقم (9).

وكيوم حنين حين ولى المؤمنون مدبرين من شدة بأس الكفار، كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 26]. وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوب المؤمنين من تحكم الكفار عليهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. وأما سكينة الوقار فهي نوع من السكينة، وسكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة، كما يحصل الضياء عن الشمس. وسكينة الوقار لها ثلاث درجات: الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة رعاية وتعظيمًا وحضورًا، فالخشوع في العبادة يكون برعاية حقوقها الظاهرة والباطنة، وتعظيم الخدمة وإجلالها، وذلك تبع لتعظيم المعبود وإجلاله ووقاره. فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد وإجلاله، يكون تعظيمه لخدمته وإجلاله ورعايته لها. وحضور القلب فيها بمشاهدة المعبود كأنه يراه، ويتقدم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان كما قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. الثانية: السكينة عند المعاملة: وتحصل بمحاسبة النفس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق سبحانه. فمحاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها، وزكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها. وبمحاسبة النفس، يطلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها. وملاطفة الخلق بمعاملتهم بما يحب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم

بالعنف والشدة والغلظة، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه ووقته وحاله مع الله. فليس للقلب شيء أنفع من معاملة الناس باللطف واللين، والحلم والرحمة. فإن معاملة الناس بذلك ثمرته: إما أجنبي تكسب مودته ومحبته .. وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته .. وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره. أما مراقبة الله سبحانه، فهي الموجبة لكل صلاح، وخير عاجل أو آجل، ومراقبة الحق سبحانه توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق. الثالثة: السكينة التي تثبت الرضا بالقسم، وتمنع من الشطح، وتوقف صاحبها عند حده من رتبة العبودية. فهذه الرتبة توجب لصاحبها أن يرضى بالمقسوم، ولا تتطلع نفسه إلى غيره، وهي من أعظم مواهب الحق جل وعلا، ومن أجلّ عطاياه. ولهذا لم يجعلها الله في القرآن إلا لرسوله وللمؤمنين، والسكينة كأنها رداء ينزل، فيثبت القلوب الطائرة، ويهدئ الانفعالات الثائرة. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .. وصرفها في طاعتك .. واهدنا لأحسن الأقوال والأعمال .. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

11 - فقه طمأنينة القلب

11 - فقه طمأنينة القلب قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وقال الله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر: 27، 28]. الطمأنينة: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه. فالصدق مثلاً يطمئن إليه قلب السامع، والكذب يوجب له اضطرابًا وارتيابًا. وذكر الله هو القرآن، وبه تحصل طمأنينة القلوب، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن. والفرق بين السكينة والطمأنينة: أن الطمأنينة: سكون القلب مع قوة الأمن، والسكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان، فيسكن القلب في بعض الأوقات. أما سكون أهل الطمأنينة فهو دائم، ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس. والطمأنينة أعم، فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم، ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن، لما حصل لها الإيمان به. وأما السكينة فهي ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه، وزوال قلقه واضطرابه. والطمأنينة على ثلاث درجات: الأولى: طمأنينة القلب بذكر الله عزَّ وجلَّ، وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء، فالخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به، وأراد الله عزَّ وجلَّ أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة، فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به. وطمأنينة الضجر إلى الحكم، فإن من أدركه الضجر من قوة التكاليف، وأعياه الأمر، لا سيما من يقوم بدعوة الناس إلى الخير وتعليمهم، وجهاد أعداء الله

ونحو ذلك، فلا بدَّ أن يدركه الضجر، ويضعف صبره. فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل الله عليه سكينته، فاطمأن إلى حكمه الديني، وحكمه القدري. وبحسب مشاهدة العبد لهما تكون طمأنينته وراحته، بل لذته. فإذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق، وهو صراطه المستقيم، وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم. وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني، علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف الإيمان واليقين. فكل محذور، وكل مخوف، إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه، وإن قُدر فلا سبيل إلى صرفه، بعد أن أبرم تقديره العليم القدير. وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة، فإن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه، واطمأن قلبه بمشاهدة العوض. وإنما يشتد عليه البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب على البلاء. وقد تقوى ملاحظة الثواب حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمه، كالدواء الكريه يلتذ به لملاحظة نفعه. الثانية: طمأنينة الروح إلى الطريق الموصل إلى المطلوب، ومعرفة عيوب النفس، وآفات الأعمال، ومعرفة المطلوب المقصود بالسير، وهو معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والتوحيد. فتسكن النفس لذلك، وتطمئن إليه، كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام، ويسكن إليه قلبه. الثالثة: طمأنينة القلب إلى لطف الله عند شهوده ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلولا الطمأنينة لمحقه الشهود، فقد خرَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - صعقًا لمّا تجلّى ربُّه للجبل. وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه، وكذلك القلب السليم

يرى الحق سبحانه وحده قائمًا بذاته، ويرى كل شيء قائمًا به. والله عزَّ وجلَّ قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان. والطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده، تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه، يسمع به، ويبصر به، ويتحرك به، ويبطش به. فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله، وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله، ويلين جلده ومفاصله وقلبه إلى خدمته والتقرب إليه. ولا يحصل ذلك إلا بالله وبذكره، وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة: أن تطمئن في باب معرفة أسماء الله وصفاته إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله. فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب، حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي، بشاشة قلبه. فيطمئن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه، حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فلا يبالي بعد ذلك بأي مخالف، فهذه أول درجات الطمأنينة. ثم لا يزال يقوى كلما سمع آية متضمنة لصفة من صفات ربه، فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان، التي قام عليها بناؤه. ثم يطمئن إلى خبره بما بعد الموت من أمور البرزخ، وما بعدها من أهوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانًا. وهذا حقيقة اليقين الذي وصف الله به أهل الإيمان بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ

إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 4]. فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله به عنها. والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان: طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها .. وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من أثار العبودية. فالطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به، يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها، فيسلم لها ويرضى بها، ولا يسخط ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه. فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه ربه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. وهكذا سائر الصفات كالسمع والبصر، والمحبة والعلم، والرضا والغضب، فهذه طمأنينة الإيمان. وأما طمأنينة الإحسان: فهي الطمأنينة إلى أمر الله امتثالاً وإخلاصًا ونصحًا، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدًا، فلا يسكن إلى شبهة تعارض خبره، ولا إلى شهوة تعارض أمره. وعلامات هذه الطمأنينة: أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها، إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها، وكل عاصٍ في قلبه الخوف والقلق، ولكن سكر الشهوة والغفلة يواري عنه ذلك الخوف والقلق. ولكل شهوة سكر يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب. وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض، إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره، وتعلق الروح بحبه ومعرفته.

وإذا اطمأنت النفس وترحلت من الشك إلى اليقين .. ومن الجهل إلى العلم .. ومن الغفلة إلى الذكر .. فقد باشرت روح الطمأنينة. وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة، فهي أول مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه، والتزود لمعاده، بمنزلة النائم، بل أسوأ حالاً منه، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. اللهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].

12 - فقه سرور القلب

12 - فقه سرور القلب قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وقال الله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170]. الله عزَّ وجلَّ أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته، وذلك تابع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة. فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم، محسن بر، يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى. والفرح: لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، والسلامة من المكروه. فيتولد من ذلك حالة تسمى الفرح والسرور. كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب، وحصول المكروه، فيتولد من ذلك حالة تسمى الحزن والغم. ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة، وشفاء الصدور من أدواء الجهل والظلم، والغي والسفه، وهو أشد ألمًا لها من أدواء البدن، ويشتد ألمها به عند مفارقة الدنيا، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن. وما آتاها من ربها من الهدى، الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها. فهذا ليس بموضع فرح، لأنه عرضة للآفات، ووشيك الزوال. وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: فرح مطلق .. وفرح مقيد.

فالمطلق جاء في الذم كقوله سبحانه عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} [القصص: 76]. والمقيد نوعان: الأول: فرح مقيد بالدنيا، ينسي صاحبه فضل الله ورحمته فهو مذموم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. الثاني: فرح مقيد بفضل الله ورحمته، فهو محمود كالفرح بالله ورسوله، والفرح بالإيمان والسنة والقرآن كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. والفرق بين الفرح والاستبشار، أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله، والاستبشار يكون بالمحبوب قبل حصوله، إذا كان على ثقة من حصوله كما قال سبحانه: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170]. فالفرح أعلى وأعظم نعيم القلب ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه. والسرور: اسم لاستبشار جامع يظهر أثره على الوجه، فإنه تبرق منه أسارير الوجه. والاستبشار: مأخوذ من البشرى، والبشارة: أول خبر صادق سار، سميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه بالنور والسرور. والبشرى نوعان: بشرى سارة .. وبشرى محزنة. فالأولى: تكسب الوجه نضرة وبهجة. والثانية: تكسبه سوادًا، وعبوسًا. والبشرى إذا أطلقت كانت للسرور، وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به من

الأحوال. والسرور على ثلاث مراتب: الأولى: سرور ذوق طعم الإيمان، والإقبال على الله، والأنس به، وحلاوة مناجاته، والتلذذ بعبادته. ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الالتجاء إليه، والفرار منه إليه. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والتسليم لقضائه وقدره، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره. الثانية: سرور شهود العبد آلاء ربه ونعمه، وجماله وجلاله، فيقبل على الطاعات مسرورًا، لأنه يراها غذاءً لقلبه، وسرورًا له، وقرة عين في حقه، ونعيمًا لروحه، يلتذ بها، ويتنعم بملابستها، أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب. فاللذات القلبية الروحانية أقوى وأتم من اللذات الجسمية، فلا يجد في العبادات كلفة، بل يسر بها، ويتلذذ بتكرارها والإكثار منها. الثالثة: سرور سماع الإجابة، وهو سماع انقياد القلب والروح والجوارح لما سمعته الآذان، ويزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام. وهو إذا دعا ربه سبحانه فسمع ربه دعاءه سماع إجابة، وأعطاه ما سأله أو أعطاه خيرًا منه، حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد. فللعطاء والإجابة سرور وأنس وحلاوة في قلب العبد. وللمنع وحشة ومرارة وضيق. والفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته، ولا لذة له ولا سرور إلا بأن يكون ربه معبوده ومحبوبه ومطلوبه. والفرح بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح

لذة وبهجة وسرور، فكل فرح راضٍ، وليس كل راضٍ فرحًا. والفرح صفة كمال، ولهذا يوصف الرب جل جلاله بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه سبحانه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته، التي عليها طعامه وشرابه، في الأرض المهلكة، بعد فقده لها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه (¬1). والفرق بين فرح القلب، وفرح النفس ظاهر. فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته ومحبة كلامه ودينه من القلب كما قال الله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. فهذا فرح القلب وهو من الإيمان، ويثاب عليه العبد. والفرح يكون على قدر المحبة .. وعلى قدر المعرفة. فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته ولبه، وله عبودية عجيبة، وأثر في القلب لا يعبر عنه، والفرح بذلك أفضل ما يعطاه العبد، بل هو أجلّ عطاياه. والفرح في الآخرة بالله ولقائه، بحسب الفرح به، ومحبته في الدنيا. فهذا شأن فرح القلب. وله فرح آخر، وهو فرحه بما من الله به عليه من معاملته، والإخلاص له، والتوكل عليه، والثقة به، وحسن عبادته. وله فرحة أخرى عظيمة الشأن، وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة، فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة. وسر هذا الفرح، إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد من فرح العبد الذي أضل راحلته في أرض فلاة ثم وجدها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747)، واللفظ له.

وفوق ذلك فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل الله إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فترجع الروح الطيبة إلى ربها راضية مرضية: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. ومن بعدها أنواع من الفرح: منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، وفتح أبواب السماء لها، وصلاة ملائكة السماء عليها، وكيف يقدر فرحها، وقد استؤذن لها على ربها ووليها فوقفت بين يديه، وأذن لها بالسجود فسجدت. ثم يذهب إلى الجنة فيرى مقعده فيها، وما أعد الله له، ويلقى أهله وأصحابه فيستبشرون به ويفرحون. وهذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد: بجلوس المؤمن في ظل العرش .. وشربه من الحوض .. وأخذه كتابه بيمينه .. وثقل ميزانه .. وبياض وجهه .. وإعطائه النور التام .. وقطعه جسر جهنم .. وانتهائه إلى باب الجنة. وقد أزلفت له في الموقف كما قال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)} [ق: 31]. وتلقاه خزنتها بالسلام والترحيب والبشارة والإكرام. وقدومه عل منازله وقصوره وأزواجه. والنعيم الذي لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر. فلله ما أعظم هذا النعيم، وما أشد فرح العبد به .. وما أخسر من أضاعه. وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره، تتلاشى هذه الأفراح والمسرات عنده، وهو رؤية المؤمنين لربهم، وسلامه عليهم، ورضاه عنهم، وتكليمه إياهم كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23].

13 - فقه خشوع القلب

13 - فقه خشوع القلب قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]. الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي خضعت رقاب العباد لعظمته، وخشعت الأصوات لهيبته، وذل الأقوياء لعزته، وافتقرت جميع الخلائق إليه. والخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل. ومحله القلب، وثمرته على الجوارح، فإن حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، والكمال الخارجي ثمرة الكمال الداخلي. فالخشوع معنى يلتئم من: التعظيم للرب .. والمحبة له .. والذل له .. والانكسار بين يديه. والخشوع أربعة أنواع: الأول: اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، وهو مقام الرب على عبده بالإطلاع والقدرة والربوبية، فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلما كان أشد استحضارًا لعظمة الرب وجلاله وجماله وإحسانه كان أشد خشوعًا. الثاني: التذلل للأمر، بتلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال، مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل، والإعانة عليه حال الفعل، وقبوله بعد الفعل. والاستسلام للحكم القدري، بعدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض.

الثالث: ترقب آفات النفس وآفات العمل، وذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما لك. فذلك يجعل القلب خاشعًا لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما، من الكبر والعجب والرياء، وقلة اليقين، وتشتت النية، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك. وذلك بأداء حقوق الناس، وعدم مطالبتهم بحقوق نفسك، وتعترف بفضلهم، وتنسى فضل نفسك عليهم. الرابع: ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة، وأن يخفى أحواله عن الخلق جهده، كخشوعه وذله وانكساره، لئلا يراها الناس، فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل. وأن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله، فهو المانّ به بلا سبب منك. والشهقة التي تعرض أحيانًا عند سماع القرآن أو عند ذكر الله لها أسباب منها: أن يلوح له عند سماع القرآن والذكر درجة ليست له فيرتاح لها، فيشهق، فهذه شهقة شوق. أو يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفًا، فهذه شهقة خشية. أو يلوح له نقص في العمل لا يقدر على دفعه فيحدث حزنًا، فيشهق شهقة حزن. أو يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودة، فيشهق شهقة أسف. أو يذكره ذلك بمحبوبه، ويرى الطريق إليه مفتوحًا، فيشهق شهقة فرح وسرور. أو يذكره ذلك جلال ربه وجماله، وإحسانه وإكرامه، فيرى الخلائق كلها تحت قهره، مدينين لفضله وإحسانه، فيشهق لما يرى من كمال عظمة الرب، وجميل إحسانه إلى عباده: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16].

إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله. فبعث إليها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، وأنزل عليها الآيات البينات، ليخرجها من الظلمات إلى النور. وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر. إنه عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الله من الخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال. وإلى جانب الحض والاستبطاء، تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين، حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق. وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]. إن القلب البشري سريع التقلب، كثير النسيان، وفيه نور الفطرة، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وأظلم وأعتم، فلا بدَّ من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع. ولا بدَّ من الطرق عليه حتى يشف ويرق، ولا بدَّ من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة. ولكن لا بأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله. فالله عزَّ وجلَّ يحيي الأرض بعد موتها، فتزخر بالنبات والأزهار، وتخرج الحبوب والثمار، وتصبح الأرض مخضرة بعد أن كانت مغبرة: {وَتَرَى

الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5]. وكذلك القلوب حين يشاء الله، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب بالإيمان، كما تحيا الأرض بالماء: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17]. والذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم. والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر، قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله. فمتى يجيء الوقت الذي تلين فيه القلوب، وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن؟ .. ومتى تنقاد لأوامره وزواجره؟. ومتى يخشع القلب لربه، وما أنزله من الكتاب والحكمة؟. ومتى نترقى من سمعنا وعصينا إلى سمعنا وأطعنا؟. ونقدم أوامر الرب على محبوبات النفس؟ .. ونؤثر الحياة العالية على الشهوات الفانية؟. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51] ألا ما أحوج القلوب في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة والموعظة، لئلا تحصل لها الغفلة والقسوة وجمود العين: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45].

14 - فقه حياء القلب

14 - فقه حياء القلب قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 14]. وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إلهّ إلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). الحياء: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. والحياء خلق عظيم لا يأتي إلا بخير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرف في وجهه - صلى الله عليه وسلم -. وحقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في الطاعات والمحاسن، يتولد من امتزاج التعظيم بالمودة. وعلى حسب قوة حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح. ومن استحى من الله مطيعًا، استحى الله منه وهو مذنب، لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده. والحياء خلق جميل، خص الله به الإنسان دون جميع الحيوان. وهو أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا. بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة. ولولا خلق الحياء لم يقر الضيف .. ولم يوف بالعهد .. ولم تؤد أمانة .. ولم تقضَ لأحد حاجة .. ولا ستر له عورة .. ولا آثر الجميل على القبيح من الأقوال ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (35).

والأعمال .. ولا امتنع من فاحشة. وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفروضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًا، ولم يصل له رحمًا، ولا بر له والدًا. فإن الباعث على هذه الخصال الحميدة: إما ديني: وهو رجاء عاقبتها الحميدة. وإما دنيوي علوي: وهو حياء فاعلها من الخلق. فلولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» أخرجه البخاري (¬1). فالرادع عن فعل القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يستح فإنه يصنع ما يشاء، ولكل إنسان آمران وزاجران: آمر وزاجر من جهة الحياء .. وآمر وزاجر من جهة الهوى والطبيعة. فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره، أطاع آمر الهوى والشهوة كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. وحياء البشر على عشرة أوجه: حياء جناية .. وحياء تقصير .. وحياء إجلال .. وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه .. وحياء كرم .. وحياء حشمة .. وحياء استصغار للنفس واحتقار لها .. وحياء محبة .. وهو حياء المحب من محبوبه. وحياء عبودية .. وهو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده سبحانه، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3484).

وحياء الشرف والعزة .. وهو حياء النفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان، فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة. وحياء المرء من نفسه .. وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيًا من نفسه. وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسه، فهو بأن يستحي من غيره أجدر. والحياء على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه، وذلك يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، ويحمله على استقباح الجناية، وأرفع منه درجة الاستقباح الحاصل عن المحبة، فاستقباح المحب أتم من استقباح الخائف. وهذا الحياء يكف العبد أن يشتكي لغير الله، فيكون قد شكى الله إلى خلقه. الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب من الله، فيدعوه إلى ركوب المحبة، والله قريب من أوليائه وأهل طاعته، وكلما ازداد العبد حبًا ازداد قربًا. والقرب نوعان: قربه سبحانه من داعيه بالإجابة .. وقربه من عابده بالإثابة، وهؤلاء هم أهل طاعته. فالأول: كقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. والثاني: كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم (¬1). الثالثة: حياء يتولد من انجذاب الروح والقلب من الكائنات، وعكوفه على رب ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (482).

البريات، فهو في حضرة قربه مشاهدًا لربه، وإذا وصل القلب إليه غشيته الهيبة والإجلال لمولاه. فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده، فهو سبحانه ليس له غاية ولا نهاية لا في وجوده، ولا في مزيد جوده. فهو الأول الذي ليس قبله شيء .. وهو الآخر الذي ليس بعده شيء .. ولا نهاية لحمده وعطائه .. ولا نهاية لعظمته وجلاله. وكلما ازداد العبد شكرًا زاده الله فضلاً، وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده وكرمه مثوبة. وأهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء، فإن نعيمهم متصل بمن لا نهاية لفضله ولا لعطائه، ولا لمزيده ولا لأوصافه، فتبارك الله رب العالمين، الرزاق ذو القوة المتين: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل .. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

15 - أسباب مرض القلب والبدن

15 - أسباب مرض القلب والبدن قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. مرض البدن: خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه، وحركته الطبيعية. فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في الآلات، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا، والطيب خبيثًا. وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة. فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد في الكمية .. وإما فساد في الكيفية. فالأول: إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصها. والثاني: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعي. فيداوى بمقتضى ذلك. والصحة تقوم على ثلاثة أصول: حفظ القوة .. والحمية عن المؤذي .. واستفراغ المواد الفاسدة.

ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة. وإذا عُرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته .. وهو الإيمان والطاعات. ومحتاج إلى حمية من الضار المؤذي .. وذلك باجتناب الآثام والمعاصي .. وأنواع المخالفات. ومحتاج إلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح ولزوم الاستغفار. ومرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقًا، أو يراه خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له. فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له وهو الغالب. ولما كان البدن المريض، يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، من يسير الحر والبرد والحركة، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، وحتى لا يقوى على دفعها إذا وردا عليه. والقلب الصحيح يطرقه أضعاف ذلك فيدفعه بقوته وصحته. وإذا أظلم القلب رأى المخلوق يفعل، وإذا استنار القلب بالإيمان رأى الفاعل الحقيقي هو الله وحده. وبقدر قوة اليقين على عظمة الله، تكون قوة الإيمان، ثم تكون قوة الأعمال، ثم حصول البركات. وأعظم أسباب مرض القلب هي: الغفلة عن الله .. والغفلة عن أوامر الله .. والغفلة عن اليوم الآخر. فالغفلة عن الله سببها قلة ذكره، وتعلق القلب بغيره من المحبوبات. والغفلة عن أوامر الله سببها عدم الرغبة فيها، وإيثار الشهوات عليها، وتعلق القلب بالهوى والشيطان.

والغفلة عن اليوم الآخر سببها قلة المذكر بالموت والحشر، والجنة والنار. وإذا تمت الغفلة بأركانها الثلاثة .. ثقلت على العبد الطاعات .. وشمرت النفس للمعاصي .. وآثرت الدنيا على الآخرة .. وقدمت الشهوات على أوامر الله .. وتجاوزت العدل إلى الإسراف .. وقدمت مراد النفس على مراد الرب كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. فغذاء البدن بالطيبات، وغذاء القلب بالإيمان والأعمال الصالحة. ولما كانت أعمال القلب، وأعمال البدن مستمرة، فلا بدَّ من الغذاء اليومي لهما. فالبدن يصح على أكل الطيبات .. ويعتل يأكل الخبائث. فكذلك القلب يزكو ويصح بمعرفة الطيب من القول .. وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفة جلاله وعظمته .. ومعرفة نعمه وآلائه .. ومعرفة وعده ووعيده .. ومعرفة دينه وشرعه. ويفسد القلب بالجهل بذلك، واتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والإعراض عن الله ورسوله ودينه.

16 - مفسدات القلب

16 - مفسدات القلب قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. مفسدات القلوب كثيرة ويجمعها خمسة أمور: الأول: كثرة مخالطة الناس: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، يوجب له تشتتًا وتفرقًا، وهمًا وغمًا، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عن مصالحه بهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم ومجالسهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟. وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة؟. وكل المشتركين في تحصيل غرض، يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزنًا، وانقلبت تلك المودة بغضًا، ولعنة من بعضهم لبعض إلا ما شاء الله. ومحكم القول في أمر الخلطة: أن يخالط الإنسان الخلق في الخير كالجمعة والجماعة .. والأعياد والحج .. والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. والعلم والجهاد .. والنصيحة وبذل المعروف .. ويعتزلهم في الشر .. وفضول المباحات. فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، فليحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه، والصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة. وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس إلى مجلس طاعة لله إن أمكنه، فإن عجز عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين.

وليكن فيهم حاضرًا غائبًا، قريبًا بعيدًا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، ورقى به إلى الملأ الأعلى، مع الأرواح العلوية الزكية، ولا ينال هذا إلا بتوفيق الله وعونه. المفسد الثاني: ركوبه بحر التمني. وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، والخيالات، والأماني الكاذبة، وتلك بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية. والناس متفاوتون في ذلك، وكل بحسب حاله: فمِن متمَنٍّ للقدرة والسلطان .. وللضرب في الأرض .. والتطواف في البلدان .. أو متمنٍّ للأموال والأثمان .. أو للنسوة والمردان .. أو للعب واللهو .. أو للشهوات واللذات. وصاحب الهمة العالية، أمانيه تحوم حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويكون سبباً للفوز بالجنة. فالقلوب جوالة منها ما يطوف حول العرش .. ومنها ما يطوف حول الحش. والذي يتمنى الخير، ربما جعل الله أجره كأجر فاعله، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان الذي يتقى الله في ماله، ويصل فيه رحمه. وكما تمنى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون متمتعًا وقد قرن، فأعطاه الله ثواب القران بفعله، وثواب التمتع الذي تمناه بأمنيته، فجمع له بين الأجرين، والله غني كريم. الثالث: التعلق بغير الله تبارك وتعالى. وهذا أعظم مفسدات القلب على الإطلاق .. فليس عليه أضر من ذلك .. ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه .. فليحذره العبد. فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عزَّ وجلَّ بتعلقه بغيره، والتفاته إلى ما سواه. فهو لا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل.

فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله. وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، وصاحب ذلك مذموم مخذول كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. الرابع: الطعام. والمفسد للقلب من الطعام نوعان: أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات وهي نوعان: محرم لحق الله كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرًا، وإما حيلة. الثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يشغله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤونة البطنة حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها، شغله بمزاولة تصريفها والتأذي بثقلها، وقوي عليه مواد الشهوة، ووسع عليه طرق مجاري الشيطان، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فكثرة الأكل يوسع طرق الشيطان في الإنسان، والصوم يضيق مجاريه، ويسد عليه طرقه. الخامس: كثرة النوم: فكثرة النوم تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الأوقات، وتورث كثرة الغفلة والكسل. والنوم درجات، فمنه المكروه جدًا، ومنه الضار غير النافع للبدن. وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أنفع وأحمد من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه. وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر،

والنوم أول النهار إلا لسهران. ويكره النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، ووقت نزول الأرزاق والبركات، وأول النهار ومفتاحه، ومنه ينشأ النهار. وأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات. وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه، أو نقص منه، أثر عندهم في الطبيعة. ومن النوم الذي لا ينفع، النوم أول الليل عقيب غروب الشمس، وهو مكروه شرعًا وطبعًا. وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضًا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل. وشياطين الإنس والجن يقتحمون النفس البشرية بسلاحين: أحدهما: سلاح الشهوات، لإفساد سلوكه فيغوى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. الثاني: سلاح الشبهات، لإفساد فكره فيضل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. وقد حث الله المؤمنين على مجاهدة هؤلاء الأعداء بسلاحين أمضى وأقوى: أحدهما: سلاح الصبر، وبه يجتث شجرة الشهوات والأهواء. الثاني: اليقين الذي يحطم الشبهات والأوهام كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. والذنوب والخطايا، والمعاصي والسيئات، توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.

فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها. ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، وضعف عن الطاعة. والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار. فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان. وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب ونعيمه وحياته لا يتم إلا بهذا .. وهذا كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (¬1). وهذا يدل على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما. وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه. فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، وخروجهما فيه راحة البدن والقلب. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» متفق عليه (¬2). فالماء والغسل لإزالة الأوساخ والأدران عن البدن، والتوبة والاستغفار لإزالة الآثام والذنوب التي تراكمت على القلب. فالأول به جمال الظاهر، والثاني به جمال الباطن والظاهر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (142)، ومسلم برقم (375).

17 - مداخل الشيطان إلى القلب

17 - مداخل الشيطان إلى القلب قال الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17]. وقال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 120، 121]. سبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا، والذي يتهيأ به لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانًا. والملك عبارة عن خلق خلقه الله من نور، شأنه إفاضة الخير، وإفادة العلم، وكشف الحق، والوعد بالخير، وكمال الطاعة، والأمر بالمعروف، وقد خلقه الله وسخره لذلك. والشيطان عبارة عن خلق خلقه الله من نار، وشأنه ضد عمل الملك، فعمله الوعد بالشر، والأمر بالفحشاء والمنكر، والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والأمر بالسوء، وتزيين المعاصي للعباد، وهو عدو بني آدم قاطبة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك .. ولقبول آثار الشيطان .. صلاحًا متساويًا. ويترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى، والانغماس في الشهوات، أو الإعراض عنها ومخالفتها. فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة، ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه، لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه.

وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وتشبه بأخلاق الملائكة، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم. ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى، وجد الشيطان مجالاً فوسوس. ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان، وضاق مجاله، وأقبل الملك، وألهم فعل الخير. والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين دائم، إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاسًا. ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب شيء، انعدم منه ما كان فيه من قبل. فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه، لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه. وأن يعرف سلاح عدوه، ليدفعه عن نفسه، وسلاح الشيطان الهوى والشهوات، وذلك كافٍ للعالمين. فالقلب كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يقتحم الحصن ويدخله، فيملكه ويستولي عليه. ولا يقدر الإنسان على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، ومواضع ثلمه. فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة، فالغضب غول العقل، وإذا ضعف جند العقل، هجم جند الشيطان، فأفسد القصر ومن فيه. ومهما غضب الإنسان، لعب الشيطان به، وفجر شهواته فيما يغضب الله. ومن أبوابه العظيمة: الحسد والحرص، فمهما كان الإنسان حريصًا على كل شيء، أعماه حرصه، وأصمه عن الإيمان، وأقعده عن الطاعات، وزين له الكفر والفسوق والعصيان.

ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس، وإذا غلب عليه الطمع زين له الشيطان، وحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس، حتى يصير المطموع فيه معبوده، فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ولو على حساب دينه. ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير، وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار والأشياء. فكل ما يزيد على قدر القوت والحاجة، فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب. فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق، انبعث من قلبه عشر شهوات، تحتاج كل شهوة إلى مائة دينار أخرى، فلا يكفيه ما وجد، فيزيد في الطلب، ويزيد في الإنفاق، وذلك أمر لا آخر له. ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، حتى يقع فيما لا يحمد عقباه. ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر، ليمنع به الصدقات والزكوات والإحسان إلى العباد، لتكثر الجرائم والسرقات. ومن آفات البخل: الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق مسرح الشياطين، تزين لأهلها الكذب والغش والاحتيال. ومن أبوابه العظيمة: حب التزين في الأثاث والثياب، والمراكب والمساكن. فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبًا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيينها وتوسيعها، ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب والمراكب، وتجديد الأواني والأثاث، ويستسخره فيها طول عمره، ويشغله بها عما خلق له، من طاعة الله وعبادته والدعوة إليه. ولا يزال يغريه ويزين له، حتى ينقله من صف المحسنين المتقين إلى صف المسرفين والمبذرين والمترفين.

ومن أبوابه المهلكة: التعصب للمذاهب والقبائل والأهواء والأشخاص، والحقد على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستخفاف والاحتقار. وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعًا. فالطعن في الناس، والاشتغال بذكر عيوبهم ونقصهم، وأكل لحومهم، من صفات السباع المهلكة. ومن أبوابه كذلك سوء الظن بالمسلمين، فيغريه الشيطان بغيبته فيهلك، ويقصر في القيام بحقه، أو يتوانى في إكرامه، وينظر إليه بعين الاحتقار، ويرى نفسه خيرًا منه، وكل ذلك من المهلكات. ومن أبوابه العظيمة: الإسراف في إضاعة الأموال بالشهوات، وإضاعة الأوقات بالباطل، وإضاعة العقول بالعلوم السافلة، وإضاعة الحسنات بجمع الحطام الفاني. والملائكة والشياطين تتوارد على القلوب، وتحوم حول أبوابها، فإن أصابه هذا من جانب، أصابه الآخر من جانب آخر. فإذا نزل به الشيطان، فدعاه إلى الهوى، نزل به الملك فصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر، جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير، جذبه ملك آخر إلى خير غيره. فتارة يكون القلب متنازعًا بين ملكين .. وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان. والقلوب في التقلب والثبات على الخير والشر ثلاثة: أحدها: قلب عُمر بالتقوى، وطهر عن خبائث الأخلاق، تنقدح فيه خواطر الخير، المفتوحة فيه أبواب الملائكة، المسدودة عنه أبواب الشياطين، يرى الحق ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سوى ذلك. الثاني: قلب مخذول مشحون بالهوى، مدنس بالأخلاق المذمومة، والقبائح والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة.

ومبدأ الشر فيه، أن ينقدح فيه خاطر الهوى فيأنس به ويستجيب له، فيرى الباطل ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سواه. الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان والهدى، فيدعوه إلى الخير والهدى. فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة، وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير، فيدفع عن وجهه الشهوة، ويقبحها ويقبح فعلها، وينسبها إلى الجهل، ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر، وقلة اكتراثها بالعواقب. فتميل النفس إلى نصح العقل، فيحمل الشيطان حملة على العقل، فيقوي داعي الهوى، ثم يحمل الملك على الشيطان، فعند ذلك تستجيب النفس إلى قول الملك. ولا تزال الأحزاب والجنود متوالية عليه، حتى يظفر به أقواهما وأصبرهما. وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم، ويتجول على سائر أعضائه وجوارحه. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ». قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلا أنَّ اللهَ أعَانَنِي عَلَيْهِ فَأسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ» أخرجه مسلم (¬1). وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الشيطان بأعظم صفاته، وأشدها خطرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية فيوسوس إليه الشيطان، ويخطر الذنب بباله، ويشهيه له، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خيال ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2814).

تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، وينسيه علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا صورة المعصية فقط، وينسيه ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا. فإن فتروا حركهم، وإن سكنوا أزعجهم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. فأصل كل معصية الوسوسة، ولهذا وصفه الله بها، وحذرنا: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 4 - 6]. فالذي يوسوس في صدور الناس نوعان: إنس .. وجن. فالجني يوسوس في صدور الناس .. والإنسي أيضًا يوسوس إلى الإنسي. والوسوسة: الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون كذلك في الوسوسة، ويشتركون كذلك في الفساد والإفساد. وكما أن الملائكة ليس لهم عمل إلا عبادة الله وطاعته، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. فكذلك الشيطان وذريته ليس لهم هم ولا عمل إلا إضلال بني آدم، وإغوائهم ابتلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يطيع عدوه. وحيل الشيطان، ومكره، وكيده، وخطواته في تحقيق ما يريد، من أعجب العجب. فإذا أقبل على الإنسان بجنوده وعساكره .. فوجد القلب في حصنه جالسًا على

كرسي مملكته .. أمره نافذ، وجنده قد أحاطوا به .. يحرسونه ويدافعون عنه. فلا يتمكن الشيطان وجنوده من الهجوم عليه إلا بمخارة بعض أمرائه، وأخص جنده وهي النفس، فزينوا لها الشهوات والمحبوبات، حتى استولت على القلب، ومكنت للشياطين من الاستيلاء على ثغور المملكة: العين .. والأذن .. واللسان .. والفم .. واليد .. والرجل. وأمر الشيطان جنوده بالمرابطة على هذه الثغور. وقال: ادخلوا منها إلى القلب لتقتلوه أو تثخنوه، ولا تمكنوا أحداً يدخل منها إلى القلب، فيخرجكم منه، ويفسده عليكم. وامنعوا ثغر العين أن يكون نظرها اعتبارًا، بل اجعلوه تفرجًا وتلهيًا، وبالعين تنالون بغيتكم من بني آدم. فابذروا في القلوب بذور الشهوة، ثم اسقوه بماء الأمنية، ثم عِدوه ومنّوه حتى تقوى عزيمته، فيقع في المعصية فيهلك. ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم أمركم. واجتهدوا ألا يدخل منه إلا الباطل واللهو، فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستملحه وتطرب له. وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله ورسوله، لئلا يفسد عليكم أمركم، ويحرق سلعتكم. فإن دخل شيء فأفسدوه عليه بإدخال ضده عليه أو تهويله. ثم امنعوا ثغر اللسان أن يدخل منه ما ينفع القلب، من ذكر الله واستغفاره وتلاوة كتابه، ونصح عباده، والدعوة إليه. وزينوا له الكلام بما يضره ولا ينفعه، إما بالتكلم بالباطل، وإما بالسكوت عن الحق. فالرباط .. الرباط .. الرباط .. على هذا الثغر أن يتكلم بحق، أو يمسك عن باطل. وهذا الثغر هو الثغر الأعظم، الذي أهلك منه الشيطان بني آدم، وأكبهم على

مناخرهم في النار. واقعدوا لبني آدم بكل رصد .. وبكل طريق .. وبكل مناسبة: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ أتُهَاجِرُ وتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّة» أخرجه أحمد والنسائي (¬1). والسبل التي يسلكها الإنسان أربعة: اليمين .. والشمال .. والأمام .. والخلف. وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصدًا له. فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها، ويبطئه ويعوقه. وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له وخادمًا، ومعينًا ومزينًا. ثم الزموا ثغر الأيدي والأرجل، فامنعوها أن تبطش بما يضركم أو تمشي فيه، وقيدوها عن الأعمال الصالحة، وحركوها لتمشي في كل شر وفساد، وتبطش بكل صالح تقي. واعلموا أن أكبر أعوانكم النفس الأمارة، فاستعينوا بها على حرب النفس المطمئنة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16054)، انظر السلسلة الصحيحه رقم (2937). وأخرجه النسائي برقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2973).

فإذا قويت النفس الأمارة، فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه. واستعينوا على بني آدم بجنديين عظيمين: أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله، وعن أوامر الله، وعن الدار الآخرة، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه. والثاني: جند الشهوة، فزينوا الشهوات في قلوب بني آدم، وحسنوها في أعينهم، فإن رأيتم جماعة اجتمعوا على ذكر الله، ولم تقدروا على تفريقهم، فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين. وانتهزوا فرصة الشهوة والغضب، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الوطنين، فإني أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. فالمداخل التي يأتي الشيطان من قبلها إلى الإنسان ثلاثة: الشهوة .. والغضب .. والهوى. فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالمًا لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل. والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وبالغضب يصير الإنسان ظالمًا لنفسه ولغيره، ومن نتائجه العجب والكبر. والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الغضب، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى خالقه بالشرك والكفر، ومن نتائجه الكفر والبدعة والمعصية. وأكثر ذنوب الخلق بهيمية، لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام.

18 - علامات مرض القلب وصحته

18 - علامات مرض القلب وصحته قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: 124، 125]. وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61]. خلق الله تبارك وتعالى كل عضو من أعضاء البدن لفعل خاص به، وجعل كماله في حصول ذلك الفعل منه. ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب والنقص. فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن تتعذر عليه حركته الطبيعية، أو يضعف عنها. ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على جميع شهواته. فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا. ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين. بل إذا كان قلب العبد خاليًا عن ذلك، عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير معذبًا بنفس ما كان منعمًا به من جهتين: من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به. ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له. وكل من عرف الله عزَّ وجلَّ أحبه، وأخلص له العبادة، ولم يؤثر عليه شيئًا من

المحبوبات. فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض ولا بدَّ، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب، سقطت عنها شهوة الطيب. وقد يمرض قلب الإنسان ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لانشغاله عنه، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته. وعلامة ذلك: أن لا تؤلمه جراحات القبائح .. ولا يوجعه جهله بالحق. فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته. وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه. وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، لضعف علمه وبصيرته وصبره. والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، والحق إذا لاح وتبين، لم يحتج إلى شاهد يشهد به، كما أن الأجسام إذا تجلت أمام العين لم تحتج إلى شاهد. والحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ فالزم الحق. فالعصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السّواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].

ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة .. وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار. والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، يؤثر الضار المهلك على النافع الشافي. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان .. وأنفع الأدوية دواء القرآن .. وكل منهما فيه الغذاء والدواء، والشفاء والرحمة. ومن علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ حاجته ويعود إلى وطنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أخرجه البخاري (¬1). وكلما صح القلب من مرضه، ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، يعمل بأعمالها، ويجني من ثمارها. وكلما مرض القلب واعتل، آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها. ومن علامات صحة القلب، أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به. ومن علامات صحته كذلك أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به. ومن علامات صحته أنه إذا فاته فرض من فرائض الله، أو فاته ورده، وجد لفواته ألمًا عظيمًا، أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6416).

ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة والعبادة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام أو الشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه. ومن علامات صحته أن يكون همه واحدًا، وأن يكون في الله، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شحًا بماله. وأن يكون اهتمام العبد بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل. فيحرص فيه على الإخلاص والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله جل جلاله. فالقلب السليم الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه له، والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم حول مراضيه، ومحابه سبحانه. وكلما وجد من نفسه تقاعسًا أو التفاتًا إلى غيره تلا عليها: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. فإذا انصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، صارت العبودية صفة له، وأتى بها توددًا وتحببًا وتقربًا. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي قال: لبيك وسعديك، والمنّة لك، والحمد فيه عائد إليك: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]. وإن أصابه قدر قال: أنت ربي العزيز الرحيم، وأنا الفقير العاجز الضعيف، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا ملجأ لي منك إلا إليك. وإن أصابه ما يكره قال رحمة أهديت إلي، وإن صرف عنه ما يحب قال شرًا صرف عني. فكل ما مسه به من السراء والضراء، اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه.

والقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه. فاللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه. ومرض القلوب نوعان: مرض شبهات وشكوك .. ومرض شهوات وفسوق. وصحة القلب الكاملة تتم بشيئين: كمال معرفته بالله وعلمه ويقينه .. وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه. فإن كان عند الإنسان شبهات تعارض ما أخبر الله به، في أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفًا .. وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافًا في إرادته، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. فلا تغلب على العبد الشبهات إلا بفساد علمه بالله، وجهله بعدله وقضائه، وحكمته وشرعه وجزائه. ولا تغلب عليه الشهوات إلا بفساد نفسه، وغلبة شهوات الدنيا عليه، وغلبة رياساتها وحظوظها على ما عند الله والدار الآخرة. وإنما يكون فقط أحدهما أبرز من الآخر. فمن الأول قوله سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 10]. ومن الثاني قوله سبحانه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب: 32]. والقلب مكان الإيمان والتقوى، كما أن المعدة مكان الطعام والشراب، والإيمان في القلب يحرك البدن لطاعة الله، كما أن الطعام في المعدة يمد البدن بالغذاء الذي به تتم صحته وتكمل حركته. فالقلب يحتاج إلى غذاء الإيمان، والبدن يحتاج إلى أكل الطيبات، وكلاهما لازم للإنسان، وكماله باجتماعهما، وهلاكه بفقدهما. ولهذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بهذا وهذا فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا

مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، والصفات الرديئة فيه مثل الغضب والشهوة المحرمة، والحقد والحسد، والكبر والعجب، وأخواتها كلها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب؟. وحرام على قلب أن يدخله النور، وهو مظلم فيه شيء مما يكره الله عزَّ وجلَّ. وعلل القلب كثيرة مؤلمة أشد من ألم البدن. وعلاجها: أن ينظر إلى العلة أولاً .. فإن كان المرض داء البخل .. فعلاجه بذل المال .. ولكن لا يسرف، أو يبذر، ولا يقتر. ومعرفة الوسط تكون بأن تنظر إلى نفسك. فإن كان إمساك المال وجمعه، ألذ عندك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك البخل، فعالج نفسك بالبذل. وإن كان البذل ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك، فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك. ولا تزال تراقب نفسك، حتى تنقطع علاقة قلبك بالمال، فلا تبالي من قلته أو كثرته، ولا تميل إلى بذله ولا إمساكه. فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليمًا. وإذا أراد الله بعبد خيرًا بصره بعيوب نفسه .. وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج .. وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء .. علمه من علمه وجهله من جهله. وعلاج أدواء القلوب معلوم موجود، وهو أن تعرف فاطرها ومعبودها وتطيع أمره .. وتحب ما يحب .. وتحذر مما يكره .. وذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44].

19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 10]. وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. مرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، ويفسد به تصوره وإرادته. ففساد تصوره يكون بالشبهات التي تعرض له، حتى لا يرى الحق، أو يراه خلاف ما هو عليه. وفساد إرادته يكون ببغض الحق النافع، وحب الباطل الضار. فلهذا يفسر المرض تارة بالشك كما قال سبحانه عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]. وتارة يفسر بالشهوة كما قال سبحانه: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، والمرض في الجملة يضعف الإنسان، ويجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي. والمرض يقوى بمثل سببه ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما هلك. ومرض القلب: ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب. وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، وشفاء العي السؤال. والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فللقلب موت ومرض، وحياة وشفاء .. كالبدن تماماً.

وحياة القلب وموته، ومرضه وشفاؤه، أعظم من حياة البدن وموته، ومرضه وشفائه. فلهذا مريض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه. والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يزيل الحق من الباطل. فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه. وفيه من الحكمة، والموعظة الحسنة، والقصص التي فيها عبرة، ما يوجب صلاح القلب، فيرغب فيما ينفعه، ويحذر ما يضره. فالقلب يتغذى من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويشفيه، كما يتغذى البدن من الطعام والشراب بما ينميه ويقومه، فزكاة القلب مثل نماء البدن. والقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد، حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولا بدَّ مع ذلك من منع ما يضره. فالصدقة مثلاً تزكي القلب، وكذلك ترك الفواحش والمعاصي يزكو بها القلب، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن. فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة، استراح البدن ونما، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب، كان استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا. فإذا تاب العبد من الذنوب والمعاصي، تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك المواد الفاسدة التي كانت فيه. فصلاح القلب في العدل وهو التوحيد والإيمان، وفساده في الظلم وهو الشرك والكفر.

ولهذا جميع الذنوب يكون العبد فيها ظالمًا لنفسه، وظالماً لغيره. والعمل له أثر في القلب، من نفع وضر، وصلاح وفساد، قبل أثره في الخارج. وصحة القلب وصلاحه في العدل، ومرضه من الزيغ والانحراف والظلم. والظلم كله من أمراض القلوب بأنواعه الثلاثة: الظلم في حق الرب .. والظلم في حق النفس .. والظلم في حق الخلق. وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. ومن أمراض القلوب الحسد: وهو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود. والحسد نوعان: أحدهما: كراهة الإنسان للنعمة على غيره مطلقًا، وهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه. الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله، أو أفضل منه، فهذا حسد، وهو الذي يسمى الغبطة والمنافسة. وهذا وإن كان مباحاً، إلا أن السالم من هذه الأمور أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة. ويعرض لكل قلب مرضان عظيمان وهما: مرض الرياء .. ومرض الكبر. فدواء مرض الرياء بـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]. ودواء مرض الكبر بـ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فإذا عوفي المسلم من مرض الرياء بإياك نعبد .. ومن مرض الكبر بإياك نستعين .. ومن مرض الجهل والضلال باهدنا الصراط المستقيم .. فقد عوفي من أمراضه وأسقامه .. وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم .. وهم الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه .. ولا الضالين .. وهم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه. وزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14، 15]. فأصل ما تزكو به الأرواح والقلوب هو التوحيد والإيمان، الذي بهما يزكو القلب، وينشرح الصدر. فإن ذلك يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء. فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنه كذلك يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا. فمن غض بصره عما حرم الله عزَّ وجلَّ، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فمن أمسك نور بصره عن المحرمات، أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. والقلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وتعتريها الآفات كما تعتري الأعضاء والجوارح. وكما أن للأبدان غذاءً ودواءً، فكذلك للقلوب غذاء ودواء. وعلامة صحة القلب قبوله ما ينفعه ويغذيه من الإيمان، ومعرفة ربه، ومعرفة

أسمائه وصفاته وأفعاله، وحب الطاعات والأعمال الصالحة، والإعراض والنفرة عما سوى ذلك. وعلامة فساد القلب، عدوله عن الأغذية النافعة إلى الأغذية الضارة، من الكذب والنفاق والرياء، والحقد والحسد، والعجب والكبر، والجهل والظلم، ونحو ذلك من حب المعاصي والفواحش والمنكرات. وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بصّره بعيوب نفسه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، بسبب موت قلوبهم أو مرضها أو نقص إدراكها، بحيث لا تميز بين القبيح والمليح وما يزينها وما يشينها، وما ينفعها وما يضرها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. والله عزَّ وجلَّ خلق طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فإذا صدَّ الإنسان عن غرض من أغراضه، اشتعلت نار الغضب، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب، وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار. وقوة الغضب محلها القلب، ومعناها: غليان دم القلب بطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ولا تسكن إلا به. والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهو .. والعجب .. والمزاح .. والهزل .. والهزء .. والتعيير .. والغدر .. وشدة الحرص على فضول المال والجاه .. ونحوها من الأخلاق الرديئة .. ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب. فلا بدَّ من إزالة هذه الأسباب المهلكة بأضدادها المنجية: فتميت الزهو بالتواضع .. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك .. وتزيل الفخر بأنك

من جنس عبدك .. وإنما الفخر بالفضائل. والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل، وأشدها هلاكاً للعبد. وأما المزاح فتزيله بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر، من الذكر والعبادة، والعلم والدعوة. وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل، والأخلاق الحسنة، والعلوم الشرعية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بها. وأما التعيير فتزيله بالحذر عن القول القبيح، وصيانة النفس عن مُرّ الجواب. وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة، طلبًا لعز الاستغناء، وترفعًا عن ذل الحاجة. فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع لأسبابه، حتى لا يهيج، فيهلك صاحبه: فإذا جرى سبب هيجانه، فعند ذلك يجب الصبر والتثبت، حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه. وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم .. والعمل .. والصبر. أما العلم فيعلم العبد فضل كظم الغيظ، والعفو والحلم، وما في ذلك من الثواب، فتمنعه شدة الحرص على الثواب من التشفي والانتقام، فيسكن غضبه، ويخوف نفسه بعقاب الله، ويقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان. ويحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه، ويفكر بقبح صورته عند الغضب، وأنه كالكلب الضاري، والسبع العادي. أما الحليم الهادي فهو كالأنبياء والأولياء في علمه وحلمه، وكالقمر في نوره. ويقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة،

وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة، وأنه يوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه. وأما العمل، فإنه يقول من أصابه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن لم يزُلْ بذلك فاجلس إن كنت قائمًا، واضطجع إن كنت جالسًا، فإن لم يزل بذلك فليتوضأ بالماء البارد وليصلّ. وأما الصبر فيتذكر عاقبته، وثوابه الجزيل في الدنيا والآخرة. وأما الحقد، فإن الغضب إذا لزم كظمه، لعجز عن التشفي في الحال، رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقدًا ينشأ عنه الحسد للإنسان، وهجره، والاستصغار له، وذمه، والاستهزاء به، وإيذاؤه، ومنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام. والحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ولا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان: الأولى: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها. والثانية: أن لا تحب زوالها عنه، ولا تكره وجودها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها، فالأولى حرام، والثانية جائزة. وأشد أسباب الحسد العداوة والبغضاء، فمن آذاه شخص وخالفه أبغضه قلبه، وغضب عليه وحقد عليه، وانتقم منه إن قدر. ومنها التعزز، فإن أصاب أحد أقرانه ولاية أو مالاً أو علمًا ثقل عليه، وخاف أن يتكبر عليه، ولا يطيق تكبره فيحسده. ومن أسباب الحسد الكبر، وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه، ويستصغره ويستخدمه، فإذا نال نعمة خاف ألا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته. ومنها العجب، فيتعجب أن يفوز برتبة عالية من دونه، وهو أقل منه فيما يرى

فيحسده. ومنها الخوف من فوت المقاصد، ومنه تزاحم الضرات على مقاصد الزوجية، وتزاحم الأخوة على نيل المنزلة في قلب الأبوين. ومنها حب الانفراد بالرياسة، وطلب الجاه لنفسه، كمن يحب أن يكون عديم النظير، ليس مثله أحد، ليقال أنه فريد عصره. ومنها خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله، فيضيق ذرعًا إذا سمع بأحد نال نعمة، ويفرح بإدبار أحوال الناس، نعوذ بالله من ذلك الخلق الشيطاني. ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، ومجال المسارعة والمسابقة إلى الخيرات مفتوح لجميع العباد. والله عزَّ وجلَّ يحدث في قلب من يشاء من عباده ما شاء، ويطلعه على أمور تخفى على غيره، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها، ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه، وهو أرق الحجب .. أو بالغيم، وهو أغلظ منه .. أو بالران، وهو أشدها. فالأول: وهو الغين يقع للأنبياء والرسل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬1). والثاني: وهو الغيم، يكون للمؤمنين. والثالث: وهو الران، يكون لمن غلبت عليه الشقوة، كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. والحجب التي تحول بين القلب وبين الله عشرة: الأول: حجاب التعطيل والكفر، وهو أغلظها، فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله، ولا يصل إ ليه البتة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2702).

الثاني: حجاب الشرك، وهو أن يعبد مع الله غيره. الثالث: حجاب البدعة القولية، كحجاب أهل الأهواء. الرابع: حجاب البدعة العملية، كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طرقهم. الخامس: حجاب أهل الكبائر الباطنة، كحجاب أهل الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، ونحوها. السادس: حجاب أهل الكبائر الظاهرة، وهؤلاء حجابهم أرق وأخف من حجاب أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عبادتهم وزهدهم كالخوارج، وكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أهل الكبائر الباطنة. السابع: حجاب أهل الصغائر. الثامن: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات. التاسع: حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له، وما أريد منهم، وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته. العاشر: حجاب المجتهدين السالكين المستمرين في السير عن المقصود. فهذه عشرة حجب تحول بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى. وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر: عنصر النفس .. وعنصر الشيطان .. وعنصر الهوى .. وعنصر الدنيا. فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة. وهذه الأربعة تفسد القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب، وما وصل إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الرب. فإن حاربها العبد، وخلص العمل إلى قلبه دار فيه، وطلب النفوذ من هناك إلى الله، فإنه لا يستقر دون الوصول إليه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} [النجم: 42]. فإذا وصل إلى الله عزَّ وجلَّ أثابه عليه مزيدًا من الإيمان واليقين، وجمل به ظاهره وباطنه، فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرف عنه به سيئ

الأخلاق والأعمال. وأقام الله سبحانه من ذلك العمل جندًا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه. فيحارب الدنيا بالزهد فيها، وإخراجها من قلبه. ويحارب الشيطان بترك الاستجابة لداعي الهوى، فإن الشيطان مع الهدى لا يفارقه. ويحارب الهوى بتحكيم الأمر الشرعي المطلق، والوقوف مع الهدى. ويحارب النفس بقوة الإخلاص، وتقديم مراد الله على مرادها. وإن دار العمل في القلب، ولم يجد منفذًا إلى الله، وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندًا لها، فصالت به وعلت وطغت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53].

20 - أدوية أمراض القلوب

20 - أدوية أمراض القلوب قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. تنقسم أدوية أمراض القلوب إلى قسمين: أدوية طبيعية .. وأدوية شرعية. ومرض القلب نوعان: الأول: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشهوات والشكوك، وهذا النوع هو أشد النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكر الجهل والهوى يحول بينه وبين إدراك الألم، وهو متوارٍ عنه لاشتغاله بضده. وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، ولا شفاء منه إلا باتباع ما جاءوا به من الهدى. والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم، والحزن والغيظ ونحوها، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها. فقلب الإنسان يتألم بما يتألم به بدنه، ويشقى بما يشقى به البدن، وأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت. وأما أمراض القلب التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بالأدوية المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء.

فالغيظ مثلاً مؤلم للقلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاد مرضه، واستحق العقوبة عليه، كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق. وكذلك الهم والغم والحزن من أمراض القلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور والأنس. فإن كان بحق شفي القلب، وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، وأعقب أمراضًا أصعب وأخطر. وكذلك الجهل مرض مؤلم للقلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، بل تزيده مرضًا إلى مرضه، وإنما شفاؤه وصحته بالعلوم الإيمانية النافعة. وكذلك الشاك المرتاب في الشيء، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين به، ولما كان ذلك يوجب له حرارة، قيل لمن حصل له اليقين ثلج صدره، وحصل له برد اليقين. فمن أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية. والقلب له حياة وموت .. ومرض وشفاء .. وذلك أعظم مما للبدن. وجماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، وجميع الأسقام: ففيه من الآيات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل .. فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك .. بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه. وفيه إثبات التوحيد .. وإثبات الصفات .. وإثبات المعاد .. وإثبات النبوات .. وفي ذلك كله شفاء من الجهل. وهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه، كما يرى الليل

والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس بين علوم لا ثقة بها، وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئًا، وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها. وأما شفاؤه لمرض الشهوات .. فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة .. بالترغيب والترهيب .. والتزهيد في الدنيا .. والترغيب في الآخرة .. والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار. فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي، ويعود للفطرة التي فطره الله عليها، كما يعود البدن المريض إلى صحته. ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه. وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح. فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن. ونجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة. فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة، تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن. فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الرديئة فزكا القلب ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فصلحت المملكة. فزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من

أخلاطه الرديئة الفاسدة كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9، 10]. والإنسان إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله، أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه. فهذا وإخوانه من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله ورسوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]. أما القلب الطاهر، فلكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته. وأما القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح. وطهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يصلح له منها وما لا يصلح، ومن لم يطهر الله قلبه فلا بدّ أن يناله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة القلب وخبثه. فالجنة دار الطيبين لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث، فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير معوق؛ لأنه جاء ربه بقلب سليم، وعمل سليم. ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها إلى الجنة بعد طهارته.

وكذلك المؤمنون إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة. والله جل جلاله بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا كل طيب طاهر. والذنوب والخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسةً وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه. فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها. ولذلك كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه. والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار. فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، وإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا والذنوب. فالقلب والبدن بأشد الحاجة إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (¬1). وقلوب البشر لها آفات وعلل، وأمرض وأسقام. والحسد من الأمراض العظيمة التي تصيب القلوب، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. فالعلم النافع لمرض الحسد، هو أن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر عليه في الدنيا والدين. أما في الدين فهو أنك سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بحكمته، فاستنكرت وكرهت واستبشعت ما ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، واللفظ له، ومسلم برقم (598).

قضاه الله وقدّره واختاره لعبده. وهذه جناية كبرى على التوحيد والإيمان والدين. وأما كونه ضررًا عليك في الدنيا، فهو أنك تتألم في الدنيا، أو تتعذب به، فالذين تحسدهم لا يخليهم الله من نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتألم بكل نعمة تراها، وتتعذب بكل بلية تصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا، قد نزل بك ما تشتهيه لأعدائك. فهذه هي الأدوية العلمية، فإذا فكر الإنسان فيها بذهن صافٍ، انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك لنفسه، ومفرح عدوه، ومسخط ربه، ومنغص عيشه. وأما العمل النافع فيه، فهو أن يحكم الحسد، ويكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده، كلف لسانه المدح له، والثناء عليه. وإن حمله الحسد على التكبر عليه، ألزم نفسه التواضع له، والاعتذار إليه. وإن بعثه على كف الإنعام عليه، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فإذا عرف المحسود ذلك طلب قلبه وأحبه، وجاءت الموافقة التي تقطع مادة الحسد. فهذه أهم أدوية الحسد، وهي نافعة جدًا، إلا أنها مرة على القلوب جدًا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء، لم ينل حلاوة الشفاء. ومن أمراض القلوب حب الدنيا فكرًا .. وطلبًا .. وتمتعًا، والإعراض عن الآخرة، ومن اتخذ الدنيا ربًا اتخذته عبدًا، والعاقل من يرضى منها بالقليل مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بقليل الدين مع سلامة الدنيا. ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبقدر ما يحزن الإنسان للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبه. وبقدر ما يحزن العبد للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبه. فالدنيا والآخرة ضُرَّتان .. فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر ما تعمر إحداهما تهدم الأخرى .. وبقدر ما تقدم إحداهما تؤخر الأخرى.

وطالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، حتى يقتله الشرب. والدنيا سريعة الفناء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، وهي كالظل فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر. والدنيا كالأرض إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها على رأسك قتلتك. وهي دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين .. ودار عارية لا دار ملك .. ودار فناء لا دار بقاء .. ودار زوال والآخرة هي دار القرار. والعاقل من صرف همه عنها حتى لا يتألم عند فراقها، ويأخذ منها بقدر الحاجة ما يستعين به على عبادة ربه. وأما الشهوات فيقمع منها ما خرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، وخير الأمور أوسطها. ولا يترك كل شيء في الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويأخذ منه قدر حاجته. فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة .. ويأخذ من المسكن ما يكن من الحر والبرد .. ويحفظ الأهل والمال من اللصوص .. ويستقل من المركب ما يحمله لحاجاته من غير إسراف ولا مخيلة .. ويلبس من الكسوة ما يستر عورته .. ويتجمل به في صلاته، ويتزين به في العيد ولقاء الضيوف. حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكليته، واشتغل بالذكر والفكر والطاعات في جل وقته، وكل ميسر لما خلق له، والله شكور حليم. ومن أمراض القلب: الحرص والطمع. فالمال وسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يكون آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، فهو بحسب استخدامه يكون محمودًا أو مذمومًا. ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة عن سبيل الله، وكان المال

مسهلاً وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية من المال. فعلى العبد القناعة، فإن تشوف إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة، وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص. وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق، وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، والوقوف بأبواب اللئام. وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ودواء الحرص والطمع: الاقتصاد في المعيشة .. والرفق في الإنفاق .. والرضا بما قسم الله له. فإذا تيسر للعبد في الحال ما يكفيه، فلا يضطرب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن الرزق الذي قدر له لا بدَّ أن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، وأن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الحرص والطمع من الذل. وبذلك تنبعث رغبته في القناعة، لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل، وكلاهما مذموم. وينظر في أحواله المتنعمين من اليهود والنصارى وأراذل الناس. ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء، ويخير نفسه بين أن يكون مشابهًا لأراذل الناس، أو مقتديًا بأعز الخلق عند الله، ويفهم ما في جمع المال من الخطر، وما فيه من خوف السرقة والنهب، والضياع والفساد، وما في خلو اليد من الراحة والأمن والفراغ. وبهذه الأمور يقدر على التخلص من الحرص والطمع، وعلى اكتساب خلق القناعة. والمال إن كان مفقودًا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجودًا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء، واصطناع المعروف، والتباعد عن الشح والبخل، فإن الجود والسخاء من أخلاق الأنبياء والفضلاء.

ومن أمراض القلب: البخل والشح. وسببهما حب المال، ولحب المال سببان: أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل ولكن له أولاد، أقام الولد مقام طول الأمل. الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من يملك ما يكفيه بقية عمره وهو شيخ بلا ولد، ومعه أموال كثيرة، ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، ولا بمداواة نفسه منها عند المرض، بل صار محبًا لها، عاشقًا لها، يلتذ بوجودها في يده، ويكنزها تحت الأرض أو في مكان أمين، وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها غيره. ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق أو يعالج نفسه منها. وهذا مرض للقلب عظيم .. عسير العلاج .. لا سيما في كبر السن. فعلاج كل علة في القلب بمضادة سببها .. فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر .. ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت .. ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه. ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع عنهم، واستقباحه لهم، والتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق؟. وما هو ثواب إنفاقه في سبيل الله ومرضاته؟. فإذا عرف الإنسان هذا، وعرف أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة، هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً. فإن هاجت شهوة الإمساك، قمعها برؤية ثمرة الإنفاق وثوابه، وحسن عاقبته. ومن أمراض القلب: الرياء والسمعة. والرياء: مشتق من الرؤية، والسمعة: مشتقة من السماع. والرياء: أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، والمراءى به كثير، وهو كل ما يتزين به العبد للناس.

والرياء يحصل بستة أشياء هي: البدن .. واللباس .. والقول .. والعمل .. والأتباع .. والأشياء. وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب. فالرياء في الدين بالبدن يكون بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين. والرياء بالهيئة والزي بشعث الرأس، وإطراق الرأس في المشي، ولبس غليظ الثياب، وترك تنظيف الثياب، وترك الثوب مخرقًا، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة. وأما الرياء بالقول فيكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار لأجل البروز في المحاورة، وإظهارًا لغريزة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، ونحو ذلك. وأما المراءاة بالعمل فكمراءاة المصلي من حوله بطول القيام والركوع والسجود، وإطراق الرأس، وكذلك بالصوم والصدقة، وإطعام الطعام ونحو ذلك. وأما المراءاة بالأصحاب والزوار كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا من العلماء ليقال إن العالم فلانًا قد زار فلانًا، أو عابدًا من العباد، ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته، ونحو ذلك. فالرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، وهو من كبائر الذنوب والمهلكات. وما هذا وصفه فجدير بالعاقل التشمير عن ساق الجد في إزالته، وذلك بقلع عروقه واستئصال أصوله. وأصله: حب المنزلة والجاه عند الناس، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس. فيعلم أن طلب المنزلة والجاه عند الله بالطاعة، أعظم وأولى من طلبها عند

الناس بالرياء والنفاق. ويعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إليه سبحانه، فلا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخلُ عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله لذلك. وأما ذمهم فلم يحذر منه؟ .. ولا يزيده ذمهم شيئًا ما لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة. وما يعرض من الرياء أثناء العبادة لا بدَّ أنه يشمر لدفعه وقهره، بذكر ومراعاة باطن العبادة وظاهرها. ففي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء. وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء. والسر أحرز العملين، ولكن في الإظهار فائدة الاقتداء، وفي كل خير، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأعمال والأشخاص: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. وقال الله سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} [البقرة: 271]. ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب. والكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن. فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق. وعلامة المتكبر: إن حاج أحدًا أنف أن يرد عليه .. وإن وعظه أحدٌ استنكف من القبول .. وإن

وعظ عنّف في النصح .. وإن رُد عليه شيء من قوله غضب .. وإن علم لم يرفق بالمتعلمين .. واستذلهم وامتنّ عليهم .. وإن رأى لمن دونه تكريماً حقد عليه. ويحب قيام الناس له أو بين يديه .. ولا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه .. ويحب أن يثنى عليه في المجالس .. وأن يصدر في المجالس. فهذا داء الكبر، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه الزهاد والعبّاد والعلماء والولاة فضلاً عن عوام الخلق. ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال. وجماع ذلك يرجع إلى أمرين: كمال ديني .. وكمال دنيوي. فالديني هو العلم والعمل .. والدنيوي هو النسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار ونحو ذلك. فالكبر استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير، وهذا الشعور الباطن له موجب واحد، وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه أو بعلمه أو بعمله، أو بشيء من أسبابه، استعظم نفسه وتكبر. فالعجب يورث كبر الباطن، وكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). ولما كان الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته ¬

(¬1) حسن، أخرجه أحمد برقم (6677). وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2025).

واجبة، وهو لا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة، واستعمال الأدوية القامعة له، وذلك يتم بأمرين: أحدهما: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب، وذلك بأن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر. فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة. وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله وحده لا شريك له. ثم يتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين. وأما علاج التكبر بالأسباب المذكورة السابقة: فيعلم نسبه الحقيقي، ويذكر أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده البعيد تراب ذليل. ومن تكبر بجماله فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر في باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال. فالأقذار في جميع أجزائه: البول في مثانته .. والرجيع في أمعائه .. والمخاط في أنفه .. والبزاق في فيه .. والدم في عروقه .. والصديد تحت بشرته .. والصنان تحت إبطه .. والوسخ في أذنيه .. ورائحة العرق تنبعث من جلده. فهل لأحد أن يتكبر بعد هذا؟. وأما التكبر بالقوة والأيدي، فيمنعه منه علمه بما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو اعتل عرق واحد من بدنه، لصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل. ثم إنه لا يطيق شوكة، ولا يقاوم بقة، ولا يدفع عن نفسه ذبابة، فلا ينبغي أن يفتخر بقوته وهذه حاله. ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو جمل.

وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم؟ .. ويأكل بها القوي الضعيف؟. أما الغنى وكثرة المال، وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار، فكل ذلك تكبر خارج عن ذات الإنسان. وهذا أقبح أنواع الكبر. فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره، ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً. والمتكبر بمعرفة السلطان وتمكينه له على وجل، فلو تغير عليه كان أذل الخلق. أما الكبر بالعلم، فهو أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وللعلم طغيان في النفوس كطغيان المال. ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، إذ من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وذنبه أعظم من الجاهل. وأن يعرف كذلك أن الكبر لا يليق إلا بالله الملك العزيز الجبار المتكبر وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله، لأن اللائق بالمخلوق الضعيف العاجز التذلل والخضوع لا الكبر. وأما التكبر بالورع والعبادة فذلك فتنة عظيمة على العباد، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر الخلق، ويعلم أن من تقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان، لما عرفه من فضيلة العلم. والعجب من أمراض القلوب، وهو يدعو إلى الكبر، ويدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه فلا يتداركه، بل يظن أنه يغفر له. وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويستعلي بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن

آفاتها، والأعمال ما لم تكن خالصة لله، نقية من الشوائب، قلما تنفع. والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منّة وحقًا بأعماله التي هي نعمة من نعمه. ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أعجب بعلمه ورأيه وعقله منعه ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه، ويستجهل غيره، ويصر على خطئه. فإن كان في أمر دنيوي أخفق فيه، وإن كان في دين هلك به. ومن أعظم آفات العجب أنه يفتر عن السعي، لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. وعلاج العجب: أن من أعجب ببدنه في جماله وهيئته .. وقوته وصحته .. وحسن صوته وصورته .. أن يعلم أن ذلك كله نعمة من الله تعالى عليه .. وواجب النعم الشكر للمنعم .. وأن يعلم أن النعم عرضة للزوال كالأنفس .. وعلاجه بما ذكرناه في الكبر .. وأن يعلم أن الوجوه الحسان .. والأبدان الناعمة سوف تتمزق في التراب .. وسوف تنتن في القبور حتى تستقذرها الطباع. وعلاج العجب بالعقل والفطنة والذكاء. أن يعلم أن ذلك نعمة من الله فليشكر الله عليها .. ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن، ويضحك منه الخلق. وعلاج العجب بالنسب الشريف. أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم، وظن أنه يلحق بهم فقد جهل، فليتشرف بما شرفوا به من الإيمان والأخلاق والتقوى. ومن أعجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والأنصار. فعلاجه: أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عبيد عجزة، لا يملكون

لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا. ثم كيف يعجب بهؤلاء وهم سيفترقون عنه إذا مات، ويهربون منه يوم القيامة؟. ومن أعجب بالمال وافتخر به فعلاجه: أن يتفكر في آفات المال، وكثرة حقوقه، وعظم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويعلم أن المال غاد ورائح لا أصل له، وأن في اليهود والكفار والفساق واللئام من يزيد عليه في المال، وغاية المال بلا إيمان أن يكون كقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض. ومن أعجب برأيه الخطأ فعلاجه: أن يعلم أن جميع أهل البدع والضلال، إنما أصروا عليها، لعجبهم بآرائهم، وتعصبهم لها. وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره، لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يعرف، فعسرت مداواته جدًا. فعلاجه أبدًا أن يكون متهمًا لرأيه لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح. ومن أمراض القلب: الغرور. والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة وخدعة من الشيطان. فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، وأشدهم غرورًا الكفار .. والعصاة .. والفساق. فالكفار منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غرَّه بالله الغَرور كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]. فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة

نسيئة، فهي إذاً خير، فلا بدَّ من إيثارها. وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك .. فانظر كيف صاغ لهم الشيطان هذه المقدمات التي جرهم بها إلى النار؟ وعلاج هذا الغرور والجهل بالإيمان والتصديق بما جاء عن الله ورسوله. وأما غرور الكفار بالله فقولهم: إنه لو كان لله معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظًا فيه وأسعد حالاً: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35]. وأما غرور العصاة من المؤمنين فهو قولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن رحمة الله واسعة وكرمه عميم، وربما كان رجاؤهم مستندًا إلى صلاح الآباء، وعلو مرتبتهم. والمغرورون من البشر أصناف، والأصناف فرق ودرجات: فأولهم: أهل العلم، والمغترون منهم فرق: ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم عند الله بمكان، ولو كانوا مقصرين في العمل. وفرقة أحكموا العلم والعمل، فواظبوا على الطاعات الظاهرة، وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم، ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والشهرة في البلاد والعباد، فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم. وفرقة علموا أن هذه الأخلاق مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، ثم إذا ظهرت عليهم مخايل

الكبر والرياسة، وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، ونصرة دين الله، ونسي هؤلاء ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من التواضع والتبذل، والقناعة ولين الجانب. ونسي المغرور من هؤلاء أن عدوه الذي حذره الله منه هو الشيطان .. وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به .. وينسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بماذا نصر الدين؟ .. وبماذا أرغم الكافرين؟ .. وبماذا جذب قلوب العالمين؟. وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل، وطهروا الجوارح، وزينوها بالطاعات، واجتنبوا المعاصي، وتفقدوا أخلاق النفس، وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر وطلب العلو، وجاهدوا أنفسهم على التبري منها، وقلعوا من القلوب منابتها القوية. ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخداع النفس ما دق وغمض مدركه، فلم يفطنوا لها وأهملوها. فالعالم قد يفعل كل ذلك، ويغفل عن المراقبة للخفايا، فتراه يسهر ليله، ويتعب في نهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها ونشرها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته. ولعل باعثه الخفي: هو طلب الذكر، وانتشار الصيت في الأطراف، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء، والمدح بالزهد والورع والعلم. فنسأل الله السلامة، وحسن الإخلاص، وحسن العمل، ابتغاء وجهه سبحانه. وفرقة اشتغلوا بعلم الكلام، وفنون الجدل والمناظرات، والمجادلة في الأهواء، فتقطعت أعمارهم في تعلم الجدل، وهذيانات المبتدعة، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم، حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة. وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب وأفضل عند الله. ومجموعة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق

النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والصبر والشكر، والإخلاص واليقين، وهم مغرورون، يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات، ودعوا الخلق إليها، فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات، وهم منفكون عنها عند الله، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرور هؤلاء أشد الغرور، لأنهم معجبون بأنفسهم غاية الإعجاب، ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، وهكذا. فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين، ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب، ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين. وفرقة أخرى عدلوا عن المنهاج الشرعي في الوعظ والتعليم، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق الكلمات طلبًا للإغراب، وشغفوا بطيارات النكت والسجع في الألفاظ، وغرضهم أن يكثر الناس حولهم، ويكثر في مجالسهم الزعاق والصراخ، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وما يفسدونه أكثر مما يصلحونه. وطائفة أخرى قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، وتكلموا به على المنابر وفي الأسواق ومجامع الناس. وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر، وأنه قد أفلح ونال الغرض، وصار مغفورًا له، وأمن عقاب الله، من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام، لكونه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه، وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم. وطائفة استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث في سماعه، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان. فهؤلاء أكثرهم مغرور ليس معه إلا النقل، يحفظ الأسانيد والروايات، ويظن أنه

يكفيه العمل بما يروى ويحفظ، ويتركون العلم الذي يحصل به علاج القلب من معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والعلم الذي يحصل به معرفة الدين وأحكامه والعمل به. ويشتغلون بكثرة الأسانيد، وتعدد الطرق، وطلب العالي منها، همة أحدهم أن يقول: معي من الإسناد ما ليس مع غيري. وهل نزل الوحي إلا للعلم والعمل والتعليم للدين؟. فما أشد غرور هؤلاء، والأمة تحتاج من هؤلاء من كان تقيًا عاملاً بعلمه. وطائفة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة، وزعموا أنهم من علماء الأمة، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في طلب ذلك. فهؤلاء كمن يفني عمره في تعلم الخط وتحسين الكتابة، ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة، وكان يكفيه معرفة أصل الخط والباقي زيادة. فهؤلاء مغرورون أضاعوا أوقاتهم وأوقات غيرهم، واشتغلوا في غير ما خلقوا له، فيكفيهم من اللغة معرفة الغريب في القرآن والسنة، ومن النحو ما يتلعق بالقرآن والحديث. فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى، فهو فضول مستغنى عنه، يضيع الأوقات، ويشغل عن أداء الحقوق والواجبات. والصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل. والذين غرهم الشيطان منهم فرق كثيرة: فمنهم من غروره في الصلاة .. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن .. ومنهم من غروره في الحج أو الصيام أو الأذكار .. ومنهم من غروره في الوضوء .. ومنهم من غروره في الزهد. وكل عامل غالبًا لا يخلو من غرور إلا من رحم الله. فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالنوافل والفضائل، وربما تعمقوا في

الفضائل حتى وصلوا إلى حد العدوان والسرف، كمن غلبه الوسواس في الوضوء والغسل. وفرقة أخرى غلب عليها الوسواس في الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو الركعة، ويخرج الصلاة عن وقتها، وإن كبَّر شككه الشيطان في صحة نيته. ومنه من تغلب عليه الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط ويردد التشديدات لا يهمه غيره، ذاهلاً عن معاني الآيات، والاتعاظ بها وفهمها، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإن الله لم يكلف عباده في تلاوة القرآن إلا بما جرت به عادتهم في الكلام. وطائفة اغتروا بتلاوة القرآن يهذونه هذًا، وربما ختموه في اليوم والليلة مرتين، يتلوه هذا المغرور، وقلبه في أودية الأماني يتجول، فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة مع الغفلة عن تدبره والعمل بموجبه. وفرقة أخرى اغتروا بالصوم، وربما صاموا الدهر، أو صاموا الأيام الشريفة، لكن صام الظاهر منهم دون الباطن. فأطلقوا ألسنتهم في كل شيء من الهذيان والغيبة، وملؤوا بطونهم بالحرام عند الإفطار، وقعدوا عن الدعوة إلى الحق، ونشر الهداية. وكذلك الحج غرهم الشيطان فحجوا بزادٍ حرام، وعليهم من المظالم والديون ما عليهم، وأشغلهم بالرفث والفسوق والخصام. وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ينكرون على الناس ما ظهر من المعاصي، وينسون ما في بواطن أنفسهم من المنكرات التي تأكل ما جمعوه من الحسنات. وفرقة زهدت في المال، وقنعت من اللباس والطعام بالدون، ومن المساكن بالمساجد، وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع ذلك راغبون في الرياسة والجاه، إما بالعلم، وإما بالوعظ أو بمجرد الزهد.

وهكذا في كل عمل للشيطان منه نصيب. ومنهم فرقة غرهم الشيطان، وجعل لهم زيًا وهيئة ومنطقًا وحركات ومراسم، واختار لهم أدعية باطلة، وحالات مشينة كالتماوت والسماع والتنفس إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات المشينة التي غرهم بها الشيطان. وفرقة منهم ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق، ومجاوزة المقامات والأحوال، والملازمة في عين الشهود والكشف والوجد، وغيرها من الطامات والهذيان والبهتان، حتى ظن بعضهم أن ما هم عليه من الباطل أعلى من علم الأولين والآخرين، وينظر هؤلاء إلى الفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، فكم يفرح الشيطان بمثل هؤلاء؟. وفرقة أخرى وقعت في الإباحة، وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام. فبعضهم يزعم أن الله مستغنٍ عن عمله فلِمَ يتعب نفسه؟. وقال بعضهم: كلف العباد ما لا يطيقون من تطهير القلوب من الشهوات وحب الدنيا وذلك محال. فلله كم أضل الشيطان من البشر بمثل هذه الخواطر والأفكار؟. الصنف الثالث: أرباب الأموال. والمغترون منهم فرق: ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والقناطر، وما يظهر للناس، ويكتبون أسماءهم عليها، ليتخلد ذكرهم ويدعى لهم، ويظنون أنهم يغفر لهم بذلك، وهم مغرورون حيث بنوها من أموال محرمة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها، وكتابة الأسماء تنافي الإخلاص، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، والله أعلم بما في صدور العالمين. وربما اكتسبت هذه الفرقة المال من الحلال، وأنفقت على المساجد، وهي

أيضًا مغرورة إما بالرياء، وحب الثناء، أو بالإسراف الذي زينه الشيطان بزخرفة المساجد ونقشها، والتي تشغل المصلين، وتخطف أبصارهم. والمقصود من الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وهذه الزخرفة تشغلهم عن ذلك، وتحبط ثواب أعمالهم. ووبال ذلك كله يرجع إليه، وهو مع ذلك يغتر به، ويرى أنه من الخيرات. وطائفة أخرى من الأغنياء ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين، ويطلبون بذلك المحافل الجامعة، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم، وكفرانًا لإحسانهم إليه. ويكرهون التصدق في السر طلبًا لمحمدة الناس، وعلو الجاه عندهم. وفرقة أخرى من الأغنياء اشتغلوا بحفظ، الأموال وإمساكها بحكم البخل، ثم هم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى النفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن ونحو ذلك. وهم مغرورون بذلك، لأن البخل المهلك قد استولى على قلوبهم. وفرقة أخرى غلبهم البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم، ويتردد في حاجاتهم، وكل ذلك من مفسدات النية، ومحبطات الأعمال. وفرقة أخرى من أرباب الأموال والفقراء وعوام الخلق اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجرًا، وهم مغرورون، لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج المجلس الرغبة في العمل فلا خير فيه. فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب وهي كثيرة، فليس في الإنسان صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان، ومدخل من مداخله، ومطيَة من مطاياه.

وعلاجها على وجه العموم بثلاثة أمور: الأول: اللجوء إلى الله بالدعاء وسؤاله إبعاد الشيطان عنه. قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب، وقلعها منها، فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان، فإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والحرص ونحوها، كان بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم، فإن الكلب لا محالة يتهور عليه ويتوثب، ويشق دفعه. وإن لم يكن متصفًا بها لم يطمع فيه، لأنه لا داعي له هناك، ويكون دفعه أسهل ما يكون. وتزال تلك الصفات بضدها .. فيزال الغضب بالرضا .. ويزال الكبر بالتواضع .. ويزال الطمع بالورع .. ويزال الحسد بمعرفة أن النعم فضل الله يؤتيه من يشاء .. وهو أعلم بمن يصلح لها .. ويزال البخل بالإنفاق .. وهكذا. الثالث: ذكر الله تعالى والفكر، فكلما ألم بقلوبهم شيء من تلك الصفات المذمومة ذكروا الله وتفكروا في حقه، وفيما أمر به، وفيما نهى عنه، فعند ذلك تحصل لهم البصيرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]. والغين على القلب ألطف شيء وأرقه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬1). والران من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها، فإذا كثرت الذنوب والمعاصي عند العبد، وتوالى الذنب بعد الذنب، أحاطت تلك الذنوب والمعاصي بالقلب ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2702).

وتغشته، فيموت القلب إذا غمرته تلك الأعمال الخبيثة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). فالذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. فالغين ألطف شيء وأرقه .. والران أن يسود القلب من الذنوب .. والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الران .. والأقفال أشد من الطبع .. وهي أن يقفل على القلب فلا يصل إليه شيء كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وجميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، ومن جانب الشيطان، ولكل منهما على القلب آثار وأضرار .. ولكل منهما علامات، ولكل منهما دواء. ولا تزكو القلوب إلا بثلاثة أمور: تزكية القلوب بالتوحيد والإيمان .. والتزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات .. والتزكية بفعل النوافل المشروعة. فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق، مع الله بالإيمان وأحسن الأعمال، ومع الخلق بأحسن المعاملات والمعاشرات: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر: 18]. ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3334)، وقال حسن صحيح، وهذا لفظه. وأخرجه ابن ماجه برقم (4244)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3422).

1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه قال الله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. وقال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. إن جميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس. فالمواد الفاسدة كلها تنصب إليها، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب. وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من شرها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (¬1). والنفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، فإنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وزجرها ومخالفتها. فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها، ينفذ أوامرها. وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم، منقادة لأوامرهم. فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا .. والرب يدعو عبده إلى طاعته وخوفه، ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين. يميل إلى هذا الداعي مرة .. وإلى هذا مرة .. وهذا موضع المحنة والابتلاء. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914). واخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2792).

والنفس واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها: نفس مطمئنة .. ونفس لوامة .. ونفس أمارة بالسوء. فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إليه، وأنست بقربه، فهي المطمئنة، وهي التي يقال لها عند الموت: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى أحدٍ سواه. فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره .. واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره .. واطمأنت إلى لقائه ووعده .. واطمأنت إلى قضائه وقدره .. واطمأنت إلى كفايته وحسبه .. واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسماء الله وصفاته .. واطمأنت بأن الله وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها .. ومالك أمرها كله .. وأن مرجعها إليه .. وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين .. واطمأنت إلى الرضى بالله ربًا .. وبالإسلام دينًا .. وبمحمد رسولاً. والنفس الأمارة بالسوء هي التي بضد ذلك تأمر صاحبها بالسوء .. وبما تهواه من شهوات الغي والباطل .. فهي مأوى كل سوء .. وإن أطاعها العبد قادته إلى كل قبيح .. وساقته إلى كل مكروه .. وهي التي ذكرها الله بقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. وعادة النفس ودأبها الأمر بالسوء إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء، لأنها في الأصل خلقت جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك. فإذا الله لم يلهمها رشدها، بقيت على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم.

فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وسبب الظلم إما جهل .. وإما حاجة. والنفس في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازمًا لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله. فإذا أراد الله بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به من الإيمان والأعمال الصالحة. وإن لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم. أما النفس اللوامة فهي اللؤم كما أخبر الله عنها بقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1، 2]. فكل نفس تلوم نفسها يوم القيامة: تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانًا .. وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته. والمؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته: يلومها على كل ما يفعل، ويلومها على ترك ما أمر الله به .. ويلومها على تأخيره ونقصه إن فعله، ويلومها على فعل ما نهى الله عنه وعلى كثرته وإعلانه. والنفس قد تكون تارة لوامة .. وتارة أمارة بالسوء .. وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة، يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها. فكونها مطمئنة وصف مدح لها .. وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه من ترك واجب، أو فعل محرم. ومرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه له علاجان هما: محاسبة النفس .. ومخالفة النفس.

وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها. والنفس مع صاحبها كالشريك في المال بينهما شروط وعهود، فكذلك النفس حتى تزكو لا بدَّ أن يتفق معها على شروط. يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك وهي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل. وهذه هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها. فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30]. وقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70]. فإذا شارط العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ومراقبتها، فلا يهملها لئلا ترتع في الخيانة، ومتى أحس بالنقصان بادر إلى محاسبتها وتذكيرها بما شارطها عليه. فإن أحس بالخسران استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره فإنه لا بدَّ له منه. فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله، ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة، معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا، إذا صار الحساب إلى غيره يوم القيامة.

ويعينه كذلك معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، والفوز برضوانه. وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، والتعرض لسخطه. فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم وغدًا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. ومحاسبة النفس لها مرحلتان: الأولى: محاسبتها قبل العمل. فإذا تحركت النفس لعمل من الأعمال، وهم به العبد، فلينظر هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور له؟. فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، نظر هل فعله خير له من تركه؟ .. أو تركه خير له من فعله؟. فإن كان الثاني تركه، وإن كان الأول وقف ونظر هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟. فإن كان الثاني لم يقدم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك، يثقل عليها العمل لله تعالى. وإن كان الأول وقف ونظر هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟. فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد، بمكة حتى صار له شوكة وأنصار في المدينة. وإن وجد نفسه معانًا فليقدم عليه فإنه منصور. ولا يفوت النجاح والفوز والفلاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال. الثانية: محاسبة النفس بعد العمل.

وتكون بمحاسبتها على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى. وحق الله في الطاعة ستة أمور وهي: الإخلاص في العمل .. والنصيحة فيه لله .. ومتابعة الرسول فيه .. وشهود مشهد الإحسان فيه .. وشهود منة الله عليه فيه .. وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. ويحاسبها كذلك على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله، وعلى كل أمر مباح أو معتاد لم فعله؟، وهل أراد به الله والدار الآخرة؟، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟. وصلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو الإكثار من النوافل. ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. ثم يحاسب نفسه كذلك على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له، تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى. ثم يحاسبها على ما تكلم به لسانه، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا؟ .. ولم فعلته؟ .. وعلى أي وجه فعلته؟. فكل عبد سيسأل عن الإخلاص والمتابعة في كل عمل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كل شيء، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. وأنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والازدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الذل

والخضوع والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته. فإن من حقه سبحانه أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يعبد وحده دون سواه. فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علم اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا طلب العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك. فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (¬1). وإذا تأمل العبد حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتلذذ بذكره، والابتهاج بطاعته، وهذا غاية جهل الإنسان بنفسه وربه. فمحاسبة النفس تكون بنظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي لجلال الله ثانيًا، ثم نظره هل أداه في وقته ثالثًا ثم نظره في تقصيره عن شكر ما أنعم الله به عليه رابعاً. وأفضل الفكر الفكر في ذلك .. فإنه يسير بالقلب إلى الله .. ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا .. منكسرًا كسرًا فيه جبره .. ومفتقرًا فقرًا فيه غناه .. وذليلاً ذلاً فيه عزه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818) واللفظ له.

ومعرفة العبد بحق الله عليه يجعله لا يدلي بعمل أصلاً كائنًا ما كان، ومن أدلى بعمله لم يصعد إلى الله تعالى، والله غني عن كل ما سواه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيم» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له,.

2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. وقال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: 97، 98]. الشيطان عدو لجميع بني آدم، ولذلك جاء ذكره في الكتاب والسنة أكثر من ذكر النفس، وحذر الله عباده منه أكثر من تحذيره من النفس، وذلك لعظيم خطره، وكثرة حيله، وشدة عداوته وكثرة جنوده. وشر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركبه، وموضع شره، ومحل طاعته، ولذلك فهو ملازم لها، ويجري في ابن آدم مجرى الدم. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغيرها، لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر سبحانه بالاستعاذة من النفس في موضع واحد. وإنما جاءت الاستعاذة من شر النفس، وشر الشيطان في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (¬1). فالشر كله إما أن يصدر من النفس .. أو يصدر من الشيطان. وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته، وبيان مصدري الشر، وغايتيه التي يصل إليهما. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914). وأخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2789).

وأمر الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن كما قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 98، 99]. فالقرآن شفاء لما في الصدور، يذهب ما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات، والإرادات الفاسدة، فأمر الله العبد أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب. والقرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، وكلما أحس الشيطان بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عزَّ وجلَّ منه، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن من المنافع. والملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدته عنه، حتى يحضره خاص ملائكته. وكذلك الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن الانتفاع بالقرآن، ويحول بينه وبينه، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله منه. وكذلك الشيطان يلقي في قراءة القارئ، ويلبس عليه، ولهذا يغلط القارئ تارة، ويخلط عليه تارة، فأمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن. والله عزَّ وجلَّ لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، لكن قد تصدر من المؤمنين من المعاصي والمخالفات التي تضاد الإيمان، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته. فالأصل نصر الله لمن أطاعه، وخذلان من عصاه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]. وقال الله سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160].

والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ للشيطان على الإنسان تسلطًا وقهرًا بالإغواء والإضلال، بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك والمعاصي، ويزعجهم إليها، ولا يدعهم يتركونها كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. فالتوحيد والإيمان، والإخلاص والتوكل على الله يمنع سلطانه كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]. والشرك وفروعه من المعاصي والمنكرات والفواحش يوجب سلطانه على البشر الذين تولوه، ودخلوا في طاعته، وانضموا لحزبه. فهؤلاء الذين جعلوا للشيطان ولاية على أنفسهم، فأزهم إلى المعاصي أزًا، وقادهم إلى النار من حيث لا يشعرون: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 100]. وقد استولى الشيطان على كثير من قلوب البشر وأبدانهم، أمرهم بالكفر فكفروا، وزين لهم المعاصي فعصوا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. وجميع ذلك بقضاء من أزمة الأمور بيده، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، والله حكيم عليم. والشيطان دأبه وديدنه الوسوسة، فإذا ذكر العبد ربه هرب الشيطان وخنس واختفى، فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تروعه من سياط وحديد وعصي ونحوها. فذكر الله عزَّ وجلَّ يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالمقامع التي تؤذي من يُضرب بها من البشر. ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ضئيلاً مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به

من ذكر الله وطاعته. فكلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. أما شيطان الكافر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، لأنه مطاع فيما يأمر به من المعاصي والمنكرات، فمن لم يعذب شيطانه بذكر الله في الدنيا وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بدَّ لكل أحد أن يعذب شيطانه .. أو يعذبه شيطانه .. وأنت أحدهما ولا بد. والشر نوعان: شر من داخل النفس .. وشر من خارج النفس. وسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الخارجي، وهو ظلم الغير له، كما قال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1 - 5]. والشر الخارجي الذي أمر العبد أن يستعيذ بالله منه أربعة أقسام: الأول: الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من إنسان أو غيره من جن أو حيوان أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة أو غيرها. الثاني: شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم، والقمر علامته، وهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط في النهار، والفلق هو الصبح الذي يطرد الظلام. الثالث: شر النفاثات في العقد، وهي الأرواح الشريرة، والأنفس الخبيثة، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد فيقع السحر. الرابع: شر الحاسد إذا حسد من الإنس والجن، وكل عنده حسد، ولكن المؤمن يدفعه، والحاسد عدو النعم يتمنى زوالها.

فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من هذه الشرور الخارجية الأربعة، ويسمى ذلك كله شر المصائب. أما سورة الناس فقد تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم العبد لنفسه، وهو شر من داخل الإنسان، ويسمى شر المعائب التي أصلها الوسوسة كما قال الله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 1 - 6]. والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما. فالأول: وهو شر المصائب، لا يدخل تحت التكليف، لأنه ليس من كسب الإنسان. والثاني وهو شر المعائب، يدخل تحت التكليف، ويطلب من العبد الكف عنه، وهو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة. والله عزَّ وجلَّ سميع لاستعاذة عبده، عليم بما يستعيذ منه، مرة يقرن السمع بالعلم، ومرة يقرنه بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك. فالاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه جاءت بلفظ السميع العليم كما قال سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200]. والاستعاذة من شر الإنس الذين يرون بالأبصار جاء بلفظ السميع البصير كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]. وذلك لينبسط المستعيذ، وليعلم أن الله سميع لاستعاذته، مجيب له، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، فيقبل الداعي على الدعاء. وقد اشتملت الإضافات الثلاث في قوله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)

مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسماء الله الحسنى. فالإضافة الأولى: {بِرَبِّ النَّاسِ (1)} إضافة الربوبية المتضمنة لخلق العباد وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، وحفظهم مما يفسدهم. والإضافة الثانية: {مَلِكِ النَّاسِ (2)} إضافة الملك، فهو الملك المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، فليس لهم ملك غيره يلجؤون إليه إذا دهمهم العدو، ويستنصرونه إذا نزل العدو بساحتهم، فهو الملك الآمر الناهي، العزيز الجبار، الحكم العدل، القوي العظيم، الذي له كل شيء، وبيده كل شيء. والإضافة الثالثة: {إِلَهِ النَّاسِ (3)} إضافة الإلهية إليهم، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده ربهم وملكهم، لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا يحل لهم أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيته. وقدم سبحانه الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب .. وأخر الألوهية لخصوصها، لأنه سبحانه إله من عبده ووحده، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه. ووسط الملك، لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر، فملكه سبحانه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه. والمستعيذ: هو كل مكلف سواء كان نبيًا أو ملكًا، أو إنسيًا أو جنيًا، لأن كل عبد وكل مخلوق محتاج، والمحتاج لا ملجأ له إلا الله الذي خلقه، فلا ملجأ منه إلا إليه سبحانه. والمستعاذ به: هو الله عزَّ وجلَّ، فإن المستعاذ به لا بدَّ أن يكون قادرًا مطلقًا على الإجارة والتعويذ، عالمًا بجميع أحوال المستعيذ، وذلك لا يعلمه إلا الله، فكل

استعاذة بغير الله شرك وخيبة. أما المستعاذ منه فكثير كما ورد في القرآن والسنة من الاستعاذة من الشيطان، وشر ما خلق الله، وشر الغاسق، وشر النفاثات، وشر الحاسد إذا احسد، والجهالة، والسؤال عما لا يليق. وفي السنة الاستعاذة بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. والاستعاذة من الهم والحزن، والعجز والكسل، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن عذاب جهنم، ومن البرص والجنون والجوع ونحو ذلك. ولما كان شر الشيطان جنيًا أو إنسيًا أكبر الأمور المانعة من قراءة القرآن والدعوة إليه، اختص بالذكر بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن. ومخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهم الله من أجلها فهي خير، وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا الله. الثاني: خير محض كالجنة والرسل والملائكة. الثالث: ما فيه خير وشر، ونفع وضر، كعامة المخلوقات. والاستعاذة إنما تكون من شر ما فيه شر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نزل منزلاً فقال: «أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم (¬1). والذي يوسوس في صدور الناس نوعان: إنس .. وجن. كما قال سبحانه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2708).

وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 5، 6]. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوس للإنسي، والوسوسة الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الإنس والجن، وإن كان الإنسي يلقى بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج لذلك، لأنه يدخل في ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم. ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله. فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون في الوسوسة. نسأل الله السلامة من شر هؤلاء .. وشر هؤلاء: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: 97، 98]. «اللَّهُمَّ! لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، أنْ تُضِلَّنِي، أنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُون» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7383)، ومسلم برقم (2717)، واللفظ له.

3 - شفاء القلوب والأبدان

3 - شفاء القلوب والأبدان قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. القرآن كتاب الله عزَّ وجلَّ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني. وإذا شفي العبد من أمراض الشهوات، وأمراض الشبهات، زال سقمه، فقدم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه، ووصل القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). ويحصل للمؤمنين بالقرآن كل هدى .. وكل رحمة. فالهدى: هو العلم بالحق والعمل به. والرحمة: هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به. وإذا حصل الهدى للعبد، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور. ولذلك أمر الله عزَّ وجلَّ بالفرح بذلك فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا يزيدهم إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة. والشفاء الذي تضمنه القرآن، عام لشفاء القلوب من الشبه والجهالات، والانحرافات والآراء الفاسدة ونحوها. فهو مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وجهالة. ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ومشتمل على شفاء الأبدان من أسقامها وآلامها. فالقرآن شفاء للأسقام القلبية، والأسقام البدنية، لأنه يحث على الإيمان والتوبة من الذنوب، ويزجر عن مساوئ الأخلاق، وأقبح الأعمال، ويأمر بالعدل وعدم الإسراف، واجتناب الخبائث والمضرات. وأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج كما قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125]. فقلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير، فيجعل الله صدره ضيقًا حرجًا، إذ سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام واللهو ارتاح إلى ذلك: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [الزمر: 45]. ولما كان القلب محلاً للإيمان والتوحيد، والعلم والمعرفة، والمحبة والسكينة، والصدق والإخلاص ونحوها، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها. فإذا أراد الله هداية عبد، وسع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته. وإذا أراد ضلاله، ضيق صدره وأحرجه، فلم يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه

إلى غيره ولا يساكنه. وكل شيء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه زيادة ضاق إلا القلب اللين السليم، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم، اتسع وانفسح وانشرح، وهذا من آيات قدرة الرب عزَّ وجلَّ. وشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وضيق الصدر من أعظم أسباب الضلال، وشرح الصدر للإيمان والهدى من أجلّ النعم، كما أن ضيق الصدر من أعظم النقم. وكلما دخل نور العلم والإيمان والهدى في القلب انفسح وانشرح، والمؤمن منشرح الصدر في هذه الدار على ما ناله من مكروهاتها، وإذا قوي الإيمان كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها ومحابها. فإذا فارقها كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. فإذا بعث الله المؤمن يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية، فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير، وقد طلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالة الله إلا بشرح صدره فـ: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 25 - 28]. أما الأسباب التي تشرح الصدور فهي نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، وهو هبة من الله تعالى. والأمر كله لله، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها، يمنحها من يشاء، ويمنعها من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.

وإذا أراد الله بعبده خيرًا، وفقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده، فيما يحبه الله ويرضاه، وفي الرغبة إليه، وفي الرهبة منه. وبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق للعبد، والرغبة في الطاعات، والحذر من المعاصي. والرغبة والرهبة بيد الله لا بيد العبد، وهما مجرد فضل الله ومنته. يجعلهما الله في المحل الذي يصلح لهما، ويليق بهما، ويحبسهما عما لا يصلح لهما، ولا يليق بهما. فإن قيل فما ذنب من لا يصلح؟. قيل: أكثر ذنوبه أنه لا يصلح، لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه، وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره. فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم، وجحد إلهيته، والشرك به، والسعي في مساخطه، أحب إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه. وأي ذنب وإعراض فوق هذا؟. فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه، كان قد عدل فيه، وانسدت عليه أبواب الهداية، وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه. فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالاً وكفرًا وعنادًا كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96، 97]. وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف: 57]. ومن شرح الله صدره للإسلام والإيمان، وأنار قلبه بالتوحيد، وعرف عظمة ربه،

وجميل إحسانه وإنعامه، صار لقلبه عبودية أخرى، ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه، وبكل اعتبار. وعلم أن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها كلها إليه. وأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. فالتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك من أعظم أسباب ضيق الصدر. ومنها نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، فيشرح الصدر ويوسعه. ومنها العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر، فكلما اتسع علم العبد بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه انشرح صدره واتسع. ومنها الإنابة إلى الله سبحانه، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتلذذ بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك. وكلما كانت المحبة لله أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح. ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى .. وتعلق القلب بغيره .. والغفلة عن ذكره .. ومحبته سواه .. فإن من أحب غير الله عذب به .. وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه. ومن أسباب شرح الصدر وشفاء القلب الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه. فالكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، والبخيل أضيق الناس صدرًا، وأعظمهم همًا، وأنكدهم عيشًا. ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكر الله على كل حال، وفي كل موطن.

ومنها الشجاعة، فإن الشجاع أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم صدرًا، والجبان أضيق الناس صدرًا لا فرحة له ولا سرور. وحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيمًا وعذابًا، وسجنًا وانطلاقًا. ومنها ترك فضول النظر والكلام، والسماع والمخالطة، والأكل والنوم، فإن هذه الفضول إذا لم تترك، تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه ويتعذب بها. فما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم؟. وما أنكد عيشه؟ .. وما أسوأ حاله؟ .. وما أشد حصر قلبه؟. وما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من الخصال المحمودة بسهم؟. وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها، فلهذا نصيب وافر من قوله سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13]. ولذلك نصيب وافر من قوله سبحانه: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 14]. وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر .. وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحًا .. وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه ما نال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

الباب السابع فقه العلم والعمل

البَابُ السَّابع فقه العلم والعمل ويشتمل على ما يلي: 1 - أهل التكليف 2 - وظيفة العقل البشري 3 - فقه النية 4 - العلوم الممنوحة والممنوعة 5 - أقسام العلم 1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته 2 - العلم بأوامر الله 6 - فقه القرآن الكريم 7 - فقه السنة النبوية 8 - قيمة العلم والعلماء 9 - فقه العلم والعمل 10 - فقه الإفتاء

1 - أهل التكليف

1 - أهل التكليف قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وقال الله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]. الجن والإنس هم الثقلان، وهم مكلفون مأمورون منهيون، داخلون تحت شرائع الأنبياء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس. والجن والإنس كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، واختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاص بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم. ومن قبله من الأنبياء كان يبعث إلى طائفة مخصوصة من الجن والإنس. والجن والإنس كما هم مأمورون منهيون، فهم كذلك مثابون معاقبون، محسنهم في الجنة، ومسيئهم في النار. فالجن منهم المسلم والكافر .. والبر والفاجر .. والمطيع والعاصي كالإنس كما قال الله عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 14، 15]. وقال سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن: 11]. فالجن ثلاث طبقات: الصالحون .. ودون الصالحين .. والكفار. والإنس ثلاث طبقات: أبرار .. ومقتصدون .. وكفار.

ولما كان الإنس أكمل من الجن، وأتم عقولاً منهم زادوا عليهم بثلاثة أصناف أخرين، ليس منها شيء في الجن وهم: الرسل .. والأنبياء .. والمقربون. فليس في الجن صنف من هؤلاء بل جبلتهم الصلاح. فكفار الجن ككفار الإنس في النار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. وقال الله سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]. والمؤمنون من الجن كالمؤمنين من الإنس في الجنة، كما قال سبحانه للجن والإنس: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132]. وقال الله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن: 46، 47]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - رسول رب العالمين، إلى جميع الثقلين الجن والإنس. والجن مكلفون كتكليف الإنس: المؤمنون منهم في الجنة .. والكفار منهم في النار. ففي الجن المؤمنون، والكفار، والمشركون، والفساق، والعصاة. وفيهم من يعبد الله بعلم، وفيهم من يعبد الله مع الجهل كالإنس. وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس: فاليهود مع اليهود .. والنصارى مع النصارى .. والمشركون مع المشركين .. والمسلمون مع المسلمين .. والمنافقون مع المنافقين .. والفساق مع الفساق .. وأهل البدع مع أهل البدع. واستخدام الإنس للجن، مثل استخدام الإنس للإنس في شيء.

فمن الإنس من يستخدم الجن في المحرمات من الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم، وهذا محرمن وهو من أفعال الشياطين. ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة لجلب ما ينفعه أو لدفع ما يضره، أو إحضار ماله، أو دلالة على مال ليس له مالك معصوم، ونحو ذلك، فهذا مباح كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك. ومنهم من يستعملهم في طاعة الله ورسوله، كما يستعمل الإنس في ذلك، فيأمرهم بما أمره الله ورسوله به، وينهاهم عما نهاهم لله ورسوله عنه، كما يأمر الإنس وينهاهم. وهذه حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحال من اتبعه واقتدى به من أمته، وهم أفضل الخلق لقيامهم بالدعوة إلى الله لعموم الثقلين. والذين يستخدمون الجن في المباحات، يشيه استخدام سليمان - صلى الله عليه وسلم - لهم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخدم الجن أصلاً، لكن دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وهذا أفضل شيء، وأعظم شيء. وسليمان - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وسخرت له الإنس والجن، والريح والطير، وهذا لم يحصل لغيره. والإنسان من حيث هو إنسان عار عن كل خير من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح: فهو ضعيف كما قال الله عنه: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]. وهو ظلوم كفار كما قال الله عنه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وهو ظلوم جهول كما قال الله عنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. وهو عجول في أموره كما قال الله عنه: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ

الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11]. وهو قتور عند الإنفاق كما قال الله عنه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} [الإسراء: 100]. وهو مجادل معاند مع ظهور الحق له كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} [الكهف: 54]. فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بالإيمان والعلم، والتقوى والعدل، ولا خروج له عن الأخلاق الرديئة إلا بتزكية الله له كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)} [النساء: 49]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» أخرجه مسلم (¬1). والله جل جلاله هو الخلاق العليم، وهو على كل شيء قدير، خلق الدنيا والآخرة، وخلق الجنة لأهل طاعته، وخلق النار لأهل معصيته. وخلق سبحانه المخلوقات الظاهرة والباطنة على أربع مراتب: الأولى: مخلوقات عاقلة، ظاهرة وباطنة، يصدر منها الخير والشر، وهم المكلفون من الإنس والجن. الثانية: مخلوقات ظاهرة، خلقها الله وخلق آثارها كالشمس التي خلقها الله، وخلق فيها الأثر وهو النور، وخلق النبات والأشجار، وخلق فيها الأثر وهو الثمار، وخلق اللسان، وخلق فيه الأثر وهو الكلام. الثالثة: مخلوقات عاقلة باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل خير، وهم الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم الذين يدبرون هذا الكون بأمر الله سبحانه. الرابعة: مخلوقات باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل شر، وهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2722).

إبليس وذريته من الشياطين. وخالق هذا الكون، وخالق هذه الأرض، وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض، وهو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات، التي تسمح بحياة هذا الجنس البشري على ظهر هذه الأرض من ماء ونبات، ونور وهواء، وتقوته وتعوله، وتكنه بما جعل الله فيها من أسباب الرزق والمعايش كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)} [الأعراف: 10]. فالله تبارك وتعالى هو الحكيم العليم، الذي جعل هذه الأرض مقرًا صالحًا لنشأة الإنسان، بجوها وتركيبها وحجمها، وبما أودع فيها من الأرزاق والأقوات، ومن القوى والطاقات، ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته. وهو سبحانه الذي جعل هذا الجنس البشري سيد مخلوقات هذه الأرض، وجعله قادرًا بما أودعه الله من معرفة وطاقات، على تطويعها واستخدامها وتسخيرها في حاجته، وأكرمه الله بما لم يكرم أحدًا سواه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. والإنسان ابن هذه الأرض، فقد أنشأه الله من تراب هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعله سيد أهلها، وجعل له فيها أرزاقًا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها، ليستعين بذلك على عبادة ربه الذي خلقه واستخلفه، ويشكره على نعمه. ولكن الناس قليلاً ما يشكرون .. لأنهم لا يعلمون قدر المنعم وعظمته وإحسانه .. ولا يعلمون قدر نعمه وكثرتها .. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله حقها من الشكر .. وأنى لهم الوفاء لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون .. ويعفو عن كثير، ويضاعف الحسنات ويغفر السيئات: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} [الشورى: 23].

وقد خلق الله عزَّ وجلَّ آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وصوره في أحسن تقويم، وأعطاه خصائصه الإنسانية عند خلقه، وذلك كله تشريفًا له على غيره من المخلوقات. وأعلن الله بذاته العلية الجليلة العظيمة، ميلاد هذا الكائن الإنساني، في مجمع حافل بالملأ الأعلى من الملائكة، ومعهم إبليس، كما قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74]. وإبليس من الجن لا من الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]. والجن خلق غير الملائكة .. فالملائكة خلقهم الله من نور .. والجن خلقهم الله من نار .. والبشر خلقهم الله من تراب. فأما الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله، هذه طبيعتهم، وهذه وظيفتهم. وبهذا السجود من الملائكة ظهرت كرامة آدم على الله، كما ظهرت الطاعة المطلقة من الملائكة، فسجدوا لآدم إكرامًا واحترامًا، وإظهارًا لفضل آدم. وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله سبحانه، وهو يعلم أن الله ربه وخالقه، ومالك أمره، وأمر الكون كله. فهذه ثلاثة نماذج من خلق الله. أهل الطاعة المطلقة والتسليم التام لله، وهم الملائكة. وأهل العصيان المطلق والاستكبار المقيت، وهم إبليس وذريته. وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية، وهم آدم وذريته. فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله بالتسليم المطلق: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ

وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وأما الطبيعتان الأخريان، الإنسان والشيطان، فلهما شأن آخر. فأما إبليس فجعل له رأيًا مع النص، وجعل لنفسه حقًا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى، مع وجود الأمر من ربه. وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر، وتتعين الطاعة التامة للآمر سبحانه، ولكن إبليس أبى أن يسجد لربه حين أمره بالسجود: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]. وإبليس لعنه الله لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق، الذي يدبر الكون ويصرفه، ولا يقع شيء في الوجود إلا بإذنه وقدره، ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه، بمنطق من عند نفسه، فكان جزاؤه العاجل الذي تلقاه لتوه: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: 13]. إن علم إبليس بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده لم ينفعه، وكذلك كل من يتلقى أمر الله، ثم يجعل لنفسه نظرًا في قبوله أو رده. فإبليس خالف الأمر، وعصى الآمر سبحانه، فكفر وأبى واستكبر، من أجل ذلك طرد الله إبليس من الجنة، وطرده من رحمة الله، وحقت عليه اللعنة، وكتب عليه الصغار: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 77، 78]. ولكن إبليس الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب واللعنة له، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم منه، ثم ليؤدي وظيفة الشر الذي تمحضت في آدم وذريته. فماذا قال إبليس لربه؟: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف: 14، 15]. لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث، وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا

يقع إلا بإرادة الله وقدره. وقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار لحكم عظيمة، ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وحكمة الله تقتضي ابتلاء العباد ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه ممن يطيع عدوه، فلما حصل إبليس على قضاء الله له بالبقاء الطويل، أعلن في تبجح خبيث، ينبئ عن شر كامن فيه فماذا قال؟: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17]. إنه سيرد على تقدير الله له الغواية، وإنزالها به بسبب معصيته وتبجحه، بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده. لقد أعلن إبليس أنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه، وذلك الطريق هو طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضا الله، وأنه سيأتي البشر من كل جهة، من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، وذلك للحيلولة بينهم وبين الإيمان بالله وطاعته. وقعد إبليس لآدم وذريته على الطريق لإغوائهم، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه، اللهم إلا القليل الذي يفلت، ويستجيب لربه. فالسبب الحقيقي لقلة شكر البشر لربهم، حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليهن وصد الناس عنه. وقد نبهنا الله على ما قال إبليس، وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا، ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا بالطرق التي يأتي إلينا منها. فليستيقظ العبد للعدو الكامن فيه، والذي يدفعه عن الهدى، وليأخذ حذره منه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. لقد أجيب إبليس إلى طلبه، لأن مشيئة الله اقتضت أن يترك الإنسان يشق طريقه

بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر، وبما وهبه من عقل راجح، وبما أمده من التذكير والتحذير، والتبشير والإنذار على أيدي الرسل، فيختار الهداية أو الضلال، وتحق عليه سنة الله، وتحقق مشيئة الله بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضلَّ. وحين أسكن الله آدم وزوجه الجنة حذرهما من الشيطان بقوله: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. وبعد أن كشف إبليس عن عداوته لآدم وذريته، وما أبطنه من الكيد لهم، أعلن الله عن طرد إبليس طردًا لا معقب له، وأوعده ومن تبعه من البشر بملء جهنم منهم: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 18]. فأخرج الله الشيطان من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم وأنجسهم. فخرج منها صاغرًا ذليلاً مذمومًا مدحورًا، جزاءً على كفره وكبره وعجبه، ويوم القيامة يملأ الله النار بإبليس وأتباعه من الجن والإنس. ومن يتبع الشيطان من البشر، قد يتبعه في معرفته بالله، واعتقاده بألوهيته، ثم في رفض حكم الله وقضائه في منهج الحياة، وادعاء أن له الحق في رفض حكم الله، وقبوله أو عدم قبوله وفق هواه، كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً. لقد جعل الله بحكمته لإبليس وقبيله فرصة الإغواء، وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار للهدى أو الضلال، تحقيقًا للابتلاء الذي قضت مشيئة الله أن تأخذ به هذا الكائن الإنساني، وتجعله به خلقًا منفردًا في خصائصه، لا هو ملك، ولا هو شيطان، لأن له دورًا آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك، ولا هو دور الشيطان. وبعد طرد الشيطان من الجنة، أمر الله آدم وزوجه أن يسكن الجنة، لتتم بذلك

تربية الله لهما، وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن، وهو دور الخلافة في الأرض فقال سبحانه: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} [الأعراف: 19]. لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور، ليتدرب الإنسان على ضبط رغباته وشهواته، ويستعلي بإرادته على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكمًا لها، لا محكومًا بها كالحيوان، وهذه خاصية الإنسان التي يفترق بها عن الحيوان. ولما سكن آدم وزوجه الجنة، بدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له، فهذا الإنسان كرمه الله فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وهو الذي أخرج إبليس بسببه من الجنة، وطرد من الملأ الأعلى. هذا الكائن الإنساني مزدوج الطبيعة، مستعد للخير والشر على السواء، وفيه أماكن ضعف معينة يقاد منها، ما لم يلتزم بأمر الله فيها، ومن هذه الثغرات تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه، ويمكن جره وإغواؤه. إن لهذا الإنسان شهوات معينة يمكن إثارتها، ومن شهواته يمكن أن يقاد، وراح إبليس يداعب هذه الشهوات فماذا فعل؟: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} [الأعراف: 20]. فجاء إبليس إليهما، ووسوس لهما من ناحية رغائبهما العميقة، ليوقعهما في الشر والغواية، وارتكاب المحظور، مستغلاً أماكن الضعف الفطرية في الإنسان، وهذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر، حتى لا يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر، ولا يكون لكيده الضعيف من تأثير. ولكن الشيطان داعب رغائب الإنسان الكامنة فيه، إنه يحب أن يكون خالدًا لا يموت، ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير. فأغراهما بالملك الخالد .. والعمر الخالد .. وهما أقوى شهوتين في الإنسان.

وعلى قراءة (ملَكين) بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود. ولما كان الشيطان الرجيم يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة، وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته، فقد استعان على زعزعته، إلى جانب مداعبة شهواتهما، بتأمينهما من هذه الناحية، فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 21]. ونسي آدم وزوجه تحت تأثير الشهوة الدافعة، والقسم المخدر، أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير، وأن الله أمرهما أمرًا عليهما طاعته، سواء عرفا علته أم لم يعرفاها، وأنه لايكون شيء إلا بقدر من الله. فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه، نسيا هذا كله، فماذا فعل الشيطان بهما؟. {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22]. لقد تمت الخدعة، وآتت ثمرتها المرة، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما من رتبتهما العالية التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى مرتبة دنيا، حيث دلاهما بغرور إلى المعصية. فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وشعرا الآن أن لهما سوآت مواراة عنهما، سوأة المعاصي، وسوأة العورات. فرآهما الرب يجمعان من ورق الجنة ليسترا به عوراتهما، التي يخجل الإنسان فطرةً من تعريها: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22]. وسمع آدم وزوجه هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية، وعلى إغفال النصيحة، وعلى طاعة العدو.

وبعد هذا العتاب تكشف الجانب الآخر من طبيعة هذا الإنسان، وهو أنه ينسى ويخطئ، إن فيه ضعفًا يدخل منه الشيطان، إنه لا يلتزم دائمًا، ولا يستقيم دائمًا، ولكنه يدرك خطأه، ويعرف زلته، ويندم على معصيته. ويطلب العون من ربه والمغفرة، إنه يتوب ولا يلج في المعصية كالشيطان، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية، إنه يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته، وإلا كان من الخاسرين. فماذا قال آدم وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. قالا: فعلنا الذنب الذي نهيتنا عنه، وظلمنا أنفسنا باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا، فغفر الله لهما ذلك، وتاب عليهما: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]. وهنا تكون التجربة الأولى .. والامتحان الأول .. والتربية الكبرى .. قد تمت .. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى .. وعرفها آدم وذاقها .. وذاق ألم عقوبتها. واستعد بهذا التنبيه، وهذا الامتحان، لمزاولة اختصاصه في الخلافة في الأرض، وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدًا مع عدوه الشيطان، الذي كشر عن عداوته من قبل، وهو مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عداوته وعصيانه. وبعد ذلك جاء أمر الله لآدم وإبليس. {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} [الأعراف: 24، 25]. لقد أهبطوا جميعًا إلى الأرض، آدم وزوجته، وإبليس وقبيله، هبطوا ليصارع بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، ويجاهد بعضهم بعضًا، ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين مختلفتين: إحداهما ممحضة للشر.

والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر. وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء، وكتب على آدم وذريته: أن يستقروا في الأرض، ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها، ثم يموتوا فيها، ثم يخرجوا منها، فيبعثوا ليعودوا إلى ربهم، فيدخلهم جنته أو يدخلهم ناره، كل حسب عمله. لقد أعلن الله ميلاد هذا الكائن الإنساني في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى من الملائكة: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74]. وأعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. فما أعظم الكرامة التي خص الله بها هذا الإنسان؟. وما أعظم الدور الذي أعطاه بارئه له؟. فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه، لأمر عظيم لا يصلح له إلا مخلوق عظيم. إن هذا الإنسان يتعامل مع ربه تعاملاً مباشرًا: فهو الذي خلقه الله بيده .. وهو الذي أعلن الله ميلاده في الملأ الأعلى، وفي الكون كله .. وأسكنه الجنة يأكل منها حيث يشاء ليربيه .. ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره .. وعلمه أساس المعرفة بتعليمه الأسماء كلها .. وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها .. وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تميزه عن غيره .. وأرسل له الرسل منه بهداه .. وكتب على نفسه الرحمة أن يقبل عثرته ويقبل توبته. فما أعظم نعم الله على بني آدم، وما أجل احتفاء الله بهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ

وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. ثم هذا الإنسان يتعامل مع الملأ الأعلى: أسجد الله له الملائكة .. وجعل منهم حفظة عليه .. كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه .. وأنزلهم على أهل الاستقامة يبشرونهم ويثبتونهم .. وأنزلهم على المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك .. وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم في تأنيب وتعذيب .. ويسلمون على المؤمنين في الجنة .. ويقومون على عذاب الكفار في النار. وما أكثر ما بين الملائكة والبشر من تعامل في الدنيا والآخرة. ويتعامل الإنسان كذلك مع الجن صالحيهم وشياطينهم، فله مع الشيطان أحوال وجولات، كما له مع صالحي الجن معاملات .. فهم يسمعون منه .. ويؤمنون بما يدعوهم إليه .. ويطيعونه فيما يأمرهم به، كما ذكر الله عن تسخير الجن لسليمان - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)} [سبأ: 12]. كذلك هو يتعامل ويستفيد من هذا الكون، فهو الخليفة في هذه الأرض عن الله، الذي سخر له قواها وطاقاتها وأرزاقها، وأعطاه الاستعداد لفتح ما شاء الله من مغاليق أسرارها، وهو يتعامل مع جميع الأحياء فيها. والإنسان بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك إلى العلو والمعالي. إنه يعرج إلى السموات العلى، ويتجاوز مراتب الملائكة، حين يخلص عبوديته لله وحده، ويترقى فيها إلى منتهاها وأعلاها. كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة، حين يتخذ إلهه هواه، ويتمرغ في الوحل الحيواني، أو الكيد الشيطاني، وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السموات والأرض في عالم الحس، وأبعد مدىً. والإنسان مع تفرده في هذه الخصائص ضعيف في جوانب تكوينه، حتى ليمكن

قيادته إلى الشر، والارتكاس إلى الدرك الأسفل من خطام شهواته. وهو ينحط إلى أسفل سافلين، حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد، الذي أخذ على عاتقه إغواءه في جميع الأوقات من جميع الجهات. وقد اقتضت رحمة الله به، أن لا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده، بل أرسل إليه الرسل للإنذار والتبشير والتذكير، لينجو من شهواته بالتخلص من هواه، والفرار إلى الله، والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه، وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته. وقد كان أول تدريب له في الجنة بابتلائه بما يحل وما يحرم، لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف. ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحًا له في كل لحظة، فإذا نسي ثم تذكر .. وإذا عثر ثم نهض .. وإذا غوي ثم تاب .. وجد الباب مفتوحًا له .. وقبل الله توبته .. وأقال عثرته .. وغفر ذنوبه .. ودخله جنته. فإذا استقام على الصراط المستقيم، بدل الله سيئاته حسنات، وضاعف له ما شاء. لقد نسي آدم وأخطأ، ثم تاب واستغفر، وقد قبل الله توبته وغفر له، وهذه سنة الله لآدم وذريته: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. وقد خلق الله في الإنسان ثلاث قوى: قوة العقل .. وقوة الغضب .. وقوة الشهوة. وأعلى هذه القوى القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشاركه فيه الملائكة. فالملائكة عقول بلا شهوات .. والبهائم شهوات بلا عقول .. والبشر ركب الله

فيهم عقولاً .. وجعل لهم شهوات. فالمؤمن الذي يغلب عقله شهوته خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه. ثم خلق الله في الإنسان القوة الغضبية لدفع المضرة، ثم القوة الشهوية لجلب المنفعة. وبحسب هذه القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني، وهم العرب والفرس والروم، وكل ما ساواهم تبع لهم. فهذه الأمم الثلاث هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، فهم عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار. وغلب على الفرس القوة الغضبية، من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة. واشتق اسمها من وصفها، فقيل فرس، يقال فرسه إذا قهره وغلبه. وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والشراب والنكاح ونحو ذلك. واشتق اسمها من وصفها، فالروم هو الطلب والشهوة. وهذه الصفات الثلاث غالبة على هذه الأمم الثلاث. فالعرب أفضل الأمم .. ثم تليها الفرس، لأن القوة الدفعية أرفع .. ثم تليها الروم. وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً: فضيلة العلم والإيمان التي هي كمال القوة العقلية. وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة لغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم. وفضيلة السخاء والجود، الذي هو كمال القوة الطلبية، فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة. وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث، المسلمون .. واليهود .. والنصارى. فالمسلمون فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور، فإن معجزة نبيهم هي علم الله وكلامه، وهم الأمة الوسط. واليهود فيهم القسوة، ولهذا أضعفت فيهم القوة الشهوية، حتى حرم الله عليهم

من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، وغالب معاصيهم من باب القسوة والشدة والظلم لا من باب الشهوة. والنصارى فيهم الرحمة واللين، ولهذا أضعفت فيهم القوة الغضبية، فنهوا عن الانتقام والانتصار، ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم، بل أحل لهم بعض الذي حرم على من قبلهم. وظهر في النصارى من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر في اليهود، وفيهم من الرأفة والرحمة والرقة ما ليس في اليهود. وغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب. والطبيعة البشرية كلما التوت وانحرفت عن التوحيد والطاعات، إلى الشرك والمعاصي، تحتاج إلى رادع وزاجر يزجرها عما يهلكها، ويردها إلى بارئها. فطبيعة بني إسرائيل بعدما أفسدها طول الذل والعبودية لفرعون، أرسل الله موسى - صلى الله عليه وسلم - لإنقاذها من عبودية فرعون، الذي كان من المفسدين، إلى عبودية رب العالمين. فجاءت كل الأوامر من الله لبني إسرائيل مصحوبة بالتشديد والتوكيد تربيةً لهذه الطبيعة التي ارتخت والتوت، وانحرفت عن الاستقامة والجد كما قال سبحانه عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145]. ومثل طبيعة بني إسرائيل، كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل لغير الله من الطغاة، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبًا للمشقة، كما هو ملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة، لتهرب من تكاليفها، وتسير سائمة هائمة مع القطعان الضالة، لأن السير معها لا يكلفها شيئًا. إن هذا الإنسان عجيب في خلقه .. عجيب في فكره .. عجيب في أعماله.

إنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة. فإذا أمن هذا الإنسان فإما النسيان .. وإما الطغيان .. أو كلاهما. إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة بجلاء الإيمان: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65]. والبغي من المحرمات المهلكات، سواء كان بغيًا على النفس، خاصة بإيرادها موارد الهلكة، أو كان بغيًا على الناس بظلمهم. وأعظم البغي وأشده، وأبشعه وأشنعه، البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية ومزاولتها في عباده ظلمًا وعدوانًا. والناس حين يبغون هذا البغي، يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الآخرة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} [يونس: 23]. يذوقون هذه العاقبة فسادًا في الحياة كلها .. فلا يبقى أحد لا يشقى به .. ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا فضيلة لا تضار به. فالناس إما أن يخلصوا دينهم لله .. وإما أن يتعبدهم ويذلهم الطغاة. فما أحسن أن يطيع العبد ربه الذي خلقه .. ولا يتعرض لسخطه بمعصيته: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميًا، فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله، أن يتلقى في أي شأن من شئون الحياة عن أعمى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد: 19].

إنه لا يجوز لمسلم قط يعرف هدى الله، ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد مقعد التلميذ، الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى، ولم يعلم أنه الحق، فهو أعمى بشهادة الله سبحانه، فكيف يطلب هداية الطريق من أعمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. وأعجب العجب أن بعض الناس يزعمون أنهم مسلمون، ثم يأخذون منهج الحياة البشرية عن اليهود والنصارى، أو عن فلان أو فلان، من الذين يقول الله عنهم أنهم عمي. إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون للحق، المهتدون به، أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، والذين يسيرون على هدى الله وحده، والذي يصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه. إنها قطعًا لا تصلح بالقيادات الجاهلية الفاجرة، الضالة العمياء، التي تخالف منهج الله الذي ارتضاه للبشرية قاطبة. إن جميع تلك المذاهب والنظم من صنع العمي، الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده، وما سواه باطل، ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه. وآية هذا وبرهانه القاطع الساطع هو هذا الفساد الطامي، الذي يغشى ويعم وجه الأرض اليوم، لا في بلاد الكفار فحسب، بل في ديار المسلمين كذلك. ومتى تبصر البشرية طريقها؟ .. ومتى تسعد في حياتها؟ .. ومتى ترضي ربها؟ والخلافة في هذه الأرض للعمي: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. واأسفاه .. لقد شقيت البشرية وقتًا طويلاً وهي تتخبط بين شتى المناهج .. وشتى الأوضاع .. وشتى الشرائع .. بقيادة أولئك العمي .. الذين يفسدون في الأرض

ولا يصلحون .. ويحسبون أنهم على شيء .. وهم ليسوا على شيء. إن الإنسان لا يكون سويًا ولا مأمونًا ولا صالحًا، حتى يسير على منهج الله الذي خلقه من تراب، ونفخ فيه من روحه. والتوازن بين خصائص العناصر الطينية في الإنسان، والعناصر العلوية، هو الأفق الأعلى، الذي يطلب إليه أن يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوبًا من الإنسان أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكًا، أو ليكون حيوانًا، وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان، ولا الحكمة التي خلق الله من أجلها الإنسان. فإن الله عزَّ وجلَّ جعل المخلوقات ثلاثة أقسام: أحدها: ظلوم جهول وهو الآدمي. الثاني: عالم عادل لا يتطرق إليه الجهل والظلم وهم الملائكة. الثالث: من ليس بعالم ولا عادل، ولا من شأنه أن يكسب ذلك كالبهائم. فالبهائم فانية بمراد نفسها عن مراد غيرها .. والملائكة فانية عن مراد نفسها باقية بمراد ربها منقادة مطيعة له. والآدمي أودع الله فيه قوتين: قوة ملكية .. وقوة بهيمية. فتارة يفنى بمراد نفسه، وتارة يفنى بمراد ربه، وبين القوتين تجاذبًا وتزاحمًا، فالملكية تجذب إلى العلو، والبهيمية تجذب إلى السفل، وإذا برزت إحداهما كمنت الأخرى، وهذا سر التكليف. والله عزَّ وجلَّ يمد هذه .. ويمد هذه .. حسب الطلب: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20]. والإنسان مركب من جسد وروح، ولكل واحد منهما غذاء خاص، والذي يحاول أن يعطل طاقات الإنسان الجسدية الحيوانية، هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية، كلاهما يخرج على سواء فطرته، ويريد من نفسه ما لم

يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه بتدمير جزء من كيانها الأصيل، وهو محاسب على سوء تصرفه، واختياره ما لم يأذن به الله. من أجل هذا أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من أراد أن يخرج عن سواء فطرته. عن أنس - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَألُوا أزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا بَالُ أقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأنَامُ، وَأصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (¬1). وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يخلق البشر باستعداد للهدى والضلال .. وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين .. ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين .. بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن .. والحس والقلب والعقل، حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار. ثم شاء الرؤوف الرحيم بعد هذا كله .. أن لا يدعهم لهذا العقل وحده .. فوضع لهذا العقل ميزانًا ثابتًا في شرائعه التي جاءت بها رسله .. يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر. وهو ميزان ثابت لا تعصف به الأهواء .. ولم يجعل سبحانه الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان .. ولكن جعلهم مبلغين مبشرين ومنذرين، ليس عليهم إلا البلاغ .. يأمرون بعبادة الله وحده .. وينهون عن عبادة ما سواه .. من وثنية وهوى، وشهوة وسلطان: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401) واللفظ له.

ففريق أطاع الرسل، واستجاب للإيمان والهدى، وفريق عصى الرسل، وشرد في طريق الضلال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]. وهذا الفريق .. وذلك الفريق .. كلاهما لم يخرج عن مشيئة الله .. وكلاهما لم يقسره الله قسرًا على هدى أو ضلال .. وإنما سلك طريقه بما وهبه الله من حرية في الاختيار .. بعدما زوده الله بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق .. وبعدما أرسل إليه رسله .. وأنزل عليه كتبه. والمؤمن يرى رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض، وفي ابتلائه في أثناء الخلافة، وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف. ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله، فلا يتبرم بتكاليفه ولا يضيق بها صدرًا، لأنه يؤمن أن الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه. وذلك يسكب في قلبه الطمأنينة والراحة والأنس، ويستنهض همة المؤمن وعزيمته للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه كما أخبر بذلك ربه بقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وكل إنسان سيرجع إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه، فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد. ورجعة الناس كلهم إلى ربهم فرادى تجعل كل إنسان يقف مدافعًا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد. فهو مسؤول عن نفسه، وعن حق الله فيها، وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، وعبوديته له وحده شعورًا وسلوكًا. فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فما أحد من العبيد بدافع عنه

يوم القيامة، ولا شافع له، وما أحد من العبيد بحامل عنه وزره، ولا ناصر له من الله في اليوم الآخر. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه، والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردًا وحيدًا. والمسلم يقوم بالعمل، ودائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرفه، حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة فيه، وحينذاك يتوجه إلى ربه بطلب العفو والسماح: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ويسأل ربه جل وعلا أن يثبته على الدين، ويصرف عنه الشرك الذي يوقعه في الأصر، وذلك بعبادة الله وحده، وطاعته وحده، وتلقى الشريعة منه وحده. فالشرك بالله هو الأصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده لا شريك له: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. وكذلك يسأل المؤمنون ربهم أن يرحم ضعفهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون، كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه، وإلا فهي الطاعة المطلقة، والتسليم التام. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير، وطمع الفقير العاجز في رحمة الغني القادر، والاعتراف بالضعف والتقصير لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور. فالعبد مقصر مهما حاول الوفاء والكمال، ومن رحمة الله أن يعامله بالعفو والمغفرة والرحمة. فهلاّ يتوجه المسلم إلى مولاه، ويتوكل عليه، وهو يعمل لإحقاق الحق الذي أمره الله به، والله مولاه ومعزه وناصره كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 286]. وما الأقوام .. وما العمران .. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات، هذا يسقى بالماء، وذاك يسقى بالوحي، غرس منها يزكو، وغرس منها خبيث، غرس

منها ينمو ويثمر، وغرس منها يجف ويموت غرس منها يقبل فيحيا، وغرس منها يرفض فيموت: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]. وحياة الإنسان كتاب ذو ست صفحات: الأولى: صفحة الحياة كما قال سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]. الثانية: صفحة العمل كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]. الثالثة: صفحة الاحتضار كما قال سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [ق: 19]. الرابعة: صفحة البعث والحشر كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق: 20، 21]. الخامسة: صفحة الحساب كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. السادسة: صفحة القرار في الجنة أو النار كما قال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء: 90، 91]. والواجب على الإنسان أن يمسح جميع العواطف لغير الدين، عواطف حب الدنيا، وحب المال، وحب الرئاسة، وحب الجاه، حتى لا تبقى إلا عاطفة الدين عملاً به، ودعوةً إليه. وقيمة الإنسان عند الله بما يحمل من الإيمان والأعمال الصالحة، لا بما يملك من الأموال والأشياء، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، وهذا بلاء عظيم. وهذا الكون كله مملوك لربه، خاضع له، عابد له، مطيع له، من الذرة حتى الجبل، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ

تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. ومن يؤمن من البشر، فأكثرهم إيمانه ممزوج بالشرك: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]. فالمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله .. والمشركون من اليهود قالوا عزير ابن الله .. والمشركون من النصارى قالوا المسيح ابن الله. فأي مقولة أعظم من هذه ممن وهبهم العقول؟. وأي افتراء وبهتان وجهل بالله فوق هذا؟. إن الكون كله ينتفض لهذه المقولة المنكرة في حق الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 88 - 92]. إن الكون كله يغضب لبارئه، سماواته وأرضه، وجباله وبحاره، ويهتز كل ساكن فيه، ويرتج كل مستقر، وهو يحس بتلك الكلمة العظيمة النابية من جهلة البشر في حق الله، تصدم كيانه وفطرته، وتجافي ما وقر في ضميره، وما استقر في كيانه. وفي وسط الغضبة الكونية على هذه الكلمة النابية في حق الله، يصدر من الرب البيان الرهيب: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 92، 93]. والمشركون لا يرجون لقاء الله، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم على أساسه، ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21]. إنه تطاول على مقام الله سبحانه، تطاول الجاهل المستهتر، الذي لا يحس جلال

الله في نفسه، ولا يقدر الله حق قدره. فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول؟. ومن هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر؟. ومن هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة؟. إنه لا قيمة لهم عند الله حتى يربطوا أنفسهم بالله، عن طريق الإيمان بالله، فيستمدوا منه قيمتهم. لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم، فاستكبروا وطغوا طغيانًا كبيرًا. وفي مقابل هؤلاء الكفار عباد الله الذين آمنوا بالله ورسوله، عباد الرحمن الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. هاهم أولاء بصفاتهم المميزة، مثالاً حيًا واقعًا للجماعة المسلمة التي يريدها الله ويحبها. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ الله بهم في الأرض، ويوجه إليهم عنايته، فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم لولا أن هؤلاء فيهم، وعباد الرحمن لهم سمات وصفات: فالسمة الأولى لعباد الرحمن، أنهم يمشون على الأرض هونًا، يمشون مشية سهلة هينة .. مشية سوية مطمئنة .. جادة قاصدة .. فيها وقار وسكينة .. وفيها جد وقوة .. وليس فيها تكلف ولا تصنع .. وليس فيها خيلاء ولا تنفج .. ولا تصعير خد .. ولا تخلع ولا ترهل .. وهم في جدهم ووقارهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى .. وسفه السفهاء .. ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى .. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، لا عن ضعف ولكن عن ترفع .. ولا عن عجز ولكن عن استعلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]. هذا نهارهم وسلوكهم مع الناس، فأما ليلهم فهو مع ربهم، واقفون بين يديه ركعًا سجدًا، يتقون الله، ويشعرون بجلاله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا

وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64]. وهم في قيامهم وركوعهم وسجودهم، يتوجهون إلى الله في ضراعة وخشوع أن يصرف عنهم عذاب جهنم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65]. وهم في حياتهم وأموالهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله. فحبس المال يحدث أزمات واختناق، ومثله إطلاقها بغير حساب، والاعتدال سمة من سمات الإيمان. وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس إلا بحق، ومن الزنا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]. وهذه الصفات الثلاث مفرق الطريق بين الحياة العالية الغالية والحياة السافلة الرخيصة. إنها الحياة التي يشعر الإنسان فيها بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ الهابط، وسموه إلى الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله. ومن سماتهم أنهم لا يشهدون الزور، لما في ذلك من إضاعة الحقوق، والإعانة على الظلم، ويفرون من مجالس الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعًا منهم عن شهود مثل هذه المجالس القذرة. وهم كذلك يصونون أنفسهم وألسنتهم عن اللغو والرفث والهذر، ويوفرون أوقاتهم لما كلفهم الله به: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان: 72].

ومن سماتهم أنهم سريعوا التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، يتأملون آيات الله وما فيها من صدق: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 73]. وعباد الرحمن لا تكفيهم تلك السمات والصفات، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على هديهم ونهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم، فتقر بهم عيونهم، ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74]. ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يوفون بعهد الله الذي عهده إليهم، والذي عاهدهم عليه، من القيام بحقوقه كاملة موفرة من الإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة، ومن تمام الوفاء بها أنهم لا ينقضون الميثاق: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} [الرعد: 20]. ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل من جميع أمور الدين، من الإيمان بالله ورسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودعوة الخلق إليه، وتعليمهم شرعه. ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والعمل، وعدم عقوقهم. ويصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولاً وفعلاً. ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملاً موفرًا. ومن سماتهم: أنهم يخشون ربهم ويخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، والقدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به، خوفًا من العقاب، ورجاءً للثواب: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21]. ومن سماتهم الصبر على الإسلام الخالص، إسلام القلب والوجه لله، ومغالبة

الهوى والشهوة، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة، والالتواء والانحراف. والصبر على السخرية والاستهزاء بهم، فصبروا على الإيمان، وثبتوا على العمل، فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة ولا شك، ولا ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة ولا مال ولا ولد. وصبرهم ابتغاء وجه ربهم فقط، طلبًا لمرضاة ربهم، ورجاء القرب منه، والحظوة بثوابه، وهذا الصبر من خصائص أهل الإيمان. ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخالق، ودوام ذكره وشكره والثناء عليه، ودوام ذلك بالصلاة التي يؤدونها كاملة بشروطها وأركانها. ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخلق، ومواساتهم بما يحتاجون إليه من المال وسائر المنافع، يفعلون ذلك سرًا لكمال إخلاصهم، وعلانية ليُقتدى بهم. ومن صفاتهم: أنهم يدرؤون بالحسنة السيئة، وذلك أشد من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية، إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، بالصعود إلى أفق أعلى، ودرجة أسمى، درجة السماحة الراضية، التي ترد القبيح بالجميل، وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء، والرحمة والإحسان. وذلك أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الصادقون. فمن أساء إليهم بقول أو فعل لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم، ويصلون من قطعهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم. وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بما يقابلون به المحسن؟. إن هؤلاء بصفاتهم العالية، رحمة تجري على وجه الأرض، وشمس تجري في جو السماء: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد: 22].

ومن سماتهم أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، واللغو فارغ الحديث الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه، وهو الهذيان الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب والعقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة، وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء وجه إلى مخاطب، أم حكي عن غائب. فالقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذلك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء، فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره. ينزهون أنفسهم عن اللغو، ويصونونها عن الخوض فيه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]. فأما جزاء الرحمن، تلك الخلاصة الصافية للبشرية، الذين هم لب العالم وصفوة بني آدم، أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، والأخلاق العالية. فما جزاء أولئك على صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم؟. أولئك الكرام يُستقبلون في الجنة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 75، 76]. فلهم تحية وسلام من ربهم، ومن ملائكته الكرام، ومن بعضهم لبعض، وهم سالمون من جميع المكروهات والمنغصات. أولئك الكرام لهم عقبى الدار، جنات عدن يقيمون فيها إقامة دائمة، ولا يبغون عنها حولاً، لأنهم لا يرون فوقها غاية، لما اشتملت عليه من النعيم الذي لا يزول، وليس فوقه نعيم. ومن تمام نعيمهم وسرورهم وقرة أعينهم، أنهم يدخلون الجنة، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. والملائكة يسلمون عليهم، ويهنئونهم بالسلامة، وكرامة الله لهم، ويقولون لهم صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية والنعيم

الأبدي. فيا سعادة هؤلاء: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 22 - 24]. فحقيق بكل عبد نصح نفسه، وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح، الجامعة لجميع اللذات والأفراح. ألا ما أعظم منة الله على عباده .. حيث بين لهم أوصاف من يحب .. ونعت لهم أوصافهم، ووصف هيئاتهم، وبين لهم همهم .. وأوضح أجورهم .. وكشف عن منازلهم في الجنة .. ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم .. ويبذلوا جهدهم في الاقتداء بهم .. ويسألوا ربهم أن يهديهم كما هداهم .. ويتولاهم كما تولاهم. فلله ما أعلى هذه الصفات، وما أرفع هذه الهمم، وما أزكى تلك النفوس، وما أطهر تلك القلوب. ولله ما أصفى هؤلاء الأخيار الأبرار، وما أتقى هؤلاء السادة الأئمة. ولله در هذه الأنفس ما أعزها، وهذه الأخلاق ما أحسنها، وهذه الهمم ما أرفعها. ولله فضل الله عليهم ونعمته التي جللتهم، ورحمته التي وسعتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل العالية: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17، 18]. وما قيمة البشرية كلها لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله، وتتضرع إليه، وتوقره وتحبه، وتعبده وتطيعه؟. وما هذه الأرض الواسعة التي تضم البشر جميعًا؟. إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل، والبشرية كلها إن هي إلا نوع واحد من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض، والأمة واحدة من أمم

هذه الأرض، والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم، لا يعلم عدد صفحاته إلا الله العليم الخبير. وما قيمة الإنسان بلا إيمان؟. إنه لقي ضائع لا يعبأ الله به، لو وضع نوعه كله في الميزان، ما رجحت به كفة الميزان: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان: 77]. والفقراء هم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام، الذين لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة، أو وضع اجتماعي، أو مكانة أو رياسة، ومن ثم فهم الملبون السابقون. ومن بيوت الفقراء نبت العلماء والفقهاء، والحكماء والقادة، وهم الصف الأول في إجابة الرسل والإيمان بهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. فأما الملأ الكبراء، فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم القائمة على الأوضاع المزيفة، والقائمة على احتقار من دونهم، ومن ثم يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بعامة الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح. ترفع قومًا .. وتضع آخرين .. تعز قومًا .. وتذل آخرين. وهذا ما يصد كثيرًا من الكبراء عن الإيمان كما قال الكفار لنوح - صلى الله عليه وسلم -: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)} [الشعراء: 111 - 115]. وقالوا لصالح - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} [هود: 27]. فما أجهل هؤلاء بربهم .. وما أضلهم عن معرفة سنة الله في خلقه.

إن الفقر والغنى من سنة الله في عباده، فالفقر له أوامر وله أهل، والغنى له أوامر وله أهل، والله يعلم من يصلح لهذا، ومن يصلح لهذا، ولكل منهما عبودية، فعبودية الفقر الصبر، وعبودية الغنى الشكر. أما الإيمان فهو حق للجميع، وواجب على الجميع، وحاجة الجميع، يحتاجه الغني كما يحتاجه الفقير، ويجب على الغني كما يجب على الفقير، ويستطيعه الفقير كما يستطيعه الغني: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 53، 54]. فما أسمج هؤلاء، وما أسخف عقولهم، وما أقل فقههم. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. إن الله تبارك وتعالى اصطفى آدم على مخلوقات الأرض .. واصطفى الأنبياء على البشر .. واصطفى المؤمنين على الكفار. والله عزَّ وجلَّ يريد إقامة عالم رباني خالص، عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين كلهم إلى هذا المحور، بعروة واحدة لا انفصام لها، ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى: عصبية القوم .. أو الجنس .. أو الأرض .. أو العشيرة .. أو القرابة .. أو اللون .. أو اللسان. ليجعل مكانها عقدة واحدة هي عقيدة الإيمان بالله، والوقوف تحت راية لا إله إلا الله مع حزب الله. إن العالم الذي يريده الله عالم رباني، يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله، يشمل الجنس الإنساني كله، ويجمعه في رحاب العقيدة، في رحاب الإيمان، في رحاب الشريعة. وتذوب فيه جميع فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب، وسائر ما يميز إنسانًا عن إنسان عدا عقيدة الإيمان.

وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله. ودون إقامة هذا المجتمع الفاضل المتميز تقف عقبات كثيرة منذ فجر الرسالة. وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتصعب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس، وأهواء القلوب من الحرص والشح، وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية، والالتواءات النفسية، وغيرها مما تكنه الصدور، ويوغر القلوب. والإسلام يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة. إنه يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة، ليخرج بها من هذا الضيق المحلي النفسي الحيواني، إلى الأفق العالمي الإنساني. والله تبارك وتعالى يخلق لهذا الدين من يحمله، ويهتدي بهديه، ويعتز به، ويشعرهم أنهم رجاله وحزبه. ومن ثم فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة، وتلك السمة بين الأقوام جميعًا في الدنيا والآخرة: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]. والله عزَّ وجلَّ يشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه، فهم رجاله المنتسبون إليه، الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أولياؤه وأحباؤه، يعاديهم من يعاديه، فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه. والله يدعوهم باسم الإيمان الذين ينسبهم إليه، يدعوهم ليحذرهم من حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عواتقهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]. إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة، والوشيجة التي تربطه بغيره هي الدين،

والأقارب والأرحام والأولاد إذا كانوا كفارًا، قد تجر القلوب جرًا إلى المودة، وتنسى تكاليف الدين، وتضطر المسلمين إلى مودة أعداء الله وأعدائهم وقاية لها. فهذه المودة لا تنفع، لأن العروة التي تربط المسلم بغيره مقطوعة وهي الإيمان: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 3]. فإذا انتفى العداء والعدوان من الكفار، فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل ولو كانوا كفارًا، فعسى هذا البر يكون سببًا في إسلامهم، ويعود الجميع إخوة مؤتلفي القلوب: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 7، 8]. إن الإسلام دين سلام، ودين محبة وأمن ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، ويصبغهم بصبغته، وأن يقيم فيهم منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الإسلام إخوة متحابين. ونهى الإسلام أشد النهي عن الولاء لمن قاتل المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وحكم على المؤمنين الذين يتولونهم بأنهم ظالمون: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 9]. إن القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي مسألة العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة، وحرية العقيدة، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله عز وجل. فالعقيدة هي الراية الجامعة التي يقف تحتها المسلمون أين كانوا، ومن كانوا. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم .. ومن قاتلهم من أجلها فهو عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم

وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه. ولكن أنى للكفار أن يسالموا أحدًا أو يرعوا عهدًا؟. إن من البلاء العظيم أن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة، وأن لا يرتقي الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده وقيمته ورسالته. ومن العجب كذلك أن يعلم الإنسان أنه جهاز له عمل وإنتاج، ولكن لا يدري من يدير هذا الجهاز، لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه، والعاقل يعلم أن خالق هذا الكون هو الذي يدبره. ألا ما أخطر العلم الذي يقبع في سجن المادية وجدرانها، ولا علاقة له بفاطر السموات والأرض، ولا صلة له بدينه وشرعه. إن أرباب هذا العلم يعيشون في تخلف عقلي عن العلم، وفي تخلف روحي عن الدين، وفي تخلف إنساني عما يليق بالإنسان الذي كرمه الله وفضله على ما سواه. إن هذا الإنسان عظيم، وخلق لأمر عظيم، وإن هذا الدين عظيم، وإن هذا القرآن عظيم، وإن شأن من عمل به لعظيم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 44]. فهل يفقه البشر هذا؟. وهل يفرغون من كل لغو، وينتهون إلى التسبيح باسم الرب العظيم؟. {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} [فصلت: 38]. إن الله سبحانه أكرم البشرية بالدين الذي ينظم حركة الحياة في الكون، فحركة الحياة ميدان كل إنسان سواء كان مؤمنًا أو كافرًا. فكل أحد يريد أن يتحرك في الحياة ليحصل على رزقه وقوته، وما يحتاجه مما

يعينه على أمور معاشه. لذلك كان المؤمن متحركًا في الحياة .. والكافر متحركًا في الحياة. فلا بدَّ من منهج يسير عليه البشر، ولا بدَّ أن يكون المنهج موحدًا، حتى لا يقع التصادم بين البشر، ويهلك الناس بعضهم بعضاً. فأنزل الله الدين الكامل ينظم الحياة فقبله المؤمن، ورده الكافر. فالمؤمن يتحرك في حياته وفقًا لمنهج الله المرسوم، فيسعد في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه، في علاقته مع ربه، وفي علاقته مع غيره من المخلوقات: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]. وأما الكافر فيتحرك في الحياة وفق هواه وشهواته، لا يعرف حلالاً ولا حرامًا، ولا طيبًا ولا خبيثًا، يأخذ ما شاء، ويتمتع بما شاء ويفعل ما شاء، ولا تحكم حركته حدود ولا قيود: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. وقد خلق الله السموات والأرض، والشمس والقمر، والجبال والبحار، والنبات والحيوان، ثم خلق آدم آخر المخلوقات. فلما أعد الله السكن وهيأه سبحانه، خلق من يسكنه. وكأن هذا الكون شجرة، والإنسان ثمرة لهذه الشجرة. ثم إن الإنسان في هذه الحياة انخدع بهذه المخلوقات لحاجته إليها، فاشتغل بها وغفل عن الله الذي خلقها، ففسدت أحوال الإنسانية واضطربت أحوالها، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، لهداية الناس ونجاتهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وجهد الإنسان في هذه الحياة لا يخلو من شيئين: أحدهما: جهد على الأموال والأشياء والشهوات، وهذا الجهد له أثره على القلب، يولد فيه الحرص والطمع، والجشع والحسد، والظلم والكذب،

ويجعل صاحبه لا يحب الله ولا رسوله ولا المؤمنين، ولا يرغب في الطاعات، ولا يحجز نفسه عن المحرمات. وكلما كثرت الأموال والأشياء عنده زاد حبه لها، وتعلق قلبه بها، وزاد جهده وشقاؤه، ثم يزداد كبره وإعراضه عن الدين، حتى يكمل عذابه وشقاؤه بعد الموت في النار. فما أخسر هؤلاء الناس، وإن نالوا شيئًا من النعيم الزائل في صورة عذاب: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. الثاني: جهد على الإيمان والأعمال الصالحة، وهو جهد الأنبياء والصالحين، وهو جهد الدين. وأثره على القلب أنه يولّد فيه محبة الله ورسوله والمؤمنين، وأعمال الدين، فيسعد القلب ويطمئن، ويزداد فرحه وسروره بربه. وكلما اجتهد المسلم للدين أكثر زاد إيمانه، وارتفعت درجاته، وزادت سعادته في الدنيا ثم في القبر ثم في الحشر ثم تبلغ كمالها في الجنة دار النعيم والخلود. وهذا الإنسان المؤمن يرجح بالسموات والأرض، لأنه حقق مراد الله عزَّ وجلَّ، وقدمه على شهواته ومحبوباته، والله سبحانه يكمل له شهواته ومحبوباته في الجنة كما أكمل محبوبات الله في الدنيا: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. فعلى المسلم أن يأخذ من الدنيا فقط بقدر الضرورة، ويتفرغ لما خلق له من عبادة ربه، والدعوة إليه، والعمل بشرعه، والمسارعة إلى الخيرات. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

2 - وظيفة العقل البشري

2 - وظيفة العقل البشري قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2]. وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبر كل شيء. خلق السماء والأرض، وخلق الجماد والنبات، وخلق الإنسان والحيوان، وفضل الإنسان على سائر هذه المخلوقات. فأعطاه السمع يسمع به المسموعات، ويميز بينها بعقله. وأعطاه البصر يبصر به المخلوقات ويميز بينها بعقله. وأعطاه العقل يميز به بين ما ينفعه وما يضره، ويميز به بين البدائل، فيختار هذا لمنفعته، ويرد هذا لمضرته. ويميز به بين ما يبقى وما يفنى، وما يحسن وما يقبح، من الأقوال والأفعال والأشياء، ثم يختار أحسنها وأفضلها. وبهذا العقل شرّف الإنسان على سائر المخلوقات، وصار أهلاً ليكون خليفة في الأرض. فالعقل نعمة كبرى، وهي من أكبر النعم على الإنسان بعد الإيمان، إذ بالعقل يستقبل الإنسان الوحي، وبه يؤدي السنن والأحكام في أماكنها وأوقاتها كما وردت. وقد خلق الله في الإنسان طاقات كثيرة ومن أهمها: الطاقة البدنية .. والطاقة الروحية .. والطاقة التناسلية .. والطاقة العقلية. ولو كان الله سبحانه وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها يعلم أن العقل البشري

الذي وهبه للإنسان يكفيه في بلوغ الهدى لنفسه، والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث به عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب. ولما أرسل إليه الرسل، ولما جعل حجته على عباده هي إرسال الرسل إليهم، ولما جعل حجة الناس على ربهم هي عدم مجيء الرسل إليهم. ولكن لما علم الله سبحانه أن العقل الذي آتاه الله للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى بغير توجيه من الرسالة .. وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة للإنسان في الدنيا والآخرة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة .. لما علم الله هذا شاء بحكمته ورحمته أن يبعث الرسل إلى الناس .. وأن لا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ كما قال سبحانه: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. وإذا علمنا هذا فما وظيفة هذا العقل البشري؟. وما هو دوره في مسألة الإيمان والهدى؟. وما موقفه من منهج الحياة ونظامها؟. وما وظيفة العقل البشري ودوره في أعظم وأكبر قضايا الإنسان؟. وهي قضية الإيمان بالله التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها، وبكل مقوماتها، كما يقوم عليها مآله في الآخرة، وهي أكبر وأبقى. إن دور هذا العقل أن يتلقى الدين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين الدين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما ران عليها من الشهوات والشبهات، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم للعقل منهج التلقي الصحيح، ومنهج

النظر الصحيح، ومنهج العمل الصحيح. وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل البشري أن يكون حاكمًا على الدين، من حيث الصحة والبطلان، أو القبول أو الرفض، بعد أن يتأكد صحة ثبوته عن الله ورسوله، وبعد أن يفهم مقصوده. ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها، بعد إدراك مدلولها، ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان. بل العقل ملزم بقبول أحكام الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح. فالدين يخاطب العقل ويوقظه ويوجهه، ويقيم له منهج النظر الصحيح، لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بالصحة أو البطلان، أو القبول أو الرفض على هواه. بل متى ما ثبت النص الشرعي كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أن يقبله، وأن يطيعه وينفذه، سواء كان مدلوله مألوفًا له، أو غريبًا عليه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. إن دور العقل هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص، وما المراد منه ليعمل به، وعند هذا الحد ينتهي دوره. فالنص من عند الله، وما يحمله النص من حكم هو أمر الله، وهو الحق قطعأً. والعقل ليس إلهًا يحكم بالصحة أو البطلان، أو القبول أو الرد، لما جاء من عند الله ورسوله. إن الشريعة الإسلامية تخاطب العقل، ليدرك الأحكام، والآيات الشرعية والكونية، وترغبه في ذلك، وتجعل ذلك عبادة. وتضع له المنهج الصحيح للنظر والاعتقاد والعمل في شئون الحياة. فإذا أدرك وفهم ما يعني النص الشرعي، لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة،

والانقياد والتنفيذ. والمنهج الصحيح في التلقي عن الله هو أن لا يواجه العقل مقررات الدين وأحكامه بمقررات له سابقة عليها، كوّنها الإنسان بنفسه من مقولاته وتجاربه. فالإسلام دين العقل والفطرة، يخاطب العقل بأحكامه وسننه وأوامره، ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان، ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى والإيمان في الأنفس والآفاق، ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة، وغبار الشهوات والشبهات المضلة للعقل والفطرة. ويكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحتمل أحكامه لعباده، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه. فإذا أدرك وفهم المراد من النصوص، لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، أو عدم التسليم بها فهو كافر. وليس هو حكمًا في صحتها أو بطلانها، وليس هو مأذونًا في قبولها أو ردها. أما من جعل العقل إلهًا يقبل ما يريد، ويرفض ما يرفض، ويختار ما يشاء، ويترك ما يشاء، فهذا هو الكفر الذي ينال صاحبه بسببه أشد العذاب كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. والله سبحانه خالق كل شيء، خلق هذا الكون، وأمر باتباع الشرع. فإذا قرر الله سبحانه حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى، أو إذا قرر أمرًا في فرائض الدين، أو في النواهي. فهذا الذي قرره الرب وأمر به واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه، متى أدرك المدلول منه، وفهم المراد منه. فإذا قال الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

أو قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. أو قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]. أو قال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} [الرحمن: 14، 15]. ونحو ذلك مما قاله الله سبحانه عن الكون والكائنات، والأشياء والأحياء، فالحق هو ما قال وليس للعقل أن يقول، فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للصواب والخطأ، وما قرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الحق والصواب. وإذا قال الله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. أو قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]. أو قال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]. أو قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. ونحو ذلك مما قاله الله تبارك وتعالى في شأن منهج الحياة البشرية، فالحق ما قاله سبحانه، وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى لمصلحة في كذا وكذا مما يخالف أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله، ولم يشرعه للناس. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات، وإقحام للعقل فيما ليس من شأنه. وما يقرره الله ويحكم به لا يحتمل إلا الصحة والصواب: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].

وما قرره الله وحكم به وشرعه من العقيدة، أو منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه. متى صح النص، وكان قطعي الدلالة، ولم يوقّت بوقت، فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقيدة والشعائر التعبدية، ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها، فيتبع غير شرع الله. فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته، فما دام النص مطلقًا، فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان، احترازًا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا. وإنما يكون جهد العقل في تطبيق النص على الحالة الحادثة لا في قبوله أو رده. وليس في شيء من هذا انتقاص من قيمة العقل، ودوره في الحياة البشرية، بل هو كمال الأدب مع خالقه، وحسن استقبال أوامره. والمدى أمام العقل أوسع في التعرف على طبيعة هذا الكون وطاقاته .. وقواه ومدخراته .. وطبيعة الكائنات فيه والأحياء .. ومخلوقات الله في البر والبحر .. والسماء والأرض .. وتنمية الحياة .. والاستفادة من الكائنات في حدود منهج الله .. ومعرفة بارئه وفاطره وأسمائه وصفاته .. ومظاهر قوته ورحمته .. ومعرفة نعمه وآلائه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]. وما أجهل أكثر الخلق بالله، إنهم يكفرون بالله، ويبارزونه بالمعاصي، وهو يعافيهم ويرزقهم. إن بأس الله شديد، وقوته قاهرة، ولكنه رحيم ودود ينبه الغافلين السادرين، ويوقظ فهيم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ

يَلْعَبُونَ (98)} [الأعراف: 97، 98]. إن بأس الله لأشد من أن يقف له البشر نائمين أم صاحين، جادين أم لاعبين، إنه العزيز الجبار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، السموات والأرض وما فيهما بيده أصغر من الخردلة في يد الإنسان. فأين العقول التي تدرك بأس الله في كل من طغى وكذب واستكبر؟. إن سنة الله لا تتخلف، ومشيئته لا تتوقف، وما الذي يعجزه؟، وما الذي يمنعه؟. وما الذي يؤمن المكذبين أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟، وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدون بعد ذلك؟. وما يريد الله بهذا التحذير أن يعيش الناس فزعين قلقين، يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. إنما يريد الله منهم اليقظة ومراقبة النفس، وإدامة الاتصال بالله. والإنسان يدعي العلم، وهو لا يعلم نفسه، ولا ما يستقر فيها من مشاعر، ولا يدرك حقيقة نفسه، ولا حقيقة مشاعره. فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل؟. لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله، وحين يراقب نفسه يكف عن عمله الطبيعي، فلا يبقى هناك ما يراقبه. وحين يعمل عمله الطبيعي لا يملك أن يشتغل في الوقت ذاته بالمراقبة. ومن ثم فهو عاجز عن معرفة خاصة ذاته، وعن معرفة طريقة عمله، وهو الأداة التي يتطاول بها الإنسان: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} [الحجرات: 16]. إن الإيمان بالله هو كبرى المنن التي ينعم الله بها على عبد من عباده في الأرض كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. إن إيمان العبد بالله يعرّفه بحقيقة الوجود حوله، وحقيقة الدور المقسوم له،

وحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور. ومن هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله .. ولما يقع له .. فهو يعرف من أين جاء؟ .. ولماذا جاء؟ .. وإلى أين يذهب؟ .. وماذا هو واجد هناك؟ .. وأنه موجود هنا لأمر .. وما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر .. وأنه لم يخلق عبثًا .. ولن يترك سدى، ولن يمضي مفردًا. ومن هذه المعرفة الإيمانية تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير، وعدم رؤية المطوي من الطريق. إن المؤمن يعرف بقلب مطمئن، وروح مستبشرة أنه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله، تصريف الحكيم الخبير، وأن اليد التي خلقته وألبسته إياه أحكم منه وأرحم به، وأنه يلبسه لأداء دور معين، في هذا الكون الذي يتأثر بكل ما فيه، ويؤثر في كل ما فيه. إن المؤمن يقطع الرحلة إلى الآخرة، ويؤدي الدور المطلوب منه في ثقة وطمأنينة ويقين. إنه يقطع الرحلة، ويؤدي دوره في فرح وسرور، شاعرًا بجمال الهبة، وجلال العطية الكبرى. هبة العمر الممنوح له من يد الكريم المنان الجميل اللطيف .. وهبة الدور الذي يؤديه مهما كان شاقًا .. لينتهي به إلى ربه الكريم والمقام الأمين. إن الإيمان بالله قوة دافعة، وطاقة مجمعة، ما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل، ولتحقق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة، كما أنها تستولي على مصادر الحركة كلها في الكائن البشري، وتدفعها في الطريق السوي. ذلك سر قوة الإيمان في القلب، وسر قوة الإنسان بالإيمان، فبه صنع الخوارق التي غيرت وجه الحياة، وبه يندفع المرء إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى، وبه يقف الفرد القليل الضئيل أمام قوى

السلطان الغاشم، وقوى المال الفاتن، وقوى الحديد والنار، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح الفرد المؤمن المتصل بربه. وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعًا، ولكنها قوة الله التي استمدت منها تلك الروح، والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: 17]. إنها المنّة الكبرى على العباد، منة الإيمان التي لا يملكها ولا يهبها إلا الله وحده، لمن يعلم أنه مستحق لها، وأهل للقيام بشكرها. وماذا فقد من وجد الأنس بالله بالإيمان الذي يصله بربه، وقطع رحلته على هذه الأرض في ظلال شريعة الله وهداها. وماذا وجد من فقد ذلك، ولو تقلب في أعطاف النعيم، وتمتع وأكل كما تأكل الأنعام، والأنعام أهدى منه، لأنها تعرف بفطرتها الإيمان، وتهتدي به إلى بارئها الكريم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. والله تبارك وتعالى بالآيات الكونية، والآيات الشرعية، ينبه العقل الغافل، ويوقظه لمعرفة عظمة هذا الكون، وتناسقه وجماله، ومعرفة الخالق العظيم الذي أبدعه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} [الرحمن: 7، 8]. فإلى جانب هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الواسعة، المملوءة بالمخلوقات التي تعبد ربها وتطيعه، وضع سبحانه الميزان، ميزان الحق وضعه ثابتًا راسخًا مستقرًا رحمة بالعباد. وضعه منهج حياة لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث، كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة، ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسل،

وتضمنه القرآن. وضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان فتغالوا وتفرطوا: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 9]. ومن ثم يستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران. ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر، ببناء الكون ونظامه، يرتبط بالسماء حيث يتنزل منها وحي الله ومنهجه، ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته. والله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي عطاء الربوبية عطاءً متساويًا للجميع، فالشمس ترسل أشعتها للمؤمن والكافر على حد سواء، بدون جهد من الإنسان وكذلك الهواء. والأرض تنفعل لكل من حرثها، ووضع البذرة فيها، ثم سقاها بالماء، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، وكذلك البحار والجبال والمعادن تنفعل لمن اجتهد عليها، هذا كله عطاء الرب لخلقه جميعًا. ولا أحد يستطيع أن ينكر عطاء الربوبية، لأنه ظاهر، ولا يمكن لأحد أن يدعيه لنفسه من دون الله، فعطاء الربوبية لا يختلف عليه أحد، ولكن المسألة في العبادة، فعطاء الربوبية أمامنا واضحاً جلياً، ويجب أن يقودنا إلى العبودية لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له. والعقل مخلوق كغيره، وله طاقة محدودة كغيره، يدرك بعض الأشياء ويفهمها، ويخفى عليه أكثرها. فالكون فيه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والكبير والصغير. والقرآن فيه محكم ومتشابه. ولا يعلم ذلك كله إلا الله وحده، والعقل يدرك ما أذن الله له من ذلك بمعرفته، ويجهل أكثره. والله وحده عالم الغيب والشهادة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ

الرَّحِيمُ (6)} [السجدة: 6]. والأعمال التي كلفنا الله بها قسمان: أحدها: ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا كالصلاة والزكاة والصوم ونحوها، فإن الصلاة تواضع محض، وتضرع للخالق. والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، وتطهير للنفس من الشح. والصوم تعويد على الصبر، وسعي في كسر الشهوة. الثاني: ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كبعض أفعال الحج. فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات، وتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والارتحال من منى إلى عرفات إلى المزدلفة. لكن كما يحسن من الله أن يأمر عباده بالنوع الأول، يحسن منه كذلك أن يأمرهم بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف وجه المصلحة فيه. أما الطاعة في الوجه الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد، ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف وجه المصلحة البتة فيه، لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم لمن هو أعلم منه. والعاقل يؤمن بهذا وهذا، وينقاد ويسلم لكل ما أمر الله به، وكل ما أخبر الله به: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وسمى العقل عقلاً، لأنه يعقل به صاحبه ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به من الخير، وأول تارك لما ينهى عنه من الشر. فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله .. أو نهاه عن الشر فلم يتركه .. دل على عدم عقله وجهله، خاصة إذا كان عالمًا بذلك: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44].

فلا يجوز للإنسان إذا لم يقم بما أمره الله به أن يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن على كل إنسان واجبين: أمر نفسه بالخير، ونهيها عن الشر .. وأمر غيره بالخير، ونهيه عن الشر. فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر. فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير. وكذلك النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، لأن الأفعال تؤثر أكثر من الأقوال، ولأنه تناقض لا يحسن من العاقل، ولذلك قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]. والعاقل حقًا يعلم أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق هذا الكون عبثًا ولا سدى، ولا لغير فائدة، وإنما خلقه بالحق ليقوم أمره وشرعه، ولتتم نعمته على عباده، وليروا من حكمته وقهره وتدبيره، ما يدلهم على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)} [العنكبوت: 44]. وشر الدواب عند الله هم الكفار، لأن الله أعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليستعملوها في طاعة الله، فاستعملوها في معصيته، وكان يمكنهم أن يكونوا من خير البرية، فأبوا هذا الطريق، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23]. فقامت عليهم الحجة بالسماع، وإنما لم يسمعهم الله السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرًا يصلحون به لسماع آياته، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، فالله لا يمنع عباده الإيمان والخير إلا لمن يعلم أنه لا خير فيه، ولا يزكو لديه، ولا يثمر عنده.

والعقل ضد الجنون، فالمجنون لا تكليف عليه، لأنه فقد الآلة التي يستقبل بها الوحي، وينفذ الأمر، ويجتنب النهي، وهي العقل كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]. ومن لا عقل له، لا قيد له، ولا إناء معه، ولا فائدة له. والعقل البشري ثلاثة أنواع: الأول: عقل غريزي، ينتفع به الإنسان في أمور معاشه. الثاني: عقل إيماني، مستفاد من مشكاة النبوة، وبه يستقبل الوحي، وعليه مدار سعادته في الدنيا والآخرة. الثالث: عقل نفاقي شيطاني، يظن أربابه أنهم على شيء، وهذا العقل هو حظ أكثر الناس، وهو عين الهلاك. فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، واستجلاب مودتهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم، ولو كان في معصية الله، وإطلاق شهواتهم كالحمر والبهائم. فسبحان من بيده الداء والدواء، والعافية والبلاء، والرخص والغلاء، والضلال والهدى. وسبحان من خلق آدم، وخلق من أجله الأشياء، وبث من نسله الرجال والنساء، فمنهم العالم الذاكر، ومنهم الجاهل الغافل. وسبحان من قسم الخلائق سعيدًا وشقيًا، وقسم الأرزاق بينهم فترى فقيرًا وغنيًا، وقسم العقول فترى منهم ذكيًا وغبيًا. وأنت أيها الإنسان .. وأنت أيها العاقل .. وأنت أيها الراحل. يا من سلعه كلها معيب، أمامك يوم عصيب، يا مريضًا ما يعرف أوجاعه وأسقامه، يا غافلاً عن ما يراد منه، وعن ما يراد به، وعن ما أعد له. يا من لا يردعه ما يسمعه، ولا يقنعه ما يجمعه متى تصحو؟. ما من وهى شبابه، وامتلأ بالزلل كتابه متى تفيق؟.

يا من كلما زاد عمره زاد إثمه، يا معتقدًا صحته فيما هو سقمه متى تصحو؟. فليطلب العاقل الناصح لنفسه الذروة العالية من الدين، كما يطلب أهل الدنيا الذروة العالية من الدنيا، وليشد ركائبه إلى جنة الرحمن، كما يشد الكفار ركائبهم إلى النار. ولله در تلك القلوب الطاهرة التي رفضت حلية الدنيا وإن كانت فاخرة، كم تركت لله من شهوة وهي عليها قادرة، وباتت عيونها والناس نيام ساهرة، كم بينهم وبين بائع الآخرة؟.

3 - فقه النية

3 - فقه النية قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِه فَهجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمنْ كانََتْ هجرتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوْ إلَى امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» متفق عليه (¬1). النية: هي عزم القلب على شيء ما خيرًا كان أو شرًا، ومحلها القلب. وتطلق شرعًا على الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء وجه الله تعالى. والنية شرط لقبول الأعمال، فكل عمل لا قيمة له عند الله إلا بنية. والناس في نياتهم متفاوتون: فمنهم من يكون عمله للطاعات، وتركه للمعاصي إجابة لباعث الخوف من الله عزَّ وجلَّ. ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الرجاء من الله. ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف والرجاء معًا، وهذا أكمل، كما قال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وثمة مقام أرفع من هذين: وهو أن يعمل الطاعة على نية جلال الله، لاستحقاقه الطاعة والعبودية، وهذه أعز النيات وأعلاها، وقليل من يفهمها فضلاً أن يتعاطاها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والنية: هي انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها في الحال أو في المآل. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907).

وكل إنسان مسؤول عن نيته وعمله كما قال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو مطلع على نية الإنسان المضمرة في صدره، وسيحاسب كل امرئ بما نوى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} [آل عمران: 29]. والنية تنقسم إلى قسمين: الأولى: نية العمل، بأن ينوي الوضوء أو الغسل أو الصلاة مثلاً. الثانية: نية المعمول له، وهو الله عزَّ وجلَّ فينوي بالوضوء أو الغسل أو الصلاة أو غيرها التقرب إلى الله وحده. والنيتان مطلوبتان في كل عمل، لكن الثانية أهم من الأولى. والنية في العمل لها أربعة أحوال: الأول: أن يكون أصل الباعث له على العمل طاعة الله عز وجل، دون حصول أي مصلحةٍ دنيويةٍ وراء تلك الطاعة، فهذا عمله مقبول، وهذه أعلى المراتب عند الله عزَّ وجلَّ. الثاني: أن يقصد بالعمل الدنيا فقط، ولا ينوي شيئاً من الآخرة: فهذا عمله مردود، وهذا صنيع أهل النفاق: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. الثالث: أن يستوي عنده قصد الدنيا، وقصد الآخرة، فلا اعتبار لهذا العمل عند الله. قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا

أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَ» أخرجه مسلم (¬1). الرابع: أن يكون الباعث له على العمل هو نية الآخرة، ونية الدنيا حصلت تبعاً، فهذا لا يؤثر، وهو مأجور كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} [البقرة: 198]. والأعمال الظاهرة لها ميزان .. والأعمال الباطنة لها ميزان. فميزان الأعمال الباطنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنْيَا يُصِيبُهَا أوْ إلَى امْرَأةٍ يتزوجها، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» متفق عليه (¬2). وميزان الأعمال الظاهرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ» متفق عليه (¬3). فالأول يدل على وجوب الإخلاص، والثاني يدل على وجوب المتابعة، ولا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصًا لله، صوابًا على سنة رسول الله، موزونًا بما سبق كما قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. ولما كانت الأعمال بالنيات، فعلينا أن نوسع النية، لنحصل على الأجور الكثيرة، فإن الله واسع عليم. ففي العبادة: ننوي القيام بالفرائض والنوافل، والسنن والمستحبات، إلى قيام الساعة، ونقوم بما نستطيع حسب الطاقة. وفي الدعوة: ننوي هداية العالم، والله عزَّ وجلَّ يعطينا الأجر على قدر النية، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2985). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718) واللفظ له.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت نيته هداية العالم، ودعوتهم إلى الله، ولكنه لم يخرج من الجزيرة العربية، ولكن الله كتب له أجر كل من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. وفي العلم: ننوي طلب العلم إلى يوم القيامة، وننوي تعليم الأمة ما جاء عن الله ورسوله من السنن والأحكام والآداب ابتغاء وجه الله، والله يعطينا الأجر على قدر النية. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» متفق عليه (¬1). وهكذا في باقي الأعمال، ننوي الاستعداد للقيام بأي عمل، فإذا قمنا به كان لنا الأجر بالعمل، والباقي بالنية. فالنية أساس الأمر وعموده وأساسه، وأصله الذي يبنى عليه، فهي روح العمل وقائده وسائقه وحامله، والعمل تابع لها مبني عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها. وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة. فكم بين مريد بالفتوى مثلاً وجه الله ورضاه، والقرب منه وما عنده من الثواب، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته، وما يناله منه خوفًا أو طمعًا، أو يطلب بها الرئاسة والشهرة. فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة، أو يصليان الصلاة الواحدة، أو يؤديان الزكاة الواحدة، أو يقدمان النصيحة الواحدة، وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6491)، واللفظ له، ومسلم برقم (131).

بين المشرق والمغرب. هذا نيته أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، ورسوله هو المطاع، راغبًا في ثواب ربه، طالبًا مرضاته. وذلك نيته أن يكون قوله هو المسموع، وهو المشار إليه، وجاهه هو القائم، سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما. لكن من سنة الله سبحانه أن يلبس المخلص من المهابة والنور، والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه، ما هو بحسب إخلاص العبد ونيته ومعاملته لربه. ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور، من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به بحسب نيته. والله عزَّ وجلَّ وضع الأقوال والأفعال بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد الإنسان من أخيه شيئًا عرف بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب سبحانه على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ. ولم يرتب الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة قول أو فعل، ولا على مجرد ألفاظ المتكلم بها لم يرد معانيها، ولم يحط بها علمًا. بل تجاوز للأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به. وتجاوز لها عما تكلمت به أو عملته مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه. قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ولما نزلت هذه الآية قال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (126). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5269) واللفظ له، ومسلم برقم (127).

فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، وهذا من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب، وإرادات النفوس، لا تدخل تحت الاختيار، فلو ترتبت عليها الأحكام، لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، ورحمة الله تعالى وحكمته تأبى ذلك. والغلط والسهو والنسيان وسبق اللسان بما لا يريده العبد، أو التكلم به مكرهًا وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية، لا يكاد الإنسان ينفك عن شيء منه، فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة، وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله، حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر، وكذلك الخطأ والنسيان، والإكراه والجهل بالمعنى، وسبق اللسان بما لم يرده، والتكلم في الإغلاق، ولغو اليمين. فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها، لعدم قصده ونيته، وعقد قلبه الذي يؤاخذ به، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. فالخطأ من شدة الفرح كما في حديث فرح الرب بتوبة عبده، وقول الرجل من شدة فرحه لما وجد راحلته: «اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» أخرجه مسلم (¬1). وأما الخطأ من شدة الغضب فكما قال سبحانه: فلو أجاب الله دعاء من دعا على نفسه وولده حال الغضب، لأهلك الداعي من دعا عليه. وأما الخطأ من السكر فكما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. فلم يرتب على كلام السكران حكمًا حتى يعلم ما يقول. وأما الخطأ والنسيان فقد قال سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2747).

فقال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم (¬1). وأما المكره فقد قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]. وأما اللغو فقد رفع الله المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب عليه كما قال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ، والخطأ في القصد، فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين. وأما الإغلاق فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران، والمكره والغضبان، فقد تكلم في الإغلاق. والله سبحانه رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرهًا، لما لم يقصد معناها ولا نواها. فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق، والوقف واليمين والنذر مكرهًا، لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده، وقد أتى باللفظ الصريح، فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به. والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة، ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقًا من غير قصد لفرح إو دهشة أو نحو ذلك. ومن غصب مالاً وبنى به مسجدًا، أو حفر به بئرًا للناس والبهائم، فهذا النفع الحاصل للناس متولد من مال هذا، وعمل هذا، والغاصب وإن عوقب على ظلمه وتعديه، واقتص للمظلوم من حسناته، فما تولد من نفع الناس بعمله له، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (126).

وغصب المال عليه. وهو لو غصبه وفسق به لعوقب عقوبتين، عقوبة على الغصب، وعقوبة على الفسق به. فإذا غصبه وتصدق به، أو بنى به مسجدًا، أو فك به أسيرًا، فإنه قد عمل خيرًا وشرًا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]. وأما ثواب صاحب المال المغصوب، فإنه وإن لم يقصد ذلك، فهو متولد من مال اكتسبه، فقد تولد من كسبه خير لم يقصده، فيشبه ما يحصل له من الخير بولده البار، وإن لم يقصد ذلك الخير. وكذلك فإن أخذ ماله مصيبة، فإذا أنفق في خير، فقد تولد له من المصيبة خير، والمصائب إذا ولدت خيرًا، لم يعدم صاحبها منه ثوابًا. والنية المجردة عن العمل يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» أخرجه مسلم (¬1). والنيات محلها القلب، وإذا صح القلب صلحت النيات، وإذا فسد القلب فسدت النيات، وانعكست الآثار على الجوارح خيرًا أو شرًا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬2). والمحاسبة عند الله عزَّ وجلَّ على ما في القلب من النيات والأعمال التي تتبعها. أما الأجساد والصور والألوان فليست محل محاسبة عند رب العالمين كما قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1911). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وأموالكم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعماكم» أخرجه مسلم (¬1). ولا يقبل الله عزَّ وجلَّ من النيات والأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (¬2). وكل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، وإذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» متفق عليه (¬3). ويؤجر المسلم على جميع الأقوال والأعمال الصالحة إذا كانت مقرونة بالنية الشرعية، وهي التقرب بذلك العمل إلى الله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «ولست تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلا اُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللقمة تجعلها فِي فِي امْرَأتِكَ» متفق عليه (¬4). اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2985). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (31)، ومسلم برقم (2888). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (56)، ومسلم برقم (1628).

4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

4 - العلوم الممنوحة والممنوعة قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان بأنواعه: البيان الذهني .. والبيان اللفظي .. والبيان الكتابي .. والبيان بالإشارة. وأعطاه العقل الذي بواسطته يستقبل العلم الذي فيه صلاحه، وصلاح معاشه ومعاده، ويسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم، فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، وجمعها وشرحها وفصلها وبينها في كتابه عزَّ وجلَّ. ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فليس في العلوم ما هو أجلّ وأعظم وأبين وأيسر منها، لعظم حاجة الإنسان إليها في معاشه ومعاده: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. ثم وضع سبحانه في العقل من الإقرار بحسن شرعه ودينه، الذي هو ظله في أرضه، وعدله بين عباده، ونوره في العالم. فيه تبيان كل شيء .. وتفصيل كل شيء .. ومعرفة الحق من الباطل .. وبيان الهدى من الضلال .. ومعرفة التوحيد من الشرك .. وبيان أسماء الله وصفاته وأفعاله .. وما يحبه وما يسخطه .. وبيان ثواب أهل الطاعة .. وعقوبة أهل المعصية .. وغير ذلك من بركاته. فلو اجتمعت عقول العالمين كلهم، فكانوا على عقل أعقل رجل منهم، لما أمكنهم أن يقترحوا شيئًا أحسن منه، ولا أعدل ولا أنفع، ولا أصلح ولا أهدى للخليقة في معاشها ومعادها منه.

فهو أعظم آياته، وأوضح بيناته على ربوبتيه وألوهيته، وعدله وإحسانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]. وكذلك أعطاهم الله سبحانه من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجتهم، كعلم الطب والحساب، وعلم النبات والزراعة، وعلم الصناعة والمعادن، واستخراج المياه، وإقامة المباني، وصناعة وسائل النقل والاتصالات، وصناعة الأدوية، وطرق الصيد، والتصرف في وجوه الكسب المشروع والتجارة، ونحو ذلك مما فيه قيام مصالح العباد، وتيسير معاشهم. فسبحان العليم الحكيم الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، وزوده بآلات العلم والمعرفة، فمتى يشكر الإنسان هذه النعم؟. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. ثم إن الله تبارك وتعالى منع البشر علم ما سوى ذلك، مما ليس من شأنهم ولا حاجة لهم به، ولا مصلحة لهم فيه، ولا نشأتهم قابلة له كعلم الغيب .. والعلم بكل ما كان وما يكون .. والعلم بما في قلوب الناس .. والعلم بعدد القطر .. وعدد أمواج البحار .. والعلم بعدد ذرات الرمال .. والعلم بعدد الأوراق ومساقطها .. والعلم بعدد الكواكب ومقاديرها والمسافات بينها. والعلم بما فوق السماوات .. وما تحت الثرى .. وما في لجج البحار .. وما في أقطار العالم من المخلوقات والحركات. والعلم بتسبيح الجبال والطير والحيوان والنبات .. ومعرفة ما في الأرحام، ووقت نزول الأمطار .. وعدد الأنفاس .. إلى سائر ما حجب الله عن البشر علمه، واختص بعلمه عالم الغيب والشهادة. فمن تكلف علم ذلك فقد ظلم نفسه، وتدخل فيما لم يؤمر به، وتجاوز ما حد له، وكلف نفسه ما لا طاقة له به، وأوضاع أوقاته فيما لا يمكنه الإحاطة به.

ومن حكمته سبحانه ما منع عباده من العلم بوقت قيام الساعة، ومعرفة آجالهم، ومقدار مكاسبهم، وأماكن موتهم، وطوى علم ذلك عن جميع خلقه، واختص به وحده كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]. وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر. فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصيرًا لم يهنأ بالعيش، وكيف يهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت. وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول إذا قرب الوقت أحدث توبة. وهذا لا يرضاه العباد من بعضهم، فكيف يرضاه رب العباد. فلو أن عبدًا أسخط سيده سنوات، ثم لما علم أنه صائر إليه أرضاه ساعة، لم يقبل منه، ولم يرض عنه. وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه توبة ولا إقلاع: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 17، 18]. فما أعظم حكمة الله في عباده .. وما أعظم نعمه عليهم .. حيث ستر عنهم مقادير آجالهم .. ومبلغ أعمارهم .. ومكان وفاتهم. فلا يزال من وفقه الله يترقب الموت في كل يوم، بل كل لحظة، فيكف عما يضره في معاده، ويجتهد فيما ينفعه ويسر به عند القدوم على ربه. فسبحان مالك الملك، ومدبر الدهور والخلائق، القائم على كل نفس، الذي إذا شاء أحيا، وإذا شاء أمات، وإذا شاء أعطى، وإذا شاء منع، وإذا شاء عافى، وإذا

شاء أسقم، وإذا شاء أغنى، وإذا شاء أفقر، وإذا شاء هدى، وإذا شاء أضلَّ. وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه، وهو أعلم بمن يصلح له، ومن لا يصلح، ومن يشكر النعمة، ومن لا يشكرها. كاشف الكربات .. ومجيب الدعوات .. ومغيث اللهفات .. وغافر الخطيات. أحاط بكل شيء علمًا .. وأحصى كل شيء عددًا .. ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. إن هذا الكون العظيم هو كتاب الحق المفتوح، الذي يقرأ بكل لغة، ويدرك بكل وسيلة، ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ، وساكن العمائر والقصور. كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده، فيجد فيه زادًا من الحق حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق، وهو قائم مفتوح كل آن: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 8]. ولكن العلم الإنساني الحديث يطمس هذه التبصرة، أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين والخالق الحكيم، لأنه في رؤوس مطموسة، رانت عليها خرافة المنهج العلمي الوثني، الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. أما كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي أنزله على رسوله، فقد جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وفيه العلم الحق الذي ينبغي لكل مسلم أن يتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10]. والعلم الحق أن يعرف الإنسان حقيقة الارتباط بين هذا الكون وخالقه، وحقيقة

الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه. وهاتان حقيقتان ضروريتان لكل علم حق، وبدونهما يبقى العلم قشورًا لا تؤثر في حياة الإنسان، ومعلومات تصدع الرؤوس. ومن أوتي من العلم مالا يبكيه، ولا يبعثه لطاعة ربه، ولا يزجره عن معصيته، خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، ويؤثر في عقله وقلبه، وروحه وبدنه، لأن الله وصف العلماء بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107 - 109]. وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28] ومن علم هذا تفطر قلبه على كل علم يجر إلى الكبر، ولا يبعث على الخشية والعمل. وشعور الإنسان بأن له خالقًا، خلقه، وخلق هذا الكون، يغير من شعوره بالحياة، ويجعل لوجوده قيمةً وهدفًا. وشعوره بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه يغير من فكره وعمله. فيؤثر الإيمان على الكفر .. والأعمال الصالحة على ما سواها .. والآخرة على الدنيا .. والأوامر على الشهوات .. والسنن على العادات. فسبحان من استأثر بعلم كل شيء، وأحاط بكل شيء، وقدر كل شيء، وتصرف في كل شيء، وله كل شيء. فالله قوي والعبد ضعيف .. والله قادر والعبد عاجز .. والله غني والعبد فقير .. والله عليم بكل شيء .. والعبد جاهل بكل شيء إلا ما علمه الله إياه. أعلمه الله أشياء .. وأخفى عنه أشياء .. وأقدره على أشياء .. وأعجزه عن أشياء .. وهو الحكيم العليم. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا هداة مهتدين.

5 - أقسام العلم

5 - أقسام العلم قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} [البقرة: 31، 32]. وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104]. العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج، وإثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة علمية من النفس، وإثباتها في الخارج. والعلوم باعتبار منفعتها نوعان: الأول: علم تكمل النفس بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، وكتبه وأمره ونهيه. الثاني: علم لا يحصل للنفس به كمال، وهو كل علم لا يضر الجهل به، فإنه لا ينفع العلم به، كدقائق علم الفلك ودرجاته، وعدد الكواكب ومقاديرها، ونحو ذلك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع. والعلوم باعتبار مصدرها تنقسم إلى قسمين: علوم شرعية .. وعلوم غير شرعية. فالعلوم الشرعية: هي ما استفيد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي قسمان: منها ما يتعلق بالقلوب كالإيمان والتوحيد، والخوف والرجاء، والمحبة والتوكل ونحو ذلك. ومنها ما يتعلق بالجوارح وهو علم المسائل والأحكام كالعلم بكيفية العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك.

والعلوم التي ليست بشرعية ثلاثة أقسام: علم محمود .. وعلم مذموم .. وعلم مباح. فالعلم المحمود: ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، فالطب ضروري لبقاء الأبدان وسلامتها، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله، وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وهو أفضل العلوم بعد علم الشرع، وفيه أجر بحسب نية صاحبه. وكذلك الحساب، فإن تعلمه ضروري في المعاملات والبيوع، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها، وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الفرض عن الباقين. فهذه العلوم وغيرها من أصول الصناعات كالفلاحة والخياطة والحياكة ونحوها مما يحتاجه عموم الناس في حياتهم، لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وتعرضوا للهلاك، وهي فرض كفاية. فلا يجوز إهمالها لما فيها من منافع للناس في معاشهم، لكن نتعلم منها، ونعلم بقدر الحاجة فقط. وأما المذموم منه: فعلم السحر والكهانة والشعوذة ونحوها مما يفسد البلاد والعباد والأخلاق. وأما المباح منه: فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار والأحداث ونحو ذلك. والعلوم باعتبار ذاتها ثلاثة أقسام: قسم محمود قليله وكثيره .. وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل .. وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وخزائنه ووعده ووعيده. وقسم مذموم قليله وكثيره .. وهو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا، إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والكهانة والنجوم ونحو ذلك.

وقسم يحمد منه مقدار الكفاية، ولا يحمد الفاضل عليه، والاستقصاء فيه، وهو علم الطب والحساب، وأصول الصناعات ونحوه من فروض الكفايات. وأنواع العلم خمسة: علم هو حياة الدين وأصله: وهو علم التوحيد. وعلم هو غذاء الدين: وهو علم الإيمان، والتذكر، والتفكر في الآيات القرآنية والآيات الكونية. وعلم هو دواء الدين: وهو علم المسائل، وعلم الفتوى، فإذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه بحكمها. وعلم هو داء الدين: وهو الكلام المحدث، والقول على الله بلا علم. وعلم هو هلاك الدين: وهو علم السحر والكهانة ونحوهما. وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعلمون الدين، فإذا ذهبوا إلى بيوتهم صاروا معلمين لأهلهم الدين، فإذا خرجوا إلى الأسواق والبلاد كانوا دعاة ومبلغين للدين، فإذا كانوا في ميدان الجهاد كانوا مجاهدين يقاتلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. والعلم الشرعي له شعبتان: فضائل .. ومسائل. فمذاكرة الفضائل تولد الشوق والطلب والرغبة لامتثال أوامر الله، وأوامر رسوله، وهي من الإيمان، ونتعلمها قبل الأحكام، فإن القلوب تتأثر من كلام الله ورسوله، وبها تُعرف قيمة الأعمال، فتتحرك الجوارح لأداء الطاعات بالرغبة والشوق. والمسائل: هي الأحكام التي نتعلمها، ونعمل بها، ونعلمها للناس، والقصد من معرفتها أن تكون جميع أعمالنا على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا ريب أن الذين أوتوا العلم والإيمان، أرفع من الذين أوتوا الإيمان فقط، والعلم الممدوح هو الذي ورثه الأنبياء لأممهم، وهذا العلم ثلاثة أقسام:

الأول: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر. والناس في العلم بذلك متفاوتون، فمستقل ومستكثر ومحروم، والله عليم حكيم {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. الثاني: العلم بما أخبر الله تعالى به مما كان من الأمور الماضية، أو ما يكون من الأمور المستقبلة والحاضرة، وفي مثله أنزل الله قصص الأنبياء مع أممهم، وأخبار اليوم الآخر، وما فيه من الوعد والوعيد ووصف الجنة والنار. الثالث: العلم بما أمر الله به، وما نهى عنه، من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله، ومن معارف القلوب وأحوالها، وأحوال الجوارح وأعمالها، وهو دين الله وشرعه لعباده. والعلم من حيث الحصول عليه ثلاث درجات: الأولى: علم جلي، وهو ما يدرك بالحواس كالسمع والبصر والعقل، وهي طرق العلم وأبوابه، وكذلك ما يدرك بخبر الصادق، وما يحصل بالفكر والاستنباط. والفرق بين العلم والمعرفة، أن المعرفة لب العلم، ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان. الثانية: علم خفي، ينبت في القلوب الطاهرة من كدر الدنيا، والاشتغال بها، وفي الأبدان الزاكية التي زكت بطاعة الله، ونبتت على أكل الحلال. فمتى خلصت الأبدان من الحرام، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا، زكت أرض القلب، فقبلت بذر العلوم والمعارف. الثالثة: علم لدني، وهو ما يحصل للعبد من غير واسطة، بل بإلهام من الله، وتعريف منه لعبده. والعلم اللدني: ثمرة العبودية والمتابعة، والصدق مع الله، والإخلاص له، وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله، والانقياد له، فيفتح الله له من فهم

الكتاب والسنة بأمر يخصه به. فالعلم اللدني الرحماني هو ثمرة هذه الموافقة والانقياد، والمحبة التي أوجبها التقرب بالنوافل بعد الفرائض. واللدني الشيطاني: هو ثمرة الإعراض عن الوحي، وتحكيم الهوى والنفس والشيطان. والعلماء ثلاثة أقسام: الأول: عالم بالله، وبأمر الله، فهذا في أعلى الدرجات. الثاني: عالم بالله، غير عالم بأمر الله. الثالث: عالم بأمر الله، غير عالم بالله. أما الأول فهو الذي عرف ربه وعظمته وجلاله، وعرف أحكام دينه وشرعه، فهذا سبيل الأنبياء والصديقين. وعلامته أن يكون دائم الذكر لربه، خائفًا منه، مستحيًا منه، عابدًا له، مطيعًا له، محبًا له، معظماً له. وهو أعلى وأفضل مما بعده، لكونه معلمًا للقسمين بعده، وكونه بحيث يحتاجان هما له، ويستغني هو عنهما. وأما الثاني فهو الذي استولت المعرفة الإلهية على قلبه، فهو يرى عظمة الله وكبرياءه فلا يتفرغ لتعلم الأحكام إلا ما لا بد منه. وأما الثالث فهو الذي عرف الحلال والحرام، وحقائق الأحكام، لكنه لا يعرف أسرار جلال الله وعظمته وجماله وحقوقه على عباده. ومعرفة الله سبحانه نوعان: أحدها: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها جميع الناس، البر والفاجر، والمطيع والعاصي، كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172].

الثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وخشيته، والأنس به، والفرار من الخلق إليه، والتوكل عليه وحده، والناس فيها متفاوتون. ولهذه المعرفة بابان واسعان: الأول: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن، والفهم الخاص عن الله ورسوله. الثاني: باب التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمة الله فيها، ومعرفة عظمته في بديع صنعها. وجماع ذلك: الفقه في أسمائه وصفاته سبحانه، والفقه في أوامره ونواهيه، والفقه في قضائه وقدره، فمن أوتيه فليحمد الله بالعمل به، والدعوة إليه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. ومن رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم الرسل بآيات تبين الحق وتظهره، وتوضح المشكل، وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للأبصار، يرى بها الإنسان كل شيء جليًا كما قال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104]. فيا أيها الإنسان .. عش ما شئت فإنك ميت .. وأحبب من شئت فإنك مفارقه .. واعمل ما شئت فإنك ملاقيه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. وكمال الإنسان لا بذاته، بل بإيمانه وعلمه وعمله، وأشرف العلوم وأجلّها وأكملها وأزكاها: العلم بالله وأسمائه وصفاته .. والعلم بدينه وشرعه. فالأول معرفة المعبود، والثاني معرفة ما يتقرب به العبد إلى المعبود، ولا بدَّ لكل عبد من هذا وهذا كل يوم. الأول فيه غذاء قلبه وروحه، والثاني فيه عبودية بدنه وجوارحه. وبذلك يكمل ظاهر الإنسان وباطنه، وسره وعلانيته، وقلبه وبدنه، ويسعد في

دنياه وآخرته. والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين: علوم خبرية اعتقادية .. وعلوم طلبية عملية فالأول: كالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بملائكته وكتبه ورسله، والعلم باليوم الآخر، وما فيه من البعث والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، ونحو ذلك. الثاني: العلوم العملية الطلبية، وهي ما يتعلق بأعمال القلب والجوارح من الأحكام، من الأركان والواجبات، والسنن والمستحبات، والمحرمات والمكروهات، والمباحات.

1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98]. العلم بالله ما قام عليه الدليل، وهو تركة الأنبياء التي يرثها العلماء عنهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين. وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال. وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد. وبه يُعرف الله ويُعبد، ويُذكر ويحمد، وبه تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام. وهو حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى ربهم وإلى جنته، ولا دليل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة. وأفضل ما اكتسبته النفوس، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية في الدنيا والآخرة. وأكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان، اللَّذَين بهما السعادة والرفعة، وأكثرهم ليس معهم إيمان ينجي، ولا علم يرفع، بل قد سدوا على أنفسهم طرق العلم والإيمان اللَّذين جاء بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا إليهما الأمة. وكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ

حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون: 53]. وأعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل. وأخس الهمم في طلب العلم من قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، وشغل الأوقات والناس بذلك، وكانت همته معرفة الاختلاف، وتتبع أقوال الناس، وضرب بعضها ببعض، وشحن أذهان الناس بذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]. وأعلى الهمم في باب الإرادة والعمل، أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله، والوقوف مع مراده الديني الأمري. وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله لا غير، فهو إنما يعبد الله لمراده منه، لا لمراد الله منه. فالأول: يريد الله، ويريد مراده من الله، والثاني يريد من الله وهو فارغ عن إرادته. ولذة العلم أعظم اللذات، واللذة التي يجد الإنسان طعمها في الحياة، والتي تبقى بعد الموت، وتنفع في الآخرة، هي لذة العلم بالله وأسمائه وصفاته، ولذة مناجاته وعبادته، وهي لذة الإيمان والأعمال الصالحة. فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه. وفضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته .. وتارة من شدة الحاجة إليه .. وتارة من ظهور النقص والشر بفقده .. وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده .. وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وإفضائه إلى أجلّ المطالب. وهذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم، فإنه أعم شيء نفعاً، وأكثره وأدومه، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفس. والعلم ملائم للنفوس غاية الملاءمة، والجهل مرض ونقص، وهو في غاية

الإيذاء والإيلام للنفس. والعلوم غذاء للقلوب .. والأطعمة غذاء للأبدان .. والعلوم متفاوتة أعظم التفاوت وأبينه كالأطعمة. فليس علم النفوس بفاطرها وبارئها ومبدعها، ومحبته والتقرب إليه، كعلمها بالطبيعة وأحوالها. وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولا ريب أن أجلّ معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين. فأجل العلوم وأفضلها وأشرفها هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، بل هو أصلها كلها. فإن العلم الإنساني لا يساوي ذرة بالنسبة للعلم الإلهي، وما يعلمه الإنسان من العلوم لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، والعلم بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه. فهو في ذاته سبحانه رب كل شيء ومليكه، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه، فمن عرف ربه عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، والأنعام السائمة خير منه. ولا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم للقلب من معرفة ربه، ومحبة فاطره وباريه، ودوام ذكره، والسعي في مرضاته، وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه. وله خلق الخلق .. ولأجله نزل الوحي .. وأرسلت الرسل .. وقامت السموات والأرض .. وخلقت الجنة والنار. ولأجله شرعت الشرائع، وقام سوق الجهاد، وضربت أعناق من أباه، وآثر غيره عليه. ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك والمنافسة فيه إلا من باب العلم، فإن محبة

الشيء فرع عن الشعور به. وأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له وخضوعاً له وتعظيماً له، والعلم يفتح الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر. ومن أحب شيئاً كانت لذته عند حصوله على قدر حبه إياه، والحب تابع للعلم بالمحبوب، ومعرفة جماله الظاهر والباطن. فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته، وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله. فالعلم أقرب الطرق إلى أعظم اللذات، وكل ما سوى الله مفتقر إلى العلم، فالخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته، وما قامت السموات والأرض إلا بالعلم، وما بعثت الرسل إلا بالعلم، وما أنزلت الكتب إلا بالعلم، ولا عُبد الله وحده وحُمد وأُثني عليه ومُجد إلا بالعلم، ولا عُرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عُرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومحبته وطاعته، والتقرب إليه، وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته، والله يستحقه لذاته. وهو سبحانه المحبوب لذاته، الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له، فهو يستحق ذلك؛ لأنه أهل أن يُعبد، ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، ولو لم يضع ثواباً ولا عقاباً. فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته، ولما له من أوصاف الكمال والجلال والجمال. وحبه عزَّ وجلَّ والرضا به وعنه، والذلة والخضوع له والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك، كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه. والطريق إلى العلم بأن الله لا إله إلا هو أمور: أحدها: بل أعظمها تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته، وجلاله وجماله، فإن معرفة ذلك يوجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب

الكامل الذي له كل حمد ومجد، وجلال وجمال. الثاني: العلم بأن الله وحده المتفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المتفرد بالألوهية والعبودية. الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به، ومحبته وعبادته وحده لا شريك له. الرابع: العلم بنصره لأوليائه، وخذلان أعدائه، فإن ذلك يوجب التعلق به وطاعته، والحذر من معصيته، وإخلاص العبادة له. الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك ولا يملك عابدوها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، ولا تجلب خيراً، ولا تدفع شراً. فالعلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله، وتعلق القلب به، وبطلان ألوهية ما سواه. وتدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته هو الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ومعرفة الله بآياته ومخلوقاته، ومعرفة جلاله وجماله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الإقبال على الطاعات، والانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28]. والعلم بعظمة الله وكبريائه داع إلى خشيته، وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال سبحانه: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8]. فأشرف العلوم وأزكاها، وأعلاها وأعظمها، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

فلا بدَّ للعبد الضعيف العاجز .. الفقير المحتاج .. الظلوم الجهول .. الذي لا يستغني عن ربه طرفة عين أن يعرف ربه الذي يربيه بنعمه الظاهرة والباطنة، وأن يعرف إلهه ومعبوده الذي تكفل بكل ما يحتاجه العباد: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). لا بدَّ لهذا العبد أن يعرف أن ربه هو القوي وحده؛ ليستعين به وحده. ويعرف أن ربه هو الغني وحده؛ ليطلب منه وحده كل ما يحتاجه. ويعرف أن ربه هو العفو وحده؛ فيطلب منه مسامحته. ويعرف أن ربه هو الغفور وحده؛ ليطلب منه مغفرة ذنوبه. ويعرف أن ربه هو الملك وحده؛ فيتوجه إليه بالطاعة والعبودية وحده. ويعرف أن ربه هو الرحمن؛ ليطلب منه الرحمة. ويعرف أن ربه هو اللطيف؛ ليسأله اللطف به. ويعرف أن ربه هو الكريم؛ ليشكره على إحسانه وإنعامه. ويعرف أن ربه هو العزيز؛ فيطلب منه أن يعزه في الدنيا والآخرة. ويعرف أن ربه الكبير؛ ليكبره، وأنه العظيم؛ ليعظمه، وأنه الخالق؛ فيخصه بالعبادة وحده دون سواه. ويعرف أن ربه العليم بكل شيء؛ فيسأله أن يعلمه، ويحذر من معصيته. ويعرف أن ربه الحي القيوم؛ ليسأله أن يكلأه ويحفظه. ويعرف أن ربه الرزاق؛ ليسأله أن يرزقه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).

وهكذا في بقية الأسماء يتعلمها، ويحفظها، ويعبد الله بمقتضاها: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180]. وقد ذكرنا تفصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله في الباب الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه. إن معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله هي الفقه الأكبر، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وهي أساس دعوة الرسل، إذ لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها وفاطرها ومعبودها، وأن يكون أحب إليها مما سواه، وأن تسعى فيما يقربها إليه دون سائر خلقه. والعقول محال أن تستقل بمعرفة ذلك فاقتضت رحمة الله أن بعث الرسل إلى خلقه مبشرين ومنذرين، وبه معرفين، وإليه داعين. وجعل لب دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة الرب المعبود بألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان: الأول: تعريف الناس بالطريق الموصل إليه، وهو شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه في الآخرة، من النعيم المقيم لمن أطاعه وآمن به، والعذاب الأليم لمن كفر به وعصاه. والله عزَّ وجلَّ رؤوف بالعباد، جواد كريم، عفو غفور، وليس العجب من مملوك فقير عاجز يتذلل لله ويتعبد له، ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه. إنما العجب الذي يأخذ الألباب والعقول من مالك غني قادر يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه. والله عزَّ وجلَّ محسن، والعبد مسيء أو مفرط أو مقصر، فطوبى لعبد إن آخذه ربه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله. وإن عمل حسنة رآها من منَّته، وإن عمل سيئة رآها من تخلِّيه عنه وخذلانه له.

فإن عذبه عليها فبعدله، وإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده. ومن أعجب الأشياء: أن تعرف الله بجلاله وجماله ثم لا تحبه ولا تطيع أمره. وأن تسمع داعيه يدعوك إليه ثم لا تجيبه. وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره وتعرض عنه. وأن تعرف قدر حلمه وعفوه ومغفرته ثم لا تقف ببابه. وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له بالمنكرات والمعاصي: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. فسبحان الله ما أضعف بصائر العباد؟. كيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة، ولا يملك مثقال ذرة؟. بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه. فإنه على قدر خوفك من غير الله، يسلطه الله عليك، وعلى قدر رجائك لغير الله يكون الحرمان. وأساس كل خير أن يعلم العبد أن الله يراه ويسمعه، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله وحده. وحينئذ يتيقن العبد أن الحسنات من نعم الله فيشكره عليها. ويتضرع إليه أن لا يقطعها عنه. وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فيبتهل إليه أن يحول بينه وبينها، وأن لا يكله في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه. والعارف: هو من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في نيته ومقصوده وعمله. ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة، وآفاته المشينة. ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه

وبلياته. ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله. ومن علامات المعرفة بالله حصول الهيبة منه، وحصول السكينة، فمن ازدادت معرفته بربه، ازدادت هيبته وسكينته، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف. ومن عرف الله تعالى بكماله وجلاله وجماله ضاقت عليه الدنيا بسعتها شوقاً إلى ربه، فالدنيا سجن المؤمن، واتسع عليه كل ضيق؛ لأطمئنانه بربه وثقته به. ومن عرف الله عزَّ وجلَّ قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، وقرت به كل عين، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق. ومن عرف الله تبارك وتعالى لم يبق له رغبة فيما سواه، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وتلذذ بذكره وعبادته، وخافه ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجله وعظمه على قدر معرفته به. والعارف لا يطالب ولا يخاصم ولا يعاتب، ولا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقاً، ولا يأسف على فائت، ولا يفرح بآت. ولا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض صبوراً يطؤها البر والفاجر، ونافعاً كالسحاب نافعاً يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب، وكالشمس ينور كل ما مر به. والعارف ملازم لشيئين: بكاء على نفسه .. وثناء على ربه. وذلك لعلمه ومعرفته بنفسه وآفاتها وعيوبها، ومعرفته بربه وكماله وجلاله. والعارف أنسه بربه، ووحشته ممن يقطعه عنه، أنس بالله فأوحشه من الخلق، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم، وذلَّ لله فأعزه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأحوجهم إليه.

والمعرفة حياة القلب مع الله والأنس به، وعبادته بما يرضيه. والمعرفة على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: معرفة أسماء الله وصفاته، فلا يستقر للعبد قدم في المعرفة ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جلَّ جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه. فالإيمان بالأسماء والصفات هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان. ولما كان أحب الأشياء إلى الله مدحه وحمده والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر بالله، وهو شر من الشرك وأقبح. فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه، والتشريك بينه وبين غيره في الملك. فالمعطلون أعداء الرسل بالذات، بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به لما أشرك به. كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86، 87]. أي ما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟. أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟. أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرِّفه كالملوك؟. أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟. أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟. أم هو ذليل محتاج إلى أولياء يتكثر بهم من قلة، ويتعزز بهم من ذلة؟. أم يحتاج إلى ولد يساعده ويرث عنه ملكه، فيتخذ صاحبة يكون له الولد منها ومنه؟.

تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 116، 117]. فسبحان الله أين العقول والبصائر؟ وأين القلوب والألباب؟. أيليق بالعاقل أن ينكر مدبر هذا الكون؟. أم يليق به أن يجعل معه شريكاً في التصريف والتدبير؟. فيسأله ويدعوه، ويرجوه ويخافه. ألا ما أعظم تلاعب الشيطان بالعباد، حتى حطهم إلى هذه الدرجة السافلة في الاعتقاد والعمل. فلا يليق بهم يوم القيامة إلا الحرمان من الجنة، ودخولهم النار: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. فالتعطيل من الشرك وأساسه، فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر. والرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم أُرسلوا بالدعوة إلى الله، وبيان الطريق الموصِّل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه. فعرَّفوا المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه: يكلم ملائكته .. ويدبر أمر مملكته .. ويسمع أصوات خلقه .. ويرى أفعالهم وحركاتهم .. ويبصر ظواهرهم وبواطنهم. ويشاهدونه كل يوم: يأمر وينهى .. ويرضى ويغضب .. ويحب ويسخط .. ويغيث الملهوف .. ويكرم أهل طاعته .. ويهين أهل معصيته .. ويحيي ويميت .. ويعطي ويمنع .. ويجبر الكسير .. ويجيب المضطر .. ويؤتي الملك من يشاء .. وينزع الملك ممن يشاء ..

ويعز من يشاء .. ويذل من يشاء. كل يوم هو في شأن: يغفر ذنباً .. ويفرج كرباً .. وينصر مظلوماً .. ويقصم ظالماً .. ويهدي ضالاً .. ويرحم مسكيناً .. ويشفي مريضاً .. ويقضي ديناً .. ويسهل عسيراً. يُقدم ما يشاء تقديمه .. ويؤخر ما يشاء تأخيره .. وأزمة الأمور كلها بيده وحده لا شريك له. فطوبى لعبد رزقه الله هذه المعرفة فعبد الله كأنه يراه. وكذلك عرَّف الرسل العباد بالطريق الموصِّل إلى الله، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده. وكذلك تعريف العباد ما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب والميزان، والصراط والحوض. وقد جاء الوحي بإثبات صفات الرب، وظهرت شواهدها في المخلوقات، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، والصور تدل على وجود المصور سبحانه، والنعم تدل على وجود المنعم. ويظهر شاهد اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحمن من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة. ويظهر اسم الحليم من حلمه على الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم. ويظهر اسم الغفور والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة. وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسماء الله وصفاته وأفعاله. الدرجة الثانية: معرفة الذات.

فإذا استمر عكوف القلب على الله عزَّ وجلَّ، ونظر قلبه إليه كأنه يراه سبحانه، ويرى تفرده بالخلق والأمر، والنفع والضر، والعطاء والمنع فقد كملت وتمت معرفة العبد لربه. وكلما تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد من ذاته، ولا بغير تعريف الحق له. وعرف أن الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وقادر على كل شيء، وعالم بكل شيء، ومحيط بكل شيء. وهذا يوصله إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال والجلال والجمال. الدرجة الثالثة: معرفة مستغرقة في محض التعريف. فالمعرفة: صفة العبد وفعله، والتعريف: فعل الرب وتوفيقه. فالله عزَّ وجلَّ هو الذي عرَّف العبد فعرف، ولولا فضل الله ما وجد، ولا علم، ولا آمن، ولا اهتدى. وهذه مرتبة شريفة وفضل من الله، فهو الذي خلق الإنسان وعلمه ما لم يعلم، وصاحب هذه المعرفة كلما كانت معرفته أتم كان قربه من ربه أتم. ويجب على كل عبد أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف ربه .. ونفسه .. ودنياه .. وآخرته. فإذا عرف ربه .. نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته وعبادته. وإذا عرف نفسه .. نشأ من ذلك الحياء والخوف من ربه. وإذا عرف دنياه .. نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها. وإذا عرف آخرته .. نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها. والناس في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله متفاوتون، حسب كمال المعرفة ونقصها. فمنهم من يعرف ربه بالجود والإفضال والإحسان. ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم، والتجاوز والصفح.

ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام. ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة .. ومنهم من يعرفه بالقوة والقدرة .. ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء .. ومنهم من يعرفه بالرحمة واللطف .. ومنهم من يعرفه بالقهر والملك .. ومنهم من يعرفه بالرقابة والحفظ .. ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته، وإغاثة لهفته، وقضاء حاجته. وأكمل هؤلاء من عرفه بجميع أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله. فرأى ربه فعالاً لما يريد، فوق كل شيء، قادراً على كل شيء، خالقاً لكل شيء، أكبر من كل شيء، وبيده كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68]. وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه العارفون بما يستحقه مولاهم من أوصاف الجلال ونعوت الكمال، وبما أسداه إلى عباده من الإنعام والإفضال، وبما يستحيل عليه سبحانه من العيوب والنقائص، والتحول والزوال، وما يجوز له فعله من الأمر والنهي، والوعظ والزجر، والبعث والإرسال، والتبشير والإنذار، والحشر والنشر، والثواب والعقاب، والإهانة والإجلال. فهم لا يعبدون سواه، ولا يبغون إلا رضاه. قد أحضرهم لديه، فلا يشكون إلا إليه، ولا يتوكلون إلا عليه، فهم في رياض معرفته حاضرون، وإلى كمال صفاته ناظرون: إن نظروا إلى جلاله هابوه .. وإن نظروا إلى جماله أحبوه. وإن نظروا إلى إحسانه شكروه .. وإن نظروا إلى شدة نقمته خافوه. وإن نظروا إلى سعة رحمته رجوه .. وإن نظروا إلى آلائه وإنعامه حمدوه. وإن نظروا إلى أمره ونهيه أطاعوه .. وإن نظروا إلى ندائه أجابوه. وإن نظروا إلى توحده بالأفعال لم يتكلوا إلا عليه. وإن نظروا إلى اطلاعه عليهم استحوا أن يخالفوه.

فهم في هذه الرتب مختلفون، وأفضلهم في هذه الدار أعلاهم غداً في دار القرار: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. وأهم المعارف محصور في أمرين: معرفة الربوبية .. ومعرفة العبودية. وكمال معرفة الربوبية بينه الله بقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. أما معرفة العبودية فلها مبدأ وكمال .. وأول وآخر. أما أولها ومبدؤها فهو الاشتغال بالعبودية، وهو المراد بقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. وأما كمالها وآخرها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله. فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل المطالب كلها، وهو المراد بقوله سبحانه: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. فعلينا إذا عرفنا الله أن نطيعه .. وإذا قرأنا القرآن فيجب أن نعمل به .. وإذا كنا نحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن نعمل بسنته .. وإذا عرفنا الشيطان فيجب أن نحذره ولا نوافقه. وإذا كنا نحب الجنة فيجب أن نعمل لها .. وإذا كنا نخاف الله فيجب أن نقلع عن الذنوب .. وإذا عرفنا أن الموت حق فيجب أن نستعد له .. وإذا عرفنا أننا نأكل من رزق الله فيجب أن نشكره .. ونستحي منه، فلا نأكل من رزقه ونعصيه. وعلينا أن نعمل للدنيا بقدر بقائنا فيها .. ونعمل للآخرة بمقدار بقائنا فيها. ونعمل لله بمقدار حاجتنا إليه .. ونعمل من المعصية بقدر ما نطيق من حرارة النار، وهيهات ما لأحد بنار جهنم من طاقة. والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه. واليقين: هو أن نعلم أن الفوز والفلاح، والسعادة والنجاة، وجميع المخلوقات

كلها بيد الله وحده لا شريك له. والإنسان إذا جاء في قلبه نور الإيمان رأى كل شيء على حقيقته. الدنيا والآخرة .. الأموال والأشياء .. الأعمال والأخلاق .. وكما أنه إذا طلعت الشمس ميز الإنسان الحجر من الذهب، فأخذ الذهب وترك الحجر، فكذلك بنور الإيمان يقدم المسلم الآخرة على الدنيا، ويؤثر الأعمال الصالحة على جمع حطام الدنيا، ويعمل لآخرته بقدر طاقته، ويأخذ من الدنيا بقدر حاجته. والعلم من أحسن الصفات التي تحصل بها اللذة، وهو درجات. فأعلاها: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ودينه وشرعه. فالعلم بالله وأسمائه وصفاته ألذ العلوم وأشرفها وأعظمها. ولذة القلب بمعرفة الله تعالى أعظم من لذة البدن بالأكل والشرب، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى ورؤيته ورضوانه وسماع كلامه. ولذة النظر إلى الله يوم القيامة تزيد على لذة المعرفة به في الدنيا، وما فوقها لذة. نسأل الله أن يبلغنا وسائر المسلمين إياها. فالعارف حقاً من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف دينه وشرعه، ثم صدق الله في معاملته، وأخلص له العمل. يعتزل الخلق فيما بينه وبين الله، حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضراً ولا نفعاً. ويتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية أخرى، ويتقلب في محاب الله ومراضيه، جاهداً في إصلاح نفسه وفي إصلاح غيره. فتراه مصلياً .. ذاكراً .. تالياً لكتاب ربه .. داعياً إلى الله .. معلماً للكتاب والسنة .. متعلماً .. متفقهاً .. منفقاً .. متصدقاً .. حاجاً .. صائماً .. مجاهداً .. ناصحاً .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. واصلاً لرحمه .. محسناً إلى الخلق .. مواسياً للفقراء .. وهكذا قلبه متعلق بالآخرة .. متأهب للقدوم على ربه .. معرض عن الدنيا.

قلبه وجوارحه متحركة فيما يرضي ربه .. مجتنبة لما يسخطه .. وألذ شيء لديه خلوته بربه والقيام بين يديه. مسبحاً له تارة .. ومكبراً له تارة .. وحامداً له تارة .. ومستغفراً له تارة .. وسائلاً له تارة ... ومعظماً له تارة. فإذا حصل له ذلك فتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، إذ يجد فيها اللذة والراحة. فإذا دخل في الصلاة ودّ أن لا يخرج منها؛ لأنه يناجي مولاه، ويعبد الله كأنه يراه. ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله وتلاوته فلا يشبع منه. ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة أسمائه وصفاته، وجلاله وجماله. ثم يُفتح له باب الحياء من الله فيستحي منه، ويُرزق دوام المراقبة للرقيب. ثم يفتح له باب الشعور بالقيومية، فيرى تقلبات الكون وتصاريف الوجود بيده سبحانه فيتخذه وكيلاً، ويرضى به مدبراً وكافياً. وهكذا يترقى من معرفة إلى معرفة، ومن عمل إلى آخر، ومن منزلة إلى منزلة، حتى يلقى ربه مجاهداً صابراً محتسباً. ومعرفة الله عزَّ وجلَّ تقوم على ثلاثة أركان: الهيبة .. والحياء .. والأنس. فإذا عرف قدرة الله وقوته وعظمته وجلاله جاءت عنده صفة الهيبة. وإذا عرف نعم الله عليه وعلى غيره مع قلة الشكر، وكثرة المعاصي، جاء عنده الحياء. وإذا عرف لطف الله ورحمته، وكرمه وجوده، وإنعامه وإحسانه، جاء عنده الأنس بالله، والوحشة من الخلق. وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، والمعرفة به،

وإخلاص العبادة له، فليهنأ بذلك من رزق ذلك: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. فيا منفقاً بضاعة العمر في مخالفة حبيبه، والبعد عنه. أما لك في رضا الرحمن من نصيب؟ .. أما لك في الجنة من شوق؟. ونور العلم لم يحجب عن القلوب لبخلٍ ومنعٍ من جهة المنعم سبحانه، ولكنه حُجب لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب. فالقلوب كالأواني ما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله، ولولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء. وليس المقصود من العلم العمل فقط، بل المقصود الإيمان والعمل، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان. وعلم الرب شيء، ومعرفة الرب شيء آخر، وطريق معرفة الرب هو الميدان، والله سبحانه علمنا كيف تعرف موسى على ربه في الميدان في الوادي المقدس طوى، عند الشجرة حين ناداه الله فعلمه التوحيد نظرياً بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. ثم عرَّفه الإيمان عملياً بتقليب حال العصا أمامه في الحال، فقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 17 - 21]. ثم أمره الله بعد ذلك أن يذهب إلى فرعون، فلما ذهب موسى إلى فرعون ما خاف منه؛ لأنه عرف أن ربه معه، وقبل ذلك كان موسى في قصر فرعون عنده علم الرب، ولما خرج إلى مدين جاء عنده معرفة الرب، معرفة الإيمان بالله الذي بيده كل شيء.

والتربية الإيمانية لها شروط: أهمها عدم الالتفات إلى الأسباب؛ لأن قدرة الله تظهر إذا انقطعت الأسباب وتوجه المؤمن إلى ربه، فقدرة الله مخفية وراء الأسباب، مع الأسباب لا تظهر. فترك موسى - صلى الله عليه وسلم - زوجته وماله .. ولما اقترب قيل له: اخلع نعليك .. ولما اقترب أكثر قيل له: ألق عصاك وهي نافعة .. ثم قيل له خذها وهي ضارة؛ ليعلم أن كل شيء بيد الله، والله يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وموسى تعلم التربية بأقسامها الثلاثة في الميدان: التربية البدنية .. ثم التربية الأخلاقية .. ثم التربية الإيمانية. تعلم التربية البدنية في قصر فرعون، فلقوته قتل القبطي، ورفع الحجر وحده عن بئر مدين، ولطم ملك الموت .. ثم أخرجه الله إلى مدين ليتعلم التربية الأخلاقية؛ لأن الدعوة لا بدَّ أن يكون معها أخلاق من الرفق والرحمة، والحلم والصبر، فرعى الغنم في مدين عشر سنين، وكل نبي رعى الغنم؛ لأن رعي الغنم شبيه برعاية البشر .. ثم نقله الله إلى ميدان آخر، وهو التربية الإيمانية، في البقعة المباركة من الشجرة، كما قص الله ذلك في القرآن في سورة طه والقصص وغيرهما. والصحابة رضي الله عنهم لما هاجروا إلى المدينة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رباهم عملياً على معرفة الرب، ومعرفة قدرته، فجاءت عليهم في المدينة أحوال شديدة، أصابتهم الحمى، ولا يولد لهم مولود لمدة سنتين، وصاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء، وهزلت أجسامهم. ولكن لما كانت تربيتهم قوية لم يتأثروا بذلك، فهي إعداد لهم، وترقية لإيمانهم، فقد واجهوا الكفار بعد ذلك في بدر بلا عدد ولا عدة فهزموهم بإذن الله. ففي مكة كان مصنع الرجال، وتربية الرجال، وفي المدينة كان استخدام الرجال في الميدان.

لذلك في مكة لما أوذي المسلمون لم يدعُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم؛ لأنهم في ميدان التربية، لكن في بدر دعا لهم بقدر حاجتهم كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10]. فأظهر الله لهم قدرته، ونصرهم وأعزهم. ففي غزوة بدر أظهر الله قدرته، فأمد المؤمنين بألف من الملائكة، ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف يقاتلون مع المؤمنين، وكان يكفي ملك واحد لتدمير هؤلاء وديارهم كما فعل جبريل بقوم لوط، ولكن الله فرح بخروج هؤلاء المؤمنين لنصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ثم قال الله للملائكة إني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا، ثم بين لهم أن النصر من عند الله، ينصر من ينصره لنفي اليقين عن الملائكة، حتى لا يكون التوجه إلا إلى الخالق سبحانه، ثم نصرهم الله مع أن أحوالهم ليس فيها من مقومات النصر شيء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. لذلك ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على الدين وعلى الجهد للدين، وبسبب جهدهم للدين صارت أوامر الله غالية عندهم، لا يفرطون بها، يبذلون أموالهم وأنفسهم من أجلها، ويتركون ديارهم وشهواتهم من أجلها. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس قدوة للأمة في الصلاة فقط، بل هو إمام وقدوة في كل شيء، في العبادات، والمعاملات، والدعوة، والجهاد.

2 - العلم بأوامر الله

2 - العلم بأوامر الله قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وقال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي. خلق جميع المخلوقات وجعل لها أوامر. وأوامر الله عزَّ وجلَّ نوعان: أوامر كونية لكافة المخلوقات .. وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن. وأوامر الله الكونية ثلاثة أقسام: الأول: أمر الإيجاد، وهو أمر متوجه من الرب سبحانه إلى جميع المخلوقات بالإيجاد، فقد كان الله جل جلاله، ولا شيء غيره، ثم خلق خلقه كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. فهو سبحانه الذي يخلق ما شاء في أي وقت شاء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء، ولو رفع الله عنها أمر البقاء لهلكت وفنيت وزالت، فهي باقية بأمر الله لها بالبقاء كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. الثالث: أمر النفع والضر، والتحريك والتسكين، والإحياء والإماتة، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فلا ينفع شيء ولا يضر إلا بإذن الله، ولا يتحرك شيء ولا يسكن إلا بإذن الله، ولا يحيا شيء ولا يموت إلا بإذن الله كما قال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 68]. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]. وهذه الأوامر الكونية لازمة الوقوع. أما الأوامر الشرعية فهي أمر الله الشرعي الموجه إلى الثقلين: الإنس والجن، وهو الدين الذي أرسل الله به رسله. وأوامر الله الشرعية خمسة أقسام: الإيمان .. العبادات .. المعاملات .. المعاشرات .. الأخلاق. وهذه الأوامر الشرعية هي مجموع الدين، قد يستجيب لها بعض الناس، وقد يردها البعض الآخر. وقد ترك الله للعباد أمر الاختيار: فيستجيب لها من يعلم الله أنه أهل للكرامة، ويردها من يعلم الله أنه أهل للإهانة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يجعل هدايته، وحيث يجعل علمه. ولا إكراه في الدين: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. والهداية بيد الله، ولكن الله أقام الحجة على العباد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعطاهم آلات الإدراك التي يعلمون بها الحق من الباطل، وهي السمع والبصر والعقل: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. وبعد البيان هدى الله من شاء إلى الحق بمنه وفضله، لعلمه بمن يصلح للهداية، وترك من شاء ممن لم يرد هدايته وخلى بينه وبين نفسه، لعلمه سبحانه بأنه يصلح للغواية لا للهداية.

فهدى الله بفضله من شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأضل من شاء بعدله، بعد قيام حجته سبحانه. وأسعد الخلق من عرف الحق، وعمل به، ودعا إليه، وصبر على كل ذلك. فالإسلام هو الدين الحق الذي ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بخلقه في جميع شئون الحياة. فهو الدين الكامل الشامل الذي أكرم الله به البشرية، ودعاهم إلى الأخذ به ليسعدوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فهو منهج عظيم شرعه الله لعباده، منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وشهوة الإنسان، وضعف الإنسان. منهج عدل مطلق لجميع الإنسانية، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل دون جيل؛ لأن الله رب الجميع، والله يريد أن يسعد الجميع، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وهو منهج عظيم، شرعه الذي خلق الإنسان، الذي يعلم حقيقة فطرته، وحاجات هذه الفطرة، وما ينفعها وما يضرها، وما يوافقها وما يخالفها، وما يسعدها وما يشقيها. وحسب الناس أن يقبلوه، ويسارعوا إليه؛ ليسعدوا في الدنيا والآخرة. وهو كذلك منهج من مزاياه أن الذي شرعه وأمر به هو خالق هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان، فهو منهج يتلاءم مع ما يجري في هذا الكون، فلا يروح يعارك مخلوقات الله الأخرى، بل يتعرف عليها ويصادقها، حسب المنهج الذي يهديه ويحميه. وهذا المنهج يكرم الإنسان ويحترمه، ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج، مكاناً للاجتهاد في فهم النصوص الواردة، ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو المبادئ العامة للدين.

ولأهمية هذا الدين وحاجة العباد إليه أرسل به رسله، ليطاعوا بإذنه، لا ليخالف أمرهم، ولا ليكونوا فقط مجرد وعاظ، يلقون الموعظة العابرة، لتذهب في الهواء بلا سلطان ... كلا. إن هذا الدين لباس لهذه الأمة، ووقاية لها من كل سوء، ومتى نزعته أصبحت عارية، وصارت عرضة للهلاك. إن الدين منهج حياة واقعية للأمة، بشكلها ونظامها، وأوضاعها وقيمها، وأخلاقها ومعاشراتها، وعباداتها ومعاملاتها. وذلك يتطلب أن يكون للرسالة والدين سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ. والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل ليطاعوا بإذنه، وفي حدود شرعه. وبهذا يقوم منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة بموجبه. فالإسلام دعوة وبلاغ، ونظام وأحكام، وخلافة بعد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقوم بالدين، وتنفذ شريعة الله في الأمة. لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول .. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسل .. وتحقيق مراد الله في عباده. وبهذا لا بغيره تتحقق سعادة البشرية، ويحصل لها الفوز والفلاح: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. هذا وإن كان يكفي لإثبات الإسلام القيام بالأعمال وتحاكم الناس إلى شريعة الله، فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصاحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب لله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان .. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؟ .. وأين هي من الإيمان؟.

قبل ادعاء الإسلام، وقبل ادعاء الإيمان. فهذا الدين منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم، إنه لا يكلف العباد فوق طاقتهم، ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم. فالله الذي خلق الإنسان يعلم ضعف الإنسان، ويرحم هذا الضعف. والله عزَّ وجلَّ عليم حكيم يعلم أنه لو كلفهم تكاليف شاقة ما أداها إلا قليل منهم. والله الرحمن الرحيم لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية. ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم، واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها، لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة. ولأعانهم الله بالهدى كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والإرادة: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. إن هذا الدين ميسر يمكن أن ينهض به كل ذي فطرة سوية، إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر. وهذا الدين ما جاء لهذه القلة القليلة، إنما جاء للناس جميعاً. والناس معادن وطبقات وألوان من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف. وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى الله عنها. وقتل النفس والخروج من الديار مثلاً للتكاليف الشاقة التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم. وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس، وأن ينكل عنها عامة الناس. بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع، وأن يشمل موكب الإيمان

كل النفوس السوية العالية والعادية. وليس اليسر في هذا الدين هو الترخص، ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين، وجعلها منهج الحياة. فهذا الدين عزائم ورخص، والعزائم هي الأصل، والرخص للملابسات والأحوال الطارئة. وبعض المخلصين حسني النية، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين، يعمدون إلى الرخص فيجمعونها، ويقدمونها للناس على أنها هي الدين، ويقولون لهم: انظروا كم هو ميسر هذا الدين؟. وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الناس، يبحثون عن منافذ لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص، ويجعلون هذه المنافذ هي الدين. ولكن الدين ليس هذا، وليس ذاك، إنما هو بجملته برخصه وعزائمه ميسر للناس. يقدر عليه الفرد العادي حين يعزم، ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي في حدود بشريته، كما يبلغ العنب كماله الذاتي في الحديقة الواحدة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]. وفي مكة حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته، فصان الله هذه الشريعة أن تكون حديث ألسن، وموضوعات دراسة، قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه لله جملة، ويعبد الله بالطاعة لشريعته في كل شأن. وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلاً، وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه فوراً. فتأتي الأوامر والأحكام، فتستقبلها القلوب بالقبول والإذعان كما حصل ذلك في المدينة بعد الهجرة.

والإسلام له أحكام مرحلية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين. وله كذلك أحكام نهائية وردت في سورة التوبة، فينبغي الرجوع إليها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة. وكذلك للإسلام في كثير من القضايا والأوامر أحكام مرحلية، ثم أحكام نهائية، كما في تحريم الربا والخمر ونحوهما. والعلوم كالمياه، منها عذب فرات سائغ شرابه، ومنها ملح أجاج. والعلوم الإلهية التي جاء بها الرسل فيها الغذاء والدواء والشفاء، وهي رحمة من الله، أرسل بها رسله إلى عباده. فمن قبلها سعد في الدنيا والآخرة .. ومن ردها شقي في الدنيا والآخرة. والسمع والبصر والقلب هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك. فالقلب: يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاؤه وخاصته. والأذن: تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب. والعين: تنقل ما رأت وتصبه في القلب. وصاحب الأمر هو القلب، وسائر الأعضاء حجبة له، توصل إليه من الأخبار والمرئيات ما لم يكن ليأخذه بنفسه. والقلب خُلق للإيمان والتوحيد وذكر الله، والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم. فكما لا يجد الجسم لذة الطعام والشراب مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الإيمان والذكر مع حب الدنيا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر إلى الأشياء فقد وضعت في موضعها. أما إذا لم يصرف القلب إلى العلم، ولم يودع فيه الحق فهو ضائع، والقلب نفسه

لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه، فإنه لا يقبل غير ما خلق له، وهو مع ذلك ليس بمتروك. فإنه لا يزال في أودية الأفكار الرديئة وأقطار الأماني السافلة. وإنما يحول بين القلب وبين الحق في غالب الأحوال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس. وقد يعرض له الهوى قبل معرفة الحق، فيبعده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق، وكثيراً ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه. والقلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، والقلوب أوعية فخيرها أوعاها وأرقها وأصفاها. فالقلب إن كان ليناً رقيقاً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ فيه العلم وثبت وأثر. وإن كان القلب قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعباً عسيراً. ولا بدَّ مع ذلك أن يكون القلب زاكياً صافياً سليماً حتى يزكو فيه العلم، ويثمر ثمراً طيباً، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب أن ينبت منعه أن يزكو ويطيب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (¬1). والعلم الحقيقي هو الذي يورث العمل، ولا بدَّ في كل عمل من أمرين: إخلاص العمل لله .. وأداؤه كما جاء في سنة رسول الله. والاتباع الكامل يتحقق بثلاثة أمور: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نيته .. واتباعه في وجهته وهي الآخرة .. واتباعه في هيئة العمل. فالوضوء له أحكام معلومة .. والصلاة كذلك .. والدعوة كذلك. وأشرف العلوم بعد العلم بالله وأسمائه وصفاته معرفة دينه وشرعه، وأشرف العلوم من ذلك علم الحدود، لا سيما حدود المشروع: المأمور به، والمنهي عنه. فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها، وأجهلهم أجهلهم بتلك الحدود كما قال سبحانه: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} [التوبة: 97]. فأعدل الناس من قام بحدود الأقوال والأعمال والأخلاق والمشروعات معرفةً وعملاً، ودعوةً وإرشاداً. والله تبارك وتعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض، واختص بعض عباده بكثرة الأموال، وبعضهم بحسن الأخلاق، وبعضهم بالإكرام، وبعضهم بغزارة العلم، وبعضهم بقضاء حاجات العباد. وعلى طالب العلم مسئولية عظيمة، وهي متفاوتة بحسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب طاقته وقدرته. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).

أما من جهة نفسه: فعليه أن يعتني بحفظ وفهم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم، وأن يخلص لله ويراقبه ويتقيه، ويعمل بما علم، وأن يكون هدفه إرضاء الله عزَّ وجلَّ، وأداء الواجب، وبراءة الذمة، ونفع الناس. ولا يهدف بعلمه وعمله إلى مال ولا عرض من الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة. فطالب العلم له موقف مع ربه بالصدق والإخلاص، وله موقف مع نفسه بالعلم والعمل، وله موقف مع غيره بالتعليم وحسن الخلق. وقبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه معلوم مشاهد في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب مملوءاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير طاعة الله، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك قلب الإنسان المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إليه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا يمكن شغل حركة اللسان بذكره، والجوارح بخدمته، إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيه موضع للشغل بالله، ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكام دينه. وإذا امتلأ القلب بالشبه والشكوك والخيالات، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها، ثم جاءته حقائق القرآن، والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً تعدته وتجاوزته إلى محل سواه.

والعالم بالله هو الذي يخشاه .. والعالم بأمر الله هو الذي يعرف أمره ونهيه .. والخشية تمنع اتباع الهوى .. ومعرفة أوامر الله تمنع اتباع البدع .. والكمال في العلم وعدم اتباع الهوى. وثمرة العلم العمل، والعمل يكمل ويكون مقبولاً إذا توفرت فيه خمسة أمور: الأول: الإيمان: وهو أساس كل عمل، والمحرك والباعث عليه. الثاني: الاحتساب: وهو معرفة ثواب العمل عند الله. الثالث: العلم: وهو أن يقوم بالعمل حسب ما ورد في السنة. الرابع: الإحسان: وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الخامس: الإخلاص: بأن تكون أعمال العبد خالصة لله وحده. وشرطي المرور، وعامل البناء، وكل عامل يقوم بعمل، تصرف له الأجرة من المخلوق، وكذلك المسلم يقوم بالصلاة والصيام، والذكر والدعاء فيقضي الله حاجته، ويرزقه الحسنات، ويكفر عنه السيئات. ولتحريك البدن، ودفعه للقيام بالطاعات، وبعثه للقيام بالمأمورات نذكر الله كثيراً، فنتكلم بعظمة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ونذكر نعمه وإحسانه، حتى يتأثر القلب، ثم القلب إذا زاد فيه الإيمان أمر الأعضاء والجوارح بامتثال الأوامر، وقادها للطاعات بالشوق والرغبة والمحبة. والإنسان إذا أراد أن يعمل عند أحد عملاً سأل كم الأجرة التي سيدفعها له صاحب العمل؟، وبناء عليها يكون العمل وحسنه. فكذلك المؤمن إذا أراد أن يعمل الطاعات، تعلم الفضائل قبل ذلك ليعرف قيمة العمل عند الله، وماذا يعطي الله عليه من الحسنات، وبمعرفة ذلك ينشط لأدائه، ويسهل عليه القيام به، ويداوم عليه، ويكثر منه، ويسارع إلى فعله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب أحَدِكُمْ،

يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه (¬2). فكل شيء له قيمة، وبحسب كماله ونفعه وحسنه تكون قيمته، والأشياء المادية يعرف الإنسان قيمتها؛ لأن لها قيمة في قلبه، فهو يعمل من أجل الحصول عليها، أما الأعمال الصالحة التي جاءت عن الله ورسوله فقيمتها مجهولة عند كثير من الناس، بينما القلوب مملوءة بحب ومعرفة قيمة الأشياء المادية. إن الجهل بأعمال الدين وقيمتها وأجوددها يجعل المسلم لا يرغب ولا يشتاق لتلك الأعمال، ولا يؤديها بيقين وحضور قلب وانشراح صدر. فلا بدَّ بعد الإيمان من تعلم فضائل الأعمال قبل تعلم المسائل والأحكام فنعرف أولاً: ما قيمة لا إله إلا الله؟ .. ما قيمة ذكر الله؟ .. ما قيمة الدنيا؟ .. ما قيمة الآخرة؟ .. ما قيمة الصلاة؟ .. ما أجر الجهاد؟ .. ما قيمة الاستغفار؟ ما قيمة الصوم والحج وحسن الخلق؟. وهكذا، فكل عبادة لها فضائل ومسائل، فنتعلم الفضائل، ثم نتعلم المسائل، ثم نقوم بالعمل على بصيرة بالمحبة والرغبة والتعظيم للمعبود. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالأعمال الصالحة، وجعل على نفسه الجزاء بمنه وفضله، فله الحمد على ما هدى، وله الحمد على ما شرع، وله الحمد على ما أثاب وأعطى. وكل شيء له ثلاثة أحوال وهي: لفظ .. وصورة .. وحقيقة. فالتقوى مثلاً شرط لحصول الرزق والبركات، ودخول الجنة، واليسر كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (668). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33) واللفظ له، ومسلم برقم (760).

فلو تكلم المسلم عن التقوى بلسانه، أو كتب عنها بيده، أو فكر فيها بدماغه، وليس في قلبه حقيقة التقوى، لم تحصل له الموعودات السابقة على التقوى؛ لأنه جاء بلفظ التقوى، ولكن ليست عنده حقيقة التقوى. وإذا كان المسلم لباسه فيه التقوى، وكلامه فيه التقوى، وصورته فيها التقوى، ولكن ليس في قلبه حقيقة التقوى، فليس له الموعود على التقوى، فهذه صورة التقوى. وحقيقة التقوى: تكون في القلب بالإيمان بالله وطاعته وعبادته وخشيته. ثم تظهر على الجوارح بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي. وهذه هي التي تتحقق بها موعودات الله على التقوى. فما أحسن الفقه في الدين، ومعرفة أحكامه وسننه، وليس فوق هذا شيء من الخير كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» متفق عليه (¬1). فعلى المسلم أن يحرص على حضور مجالس الذكر التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها رياض الجنة، ليتأثر من كلام الله ورسوله، ويعرف أحكام دينه، ويزيد يقينه على ربه، وعلى موعوداته في الجنة، ويعرف قيمة الأعمال الصالحة، ويسمع كلام الله بالتوجه والإنصات لتحصل له الهداية، ثم يعمل بما علم، ويبلغه للناس: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 18]. فلله كم يحصل لهؤلاء من الأجر والثواب؟ وكم تنزل عليهم من الرحمات؟ وكمن يذكرهم الله فيمن عنده؟. قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).

أحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» أخرجه مسلم (¬1). والله عزَّ وجلَّ فاوت بين النوع الإنساني أعظم تفاوت يكون بين المخلوقين، فاوت بينهم في الخَلْق والخُلُق، وفاوت بينهم في العلم، وهذا التفاوت العظيم إنما حصل بالعلم وثمرته، ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة، وصحبة الملأ الأعلى لكفى به شرفاً وفضلاً، فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به. وسنة الله أن جعل لكل مخلوق كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه واستعمل فيها. وهكذا الآدمي: إذا كان صالحاً لاصطفاء الله له برسالته ونبوته اتخذه رسولاً ونبياً، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فإذا كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة، صالحاً للنبوة رشحه لذلك، وبلّغه إياها، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رُشّح لها. وإن كان ممن يصلح للعمل والعبادة دون العلم والمعرفة جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين. فإن نقص عن هذه الدرجة، ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل حطباً ووقوداً للنار. فالإنسان يترقى في درجات الكمال درجة بعد درجة، حتى يبلغ نهاية ما يناله أمثاله، فكم بين حاله في أول كونه نطفة، وبين حاله والرب يسلم عليه في داره، وينظر إلى وجه ربه الكريم. فكيف يحسن بذي همة أن يرضى أن يكون حيواناً وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يصير ملكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (668).

فتقوم الملائكة بخدمته، وتدخل عليه من كل باب قائلين: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 24]. وقلب الإنسان يعترضه مرضان يتواردان عليه، وإذا استحكما فيه كان هلاكه وموته وهما: مرض الشهوات .. ومرض الشبهات. وهذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله، ومرض الشبهات أصعبهما وأقتلهما للقلب. وللقلب أمراض أخر من الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، وكل هذه الأمراض متولدة من مرضي الشهوة والشبهة. فلا يخرج مرض القلب عن شهوة أو شبهة أو مركب منهما. وهذه الأمراض كلها متولدة عن الجهل بالله وبدينه وشرعه، ودواؤها بالعلم الإلهي. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، فإذا عدمه كان كالعين العمياء. والله جلَّ جلاله بحكمته سلط على العبد عدواً عالماً بطرق هلاكه، لا يفتر عنه يقظةً ولا مناماً حتى يظفر به. فيحول أولاً بينه وبين الإسلام، فإن فاته وأسلم زين له البدعة، فإن عجز عنه ألقاه في الكبائر، فإن أعجزه ألقاه في الصغائر، فإن أعجزه أشغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فإن أعجزه أشغله بالمباحات والشهوات، فإن أعجزه ذلك سلط عليه حزبه يؤذونه ويشتمونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر العمل، فهذه سبع سكاكين يذبح بها الشيطان كل واحد من بني آدم. ولا يمكن أن يحترز من الشيطان من لا علم له بهذه الأمور، ولا علم له بعدوه،

ولا ما يحصنه منه، ولا بكيفية محاربته، ولا بأي شيء يحاربه، وهذا كله لا يحصل إلا بالعلم. والخير كله بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، والشر كله بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل. وكل شر في العالم سببه مخالفة ما جاءت به الرسل. وكل خير في العالم فسببه طاعة الرسل. وآفة العلم عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة .. ومن فساد الإرادة تارة. ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله، وهو ليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعاً، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل. وأما فساده من جهة القصد، فأن لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق. ولا سبيل للسلامة من هاتين الآفتين في العلم والعمل إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة. فمتى خلا القلب من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعمله. وكل من آثر الدنيا واستحبها من أهل العلم فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه وفي خبره وإلزامه. لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه. فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيَّما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة،

ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق. وإن كان الحق ظاهراً لا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم يقول سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} [الأعراف: 169]. وهؤلاء لا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة. فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا على الدين، واتبعوا الرياسات والشهوات، يضل أحدهم بعد العلم، ويغوى بعد الرشد، ويتبع الشيطان، ويرغب عن هدى ربه ويتبع هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة. وأما العابد الجاهل، فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه، وغلبة ما تهواه نفسه على ما شرعه ربه. وعلماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم. فنفر الناس عنهم وقالوا: لو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هداة وأدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق، فهم كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، وتبقى فيه النخالة من الشوك والحجر. وكذلك علماء السوء يخرج منهم الحكم، ويبقى الغل في صدورهم، والإضلال في أعمالهم. وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب يورث

خشية الله وتقواه، ومحبته ولذة مناجاته. أما من حصّل العلم وهو رديء الأخلاق، فما أبعده عن العلم الحقيقي النافع الجالب للسعادة في الدنيا والآخرة. فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر أن في الطاعات والحسنات أرباحاً عظيمة، وأن في المعاصي سموماً قاتلة مهلكة. وهل رأيت من يتناول سماً مع علمه بكونه سماً قاتلاً؟. إنما الذي نسمعه من المترسمين معلومات جمعوها في أذهانهم، لم تنزل في قلوبهم، ولم تظهر على جوارحهم، وإن نطقت بها أفواههم. فهي حديث يلفقونه بألسنتهم، يقولونه هنا مرة، وهناك مرة وليس ذلك من العلم في شي: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} [النساء: 142، 143]. فالفقه في الدين أصله وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بدينه وشرعه، ومصدر ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية، ففيهما الهدى والشفاء والعلم والنور، والسعادة والفلاح: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104]. والعلوم الشرعية قسمان: 1 - ما أخبر به الشارع، وهو ما علَّمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته بما بُعث به من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ونحو ذلك. 2 - ما أمر به الشارع من الأحكام الشرعية من واجب، ومستحب، وما نهى عنه من محرم، ومكروه. والأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: 1 - ما يُعرف حدّه ومسماه بالشرع، فهذا قد بيّنه الله ورسوله كاسم الصلاة

والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق. 2 - ما يُعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر. 3 - ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم كالبيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد. فما كان من النوع الأول فقد بيّنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه لغة أو عرفاً. والاسم إذا بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدَّ مسماه، عُرِّف بتعريفه هو - صلى الله عليه وسلم - كيف ما كان الأمر كاسم الخمر والماء والحيض والنفاس والسفر ونحوها، فكل مسكر خمر، وكل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر مطهر، والحيض كل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، والسفر ليس له مسافة محدودة، فكل ما يسمى لغة وعرفاً سفراً تجري فيه أحكام السفر من قصر وفطر ومسح ونحوها.

6 - فقه القرآن الكريم

6 - فقه القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وقال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء: 9، 10]. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ-وَهُوَ التَّعَبُّدُ-اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلَى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قال: «مَا أنَا بِقَارِئٍ». قال: «فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قال: «مَا أنَا بِقَارِئ، فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ: «مَا أنَا بِقَارِئٍ»، فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق:1 - 3]. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَءاً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ

خَدِيجَةُ: يَاابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ، لَيْتَنِي أكُونُ حيّاً إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ». قال: نَعَم ْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلا عُودِيَ، وَإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ. متفق عليه (¬1). الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن في ليلة مباركة كما قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 3، 4]. والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي والله أعلم الليلة التي بدأ فيها نزوله، وهي ليلة القدر كما قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]. وليلة القدر إحدى ليالي رمضان الذي أنزل فيه القرآن كما قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. والقرآن لم ينزل كله على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة، كما أنه لم ينزل كله في رمضان، ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض في رمضان، وكانت هذه الليلة موعد ذلك الاتصال المبارك. وإنها لمباركة حقاً، تلك الليلة التي يفتح الله فيها ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر، والتي يتصل الناس فيها بهذا الكون وخالقه عن طريق هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء. ويقيم من خلاله عالماً إنسانياً مستقراً، عالماً طاهراً نظيفاً كريماً، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين. وأول ما نزل من القرآن قوله سبحانه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 1 - 3]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3)، واللفظ له، ومسلم برقم (160).

وآخر ما نزل من القرآن في ثلاثة مواطن: 1 - قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة بعد العصر عام حجة الوداع. 2 - ثم أنزل الله إليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر؛ إيذاناً بقرب أجل الرسول - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. 3 - وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسع ليال نزل في المدينة قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. ولقد عاش الذين أُنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء موصولين بالله مباشرة: يطلعهم كل حين على ما في نفوسهم .. ويشعرهم بأن عينه عليهم .. ويحسبون هم حساب هذه الرقابة .. وحساب هذه الرعاية في كل حركة .. وفي كل هاجسة تخطر في قلوبهم. ويلجؤون إليه أول ما يلجؤون واثقين أنه قريب مجيب. ومضى ذلك الجيل مثالاً عجيباً وصورة مضيئة للإسلام، وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً يهتدي به من شاء موصولاً بالقلب البشري، يصنع به حين ينفتح له ما لا يصنعه أي أمر آخر، ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير. وبقي هذا القرآن العظيم منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة، وفي كل زمان، حين يعمل به بدون تحريف أو تعطيل. وقد أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة أولاً للإنذار والتحذير، فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه، وحاجته إلى الإنذار والتنبيه. وهذه الليلة المباركة بنزول القرآن كانت فيصلاً بهذا التنزيل، إذ فيها يفرق كل

أمر حكيم، وقد فرق الله بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيه كل شأن، وتميز الحق من الباطل، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم اللازمة لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين، وكل ذلك بإرادة الله وأمره. وكان ذلك كله رحمة بالبشرية إلى يوم الدين، فما أعظم بركة تلك الليلة، وما أعظم القرآن الذي أنزل فيها وما أعظم كرامة هذا الإنسان على ربه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)} [الدخان: 3 - 7]. وتتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلوب، سريع الفهم للعقول، ويجعل الاستجابة له تتم بسهولة، كما تتم دورة الدم في العروق، وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل. إن تدبر القرآن يزيل الغشاوة عن القلوب، ويفتح المنافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، وتستنير به الروح: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. إن الأقفال التي ركبتها النفس والشيطان من الأموال والأولاد، والشهوات والشبهات، تحول بين القلوب وبين القرآن، تحول بينها وبين النور، تحول بينها وبين الله. فإن استغلاق القلوب كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور. إن المعجزة الكبرى التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم، الذي يوجه العقل البشري إلى آيات الله في الأنفس والآفاق، وما فيهما من إعجاز ظاهر. فأما ما وقع فعلاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - من خوارق شهدت بها روايات صحيحة، فكانت إكراماً من الله لعبده، لا دليلاً لإثبات رسالته. وقد جاء القرآن الكريم ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله، وما فيه

من آيات الله القائمة الثابتة، ويصله بتلك الآيات في كل لحظة، لا مرة عارضة في زمان محدود، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود، وكلها يلتقي فيها الكمال بالجلال والجمال، وتستجيش لها القلوب، وتؤدي إلى الإيمان العميق. وأجل نعم الله على الإطلاق إنزاله كتابه العظيم على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذا حمد الله نفسه، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} [الكهف: 1 - 3]. وقد وصف الله كتابه العظيم بوصفين يدلان على أنه كامل من جميع الوجوه وهما: نفي العوج عنه .. وإثبات أنه مقيم مستقيم. فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث. وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات، وهي الأخبار التي تملأ القلوب معرفة وإيماناً ورحمةً وعلماً كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه تزكي النفوس وتطهرها، وتنميها وتكملها؛ لاشتمالها على كمال العدل والقسط والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له. وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن الكريم قد اشتمل على كل عمل صالح موصل لما تستبشر به النفوس وتفرح به الأرواح في الدنيا بالسعادة والطمأنينة، وفي الآخرة بالجنة ورضوان الله. ومن أراد أن ينتفع بالقرآن الكريم فليأت إليه بقلب سليم، بقلب خالص، بقلب يتقي الله ويخشاه، فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب، وعندئذ يتفتح القلب عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه

متقياً: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2]. والناس عادة لا يتركون عاداتهم في وقت واحد، ولا ينقادون لجميع الأحكام في وقت واحد. لذا فطم القرآن الكفار عن الشرك وأحيا قلوبهم بنور الإيمان أولاً، وغرس في نفوسهم حب الله ورسوله، والإيمان بالبعث والجزاء ثانياً، ورغبهم في الجنة، وحذرهم من النار، ورغبهم في الأعمال الصالحة بالفضائل، ودعاهم إلى أحسن الأخلاق ثالثاً. ثم انتقل بهم إلى العبادات فبدأهم بالصلاة التي تصل المخلوق بخالقه، ثم ثنى بالصوم، والزكاة التي تربط المخلوق بالمخلوق، ثم ختم بالحج في السنة التاسعة من الهجرة .. وهكذا. وكذا فعل في العادات المتوارثة عندهم، زجرهم أولاً عن الكبائر والفواحش، ثم نهاهم عن الصغائر تدرجاً، وحرك نفوسهم وعواطفهم وعقولهم للمحاسن والفضائل. والقرآن العظيم كتاب كريم .. حكيم .. مجيد .. عزيز. أحسن كتب الله نظاماً .. وأحسنها بياناً .. فيه تبيان كل شيء .. وتفصيل كل شيء. وفيه ذكر أعلى شيء وأدنى شيء من الأقوال والأعمال والأحوال والأشخاص والمنازل. يهز القلوب التي تتفتح له، ويرجف من مواعظه وآياته الفؤاد، بل يتأثر منه الصخر الجامد لو تنزل عليه كما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21]. وقد كانت الكتب السماوية السابقة أمانة في أعناق البشر، ليحفظوها ويعملوا بها، ولكنهم ضيَّعوها، وحرَّفوها، وبدَّلوها وكتموها، ولم يعملوا بها: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا

فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79]. أما القرآن الكريم فقد تكفل الله بحفظه كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. وسيبقى القرآن إلى يوم القيامة محفوظاً من أي عبث بشري، أو أي تدخل من أي جهة كانت، مهما بذلت من محاولات، ومهما دبر مدبر. فإن أحداً لن يستطيع أن يمس القرآن بسوء؛ لأن الله حافظه وحاميه. فمثلاً خط الحفاظ على المنهج والعمل به يتقلص مع مرور الزمن، ومع قلة الوعظ والتذكير، بينما خط حفظ القرآن يعلو ويتضاعف، وإنه لعجيب حقاً أن الخط الإيماني يميل إلى الهبوط، بينما خط حفظ القرآن يعلو ويزداد. ولكن العجب يزول إذا علمنا أن هناك خطاً يتبع الإرادة البشرية وهو الإيمان، وخطاً يتبع إرادة الله وهو حفظ القرآن. ولو كان الخطان يتبعان إرادة البشر، لكان من المنطقي أن يسيرا في اتجاه واحد، ومستوى واحد، ولكنهما مفترقان: أما الخط البشري فيتناقص، وأما الخط الإلهي فيعلو ويزداد. وقد أنزل الله القرآن تذكرة للعالمين، ليذكر الناس بالصراط المستقيم، ليعلمهم طريق العبادة، والحياة الآمنة الطيبة في الدنيا والآخرة، فالقرآن موجود لكل من أراد أن يتذكر. فمن أراد الاستقامة وطلبها فالقرآن مذكر له، فإذا أخذت القرآن وبدأت تدرس تعاليمه بهدف الاستقامة هداك الله إلى الصراط المستقيم: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 27، 28]. وقد كان المجتمع البشري قبل نزول القرآن مملوءاً بكثير من الأدواء من حروب وقتل وتشريد، وظلم وطغيان، وفساد وفجور، واستعباد وفرقة بين الناس. القوي يأكل الضعيف .. والدنيا لمن غلب، وما كان لله من الطاعة والعبادة توجهوا به إلى الأصنام والأوثان.

فلما أراد الله شفاء الأمة من هذه الأدواء والأمراض والضلال أرسل الله عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى العالمين بهذا القرآن، ليشفي البشرية من أسقامها، وينقذها من الشقاء الذي تعيش فيه كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. فشفي الله البشرية بنزول القرآن، واستقر منهج الله في الأرض، وحكم حركة الحياة في أجمل وأحسن قرون البشرية، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين. ثم توالت الرحمات من رب العالمين لتمنع الشقاء عن الأمة، وكان النصر وكانت العزة لمن تمسك بهذا الدين. فإذا حدثت غفلة وابتعد الناس عن المنهج جاءت داءات جديدة ومصائب ثقيلة، فإذا عاد الناس إلى المنهج وإلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله جاء الشفاء، وزال الوباء، وجاءت الرحمة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وكل نبي من الأنبياء أوتي آية ليصدقه من أرسل إليهم، ورآها أولئك كآية الطوفان لنوح، وآية الريح لهود ونحوهما. ولكن الذي أوتيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - معجزة وآية هو القرآن الكريم، الذي يعطي عطاء لكل جيل، يختلف عن الجيل الذي قبله، وهو صالح لكل زمان ومكان وإنسان، يداوي أمراض المجتمعات أينما كانت، ومهما كانت. يحمل العلاج لكل الداءات، ويعالج مشاكل البشرية في أنحاء الأرض: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. والقرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته: فتارة يتجلى سبحانه في جلباب الهيبة والعظمة والجلال فتخضع الأعناق، وتنكسر الكبرياء، وتخضع النفوس، وتخشع الأصوات. وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال الدالة على كمال الذات فيستنفد به

من قلب العبد قوة الحب كلها، ويصبح فؤاده فارغاً إلا من محبته. وإذا تجلى سبحانه بصفات الرحمة والبر، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء في العبد فسار إلى ربه، وكلما قوي الرجاء جدَّ في العمل. وإذا تجلى الرب بصفات العدل والانتقام، والغضب والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة بالسوء، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرمات. وإذا تجلى سبحانه بصفات الأمر والنهي، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، انبعثت من النفس قوة الامتثال والطاعة، وتنفيذ أوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها. وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه. فتبقى حركاته وأقواله وأفعاله موزونة بميزان الشرع. وإذا تجلى سبحانه بصفات الكفاية، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه، انبعثت من العبد قوة التوكل على ربه، والتفويض إليه، والرضى به. وإذا تجلى جلَّ جلاله بصفات العز والكبرياء، انبعثت من العبد صفات الذل لعظمة الله، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح لجلاله، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه. والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: أحدهما: النظر في مخلوقاته ومفعولاته. الثاني: التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة .. وهذه آياته المسموعة المعقولة. فالنوع الأول كقوله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ

وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. والثاني كقوله سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. والوحي روح ونور كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. والحياة والنور موقوفان على نفخ الرسول الملكي .. ونفخ الرسول البشري. ومن حصل له نفخ الرسول الملكي، دون نفخ الرسول البشري، حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى، كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. ولم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام منه بزيادة أو نقصان كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. وقال سبحانه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} [البقرة: 26]. والإنسان إذا قرأ القرآن وكرره من غير فهم وعمل، كان كمن يكرر قراءة كتاب الملك كل يوم عدة مرات، وقد أمره فيه بعمارة مملكته، وهو تاركها أو مشغول بتخريبها، ومقتصر على قراءة كتابه. فلو ترك القراءة مع المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء والمقت. فالذي يتلو كتاب الله لمجرد التلاوة ويعطل أحكامه، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فكيف حال من لا يقرؤه ولا يهتم به؟: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].

إن العارف حقاً لا يقرأ القرآن لأجل المزيد من المعلومات فقط. ولا لأجل الحصول على الثواب الموعود به على كل حرف فقط. ولا تكون قراءته بقصد الاستمتاع بفصاحته، وتذوق بلاغته فقط. بل يقرؤه مع ذلك لأجل أن يتلقى كلام رب العالمين، كلام ملك الملوك. ويقرؤه كقراءة الجندي أو العبد الذي يقرأ كتاب رئيسه أو سيده ليعمل بمقتضاه، وينفذ وصاياه. ويفرح به أعظم فرح، وبذلك تنفتح له كنوز العلم والمعرفة، وتحصل له بركاته، ويتيسر له العمل به دون إحساس أو تكلف. بل يستلذه ويتمتع به، ويضحي بكل شيء من أجله، ويظهر أثره على قلبه وروحه وجوارحه. فالقرآن العظيم بصائر لجميع الناس، وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله في القرآن هذا وهذا. فهو هدى للعالمين، وهدى للمتقين .. وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين .. وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين. فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة. فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء، فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة. وكذلك الهدى، فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن لم يهتدِ به، وإنما يهتدي به ويُرحم المتقون الموقنون، فهو هدى لأن من شأنه أن يهدي كما قال سبحانه: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 138]. فالله عزَّ وجلَّ هو الهادي، وكتابه هو الهدى الذي: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ

وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 16]. ويهدي به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فالقرآن الكريم هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، لم يقاومه الداء أبداً. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وشفائه، وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. أما عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فسببه أنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان. فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يتلَقَّ هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها. بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: 124، 125]. فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة. وإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن، الذي هو

الشفاء النافع. وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله. قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنْزَلَ الله دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري (¬1). وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها. ولم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الأدواء من القرآن الكريم. والله سبحانه جعل للإنسان حياتين: حياة البدن بالروح، وهذه لازمة للحياة. وحياة الروح والقلب بالنور، وهذه لازمة للنجاة. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. فجعل سبحانه وحيه روحاً ونوراً، فمن لم يحييه بهذا الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نوراً منه فهو في الظلمات ما له من نور. والقرآن كتاب الله أنزله لينذر من كان حياً. والمقصود بإنزاله تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. ولا شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (5678).

وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته. فآيات القرآن تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وتريه طرقهما وأسبابهما، وغايتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما. وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيان الدين على جسده، وتريه صورة الدنيا والآخرة، وصورة الجنة والنار في قلبه. وآيات القرآن تحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وإحسانه وفضله. وآيات الكتاب العزيز تعرف الناس بربهم فيعرفون ذاته، ويعرفون أسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد القدوم عليه من الكرامة وتعرفهم في مقابل ذلك ثلاثة ضدها: ما يدعو إليه الشيطان .. والطريق الموصلة إليه .. وما للمستجيب لدعوة الشيطان من الإهانة والعذاب في النار. فهذه الأصول لا بدَّ للعبد من معرفتها ليميز بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم. فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد. وآيات القرآن نوعان: خبر .. وطلب. والخبر نوعان: خبر عن الخالق .. وخبر عن المخلوق. فالخبر عن الخالق: ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، ودينه وشرعه، وخلقه وأمره، وثوابه وعقابه. والخبر عن المخلوق يكون بذكر مخلوقات وأحوال العالم العلوي كخلق السموات والملائكة والكواكب، وذكر مخلوقات وأحوال العالم السفلي كخلق

الأرض والجبال والبحار، وخلق الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وذكر مخلوقات وأحوال اليوم الآخر كخلق الجنة والنار، وما فيهما من المخلوقات والمنازل. والطلب نوعان: طلب فعل .. وطلب ترك. وهو الدين الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة. فطلب الفعل يكون بالأمر بفعل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة والزكاة، والذكر والدعاء. وطلب الترك يكون بالنهي عن ما يبغضه الله ويكرهه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة كالكبائر والمحرمات، كالربا والزنى، وأكل أموال الناس بالباطل، والكذب والنفاق، وسائر المنكرات والمعاصي. والنفوس البشرية قسمان: نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب، غارقة في طلب اللذات الجسمانية. ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية. فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول: إنذار وتخويف، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم، وإلى منبه ينبههم. وأما في حق القسم الثاني: فتذكير وتنبيه؛ لأنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم. فالقرآن إنذار في حق طائفة، وذكرى في حق طائفة أخرى فهو: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)} [المائدة: 46]. و {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2]. وقد أنزل الله القرآن المتضمن للعقيدة والشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها، رجاء أن ينال الناس حين يتبعونها رحمة الله في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155]. إن الناس اليوم في الجاهلية الحديثة الماكرة يطلبون حاجات نفوسهم

ومجتمعاتهم وطريقة حياتهم خارج هذا القرآن، كما كان الناس في الجاهلية القديمة يطلبون للإيمان خوارق ومعجزات غير هذا القرآن كما قال سبحانه عنهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة وأهواؤهم ومصالحهم الذاتية دون رؤية الآيات الكونية الهائلة، والآيات الشرعية الكاملة في هذا الكتاب العظيم. وأما أهل الجاهلية الحديثة فيحول بينهم وبين هذا القرآن العظيم غرور العلم البشري الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة، وغرور التنظيمات والتشكيلات التي ظهرت مع تجدد الحياة، وتوالي التجارب، وتجدد الحاجات. كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد الأعداء من اليهود والنصارى، والصليبيين والمنافقين، الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم. ومحاولة إلهاء أهله عنه، وإبعادهم عن توجيهه المباشر، وذلك بعدما علم هؤلاء الأعداء من تجاربهم الطويلة معه أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين ما داموا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته وسننه وأحكامه. وهو كيد مطرد لئيم خبيث، ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس اليوم، والتي تسر الشياطين، وتغضب الله رب العالمين. ويتبع ذلك محاولات أخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين بأساليب ماكرة، ولتدارس قرآن غير قرآنه، يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في جميع أحوالهم. وذلك بتحكيم القوانين والنظم التي يفترونها، ونبذ أحكام الله، ورفعها من منهج الحياة، فنبذوا كتاب الله، واتبعوا ما أمرتهم به الشياطين، وصفق لذلك المنافقون والمغرورون.

فواعجباً لهؤلاء وأولئك، ألا ما أعظم تلاعب الشيطان بالبشر. هؤلاء أعرضوا عن الدين وأضلوا .. وأولئك ضلوا وخسروا. والجميع في شقاء ووبال وسفال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. فليهنأ من ثبت على دينه، وسار على هدى ربه وسنة رسوله، ففيهما البصائر والهدى والشفاء، والسعادة في الدنيا والآخرة: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: 203]. ولهذا أمرنا الله بتدبر القرآن، والتفكر في آياته، والعمل بما فيه، والمداومة على تلاوته، وحسن الاستماع له كما قال سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]. إن الاستماع لهذا القرآن والإنصات له هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه. وإذا قال الملك الجبار الرحمن الرحيم كلاماً يوجه فيه عباده إلى ما ينفعهم ويحذرهم مما يضرهم، ويعرفهم بعظمته وجلاله، ويذكرهم بآلائه ونعمه، أفلا يستمعون وينصتون لعلهم يرحمون؟. ألا ما أعظم خسارة البشرية حين يعرضون عن هذا القرآن الكريم. إن الآية الواحدة منه لتصنع أحياناً في النفس حين تستمع له وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة، والطمأنينة والراحة، ما لا يدركه إلا من ذاق ذلك وعرفه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. لقد حاول أعداء هذا الدين أن يصرفوا الناس عن هذا القرآن نهائياً منذ نزوله إلى يومنا هذا كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]. فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء، ويطرب لها المستمعون، ولم

يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه والاتباع. فقد صاغ لهم أعداء الدين أبدالاً منه، يتلقون منها التوجيه في شئون الحياة كلها، ويسمون أنفسهم مسلمين، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. ولكن القرآن ما يزال يعمل من وراء كيد هؤلاء الأعداء، وسيظل يعمل؛ لأن الله تكفل بحفظه، وسينصر أهله ما حكموه في حياتهم، ويهلك أعداءهم: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44، 45]. والقرآن الكريم كتاب كامل شامل، أنزله الله ليكون منهج حياة للبشرية إلى يوم القيامة. ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر بباله أن يطلب سواه، أو يطلب تبديل بعض أجزائه. لكن الذين يجهلون حقيقة القرآن ولا يرجون لقاء الله يطلبون طلباً عجيباً: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15]. فالقرآن الذي أنزله خالق الكون كله وما فيه، وخالق الإنسان هو الحق الذي لا حق سواه؛ لأن الله أعلم بما يصلح الإنسان، فما يكون للرسول ولا يحق له ولا لغيره أن يبدله من تلقاء نفسه. وإنْ هو إلا مبلغ للوحي من ربه ومتبع له، وكل تبديل فيه أو تحريف معصية وراءها عذاب يوم عظيم. وهذا القرآن العظيم بما فيه من الآيات والمعجزات .. والأخبار والأوامر ..

وتنظيم حياة البشر .. وبيان طبيعة البشر .. وطبيعة الحياة .. وطبيعة الكون وتصريفه وتدبيره .. وأحوال اليوم الآخر وقصص الأنبياء مع أممهم .. كل ذلك لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله. لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله عزَّ وجلَّ، القدرة المطلقة التي تحيط بالأوائل والأواخر، والظواهر والبواطن، وتضع المنهج الكامل المبرأ من النقص والقصور، ومن آثار العجز والجهل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)} [يونس: 37]. إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى، يبين فيها عظمة الخالق وقدرته، وينشئ بها عقيدة قوية صافية، وتصوراً كاملاً للوجود. كما يجعل فيها منهجاً للتفكير والنظر، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس، فيتحقق التوحيد، ويزيد الإيمان، وتطمئن القلوب، وتنقاد الجوارح للطاعة والعبادة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 57 - 74]. إن الله عزَّ وجلَّ ينشئ العقيدة بعرض آيات قدرته في خلق الناس، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم، وفي الماء الذي يشربون، وفي النار التي يوقدون، والموت الذي يشاهدون، ليقف الناس وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة.

فيرون كل وقت عظمة الرب، وكمال قدرته، وجمال صنعه. إنه لا يكل الناس إلى الخوارق والمعجزات الخاصة المعدودة، إنما يكلهم إلى مألوفات حياتهم التي يشاهدونها كل يوم، ولكنهم يغفلون عنها لطول إلفهم لها، فيغفلون عن مواضع الإعجاز فيها. فالمشاهدات المألوفة التي يراها الناس كل يوم، النسل والزرع، والماء والنار، والحياة والموت، فأي إنسان لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟. أي ساكن كهف؟ .. وأي راع للغنم؟ .. وأي عالم ذرة؟ .. وأي عالم طبيعة؟ .. وأي عالم وأي جاهل؟. أي واحد من هؤلاء وغيرهم على اختلاف مستوياتهم وأفكارهم، لم يشهد نشأة حياة حيوانية، ونشأة حياة نباتية، ومسقط ماء، وموقد نار، ولحظة وفاة. من هذه المشاهدات والكائنات الهائلة التي يراها الإنسان، ينشئ القرآن العقيدة، وهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان، وتواجهه يومياً، فماذا يريد البشر فوق هذا؟: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. وهذا القرآن العظيم من أنزله؟ .. ومن أحكمه؟ .. ومن فصّله؟: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. وماذا تضمنت آياته؟. لقد تضمنت أمهات العقيدة وأصولها التي جاء القرآن يقررها، ويقيم عليها الأمة وهي: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)} [هود: 2 - 4]. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} فهو توحيد العبودية والطاعة لله سبحانه. {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)} فهي الرسالة وما تضمنته من بشارة ونذارة. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية إلى

التوحيد والطاعة. {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فهو الجزاء للتائبين المستغفرين. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} فهو الوعيد للمتولين. {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)} فهي قدرة الله المطلقة، والسلطان الشامل على الكون وما فيه. هذا هو الكتاب، وهذه هي الأصول التي يدعو إليها: إيمان وتوحيد .. وبشارة ونذارة .. وعبادة ودعوة .. واستغفار وتوبة .. وثواب لأهل الطاعة .. وعقاب لأهل المعصية .. وعودة إلى الله القدير ليحكم بين العباد. وكتاب الله عزَّ وجلَّ حق بذاته، وليس لأحد أن يتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى علمية حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية. فالنظريات العلمية قابلة دائماً للانقلاب رأساً على عقب. أما القرآن فهو حق صادق بذاته، سواء اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. إن تلمس البعض موافقات من النظريات العلمية للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن، واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير. وهو هزيمة ناشئة من الفتنة بالعلم، وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي، الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في حدود دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على العلم يحسب أنه يخدم القرآن، ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان. إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم الإنساني المتقلبة ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى

إعادة النظر فيه. إن القرآن هو الأصل، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء، وهو الحق بذاته: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41، 42]. والقرآن الكريم هو كتاب الله للعالمين إلى يوم القيامة، يهدي للتي هي أقوم في جميع مجالات الحياة كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. يهدي للتي هي أقوم في عالم الروح والقلوب بالإيمان بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من عالم الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية للعمل والبناء. ويهدي للتي هي أقوم في التأليف بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه به الإنسان إلى الله. ويهدي هذا القرآن للتي هي أقوم في مجال العبادة بالموازنة بين الأوامر الشرعية والطاقة البشرية. فلا تشق الأوامر على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال. ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ويقيم هذه العلاقات على أصول عادلة ثابتة لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض. هذه الأصول التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما

يصلح لهم في كل أرض، وفي كل جيل. فيهديهم من يملك الهدى وحده للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، والنظام الفردي اللائق بعالم الإنسان. ويهدي للتي هي أقوم بربط كل إنسان بنفسه وعمله، إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها، وما من نفس تحمل وزر أخرى، إنما يسأل كل أحد عن عمله، ويجزى كل بعمله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. ويهدي القرآن للتي هي أقوم ببناء الأسرة على الوضوح والعفة، فيأمر باختيار الزوجة الصالحة، وإعلان هذا الزواج بين الناس. وينهى عن الزنا؛ لأن في الزنا قتلاً من نواح شتى: ففيه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها، يتبعه غالباً التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق، أو بعد أن يتخلق، أو بعد مولده. وإذا تُرك الجنين للحياة تُرك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة في المجتمع. وهو قتل للجماعة التي يفشو فيها، فتضيع الأنساب، وتختلط الدماء، وتزول الثقة في العرض والولد. وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه، يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي لها، والأسرة هي المحضن الصالح للمواليد الناشئة، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه. ولذلك يحذر القرآن من مجرد مقاربة الزنا؛ لأن الزنا تدفع إليه شهوة خفية، فالتحرز من المقاربة أضمن: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]. ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة توقياً للوقوع فيه.

فينهى عن الاختلاط في غير ضرورة، ويحرم الخلوة، وينهى عن التبرج بالزينة. ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع. وينهى عن الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور، وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد. ويحض على إعانة من يرغب في الزواج، ويوقع أشد العقوبة على جريمة الزنا حين تقع، وعلى رمي المحصنات دون برهان. وذلك ليحفظ المجتمع من التردي والانحلال، وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال وهلاك ودمار. وهو يهدي للتي هي أقوم في حفظ النفوس والأمم. فالإسلام دين السلام والحياة، وقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه، فلا تقتل إلا بالحق. وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدود بيِّن لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي، ولا متأثراً بالهوى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمفارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ» متفق عليه (¬1). فالأول: القصاص العادل الذي يحفظ حياة الأمة، ويدفع عنها الشر، وإراقة الدماء. والثاني: دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة. والثالث: دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة، ويهدد أمنها، ونظامها الذي اختاره الله لها. فمن قتل بغير واحد من الأسباب الثلاثة، فقد جعل لوليه سلطاناً على القاتل، إن ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6878)، ومسلم برقم (1676) واللفظ له.

شاء قتله، وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33]. وهو يهدي للتي هي أقوم بالتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة قبل الحكم عليها، فالإسلام دين الوضوح والاستقامة، لا يقوم شيء فيه على الظن أو الوهم أو الشبهة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]. إن القلب والعقل متى استقاما على هذا المنهج العظيم لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب. فالإنسان أين كان ومن كان مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهب السمع والبصر والفؤاد. فلا يقول الإنسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ولا يحكم حكماً ولا يبرم أمراً إلا وقد تثبت منه؛ لأنه مسئول عنه. ويهدي للتي هي أقوم في معرفة الرسل، والإيمان بهم، والإيمان بما جاءوا به من كتب من عند الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء: 9، 10]. فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن فهم متروكون لهوى الإنسان العجول، الجاهل بما ينفعه وما يضره: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11].

وهذا الكتاب العزيز ينبغي أن يكون هو كتاب الذكر والوعظ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} [الأنبياء: 50]. وأن يكون كتاب التعليم كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وأن يكون كتاب العمل كما قال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155]. وأن يكون كتاب الدعوة إلى الله، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله قبل الاتجاه إلى مصدر سواه. والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس إلى ربهم؟. وكيف يوقظون القلوب الغافية؟ .. وكيف يحيون الأرواح الخامدة .. وكيف يلينون القلوب القاسية؟. إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، فهو يعرض عليه: تارة النظر في الآيات الكونية .. وتارة النظر في الآيات الشرعية .. وتارة يرغبه في الجنة .. وتارة يحذره من النار .. وتارة يخاطب فطرته .. وتارة يخاطب عقله .. وتارة يذكره بعظمة الله بذكر أسمائه وصفاته .. وتارة يذكره بنعمه وإحسانه إلى عباده .. وتارة يذكره بالموت والحياة: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)} [الأنعام: 19]. وكما أن عليهم أن يتبعوا منهج الله في البدء بالتوحيد، وتقرير ألوهية الله وربوبيته، فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق، كيفما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته لعباده، والحكم له فيهم. فهو الذي له الخلق والأمر، وله العبودية والطاعة من جميع خلقه.

والكفار في أنحاء الأرض لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي، وأنه الرسالة الخيرة للبشرية من ربها. وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع، وإذا كان أكثر المسلمين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، ولا يدركون وظيفتهم في دينهم فكيف تكون حالهم وحال غيرهم؟. إن مثل آيات هذا الكتاب العظيم كمثل الدواء يعطى منه للمريض جرعات حتى يشفى، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]. والمشركون لا يدركون ذلك، ولذلك يتهمون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكذب والافتراء، وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذباً قط: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} [النحل: 101، 102]. فإذا بدل سبحانه آية انتهى أجلها وتحقق مرادها، وأتى بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة، فهو العليم الخبير، والشأن له في ملكه وخلقه وأمره: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وقد كان كفار مكة يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجاباً مخفياً لا يظهر للعيون، ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء: 45]. ولقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت، وما

في الإسلام من تماسك، وما في القرآن من سمو وارتفاع، ولكنه الكبر والجحود والحسد: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. ولقد كانوا ينفرون من كلمة التوحيد التي تهدد وضعهم الاجتماعي، والفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر، والكبرياء تمنعهم من التسليم والانقياد: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 46]. وكما أن الروح من الأسرار التي اختص الله بعلمها، كذلك القرآن كلام الله الذي اختص الله بعلمه وتنزيله، ولا يملك الخلق محاكاته، ولا يملك الإنس والجن- وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي- أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]. فلا يمكن للبشر ولا للجن ولا لغيرهم أن يأتوا بمثله، وهو كالروح من أمر الله، لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره. ولقد أنزل الله هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وإلى انفعال، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل لمنهج الحياة. إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً. فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً. ومن هنا ندرك جهل الكفار في طلبهم إنزال القرآن جملة واحدة كما قال الله

عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)} [الفرقان: 32]. وفي المحسوس المشاهد النفس تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية، فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها. لقد جاء كتاب الله الكريم بمنهاج شامل للحياة كلها، وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها، فجاء لذلك منجَّماً وفق الحاجات والاستعدادات التي تستجد وتنمو يوماً بعد يوم. جاء ليكون كتاب عمل، وليكون منهج تربية، ومنهج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يُقرأ لمجرد اللذة، أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، وآية آية، وسورة سورة. جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها، ليعملوا بها فور تلقيها في جميع شئون حياتهم. ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك الجمال والجلال، والعظمة والهيبة في حياة الأمة التي تلقته بالقبول والعمل. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، وزحزحوا عنه، وزهدوا بما فيه من البركات والثمرات، وقعوا على جيفة الدنيا، وموائد الشيطان، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة فحسب، وأحياناً تفتتح الجلسات والحفلات بآيات منه، ولم يتخذوه منهج تربية للانطباع والتكيف، ولا منهج حياة للعمل والتنفيذ، فلم ينتفعوا من القرآن بشيء، وحرموا بركته؛ لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير. فيا ويح هذه الأمة ماذا خسرت، وماذا فقدت حين أعرضت عن مصدر هدايتها وعزتها؟. إن الله تبارك وتعالى كما أنزل من السماء ماء طهوراً، يغسل وجه الأرض بالماء الطهور، الذي ينشئ الحياة في الموات، ويسقي الأناسي والأنعام، كذلك هو

سبحانه أنزل القرآن لتطهير القلوب والأرواح وإحيائها: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} [الفرقان: 48 - 50]. فوا عجباً لهؤلاء البشر، كيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام، ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للقلوب؟. إن مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مهمة شاقة ضخمة، فهو يواجه البشرية كلها، وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر، ودلائل الإيمان حاضرة أمامه. والله قادر على أن يبعث في كل قرية نذيراً، فتوزع المهمة، وتخف الشقة، ولكن الله اختار لها عبداً واحداً هو خاتم الرسل. وكلفه إنذار القرى جميعاً، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن أعظم الكتب وآخرها، ليجاهدهم به، ويحكمه في حياتهم. ففيه من القوة والسلطان والتأثير العميق والجاذبية التي لا تقاوم ما كان يهز القلوب هزاً، يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر، ولا يثبت لها جدال أو محال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 51، 52]. والله عزَّ وجلَّ قادر على أن يلوي أعناق الكفار إلى الإيمان كرهاً بآية قاهرة، تقسرهم عليه قسراً: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: 4]. لكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة يراها جيل من الناس، بل جعل آيتها دائمة يراها كل البشر، وهي القرآن الكريم، الذي هو منهج حياة كاملة، ومعجز في كل ناحية. ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان.

فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة لكل أمة في مشارق الأرض ومغاربها، ومعروضة على كل جيل من أجيال البشرية إلى يوم القيامة: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أوْحَاهُ الله إِلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). فالمعجزات القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعاً يُشهد ويُرى. فأما القرآن فهو كتاب مفتوح، ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل كل زمان ما يقوم حياتهم، ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ويعطي لكل طالب بقدر حاجته. فكيف يليق بالإنسان أن يعرض عن هذا القرآن العظيم؟. وكيف يجهل عظيم رحمة الله بتنزيل هذا الذكر الحكيم؟. ألا ما أحوج البشرية إلى كتاب يهديها إلى ربها، وينظم حركة حياتها. فإذا جاء من ربها ورفضته، وحرمت نفسها منه، وهي أحوج ما تكون إليه، فهذا فعل مستقبح كريه، وأهله جديرون بالعقاب والعذاب، وسيعاقبهم الله؟. فما أعجب هؤلاء البشر: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)} [الشعراء: 5، 6]. إنهم يطلبون آية خارقة، ويغفلون عن آيات الله الباهرة: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: 7، 8]. وفي آيات الكون غنى ووفرة وكفاية، ولكن رحمة الله تقتضي أن يبعث الرسل، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4981)، واللفظ له، ومسلم برقم (152).

وينزل الكتب، للتبصير والتنوير، والتبشير والإنذار: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. والله سبحانه أنزل الكتاب بالحق، وهو الحق الذي يدعو إلى الحق: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} [فاطر: 31]. ودلائل الحق في القرآن جلية واضحة، وهو مصدق لما قبله من الكتب السابقة الصادرة من مصدره كالتوراة والإنجيل. هذا هو الكتاب في ذاته، وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة، واصطفاها لهذه الوراثة، وأكرمها بذلك، ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]. فالفريق الأول: هو الأكثر عدداً ظالم لنفسه، تربو سيئاته على حسناته. والثاني: وسط مقتصد، حسناته تعادل سيئاته. والثالث: سابق بالخيرات بإذن الله، تربو حسناته على سيئاته. ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً. فكلهم جميعاً انتهى إلى الجنة وإلى النعيم، على تفاوت في الدرجات، ذلك هو الفضل الكبير. وفي الجانب الآخر الكفار، حيث العذاب والقلق والاضطراب: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. إنهما صورتان متقابلتان: صورة الأمن والراحة .. تقابلها صورة القلق والاضطراب.

ونعمة الشكر والدعاء .. تقابلها ضجة الصراخ والنداء. ومظهر العناية والتكريم .. يقابله مظهر النسيان والتأنيب. والكتاب الذي أنزله الله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69]. فهو ذكر وقرآن، وهما صفتان لشيء واحد. ذكرٌ بحسب وظيفته، وقرآنٌ بحسب تلاوته، فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان. وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} [يس: 70]. ينذر من به حياة فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافرون فهم موتى لا يسمعون النذير، ولو سمعوا ما استجابوا. ووظيفة القرآن بالنسبة إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحداً حتى تبلغه الرسالة، ثم يكفر عن بينة، ويهلك بلا حجة ولا معذرة. والقرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، جعله عربياً حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة، ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة، وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها للعالمين. ولهذا القرآن عند الله مكانة عظيمة، فهو كتاب الله للبشرية إلى أن تقوم الساعة: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف: 3، 4]. فهل يشعر القوم الذين جعل الله القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم؟. وهل يتذكرون قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليهم؟. وقد كان عجيباً وما يزال، أن يعنى الله في عظمته وعلوه وغناه بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتاباً بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويصلح أحوالهم، ويبين لهم طريق الهدى.

ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون، ولكن الله رحيم لم يعاجلهم بالعقوبة وهم مستحقون للإهمال والإعراض: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} [الزخرف: 5]. والقرآن العظيم كله محكم، مشتمل على غاية الإتقان والإحكام، والعدل والإحسان كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. وكل القرآن متشابه في الحسن والبلاغة، وتصديق بعضه لبعض كما قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. وآيات القرآن نوعان: آيات محكمات .. وآيات متشابهات. فالآيات المحكمات: هي الواضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال، وهي أم الكتاب وأصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره. ومنه آيات متشابهات، يلتبس معناها على كثير من الأذهان، لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى الأفهام غير المراد منها. فالواجب رد المتشابه إلى المحكم، والخفي إلى الجلي، وبهذا يزول الإشكال والتعارض. وكل من المحكم والمتشابه من عند الله، وما كان من عند الله فليس فيه تعارض ولا تناقض، بل هو متفق يصدق بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض. والواجب أن نعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7].

وكل من المحكم والمتشابه ابتلاء للعقل، يفهم أشياء ويعمل بها، ولا يفهم أشياء فيجب أن يؤمن بها؛ لأن الله قالها، وعليه الانقياد والتسليم في الحالين. والقرآن الكريم ذكر يذكر الله به عباده بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 27، 28]. فالقرآن الكريم يذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله .. ويذكرهم بحقوق الرب على عباده .. ويذكرهم بالمبدأ والمعاد .. ويذكرهم بالخير ليقصدوه .. وبالشر ليجتنبوه .. ويذكرهم بنفوسهم وما تكمل به. ويذكرهم بالطاعات ليفعلوها .. ويذكرهم بالمعاصي والشرور ليحذروها .. ويذكرهم بعدوهم وكيف يحترزون منه؟. ويذكرهم برحمة الله ليسألوه إياها .. ويذكرهم بشدة بطشه ليتقوا غضبه .. ويذكرهم بالنعم ليشكروها .. وبإكرامه لمن أطاعه .. وانتقامه ممن عصى أمره .. وكذب رسله. وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن أصول الأخلاق التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وزين بها أفضل خلقه وأحسنهم وأجملهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً؛ لأن خلقه القرآن، يتأدب بآدابه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويتخلق بأخلاقه. وهذه الأخلاق التي وردت في القرآن: منها ما يتعلق بالفرد والأسرة .. ومنها ما يتعلق بالمجتمع والشعب .. ومنها ما يتعلق بالحاكم والدولة، وهذه الأخلاق موجهة للبشرية قاطبة، لتأخذ بها وتتجمل بها، وتعمل بها، وتدعو إليها، فهي خير أمة أخرجت للناس، وهذه الأخلاق العالية هي التي تميزها عن الناس. فقد أمر الله سبحانه الفرد بالتحكم في شهواته، وكظم غيظه، وأمر بالصدق والأمانة .. والحلم والعفو .. والرأفة والرحمة .. والعطف والحب .. والثبات والصبر .. والعدل والإحسان .. والتواضع والرفق .. والمبادرة إلى الصالحات ..

والمنافسة في الخيرات، والإحسان وصلة الأرحام. ونهى الإنسان عن رديء الأخلاق وسيئها: فنهاه عن الكذب والنفاق .. والرياء والخداع .. والكبر والعجب .. والفخر والاختيال .. والحسد والحقد .. والحرص والطمع .. والتعلق بالدنيا .. وسوء الظن .. وتناقض الأعمال والأقوال .. والسب والاستهزاء .. والسخرية والتعيير .. والقتل بغير حق .. وأكل المحرمات .. وتناول الخبائث .. وظلم العباد. ونهاه عن الغيبة والنميمة .. وعن الزنا .. وأكل الربا .. وشرب الخمر .. وكل فاحشة .. وكل إثم وبغي .. وكل كسب حرام .. إلخ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وفي مجال الأسرة أمر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين وطاعتهما .. وبين واجبات وحقوق كل من الزوجين .. وبين واجب الوالدين نحو الأولاد .. وواجب الأولاد نحو الوالدين .. وبين المحرمات من النساء .. وكيفية الزواج وشروطه .. وحسن المعاشرة .. وأحكام النفقة .. وأحكام المواريث والوصايا .. وأحكام الطلاق .. وأحكام العدة .. وأصول التربية، وآداب الأكل والنوم والضيافة ونحو ذلك. أما أصول أخلاق المجتمع، فقد قررها القرآن في أكمل صورة وأحسنها، فقد أمر باحترام الجار .. وإكرام الضيف .. وحسن المعاملات .. وصلة الأرحام .. وأداء الأمانة .. والوفاء بالعهد .. وإصلاح ذات البين .. والإحسان إلى الفقراء .. والرفق بالضعفاء .. والعفو عن المسيء .. والإعراض عن الجاهلين .. إلخ. ونهى القرآن عن قتل النفس بغير حق، وعن الغدر والخداع، والكذب وشهادة الزور .. وكتمان الحق والجهر بالسوء. ونهى قبل ذلك عن الشرك وعبادة الأصنام والأوثان والأشخاص. وحرم السرقة والغش .. والنهب والاختلاس .. وأكل مال اليتيم .. وخيانة

الأمانة .. والظلم والإيذاء .. والتواطؤ على الشر .. والنظر إلى عورات المسلمين .. وفتنة المؤمنين والمؤمنات .. والسب والقذف .. والصد عن سبيل الله .. إلخ. وكانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حافلة بالمواقف التي تدل على حسن الخلق، وحسن المعاملة مع الشعوب المسلمة وغير المسلمة في جميع جوانب الحياة؛ لتأليف قلوبهم، وجذبهم بتلك الأخلاق من الرحمة والعفو، والإحسان، والإكرام، والحلم والصبر للدخول في الإسلام، راغبين لا مكرهين. أما ما يتعلق بالحاكم والدولة، فقد بين الله في القرآن واجبات الحاكم وحقوقه: فأمر الله في كتابه الحاكم المسلم أن يجعل سياسته حسب مراد الله، ومن هنا كانت السياسة في الإسلام عبادة من العبادات، لها أوامر وسنن وأحكام وآداب. فأمر الله الحاكم بالحكم بالحق والعدل .. ورغبه في العفو والإحسان .. وأمره بالصبر والرفق .. وإقامة الحدود .. والاهتمام بمصالح المسلمين .. وأداء الحقوق .. والاهتمام بالرعية والنصح لهم .. والعناية بتعليمهم .. وتفقد أحوالهم .. والإحسان إليهم وامتثال أوامر الله في كل حال .. والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله .. والحكم بما أنزل الله. ونهاه عن الدجل والنفاق .. والخداع والكذب .. والظلم والغش .. واتباع الهوى .. وأكل الأموال بالباطل .. والاستكبار في الأرض .. والحكم بغير ما أنزل الله .. واجتناب كل ما نهى الله عنه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. فما أحسن هذا الكتاب، وما أعظم الرب الذي أنزله، وما أحسن الآداب والسنن والأحكام التي اشتمل عليها، وما أعظم الأخلاق العالية التي يدعو إليها: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].

وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن أصول دعوة الأنبياء بالتفصيل، وبين كيفية عرض الإسلام على الأفراد والأمم والحكام .. وعلى الأقوياء والضعفاء .. وعلى الأغنياء والفقراء وغيرهم. فذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وبين كيف نصر الله رسله وأتباعهم .. وكيف خذل ودمر من عاندهم وآذاهم. سواء كان حاكماً كفرعون ونمرود .. أو فرداً كقارون .. أو شعباً .. أو قبيلة .. أو أمة .. أو عائلة .. أو قوماً كعاد وثمود وغيرهما. والقرآن الكريم كما أنه كتاب توحيد وإيمان، كذلك هو كتاب شريعة، وكما أنه كتاب علم وحكمة، كذلك هو كتاب دعاء وعبودية، وكتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر. وميادين جهد المسلم على القرآن أربعة: جهد على ألفاظ القرآن بحسن التلاوة .. وجهد على معانيه بالفكر والاعتبار، وجهد على العمل بالقرآن في جميع شعب الحياة .. وجهد على الدعوة إلى القرآن، وإبلاغه البشرية في أنحاء الأرض كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والناس في ذلك متفاوتون، وكل له من ذلك نصيب، وأكملهم أعرفهم بكتاب الله، الذي جمع الله فيه علم الأولين والآخرين: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]. فما أظلم المعرضين عنه، وما أشد عقوبتهم؟: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية: 7، 8]. وأنت إذا لاحت لك الحقائق، وتبين النور من الظلام، فكن أسعد الناس بالهدى والنور، وإن جفا ذلك الأغمار، وسخر منه الفجار: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}

[الكهف: 28]. والقرآن الكريم صفة لله غير مخلوق؛ لأنه كلامه، منه بدأ وإليه يعود. تكلم به عزَّ وجلَّ، وسمعه جبريل من الله، وبلّغه جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبلّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته، وعلى أمته أن تبلغه للناس كافة إلى يوم القيامة. وإذا قرأنا القرآن فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ. تارة يضيفه الله إلى الرسول الملكي جبريل إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 19، 20]. وتارة يضيفه الله إلى الرسول البشري محمد - صلى الله عليه وسلم - إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء؛ لأنه هو الذي بلّغه إلى أمته كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 40، 41]. وتارة يضيفه الله إلى نفسه؛ لأنه هو الذي تكلم به كما قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} [التوبة: 6]. والقرآن العظيم فيه تبيان كل شيء، وهو هدى ورحمة، ونور وشفاء. وعمل القلب عند تلاوة القرآن: أن يستحضر عظمة المتكلم به وهو الله تبارك وتعالى .. ويفهم عظمة كلامه سبحانه .. ويحضر قلبه ويترك حديث النفس عند تلاوته .. ويتدبر ما يقرأ وهو أمر وراء حضور القلب .. ويفهم من كل آية ما تحمله من أحكام .. ويتخلى عن موانع الفهم .. وأن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن. فإن سمع أمراً أو نهياً قدر أنه المأمور والمنهي، وإن سمع وعداً أو وعيداً فمثل ذلك. وإن سمع قصص الأنبياء علم أنه المقصود ليعتبر ويتأثر قلبه بآثار مختلفة حسب الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال من الخوف والرجاء والحزن ونحو ذلك.

ويترقى ويحضر قلبه، وكأنه يقرؤه على الله عزَّ وجلَّ، واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه يستمع منه. فيكون حاله السؤال والتملق، والتضرع والابتهال، ويشهد بقلبه كأن الله عزَّ وجلَّ يراه ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه هنا: الحياء والتعظيم .. والإصغاء والفهم .. والحمد والشكر. متفكراً في عظمة ربه، وفي آلائه وإحسانه، وفي خلقه وأمره. يتبرأ من حوله وقوته، ولا يزكي نفسه، فإذا تلا آيات الوعد والمدح للصالحين، فلا يشهد نفسه عند ذلك. بل يشهد الموقنين الصادقين فيها، ويتشوف إلى أن يلحقه الله بهم. وإن تلا آيات الوعيد والمقت للعصاة وذم المقصرين، شهد نفسه هناك، وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً، وسأل الله أن يرحمه ويعفو عنه، فالناس رجلان: تائب وظالم: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. وقد وصف الله القرآن الكريم بأربع صفات كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وقد أنزل الله عزَّ وجلَّ القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعالج به القلوب المريضة بالشرك والكبر والظلم. فوحدت ربها .. وآمنت به .. وخضعت له .. واستقامت على دينه. والطبيب إذا وصل إليه المريض فله معه أربع مراتب: الأولى: أن ينهاه عن تناول ما يضره، ويأمره بالاحتراز من الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض، وهذا هو الموعظة. الثانية: أن يأمره بتناول الأغذية النافعة، بعد أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة، وهكذا الأنبياء يأمرون الناس بالأخلاق الحميدة بعد زوال الأخلاق الذميمة، وهذا هو الشفاء.

الثالثة: حصول الشفاء بعد تناول الغذاء وزوال الأخلاط، وكذا حصول الهدى، لا يمكن إلا بعد حصول النور في القلب، فإذا جاء نور الإيمان، جاء الهدى ونور القرآن، وإذا جاء الهدى ولى الضلال. الرابعة: الرحمة، وبالرحمة يكون العلاج، ولولا رحمة الله ما قام في الدنيا والآخرة شيء. فالنفس الزكية البالغة درجات الكمال تفيض أنوارها على أرواح الناقصين، وخص المؤمنين؛ لأن أرواح الكفار والمعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء، كما أن الجسم القابل للنور هو الجسم المقابل لقرص الشمس. وكلام الله عزَّ وجلَّ كله عظيم، وبعضه أفضل من بعض، وذلك أن الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به وهو الله .. ونسبة إلى المتكلَّم فيه. فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً. فـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]. و: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1]. كلاهما كلام الله، وهما مشتركان في هذه الجهة. لكنهما يتفاضلان من جهة المتكلَّم فيه، فهذا كلام الله وخبره عن نفسه عزَّ وجلَّ، والثاني كلام الله الذي تكلم به عن بعض خلقه. وكلام الأنبياء والعلماء والخطباء، بعضه أفضل من بعض، وإن كان المتكلم واحداً، وتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبراً أو إنشاءً أمر معلوم. فليس الخبر عن الله وأسمائه وصفاته والثناء عليه كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس، وإن كان كل الكلام عظيماً تكلم به الله. وكذلك الأمر بالتوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ونحو ذلك ليس كالأمر بلعق الأصابع وإماطة الأذى عن الطريق ونحو ذلك، وإن كانت كل

الأوامر الشرعية عظيمة أمر الله بها. والقرآن الكريم أنزله الله هدى للناس: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} [البقرة: 26]. فمن سمعه وأطاع الله أفلح، ومن سمعه وعصى الله شقي، والله أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته. فالقرآن الكريم سمعه أبو بكر - رضي الله عنه - فصار صدّيقاً .. وسمعه مسيلمة فصار كذَّاباً. وسمعه عمر - رضي الله عنه - فصار فاروق هذه الأمة .. وسمعه أبو جهل فصار فرعون هذه الأمة .. وسمعه أبو عبيدة - رضي الله عنه - فصار أمين هذه الأمة .. وسمعه سعد بن معاذ فصار من المهتدين، واهتز لموته عرش الرحمن، وسمعه عبد الله بن أبي فصار أكبر المنافقين. والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بمن يصلح لولايته. والمعول والمقصود: سمعنا وأطعنا، ليس سمعنا وعصينا، ولا سمعنا فقط: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. وكما أن رؤية الأشياء تتم بأمرين: سلامة البصر، ووجود النور الخارجي، فكذلك الاستفادة من الدين تتم بأمرين: نور الإيمان .. ونور القرآن. فقارئ القرآن بلا إيمان لا يستفيد منه، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن لا يستفيد، فلا بدَّ من نور الإيمان ونور القرآن لتحصل الهداية والسلامة وقد سمى الله القرآن روحاً إشارة إلى أنه لا حياة للناس إلا بالقرآن. وسماه نوراً إشارة إلى أنه لا نور في الدنيا والآخرة إلا بالقرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. وحقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد

الجوارح. وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المؤمن من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله عنه. فهذا الإيمان الذي يتميز به المسلم عن الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 2، 3]. وآيات القرآن الكريم تبصر العبد بحدود الحلال والحرام، وتهديه في ظلم الآراء إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل. وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق، وتناديه كلما فترت عزماته ليلحق بالركب الكريم. وتحثه على التزود لمعاده، وتحذره وتخوفه من العذاب الأليم، وتوقفه على ما أعد الله لأوليائه من دار النعيم المطلق، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل. والقرآن كلام الله عزَّ وجلَّ: وقد وصف الله كلامه بأنه مجيد، وهو أحق بالمجد من كل كلام، كما أن المتكلم به له المجد كله، فهو سبحانه المجيد، وكلامه مجيد، وعرشه مجيد. ووصفه بأنه عظيم، وهو أحق بالتعظيم من كل كلام، والمتكلم به هو العظيم الذي له العظمة كلها. ووصفه بأنه كريم، وهو أحق بالكرم من كل كلام، والمتكلم به هو الكريم الذي لا أكرم منه، وكثرة خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلم به: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 77، 78]. وقد حفظ الله كتابه، فالشياطين لا يمكنهم التنزل به؛ لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظ أن يقدر الشيطان على الزيادة فيه، والنقصان منه كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

فالله تبارك وتعالى حفظ كتابه .. وحفظ محله .. وحفظه من الزيادة والنقصان .. وحفظه من التبديل والتغيير .. وحفظ ألفاظه من التبديل .. وحفظ معانيه من التحريف .. وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان .. ويحفظ معانيه من التحريف والتغيير: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41، 42]. وكتب الله عزَّ وجلَّ فيها الهدى والنور، والموعظة والبيان والشفاء، والمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، وهم الذين تنفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور والموعظة. أما القلوب القاسية القاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة، ولا تذوق حلاوتها، ولا تسمع لتوجيهاتها، ولا تنتفع من هذا الهدى، ومن هذا النور، بهداية ولا معرفة، ولا تقبل ولا تستجيب. إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة .. وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة .. وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي. وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن كل شيء في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدنيا والآخرة، وكل ما يحتاج إليه العباد فهو مبين فيه أتم تبيين كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. فلما كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء، صار حجة الله على العباد كلهم، فانقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون بها كل خير في الدنيا والآخرة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23].

7 - فقه السنة النبوية

7 - فقه السنة النبوية قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. الله تبارك وتعالى امتن على عباده بأكبر النعم، وهي بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم، الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، وهداهم به إلى الصراط المستقيم. بعثه سبحانه إليهم من قومهم ناصحاً لهم مشفقاً عليهم، يتلو عليهم آيات ربه، ويعلمهم ألفاظها ومعانيها، ويزكيهم من الشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، ويعلمهم القرآن والسنة التي هي شقيقة القرآن. ويعلمهم الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه، ومعرفة أسرار الشريعة. فجمع لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين: تلاوة القرآن .. وتعليم الأحكام .. وتزكية القلوب بالإيمان .. وكيفية تنفيذ الأحكام .. وبيان ثواب أهل الطاعة .. وعقاب أهل المعصية. ففاقوا بمعرفة هذه الأمور والإيمان بها والعمل بموجبها جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. والسنة النبوية: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل، أو تقرير أو صفة. والوحي قسمان: آية محكمة .. وسنة ثابتة. فالسنة النبوية أحد قسمي الوحي الإلهي، الذي نزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -

كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). ومن آثار رحمة الله تعالى أن أنزل القرآن الكريم وحياً يتلى إلى يوم القيامة، محفوظ من التبديل والتغيير كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. فكان دليلاً على إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان خير حافظ للشريعة من عبث العابثين، وتحريف الغالين، وكان وما زال نوراً ساطعاً: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 16]. وكما حفظ الله شريعته بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رفع الإصر والحرج عن عباده، فأنزل على رسوله الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعاً آخر من الوحي هو السنة، أنزلها إليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه، إيذاناً بأن في الأمر سعة على الأمة وتخفيفاً عليها. فيجوز للمسلمين أن يبلغوا عنه - صلى الله عليه وسلم - باللفظ النبوي إن تيسر وهو الأولى، لما فيه من أنوار النبوة، وحسن الفصاحة. ويجوز أن يبلغوا عنه - صلى الله عليه وسلم - بعبارات تفي بالمقصود؛ لأن المقصود المعنى لا اللفظ. وفي هذا الوحي وهذا الوحي صون للشريعة، وتخفيف على الأمة. ولو كان الوحي كله من قبيل القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه لشق الأمر، وعظم الخطب، ولما استطاع الناس أن يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية. ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب، ومثار للشك، ومغمز للطاعنين، الذين يقولون لا نأمن من خطأ الرواة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (17174)، وأبو داود برقم (4604).

في أداء الشريعة. ولكن الله حكيم عليم صان الشريعة بالقرآن، ورفع الإصر عن الأمة بجواز رواية السنة بالمعنى، لئلا يكون للناس على الله حجة. والسنة النبوية وحي من الله إلى رسوله، وهي أصل من أصول الدين يجب اتباعها، والعمل بموجبها كالقرآن، وتحرم مخالفتها كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. والسنة النبوية مع القرآن لها ثلاثة أحوال: الأولى: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن من حيث الإجمال والبيان، فتكون مؤكدة لما جاء فيه لأهميته كالتأكيد على أهمية الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها. كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه (¬1). مع قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56]. وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]. وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (8)، واللفظ له، ومسلم برقم (16).

غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 97]. الثانية: أن تكون بياناً لما أجمل في القرآن، وذلك: ببيان مجمل كالأحاديث التي جاء فيها تفصيل أحكام الطهارة والصلاة، والزكاة والنفقات، والصيام والحج ونحو ذلك. أو تقييد مطلق كالأحاديث التي بينت المراد من اليد في قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]. فبينت السنة أنها اليد اليمنى، وأن القطع من الكوع لا من المرفق. أو تخصيص عام كالحديث الذي بين أن المراد من الظلم في قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. أنه الشرك، لا عموم الظلم، فأي أحد لم يظلم نفسه؟. أو توضيح لمشكل كالحديث الذي بين أن المراد بالخيطين في قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187]. هو بياض النهار، وسواد الليل. وأغلب السنة من هذا النوع، ولهذه الغلبة وصفت بأنها مبينة للكتاب كما قال سبحانه: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. الثالثة: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن. كالأحاديث التي دلت على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح، والحكم بشاهد ويمين، ووجوب رجم الزاني المحصن، ووجوب الكفارة على من انتهك حرمة صوم

رمضان، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، وكون ذكاة الجنين في بطن أمه ذكاة أمه، ونحو ذلك. وهذه الأحوال الثلاث تقع في الأحكام والأخبار. ومجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - العلمية كانت مفتوحة لكل الناس رجالاً ونساء، عرباً وعجماً، خاصة وعامة، أغنياء وفقراء، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مدرسة مشيدة، ولا معهد للتعليم يجلس فيه إلى أصحابه. بل كانت مجالسه العلمية كيفما اتفق: فهو في الجيش معلم وواعظ يلهب القلوب بوعظه، ويحمس الجنود بقوله. وهو في السفر مرشد وهاد .. وهو في البيت يعلم أهله السنن والآداب .. وهو في المسجد مدرس وخطيب، وقاضٍ ومفتٍ، وهو في الطريق يستوقفه أضعف الناس ليسأله عن أمر دينه فيقف ليعلمه ويرشده. وهو في جميع أحواله مرشد وناصح ومعلم. إلا أنه كثيراً ما كان يعقد لأصحابه المجالس العلمية بالمسجد، حيث يجتمعون فيه في أغلب الأوقات لأداء فريضة الصلاة، فكان يتخولهم بالموعظة تلو الموعظة، والدرس تلو الدرس، حتى لا يملوا ويسأموا. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. متفق عليه (¬1). فعلى العلماء والدعاة أن يهتدوا بسنته، ويقتدوا بأقواله وأفعاله كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - محجوباً عن رعيته كالملوك، ولا سلطاناً مترفعاً عن الاختلاط بأفراد أمته. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (68)، واللفظ له، ومسلم برقم (2821).

بل كان متقلباً بين ظهرانيهم .. يبلغ رسالة ربه .. ويعود مرضاهم .. ويشيع موتاهم .. ويفصل في قضاياهم .. ويفض منازعاتهم .. ويجيب داعيهم .. ويستقبل أدناهم وأشرفهم .. ويكرمهم بالكلمة الطيبة .. ويواسي محتاجهم. وهم في كل ذلك مقبلون عليه بآذان صاغية، وقلوب واعية. وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أصحابه سيخلفونه من بعده، وسيقع على كاهلهم أمر الإرشاد والتعليم والإفتاء والدعوة، فأتى في دروسه العلمية بأمور كان لها أكبر الأثر في توجيه الصحابة وتعليمهم كيف يضطلعون بمهنة التعليم والإرشاد. فكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا سئل عما لا يعلم سكت حتى يأتيه الوحي من الله بذلك. وكان من هديه أنه إذا قال كلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه. وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه ربما طرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم. وكان إذا سئل عن مسألة فأجاب عنها، أفاض في مسائل أخرى لها مناسبة بالمقام، أو صلة بالجواب، فيستطرد ليفيد السائل والحاضرين علماً جديداً. وكان يخص بعض أصحابه بالعلم دون بعض مخافة ألا يفهموا فيفتنوا. إلى غير ذلك من الأمثلة والآداب والمواعظ التي تلقوها منه، حتى كانوا أئمة في الدين، أساتذة في التعليم، أمناء على أحكام الدين. فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك. إن الإسلام يدعو الناس إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، وتخلص النفوس من ضغط الأوهام والأساطير، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة، ومن العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. ويدعوهم إلى شريعة من عند الله يكملون بها ويسعدون في الدنيا والآخرة.

ويدعوهم إلى منهج للحياة ومنهج للفكر يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة التي فطر الناس عليها. ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والانطلاق في الأرض كلها لتحرير الإنسان بجملته، وإخراجه من ذل عبودية العباد إلى عز عبودية الله وحده. ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله لتقرير ألوهية الله سبحانه في الأرض وفي حياة الناس، وتحطيم ألوهية العبيد التي قهروا بها العباد وأضلوهم وأفسدوهم. ذلك مجمل ما جاءت به السنة، ومجمل ما يدعو إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو دعوة إلى الحياة الطيبة في كل شيء. والله يأمرنا أن نستجيب له طائعين مختارين، وإن كان الله سبحانه قادراً على قهر الناس على الهدى لو أراد، فإنه وحده الذي يحول بين المرء وقلبه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئاً، وهو قلبه الذي بين جنبيه. إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة فيه؛ لئلا ينزلق فيما حرَّم الله. والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في غفلة من غفلاته. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم يكثر من دعاء ربه بقوله: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). فكيف بنا ونحن غير مرسلين ولا معصومين؟ .. فالقلوب كلها بيديه سبحانه، والناس محشورون إليه، فلا مفر لأحد. ومع هذا الله يدعونا للاستجابة إليه استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (12131). وأخرجه الترمذي برقم (3522)، صحيح سنن الترمذي برقم (2792).

ولولا الله تبارك وتعالى ما زكى أحد أبداً، ولكن الله أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وبعثه إليهم بالهدى ودين الحق: ليطهر أرواحهم وقلوبهم من دنس الشرك ولوثة الجاهلية وخرافاتها. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات التي تزري بهم إلى أقل من رتبة الأنعام. ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت، والغش والكذب، والسلب والنهب. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي والعدوان بنشر العدل والإحسان والرحمة. ويطهرهم من كل ما لا يليق بكرامتهم، ويتنافى مع إنسانيتهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وكمال الإنسان يتم بخمسة أمور: الإيمان .. والعلم .. والعبادة .. والدعوة .. والتقوى. وقد جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة وهي خالية من هذه الصفات، فنقلها بتوفيق الله وعونه تدريجياً إلى هذه القمة السامقة: من الكفر إلى الإيمان .. ومن الشرك إلى التوحيد .. ومن الجهل إلى العلم .. ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله .. ومن الظلم إلى العدل .. ومن الضلال إلى الهدى .. ومن الإثم والعدوان إلى البر والتقوى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عمل الأمة من بعده، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وكل حديث صحيح حجة على جميع الأمة، يجب العمل به والأخذ بمضمونه ما لم ينسخ، أو يخصص، كما يجب العمل بحكم كل آية في كتاب الله ما لم تنسخ أو تخصص، فالسنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن الكريم.

والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن ربه ما يوحى إليه، والذي أوحي إليه هو الكتاب والحكمة، والحكمة هي ثمرة هذا الكتاب، وهي مكملة للكتاب في بيان أحكام الدين. والسنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم تؤكد ما جاء فيه، وتفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه، وتزيد أحياناً على ما جاء فيه كما سبق. والأحكام التي استقلت بها السنة لا تقل في المنزلة عن الأحكام التي جاء بها القرآن، فكلاهما وحي من عند الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. والأحاديث النبوية هي مفتاح العلوم الشرعية، ومشكاة الأدلة السمعية، وكشاف المسائل العلمية والعملية، تتفجر منها ينابيع الحكم، وتدور عليها رحى الشرع بالأثر. وهي ملاك كل أمر ونهي، ولولاها لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا فتناً عمياء. وللسنة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة البيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح، فالشرع الإسلامي قائم على أصلين هما الكتاب والسنة. وقد فرض الله على الناس الإيمان به وبرسوله، واتباع وحيه وسنن رسوله، وطاعته وطاعة رسوله كما قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. فالقرآن والسنة هما الإمام الذي يقتدى به، والنور الذي يهتدى به، والحبل الذي يعتصم به، والمنهل الذي يستشفى به. فمن لم يرضع من درهما، ولم يغرف من بحورهما، ولم يقطف من أزهارهما، ولم يستضيء بنورهما، ولم يرتع في رياضهما، فقد حرم من موائد الإكرام من

رب البرية، وباع الشريف بالخسيس، وكرع في حياض العفن والدناءة. وكلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله لجبريل اقرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله وقرأه على محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير تغيير في لفظه فهذا هو القرآن الكريم. وقسم قال الله لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول: افعل كذا وكذا وأمر بكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل بذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا هو السنة النبوية. وجبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، وكل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، والوحي كله محفوظ بحفظ الله له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه شيء، ولا يحرَّف منه شيء كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. والوحي الذي أوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقسام: الأول: وحي بمعنى الإلقاء والإلهام. الثاني: وحي من وراء حجاب. الثالث: وحي بواسطة الملك الكريم جبريل. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51]. والقرآن من قبيل القسم الثالث كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195]. فالقرآن قسم واحد من الوحي، والقسمان الآخران كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلقى أمور الدين وأحكامه عن طريقهما، فقد أنزل الله على رسوله الحكمة كما أنزل القرآن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق توكلاً على ربه، وأحسنهم يقيناً عليه.

عَنْ جَابِرٍ، قال: أقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، قال: كُنَّا إِذَا أتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أتَخَافُنِي؟ قال: «لا». قال: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: «اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». قال فَتَهَدَّدَهُ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. متفق عليه (¬1). وهو - صلى الله عليه وسلم - أشفق الناس على أمته، يدلهم على كل ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم. قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيه» متفق عليه (¬3). وإذا علمنا ذلك من سيرته - صلى الله عليه وسلم - فعلينا أن نقتدي به في حسن خلقه، وحسن توكله، وكمال شفقته على الأمة وفي سائر أخلاقه وعباداته ومعاملاته ومعاشراته. وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس أخلاقاً، ما خير بن أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له.

إثماً. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - َيْنَ أمْرَيْنِ إِلا أخَذَ أيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ الله ِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا». متفق عليه (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا». متفق عليه (¬2). وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - تشتمل على ثلاثة أمور: فرائض حياة .. وطريقة حياة .. ومقصد حياة. فالله تبارك وتعالى فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته فرائض، وهي العبادات التي بين العبد وربه كالصلوات وصيام رمضان والحج ونحوها، والمعاملات التي بين العبد والخلق كأداء الزكاة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والعدل في المعاملات، والصدق وحسن الخلق، واجتناب الكذب والغش والأخلاق السيئة، وأداء الحقوق. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم (¬3). وأما طريقة الحياة فالله بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى التوحيد والإيمان، والأعمال الصالحة، والآداب الحسنة، والأخلاق الطيبة، فالإنسان ليس كالبهائم يأكل ما شاء، وينام كيف شاء، وينكح ما شاء، ويقضي حياته كيف شاء. بل الله تبارك وتعالى أكرم الإنسان، ومنَّ عليه بالإيمان، وأكرمه بالدين الذي فيه تبيان كل شيء، وأكرمه بالعقل والعلم الذي يعرف به ما ينفعه وما يضره، ومن ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3560)، واللفظ له، ومسلم برقم (2327). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3562)، واللفظ له، ومسلم برقم (2320). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2162).

يستحق أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. فخلق الله سبحانه الإنسان وأنزل له الدين الذي ينظم طريقة حياته من حين يولد إلى أن يموت كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يأكل المسلم .. وكيف يأكل .. وماذا يقول عند الأكل .. وماذا يقول بعد الأكل؟. وبيَّن ما يشرب المسلم .. وكيف يشرب .. وماذا يقول عند الشرب .. وماذا يقول بعد الشرب؟. وبين ما يلبس المسلم .. وكيف يلبس .. وماذا يقول عند اللبس؟. وبين ما يركب المسلم .. وكيف يركب .. وماذا يقول عند الركوب؟. وبين متى ينام المسلم .. وكيف ينام .. وماذا يقول عند النوم .. وماذا يفعل عند النوم .. وماذا يقول بعد النوم؟. وبين متى يسافر المسلم .. ومتى يغزو المسلم .. وماذا يقول عند السفر .. وماذا يقول بعد الوصول من السفر. وبين ماذا يسمع المسلم .. وماذا يرى المسلم .. وبماذا يتكلم المسلم .. وماذا يفعل عند المرض .. وماذا يفعل عند الخوف .. وماذا يقرأ المسلم .. وماذا يفعل عند النكاح .. وماذا يفعل عند الوضوء .. وماذا يفعل عند الأذان .. وماذا يفعل عند الصلاة؟. وبين - صلى الله عليه وسلم - ماذا يفعل المسلم عند الحرب .. وماذا يفعل عند لقاء العدو .. وماذا يفعل به عند موته ودفنه؟ وبين ماذا يفعل بماله .. وكيف يكسب المال .. وكيف ينفقه .. وكيف يزكيه .. وكيف ينميه؟. وبين - صلى الله عليه وسلم - كيف يعامل الرجل زوجه .. وكيف يعامل أولاده .. وكيف يعامل والديه .. وكيف يعامل صديقه .. وكيف يعامل عدوه .. وكيف يعامل البهائم؟.

وبين - صلى الله عليه وسلم - بم يعامل المحسن .. وبم يعامل الظالم .. وبم يعامل الصائل .. وبماذا يعاقب الزاني أو السارق أو القاتل؟ وبين جميع أحكام الحلال والحرام .. وأحكام البيع والشراء .. وأحكام السلم والحرب .. وأحكام الأمن والخوف. تلقى - صلى الله عليه وسلم - كتاب ربه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وتخلق بأخلاقه .. وتأدب بآدابه، فكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن الذي فيه كل خير، وفيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، فكانت حياته - صلى الله عليه وسلم - تفسيراً لهذا القرآن العظيم، فعلى الأمة كافة أن تقتدي به. قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وأما مقصد الحياة فهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 45 - 48]. والله عزَّ وجلَّ أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدين الكامل، وللحصول على النعيم الكامل لا بدَّ لكل مسلم من القيام بالدين الكامل: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32]. وليس للناس من يقتدون به إلا من اختارهم الله واصطفاهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ورباهم وأرسلهم بالدين الحق، خاصة سيدهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأرسله للناس أجمعين.

فمن آمن به وأطاعه واقتدى به فله الجنة، ومن عصاه شقي في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. وماذا أعد الله لهؤلاء من النعيم المقيم والرضوان من الكريم: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} [آل عمران: 74]. وقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كل من أطاعه بدخول الجنة، وأوعد من عصاه بدخول النار كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» أخرجه البخاري (¬1). اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7280).

8 - قيمة العلم والعلماء

8 - قيمة العلم والعلماء قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. وقال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18]. أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد. ولا سبيل إلى الحصول على هذين النورين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرح الكتاب العزيز بوجوب طاعته ومتابعته، الذي لا ينطق عن الهوى، وكلامه إن هو إلا وحي يوحى، محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأول ما نزل من القرآن أوائل سورة العلق، وقد ذكر الله فيها ما منّ به على الإنسان من تعليمه ما لم يعلم، وتفضيله الإنسان بما علمه إياه كما قال سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]. وطلب العلم فريضة على كل مسلم. فالإيمان فرض على كل أحد، وهو مركب من علم وعمل، فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل، وشرائع الإسلام واجبة على كل مسلم، ولا يمكن أداؤها إلا بعد معرفتها والعلم بها. وعبادة الله واجبة على كل إنسان ولا يمكن أداؤها إلا بالعلم. والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، وأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، وأكملهم طاعة له. وليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها، فإن العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم، وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته، كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ

أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. فالعلم بوحدانية الله تعالى، وأنه لا إله إلا هو، مطلوب لذاته، وإن كان لا يكتفى به وحده، بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له، وكما أن عبادته سبحانه مطلوبة مرادة لذاتها، فكذلك العلم به ومعرفته. وكمال العبد الذي لا كمال له إلا به أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له، ولا يتم ذلك إلا بالعلم، ولهذا جعل اتباع رسوله دليلاً على محبته كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. وأشقى الناس وأخسرهم من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه. وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم وشرفهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدورهم، وهذه منقبة لهم دون غيرهم كما قال سبحانه {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت: 49]. وأخبر سبحانه أن أهل العلم يرون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6]. وأمر سبحانه بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم فيما يشكل كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل على الأنبياء والرسل. وأخبر سبحانه أن الأمثال المضروبة في القرآن لا ينتفع بها إلا العلماء كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. ومما يدل على قيمة العلم والعلماء، أن الله شهد لمن آتاه الله العلم بأنه آتاه خيراً كثيراً كما قال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ

خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. وأفضل منازل الخلق عند الله منزلة النبوة والرسالة، فهم الوسائط بين الله وخلقه، في إبلاغ رسالاته، والتعريف به وبأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، فهم أكمل الخلق علوماً وأعمالاً، وأشرفهم أخلاقاً. وجعل أشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في أممهم وهم العلماء، الذين يقومون بتعليم الأمة، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء أفضل أتباع الأنبياء، وهم ورثتهم حقاً دون الناس: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ... مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم (¬1). والنجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وكذلك العلماء يهتدى بعلمهم في ظلمات الجهل والبدع. والنجوم زينة للسماء، وكذلك العلماء زينة للأرض. وكذلك النجوم رجوم للشياطين الذين يسترقون السمع ويكذبون على الخلق، فكذلك العلماء رجوم لشياطين الإنس والجن. فقد جعلهم الله حراساً لدينه، وحفظة لشريعته، ورجوماً لأعدائه وأعداء رسله. والعلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما. وطلب العلم له أربع حالات: فمن طلب العلم لله فهذا بأرفع المنازل .. ومن طلب العلم للدنيا فقط فهو آثم .. ومن طلب العلم لله وللدنيا فهذا ينقص أجره ولا إثم عليه .. ومن طلبه رياء فهو ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699).

آثم. وأقرب الناس من درجة النبوة العلماء وأهل الجهاد. فالعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرسل. ومن فوائد العلم أنه يثمر اليقين الذي هو أعظم حياة للقلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه، ولهذا مدح الله أهله في كتابه كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 4]. واليقين والمحبة هما ركنا الإيمان، وعليهما ينبني، وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، ويثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم. وبالعلم يعرف الإنسان مداخل الشيطان ومكايده في إفساد بني آدم، ولهذا جاء ذكر الشيطان في القرآن كثيراً جداً، لحاجة النفوس إلى معرفته لئلا يخدعها ويغرها، فتقع في حبائل مكره وكيده. وقد أخبر الله آدم بعداوته من أول يوم فقال سبحانه: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. ونعمة العلم من أفضل النعم على العباد، وقد ذكر الله سبحانه فضله ومنته على أنبيائه ورسله وعباده بما آتاهم من العلم. فذكر نعمته على خاتم أنبيائه ورسله بقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113]. وذكر سبحانه عباده المؤمنين بنعمة العلم وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها إليهم فقال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا

تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 151، 152]. والجهاد نوعان: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير. وجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة من العلماء، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه من الكفار والمنافقين كما قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 51، 52]. والجزاء من جنس العمل، فمن سلك طريقاً يطلب فيه حياة قلبه، ونجاته من الهلاك، سلك الله به طريقاً إلى الجنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ... مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم (¬1). وقد نفى سبحانه التسوية بين أهل العلم وغيرهم فقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وثواب العلم لا ينقطع، وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعظيم ثمرته، فإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع عمله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه» أخرجه مسلم (¬2). وقد حصر الله خشيته في العلماء، وكفى بخشية الله علماً، فأهل العلم الإلهي هم أهل خشيته سبحانه كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1631).

ولأهمية العلم وشرفه أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب المزيد منه فقال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114]. ولا ينبغي لأحد أن يحسد أحداً حسد غبطة ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في اثنتين: وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو بماله، وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمني مثل حاله، لقلة منفعة الناس به. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (¬1). وقيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من المنافع، وبقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة المسلم عند الله ترتفع بقدر ما فيه من المنافع والصفات الإيمانية كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. وكمال المسلم بإصلاح نفسه، وإصلاح غيره. فالداعية: كالنهر يجري في كل مكان، ويكون سبباً لنبات الزروع والأشجار، وكالشمس تجري ويدخل ضوؤها في كل مكان. والعالم: كالمصباح يستفيد منه كل من اقترب منه، وكالبئر يؤمه الناس ليرتووا منه، وفي كل خير. وإذا كان الداعي يجتهد على الكفار والشاردين خارج المسجد، والعالم يعلم الناس أحكام الدين داخل المسجد، امتلأت الدنيا نوراً، وازدانت بأهل الإيمان والعلم والتقوى، وفتحت عليها بركات السماء والأرض: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5026)، ومسلم برقم (816) واللفظ له.

وبقدر توجه السامع الله يلهم المتكلم، فإن أعرض الناس عنه بقلوبهم التبس عليه الأمر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ خلفه أحد الصحابة في الصلاة: «مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). والعلماء قسمان: 1 - أهل الإيمان والتقوى وهم العلماء بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، فهؤلاء في أعلى الدرجات، وهم ورثة الأنبياء. 2 - علماء السوء، وهؤلاء كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، وتبقى فيه النخالة، وتخرج من أفواههم الحكمة، ويبقى الغل في صدورهم، العلم يخرج من أفواههم، وأجوافهم منه مقفرة. فهؤلاء يأكلون الدنيا بالدين، ويقولون على الله غير الحق، فهم أول من تسعر بهم النار؛ لأنهم ضلوا وأضلوا غيرهم. وطلب العلم الشرعي وتعليمه فرض عين على كل من أعطاه الله فهماً وحفظاً، ولا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً. فالعالم الرباني سبب لبقاء أعمال الدين وأدائها على الوجه الصحيح، كما أن الداعي سبب لبقاء الدين ذاته وكثرة الداخلين فيه. وكما وكل الله الشمس بالإنارة في العالم كله كذلك وكل الله المسلمين بنشر الهداية في العالم كله. فالدعاة إلى الله يدعون البشرية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والعلماء يعلمون الناس كيف يعبدون الله وحده لا شريك له. فما أحوج البشرية إلى هؤلاء وهؤلاء. وما أعظم أثرهم على البلاد والعباد. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (826) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود (736) وأخرجه الترمذي برقم (312)، صحيح سنن الترمذي رقم (257).

وما أعظم أجورهم وأكثر حسناتهم. فالدعاة والعلماء ورثة الأنبياء، ويجب عليهم من البيان ما وجب على الأنبياء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

9 - فقه العلم والعمل

9 - فقه العلم والعمل قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. الناس في العلم والعمل أربعة أصناف: الأول: من رزقه الله علماً وعملاً، وهؤلاء خلاصة الخلق، وأئمة هذا الصنف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم في ذلك درجات، فأفضلهم أولو العزم، ثم يلي الأنبياء أتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، وهم في ذلك درجات متفاوتة. الثاني: من حرم العلم والعمل، وهذا الصنف شر البرية، وهم الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، وهؤلاء ناس في الصورة، وشياطين في الحقيقة، وجلهم أمثال البهائم والحمير والسباع. الثالث: من فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب العمل. فهذا في رتبة الجاهل أو شر منه، وما زاده العلم إلا وبالاً وعذاباً، ولا مطمع في صلاحه وهدايته. فمن عرف الطريق وحاد عنها متعمداً فمتى ترجى هدايته؟: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86]. الرابع: من رزقه الله حظاً من الإرادة والعزيمة والعمل، ولكن قل نصيبه من العلم. فهذا إذا وفق له الاقتداء بعالم أو داع من دعاة الله ورسوله ازداد عمله، وحسن عمله.

والإنسان لا يرغب في طلب العلم، ولا يقبل عليه إلا بإرادة جازمة، ولا تأتي الإرادة إلا بمحرك لها وهو الإيمان، ومعرفة فضل العلم وثواب العلماء، ومعرفة درجاتهم عند الله. ومما يرغب العبد لطلب العلم الشرعي، ويحرك نفسه لتعلمه وتعليمه أن يقول لنفسه: إن الله أمرني بالعبادات والطاعات والفرائض، ولا أقدر على أدائها إلا بالعلم. ونهاني الله عن المعاصي والآثام، ولا أقدر على اجتنابها إلا بعد معرفة قبحها وسوء عاقبتها، ولا يتم ذلك إلا بالعلم. ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ أوجب علي شكر نعمه الظاهرة والباطنة ولا أقدر على معرفتها، وطاعة الله فيها إلا بالعلم. وأمرني الله عزَّ وجلَّ بإنصاف الخلق، ولا أقدر على إنصافهم إلا بعد معرفة حقوقهم، وما يجب لهم، ولا يتم ذلك إلا بالعلم. وأمرني سبحانه بالصبر على بلائه، ولا أقدر عليه إلا بعد معرفة ثوابه وحسن عاقبته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم. وأمرني سبحانه بعداوة الشيطان، ولا أقدر عليها إلا بعد معرفة كيده وخطواته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم. وكمال العمل الصالح وقبوله مبني على ستة أمور: الأول: إخلاص العمل لله. الثاني: أن يكون على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: الاحتساب، بأن يعرف قيمة العمل الذي يؤديه لله. الرابع: اليقين على ذات الله الذي يملك كل شيء. الخامس: أن يؤديه بالمجاهدة، بترك ما يحب من أجله. السادس: أن يؤديه بصفة الإحسان، فيؤديه بأحسن هيئة، ويقوم به أمام ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربه يراه.

والعمل شرط لصحة الإيمان، والأعمال منها ما هو شرط صحةٍ كالصلاة، ومنها ما هو شرط كمالٍ كبر الوالدين. والسائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قو ة علمية .. وقوة إرادية. فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب. وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى الله إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المعاثر والوهاد، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر. وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، وكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى. فإذا استشعر قرب المنزل، هانت عليه مشقة السفر. وكلما سكنت نفسه من كلال السير وعدها قرب التلاقي، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فتواصل السير إلى منازل الأحبة، فتصل حميدة مسرورة، يتلقاها الأحبة بأنواع التحف والهدايا والكرامات، وليس بينها وبين ذلك إلا صبر ساعة. والناس من حيث القوة العلمية والعملية قسمان: الأول: من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه. ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المخاوف والمتالف ولا يتوقاها. فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، إذ قد

يكون لها مقاصد غير وجه الله تحرمها ثمرة العلم، وهو العمل بموجبه، والمعصوم من عصمه الله. الثاني: من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل. ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقيدة، والانحرافات في الأقوال والأعمال، كما كان الأول ضعيف العقل والإرادة عند ورود الشهوات. فداء هذا من جهله .. وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله. وهذا حال أكثر أرباب الفقر والسالكين على غير طريق العلم. فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. ومن كملت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله عزَّ وجلَّ، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته. ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن لله في خلقه شئون، وحكم وأسرار يجهلها أكثر العباد، والله حكيم عليم. فلكل إنسان قوتان: قوة علمية نظرية .. وقو ة عملية إرادية. وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والعملية. واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق التي توصل إليه، ومعرفة آفاتها، ومعرفة نفسه، ومعرفة عيوبها. فبهذه المعارف الخمس يحصل كمال قوته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم بها.

واستكمال القوة العملية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها إخلاصاً وصدقاً، ونصحاً وإحساناً، وشهوداً لمنة الله عليه، وتقصيره في أداء حقه سبحانه. فهو مستح من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقه، وحقه أعظم وأكبر من ذلك بكثير، وأنه لا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته، فهو مضطر دائماً إلى أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يجنبه الخروج عنه، إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما بفساد في قوته العملية فيوجب له الغضب من ربه. والله عزَّ وجلَّ يحب أن تعرف سبيل المؤمنين مفصلة لتحب وتسلك، كما يحب أن تعرف سبيل المجرمين لتبغض وتجتنب. وقد بين الله في القرآن سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء وهؤلاء، وأعمال هؤلاء وهؤلاء، وتوفيقه لهؤلاء، وخذلانه لهؤلاء، وبين ذلك غاية البيان وأتمه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 55]. والناس في معرفة ذلك أربع فرق: 1 - العالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة مفصلة، وعرفوا سبيل المجرمين مفصلة، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى النجاة، والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة. وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الذين نشأوا في سبل الضلال والشرك، والسبل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى، فخرجوا من الظلام إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل. 2 - الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهم بسبيل المجرمين

أحضر ولها أسلك. 3 - الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو لا يعرف ضدها إلا من حيث الجملة. 4 - الرابعة: من عرف سبيل الكفر والشر والبدع مفصلة، وعرف سبيل المؤمنين مجملة. وأعمال الإنسان قسمان: الأول: أعمال القلوب كالإيمان بالله وتوحيده، ومحبته وخشيته، والتوكل عليه، وتعظيمه، والخضوع له، والإنابة إليه، واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته. الثاني: أعمال الجوارح كالذكر والدعاء، والصلاة والصوم، والحج ونحو ذلك. وهذه الأعمال تتفاوت وتزيد وتنقص، والناس فيها درجات في الهيئة والقدرة، والقلة والكثرة، والرغبة والرهبة، والحسن والكمال. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). والعلم: هو نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في الداخل. والعمل: هو نقل صورة المعلوم من النفس وإثباتها في الخارج. والله بكل شيء عليم، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. والإنسان ظلوم جهول، ولا يعلم إلا ما علمه الله، فهو سبحانه الذي: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 5]. والإنسان مهما علم فعلمه لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، بل نسبة علوم البشرية كلها إلى علم الله أصغر من الذرة بالنسبة للجبل، وأقل من القطرة بالنسبة إلى البحر، فإن علم الله مطلق، وعلم البشر مهما كان فهو محدود. ألا ما أجهل الإنسان .. وما أقل علمه .. وما أكثر غروره وطغيانه .. وماذا حصل ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (35).

البشر من العلم؟ .. وماذا أدركوا منه؟. إنك لو سألت أكبر العلماء منهم: كم شعرة في رأسك؟ .. وكم نفساً تنفسته؟ .. وكم كلمة قلتها؟ .. وكم خطوة مشيتها؟ .. وكم لقمة أكلتها؟ .. وكم كلمة سمعتها؟. لم يستطع معرفة ذلك، لكن الله علام الغيوب يعلم ذلك كله. ولو سألته: كم عدد قطر الأمطار؟ .. وكم عدد ورق الأشجار؟ .. وكم مثاقيل الجبال؟ .. وكم عدد الطيور والحيوانات؟ .. وكم عدد الذرات والنباتات؟. فإنه لا يعلم، لكن الله عزَّ وجلَّ أحاط بكل شيء علماً. ولو سألته: كم في السموات من الملائكة؟ .. وكم في الجنة من القصور والأنهار والثمار وألوان النعيم؟ .. وكم عدد النجوم والكواكب؟ .. وكم عدد الأرواح؟ .. وكم مقادير الأرزاق؟. فإنه لا يعلم، لكن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم، وكل ما علمه الإنسان فهو مما علمه ربه. ومتى يخاف الإنسان من ربه؟ .. ومتى يجلّه ويكبره ويعظمه؟. إذا عرف عظمته وعلم قدرته، وعلم سعة رحمته وعلمه، وغزارة نعمه. ومتى يستحي الإنسان من أخيه؟. عندما يعلم أنه يعرف أحواله السيئة، فكيف لا يستحي العبد من ربه، وهو يعلم سره وعلانيته .. وتقواه وفجوره. والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر وحده. فله أوامر على الإنسان في جميع أحواله، وإذا امتثل الإنسان هذه الأوامر سعد في الدنيا والآخرة، وهذه الأوامر هي الدين.

وقد أمر الله عزَّ وجلَّ كل مسلم ومسلمة بعد الإقرار بالشهادتين بأربعة أشياء: الأول: الصلاة، وفيها يتصل المخلوق بخالقه فيستفيد من خزائنه. الثاني: الزكاة، وفيها مواساة المخلوق القادر للمخلوق العاجز. الثالث: الصيام، وبه يتعود الصبر على الأوامر، والصبر عن الشهوات، فإذا انتصر على النفس أمكنه الانتصار على الغير من أعدائه. الرابع: الحج، وفيه الخروج في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، وتذكير الإنسان بأنه غريب مسافر إلى دار أخرى. وجميع أعمال الدين كملت في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وخرجت من مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وانتشرت في جميع أنحاء العالم. فكان مسجده - صلى الله عليه وسلم - مدرسة فتحت أبوابها في جميع الأوقات لتعلم الدين .. والعمل به .. والدعوة إليه. يتعلم فيها مختلف الأجناس من عرب وعجم .. ومختلف الألوان من بيض وسود .. ومختلف الطبقات من أغنياء وفقراء .. ومختلف الأسنان من شيوخ وشبان .. ومختلف الناس من سادة وعبيد .. وغيرهم. فكانت حلقة العلم والتعلم في مسجده - صلى الله عليه وسلم - روضة من رياض الجنة .. مباركة نافعة .. تلقن العلم والعمل .. وتزكي الروح والبدن .. وتعنى بالتربية قبل التعليم .. وبتهذيب النفوس قبل حشو الرؤوس. فكان هؤلاء الذين تخرجوا منها تاج خير أمة أخرجت للناس، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فرضي الله عنهم، ورضوا عنه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. ومن هؤلاء، وبهؤلاء ظهر نور العلم .. وظهر نور العمل .. وكان كمال

الإخلاص والمتابعة. ثم أصيب العلم بثلاث آفات: الأولى: أنه خرج من المسجد إلى خارج المسجد فانطفأ نوره، وبقي في الأذهان بصورة معلومات لا تحرك القلب والبدن، ولا تبعث على العمل. الثانية: أنه تولد عن هذا العلم الكبر وكثرة الجدل عند العالم والمتعلم بسبب عدم العمل به، وثمرة العلم الإلهي التواضع لله، والعمل به، فانطفأ نور آخر. الثالثة: أنه فقد الإخلاص؛ لأن حطام الدنيا بدأ يؤكل به، وصار القفز إلى المناصب والوظائف عن طريقه، ولم يطلب لله تعبداً، فانطفأ نور آخر من نوره، بل هو أعظم نوره. وعلم بلا نور .. ولا تواضع .. ولا إخلاص .. ظلمة على ظلمة على ظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض، فأنى تبصر الأمة طريقها في هذه الظلمات. والعلم هو قائد العمل، والعمل ثمرة العلم. ولقبول العمل شروط: الأول: الإيمان بالله، وهو التوجه إليه بالعمل. الثاني: الإخلاص، وهو توحيده بذلك العمل. الثالث: العلم، وهو أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: حفظ العمل بحسن الأخلاق. فلو كانت أعمال العبد كالجبال وهو يؤذي الناس فهو خاسر؛ لأن الناس يأخذون حسناته يوم القيامة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا

عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم (¬1). وعلوم الدين الواردة في الكتاب والسنة قسمان: خبر .. وإنشاء. فالخبر: ما يطلب العلم به، والإنشاء: ما يطلب فعله أو تركه. والخبر نوعان: خبر عن الخالق .. وخبر عن مخلوقاته. فالخبر عن الخالق كالخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا توحيد الربوبية، وإما دعاء إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه، وهذا هو توحيد الألوهية. وإما خبر عن إكرام الله لأهل توحيده وطاعته في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وعن جزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء من خرج عن حكم التوحيد. وإما أحكام وتشريع، وهذا من حقوق التوحيد، فإن التشريع كالخلق حق لله وحده كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وأما الخبر عن المخلوقات كوصف خلق السماء والأرض .. والسهول والجبال، والبحار والأنهار .. والنبات والحيوان .. والإنسان .. ونحو ذلك مما في الدنيا. ووصف الجنة، ووصف النار، وأحوال الحشر والبعث، ونحو ذلك مما يجري يوم القيامة. ففي القرآن علم كل شيء كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2581).

والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. وآفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات فلا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا تميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة، والسنة بدعة. وكل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بدَّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس. فمن أراد الدنيا وزينتها فلا بدَّ أن يهدم الآخرة ويهمل أعمالها؛ لأنشغاله بغيرها، ومن أراد الآخرة وأعمالها فلا بدَّ أن يهدم الدنيا ويعرض عن زينتها؛ لأنشغاله بغيرها. فالدنيا والآخرة ضرَّتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما، فليؤثر العبد ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما يبغضه، وما هو أنفع وأدوم وأجمل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]. والعلماء هم أولو الأمر وأهل الاقتداء، يقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران، ويشفى بهم العليل، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم، وأقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، لما كانت لله وبالله، وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم. وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة. والعلماء ثلاثة: الأول: عالم استنار بنور العلم، واستنار به الناس منه، فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء. الثاني: عالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما.

الثالث: عالم لم يستنر بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم. فالمؤمن الموفق من هداه الله وعلمه وأعانه، وحبب إليه العلم والعمل والتعليم. وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، فهذا لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، وكفراً وطغياناً: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]. وسبيل الله التي يحبها هي الجهاد وطلب العلم وتعليمه، ودعوة الخلق به إلى الله، فقوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، ولهذا قرن الله بهما في قوله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25]. ولما كان كل من الجهاد بالسيف .. والجهاد باللسان .. يسمى في سبيل الله، فسر الصحابة رضي الله عنهم قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. بأن المراد بأولي الأمر: الأمراء المتقون .. والعلماء الربانيون. فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم. والأمراء يرجعون إلى العلماء فيما أشكل عليهم، فعاد الأمر إلى فضل العلم والعلماء، وأنهم أئمة الناس الذين يقتدى بهم. والعلم الحق هو المعرفة وإدراك الحق، وهو الذي يثمر العمل والقنوت والطاعة لله، والتوجه إليه في جميع الأمور. وهو الذي يجعل المسلم يشعر بجلال الله فيخشاه، ويحس بآلائه ونعمه

فيحمده ويشكره، ويذكر العبد بتقصيره فيستغفر الله ويتوب إليه. وهو الذي يمنح القلب نعمة الرؤية والتأثر بما في هذا الكون من مظاهر الجلال والجمال والإحسان، فيقبل على ربه محباً له عابداً له. وهو الذي يجعل المسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيعمل بما يحبه ويرضاه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، وتشحن الرأس، ولا تؤثر في القلب، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس. فأصحاب هذا العلم إنما يجمعون معلومات حفظوها في أذهانهم، ونطقت بها ألسنتهم، ولم تتأثر بها قلوبهم. أما العلم الحقيقي فهو الذي يورث القنوت لله، والخشية منه، والخشوع له، واطمئنان القلب إليه، وأنسه به، ومراقبته في جميع الأحوال، والعمل بشرعه. وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المدركة لما وراء الظواهر من حقائق بالانتفاع بما ترى وتعلم، وبذكر الله في كل حال، وفي كل شيء تراه أو تسمعه أو تلمسه، ولا تنساه في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء. والناس في العمل أربعة أقسام: أحدها: أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها خالصة لله على طريقة رسول الله، فهؤلاء خيار الخلق وهم بأشرف المنازل. الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فأعمالهم ليست موافقة للشرع، ولا خالصة لله وحده، وذلك كأعمال المتزينين للخلق، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله. وهؤلاء هم شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عزَّ وجلَّ. الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكن أعماله غير موافقة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم كل من عبد الله بغير أمره، كجهال العبّاد ممن يظن أن سماع المكاء

والتصدية قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن الخلوة لمناجاة الله التي يترك بها الجمعة والجماعة قربة، ونحو ذلك مما لم يرد في الشرع، وكل ذلك مردود على صاحبه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (¬1). الرابع: من أعماله على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنها لغير الله كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل شجاعةً أو حميةً أو رياء، أو يحج ليقال، أو يقرأ القرآن ليقال قارئ، أو يعلم ليقال عالم ونحو ذلك. فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير خالصة لله فلا تقبل، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ أعْلَى فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» متفق عليه (¬2). فالمقبول من العمل مهما قلَّ أو كثر ما كان خالصاً لله، صواباً على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. والحجة إنما تقوم على العباد بشيئين هما: التمكن من العلم بما أنزل الله .. والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل كالخرف فلا أمر عليهما ولا نهي. قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. فالمجنون لا يعقل العلم، والخرف لا يقدر على العمل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ومقاصد الإسلام تدور على أربعة أصول: الأول: معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو التوحيد والإيمان. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1718). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2810)، ومسلم برقم (1904)، واللفظ له.

الثاني: كيفية أداء العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق التي يحبها الله ويرضاها، باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما جاء عنه. الثالث: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليسعد كل فرد في العالم بهذا الدين. الرابع: إيقاف المعتدي عند حده، وذلك بوضع الأحكام والعقوبات، التي تحفظ الأمن والأنفس والأعراض والأموال والدين، وهي الجهاد والحدود. وآفات العمل ثلاث: فكل عالم وكل عابد وكل عامل وكل داعٍ وكل مجاهد، إذا قام بالعمل، فإنه يعرض له في عمله ثلاث آفات هي: رؤية العمل .. وطلب العوض عليه .. ورضاه به، وسكونه إليه. فالذي يخلِّص العبد من رؤية عمله والإعجاب به مشاهدته لمنة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه من الله وبه لا من العبد، كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. وقال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. فالسمع والبصر والعقل، والتقوى والتوفيق والهداية، والإعانة والقبول ونحوها، كلها عطاء من الله وفضله ونعمته. والذي يخلِّص العبد من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده شيئاً لا عوضاً ولا أجرة؛ لأنه مملوك لسيده، فإن أعطاه سيده شيئاً من الأجر والثواب فهو إحسان وإنعام من سيده لا عوضاً عن العمل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 93، 94]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا

يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61]. والذي يخلِّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران: الأول: مطالعة عيوبه، وتقصيره في عمله، وما فيه من حظ النفس والشيطان والرياء. الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها وشروطها، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها. وتمام العمل يحصل بأمور أهمها: الإيمان بالله .. ومعرفة الحق .. وإخلاص العمل لله .. وفعله على السنة .. وأكل الحلال .. وكف الأذى عن الناس .. وحسن الخلق .. وتعظيم الرب .. وتعظيم أمره .. ومحبة الرَّب .. ومحبة ما يحب. وكمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل .. وإيثار الحق على الباطل بالعمل به، والدعوة إليه. وتفاوت منازل الخلق عند الله في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتهم في هذين الأمرين. وقد انقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام: الأول: من عرف الحق وآثره على الباطل بالعمل به والدعوة إليه، فهؤلاء أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى. الثاني: عكس هؤلاء، وهم من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة له على تنفيذ الحق على نفسه ولا على غيره. وهؤلاء أكثر الخلق، وأكثرهم شراً وبلاء، وهم الذين غرَّهم الشيطان فصاروا من جنده وحزبه. الثالث: من له بصيرة في الهدى، ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه. وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه.

الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، ولكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين ولا هو موضع لها سوى القسم الأول كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. وكلما كان علم العبد بربه أتم كانت محبته أكمل، وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله، وأعلى الحب الحب له، وأكمل اللذة بحسبهما، فاللذة تابعة للمحبة، والحب والشوق تابع لمعرفته سبحانه والعلم به. والعلم شيء غالٍ لا يحصل لأي أحد، وحلية ثمينة لا تساق إلا لمن طلبها، وجاهد من أجلها، وكان صالحاً لها. فلا ينال العلم مستح ٍولا مستكبر، هذا يمنعه حياؤه، وهذا يمنعه كبره. وللعلم ست مراتب لا ينال إلا بها وهي: حسن السؤال .. وحسن الإنصات .. وحسن الفهم .. وحسن الحفظ .. والعمل به، فإنه يوجب تذكره وتدبره ومراعاته .. ونشره وتعليمه وإلا نسيه. والأعمال التي ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليها أربعة: الدعوة .. والجهاد .. والتعليم .. والعبادة. وكذلك قام بها الصحابة، وهذه أعمال الأنبياء والرسل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. فبالدعوة يقوى الإيمان، وتحصل الهداية لنا ولغيرنا، فنتكلم في عظمة الله وكبريائه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، وعجائب قدرته، وبذلك يتأثر الناس، ويزيد إيمانهم، فيقبلون على الأعمال الصالحة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].

ولكن الأعمال الصالحة لا تكون صالحة إلا بالعلم، وبالعلم تكون الأعمال مقبولة من صلاة وزكاة، وصيام وحج وغيرها. فنتعلم فضائل وأحكام ما نريد أن نعمله، ليكون مطابقاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (¬1). ولكن قد يقوى الإيمان، وتكون الأعمال صالحة، لكن قد تأتي بعض العوائق فتفسد العمل كالكبر والرياء، والفخر والعجب، ولذلك لا بدَّ من التزكية بالعبادة التي تهذب الأخلاق، وتزكي النفوس بما تشتمل عليه من الصدق والإخلاص، والإحسان والخشوع، والصبر والحلم وحسن الخلق. فخير القرون الذي اكتملت فيه هذه الصفات الأربع في حياة الأمة، هو القرن الذي عاش فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه (¬2). وبالجهاد تظهر قوة الدين، ويتم حفظه ونشره، وقمع المعتدين عليه. ثم صار الجهاد من أجل الملك والمال لا من أجل إعلاء كلمة الله، فضعفت الدعوة إلى الله، فأقبل أكثر الناس على الدنيا، واشتغلوا بوظائفها، وانصرف الزهاد والصالحون إلى العلم والعبادة. ثم تولد عن طلب العلم بدون العمل به كثرة الجدل، وأكل حطام الدنيا به، ودخلت الأهواء وحب الدنيا في طلب العلم، فانصرف خيار الناس عنه، وزهدوا فيه، وحمله من ليس من أهله، فكثر الشقاق والخلاف والعصبية واتباع الهوى. وانصرف خيار الناس إلى التزكية عن طريق السنة، فلزموا المساجد، وتركت الساحة لأهل الباطل، وبدأ الدين يخرج من حياة الناس تدريجياً، ففسدت المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ثم بدأ الخلل في التقصير في أداء النوافل، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1718). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652)، واللفظ له، ومسلم برقم (2533).

ثم دبَّ التقصير في أداء الفرائض، ثم خرجت حقيقة العبادة، وبقيت صورتها، وصارت جسداً بلا روح، صفوف المصلين متراصة، وقلوبهم متفرقة، والأجساد حاضرة، والقلوب شاردة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5]. فما أهون هؤلاء على الله، وهم جديرون أن لا تقام لهم في الأرض راية، ولا يرفع لهم دعاء، وأن تتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، وأن تحصل لهم الذلة مع أنهم يملكون أسباب العزة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُْمَمُ، مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَْكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). وفي الدنيا شجرتان: شجرة العلم .. وشجرة الجهل .. ولكل منهما ثمرة. فشجرة العلم لو ظهرت صورتها للأبصار لزاد حسنها على صورة الشمس والقمر، فهي سبب كل خير في العالم. فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، ومن ثمرات هذه الشجرة: الإيمان بالله وتوحيده .. وحب الله ورسوله .. والعمل الصالح بحذافيره .. والحلم والوقار .. والكرم والإحسان .. وخفض الجناح .. وبذل المعروف .. والنصيحة لعباد الله .. والرحمة لهم .. والصبر والشكر ونحو ذلك من الأخلاق العالية من التوكل على الله .. والخشية له .. والخوف منه .. والتواصي بالحق .. والدعوة إلى الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وبرّ الوالدين .. وصلة ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (22397)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (958). وأخرجه أبو داود برقم (4297)، صحيح سنن أبي داود رقم (3610).

الأرحام ونحو ذلك. وأما شجرة الجهل فهي سبب كل شر وفساد في العالم، وهي تثمر كل ثمرة مرة خبيثة، ومن ثمراتها: الكفر والكبر .. والشرك والظلم .. والبغي والعدوان .. والشح والبخل .. والفخر والخيلاء .. والعجب والرياء .. والكذب والنفاق .. والفساد في الأرض .. والدعوة إلى سبيل الشيطان .. وتزيين سلوك طرق الغي واتباع الهوى .. وإيثار الشهوات على الطاعات .. وقيل وقال .. وكثرة السؤال .. وإساءة الجوار .. وقطيعة الأرحام .. وغير ذلك من سبل الغواية. والناس يعملون، ومن هاتين الشجرتين يتزودون، ولشجرة العلم أهل، ولشجرة الجهل أهل، والله أعلم بمن يصلح لهذه، ومن يصلح لهذه، والفلاح في العلم والهدى والنور: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. والعلماء ثلاثة: عالم بالله .. وعالم بأيام الله .. وعالم بأوامر الله. فالعالم بالله: هو الذي يعرف الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يتبع ذلك من معرفة عظمة ملكه، وسعة خزائنه، ووعده ووعيده. والعالم بأيام الله: هو العالم بسير الأنبياء والمرسلين، وكيف نصرهم الله وخذل أعداءهم. والعالم بأمر الله: هو العالم المفتي في الحلال والحرام، والسنن والأحكام التي تتعلق فيما بين العبد وربه .. وفيما بين العبد والخلق. وأفضل هؤلاء وأعلاهم وأكملهم من جمع بين العلم بالله، وبأيام الله، وبأوامر الله، وهم الصديقون، والخشية والخشوع تغلب عليهم كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. يا حسرة على العباد ماذا قدموا للدين؟، وماذا قدموا للآخرة؟، وماذا قدموا

لأنفسهم؟ .. للحصول على الدنيا كم نعطي من الوقت والمال والجهد؟. وإذا أردنا الجنة وهي دار النعيم المقيم فلننظر كم نعطي من الوقت والمال والجهد لأعمال الدين التي هي سبب لدخول الجنة، من عبادة، ودعوة، وتعليم، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد في سبيل الله، والناس في ذلك درجات .. والصحابة رضي الله عنهم درجات. فبعض الصحابة رضي الله عنهم أعطى كل الوقت وكل المال للدين كأبي بكر - رضي الله عنه - الذي بذل نفسه في سبيل الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، مرة في الهجرة، ومرة في تجهيز جيش العسرة. لأنه خرج حب النفس والمال من قلبه، ودخل حب الله ورسوله ودينه في قلبه؛ لأنه أنفق ماله للدين فجاء حب الدين في قلبه. ولذلك لما منع قوم الزكاة في خلافته، وقبل ذلك بعض الصحابة، أبى أبو بكر أن ينقص الدين في حياته؛ لأنه بذل نفسه وأنفق ماله من أجل الدين، فصار يؤلمه أن يدب النقص في الدين الذي اكتمل. وبعض الصحابة كذلك أعطى كل الوقت للدين كأهل الصفة، وبعضهم أعطى نصف الوقت، ونصف المال كعمر - رضي الله عنه -. وبعضهم أعطى ثلث الوقت وهم بقية الصحابة. وأهل الشورى وهم كبار الصحابة وهم من التجار يتناوبون الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتشاور معهم في أعمال الدين. وكل عمل من أعمال الدين لا بدَّ فيه من ثلاثة أمور وهي: النية .. والعمل الصحيح .. وترتيب العمل. فالصلاة مثلاً عمل لا بدّ له من نية، ولا بدَّ أن تكون موافقة للسنة، ولا بدَّ أن تكون كما كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فيجب على كل مسلم أداء العمل كما شرعه الله ورسوله: كمية وكيفية .. ومكاناً وزماناً. بلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط. عن أنس - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، يَسْألُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ، قَالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أمَا واللهِ إِنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (¬1). ودَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أمْسَكَتْ بِهِ. فَقَالَ: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ» متفق عليه (¬2). فهؤلاء مخلصون لكن عملهم فوق الترتيب فلا يقبل، فالمطلوب الاعتدال، فالأنبياء يعلمون الناس النية والعمل والترتيب. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه سبحانه: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» أخرجه البخاري (¬3). والله عزَّ وجلَّ قد وكل بكل عبد من يحفظ عليه عمله، ويحصي أقواله وأفعاله ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، واللفظ له، ومسلم برقم (1401). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1150)، ومسلم برقم (784)، واللفظ له. (¬3) أخرجه البخاري برقم (6502).

فلا يضيع منها شيء كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]. ثم نبه سبحانه بقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} [الطارق: 8]. على بعث الإنسان لجزائه على العمل الذي حفظ وأحصى عليه، فذكر سبحانه شأن مبدأ عمله ونهايته. فبدايته محفوظ عليه .. ونهايته الجزاء عليه كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق: 9]. والسرائر: جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله. فالإيمان من السرائر .. والشرائع من السرائر .. والشعائر من السرائر. فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له. والأعمال نتاج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه نوراً وإشراقاً وجمالاً. ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، ولا اعتبار لصورته، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه سواداً وظلمةً وشيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها. والعلم بغير إيمان فتنة، فتنة تعمي وتطغي، فالعلم الظاهري يوحي بالغرور والكبر، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها، وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها، ويلبس ثوباً أكبر منه. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز عنه، لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه. وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم، واستهزؤوا بمن يذكرهم بما وراءه فحاق بهم العذاب وفق سنة الله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ

الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83]. والعلوم الشرعية على قسمين: نظرية .. وعملية. أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها وأعلاها معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه، وأوامره. وأما العلوم العملية فنوعان: أعمال القلوب .. وأعمال الجوارح. فأعمال القلوب: تزكية النفس بالإيمان واليقين، وتربيتها بالأخلاق الحسنة كالصبر والحلم، والشفقة والرحمة، والمحبة والتواضع، والصدق والإخلاص، ونحو ذلك. وأعمال الجوارح: العبادات، والمعاملات، والمعاشرات. ولا تجد هذه العلوم كلها مفصلة إلا في القرآن الكريم كما قال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12]. فهو كتاب عظيم .. كثير خيره .. دائم عطاؤه .. كثيرة بركته .. يبشر بالثواب والمغفرة .. ويزجر عن القبيح والمعصية: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]. إن العلم الذي منحه الله للإنسان لم يخلق مقومات الحياة، ولا هو أعطى شيئاً لم يكن موجوداً، ولكنه وفَّر الرفاهية للإنسان في الكون بإذن الله. واستخدم هذا العلم من لا يؤمن بالله ظلماً وعدواناً في القتل والتشريد، وإهانة الأمم والشعوب وإذلالها، ونهب ثروات وخيرات الأمم، ونشر الرعب والخوف في العالم. والعالم اليوم بلغ في العلم الإنساني مبلغاً عالياً، وكلما زادت الاكتشافات زاد الخوف، وزاد الرعب فما السبب؟. السبب أن هذا العلم ما سار على منهج الله، فكل كشف علمي في الأرض يزيد

الإنسان إقبالاً على ربه، فهو إظهار لقدرة الله في الكون، وإبداعه في الخلق، أذن الله بخروجه على يد بعض خلقه كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]. إن الذين فتح الله لهم باباً من أبواب العلم كان يجب أن يكونوا أكثر الناس خشية لله؛ لأن الله أطلعهم على آية من آياته، وميزهم عن غيرهم بما علموه من آثار قدرة الله. ولكن بعض العقول تغتر وتعتقد أنها هي التي فعلت، فتهلل لهم البشر، وهم لا يستطيعون سد عرق انفجر في الإنسان، أو تحريك أصبع أصابه شلل. إن الإنسان يقتله جشعه، فهو أحياناً يملك المال الذي يكفيه طول حياته ويزيد، ولكنه يطلب مزيداً من المال، ويشقي نفسه في الحصول عليه. وكل مخلوق لله يأكل على قدر حاجته، فالطير والحيوان والحشرات تلتهم من الطعام ما يكفيها فقط وتترك الباقي. أما الإنسان فهو الوحيد الذي يجمع ويأكل أكثر من حاجته، مع أن الله أعلمه أنه سيصل إليه رزقه تاماً. وهذا الجشع البشري هو أساس الشقاء الذي جعله العلم الإنساني أساساً لكمال الحياة الدنيا ورفاهيتها. والله عزَّ وجلَّ جعل الدنيا وسيلة للآخرة، وهذا العلم الإنساني جعلها مقصداً لا غاية بعدها. فهؤلاء الذين لديهم العلم الإنساني بلا إيمان يعيشون في رعب وشقاء، وينتظرهم في الآخرة شقاء أشد وأبقى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. أما أهل العلم الإلهي، فهم أكثر الناس طمأنينة، وأشدهم خشية لله، وأشكرهم للمنعم، أولئك لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم المهتدون إلى سواء السبيل:

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. والعلم الإنساني مهما كان كله جهالة بالنسبة للعلم الإلهي؛ لأن العلم الإلهي يربط المخلوق بالخالق، فيعرف عظمته وقدرته، وجماله وجلاله ويعرف دينه وشرعه. والعلم الإنساني يربط المخلوق بالمخلوق، يدور حول الأرض وما فيها وما تنبت، وحول الجبال وما فيها من المعادن والأسرار، وحول الناس والدواب والأنعام. والعلماء كلما كشف الله لهم من العلوم والأسرار في هذا الكون، هم أكثر الناس خشية لله، فهم يرون الإعجاز في كل ما خلقه الله. وقد ذكر الله سبحانه العلم البشري كله في آية واحدة كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} [الحج: 63]. والعلم نعمة كبرى خص الله بها بعض خلقه، ومن أكرمه الله بهذه النعمة فيجب أن تكون طاعته لله أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته أقبح، ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فهو أول من تسعر به النار. وقواعد الشرع تقتضي أن يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم، وأن يغفر له ما لا يغفر للعالم. ونعمة الله على العالم بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل. وحكم الله على أن من حبي بالإنعام، وخص بالفضل والإكرام، ثم أطلق لنفسه العنان في الشهوات، وتجرأ على انتهاك الحرمات، واستخف بالتبعات والسيئات، أنه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته. وكذلك في المقابل: من كثرت حسناته وعظمت، وكان له قدم صدق في الإسلام، وكان له في

الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقتله؛ لأنه كتب لقريش فقال له: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» متفق عليه (¬1). وموسى - صلى الله عليه وسلم - كليم الرحمن ألقى الألواح التي فيها كلام الله حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وأخذ بلحية أخيه هارون وجره بها إليه، وهو نبي الله مثله. وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه. فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في الله، أولى أن لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تخفض منزلته. ومن له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها. والعالم إذا زلّ فإنه يحسن إسراع الفيئة، وتدارك الفارط، ومداواة الجرح. وفيه من معرفته بالله، وبأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته من ربه، وإزرائه عل نفسه بارتكابه معصيته، وإيمانه بالله، وأن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للرب، ما يغمر الذنب ويزيل أثره. بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمة الخطيئة وقبحها، وآثارها المردية، فلا يستوي هذا وهذا. فدل على أن سبب العقوبة قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشاهد العظيمة، والمواقف الجليلة، والنفع العميم، وهذا مقتضى الحكمة والرحمة، والجود والإحسان، وقد قال سبحانه في شأن يونس: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} [الصافات: 143، 144]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3007)، ومسلم برقم (2494)، واللفظ له.

أما العقوبة المضاعفة التي ورد التهديد بها في حق أولئك إن وقع منهم ما يكره كما قال سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 74، 75]. وقوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} [الحاقة: 44، 45]. وآدم - صلى الله عليه وسلم - لم يسامح بلقمة واحدة، وكانت سبب إخراجه من الجنة كما قال سبحانه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121]. فتلك العقوبة عين الحكمة. فإن من كملت عليه نعمة الله، وأكرمه الله بما لم يكرم به غيره، وحبي بالإنعام وخص بالإكرام، وتميز بمزيد القرب من ربه، وجعل في منزلة الولي الحبيب، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص، بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع. فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واصطناعه لنفسه، واصطفائه على غيره، تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم، ونعمته عليه أكمل. والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه كذلك يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضاً. فاجتمع في حقه الأمران: فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويأخذهم ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم كما قال سبحانه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]. وكل مؤمن يرى أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6]. فرؤية العلماء أعظم وأكمل من غيرهم لعلمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة

موافقته للأمور الواقعة والكتب السابقة. ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة، ولما يرون في الأوامر والنواهي من الهداية إلى الصراط المستقيم، المتضمن لكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره كالصدق والإخلاص، وبر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة تدنس النفس، وتحبط الأجر، وتوجب الإثم والوزر من الشرك والكفر، والزنا والربا، والظلم في الدماء والأموال والأعراض. وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة تستوجب الحمد والشكر. والله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان وعلمه القرآن. فالإنسان إنما تعلم القرآن بتعليمه سبحانه، كما أنه صار إنساناً بخلقه، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وعلمه كتابه، وعلمه البيان، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. والبيان الذي علمه الله للإنسان له ثلاث مراتب: أحدها: البيان الذهني، الذي يميز فيه بين المعلومات. الثاني: البيان اللفظي، الذي يعبر به بلسانه عن تلك المعلومات. الثالث: البيان الخطي، الذي يخط به تلك الألفاظ التي تحمل تلك المعلومات. فالأول بيان للقلب .. والثاني بيان للسمع .. والثالث بيان للعين. وقد جمع الله عزَّ وجلَّ الثلاثة في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]. والله حكيم عليم، أعطى الإنسان علم ما فيه صلاح معاشه ومعاده، ومنع عنه علم ما لا حاجة له به، ثم يسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم أتم تيسير. فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ومعرفة دينه وشرعه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فهي أيسر شيء وألذ شيء: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ

مُدَّكِرٍ (22)} [القمر: 22]. وكل ما يراه العبد بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يعقله بقلبه، وكل ما يخطر بالبال، وكل ما تدركه الحواس، فهو دليل على الرب وكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وقد نصب سبحانه من الأدلة والآيات والبراهين ما يدل على وجوده ووحدانيته وصفات كماله مما لا يحصيه إلا الله، ثم ركز ذلك في الفطر، ووضعه في العقل جملة. ثم بعث الله الرسل مذكرين به، ومفصلين لما في الفطرة والعقل العلم به جملة كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]. وقال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 9، 10]. وقد امتن الله على عباده بتعلم القرآن، وتعلم البيان، ونطق اللسان، فقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]. وبهذه الحروف والكلمات التي تحمل المعاني علم الله القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر الحيوان. وبها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد. وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان. وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيم بها من حق، وهدي بها من ضلالة، وهدم بها من باطل، وأحيا بها من سنة، وأمات بها من بدعة. وآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل والمنافع في لحم وعصب.

وجعل سبحانه الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم الرحمن، وهو الاسم الذي تبارك، ومجيء البركة كلها منه، وبه وضعت البركة في كل مبارك، فكل ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما أخلى عنه نزعت منه البركة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. وثمرة العلم العمل به، والعمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا بشرطين: الإخلاص لله .. والمتابعة لرسول الله. والمتابعة تتحقق بستة أمور: الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحياه ليلة النصف من شعبان، أو ليلة المعراج، يعتقد مشروعيتها فهو بدعة. الثاني: الجنس: فلو ضحى بفرس فهذا لا يجوز؛ لأن الأضحية مشروعة ببهيمة الأنعام، والفرس ليس بمشروع. الثالث: القدر: فلو زاد صلاة سادسة لم يقبل منه. الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع. الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح. السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح. وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، فأزكى العلوم وأشرفها وأعظمها وأكملها العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله. فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يعلم ما في السموات وما في الأرض .. ويعلم ما بينهما وما تحت الثرى .. ويعلم ما في قعر البحار .. وما في جو السماء. عالم الغيب والشهادة .. يعلم كل شعرة ومنبتها .. وكل شجرة ومغرسها .. وكل زرع وحبه .. وكل نبات وثمرته .. وكل رطب ويابس .. ومسقط كل ورقة: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}

[الأنعام: 59]. ويعلم سبحانه عدد كل كلمة .. وعد الرمل الحصى والتراب .. وحجمه ووزنه ومكانه .. ويعلم مثاقيل الجبال .. ومكاييل البحار والأنهار والرياح .. ويعلم أعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، وحركاتهم وسكناتهم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]. وشرائع الإسلام وأحكامه على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب. فلله عزَّ وجلَّ حكمان: حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح .. وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانية المنافقين ويكل سرائرهم إلى الله، فيناكحون ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، ولا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة. وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر، بل إلى الله وحده، والله يتولاه في الدار الآخرة، فنحكم في الظاهر بصحة صلاة المنافق والمرائي، مع أنه لا يسقط عنه العقاب، ولا يحصل له الثواب في الآخرة، فالله وحده هو الأعلم بما في صدور العالمين. وليس مقصود العلم العمل فقط، بل المقصود مع ذلك الإيمان بالله، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان. وجهد الصحابة كان أولاً على أنفسهم بالعلم والعمل ثم على غيرهم، فأصلحوا أنفسهم أولاً، ثم أخرج الله بأعمالهم وصفاتهم الناس من الظلمات إلى النور. والشيطان حريص على جعل الإنسان يجتهد على الناس وينسى نفسه، وبهذا لا يتأثر الناس منه، ولا يقبلون قوله، وإذا اجتمع هذا مع نسيان الإنسان نفسه بلغ

الشيطان مراده من الإنسان. فالداعي حقاً من يدعو الناس إلى الله، ويقيمهم على الدعوة إلى الله، فالدعوة هي أم الأعمال، وبها تحيا الأوامر والسنن. والمعلم حقاً من يعلم الناس الدين وأحكامه، ويأمرهم بتعليم الناس ذلك والعمل به، ويسبقهم إلى كل عمل صالح. والصلاة أول الأوامر بعد الإيمان، والفرق بين الإسلام والكفر هو الصلاة، وإقامة الصلاة تكون بفعلها وأمر الناس بأدائها، وإقامتها بسننها وآدابها وشروطها، وتزيين ظاهرها بتطبيق السنن، وتزيين باطنها بالتوجه التام إلى الله، فيصلي العبد لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فلا بدَّ أن نقيم الصلاة ظاهراً وباطناً حتى نقيم سائر الأعمال بالتوجه التام إلى الله، وحسن العمل خارج الصلاة، وإذا كنا في الصلاة في الغفلة فكيف في سائر أعمالنا كم تكون الغفلة؟. ولا تكون الصلاة صحيحة إلا بعلم كامل، ولا نقوم بأي عمل في الدين إلا بعلم، والعلم هو ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السنن والأحكام. ولتحصيل حقيقة العلم لا بدّ أن نعرف فضائل العلم، لتقبل النفوس على طلبه، وتعبد الله بموجبه، وبدون العلم الناس لا يعرفون الله ولا رسوله ولا أوامره ولا دينه. وكل الناس يعملون، ولكن ليس كل الناس يفلحون، فمن عمل بأمر الله ورسوله أفلح، ومن عمل بهواه خسر، فسليمان عليه السلام عمل بملكه بأمر الله ورسوله فأفلح، وفرعون عمل بملكه بهواه فهلك. والعلم هو الطريق لمعرفة العمل المأمور به شرعاً، والوعظ هو الباعث على العلم والعمل، والأحسن ألا يكون الوعظ يومياً؛ لئلا يسأم الناس، أما العلم فإنه يُطلب على قدر الطاقة، والناس في ذلك متفاوتون، وأكملهم أعلمهم وأتقاهم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].

10 - فقه الإفتاء

10 - فقه الإفتاء قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. وقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. الله تبارك وتعالى خلق البشر، وجعلهم أوعية للأعمال والأخلاق. فمنهم وعاء للخير .. ومنهم وعاء للشر .. ومنهم وعاء للعلم .. ومنهم وعاء للجهل .. ومنهم وعاء للحلم .. ومنهم وعاء للسفه .. ومنهم وعاء للكرم .. ومنهم وعاء للبخل .. وهكذا. والعلم أعظم حلية يتحلى بها الإنسان، وأحسن زينة يتزين بها عند الله وخلقه. وما أحسن العلم إذا تبعه العمل، وظهرت آثاره على القلب والبدن، فأورث الإيمان والتقوى. وعلى المسلم أن يتلقى ما جاء عن الله ورسوله بالسمع والطاعة، والقبول والانقياد كما قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51]. وإذا ثبت الحكم عن الله ورسوله فيجب اتباعه والأخذ به كما قال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ جميع المؤمنين باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال والأزمان كما قال سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. وكل من خالف أمر الله ورسوله أو عارض ذلك فهو مستحق للعقوبة كما قال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. وحذر سبحانه المؤمنين من القول على الله بلا علم كما قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: 116]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]. أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا شيئاً حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي. ومن الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتقدم أحد بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن، وهذا باقٍ إلى يوم القيامة، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته. فلا يجوز لأحد أن يفتي أو يقضي في دين الله بما يخالف النصوص، ولا يجوز الاجتهاد والتقليد مع وجود النص. ولا يجوز كذلك معارضة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل الواجب طاعته والانقياد لأمره، والتسليم والتلقي لما جاء به بالسمع والطاعة كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ويحرم الإفتاء بغير علم، فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، فلا يحل لأحد أن يفتي إلا بما يعلمه يقيناً من كتاب الله وسنة رسوله كما قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: 116]. ومن أفتى بغير علم فعليه إثم من أضلهم كما قال سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25]. وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ

عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (¬1). ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، فإن ذلك سبب لحبوط الأعمال، فلا ترفع ولا تقدم الآراء والبدع على سنته وما جاء به كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - تقديم قوله والعمل به، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد أو فتواه، فكل هذا من قلة الأدب معه، وهو عين الجرأة على سنته وهديه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. ومن آداب العلم والفتوى: تعلُّم لا أدري لما لا تعلمه؛ لأنك إذا قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري. وحين سأل الله الملائكة لم يستحوا أن يقولوا لا نعلم كما قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} [البقرة: 31، 32]. وما أخطر المضلين للأمة، الذين يتخذون من كتاب الله وسنة رسوله مادة للتضليل، يلوون ألسنتهم به، ويحرفونه عن مواضعه، ويؤلون نصوصه لتوافق أهواء معينة، ويشترون بهذا كله ثمناً قليلاً. وهؤلاء الذين ينسبون إلى الدين ظلماً، يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء، ويحرفون الكلم عن مواضعه من أجل حطام يأخذونه، يفعلون هذا ويحسبون أنهم مسلمون: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).

مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} [آل عمران: 78]. وهذه آفة لا يختص بها طائفة من أهل الكتاب، إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه، حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء. ويفسد القلب حتى ما يتحرج من الكذب على الله ورسوله. وهذا المسلك كفيل بسقوط هذه الخشب المسندة، الذين تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم. وبسبب هذا المسلك نقل الله قيادة البشرية من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران: 77]. والدعوة إلى الله مسئولية جميع الأمة. أما الفتاوى في الأحكام والمسائل فهي مسئولية العلماء، فمن علم حكماً أفتى به، ومن جهله دل المستفتي على العلماء الذين اختصهم الله بمزيد من العلم والفقه، والفهم والحفظ، وجعلهم أواني لعلمه وأحكام دينه، يتعلمونها ويعملون بها ويعلمونها الناس. وكان الصحابة يتدافعون الفتوى فيما بينهم، والمفتون فيهم يعدون على الأصابع كمعاذ وعلي، وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم. فالفتوى ليست مباحة لكل أحد، أما الدعوة فكل يدعو إلى الله بحسب ما عنده من العلم، وأقله آية. فالعلماء والفقهاء هم أهل الفتوى كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة كلها، كل بحسب علمه وقدرته وبصيرته، وقد قام بها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول يوم قبل نزول

الأحكام والعبادات، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. والفقه في الدين من أفضل الأعمال، يعطيه الله من يعلم صلاحيته له، وجاهد من أجله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه (¬1). والإسلام جاء ليكمل مكارم الأخلاق، وهذه الأخلاق الحسنة لا بدَّ من صيانتها في الأمة. وصيانة الأخلاق وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود تتطلب سلطة تنفيذية، وعقوبات تشريعية؛ لأن أحداً لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء، ليس وراءها سلطة تنفيذية، وعقوبات تأديبية. وكل يصرخ ولكن لا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحداً لا يستجيب لعقيدة ورسالة ضائعة، ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ أحكامها وشرائعها. قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. وعلماء الأمة صنفان: حفاظ الحديث .. وفقهاء الإسلام. فحفاظ الحديث هم الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، يشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيراً. وفقهاء الإسلام هم الذين خصهم الله باستنباط الأحكام، واعتنوا بضبط قواعد ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).

الحلال والحرام، وسائر السنن والآداب والأحكام، بما وهبهم الله من القوة والفهم والحفظ والاستنباط. فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الآباء والأمهات كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. وأولو الأمر: هم العلماء والأمراء. لكن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف، وما أوجبه العلم الشرعي. وكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعاً لهم كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما. فما أعظم بركتهما على الأمة إذا صلحا، وما أشد فسادهما إذا فسدا. والمفتون صنفان: مفتٍ بعلم .. ومفتٍ بغير علم. فالأول خير الناس؛ لأنه يفتي بعلم ابتغاء مرضاة الله. والثاني شر الناس؛ لأنه يفتي بجهل، ويقول على الله بلا علم طمعاً في منصب أو جاه أو مال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144]. فالإفتاء منصب عال شريف، وثوابه جزيل، وهو في نفس الوقت منصب خطير. لذا ينبغي للمسلم ألا ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: الأولى: أن تكون نيته خالصة لله، فإن لم تكن خالصة لله لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس وأحوالهم. فهذه دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه. والفرق بين النصيحة والفتوى، أن الناصح مفتٍ وزيادة، والمفتي يبين الحكم وقد لا يعطي ترغيباً ولا ترهيباً، لكن الناصح يعطي الحكم ويرغب أو يرهب. والإفتاء منصب عظيم في الدين فمن آتاه الله علماً فعلمه مخلصاً يبتغي به وجه الله نشر الله به السنن، وأمات به البدع، ونور الله به قلوب العباد. ومن ارتقى إليه بغير علم، وتسلق جداره بغير فقه، فقد ضل وأضل، وهلك وأهلك غيره، وقال على الله غير الحق. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَسَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أنَاساً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أرْضِكَ فَإِنَّهَا أرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، فَأتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِمَا كَانَ أدْنَى، فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إِلَى الأرْضِ

الَّتِي أرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَة» متفق عليه (¬1). فبالدعوة يهتدي الناس .. وبالعلم يتعلم الناس كيف يعبدون الله بشرعه .. وبالإفتاء تحل المشاكل والمسائل التي تخفى على بعض الناس. والناس في ذلك متفاوتون: فمنهم من آتاه الله الدعوة والعلم والإفتاء، ومنهم من صرف همه إلى الدعوة دون الإفتاء، ومنهم من رزقه العلم والإفتاء، ومنهم من حرم هذا وهذا، والله أعلم حيث يجعل رسالته. والإيمان زينة القلوب .. والعلم زينة الأعمال .. والفتوى شفاء للناس من داء الجهل. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3470)، ومسلم برقم (2766).

الباب الثامن قوة الإيمان والأعمال الصالحة

الباب الثامن قوة الإيمان والأعمال الصالحة ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة 2 - قوة التوحيد 3 - قوة الإيمان 4 - قوة الإخلاص 5 - قوة العلم 6 - قوة طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - 7 - قوة ذكر الله عز وجل 8 - قوة الدعاء 9 - قوة العبادات 10 - قوة الجهاد في سبيل الله 11 - قوة المعاملات 12 - قوة المعاشرات 13 - قوة الآداب 14 - قوة الأخلاق 15 - قوة القرآن الكريم

1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وقال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. الله عزَّ وجلَّ هو القوي العزيز، وقوته صفة ذاتية لا تنفك عنه، فهو القوي وكل ما سواه ضعيف، وهو خالق القوة في كل مخلوق كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]. وقد جعل سبحانه قوة المخلوقات متفاوتة، وسلط بعضها على بعض، فهو سبحانه الذي خلق قوة الملائكة، ومنهم جبريل الذي خلق الله له ستمائة جناح، جناح منها سد الأفق، وبطرف جناحه رفع خمس قرى من قرى قوم لوط بمن فيها إلى السماء ثم قلبها عليهم. وهو سبحانه الذي خلق قوة السماء .. وقوة الأرض .. وقوة العرش .. وقوة الجبال .. وقوة الحديد .. وقوة النار .. وقوة الماء .. وقوة الرياح .. وقوة النور .. وقوة البشر .. وقوة الحيوان .. وقوة السباع .. وقوة الطير .. وقوة المعادن .. وقوة النبات .. وقوة الجن .. وقوة البترول. وجميع القوة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ في هذه المخلوقات لا تساوي ذرة بالنسبة لقوته سبحانه كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16]. وقوة الله جل جلاله مطلقة قهرت كل شيء، فلا يقف لها شيء. وقوة الجبار صفة لذاته، وهي مطلقة ليس لها حد، وقوة المخلوق محدودة تفنى

وتضعف وتزول، وكل قوة في العالم فمن فضله وجوده. والله عزَّ وجلَّ جعل في الأشياء والمخلوقات قوة. وجعل كذلك في الإيمان والأعمال الصالحة قوة، وقوة الإيمان والأعمال الصالحة أقوى من قوة الأشياء والمخلوقات. ولذلك الله عزَّ وجلَّ أعطى الأنبياء والرسل الإيمان والأعمال الصالحة فقط، وجعلهم بذلك يستفيدون من خزائن الله، ومن قدرة الله. وهو سبحانه خالق كل شيء، وخالق القوة في كل عمل. وجعل سبحانه قوة الأعمال كالأشياء متفاوتة. فالتوحيد له قوة .. والإيمان له قوة .. والإخلاص له قوة .. والصلاة لها قوة .. والطهارة لها قوة .. والزكاة لها قوة .. والصيام له قوة .. والحج له قوة .. والدعاء له قوة .. والأذكار لها قوة .. والصبر له قوة .. والتقوى لها قوة .. والصدق له قوة .. والإحسان له قوة .. والإنفاق له قوة .. والعفو له قوة .. والشكر له قوة .. وهكذا. ومن كانت عنده قوة الأعمال سخر الله له قوة المخلوقات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)} [سبأ: 10]. وقال سبحانه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)} [سبأ: 12]. فسبحان القوي العزيز الذي خلق القوة في المخلوقات، وفي الأعمال، ولا يستفيد من قوة الأعمال إلا الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين. وقد أرسل الله الرسل لأمر الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، ودلهم على

الاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله بالإيمان والأعمال الصالحة. ولا ينال ما عند الله إلا بطاعته، ولا تكون طاعته إلا بالإيمان به، والعمل بما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد بين الله ورسوله قوة المخلوقات وقوة الأعمال. أما قوة المخلوقات فقد أشرنا إليها فيما سبق في باب الخلق والأمر، وأما قوة الأعمال وقيمة الأعمال فهي المقصودة هنا. وبقدر قوة التوحيد والإيمان تكون قوة الأعمال، ويحصل للعبد إذا قام بذلك قضاء حاجته، واستجابة دعائه، ونيل مراده. كما دعا نوح - صلى الله عليه وسلم - على كفار قومه فأغرقهم الله بالماء كما قال سبحانه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 10 - 14]. وكما دعا هود - صلى الله عليه وسلم - على كفار قومه فأهلكهم الله بالريح كما قال سبحانه: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41، 42]. وكما دعا صالح - صلى الله عليه وسلم - على كفار قومه فأهلكهم الله بالصيحة كما قال سبحانه: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)} [الذاريات: 43 - 45]. وكما دعا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه حين ألقي في النار فجعلها سبحانه برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. وكما دعا موسى - صلى الله عليه وسلم - على فرعون وقومه فأهلكهم الله وأغرقهم في البحر. كما قال سبحانه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. وكما دعا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الكفار في بدر فأهلكهم الله وأنجى المؤمنين كما قال

سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10]. فالاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله، تكون بالإيمان والأعمال الصالحة، وقد منَّ الله عزَّ وجلَّ علينا بذلك، فلنستفد من ذلك. فقوة الأعمال الصالحة يحصل بها منافع كثيرة منها: إجابة الدعاء .. ومغفرة الذنوب .. وستر العيوب .. ورفعة الدرجات .. ومضاعفة الحسنات .. والسعادة في الدنيا .. ودخول الجنة .. ورضا الله عن العبد .. وحصول الأمن .. وبسط الرزق .. وحسن الخلق، ونزول النصر، وكشف الكربات. والأعمال الصالحة محبوبة للرب، ولكنها ثقيلة على النفس، إذ النفس لذتها بالشهوات، والروح لذتها بالطاعات، فلا بدَّ من بيان قوة الأعمال الصالحة، ومكانتها عند الله، وقيمة الأجر والثواب الحاصل من فعلها، وذلك لتنشط النفس لأدائها، وترغب في ثوابها، وتنافس في أدائها، لما تعلمه من جزيل الأجر والثواب عليها. فبيان كل عمل وقيمته وعظيم ثوابه يسوق النفوس لفعله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. وهذا بيان لما تيسر من الأعمال الصالحة، وبيان قوتها، وقدر الأجر والثواب الحاصل بفعلها، لعل النفوس تشمر لفعلها، وتتحرك الجوارح لأدائها، وتنشط الأبدان والقلوب للمداومة عليها، والإكثار منها.

2 - قوة التوحيد

2 - قوة التوحيد 1 - قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» متفق عليه (¬1). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ» متفق عليه (¬2). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحاً - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لاِبْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5827)، واللفظ له، ومسلم برقم (94). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5827)، واللفظ له، ومسلم برقم (94). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد برقم (6583)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (558): صحيح الأدب المفرد برقم (426)، انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (134).

3 - قوة الإيمان

3 - قوة الإيمان 1 - قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. 2 - وقال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. 3 - وقال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. 4 - وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. 5 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُم» أخرجه مسلم (¬1). 6 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (54). (¬2) أخرجه مسلم برقم (26).

4 - قوة الإخلاص

4 - قوة الإخلاص 1 - قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. 2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907).

5 - قوة العلم

5 - قوة العلم 1 - قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. 2 - وقال الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم (¬1). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2674).

6 - قوة طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -

6 - قوة طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - 1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70]. 2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» أخرجه البخاري (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7280).

7 - قوة ذكر الله عز وجل

7 - قوة ذكر الله عز وجل 1 - قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. 2 - وقال الله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب: 35]. 3 - وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. 4 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (¬1). 5 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (¬2). * قوة مجالس الذكر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة كثرة ذكر الله: 1 - قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، واللفظ له، ومسلم برقم (2675). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2700).

2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). * قوة ذكر الله في السفر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِك» أخرجه مسلم (¬2). * قوة الاستغفار: 1 - قال الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬3). * قوة التوبة: 1 - قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2688)، وأخرجه ابن ماجه برقم (3790)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3057). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2708). (¬3) أخرجه البخاري برقم (6306).

2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه (¬1). * قوة التسبيح: 1 - قال الله تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» متفق عليه (¬2). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أحَدٌ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلا أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم (¬3). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ» متفق عليه (¬4). 5 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَألَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنَا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُّحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ» أخرجه مسلم (¬5). * قوة الحمد: 1 - قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، واللفظ له، ومسلم برقم (2747). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6405)، واللفظ له، ومسلم برقم (2691). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2692). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6682)، واللفظ له، ومسلم برقم (2694). (¬5) أخرجه مسلم برقم (2698).

2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآن ِ (أوْ تَمْلاُ) مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ» أخرجه مسلم (¬1). 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أََحَبُّ الْكَلامِ إلى اللهِ أَرْبعٌ: سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ، وَلا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، لا يَضُرُّك بأَيِّهِنَ بَدأْتَ» أخرجه مسلم (¬2). * قوة التهليل: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِك» متفق عليه (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» متفق عليه (¬4). 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» متفق عليه (¬5). * قوة التكبير: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأنْ أقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ، أحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» أخرجه مسلم (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (223). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2137). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، ومسلم برقم (2691) واللفظ له .. (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6404)، ومسلم برقم (2693) واللفظ له .. (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (128)، واللفظ له، ومسلم برقم (32). (¬6) أخرجه مسلم برقم (2695).

2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (720).

8 - قوة الدعاء

8 - قوة الدعاء 1 - قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. 2 - وقال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. 3 - وقال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90]. 4 - وقال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84]. 5 - وقال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 9 - 14]. 6 - وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. 7 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675)، واللفظ له.

9 - قوة العبادات

9 - قوة العبادات 1 - قوة الطهارة. * قوة الطهارة: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة الوضوء: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أظْفَارِهِ» أخرجه مسلم (¬2). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة الغسل: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «منِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» متفق عليه (¬4). 2 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «منْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإِْمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (223). (¬2) أخرجه مسلم برقم (245). (¬3) أخرجه مسلم برقم (234). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (881) واللفظ له، ومسلم برقم (850).

وَقِيَامِهَ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬1). 3 - قوة الصلاة * قوة الصلاة بعد الوضوء: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأ فَيُّحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أخرجه مسلم (¬2). * قوة الدعاء عند سماع الأذان: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه البخاري (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وَبِالإِسْلامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُه» أخرجه مسلم (¬4). * قوة الأذان: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلا إنْسٌ وَلا شَيْءٌ، إلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه البخاري (¬5). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه مسلم (¬6). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الَاوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (345) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود (333). وأخرجه ابن ماجه برقم (1087)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (891). (¬2) أخرجه مسلم برقم (234). (¬3) أخرجه البخاري برقم (614). (¬4) أخرجه مسلم برقم (386). (¬5) أخرجه البخاري برقم (609). (¬6) أخرجه مسلم برقم (387).

يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا» متفق عليه (¬1). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ، أدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإذَا قَضَى النِّدَاءَ أقْبَلَ، حَتَّى إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أدْبَرَ، حَتَّى إذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذكر كَذَا، اذكر كذا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى» متفق عليه (¬2). * قوة صلاة الجماعة: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً» أخرجه مسلم (¬4). * قوة صلاة الجماعة في المسجد: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعاً وَعِشْرِينَ» متفق عليه (¬5). * قوة التردد على المسجد: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا غَدَا أوْ رَاحَ» متفق عليه (¬6). 2 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ، خَمْساً وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإنَّ أحَدَكُمْ إذَا تَوَضَّأ فَأحْسَنَ، وَأتَى الْمَسْجِدَ، لا يُرِيدُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (615)، واللفظ له، ومسلم برقم (437). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (608)، واللفظ له، ومسلم برقم (389). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (645)، واللفظ له، ومسلم برقم (650). (¬4) أخرجه مسلم برقم (666). (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (645) ومسلم برقم (650) واللفظ له. (¬6) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (662)، واللفظ له، ومسلم برقم (669).

إلَّا الصَّلاةَ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي- يَعْنِي-عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُّحْدِثْ فِيهِ» متفق عليه (¬1). * قوة صلاة الصبح والعصر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬2) * قوة صلاة العشاء والصبح في جماعة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة الصلوات الخمس: 1 - قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْراً بِبَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟». قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قال: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» متفق عليه (¬4). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِر» أخرجه مسلم (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (477)، واللفظ له، ومسلم برقم (649). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (574)، واللفظ له، ومسلم برقم (635). (¬3) أخرجه مسلم برقم (656) (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667)، واللفظ له. (¬5) أخرجه مسلم برقم (233).

* قوة انتظار الصلاة بعد الصلاة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟». قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة صلاة الجمعة: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى، وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ» أخرجه مسلم (¬2). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ِإِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ فِيهَا خَيْراً، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ» متفق عليه (¬3). * قوة صلاة السنن الراتبة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً، غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ُ» أخرجه مسلم (¬4). * قوة صلاة التهجد: 1 - قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (251). (¬2) أخرجه مسلم برقم (857). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (935)، ومسلم برقم (852) واللفظ له. (¬4) أخرجه مسلم برقم (728).

2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ خَيْراً مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة ركعتي الفجر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها» أخرجه مسلم (¬2). * قوة السجود لله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» أخرجه مسلم (¬3). * قوة الذكر بعد الفريضة: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» أخرجه مسلم (¬4). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ آيةَ الكُرسِي في دُبرِ كُلِ صَلاة مَكتُوبةٍ، لم يمنعه مِن دُخولِ الجنّة إلا أن يَموت» أخرجه النسائي في السنن الكبرى والطبراني (¬5). * قوة أداء الفرائض والنوافل: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (757). (¬2) أخرجه مسلم برقم (725). (¬3) أخرجه مسلم برقم (488). (¬4) أخرجه مسلم برقم (597). (¬5) صحيح: أخرجه النسائي في الكبرى رقم (9928)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (972). وأخرجه الطبراني في الكبير [8: 114]، صحيح الجامع رقم (6464).

لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (¬1). * قوة صلاة الضحى: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» أخرجه مسلم (¬2). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الأوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة الصلاة على الجنازة: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإنَّه يَرْجِعُ مِنَ الأجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» متفق عليه (¬4). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلا، لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» أخرجه مسلم (¬5). * قوة أجر من احتسب موت صفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلا الْجَنَّةُ» أخرجه البخاري (¬6). * قوة الصلاة في مسجد مكة والمدينة: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6502). (¬2) أخرجه مسلم برقم (720). (¬3) أخرجه مسلم برقم (748). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (47)، واللفظ له، ومسلم برقم (945). (¬5) أخرجه مسلم برقم (948). (¬6) أخرجه البخاري برقم (6424).

الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» متفق عليه (¬1). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» أخرجه أحمد وابن ماجة (¬2). * قوة الصلاة في بيت المقدس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ مِنْ أَربَعِ صَلواتٍ فيهِ، وَلَنِعْمَ المُصَلَّى» أخرجه الحاكم (¬3). * قوة الصلاة في مسجد قباء: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» أخرجه النسائي وابن ماجه (¬4). 3 - قوة الزكاة * قوة الزكاة: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} [البقرة: 277]. 2 - وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. 3 - وقال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1190)، واللفظ له، ومسلم برقم (1394). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (14750)، انظر إرواء الغليل رقم (1129). وأخرجه ابن ماجه برقم (1406)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1155). (¬3) صحيح: أخرجه الحاكم برقم (8553)، انظر السلسلة الصحيحة (2902). (¬4) صحيح: أخرجه النسائي برقم (699)، صحيح سنن النسائي رقم (675). وأخرجه ابن ماجة برقم (1412)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجة رقم (1160).

* قوة الصدقة: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد: 18]. 2 - وقال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَصَدّّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ فَإِنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» متفق عليه (¬1). 4 - قوة الصيام * قوة صيام رمضان: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْك» متفق عليه (¬2). 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه (¬3). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «في الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1410)، واللفظ له، ومسلم برقم (1014). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1894)، ومسلم برقم (1151)، واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (38)، واللفظ له، ومسلم برقم (760). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257)، واللفظ له، ومسلم برقم (1152).

* قوة قيام رمضان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه (¬1). * قوة العمل ليلة القدر: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 1 - 5]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه (¬2). * قوة صيام رمضان مع ست من شوال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْر» أخرجه مسلم (¬3). * قوة صيام ثلاثة أيام من كل شهر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو حين قال: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» متفق عليه (¬4). * قوة صوم يوم عرفة وعاشوراء: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ والباقية»، وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَة» أخرجه مسلم (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (37)، واللفظ له، ومسلم برقم (759). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1901)، واللفظ له، ومسلم برقم (760). (¬3) أخرجه مسلم برقم (1164). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1976)، واللفظ له، ومسلم برقم (1159). (¬5) أخرجه مسلم برقم (1162).

* قوة صيام يوم الإثنين: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الإثنين فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» أخرجه مسلم (¬1). 5 - قوة الحج * قوة العمل في عشر ذي الحجة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا الْعَمَلُ فِي أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ». قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» أخرجه البخاري (¬2). * قوة الحج والعمرة: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» متفق عليه (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ» متفق عليه (¬4). 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» متفق عليه (¬5). * قوة الوقوف بعرفة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أرَادَ هَؤُلاءِ؟» أخرجه مسلم (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1162). (¬2) أخرجه البخاري برقم (969). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1521)، واللفظ له، ومسلم برقم (1350). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 1819)، ومسلم برقم (1350)، واللفظ له. (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1773)، واللفظ له، ومسلم برقم (1349). (¬6) أخرجه مسلم برقم (1348).

* قوة العمرة في رمضان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سنان الأنصارية رضي الله عنها: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ». قالتْ: أبُو فُلانٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أرْضاً لَنَا. قال: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1863)، واللفظ له، ومسلم برقم (1256).

10 - قوة الجهاد في سبيل الله

10 - قوة الجهاد في سبيل الله * قوة الجهاد في سبيل الله: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13]. 2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ- أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). * قوة الغدوة والروحة في سبيل الله: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه (¬2). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ». وَقال: «لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ» متفق عليه (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2792)، واللفظ له، ومسلم برقم (1880). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2793)، واللفظ له، ومسلم برقم (1882).

* قوة النفقة في سبيل الله: 1 - قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]. 2 - وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262]. 3 - وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه (¬1). * قوة الشهادة أو الموت في سبيل الله: 1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. 2 - وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157]. 3 - وقال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. * قوة الهجرة في سبيل الله: 1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]. 2 - وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2792)، واللفظ له، ومسلم برقم (1880).

مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 58 - 59]. * قوة من جهز غازياً أو خلفه في أهله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» متفق عليه (¬1). * قوة التعب والغبار في سبيل الله: 1 - قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّار» أخرجه البخاري (¬2). * قوة الرباط في سبيل الله: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» متفق عليه (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأمِنَ الْفَتَّانَ» أخرجه مسلم (¬4). * قوة الصيام في سبيل الله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً» متفق عليه (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2843)، واللفظ له، ومسلم برقم (1895). (¬2) أخرجه البخاري برقم (2811). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2892)، واللفظ له، ومسلم برقم (1881). (¬4) أخرجه مسلم برقم (1913). (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2840)، واللفظ له، ومسلم برقم (1153).

11 - قوة المعاملات

11 - قوة المعاملات * قوة الدعوة إلى الله: 1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» متفق عليه (¬1). * قوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 1 - قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. 2 - وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. 3 - وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. 4 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬2). 5 - عَنْ أبِي ذَرٍّ، أنَّ نَاساً مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللهِ! ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالأجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوَالِهِمْ، قال: «أوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2942)، ومسلم برقم (2406)، واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (49).

صَدَقَةً، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَة» أخرجه مسلم (¬1). * قوة النصيحة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم (¬2). * قوة التواصي بالحق: 1 - قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « .. وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة مواساة المؤمنين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم (¬4). * قوة الإصلاح بين الناس: 1 - قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ» ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1006). (¬2) أخرجه مسلم برقم (55). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2699). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2699).

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). * قوة السماحة والسهولة: 1 - قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً، سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» أخرجه البخاري (¬2). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأى مُعْسِراً قال لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ» متفق عليه (¬3). * قوة الزيارة في الله: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنَّ رَجُلاً زَارَ أخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ أخْرَى، فَأرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَلَمَّا أتَى عَلَيْهِ قال: أيْنَ تُرِيدُ؟ قال: أرِيدُ أخاً لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قال: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قال: لا، غَيْرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قال: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ» أخرجه مسلم (¬4). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» أخرجه مالك وأحمد (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4919)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1411)، وأخرجه الترمذي برقم (2509)، صحيح سنن الترمذي رقم (2037). (¬2) أخرجه البخاري برقم (2076). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2078)، واللفظ له، ومسلم برقم (1562). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2567). (¬5) صحيح: أخرجه مالك برقم (1779)، وأخرجه أحمد برقم (22380). انظر صحيح الجامع رقم (4331).

12 - قوة المعاشرات

12 - قوة المعاشرات * قوة بر الوالدين: 1 - قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24]. 2 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» متفق عليه (¬1). 3 - وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قال: ثم من؟ قال: «أبوك» متفق عليه (¬2). * قوة صلة الرحم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (¬3). * قوة صلة أصدقاء الوالدين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ» أخرجه مسلم (¬4). * قوة حسن معاشرة الأولاد: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَا وَهُوَ» وضم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (527)، واللفظ له، ومسلم برقم (85). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5971)، واللفظ له، ومسلم برقم (2548). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5986)، واللفظ له، ومسلم برقم (2557). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2552).

أصابعه. أخرجه مسلم (¬1). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً، فَأحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ» متفق عليه (¬2). * قوة كفالة اليتيم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا». وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. متفق عليه (¬3). * قوة السعي على الأرملة والمسكين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله، أوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَار» متفق عليه (¬4). * قوة صلة الجار: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» متفق عليه (¬5). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُّحِبَّ لأخِيهِ (أوْ قال لِجَارِهِ) مَا يُّحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2631). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5995)، واللفظ له، ومسلم برقم (2629). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5304)، واللفظ له، ومسلم برقم (2983). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5353)، واللفظ له، ومسلم برقم (2982). (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6014)، واللفظ له، ومسلم برقم (2624). (¬6) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13)، ومسلم برقم (45)، واللفظ له.

13 - قوة الآداب

13 - قوة الآداب * قوة السلام: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). 2 - وعن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ فقال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه (¬2). 3 - وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ: «عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ «ثَلَاثُونَ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬3). * قوة البدء بالسلام: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسَّلامِ» متفق عليه (¬4). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬5). * قوة السلام عند دخول البيوت: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} [النور: 27]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (54). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (12)، واللفظ له، ومسلم برقم (39). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5191)، صحيح سنن أبي داود رقم (4327). وأخرجه الترمذي برقم (2689)، صحيح سنن الترمذي رقم (2163). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6077)، ومسلم برقم (2560)، واللفظ له. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5197)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4328)، وأخرجه الترمذي برقم (2694)، صحيح سنن الترمذي رقم (2167).

2 - وقال الله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. * قوة الإطعام: 1 - قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 8 - 12]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). * قوة التسمية على الطعام: 1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]. 2 - عن عمر بن سلمة - رضي الله عنه - قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا غُلامُ، سَمِّ الله، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ. متفق عليه (¬2). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَسى أن يَذكُرَ اللهَ في أَوَّلِ طَعامِهِ فَلْيقُلْ حينَ يَذكُرُ: باسمِ اللهِ في أوَّلِهِ وَآخرِهِ، فإنَّهُ يَستقبلُ طَعامَهُ جَديداً، ويمنعُ الخبيثَ ما كانَ يصيبُ مِنهُ» أخرجه ابن حبان وابن السني (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2485) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2019). وأخرجه ابن ماجه برقم (1334)، صحيح سنن ابن ماجه رقم رقم (1097). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5376) واللفظ له، ومسلم برقم (2022). (¬3) صحيح: أخرجه ابن حبان برقم (5213)، وأخرجه ابن السني برقم (461). انظر السلسلة الصحيحة برقم (198).

* قوة الدعاء بعد الأكل أو الشرب: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» أخرجه مسلم (¬1). * قوة إماطة الأذى عن الطريق: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَينَمَا رَجُلٌ يَمشي بِطَريقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّريقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغفرَ لَهُ» أخرجه مسلم (¬2). * قوة الصدق في البيع: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أوْ قال: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» متفق عليه (¬3). * قوة الدعاء فيمن نزل منزلاً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم (¬4). * قوة السفر ليلاً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬5). * قوة النوم على طهارة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2734). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1914). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2079) واللفظ له، ومسلم برقم (1532). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2708). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد برقم (15157). وأخرجه أبو داود برقم (2571) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (2241).

آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» متفق عليه (¬1). * قوة الذكر والدعاء إذا تقلب ليلاً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقال: لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإنْ تَوَضَّأ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاتُهُ» أخرجه البخاري (¬2). * قوة عيادة المريض: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» أخرجه مسلم (¬3). 2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ عَائِداً مَشَى فِي خَرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬4). * قوة الدعاء للمريض: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710). (¬2) أخرجه البخاري برقم (1154). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2568). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3098)، صحيح سنن أبي داود رقم (2655). وأخرجه ابن ماجه برقم (1442) وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1183). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3106)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (2663). وأخرجه الترمذي برقم (2083) صحيح سنن الترمذي رقم (1698).

* قوة الدعاء عند الخروج من البيت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). * قوة الدعاء عند القيام من المجلس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالََ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬2). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5095) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4249). وأخرجه الترمذي برقم (3426)، صحيح سنن الترمذي رقم (2724). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (10420). وأخرجه الترمذي برقم (3433)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2730).

14 - قوة الأخلاق

14 - قوة الأخلاق * قوة حسن الخلق: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقاً» متفق عليه (¬1). * قوة الصبر: 1 - قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. 2 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ». يُرِيدُ: عَيْنَيْهِ. أخرجه البخاري (¬2). * قوة الصدق: 1 - قال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ، يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ، يَهْدِي ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3559)، واللفظ له، ومسلم برقم (2321). (¬2) أخرجه البخاري برقم (5653).

إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً» أخرجه مسلم (¬1). * قوة التقوى: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال: 29]. 2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. 3 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. 4 - وقال الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 179]. * قوة اليقين: 1 - قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. 2 - وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 4، 5]. * قوة التوكل: 1 - قال الله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. 2 - وقال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2607).

* قوة الخوف: 1 - قال الله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. 2 - وقال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. * قوة الرجاء: 1 - قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة الرفق: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُّحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاه» متفق عليه (¬2). * قوة الحياء: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» متفق عليه (¬3). * قوة حفظ اللسان: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام أفضل؟، فقال: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» متفق عليه (¬4). * قوة الإحسان: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)} [المرسلات: 41 - 44]. 2 - وقال الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2749). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6927)، ومسلم برقم (2593) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (9) واللفظ له، ومسلم برقم (35). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (11) واللفظ له، ومسلم برقم (42).

وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]. * قوة الحب في الله: 1 - قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُّحِبَّ لأخِيهِ مَا يُّحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه (¬1). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلالِي، الْيَوْمَ أظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلِّي» أخرجه مسلم (¬2). * قوة البكاء من خشية الله: 1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك: 12]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» أخرجه الترمذي (¬3). * قوة الرحمة: 1 - قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ» متفق عليه (¬4). * قوة العفو والصفح: 1 - قال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13) واللفظ له، ومسلم برقم (45). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2566). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (1639)، صحيح سنن الترمذي رقم (1338). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5997) واللفظ له، ومسلم برقم (2318).

رَحِيمٌ (22)} [النور: 22]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة الاستعاذة: 1 - قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. 2 - اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أوْدَاجُهُ، فقال: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي لأعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» متفق عليه (¬2). * قوة التواضع: 1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم (¬3). * قوة قضاء حوائج الناس: 1 - قال الله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} [المزمل: 20]. 2 - وقال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]. 3 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (18). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6048)، ومسلم برقم (2610) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم برقم (2588).

كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم (¬1). * قوة التسمية: 1 - قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]. 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الشَّيطانَ يَسْتحِلُّ الطَّعامَ أَنْ لا يُذكَرَ اسْمُ اللهِ عَليهِ» أخرجه مسلم (¬2). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا دخلَ الرَّجُلُ بيتَهُ، فَذكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخولِهِ وَعندَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لَكُمْ وَلا عَشاءَ، وَإِذا دَخَلَ فَلمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: أَدْرَكْتُمُ المبيتَ، وَإِذَا لمْ يَذكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعامِهِ، قَالَ: أَدْركْتُمُ المبيتَ وَالعَشاءَ» أخرجه مسلم (¬3). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2017). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2017).

15 - قوة القرآن الكريم

15 - قوة القرآن الكريم 1 - قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. 2 - وقال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44]. * قوة الاجتماع على تلاوة القرآن: 1 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « .. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم (¬1). 2 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» أخرجه البخاري (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699). (¬2) أخرجه البخاري برقم (5027).

الباب التاسع فقه العبودية

الباب التاسع فقه العبودية ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه حقيقة العبودية 2 - فقه الإرادة 3 - فقه الرغبة 4 - فقه الشوق 5 - فقه الهمة 6 - فقه الطريق إلى الله 7 - فقه السير إلى الله 8 - فقه المحبة 9 - فقه التعظيم 10 - فقه الإنابة 11 - فقه الاستقامة 12 - فقه الإخلاص 13 - فقه التوكل 14 - فقه الاستعانة 15 - فقه الذكر 16 - فقه التبتل 17 - فقه الصدق 18 - فقه التقوى 19 - فقه الغنى 20 - فقه الفقر 21 - فقه الصبر 22 - فقه الشكر 23 - فقه التواضع 24 - فقه الذل 25 - فقه الخوف 26 - فقه الرجاء 27 - فقه المراقبة 28 - فقه المحاسبة 29 - فقه المشاهدة 30 - فقه الرعاية 31 - فقه الذوق 32 - فقه الصفاء 33 - فقه السر 34 - فقه القبض 35 - فقه البسط 36 - فقه الحزن 37 - فقه الإشفاق 38 - فقه الخشية 39 - فقه الغيرة 40 - فقه الثقة بالله 41 - فقه التفويض 42 - فقه التسليم 43 - فقه الرضا 44 - فقه الزهد 45 - فقه الورع

1 - فقه حقيقة العبودية

1 - فقه حقيقة العبودية 1 - قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. 2 - وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. 3 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21 - 22]. الله تبارك وتعالى هو الملك الذي لا يخرج عن ملكه أحد، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته لا ينفك عنه أبداً. والله سبحانه هو الصمد، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. والإنسان يذنب دائماً، ويقصر دائماً، فهو فقير مذنب مقصر، وربه تعالى يرحمه ويغفر له؛ لأنه هو الغفور الرحيم. ولولا رحمة الله لعباده وإحسانه إليهم، لما وجد العبد خيراً أصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وليست سعادة الإنسان في أن يكون عالماً بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً له، عابداً له، مطيعاً له. بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأشقاهم حياة في الدنيا، عالم لم ينفعه الله بعلمه. فإذا علم الإنسان الحق، وأبغضه وعاداه كان مستحقاً من غضب الله وعقابه ما لا يستحقه من ليس كذلك كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا

اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} [الشورى: 16]. والله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة وحده دون سواه. فهو سبحانه أعظم من خلق .. وأكرم من سئل .. وأرحم من ملك .. وأحق من عُبد .. لا إله غيره، ولا رب سواه. فكمال الأدب مع الله يكون بالإيمان به، وتوحيده، وطاعته، والقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً. ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفة دينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه .. ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق، والعمل به والدعوة إليه، والصبر عليه. ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا بأمرين: اليقين .. والعافية. فاليقين: يدفع عن العبد عقوبات الآخرة. والعافية: تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عافيتي الدين والدنيا بقوله: «اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ» أخرجه الترمذي (¬1). ولله سبحانه على كل إنسان عبودية خاصة بحسب مرتبته وقدرته، سوى العبودية العامة التي سّوَّى الله بين عباده فيها. فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3558)، صحيح سنن الترمذي رقم (2821).

وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه، ما ليس على المفتي. وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وعلى القوي بدينه من عبودية الجهاد ما ليس على الضعيف ... وهكذا. وقد غر إبليس أكثر الخلق فحسّن لهم القيام بنوع من الذكر، أو قراءة القرآن، أو الصلاة والصيام، أو الزهد في الدنيا والانقطاع عن الناس، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها. وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً وفقهاً. فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك الحقوق التي تجب عليه لله أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي. فإن ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي. ومن له بصيرة وخبرة بما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، رأى أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً وفقهاً. وأي دين؟ وأي خير؟ وأي علم؟ وأي فقه؟ فيمن يرى الكفر يملأ الأرض وهو صامت ساكن لا يدعو إلى الله، ويرى الجهل قد عمّ وطمّ، ويرى تفشي البدع وهو ساكن لا يتحرك، ساكت لا يأمر ولا ينهى. ويرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وهو بارد القلب، صامت اللسان، ساكن الجوارح. وهل بلاء الدين إلا من هؤلاء، الذين إن سلمت لهم وظائفهم ورياستهم ومآكلهم فلا مبالاة لهم بما جرى على الدين وأهله. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهي موت قلوبهم. فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله ودينه أقوى، وانتصاره للدين أكمل.

وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على الأنبياء والرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته وقدرته تكون مسئوليته وعبوديته. وكمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة، والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية. وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان، وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} [العنكبوت: 2 - 4]. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. فالجنة غالية الثمن، لا ينالها المؤمنون إلا بالجهاد والصبر، فَخَلْق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين. فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله، يحبون في الله، ويبغضون لله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله. ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاء والفلاح إلا بذلك. ولما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة النفس والشيطان وبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده لا يشركه فيه غيره كان أتم اجتهاداً وأوفر سعياً كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ

عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. ولما كان زمن التألم والعذاب والمجاهدة قصيره طويل، سلَّى الله أهله بأن له أجلاً ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلاً للقائه سبحانه، ليهون عليهم أثقاله، ويخف عليهم حمله واحتماله كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)} [العنكبوت: 5]. وعبادة الله تبارك وتعالى أصل السعادة في الدنيا والآخرة، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميزه بمزاج لطيف عجيب، وجعل فيه ميل الانتخاب، وميل الأحسن، وميل الزينة. ولأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه وملبسه إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليستفيد كل من الآخر في سائر المعاملات والحاجات. وذلك يحتاج إلى أوامر من الله يسير عليها العباد في معاملاتهم ومعاشراتهم؛ لئلا يقع بينهم الظلم والعدوان. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر واجتناب النواهي احتاج العبد إلى إدامة تصور عظمة الخالق ومالك الملك في الأذهان، وذلك هو التوحيد والإيمان بالله عزَّ وجلَّ. ثم لإدامة هذا التصور ورسوخ العقيدة في القلب، يحتاج العبد إلى مذكِّر مكرَّر، وعمل متجدد. وما المذكر المكرر إلا العبادة من صلاة وصيام وذكر ونحوها. فالعبادة لتوجيه القلوب والجوارح إلى الخالق الحكيم العليم القدير، والتوجه لتأسيس الانقياد، والانقياد للوصول إلى النظام الشامل لشعب الحياة كلها، والذي شرعه الله لمصالح عباده. والإنسان كما أن له علاقة مع نفسه، ومع أبويه، ومع أقاربه، ومع جيرانه، ومع من يستفيد منه ويتعامل معه في مأكله وملبسه ومركبه ومسكنه ونحو ذلك، فكذلك له علاقة مع ربه، ومع كتابه، ومع رسوله.

والله سبحانه جعل لكل علاقة مما سبق تعليمات وإرشادات، وسنناً وآداباً، وأصولاً وأحكاماً، وأعطى على ذلك الأجر والثواب. وهذا هو الدين الذي أكرم الله به البشرية، والذي ينبغي أن يدخل في كل شيء؛ لأن به صلاح كل شيء كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. فالعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وحاجة العباد إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالدين إذا خرج من حياة الأمة أصابها بلاء عظيم، وعوقبت بأمرين هما: الجهل والغفلة. فيصير الإنسان جاهلاً بالحقوق والحدود، غافلاً عن القيام بالواجبات والحقوق والحدود، وكل حق له حد، فطاعة الوالدين حقها أن يطاعا ما لم يأمرا بمعصية الله عزَّ وجلَّ، وطاعة الحاكم حدها أن يطاع في كل شيء ما لم يأمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ. وإذا كانت المعاملات والعلاقات على غير الدين جاء الفساد وكثر، ثم جاءت المصائب والعقوبات نقداً كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. والأسباب إنما هي للابتلاء، وهي مكان الأوامر، يبتلي الله بها العباد، ليعلم من يطيع أمره ممن يتبع هوى نفسه كما قال سليمان - صلى الله عليه وسلم -: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]. وحقيقة الدين ليس معناها كيف نصوم ونصلي فقط؟، وكيف نؤدي العبادات رسوماً بلا روح، ونفعل ما نشاء، ونترك ما نشاء.

بل حقيقة العبودية: التقرب إلى الله بالدين الكامل .. وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال .. وكيف نشعر أن الله معنا .. وكيف يرضى عنا .. وكيف نرضيه .. وكيف نطمئن بذكره .. نحس بقربه ولطفه فنناجيه ونسأله .. ونقدم الشكوى إليه .. ونتيقن أن الله معنا .. يعلم جميع أحوالنا .. ويسمعنا ويرانا .. ويعلم ما في نفوسنا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وهو سبحانه يعلم سرنا ونجوانا، وما نخفيه وما نبديه، والكل عنده سواء، وهو علام الغيوب. وهو سبحانه الملك الكريم العزيز الجبار، وبيده كل شيء. فنتأدب في عرض أحوالنا وحوائجنا عليه بذكر نعمه وإحسانه وآلائه على العباد، ونذكر عظمته وجلاله وغناه، ونحمده على جميل عفوه ومغفرته، وسعة حلمه ورحمته. ونضع نواصينا وقلوبنا وجوارحنا بين يديه، معترفين بالتقصير والخطأ، والجهل والظلم، والنسيان والغفلة، واقتراف الذنوب. فقد قصرنا في أداء العمل، وفي حسن العمل، وفي إكمال العمل، وفي إخلاص العمل. وهذه ذنوب عظيمة، وليس لنا من يغفرها إلا الله، وليس لنا من يحفظنا إلا الله، وليس لنا من يرحمنا إلا الله، وليس لنا من يرزقنا إلا الله الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. هذا هو الصراط المستقيم الذي يبلغ به الإنسان ويكمل ويصله بربه، فيوجه بركاته ورحمته إليه كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}

[الأعراف: 96]. فالكائنات كلها بيد الله وحده. فمن أطاع الله ورسوله، وعبد الله بما شرع رسوله، مخلصاً لربه، سخر الله له المخلوقات، وجعلها في خدمته ونصرته، كما سخر الماء لنوح وموسى، والنار لإبراهيم، والريح لهود، والصاعقة لصالح، والملائكة لمحمد ولوط، ونحو ذلك. وهذا اليقين هو روح العبودية، وإذا عبدنا الله به بالقلب والقالب كان الله معنا، واستفدنا من خزائنه. وكلما انصرف الإنسان عن الله وعن الدين تركه فسقط في أودية الهلاك مهما كان عنده من الأموال والأشياء كما حصل لقوم نوح وهود، وصالح وشعيب، وقوم لوط، وكفار مكة وغيرهم. فهؤلاء أرسل الله إليهم الرسل بالتوحيد والإيمان، فلما أبوا واستكبروا وظلموا دمرهم الله وأهلكهم، وأنجى رسله والمؤمنين بهم سواء كانت معهم الأسباب أو لم تكن لأن الله معهم، ومن كان الله معه فمن ذا الذي يهزمه أو يخذله أو يقف في وجهه. وكثير من المسلمين اليوم يرون أن فلاحهم في الملك والمال والأشياء وأن بها يقوم الدين، ويضيعون أوقاتهم وينفقون أموالهم للحصول عليها. وهذا خطأ، فالذي نحتاج إليه لإقامة الدين في حياتنا وحياة الناس هو كيف يكون الله معنا، ولا يكون معنا بنصره وتأييده إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. فالله عزَّ وجلَّ ينصرنا بقدرته إذا أطعناه، سواء كانت عندنا الأشياء أو لم تكن. فالنمرود جمع وقومه الحطب الكثير، وأشعل النار ليلقي فيها إ براهيم - صلى الله عليه وسلم -، وما خاف إبراهيم منه ولا من النار؛ لأنه يعلم أن النمرود وملكه وجيشه، ومن في السموات ومن في الأرض، كلهم ليس بأيديهم شيء، وأن الأمر كله بيد الله

وحده. فلما ألقوه في النار، ولقوة يقين إبراهيم على ربه أمر الله الضار أن يكون نافعاً، وسلب النار خاصية الإحراق، جسد إبراهيم خاصية الاحتراق، وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68، 69]. وكذا فعل الله بنوح ومن آمن معه فحملهم في السفينة، وجعل الماء الذي أغرق به أعداءه حاملاً لهم، مهلكاً لأعدائه في وقت واحد كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37]. وطريق معية الله سهل، بأن يعيش الإنسان إنساناً مؤمناً بربه مستقيماً على أوامره: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. فهذا حق الله علينا أن نعيش كما أراد الله، إنساناً عاقلاً يؤمن بربه، ويمتثل أمره، لا حيواناً يفعل ما يشاء، ويأكل ما يشاء. وكثير من الناس يعيش حيواناً لا إنساناً، بل أضل من الحيوان كما قال سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وأعظم منصب يناله الإنسان، وأعلى مقام يصل إليه، وأفضل درجة يرقى إليها، هي مقام العبودية، بأن يكون عبداً لربه ومولاه مالك الملك، وجبار السموات والأرض، الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، كما وصف بها سيد الأنبياء والرسل في مقام الوحي كما قال سبحانه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10]. وفي مقام الإسراء بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}

[الإٍسراء: 1]. والعبد إنما يفخر ويعتز بمالكه وسيده ومولاه كما قال إبراهيم للنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]. والحر يفتخر ويعتز بما يملك من الأموال والأشياء. وماذا يملك الإنسان .. وماذا بيده .. وماذا يملك الرب .. ؟: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120]. ولا يكون العبد عبداً لله حقاً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً حتى لا يكون عبداً لما سواه. فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، وفيه من الشرك بقدر محبته له، وعبادته لذلك الغير زيادة. ومن عرف ربه، وعرف جلاله وجماله وكماله، وجد لذة عبادته، وطاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها لوجوه: أحدها: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة ربه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف ذكر الله، وتتجمل أعضاؤه بجمال سنن الله. الثاني: أن العبادة أمانة، وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، وأداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني، فمن حفظ أوامر الله وحدوده حفظه الله وأكرمه، ومن أضاع أوامر الله وحدوده أهلكه الله وأهانه. الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى الاشتغال بطاعة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة.

والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، وكل ما سواه عبد مملوك، والله سبحانه بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء كما قال عزَّ وجلَّ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. والناس في العبودية قسمان: الأول: عبيد الطاعة، وهم أهل الإيمان، والعبيد ليس لهم إلا باب سيدهم، يسألونه من فضله وإحسانه، ويلوذون به ويستعينون به، وإضافتهم إليه كإضافة البيت الحرام إليه كما قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]. الثاني: عبيد القهر والربوبية، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهذه العبودية يدخل فيها عموم الخلق كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]. وعبادة الله عزَّ وجلَّ تقوم على أصلين: المحبة .. والخوف. فبالمحبة يكون امتثال الأمر .. وبالخوف يكون اجتناب النهي. وينبغي أن يكون خوف العبد ورجاؤه سواء، فأيهما غلب هلك صاحبه، وعند الموت يُغلِّب جانب الرجاء على الخوف. والله حكيم عليم، وله في خلقه شئون، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذنه. ومن سنة الله التي لا تتخلف أنه سبحانه كما أودع الماء حكمته في إزالة أوساخ الجسم به، وجعل ذلك سنة لا تتبدل، فكذلك أودع ما شرعه من أقوال العبادة وأفعالها حكمته التي تطهر النفس وتزيل عنها أدرانها. فكما يزيل الماء الوسخ الظاهر، فكذلك العبادة تزيل الدرن الباطن، وكلاهما موضوع للتطهير، سنة الله التي لا تتبدل، وهو الحكيم الخبير: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23]. وكما أن الماء إذا لم يحسن الإنسان استعماله في غسل الأجسام والأشياء فإنه لا

يؤثر في تطهيرها، لا سيما إذا خالطه شيء لا يتلاءم مع طبيعته، فكذلك العبادة إذا أداها العبد أداءً ناقصاً، أو لابسها شرك أو رياء، فإنها تفقد خاصيتها بالتطهير والتزكية للروح، ومن ثم لا تقبل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق توحيداً وإيماناً، وأكملهم عبودية لله، وأكملهم محبة له، وأكملهم افتقاراً إليه، وأكملهم توبة واستغفاراً لله عزَّ وجلَّ. فهو أفضل الخلق عند الله، وأكرمهم منزلة، وهو سيد ولد آدم، والخير كله من الله، والخلق كله لله، والأمر كله لله، وليس للمخلوق منه شيء، بل المخلوق فقير إلى الله من كل وجه، والله غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وقال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]. والعبد إذا أصبح أو أمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه. وفرَّغ قلبه لمحبته .. ولسانه لذكره .. وجوارحه لطاعته. وإذا أصبح أو أمسى والدنيا همه، فرَّق الله عليه شمله، ووكله إلى نفسه، وحمله هموم الدنيا وأنكادها. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق .. ولسانه عن ذكره بذكرهم .. وجوارحه عن طاعته بطاعتهم وخدمتهم وتنفيذ أوامرهم .. فهو يكدح كدح الوحش والحيوان في خدمة غيره. وسنة الله جارية أن كل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق، ومحبته وخدمته وطاعته ولو كان في معصية الله، فهو إما عبد لخالقه ومولاه، أو عبد لهواه.

ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غير الله عُذب به، وأصابه الخذلان من جهة ما تعلق به: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]. وتمام العبودية وكمالها يكون بتكميل نوعين من أنواع التذلل والتعبد: أحدهما: ذل المحبة لله، بأن يشهد العبد عزة محبوبه وجلاله وعظمته، فيحمله ذلك على التقرب إليه، والتودد إليه، والتملق له، وإيثار ما يرضيه، والصبر على أوامره، والرضى بأقداره، والحمد على نعمه، والتلذذ بطاعته. الثاني: ذل المعصية، فإذا وقع العبد في معصية أحدث له ذلك الذل والانكسار. فإذا انضاف هذا إلى ذاك لم يبق إلا شهود عزة الله وجلاله وكبريائه، وضعف الإنسان وعجزه، وفقره وذله لربه. ومتى شهد العبد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، فإذا ابتلي بالذنب تصاغرت نفسه وذل وخضع لربه. ولكل اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته عبودية خاصة تظهر على القلب والجوارح. فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالنفع والضر، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل على الله سبحانه. وعلم العبد بسمع الله تعالى وبصره، وعلمه بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله. ويجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء، ويثمر له الحياء الإكثار من الطاعات، واجتناب المحرمات. ومعرفة العبد بغنى الله، وجوده وكرمه، وبره وإحسانه، وعفوه ورحمته يوجب له ذلك سعة الرجاء، والتضرع إلى الله، والوقوف ببابه، وسؤاله ودعائه.

ومعرفته بجلال الله وعظمته وكبريائه وعزته يثمر له الخضوع لربه، والاستكانة إليه، والمحبة له، والاعتماد عليه. وعلم العبد بكمال الله وجماله، وجمال أسمائه وصفاته وأفعاله، يوجب له محبة خاصة. فالمحبة نوعان: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً. ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى، وعبادة الله عزَّ وجلَّ هي طاعته بامتثال أوامره في جميع الأحوال والأوقات. فالعبادة: هي الغاية من خلق الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وبعث الله بها كل رسول إلى قومه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. ودعا إليها كل رسول بقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]. وأمر الله بها الناس جميعاً بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]. والعبادات والشعائر كالصلاة والصيام ونحوهما رباط وثيق بالله .. ولقاء كريم بين العبد ومولاه .. وضيافة عزيزة عند الله ... ومعراج للنفس البشرية إلى الملكوت الأعلى. إذ كيف يكون حب من الله لعبده ولا يكون لقاء؟.

وكيف يكون ود من الله لعبده ولا تكون ضيافة؟. وكيف تكون رحمة من الله لعبده ولا تكون طاعة من العبد لربه؟. وفي العبادة تجرد لله من كل شيء، لتدريب النفس على عدم التعلق بأحد سوى الله. وللعبودية منازل: الأولى: اليقظة والانتباه من النوم، فإذا استنار قلبه بعد الانتباه أوجب له ملاحظة نعم الله الظاهرة والباطنة. ثم شاهد عظمتها وكثرتها وتنوعها، ثم يئس من عدها، ثم شاهد منَّة الله بها من غير استحقاق ولا دفع ثمن، فيرى تقصيره في شكرها، فيلهج بذكر الله وحمده. الثانية: مطالعة الجناية بالنظر إلى ما سلف من الإساءة، فيشمر لتخليص نفسه من رق الجناية بالاستغفار والندم، ويمحص نفسه من خبث الجناية بالتوبة والاستغفار، وفعل الحسنات الماحية. الثالثة: الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيتدارك ما فاته في بقية عمره، ويستغل أوقاته فيما يقربه إلى الله عزَّ وجلَّ. إن الإسلام ميلاد جديد للإنسان، يخضع فيه العبد لربه، ويتوجه إليه في جميع أحواله، ويمتثل أمر من خَلَقه، ويشكر من رَزَقه، ويتشرف بطاعته. فالعبودية لله مرتبة عالية، ومنزلة سامية، ورتبة كريمة، ولا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء. والله سبحانه لا يريد من عباده أن يقروا له بالعبودية وأن يعبدوه وحده لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى، ولكنه سبحانه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الربوبية، وحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية. فلا يمكن أن تستقر التصورات، ولا أن تستقر الحياة وتنتظم إلا بهذه المعرفة الشاملة. يريد الله تبارك وتعالى أن يستقر الإيمان في نفوس الناس وفي حياتهم، ليخرجوا

من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ليعرفوا مّنْ صاحب السلطان في هذا الكون، وفي هذه الأرض. فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه. يريد سبحانه أن يعرف الناس أن العبيد كلهم عبيد فقراء، ليس فيهم رب ولا إله. ألا ما أجمل الحياة إذا تعلقت نفوس البشر بالله وحده، وتعلقت قلوبهم برضاه، وتعلقت أعمالهم بتقواه، وتعلق نظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه. وأما ما يجزيهم به في الآخرة فهو كرم منه وفضل وفيض من عطاء الله. والذين يستنكفون عن عبادة الله يذلون لعبوديات أخرى في هذه الأرض لا تنتهي. يذلون لعبودية الهوى والشهوة .. أو عبودية الوهم والخرافة .. ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم .. ولهم في الآخرة عذاب أليم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. فالعبادة حق لله وحده، وقد وضعوها في غير موضعها، وصرفوها لغير مستحقها، وهذا ظلم عظيم، وعقوبته أشد عقوبة كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. والاعتصام بالله ثمرة ملازمة الإيمان به، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف عبودية الكل له، وعرف جلاله وجماله وكماله، فلا يبقى أمامه إلا أن يعتصم بالله وحده: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101]. ولا تسكن النفوس ولا تطمئن القلوب إلا بالاعتصام بالله وحده دون سواه. وإذا اعتصم الناس بالله وحده، وقام شرعه في عباده، عرف كل إنسان مكانه على

حقيقته، عبدٌ لله، وسيد مع كل من عداه، فالمعبود واحد، والخلق كلهم سواء في العبودية، لكنهم فريقان: مطيعون .. وعصاة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء: 175]. فهؤلاء الذين أطاعوه، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} [النساء: 173]. والله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، وهو الخالق الواحد الذي لا شريك له في خلقه، وهو المالك الواحد الذي لا شريك له في ملكه. فوجب بذلك أن لا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه. فهو جلَّ وعلا صاحب الحق، ومالك الملك، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه. هو سبحانه الذي يملك أن يشرع لخلقه، وهو الذي يجب أن يطاع شرعه، وينفذ حكمه، وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر الموجب للعذاب الأليم. وهو سبحانه وحده العليم الحكيم الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب، كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء. والمؤمنون هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي أمر بها، ويتبعون النظام والشرع الذي يرتضيه لهم، هذه كتلك سواء بسواء. وهم يعبدونه سبحانه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، فكلاهما من عند الله، هذا أمره، وهذا أمره، ولا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه. وهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، ولا يستحق العبادة أحد سواه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وقد حرم الله الخمر والميسر؛ لأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة التي تصل المسلم بربه.

ويصرفان العبد عن امتثال أوامر الله والنهوض بما أمر الله به، فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة السكر واللهو تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم، ليكون موصولاً بالله في كل لحظة، مراقباً لله في كل خطوة. ثم ليكون كذلك بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة، ودينها وشريعتها من كل اعتداء. فالمسلم سلعة غالية، ولهذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وأعطاهم على ذلك الجنة. فللمسلم وظائف وأعمال، وجهد وبناء، وليس متروكاً لذاته ولذّاته وشهواته، فعليه في كل لحظة حيث كان ومن كان تكاليف وأوامر من ربه تستوجب اليقظة الدائمة: تكاليف لربه .. وتكاليف لنفسه .. وتكاليف لأهله .. وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها .. وتكاليف للإنسانية كلها يدعوها إلى ربها، ويهديها إلى خالقها. ومجموع هذه التكاليف والأوامر هي الدين، وهي العبادة التي يتقرب بها إلى ربه، يؤديها خالصةً لربها، وفق سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. والناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى وفوضى. إن حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم، ومخلوقات أخرى لا يحصيها إلا الله، وكلها تعبد الله وتسبحه سامعة مطيعة لفاطرها كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. وذلك كله يدل على عظمة الخالق، وحسن تدبيره، وسعة رحمته التي عمت كل خلقه، وما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها، فيقضي في أمرها بما شاء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. والله على كل شيء قدير، وقد شاء أن يجعل في الإنسان الاستعداد المزدوج للهدى والضلال عن اختيار وحكمة لا عن قهر وإلزام. وكذلك الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، بمشيئته تلك التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند، ولا تظلم أحداً من العباد. والله سبحانه هو الإله الذي يستحق أن يعبد ويخضع له، ويطاع أمره، فهو خالق خلقه ومالكهم، وهو كذلك الرازق الذي يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شريك فيه. فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يأكلونه فإنما هو من هذا الملك العظيم الخالص لله. فإذا تقرر أن الله وحده هو الخالق المالك الرازق تقرر أن تكون الربوبية له سبحانه، وأن تكون الألوهية له سبحانه، وأن تكون العبودية خالصة له سبحانه. فلا يُعبد ولا يطاع ولا يُشَرِّع إلا هو سبحانه، ومن له الأسماء الحسنى والصفات العلا والكمال المطلق والجلال والجمال كيف يليق بالإنسان العاقل أن يعرض عنه، ويعبد غيره؟: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: 164]. أغير الله أبغي رباً ناقصاً عاجزاً يحكمني ويصرف أمري؟. أغير الله أبغي رباً وهذا الكون كله في قبضته، والخلائق كلها تحت قهره

وربوبيته؟. أغير الله أبغي رباً وإليه مرجع العباد فيحاسبهم على نياتهم وأعمالهم، وعلى طاعاتهم ومعاصيهم؟. أغير الله أبغي رباً وهو الذي خلق الناس، واستخلفهم في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في الجسم والعقل، والعلم والرزق، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟. أغير الله أبغي رباً فأجعل شرعه شرعاً وأمره أمراً وآيات الكون وآيات القرآن كلها ناطقة شاهدة بأن الله وحده هو الرب الواحد القادر على كل شيء؟. أغير الله أبغي رباً وهو العزيز الجبار سريع العقاب لمن عصاه، الملك الغفور الرحيم لمن تاب إليه؟. ألا ما أظلم الإنسان وما أسفهه، وما أوحشه إذا أعرض عن ربه ومولاه، وتولاه عدوه الشيطان، وأطاع نفسه وهواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. فسبحان العظيم الذي لا أعظم منه، وسبحان الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الكريم الذي لا أكرم منه، الحليم الذي لا أحلم منه. أحق من عبد، وأجود من سئل، وأرحم من ملك. هو الملك وكل ما سواه عبد، هو الغني وكل ما سواه فقير، هو القوي وكل ما سواه ضعيف. ومن هذه أسماؤه وهذه صفاته وهذه أفعاله أيليق بالعاقل أن يتركه ويعرض عنه، ويعبد غيره من طاغوت عاجز أو حجر أو نبات لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً؟: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64]. {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} [الأنعام: 14].

إن الكون كله عابد لربه يسبح بحمده، السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح الدائرة في الجو وكافة المخلوقات في السموات والأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وإذا كان الكون كله عابداً لربه وبارئه وفاطره كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. فإن استكبار الإنسان عن هذه العبودية التي تؤديها جميع المخلوقات لربها، استكباره نشاز وشذوذ في الوجود، يجعل الناشز غريباً شاذاً شائهاً في الوجود، مع ما أنعم الله عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفضّله على كثير من خلقه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} [النور: 41، 42]. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإيمان به، والإنابة إليه، وطلب مرضاته. وأخلى لسانه من ذكر ربه، والثناء عليه، وأخلى جوارحه من شكره وطاعته، فلم يرد من نفسه ذلك ونسي ربه لم يرد الله سبحانه أن يعيذه من ذلك الشر، ونسيه كما نسيه، وقطع الإمداد الواصل إليه منه، كما قطع العبد العبودية والشكر

والتقوى التي تنال الله من عباده كما قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37]. فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، وخلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل والسوء كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]. فعدم إرادة الله تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم، أوجب لهم من الشر ما أوجبه. فالذي إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير بأنواعه التي لا يحصيها إلا هو، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه. فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة، وبعقوبته لهم به تارة، وإليهم انتهت غايته ووقوعه. فسبحان من له الملك والحمد، العدل في قضائه، الحكيم في أفعاله. وإذا كان الإنسان إنما يعبد ربه وحده ويستعين به وحده فقد تخلص الإنسان من استذلال غيره، وفي ذلك كمال العزة والغنى له. والله يريد لعبده مع غيره هذا الكمال، ويريد لعبده معه الذلة والافتقار كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. فكمال المسلم بأمرين: ذلته وافتقاره إلى ربه .. وعزته وغناه عما سواه. والقوى الإنسانية بالنسبة للمسلم نوعان: الأولى: قوة مهتدية تؤمن بالله وتتبع منهج الله، فهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون

معها على نشر الحق والخير والصلاح، وهم المؤمنون بالله. الثانية: قوة ضالة لا تؤمن بالله ولا تتبع منهجه، فهذه يجب أن يدعوها إلى الحق، فإن أبت وآذت حاربها وقاتلها كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193]. ولا يضر المسلمين ولا يخيفهم أن تكون قوة هؤلاء ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها تفقد قوتها، تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها، وتخدع بأشباحها من لا إيمان له، والمخلوقات كلها في قبضة الله، ينجي بها من يشاء ويهلك بها من يشاء: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]. وفي خلق الإنسان عجائب في ظاهره وباطنه، وفي أسراره وميوله. فالنفس الإنسانية فيها ميل فطري إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تسكن ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وتطمئن به، يتم في الحس كما يتم في النفس، فحينئذ تهدأ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً. وعلى هذا الأساس الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه، شرع الله الشعائر التعبدية كلها كالصلاة والصيام والأذكار ونحوها. فهذه الشعائر لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً كالقيام والركوع والسجود والتكبير والقراءة في الصلاة، والإحرام من الميقات واللباس المعين والطواف والسعي والدعاء والتلبية والنحر والحلق في الحج، والنية، والامتناع عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف الله بين ظاهر الإنسان وباطنه، ويلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد

الذات الإلهية عن كل تصور حسي. وكذلك النهي عن التشبه بالكفار كاليهود والنصارى وغيرهم في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعرهم الباطنة. فنهى الله عزَّ وجلَّ عن التشبه بهم في مظهر أو لباس أو حركة أو سلوك؛ لأن ذلك يجر إلى التشبه بهم في الباطن. ثم الله عزَّ وجلَّ نهى عن التلقي من غير الله، ونهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم في الأرض، فالهزيمة الداخلية هي التي تندس في النفس لتقلد هذا المجتمع. وقد أخرج الله المسلمين وبعثهم ليكونوا في مكان قيادة البشرية، فعليهم أن يستمدوا طريقة حياتهم كما يستمدوا عقيدتهم من المصدر الذي خلقهم واختارهم للقيادة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والمسلمون هم الأعلون، وهم الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس، فلا يليق بهم أن يأخذوا من الأقل منهم، ويقلدوا الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه، فالإيمان لا يطيق له في القلب شريكاً، ولا يقبل شعاراً له غير الشعار الذي جاء عن الله ورسوله، وجعله الله مميزاً لهذه الأمة عن غيرها في الشعائر والشرائع، والآداب والأخلاق. ومعرفة المسلم بأن غاية وجوده هو العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله، من شأنه أن يرفعه إلى الأفق الأعلى، والأدب الأسنى مع أوامر ربه، فهو يسمع ويطيع لأن الله وعده على ذلك الجنة. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله .. وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض. فالأولى به أن لا يطغى ولا يتجبر، وأولى به أن لا يتعسف ولا يستعجل، وأن لا يركب الصعب من الأمور.

فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب المسنون في حدود طاقته. فلا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، ولا يستبد به القلق، فكل شيء بقدر، وهو يعبد ربه في كل خطوة، ويحقق غاية وجوده في كل خطرة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. والخلق جميعاً يقفون أمام الرب وأمام الإله موقف العبودية، لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يتقدم بين يدي ربه، ولا يجرؤ على الشفاعة عنده إلا بإذنه. فالعبودية لازمة لكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]. أما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد، فإن القرآن يسكبها في النفس سكباً، ويملأ بها قلب المؤمن، ويفيضها عليه، ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة: محباً لربه، شاكراً له، معظماً له، مسروراً بقربه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. والله جل جلاله وحده هو الملك العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، العلي العظيم، القوي القدير. وما يتطاول أحد إلى هذا المقام العظيم إلا ويرده الله إلى الخفض والهون، وإلى العذاب والهوان في الآخرة. ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم، والافتقار إليه في جميع الأحوال والأوقات. وإذا علم العبد أن ربه الملك القوي العزيز العليم، وإلهه العلي العظيم الكبير، ثاب إلى مقام العبودية، واقفاً بين يدي ربه، ساجداً له، معظماً له، شاكراً له، محباً

له، خاشعاً منكسراً بين يديه لما يراه من عظمته وجلاله وجماله وإحسانه، وتطامن كبرياؤه وطغيانه، ورده ذلك إلى مخافة الله ومهابته، وإلى الشعور بجلاله وعظمته، وإلى الأدب في حقه، والتحرج من الاستكبار عن عبادته وطاعته. فما أعظم مقام العبودية، وما أسعد أهلها، وما أوفر وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، وذلك لا ينال إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 15 - 17]. ولا قيمة لعمل ولا جزاء على بذل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان، وإلا أن يكون باعثه الإيمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39]. وما كان الخلاف على مدار الزمن بين الجاهلية والإسلام، ولا كانت المعركة بين الحق والباطل على ربوبية الله سبحانه للكون، وتصريف أموره، وتدبير أحواله كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31، 32]. إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس؟ ومن يكون ملك الناس؟ ومن يكون إله الناس؟. لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذه الحقوق، ويزاولونها في حياة الناس، ويذلونهم بهذا الاغتصاب والاعتداء على حق الله، ويجعلونهم

عبيداً لهم من دون الله. وكانت الرسل تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت، ورده إلى صاحبه ومالكه الشرعي وهو الله سبحانه الذي له الخلق والأمر في الكون كله. إن العبادة: هي الدينونة لله وحده في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة، فإن (عبد) معناها: (دان وخضع وذل) سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس. ولما بهت مدلول الدين والعبادة في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الكفر هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان والقبور مثلاً، وأن الإنسان متى تجنب ذلك فقد بعد عن الشرك والجاهلية، وأصبح مسلماً لا يجوز تكفيره، وهذا وهم باطل، وتبديل وتغيير لمفهوم العبادة التي هي الدينونة الكاملة المطلقة لله في كل شأن، ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن. كما جاء ذلك صريحاً في كتاب الله في قوله سبحان: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. والفعلة العظيمة التي استحقت بها الأمم السابقة الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن فقط هي مجرد أداء الشعائر التعبدية لغير الله، فهذه صورة من صور الشرك الكثيرة التي جاء نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ليخرجوا الناس منها إلى عبادة الله وحده لا شريك له. إنما كانت الفعلة النكراء التي استحق بها الكفار العذاب هي جحود آيات الله، وعصيان رسله، والكفر به، واتباع أمر الجبارين والطغاة من عبيده كما قال سبحانه عن عاد: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ

عَنِيدٍ (59)} [هود: 59]. ومتى عصى أقوام أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله، بأن لا يدينوا لغير الله، فدانوا للطواغيت، فقد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك. وقد بين الله ذلك مفصلاً في سورة الأنعام عن مشركي قريش، وبين فيها أن إقامة الحياة على غير منهج الله، واتباع الطواغيت في التحليل والتحريم، واتباع شرع لم يأذن به الله، وعبادة الأصنام والتوجه إليها بالعبادة كله ضلال وشرك: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: 140]. فهذا كله من الشرك الذي حذر الله منه. كما حكى الله سبحانه في سورة الأعراف وهود أحوال الأمم المكذبة للرسل، والتي أشركت مع الله غيره سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس كما قال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} [الأعراف: 65]. وقال سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)} [هود: 84]. إن توحيد الربوبية .. وتوحيد الألوهية .. وتوحيد مصدر الشريعة .. وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة .. هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، حتى يكون الله وحده هو المعبود، وهو المطاع دون سواه، وهو الذي يستحق أن تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأوقات والجهود؛ لأن الله في حاجة إلى ذلك، فالله سبحانه غني عن العالمين، وغناه وصف لازم لذاته. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم، ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في صلاح الحياة البشرية في كل

زمان وفي كل مكان، وهم أحوج إليه من الطعام والشراب. وما ينال الأمم من العذاب والهلاك، والتدمير واللعنة إلا بسبب ترك التوحيد وترك عبادة الله عزَّ وجلَّ، ومزاولة الشرك في الحياة. لقد هلكت عاد؛ لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد، هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا والآخرة: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 60]. وثمود قوم صالح - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61]. فلم يؤمنوا، فابتلاهم الله بالناقة فقتلوها مستهزئين ساخرين، وعقروها غير مبالين كما قال سبحانه: {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)} [هود: 64]. فجاءهم عذاب الله فأهلكوا بالصيحة، ونجى الله صالحاً والمؤمنين معه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66]. إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن التوحيد لا يقف عند حد في ضلاله وشروده. حتى إن الحق الواضح الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها، بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى فطرة أو عقل أو حس. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5]. فأي حماقة وأي جهل وأي سفه وراء هذا القول؟ ونوح وهود وصالح دعوا أقوامهم إلى لا إله إلا الله، فقال ملؤهم لكل نبي: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ

الْكَاذِبِينَ (66)} [الاعراف: 66]. والأمم السابقة واللاحقة كلهم فطرهم الله على التوحيد: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. فلم يكونوا يجحدون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9]. ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله، بما ينبغي أن يتبع من عبادة الله وحده، والدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع، وهو ما يدعوهم إليه كل نبي بقوله: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)} [هود: 84]. وما تستقيم عقيدة الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فلا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد أبداً. والشرك بالله ألوان، منه هذا اللون الذي يعيشه كثير من الناس اليوم، وهو يمثل أصل الشرك الذي يلتقي عليه المشركون في كل زمان ومكان. إن العبادة من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة لله، وإن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ونبذ ما يعبد من دونه، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شريعة الله في كل شأن من شئون الحياة .. والتعامل .. والتجارة .. وتداول الأموال وغيرها. فلا بدَّ من طاعة الله في كل ذلك وتنفيذ أمره كما قال شعيب - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ

مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: 84، 85]. والشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي يزاوله كثير من الناس اليوم وقبل اليوم، فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر التعبدية والشرائع والتعامل. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. لقد انحسر مفهوم الدين .. ومفهوم التوحيد .. ومفهوم العبادة .. عند كثير من المسلمين .. بسبب جهلهم وغفلتهم .. وزحزحة شياطين الإنس والجن لأوامر الله من حياتهم. فهم يستنكرون لهذا وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، ووجود صلة بين التوحيد والمعاملات، فيتساءلون في استنكار: ما للإسلام والسلوك الشخصي؟. ما للإسلام وحرية اللباس؟. ما دخل الإسلام في لباس المرأة؟. ما للإسلام والمعاملات الربوية؟. وما للدين والمهارة في الغش والاحتيال؟. إن جهالة هؤلاء أشد جهالة من جاهلية أهل مدين الذين أرسل الله لهم شعيباً، ليعبدوا الله وحده فتكون حياتهم لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن العبادة عن شرائع الحياة. فكلها تابعة لأمر الله وشرعه وحكمه، وبتنفيذها تتحقق العبودية الكاملة لله وحده. وجاهلية اليوم تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين

العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود كما قال قوم شعيب له متهكمين ساخرين به: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود: 87]. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق. إن صلاح الحياة والمجتمع أن يعيش الإنسان آدمياً مؤمناً بربه، عابداً له، مطيعاً له في جميع أحواله. وقد يخيل لبعض الناس أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ويضيع بعض الفرص، وهذا ليس بصحيح، بل إنه يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة النجسة، ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متآخياً متعاوناً، لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام. إن العبادة هي الحكم من جانب الله، والعبودية والطاعة من جانب البشر في كل أمر، وهذا وحده هو الدين القيم كما قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]. إن العبودية لله لا تستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم كالدينونة القهرية لله في القدر، فكلاهما من العقيدة اللازمة. والله الواحد القهار في غنى عن العالمين، فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح، والعمل وعمارة الأرض وفق منهجه، فيعد لهم هذا كله عبادة يؤجرون عليها. وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لأصلاح حياتهم وواقعهم، ليسير الناس في جميع أمورهم وفق أمر الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو مفهوم العبادة الشامل الكامل. إنها الدينونة لله وحده في كل شيء .. والخضوع لله وحده .. واتباع أمره وحده ..

سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية .. أو تعلق بتوجيه أخلاقي .. أو تعلق بشريعة في الحياة .. فالدينونة في هذا كله لله وحده لا شريك له هو مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]. فالكون كله يسبح الله عبودية وطاعة لله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الاسراء: 44]. إن كل ذرة في هذا الكون الكبير تنتفض روحاً حية، تسبح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة ترتفع في جلال ودوام إلى الخالق الكبير المتعال. وإنه لمشهد كوني فريد حين يتصور القلب كل حصاة، وكل حجر، وكل ذرة، وكل حبة، وكل ورقة، وكل زهرة، وكل ثمرة، وكل نبتة، وكل شجرة، وكل حشرة، وكل زاحفة، وكل طير، وكل حيوان، وكل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابح في الماء، وكل طير في الهواء، وكل مختبئ في الأرض، ومع هؤلاء سكان السماوات، وكلها تسبح الله، وتتوجه إليه في علاه ناطقة بحمده، مسلمة لأمره: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: 1]. وإن القلب ليرجف، وإن الوجدان ليرتعش، وهو يستشعر الحياة تدبُّ في كل ما حوله فيما يراه وفيما لا يراه. وكلما همت يده أن تلمس شيئاً، وكلما همت رجله أن تطأ شيئاً، وكلما همت عينه أن ترى شيئاً، سمعه يسبح الله، وينبض بالحياة، ويدين لربه بالطاعة: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الاسراء: 44]. ألا ما أجهل البشر، وما أعظم غفلتهم، وما أشد تقصيرهم. إن كل ذرة في هذا الكون تسبح الله عزَّ وجلَّ. فأين البشر في ظل هذا الموكب العظيم من الكائنات والمخلوقات العظيمة الهائلة التي تسبح بحمد الله؟ إن البشر في جحود .. وفي غفلة .. وفيهم من يكفر بالله .. وفيهم من يشرك بالله .. وفيهم من ينسب له البنات .. وفيهم من لا يقدر الله حق قدره .. وفيهم من يغفل عن تسبيحه وحمده. إن البشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد، والمعرفة والتوحيد، لما أكرمهم الله به من العقول، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووافر النعم، فماذا يريدون فوق ذلك؟. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} [المرسلات: 50]. ولولا حلم الله وعفوه ومغفرته لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر، ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم إنه كان حليماً غفوراً. إن الروح حيث تشف وتصفو، فتسمع لكل متحرك أو ساكن، وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح لبارئه وفاطره، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار الوجود ما لايدركه الغافلون. إن العبادة في الإسلام ليست هي مجرد الشعائر فقط، إنما هي كل عمل .. كل نشاط .. كل حركة .. كل خالجة .. كل نية .. كل اتجاه .. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه، وأن يتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات. وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، وإلا بالصبر عليها. إنها مشقة تحث إلى الصبر والاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط

الأرض إلى السماء، خالصاً من أوشاب الأرض، وأوهاق الحاجات، وشهوات النفس، ومطالب الحياة. إنه منهج حياة كامل يعيش الإنسان وفقه وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله، فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهرة. وإنه لمنهج عال يحتاج ويستحق الصبر والمجاهدة والمعاناة، ليرتقي الإنسان سامعاً مطيعاً إلى أفق المثول بين يدي الرب المعبود في جميع أحواله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]. وإنه لمن العجيب حقاً أنه مع ظهور الدلائل والبراهين في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، لا يزال هناك من يجادل في الله، والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريباً مستنكراً، فكيف إذا كان جدالاً بغير حق، وبغير علم، لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين؟. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ} [الحج: 8، 9]. هذا المستكبر المتعجرف لا يكتفي بأن يَضل، إنما يحمل غيره على الضلال، هذا المستكبر الضال المضل لا بدَّ أن يقمع، ولا بدَّ أن يحطم. فله في الدنيا خزي وهو المقابل للكبر، وقد يمهله الله أحياناً ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع، أما عذاب الآخرة فهذا أشد وأوجع: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} [الحج: 10]. ومن الناس كذلك فرقة سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل أهل الحق، وهؤلاء في غاية الجهل، وليس عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ

تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج: 3، 4]. وهذا نائب إبليس حقاً، فقد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع لكل شيطان مريد. ويدخل في هؤلاء جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم ولا هدى. ومن آيات الله العجيبة أنك لا تجد داعياً من دعاة الكفر والضلال إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة والبغض، والذم والكره ما هو حقيق به، وكل بحسب أحواله وأعماله وفجوره. كما أن كل داع من دعاة الحق والهدى له من الإجلال والإكرام والاحترام والمحبة والمودة ما هو جدير به، وكل بحسب علمه وجهده وصلاحه وتقواه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]. ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان في قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه إما خوفاً وإما عادة، على وجه لا يثبت عند المحن كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. فهذا إن استمر رزقه رغداً، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب ارتد على وجهه وترك دينه فخسر الدنيا، فلم يحصل له ما أمله بالردة وخاب سعيه، وخسر الآخرة فحرم الجنة وأدخل النار. إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو عليها، فهي الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند إليه، يأوي إليها ويطمئن بها فهو موصول بالله دائماً. أما من يجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة، إن أصابه خير اطمأن به، وقال:

إن الإيمان كله خير، فها هو يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة. وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه. وخسر الآخرة بردته وانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسراً له. والمؤمن يعبد ربه شكراً له على هدايته له، وعلى اطمئنانه للقرب منه، والأنس به، ولمعرفته بجلاله وجماله وكماله يتوجه إليه بالعبادة وحده دون سواه. فإن كان هناك جزاء من الرب لعبده فهو فضل من الله ومنة، لا استحقاقاً على الإيمان والعبادة، فإن الإنسان كغيره عبد لله، والعبد مملوك لسيده، ومنعم عليه بجزيل النعم، وماذا عساه أن يؤدي شكر نعمة من النعم التي لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [ابراهيم: 34]. والمؤمن لا يجرب إلهه فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء، وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، وهناك السعادة والسلامة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]. والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب، يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو غيرها مما يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان، فيا له من خسران، بل ذلك هو الخسران المبين. فما أضل من يرتد على وجهه عند حصول الفتن، حيث أعرض عن ربه الذي

بيده كل شيء، النفع والضر، والعطاء والمنع، وأقبل على مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب فما أضله .. وما أخسره .. وما أشد حسرته: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 12، 13]. إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر إلا بالاستعانة بالله. فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء. وأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة، فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} [الحج: 15]. وإذا كان كثير من الناس ضالين عاصين، مستكبرين عن طاعة ربهم، مخالفين لأمره، غافلين عن آيات ربهم، فإن هذا الكون العظيم الهائل ما عداهم يتجه بفطرته إلى خالقه، خاضعاً لربه، ساجداً لوجهه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. وإذا تدبر الإنسان وتفكر .. فإذا حشد عظيم من الخلائق في السماوات والأرض، مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وإذا حشد من الأفلاك والأجرام مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، وإذا حشد كذلك من الجبال والأشجار والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان، إذا بتلك الحشود من

الخلائق كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله وتتجه إليه وحده دون سواه إلا ذلك الإنسان، فهو وحده الذي افترق ما بين مؤمن وكافر، وشاكر وجاحد للحق: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 55]. وإذا استقر الإيمان في قلب الإنسان حرك جوارحه للعمل والطاعة، وكلما قوي الإيمان قويت العبادات، وزادت الطاعات. ولم يشرع الله أمراً فوق طاقة البشر، ولم يكلفهم إلا بما يستطيعون، وقد شرع سبحانه التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس، وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة. لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون، ولا يبخسهم شيئاً مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)} [المؤمنون: 62]. وإنما يغفل الغافلون من البشر؛ لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسها نوره المحيي؛ لأنشغالها عنه، واندفاعها في غمرة النية وسط غمرة من الجهل والظلم، والإعراض تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن والانتفاع به: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون: 63]. إن الكون كله يسبح الله .. سماواته وأرضه .. إنسه وجنه .. أملاكه وأفلاكه .. أحياؤه وجماده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]. إن الإنسان ليس وحده في هذا الكون الفسيح، بل حوله، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال خلائق لا يحصيها إلا الله. لها طبائع شتى، وصور شتى، وأحجام شتى، ووظائف شتى. ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده. والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى ما

حوله من خلق الله، وهم يسبحون بحمده وتقواه، كل قانت لربه، عابد له، كل قد علم صلاته وتسبيحه. والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه، وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح، والعبودية والطاعة. إن الله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وكتابه عظيم، ورسوله عظيم، ودينه أعظم الأديان وأحسنها، وهذه الأمة عظيمة ما آمنت بربها، وتمسكت بكتابه، وأطاعت رسوله، واهتدت بهديه. إن الإسلام الذي أرسل الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس فقط مجموعة إرشادات ومواعظ .. ولا مجموعة آداب وأخلاق .. ولا مجموعة شعائر وشرائع .. إنه يشتمل على هذا كله .. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام. إنما الإسلام هو الاستسلام لله، والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه، واتباع المنهج الذي أنزله، دون الالتفات إلى أي توجيه آخر، ودون الاعتماد كذلك على أحد سواه. وهو الشعور بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للرب الواحد، الذي يصرفهم كما يصرف هذا الكون كله، كما يصرف العالم العلوي والسفلي وما بينهما من الكائنات والمخلوقات، ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما لا تدركه. وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله، والانتهاء عما ينهاهم عنه، والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله تعالى. هذه هي القاعدة والأصل الذي يقوم عليه كل شيء. ثم يأتي بعد ذلك العمل ممثلاً في الشعائر والشرائع .. والآداب والأخلاق .. والسنن والأحكام، بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في القلب، والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة.

فالإسلام عقيدة، ينبثق منها شريعة، يقوم على هذه الشريعة نظام، فهذه الثلاثة مجتمعة هي الإسلام الذي أرسل الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمة. ولتحقيق هذا الإسلام لا بدَّ من تقوى الله، فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق القلب على التشريع والتنفيذ. وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه. والتوجيه الثاني: النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم الاستماع إلى رأيهم، أو اتباع توجيههم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)} [الأحزاب: 1]. وهذا الأمر .. وهذا النهي .. باق في كل بيئة .. وفي كل زمان .. وفي كل مكان. فعلى المؤمنين أن يتقوا الله في كل حال، وعليهم أن يحذروا من اتباع آراء الكافرين والمنافقين إطلاقاً، سواء في أمر العقيدة، أو أمر التشريع، أو في منهج الحياة. ليبقى منهجهم خالصاً لله، غير مشوب بتوجيه سواه. لا ينخدع أحد بما عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف، فإن الله سبحانه هو العليم الحكيم، وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته، وما عند البشر شيء، وليس بأيديهم شيء. أما التوجيه الثالث المباشر فهو: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)} [الأحزاب: 2]. فهذه هي الجهة المأمونة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الجدير بالاتباع، فهو سبحانه العليم الذي يوحي عن خبرةٍ بكم وبما تعملون، وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون، ودوافعكم للعمل. أما التوجيه الأخير فهو: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} [الأحزاب: 3].

فلا يهمنك أكانوا معك أم عليك؟، ولا تحفل بكيدهم ومكرهم، وألق بأمرك كله إلى الله يصرفه بعلمه وقدرته كما يشاء. وهذه القواعد الثلاث: تقوى الله .. واتباع وحيه .. والتوكل عليه .. مع مخالفة الكافرين والمنافقين .. هي العناصر التي تزود المسلم بالرصيد، وتقيمه في مجال العبادة والدعوة والتعليم والجهاد، متقياً لربه، متبعاً لوحيه، متوكلاً عليه. إن قلب الإنسان واحد فـ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الاحزاب: 4]. إنه قلب واحد، فلا بدَّ له من منهج واحد يسير عليه، ولا بدَّ له من تصور كلي واحد للحياة يستمد منه، ولا بدَّ من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوم به الأحداث والأشياء، وإلا تمزق وتفرق، ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه. ولا يملك الإنسان، ولا يليق به، لا يحق له، ولا يحسن منه أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين .. وأن يستمد شعائره من معين آخر .. وأن يستمد شرائعه من معين ثالث .. وأن يستمد تنظيم أو صناعة في شئون الحياة من معين رابع .. وأن يستمد تصوراته من معين خامس. فهذا الخليط المشروب من جهات شتى .. لا يكوِّن إنساناً له قلب مستقيم. إن صاحب العقيدة لا يتجرد من مقتضياتها في موقف واحد من مواقف حياته كلها صغيراً كان هذا الموقف أو كبيراً. فلا يتكلم كلمة ولا يتحرك حركة، أو ينوي نية إلا حسب عقيدته؛ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة، في كل حالة من حالاته على السواء. وبهذا القلب الواحد الثمين يعيش فرداً، ويعيش في الأسرة، ويعيش في المجتمع، ويعيش في الدولة، ويعيش في العالم، ويعيش سراًَ وعلانية، ويعيش عاملاً، ويعيش صاحب عمل، ويعيش حاكماً أو محكوماً، ويعيش في السراء والضراء.

فلا تتبدل موازينه .. ولا تتبدل قيمه .. ولا يتغير تصوره. فهو قلب واحد، يؤمن بإله واحد، ويعمل بوحي واحد، ويسير على منهج واحد، ويستسلم لرب واحد، وهو الله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج منهجين، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئاً من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق، ويتحول إلى أشلاء وركام، وذلك هو الضلال البعيد. فهل بعد هذا من بيان؟ وهل فوق هذا من برهان؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. إن الله خلق الجن والإنس لغاية معينة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وهذه وظيفة عظيمة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد. هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بخالق الكون هي عبادة الله، بأن يكون هناك رب وعبد، وأن تستقيم حياة العبد على أوامر الرب سبحانه في جميع الأحوال. فمدلول العبادة أوسع من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر فقط، والله لا يكلفهم هذا وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم أوقاتهم. أما الإنس فنعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان من القرآن من قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فالخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تتطلب ألواناً من النشاط في عمارة الأرض، والتعرف على قواها وطاقاتها، وتحقيق مراد الله في الانتفاع بها، وتنفيذ أوامره عند استخدامها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، وتنفيذها في عباده.

فالعبودية تقوم على أمرين: أحدها: استقرار معنى العبودية لله في النفس، والشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد. الثاني: التوجه إلى الله بكل هاجس في القلب، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر. وبهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضى بقدر الله، كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها. عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه مخلوق للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له، لا أرب له فيها ولا غاية من ورائها إلا الطاعة لربه ومولاه. وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة، ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً، وفضلاً عظيماًَ. فهو يقوم بالخلافة في الأرض وينهض بتكاليفها، وفي الوقت ذاته ينفض يديه منها خالص القلب من جواذبها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها هي، ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى الله تعالى منها. ومن مقتضيات معنى العبادة أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها، فالإنسان غير معلق بالنتائج، إنما هو معلق بأداء العبادة، في القيام بهذه الأعمال وتنفيذ تلك الأوامر، ولأن الجزاء ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها، ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها ابتداءً إلى معنى العبادة الكامن فيها، ومتى تحقق هذا المعنى انتهت

مهمته، وتحققت غايته. أما النتائج فأمرها إلى الله، ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه وضمن جزاءه بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل، فلن تبقى في قلبه بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب على أعراض هذه الحياة. فلا يكون حافز المسلم على العمل هو الحرص على تحصيل الرزق فهو مضمون، بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة في طلب الرزق بامتثال أوامر الله فيه. وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق، أفق العبادة في كل أمر، بتحقيق العبودية لله فيه، ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله، وجعل كلمة الله هي العليا. فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة العالي الكريم، ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقاً لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة إلى الله، ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله. وبهذا يستمتع العبد براحة القلب وطمأنينة النفس، وصلاح البال في جميع الأحوال، سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها، فهو قد أنهى عمله وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة. وقد علم أنه عبد، وعلم أن الله رب، فلم يعد يقتحم فيما هو من شئون الرب، ولا يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد، واستقرت مشاعره عند هذا الحد. إن هذا الكون العظيم كله مرتبط ارتباط العبودية بخالقه المبدع، والكون خليقة حية ذات روح، روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن، ولكنها في حقيقتها واحدة.

ولقد أدرك العقل البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية والكون كله، وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه. إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه، وهي الحركة الأصيلة، محركة ظاهره إنما هي تعبير عن حركة روحه، وهي حركة العبودية لله، والتي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الاسراء: 44]. وقوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن: 6]. وتأمل هذه الحقيقة، وتأمل الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً، وأنساً ولذة، وفرحاً وسروراً، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه، ويتجه معه إلى خالقه، وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعاً، وتحيلها إخواناً له ورفقاء، يؤدون وظائفهم معاً، ويعبدون ربهم معاً. إن كل من في السماوات والأرض متوجه إلى ربه بالعبادة، يسبح الله في كل حين: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [الحديد: 1]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي لأعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أبْعَثَ، إِنِّي لأعْرِفُهُ الآنَ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان من له العزة الغالبة، والحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والقدرة القاهرة، والإحاطة التامة، والعلم الشامل. وهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته، إن كل شيء في السماوات والأرض يسبح الله تسبيح المملوك لمالكه المتفرد، الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} [النور: 41، 42]. فحين نقول في الصلاة: (الله أكبر) فإننا نستحضر كبرياء الله وعظمته وجلاله، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2277).

ونراه مهيمناً على هذا الكون، متفرداً بالتصريف والتدبير. وحين نقول: (الحَمْدُ لِلّهِ) فإننا نستحضر مستوجبات الحمد، وهي نعم الله الظاهرة والباطنة في العالم العلوي وفي العالم السفلي. وحين نقول: (رَبّ العَالمين) فإننا نستحضر نعم الربوبية من خلق وإيجاد من عدم، إلى كون مليء بالنعم التي تعطى بلا مقابل، إلى إخضاع لقوى الكون لخدمة الإنسان، إلى منهج إلهي يحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة. وحين نقول: (الرَّحْمن الرَّحِيم) فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وفتح باب التوبة، وكل ما وضعه الله سبحانه من رحمة وسعت كل شيء في هذا الكون. وحين نقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} فإننا نستحضر يوم الحساب، وكيف أن الله سبحانه سيجزينا خير الجزاء، ويعطينا نعيماً وجنة وفق ما يريد. فإذا استعرضنا ذلك كله، واستحضرناه، وعرفنا هذه النعم، وهذا الرب الرحيم، فما المطلوب منا؟ المطلوب هو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). أي أن نعبد الله وحده لا شريك له. والعبادة: هي الخضوع، والصلاة عبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله. والله عزَّ وجلَّ أمرنا بالخضوع له أمام الناس علناً، أن أسجد وأضع رأسي مكان قدمي، وأعلن خضوع ذاتي لله أمام البشر كلهم، أعلن عبوديتي لله، وذلك حتى لا أستكبر. والله سبحانه يريد الناس جميعاً عبيداً له وحده لا شريك له. لذا يستوي في العبودية وفي إعلان الخضوع لله الغني والفقير، والكبير والصغير، والملك والعبد، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف. وقد أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليكون مثلاً أعلى للبشرية كلها في كل شيء،

في العبادة لله عن حب وإيمان، وذل وخضوع. وخضوعنا للرب الملك القادر والقاهر شرف لنا، بل هو قمة الشرف لنا، فالله بعظمته وجلاله وجماله وكماله يجعل الخضوع له شرفاً لنا، فنحن لا نخضع لمساوٍٍ لنا، ولا لمن فوقنا درجة، ولا لمن فوقنا درجات، ولا لأي مخلوق في الكون مهما كان. بل نخضع لخالق الكون كله، ومهما بلغت القوى التي فوقنا، فإن لكل قوة في الكون قدرة لا تتجاوزها. ولكن الله سبحانه وتعالى فوق كل قدرة، وفوق كل قوة، وفوق كل شيء، والأصل في الحياة أن يخضع الأدنى للأعلى، ولكن الله سبحانه وتعالى حررنا من هذه العبودية، بأن جعلنا لا نخضع لسواه، فله الحمد والشكر على هذه النعمة. ولجهل الإنسان بربه فقد عبد مخلوقات يعتقد أنها تنفعه، وتدفع عنه ما يضره، كالشمس والقمر، والنار والريح، والأصنام، والملائكة، والجن والقبور وغيرها. وينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى، يصور له جهله أشياء، ويصور له خوفه أشياء، ويصور له حبه أشياء .. وهكذا. فخضع الإنسان للإنسان، وخضع للحيوان، وخضع للجماد. وفي كل خضوعه كان يعطي ولا يأخذ، ويعطي الذهب والفضة للمعابد ولا يأخذ شيئاً، ويدعو وينادي ويستغيث ولا مجيب له. والله يريد منه أن يتحرر من عبادة تلك المخلوقات الهزيلة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].

ويريد منه أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} [الفرقان: 58]. فالله عزَّ وجلَّ بعبادته يريد أن ينجيك من عبادة ما سواه، والتي ليس وراءها نفع ولا طائل، بل فيها أعظم الضرر على القلوب والأبدان والحياة. والله تبارك وتعالى وحده هو الذي إذا طلبته وجدته، وإذا سألته أجابك، فهو القائم على كل نفس، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم. وهو القوي، وقوته أزلية مطلقة .. وهو القادر وقدرته لا تزول .. وهو الحاكم وحكمه لا ينتهي .. وكلمته هي النافذة في كل وقت .. وفي كل عصر .. وفي كل زمان .. وفي كل مكان .. وهو الباقي حين يزول الجميع .. وهو القوي حين يضعف كل شيء .. وهو القادر حين تزول القدرة عن الدنيا كلها، وهو الغني وكل ما سواه فقير. وهو الذي يبدل العسر يسراً .. والظلام نوراً .. والضيق فرجاً .. والذلة عزة .. والمرض صحة .. والبلاء عافية. ولا يطلب لذلك كله ثمناً ولا جزاءً، بل يعطينا الأجر الجزيل إذا سألناه ذلك وطلبناه منه. فكل ما سوى الله وكل ما دون الله هو سراب وأوهام وشيء ضائع وزائل، ولكن الباقي هو الله، والملك الذي لا ينازعه أحد في ملكه هو الله، والذي بيده كل شيء هو الله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. ومن كانت هذه صفاته وهذه أفعاله فعلينا أن نتوكل عليه وحده دون سواه: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل: 79]. وما دام الله يأمرنا أن نتوكل عليه وحده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فعلى العبد إذا قصد حاجة أن يقول: اللهم أعني، وإذا أراد أن يعمل عملاً أن يقول: اللهم يسِّر لي، وإذا كان هناك ما يؤرقك فقل: اللهم أذهب عني هذا الهم والبلاء؟.

وإذا كنت تواجه شيئاً عسيراً فاطلب العون من الله، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فإنه يراك ويسمعك، والذي لا يعتمد على الحي الذي لا يموت يعيش في ذل وشقاء دائم، وخوف دائم مما قبل الموت، ومما بعد الموت، وهذا الخوف يدفع الإنسان إلى حياة بائسة بغيضة. والذين يتمسكون غالباً بالدين وبمنهج العبادة هم الضعفاء، ولكن لماذا؟. لأن ضعفهم نشأ من اغتيال حقوقهم وكسبهم من الأغنياء، الذين يريدون بقاء السيادة لهم، ويريدون أن يُعبدوا من الناس. فهناك دائماً إنسان قوي في الظاهر لا يريد منهج (إياك نعبد) ولكن يريد كل شيء له، يريد أن يتميز عن الناس جميعاً. وهناك إنسان ضعيف في الظاهر يتمسك بمنهج (إياك نعبد) لأنه يعيد إلى الضعفاء حقوقهم. ومن ثم سوف ينشأ صراع بين ضعفاء ومتمسكين بمنهج الله، وأقوياء في الظاهر يرفضون منهج الله. والله جل جلاله يثبت الذين آمنوا ويطمئنهم لئلا يحسوا بالرعب والفزع من أولئك الذين يملكون الأسباب في الدنيا، ذلك أنه إذا عجزت الأسباب فالله سبحانه موجود، وهو قادر على أن يحمي المؤمنين به المطيعين له فليطلبوا المعونة منه بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. وطلب المعونة معناه أنه استنفذ الأسباب التي عنده في أن يقوم بالعمل، فلما عجز استعان بغيره. فإذا بذلنا الأسباب الممكنة كبشر أمام عدونا وهو أقوى أسباباً، فنقول يا رب فرغت أسبابنا والباطل أمامنا قوي. فأعنا على عدونا، واكفناهم بما شئت، وهنا لا يمكن أن يخذل الله من يخصه بالعبادة، بل يعينه وينصره، وهنا تأتي نصرة الله للمؤمنين، ولكن يجب أن نبذل أسبابنا الممكنة أولاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ

الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110]. والعبد دائماً في كل نية وفي كل عمل محتاج إلى الهداية .. إلى الطريق الذي ارتضاه الله لعباده، فهو دائماً يطلب الهداية من ربه؛ لأنه ارتضاه رباً وإلهاً ومشرعاً، فلا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، ولا يطلب الهداية إلا منه كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. إن جوارح الإنسان خاضعة له بالتسخير في الحياة الدنيا، فإذا أمرها بطاعة استجابت، وإذا أمرها بمعصية فهي تؤديها كارهة؛ لأنها مسخرة لا تستطيع أن تعصي للإنسان أمراً. فإذا جاءت الآخرة، وزال التسخير نطقت الجوارح بما كان الإنسان يعمله من خير وشر: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24]. إن كل حي سوى الله فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب. فلا بدَّ من أمرين: أحدهما: المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به، ويستأنس به. والثاني: المعين الموصل لذلك المقصود، والمانع من حصول المكروه، والدافع له بعد وقوعه. والله عزَّ وجلَّ هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره. وكل ما سواه هو المكروه المطلوب بعده، وهو سبحانه وحده المعين للعبد على دفعه. والله سبحانه وتعالى هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً. والرب هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه.

وبذكر الله سبحانه تطمئن قلوب المؤمنين، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ورضوانه عليهم. ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له. وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. وحق الله عزَّ وجلَّ على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم إذا قدموا عليه. وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه، وبه سروره ولذته ونعيمه، فهو أيضاً محبوب الرب من عبده، ومطلوبه الذي يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته. وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له، وليس في الكون ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه. ومن عبد غيره وأحبه ففساده ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم. بل قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، ولو تألهت غيره لفسدت كل الفساد؛ لانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأله الإله الحق، فهي فقيرة إلى الله وحده في وجودها وبقائها فـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22]. وحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الخضوع له، أعظم من حاجة الجسد إلى الروح. بل أعظم وأكبر، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها. وكل ما يحصل للإنسان من اللذات والسرور بغير الله فلا يدوم له، بل ذلك في

الحقيقة غير منعم ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به وقربه منه، ووجوده عنده. فإن القلب يتألم ويتعذب بمحبة ما سوى الله، وهذا كله مبني على أصلين عظيمين: الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، أو لأجل التعويض بالأجر، أو لأجل تهذيب النفس. بل الأمر أعظم وأجل من ذلك كله، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، وبها كمال النعيم. فقرة عين المحب في الصلاة والذكر والصيام وتلاوة القرآن أيما سرور ونعيم، وأما الصدقة فعجب من العجب. وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والصبر على أذى أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر، لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من اللذة والسرور به أعظم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. الأصل الثاني: أن كمال النعيم في الدار الآخرة به سبحانه: برؤيته، ورضوانه، وسماع كلامه، وقربه. فالنعيم واللذة في الآخرة بالمخلوق من مأكول ومشروب، وملبوس ومنكوح ومسكون. لكن اللذة الكبرى والنعيم التام في رؤية الخالق جل جلاله، وسماع كلامه، وحصول رضوانه في الجنة. كما أن عذاب الحجاب في النار من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به الله أعداءه، ثم عذاب النار.

ولا بدَّ للإنسان بعد الإيمان من العمل، والعمل لا يكون إلا بعلم، وإلا فهو مردود. وصحة العبادة تكون بعلمين: علم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله. وعلم بأوامر الله، والعلم بأوامر الله نوعان: علم الفضائل .. وعلم المسائل. وعلم الفضائل مقدم على علم المسائل؛ لأنه يهيئ الإنسان لقبول المسائل كما تهيئ التربة لقبول البذر، فالبذر هو المسائل، والتهيئة هو علم الفضائل الذي يحرك مع الإيمان الجوارح للطاعات، ويقيدها عن المعاصي والمحرمات، ويدفعها للمنافسة في الخيرات، والإكثار من الطاعات. والله عزَّ وجلَّ لم ينزل الأحكام إلا بعد أن أنشأ الاستعداد للقيام بها في القلوب، فلما جاء الإيمان، جاءت الأعمال محبوبة خفيفة على النفوس، ففي مكة فترة الدعوة والجهد لتحصيل الإيمان، ومعرفة الفضائل، والترغيب في أحسن الأخلاق. وفي المدينة فترة الأحكام والتشريعات والأوامر والسنن. والأوامر تنزل من ذات الله سبحانه، والأعمال تخرج من ذوات العباد فإذا تطابقت أفعال العباد مع أوامر الله جاء الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا اختلفت جاء الهلاك في الدنيا والآخرة. وإذا جاء الإيمان في القلب جاء أمران: الطاعة والعبودية .. والرغبة في هداية الناس. والدافع والمحرك لهما الإيمان، والعلم نورهما اللذان يسيران به. وكل واحد من البشر بين أمرين: الأول: أمر يفعله الله به: كالهداية التي أكرمه الله بها، والنعم التي تنزل عليه كل يوم من ربه، فذلك يحتاج إلى الشكر ليزيد ويبقى.

الثاني: أمر يفعله هو: إما خير وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار ليمحو أثره. والأعمال التي تصدر من العباد متفاوتة، ومجرد كون الفعل محبوباً إلى الله لا يكفي في كونه قربة إلى الله، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً لله، أو تفويت أمر هو أحب إلى الله من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قربة. فمثلاً: إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وإن كان محبوباً إلى الله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله، وإن كان غنياً غير مستحق. والتفرغ لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد باللسان والسنان الذي هو أحب إلى الله من تلك النوافل، وحينئذ لا يكون قربة في هذه الحال وإن كان قربة في غيرها. وكذلك الصلاة وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله ويكرهه من التشبه بأعداء الله الكفار الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت وهكذا. فالشريعة مبنية على تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. والنية سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، فالنية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد. فكما أن الجسد إذا فارقه الروح فموات، فكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث. ومعرفة أحكام القلوب، وأحكام الجوارح، كلاهما مطلوب، إلا أن معرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.

ولله على العبد عبوديتان في كل عمل: عبودية باطنة .. وعبودية ظاهرة. فله على قلبه عبودية .. وله على لسانه وجوارحه عبودية. والناس في العبودية على أربعة أقسام: الأول: من قام بعبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح. الثاني: من قام بعبودية الجوارح، وعطل عبودية القلب. فهؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبودية جوارحهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية قلوبهم. الثالث: من قام بعبودية القلب، وعبودية الجوارح. وهؤلاء هم العارفون بالله، وبأمر الله، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود سبحانه. وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأدوم، فهي واجبة في كل وقت حتى الممات. الرابع: من لم يقم بعبودية القلب ولا عبودية الجوارح، وهؤلاء شر الناس وأجهل الناس، وأخسر الناس. والعبادة أعظم مقامات العبد، فهي مقام عالٍ شريف، بها يزول ضيق القلب، ويكمل انشراح الصدر؛ لأنها توجب الرجوع من الخلق إلى الحق. وزوال ضيق الصدر يتم بأربعة أشياء أمر الله بها رسوله في كتابه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]. والعبودية لها ثلاث درجات: الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب، أو هرباً من العقاب. وهذه أدنى الدرجات؛ لأن معبوده ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إليه. الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو

الانتساب إليه، وهذه أعلى من الأولى. الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذه أعلى المقامات، وأشرف الدرجات للعبد. ومنازل العبودية متفاوتة، والناس فيها متفاوتون: فالمهابة والتعظيم أعلى من المحبة؛ لأنها نشأت عن معرفة جلال الرب وتعلقت بالذات والصفات، ثم يليها المحبة الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإحسانه، ثم التوكل؛ لأن منشأه ملاحظة التوحد بالأفعال، ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والإحسان والانتقام وشرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما، إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يخاف من لا يقدر على الضير .. وهكذا باقي الصفات. وعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإمانة، يثمر له عبودية التوكل عليه وحده. وعلم العبد بسمع الله وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وتعلقها بما يحبه الله ويرضاه. فيثمر له ذلك الحياء، يثمر له الحياء الإقبال على الطاعات، واجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده سبحانه، وكرمه وإحسانه، وبره ورحمته، يوجب له ذلك كله سعة الرجاء، وطلب الحاجات كلها منه ومحبته. ومعرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستعانة والإجلال لربه. وعلمه بكماله وجلاله وجماله يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية. والعبادة عاطفة قد مزجت بدم الإنسان بحكم الفطرة، فكما أن الإنسان يمسه

الجوع فيلتمس لإزالته الغذاء .. وكما أنه يشعر بالحر والبرد فيلتمس لاتقائهما الظل واللباس .. وكما يجول في فكره شيء فيبحث عن الألفاظ والإشارات للتعبير عنه. فهكذا عاطفة العبادة تنشأة في الإنسان من جهة الفطرة فيلتمس لتهدئتها وإبرازها إلهاً ثم يعبده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والعبودية: أن يقر الإنسان بالكبرياء والعظمة والجبروت في قوة أعلى ثم يطيعها ويسلس لها قياده، ويطأطئ لها رأسه، مع كمال التعظيم، وكمال الحب وكمال الذل، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له. وكل شيء في هذا الكون من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جسم في الكون، كله مسخر بنظام مهيمن لا قبل له بمخالفته، ولو خالفه وأبى الانقياد له فسد وفني، ولكن أنى له المخالفة، فكلٌ عابد مطيع يؤدي الوظيفة التي فوضت إليه، فلا تهب الرياح، ولا ينزل المطر، ولا يسيل الماء، ولا تنبت الأرض، ولا تجري الشمس، ولا تتحرك الكواكب، إلا بأمر الله وإذنه سبحانه. فهذا الكون وما فيه كله يعبد الله تعالى ويطيعه، وهذه العبادة والطاعة هي قوام بقائه، ومناط حياته، وما من شيء في الكون يصدف عن عبادة الله طاعته ولو للمح البصر، وإذا صدف لا يتأخر فناؤه ولا لطرفة عين: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15]. فالقنوت لله يغشى كل شيء في الكون، ومكافأة هذه المخلوقات على حسن العبادة والطاعة هي نعمة الوجود وقابلية البقاء والحياة والرزق، فكل شيء يعبد الله ينعم بالحياة، ويمكث في الكون، وينال وسيلة البقاء وهي الرزق والإمداد. والله عزَّ وجلَّ يشمل بنعمة الوجود والرزق والحراسة الذين ينكرونه ويشركون به، ويأبون أن يعبدوه ويطيعوه، كما يفيض بها على الذين يؤمنون به، ويوحدونه

ويعبدونه، ولا يشركون به شيئاً. فالأجر الذي يناله الإنسان على عبوديته الإجبارية منقطع محدود في الحياة الدنيا ينعم به كغيره إلى أجل مسمى، وأما الأجر الذي يناله الإنسان مكافأة على عبوديته الاختيارية فهو نعمة دائمة كاملة لا خلل فيها ولا نقصان، ورزق لا خوف من انقطاعه. فلا بدَّ للإنسان أن يعرف ربه ومولاه معرفة خالصة لا يشوبها شرك أو كفر أو شك، ولا يخاف معها أحداً غيره، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه فهذا هو الإيمان. وأن يطيع ربه فيما يختص بحياته الاختيارية بامتثال أوامر هذا المعبود كما يطيع حكمه وأمره فيما يختص بحياته الإجبارية، حتى تصير حياته بناحيتيها تابعة لإله واحد وحاكم واحد، وهذا هو العمل الصالح. وليست العبادة فقط هي الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والذكر والتسبيح والتهليل، بل هذه جزء من العبادة الشاملة، وهي تمرينات تزكي روح الإنسان، وتعده للعبادة الرئيسية التي تسمو بحياته من أدنى درجات الحياة الحيوانية إلى أعلى وأرفع ما يكون من درجات الحياة الإنسانية، وتعده لامتثال أوامر الله في كل حال، وتجعله في كلا حالتيه الإجبارية والاختيارية خادماً مطيعاً وفياً لربه ومولاه في كل لحظة من لحظات حياته، بكل قدراته الجسدية والروحية. والإنسان بهذا ينال الشرف الذي لا قِبَل لمخلوق في الكون أن ينازعه فيه، فيكون خليفة الله في الأرض، ويحكم أرض الله بأمره الكريم كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. وللجسد لذة، وللسان لذة، وللسمع لذة، وكل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فلها ثلاث لذات: إذا كنت فيها .. وإذا تذكرتها .. وإذا أُعطيت ثوابها.

2 - فقه الإرادة

2 - فقه الإرادة قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27، 28]. الإرادة: هي مركب العبودية، وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له. وأكمل الخلق - صلى الله عليه وسلم - أكملهم عبودية ومحبة، وأصحهم حالاً، وأقومهم معرفة، وأتمهم إرادة. وحقيقة الإرادة: أن يبقى مراد العبد مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له في الإرادة، وحظه مراد المحبوب منه، لا مراده هو من المحبوب، وبين الأمرين من الفرق كما بين السماء والأرض. وليس للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده هو إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومراده. وما يراد بالعبد نوعان: أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والحياة والموت، ونحو ذلك فهذا لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إرادته، ووقوفه مع ما يراد به، فلا يكون له إرادة تزاحم إرادة الله منه. فمن الناس من يحب الموت للقاء الله .. ومنهم من يحب البقاء لطاعة الله وعبادته .. وأكمل منهما من يحب ما يحب الله، ويقف مع مراد ربه به من الحياة

أو الموت. الثاني: ما يراد من العبد من الأوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا في إرادته. فالذروة العليا للإرادة ليس نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك، لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون لإرادة محض حق محبوبه، وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه فيه نفس حقه ومراده، فهذه هي الإرادة التي لا علة فيها ولا نقص. والله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض بالحق. والغاية من خلق المخلوقات نوعان: غاية تراد من العباد ... وغاية تراد بهم. فالغاية التي تراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، فيكون وحده هو إلههم ومعبودهم، ومطاعهم ومحبوبهم كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. وأما الغاية المرادة بهم فهي: الجزاء بالعدل والفضل .. والثواب والعقاب والجنة والنار كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31]. وقال سبحانه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} [الجاثية: 22]. والله عزَّ وجلَّ فعال لما يريد، يفعل سبحانه ماشاء بإرادته ومشيئته وذلك من كماله سبحانه، وإذا أراد شيئاً فَعَله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وإما إرادته المتعلقة بفعل العبد، فتلك لها شأن آخر. فإن أراد فعل العبد، ولم يرد من نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً، لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريده من نفسه أن يجعله فاعلاً.

فلله عزَّ وجلَّ إرادتان: إرادة أن يفعل العبد ... وإرادة أن يجعله الرب فاعلاً. وقد يريد فعله، ولا يريد من نفسه أن يخلق له أسباب الفعل، فلا يوجد الفعل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه أنه يقول لعبده يوم القيامة: «قَدْ أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ (أحْسِبُهُ قَالَ) وَلا أدْخِلَكَ النَّارَ، فَأبَيْتَ إِلا الشِّرْكَ» متفق عليه (¬1). ولم يقع هذا المراد؛ لأنه لم يرد من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له، وفعل الله سبحانه وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، فهو الفعال لما يشاء، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده كما وصف نفسه بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود 107]. وما أعظم شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء. إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته في طاعة ربه، وعدم الخضوع لشهواته. ويملك كذلك أن يهبط عن أقل من رتبة البهائم فيشقي نفسه، ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه. والناس في الإرادة أربعة أقسام: الأول: من لا يريد ربه، ولا يريد ثوابه، وهؤلاء أعداء الله حقاً، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه، إما لعدم تصديقهم به، وإما لإيثارهم العاجل عليه ولو كان ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3334)، ومسلم برقم (2805)، واللفظ له.

فيه سخطه. الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواص خلقه كما قال سبحانه عن أمهات المؤمنين: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 29]. الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله. فهذا جاهل بربه، ناقص غاية النقص، ليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه البتة. وأعلى الإرادة عنده إرادة الأكل والشرب والنكاح ونحوها من شهوات الجنة. وهؤلاء قريبون من مرتبة الحيوان البهيم، وهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته. الرابع: من يريد الله، ولا يريد منه، وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئاً. فهذا قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى، فلم يخرج عن الإرادة، وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة. لكن هذه حال عارضة غير دائمة، ولا هي غاية مطلوبة، ولا هي مقدورة للناس، ولا هي مأمور بها، ولا هي أعلى المقامات فيؤمر بها.

3 - فقه الرغبة

3 - فقه الرغبة قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. وقال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]. الرجاء طمع، والرغبة طلب، فهي ثمرة الرجاء. فالعبد إذا رجا شيئاً طلبه، والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئاً طلبه ورغب فيه، وأقبل عليه، ومن خاف شيئاً حذره وهرب منه، وإذا قوي الطمع صار طلباً. فأعظمها وأعلاها رغبة أهل الإيمان والإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا. ويتولد ذلك من العلم بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه، وذلك يبعث على الاجتهاد المقترن بالشهود وتحفظ العبد من وصف الكسل والفتور، الذي سببه عدم الرغبة أو قلتها. وتمنع العبد من تتبع الرخص كرخص التأويلات الفاسدة، ورخص المذاهب الشاذة. فهذه تتبعها لا يجوز؛ لأنه ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فالراغب حقاً في الله وفيما عنده دائم الوقوف بباب مولاه، فهو كالفراش الذي إذا رأى النور ألقى نفسه فيه، ولا يبالي ما أصاب، فرغبته لا تدع من مجهوده شيئاً إلا بذله، ولا تدع لهمته وعزيمته فترة ولا خموداً، ولا تترك في قلبه مكاناً لغير مرغوبه ومحبوبه. فهو يعبد ربه كأنه يراه، ولا يلتفت إلى ما سواه. حافظ لحاله مع ربه بالعبودية والاستقامة والطاعة، حذراً من التفاته إلى ما

سواه. ولا ينبغي لبشر ولا يليق به أن يرغب عن التوحيد والإيمان وعبادة الرب الذي جاء بها كل نبي: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130]. ولا يرغب عن ذلك إلا من سفه نفسه، وجهل ربه ودينه وشرعه، ولا ينبغي للمسلم ولا يليق به كذلك أن يعيش على هواه، ويسكن إلى الراحة، بل عليه أن يجاهد لإعلاء كلمة الله، ويحافظ على جميع أوامر الله، ويقتدي بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال. ولا يرغب بنفسه عن الاقتداء بسيد الأنبياء والرسل، فهو أكمل الخلق إيماناً، وأحسنهم أعمالاً، وأجملهم أخلاقاً. فأين يرغب الناس إلى غير خالقهم ورازقهم؟ وأين يرغب الناس عن الاقتداء برسولهم، واتباع ما جاء به؟ وماذا لهم من الأجور لو آمنوا بالله واتبعوا رسوله؟ {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120]. فليرغب العبد إلى مولاه الذي خلقه وهداه، وعافاه وأغناه، وليرغب في دينه وشرعه الذي به يحصل له الفوز والفلاح، وليرغب في جزيل الأجر والثواب الذي أعده مولاه لمن أطاعه واتبع هداه. فما أحوج العباد إلى ربهم، وما أشد رغبتهم إليه في جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59].

4 - فقه الشوق

4 - فقه الشوق قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)} [العنكبوت: 5]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» أخرجه النسائي (¬1). الشوق أثر من آثار معرفة الله ومحبته، وهو سفر القلب إلى المحبوب في كل حال. والمحبة أعلى منه؛ لأن الشوق عنها يتولد، وعلى قدرها يقوى ويضعف. وعلامة الشوق: السير إلى الله بالعبادة والاستقامة، وفطام الجوارح عن الشهوات التي تعوق سيره. والشوق: هو احتراق الأحشاء، ومنها يتهيج ويتولد، ويلهب القلوب، ويقطع الأكباد، سببه الفرقة والبعد. والشوق: يراد به حركة القلب واهتياجه للقاء المحبوب، فهذا يزول باللقاء. ولكن يعقبه شوق آخر أعظم منه تثيره حلاوة الوصل، ومشاهدة جمال المحبوب وجلاله وعظمته. فهذا يزيد باللقاء والقرب ولا يزول، كما نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه من شدة شوقه إليه، ووجده به. والشوق على ثلاث درجات: الأولى: شوق المؤمن إلى الجنة. ويتولد ذلك من معرفة ما في الجنة من ألوان النعيم، وسعة القصور، وأشكال الطعام والشراب، وحسن الأزواج كما قال سبحانه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي برقم (1305)، صحيح سنن النسائي رقم (1237).

مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. الثانية: الشوق إلى الله تبارك وتعالى. والشوق إلى الله لا ينافي الشوق إلى الجنة، فإن أطيب ما في الجنة قربه تعالى، ورؤيته، ورضاه، وسماع كلامه. فالشوق فقط إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين ناقص جداً بالنسبة إلى شوق المحبين إلى الله تعالى، بل لا نسبة له إليه البتة. والشوق إلى الله درجتان: أحدهما: شوق زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن، سببه مطالعة منه الله وإحسانه ونعمه. الثاني: شوق زرعه الحب الذي نشأ واستقر من معرفة ومحبة أسماء الله وصفاته المختصة بالمن والإحسان، كالبر والمنان، والمحسن والمعطي، والغفور والرحيم، والوهاب والكريم، ونحو ذلك، وهذه أكمل وأقوى. الثالثة: شوق أضرمه صفو المحبة، لا لأجل المنن والنعم فقط بل لأجل ذات الله وصفاته، وجماله وجلاله وكماله. فمنعت نار الشوق هذه السكون إلى لذيذ العيش ونغصته، وسلبت السلوة بغيره سبحانه. ولكمالها وقوتها لم يكفها ويردها قرار دون لقاء المحبوب، وهذه لا يقاومها الإصطبار؛ لأنه لا يكفها دون لقاء من يحب قرار. وحقيقة الشوق: سفر القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له. فكأنه لهيب ينشأ بين أثناء الحشا سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب. والفرق بين الشوق والمحبة، أن الحامل على الشوق هو المحبة، فالمحبة بذر في القلب، والشوق بعض ثمرات ذلك البذر، وكذلك من ثمرات المحبة حمد المحبوب، والرضى عنه، وشكره، وخوفه ورجاؤه، والتنعم بذكره، والسكون

إليه، والأنس به، والوحشة من غيره. وكما أن القلب إذا أبغض شيئاً وكرهه جدَّ في الهرب منه، وإذا أحبَّ شيئاً جدَّ في المسارعة إليه وطلبه. ويوصف الله عزَّ وجلَّ بالمحبة ولا يوصف بالشوق؛ لأنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة، وكل من عرف ربه أحبه، ومن أحبه اشتاق إليه وإلى لقائه. ولا محبوب في الحقيقة إلا الله سبحانه، ولا مستحق للمحبة التامة سواه. فالإنسان يحب نفسه وبقاءه وكماله، ويكره ضد ذلك، وهذه جبلة كل حي، وهذا يقتضي غاية المحبة لله عزَّ وجلَّ. فإن الإنسان إذا عرف ربه عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، فهو عدم محض لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل. فمن عرف ربه أحبه، وكيف يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟

5 - فقه الهمة

5 - فقه الهمة قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وقال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23]. الهمة: ما يبعث العبد للمقصود صرفاً. فهمة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلباً صادقاً فتلك هي الهمة العالية التي لا يتمالك صاحبها صبره، لغلبة سلطانه عليه، ولا يلتفت عنها إلى ما سواها. وهمة المؤمن على ثلاث درجات: الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني. فالفاني الدنيا وما فيها، وهي توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها. أما الراغبون فيها فقلوبهم وأرواحهم في وحشة من أجسامهم إذا فاتها ما خلقت له من عبادة الله والفوز بالجنة. أما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم وهو الله سبحانه. فهذه الهمة تحمل العبد على الرغبة في الباقي لذاته، وهو الحق سبحانه والباقي بإبقائه وهي الدار الآخرة، وتخلصه من أوساخ الفتور والتواني. الثانية: همة تورث دوام سير القلب إلى الله، ليحصل له، ويفوز به، فإنه طالب لربه تعالى طلباً تاماً بكل معنى واعتبار في عمله .. وعبادته .. ومناجاته .. وحركته .. وسكونه .. وسائر أحواله. الثالثة: همة صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة، ولا يتعلق بالأحوال

والمعاملات وليس المراد تعطيلها، بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتعلق بها. وصاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، وهو الله الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدرجات دونه. فهو سائر وجاد كيف يرضى عنه ربه؟ وكيف يحبه؟ وكيف يأنس بقربه، ويستأنس به، ويستوحش من غيره؟.

6 - فقه الطريق إلى الله

6 - فقه الطريق إلى الله قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70]. الطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً من سلكه إلى مرضاته وجنته. فالحق واحد، ومرجعه إلى واحد، وهو الله سبحانه. وأما الباطل فلا ينحصر، بل كل ما سوى الحق باطل، وكما أنه كل طريق إلى الحق فهو حق، فكذلك كل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة متنوعة. والطريق إلى الله واحدة جامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه، وما يحبه الله ويرضيه متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. فمن رحمة الباري سبحانه أنه لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته قبوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ودينه.

فالأنبياء أولاد علات، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم متعددة. والناس قسمان: علية ... وسفلة. فالعلية من عرف الله سبحانه، وعرف الطريق إليه، وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه الذي قال عنه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. والسفلة من لم يعرف الله، ولم يعرف الطريق إليه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. والناس متفاوتون في الأفكار والعقول، والقوة والأعمال: فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يحب سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً عليه، حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص طلباً ودراسة، وتعليماً وكتابة كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاداً لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه صلاة النوافل، فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل أنواع الصدقات. قد فتح الله له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم

أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه إلى ربه العمرة والحج. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة. ومنهم جامع المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينيه، يؤديها أين كانت، ويسير معها حيث سارت. قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علماً وجدته مع أهله، أو جهاداً وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته مع القانتين، أو ذكراً وجدته مع الذاكرين، أو إحساناً وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة أو مراقبة أو إنابة وجدته في زمرة المحبين المنيبين. يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ينفذ أوامر ربه حيث كانت، وأين كانت. فهذا هو العبد الموفق السالك إلى ربه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته في جميع أحواله. فإنه سبحانه القيوم، المقيم لكل شيء من المخلوقات، المطيع منها والعاصي، ونواصيهم جميعاً بيده. فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس رباً وإلهاً، وهادياً ووكيلاً، وناصراً ومعيناً، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقاً إليه.

ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات، والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم. وإلا فأيُّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره، ويسكن إلى ما سواه، هذا ما لا يكون أبداً. ومن ذاق شيئاً من ذلك، وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وهواه، وشهواته ولذاته، وقع في آثار المعاطب، وجلب لنفسه الهموم والأحزان، واستبدل بأنسه وحشة، وبعزه ذلاً، وذلك لأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكباً عنها، مكباً على وجهه. فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفُتح له فولّي ظهره الباب. قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكليته على هواه، فانحط إلى أسفل سافلين، وصار في عداد الهالكين، وصارت روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته، فيكون معذباً في الدنيا بتنغيص شهواته، وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قسم له شيء فحشوه الخوف والحزن، والنكد والألم. فهو في هم لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذل لا ينتهي .. هذا في هذه الدار. وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك، قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان يتمناه، من قرب ربه، وكرامته، ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما في دار الجزاء فسُجن مع أمثاله من المبعدين المطرودين، ونار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى. فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس. فإن الرب سبحانه إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وصارت مأوىً للشياطين، وهدفاً للشرور، ومصباً للبلاء، فالمحروم كل

المحروم من عرف طريقاً إلى ربه ثم أعرض عنها، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات، عاكفاً على ذلك ليله ونهاره. وطوبى لمن أقبل على الله بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته، وعطفه ورحمته. وإن الله عزَّ وجلَّ إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله، من بهجة الجلال، وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب سبحانه عبداً أحبوه، وإذا والى ولياً والوه. فيحبه الله ... وأهل السماء ... وأهل الأرض. فيا سعادة من ظفر بمحبة مولاه .. وأقبل عليه بأنواع كرامته، ولحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].

7 - فقه السير إلى الله

7 - فقه السير إلى الله قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158] محبة الله تبارك وتعالى تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه. والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده إليه. فهذه محركات القلوب إلى الله: المحبة .... والخوف .... والرجاء. وأقواها المحبة، فإن لم يكن عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فعليه بكثرة ذكر الله؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلب به، ومطالعة آلائه ونعمائه تبعثه على التوجه إليه والحياء منه. وكذلك الخوف: تحركه مطالعة آيات الوعيد، ومعرفة عظمة الله، وهيبة جلاله وكبريائه، ومعرفة أهوال يوم القيامة. وكذلك الرجاء: يحركه مطالعة حلم الله وعفوه وكرمه، ومعرفة آيات الوعد .. وهكذا. وإذا تحركت القلوب إلى الله وسارت إليه اعتصمت به، وقلت آفاتها، أو ذهبت عنها بالكلية كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. ولكن العبد إذا عزم على السفر إلى الله تعالى عرضت له الخوادع والقواطع. فينخدع أولاً بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح ونحوها، فإن وقف معها انقطع عن ربه.

وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في سيره وطلبه ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده، وكثرة الأتباع، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته ونحو ذلك. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن الله وكان حظه منه. وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات، فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه. وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي، ولذة الجمعية، وعزة الوحدة، والفراغ من الدنيا. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود. وإن لم يقف معه وسار ناظراً إلى مراد الله منه، وما يحبه منه، بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت؟ وكيف كانت؟ تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم. لا يختار لنفسه غير ما يختار له وليه وسيده، واقف مع أمره ينفذه حسب استطاعته، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره. فهذا هو العبد الذي وصل ونفذ، ولم يقطعه عن سيده شيء البتة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. وكل مسلم بالنسبة لأوامر الله مكلف بجهات ثلاث: من جهة قلبه بالإيمان والتوحيد .. والتسليم والانقياد. ومن جهة عقله بتقديم أوامر الله عزَّ وجلَّ على أوامر الخلق .. وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس. ومن جهة جسده بالعمل والعبادة. والإخلاص في العبادة هو أن يؤديها العبد لله؛ لأن الله أمر بها، وإن اشتمل الأمر على حكم تكون علة للامتثال، إلا أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلة هي

الأمر الإلهي بذلك. فإن كانت الحكمة علة فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجحة فجائزة. فالصدق والإخلاص والمتابعة هذه الأركان الثلاثة هي أركان السير إلى الله، وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع. وإن ظهر أنه سائر فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده، وإما سير المقعد المقيد، وإما سير صاحب الدابة الجموح، كلما مشت خطوة إلى أمام رجعت عشراً إلى خلف. فإن عدم الإخلاص والمتابعة انعكس سيره إلى خلف، وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه سار سير المقيد. وإن اجتمعت له الثلاثة فذلك الموفق الذي لا يجارى في مضمار سيره إلى ربه {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].

8 - فقه المحبة

8 - فقه المحبة قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]. المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام. ومحبة الله ورسوله ودينه وأوليائه هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون. وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في مجار الظلمات. وهي الشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. وهي روح الإيمان والأعمال .. والمقامات والأحوال. والمحبة: توحيد المحبوب بالمحبة، وذلك بسقوط كل محبة في القلب إلا محبة الحبيب، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وأن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. فتهب إرادتك وعزمك ونفسك وأفعالك ووقتك ومالك لمن تحبه .. وتجعلها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه .. فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك ... فتأخذه منه له سبحانه. وتمحو من القلب ما سوى المحبوب وما يحب، وهذا كمال المحبة، فما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.

وحقيقة المحبة: ميل الإنسان للشيء بكليته، ثم إيثاره له على نفسه وروحه وماله، ثم موافقته له سراً وجهراً، ثم علمه بتقصيره في حبه. والمحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدره الله وقضاه، والمرء مع من أحب، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، أثمرت أنواع الثمار، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وأثمرت الطاعة والموافقة. ومحبة العبد لربه لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة، وزاد البر، قويت المحبة. ولا نهاية لجمال المحبوب سبحانه، ولا لجلاله، ولا لبره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم، وكانت على قلب رجل واحد منهم، ثم كانوا كذلك الواحد، كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله من المحبة. وأصل حب الله لا ينفك عنه مؤمن، أما قوة الحب فينفك عنه الأكثرون. وقوة الحب للرب تحصل بأمرين: أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد والصبر. الثاني: قوة معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ثم تبعها العمل. ويحصل ذلك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومداومة ذكره، ومعرفة جلاله وإنعامه وإحسانه. والله تبارك وتعالى جعل الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يُعبد، يحب أن يُّحمد، ويثنى عليه، ويُذكر بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ويحب من يحبه، ويحمده ويثني عليه، وكلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن

يحبه ويحمده ويثني عليه. ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه؛ لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به، ولذا لا يغفر الله أن يشرك به؛ لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة، والتسوية فيها بينه وبين غيره. ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده إذا كان من البشر، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة. والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً، وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات في حقه. ومتى علم سبحانه بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبودية والمحبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. والله عزَّ وجلَّ يحب نفسه أعظم محبة، ويحب من يحبه ويطيعه ويعبده، وخلق خلقه لأجل ذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك. وهذا محض الحق الذي قامت به السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذي خُلق له، فرضي عنه خالقه وبارئه وأحبه، وإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها. فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته. والأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده هي: قراءة القرآن وسماعه بالتدبر .. والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .. ودوام

ذكره على كل حال .. وإيثار محابه على محاب النفس .. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها .. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محاله .. ومشاهدة بره وإحسانه وآلائه .. ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة .. وانكسار القلب بين يديه سبحانه .. والخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل لمناجاته وتلاوة كلامه .. والتلذذ بمناجاته ثم استغفاره .. وحضور مجالس الذكر .. ومجالسة المحبين الصادقين. والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم. كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران: 146]. وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]. وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة: 4]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (¬1). والمحبة على ثلاث درجات: الأولى: محبة تقطع الوساوس، وتلذ الخدمة، وتسلي عن المصائب. فالوساوس والمحبة متناقضان، فإن المحبة توجب ذكر المحبوب، والوساوس تقتضي غيبته عنه، حتى توسوس له نفسه بغيره، والمحب يلتذ بخدمة محبوبه، فيرتفع عن التعب الذي يراه الخلي في أثناء الخدمة. والمحبة تسلي عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب التي يصيبه بها حبيبه. هي محبة تنبت من مطالعة العبد منة الله عليه، ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5861)، ومسلم برقم (782)، واللفظ له.

وبقدر ذلك تكون المحبة، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. وليس للعبد قطّ إحسان إلا من الله، ولا إساءة إلا من الشيطان، ومن أعظم منة الله على عبده هدايته، وتأهيله لمحبته ومعرفته، وإرادة وجهه، ومتابعة خليله. وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، وهذا النور متفاوت في قلوب المؤمنين. وتثبت هذه المحبة باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها. وهذا الاتباع يوجب محبة الرب لعبده، ومحبة العبد لربه، وليس الشأن في أن تحب الله فقط، بل الشأن أن يحبك الله، والله لا يحبك إلا إذا اتبعت خليله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وصدقت خبره، وأطعت أمره، وآثرته طوعاً. الثانية: محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، وتلهج اللسان بذكره، وتعلق القلب بشهوده، ويتم ذلك بمطالعة صفات الرب جلَّ جلاله، وشهود معاني أسمائه، والنظر في معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة في الأنفس والآفاق. ولكمال هذه المحبة فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه، فيؤثره على غيره، وإذا أحب الله عبداً أنشأ في قلبه محبته. الثالثة: محبة خاطفة تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم، وهذه أعلى درجات المحبة. والعقل والشرع والفطرة كلها تدعوا إلى محبته سبحانه، بل إلى توحيده في المحبة. وقلب المحب دائماً في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، وقوة تعلق المحب بمحبوبه توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه.

ويظهر صدق المحبة في أربعة مواطن: أحدهما: عند أخذ الإنسان مضجعه، وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه، فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه، وشغل قلبه به. الثاني: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه، فإنه إذا استيقظ ورُدَّت إليه روحه رُدَّ معها إليه ذكر محبوبه الذي قد كان غاب عنه في النوم. الثالث: عند الصلاة، فإنها محك الأحوال، وميزان الإيمان، وبها يوزن إيمان الإنسان ومقدار قربه من الله، فهي محل المناجاة والقربة، ولا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه منها إذا كان محباً، فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له، ومثوله بين يديه وقد أقبل محبوبه عليه. فإذا قام العبد إلى الصلاة هرب وفر مما سوى الله إليه، وآوى عنده، واطمأن بذكره، وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته. فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة. الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده، فعند الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربة من محبوبة، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه. فإذا خاف فوتها، بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته من خالق أو مخلوق محبوب. ولهذه المحبة علامات: منها إدمان النظر إلى المحبوب. ومنها إغضاؤه عن نظر محبوبه إليه مهابة له، وحياء منه، وتعظيماً له. ومنها كثرة ذكر المحبوب، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره بقلبه ولسانه. ومنها الانقياد لأمر المحبوب في أي حال.

ومنها قلة صبر المحب عن المحبوب، فينصرف صبره إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه. ومنها الإسراع إليه في السير .. ومنها محبة أحباب محبوبه .. ومنها الإقبال على حديثه .. وإلقاء سمعه كله إليه ... فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء لديه الحديث عنه .. ومنها غيرته على محبوبه ... وغيرته لمحبوبه .. ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة به .. ومنها خضوعه لمحبوبه .. ومنها هجر كل سبب يقصيه عن محبوبه .. وارتياحه لكل سبب يدنيه من محبوبه. ومنها بذل كل ما يملك في سبيل مرضاة محبوبه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وتنقسم المحبة باعتبار الباعث عليها إلى قسمين: أحدهما: محبة تنشأ من الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم. الثاني: محبة تنشأ من جمال المحبوب وكمال أسمائه وصفاته. فأما الأول: فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَسٍ ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في كل أحواله. ولا سبيل إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَسِ التي لا تكاد تخطر ببال العبد، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، فلله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، وكل نعمة تحتاج إلى شكر. فإذا كان هذا أدنى نعمة عليه، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. هذا إلى جانب ما يصرف عن العبد من المضرات وأنواع المؤذيات التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً.

والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]. فالله عزَّ وجلَّ منعم عليهم بحفظهم وحراستهم مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه سبحانه، فإنه غني عنهم من كل وجه، وهم فقراء محتاجون إليه من كل وجه. خلق لهم ما في السموات وما في الأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وأكرمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا. وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وكتب لهم بالسيئة الواحدة سيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة. وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفر ربه غفر له. ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة. وشرع لهم سبحانه التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم. وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمرهم بها، وخلقهم لها، وخلقها لهم، وأعطاهم إياها، وأعانهم عليها، ورتب عليها الجزاء بمنه وكرمه. فمنه السبب، ومنه الجزاء، ومنه التوفيق، ومنه العطاء أولاً وآخراً. وهم محل إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله من الله أولاً وآخراً. أعطى عبده المال وقال: تقرب به إليّ أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولاً وآخراً.

فكيف لا يحب الإنسان مَنْ هذا شأنه؟ وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه سبحانه؟ ويفرح سبحانه بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها. وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7] فانظر إلى هذه العناية .. وهذا الإحسان .. وهذا التحنن والعطف .. وهذا التحبب إلى عباده .. وهذا اللطف التام بهم. فما أجدر العبد بطاعة ربه، وعبادته وحده لا شريك، ودوام الحمد والثناء عليه، وإفراده بالمحبة والتعظيم. ومع هذا كله .. بعد أن أرسل الله إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله. فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وصاحب الحاجة يسأله قضاءها. ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10]. وقال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

فهذا الباب العظيم يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات. فهذه محبة للرب تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف القلب عندها. وكلما ازداد العبد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه. والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إذا دخلوا منه، دُعوا من الباب الآخر وهو: القسم الثاني: وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص خلقه وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً، الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم. فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة مَنْ هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير. فإن الله عزَّ وجلَّ فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل. وكل كمال وجمال في المخلوق فمن آثار صنعه سبحانه، وهو سبحانه الذي لا يحد كماله، ولا يمكن لأحد أن يحيط بجلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته، وعظيم إحسانه، وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (¬1). فهو سبحانه المحمود على كل ما فعل، وعلى كل ما أمر، إذ ليس في أفعاله ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (486).

عبث، ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل، والرحمة والرأفة. وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته. ولا يتصور بشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفيه حقه، ولو شهد العبد بقلبه صفة واحدة من صفات كماله؛ لأستدعت منه المحبة التامة عليها. وهل ما مع المحبين من محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به. فأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً له. ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة، وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى. وهل الأوامر والنواهي إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟ وهل خلق الله خلقه إلا لعبادته التي هي غاية محبته والذل له؟ وكل ما سوى الله باطل، وكل محبة متعلقة بغيره باطلة، والمحبة الحق ليست إلا محبته سبحانه. وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهل الكمال كله إلا لله وحده لا شريك له. فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء. ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها، فالله جلَّ جلاله له

الكمال المطلق في كل شيء، فكيف لا يفرده العباد بكمال المحبة؟ وكل كمال في الوجود فهو من آثار كماله سبحانه، وكل علم في الوجود فهو من آثار علمه سبحانه، وكل قدرة في الوجود فهي من آثار قدرته. فنسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله سبحانه كنسبة علوم الخلق وقدرتهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته. ولا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه وتعالى، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له نسبة. بل يجب أن يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. فهذا عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا غنى للعبد عن ذلك، بل هي مسألة تفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل الداخل فيه إلا بها، ولا فلاح له ولا نجاة إلا بها. ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة (أن لا إله إلا الله) فإن لا الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه، وتدعوه، وتتوكل عليه في مصالحها، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده. والمحبة درجات متفاوتة: بعضها أكمل من بعض، فمحبة عامة الناس تنبض من مطالعة النعم والآلاء، ولهذه المحبة منشأ وثبوت ونمو. فمنشؤها: الإحسان ورؤية فضل الله ومننه على عباده. وثبوتها: باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ونموها وزيادتها: يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربه، فهو فقير

بالذات، وربه غني بالذات، فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دامت استجابته لله بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتزيد، وإنما كانت هذه محبة العوام؛ لأن منشأها من الأفعال لا من الأسماء والصفات والجمال والجلال. فلو قطع الإحسان من هذه القلوب لتغيرت، وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها هو الإحسان، ومن وَدَّك لأمر ولّى عند انقضائه، وبتلك المحبة يتلذذ المحب بخدمة محبوبه. وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان. ولينظر هل هو متلذذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله عزَّ وجلَّ. وبمحبة الله يسلو العبد عن المصائب، فإن المحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال بما فاته، فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى في محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضاً عنه أصلاً. فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه، فجميع المصائب لا يمكن دفعها بمثل محبة الله ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (¬1). والمحبة الصادرة من الناس خمسة أنواع: أحدها: محبة الله، وهذه لا تكفي للنجاة من عذاب الله، فإن المشركين واليهود والنصارى يحبون الله. الثاني: محبة ما يحب الله من الإيمان والأقوال والأعمال والطاعات والأخلاق والشرائع والأشخاص ونحوها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).

وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. الثالث: الحب لله، والحب في الله، وهذا من لوازم محبة ما يحب الله. الرابع: المحبة مع الله، وهي محبة أهل الشرك، فكل من أحب شيئاً مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين. الخامس: المحبة الطبيعية كمحبة الماء والطعام، والزوجة والأولاد ونحو ذلك، فهذه لا تذم إلا إذا أشغلت عن ذكر الله، وألهت عن محبته وطاعته. والمحبة في الله من كمال الإيمان، فمن كان حبه وبغضه، وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان. أما الحب مع الله فنوعان: أحدهما: نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذا شرك لا يغفره الله. الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من الشهوات كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. ولهذه المحبة ثلاث درجات: فإن أحبها لله توصلاً إلى طاعته، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها. وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله، وإن كانت هي

المقصودة وقدمها على ما يحبه الله كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه. والمحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب. وكمال المحبة: أن نحب الله .. ونحب ما يحبه ... ونبغض ما يبغضه. فإذا أحببنا ما لا يحبه الله صارت محبته ناقصة، وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاصها له. ومحبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وكل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة محمودة .. أو محبة مذمومة. فجميع الأعمال الصالحة المبنية على الإيمان لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله .. ودينه وشرعه .. وأوليائه وعباده الصالحين. وجميع الأعمال السيئة لا تصدر إلا عن المحبة المذمومة. ولا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد وحبه كله لله عزَّ وجلَّ، وإلا فمحبة المخلوق من الشهوات السابقة تجذبه. وحب الخلق له سبب يجذبهم إليه به، وحب الناس له يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته، وإلا جذبوه وأخذوه إليهم كحب امرأة العزيز ليوسف - صلى الله عليه وسلم -. فإن قوة إيمان يوسف - صلى الله عليه وسلم - ومحبته لله وخشيته له كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها. وقد يحبونه لعلمه ودينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية لله، وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والصدر والجاه فتنة لكل مفتون، وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب أو حصل نوع بغض. فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم،

وأعداؤه يسعون في أذاه وضره. فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون تحصيل أغراضهم به. فإن لم يكن الإنسان عابداً لله، متوكلاً عليه وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة. وكل إنسان يحب من أحسن إليه، ولاطفه وواساه، ونصره وقمع أعداءه، وأعانه على جميع أغراضه، فهذا محبوب عنده لا محالة. وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. ولو أن شخصاً أنعم عليك بجميع ما يملك، ومكنك منه لتتصرف فيه كيف شئت، فإنك تظن بل تجزم أن هذا الإحسان منه. وهذا غلط .. فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال. فمن الذي أنعم بخلقه؟ وأنعم بخلق ماله؟ ومن الذي خلق فيه إرادة الإنعام؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك دون غيرك؟ ومن الذي ألقى في نفسه وقلبه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك؟ ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم ولا يستطيع مخالفته. فالمحسن حقيقة هو الله وحده لا شريك له، فهو الذي أمره واضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن الملك، الذي أمر أن يسلم خِلعة الملك لهذا الإنسان. فالخازن لا يرى محسناً بتسليم خِلعة الملك؛ لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الملك ونفسه لما سلم ذلك، وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله، حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقي في نفسه أن حظه في بذل

ذلك فيبذله. فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذ الإحسان من غيره محال، وإحسان الناس من إحسان الله عزَّ وجلَّ. والمحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فكيف إذا كان محسناً إليك وإلى كافة الخلق. وهذا يقتضي حب الله تعالى غاية المحبة، وحُبّ ما يحب، بل يقتضي أن لا يحب غيره، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الخلق كافة بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، فكيف يكون غيره محسناً، وذلك المحسن حسنة من حسنات المحسن سبحانه. وكل من كان متصفاً بصفات الجلال والجمال كالقوة والرحمة وغيرهما، أو كان منزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة. فصفات الأنبياء والصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وإلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم وتزكية قلوبهم. وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله عزَّ وجلَّ وجدتها مضمحلة بالنسبة لصفات الله سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته. أما العلم فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ونسبة علمهم إلى علمه سبحانه كذرة من جبل، أو قطرة من بحر، بل أقل، وأما صفة القدرة، فالله على كل شيء قدير، وإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرته تعالى وجدت أن ذلك قطرة من بحر، بل أقل. فإن أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، قدرته محدودة، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً. بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا

أذنه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكِّن له من ذلك. ولو سلط الله سبحانه بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته. فليس للإنسان قدرة إلا بتمكين مولاه، ونواصي الخلق كلهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقهم، فهو الغني القوي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى أحد: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]. فلا قادر على كل شيء إلا هو سبحانه، ولا قوي إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والجبروت. فإن تُصور أن نحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التعظيم والتقديس والتنزيه إلا له سبحانه وحده لا شريك له. فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا شريك له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له. القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. والمحبة قسمان: محبة خاصة .. ومحبة عامة. فالمحبة الخاصة: هي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله وحده. أما المحبة العامة المشتركة فهي ثلاثة أنواع: الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام. الثاني: محبة إشفاق كمحبة الوالد لولده، أو محبة إجلال كمحبة الولد لوالده.

الثالث: محبة أنس وإلف كمحبة الصديق صديقه، ومحبة الشريك شريكه ونحوهما. وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ بها أحد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» متفق عليه (¬1). وكل شيء في العالم لا يجوز أن يحب لذاته إلا الله سبحانه، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا الله وحده. وكل محبوب سواه إذا لم يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله عزَّ وجلَّ خلق في النفوس محبوبين: حب الغذاء .. وحب النساء. لما في ذلك من حفظ الأبدان، وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس، ففسدت أبدانهم. ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، فخلت الأرض منهم، والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده، ويكون هو المعبود المحبوب لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره. وحب الأنبياء والمرسلين وشعائر الدين والمؤمنين تابع لمحبة الله، فإن من تمام محبته حب كل ما يحب سبحانه. ومحبة الله تعالى يدعيها كل أحد، وذلك غير صحيح حتى تمتحن النفس بالعلامات، وتطالب بالبراهين العملية الدالة على صدق محبة الله، ومنها تقديم ما يحبه الله من الأقوال والأعمال على ما تحبه النفس من الشهوات والملاذ والأموال والأوطان وغيرها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (15)، ومسلم برقم (44)، واللفظ له.

ومنها أن من أحب الله فإنه يتبع رسوله فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه. ومنها أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله بالنفس والمال واليد واللسان، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم إزدراء الناس لهم، ولومهم إياهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]. ومنها حب لقاء الله تعالى في الجنة، فمن أحب محبوباً أحب لقاءه، وهذا لا ينافي كراهة الموت. ومنها أن يكون مؤثراً لما يحبه الله على ما تحبه نفسه. ومنها أن لا يعصي الله، ومن أحب الله فلا يعصه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بأصل المحبة. ومنها أن يداوم على ذكر الله، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه. ومن اجتمعت فيه علامات محبة الله فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه، ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 22 - 26]. فقابل الخالص بالصرف. ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 27، 28]. فقابل المشوب بالمشوب.

وعلامة محبة الله للعبد: أن يقربه الله من نفسه، ويحبب له طاعته، والإيمان به، ويكره له المعاصي، ويدفع الشواغل والمعاصي عنه، ويوحشه من غيره، ويحول بينه وبين ما يقطعه عنه كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8]. وإذا أحب الله عبداً ابتلاه .. فإن صبر اجتباه .. فإن رضي اصطفاه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). والمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يسعد بحصوله، فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان إلى طاعة الله وعبادته. كما أنها تحرك محب المتاع والمال، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان، ومحب الأوطان، إلى ما يحب، فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء. وكل هذه المحاب باطلة سوى محبة الله وما والاها من محبة دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين. والله عزَّ وجلَّ خلق عباده له ولعبادته، ولهذا اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).

وهذا عقد لم يعقده الله مع خلق غيرهم؛ ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له. وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، رضية لديه. وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها، وقدر ثمنها، وكمال صفاتها، فإذا عُرف قدر السلعة، وعُرف مشتريها، وعُرف الثمن المبذول فيها عُلم شأنها ومرتبتها في الوجود. فالسلعة أنت .. والله المشتري .. والثمن الجنة والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها، وأعظمها قيمة، وإذا كان الله قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه يسعون في مصالحه، في يقظته ومنامه، وحياته وموته، ثم إن العبد أبق عن سيده ومالكه معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه على عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه، ولعنته بمحبته ورحمته. فلما أبق هذا العبد عن مالكه وسيده أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عن ما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته، فهو سبحانه عفو يحب العفو، محسن يحب الإحسان، كريم يحب الجود فإذا أبق منه العبد، وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه، فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته، وعقوبته على إحسانه.

وهو سبحانه يحب من نفسه البر والإحسان، وقد استدعى هذا العبد من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟. ومع سوء هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزي والهوان فالله يستعطفه، ويدعوه إلى العود إليه، ويفرح بتوبته ورجوعه إلى مولاه الحق الذي هو أولى به. فإذا رجع هذا العبد إلى ما يحب سيده، وتاب إليه ورجع إليه، وأقبل عليه، ورجع عن عدوه، فقد سار إلى الحال التي تقتضي محبة سيده له، وإنعامه عليه، وإحسانه إليه. فيفرح به مولاه أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل غاية الكمال والغنى والمجد، فرح محسن به، لطيف جواد، غني حميد، لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به، بل الله خلق عباده المؤمنين، وخلق كل شيء من أجلهم، وكرمهم وفضلهم على سائر المخلوقات: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]. وهذا العبد إذا عاد إلى ربه وتاب إليه، فهو بمثابة من أسر له العدو محبوباً له، وحالوا بينه وبينه فهرب منهم ذلك المحبوب رجاء إلى محبته اختياراً وطوعاً فكم يكون فرحه به؟ «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ مِنْ أحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا» متفق عليه (¬1). ومحبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له، فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فإنه سبحانه ألهمه محبته وآثره بها، فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها، فمن تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن أتاه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2675)، واللفظ له.

يمشي أتاه هرولة، وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له، وإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرَّ من محبه، وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه، وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله؟. وكلما تاب العبد إلى ربه توبة نصوحاً فرح الله بتوبته، وأعقبه فرحاً عظيماً، ولذة وسروراً، وفرح الله بتوبة عبده لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات، مما يدل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والتائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً بدل الله سيئاته حسنات.

9 - فقه التعظيم

9 - فقه التعظيم قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. التعظيم: هو معرفة عظمة الرب، وتعظيمه وإجلاله مع التذلل له، وعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم تعظيماً له وإجلالاً، ومحبة وطاعة وعبادة. والتعظيم على ثلاث درجات: الأولى: تعظيم الأمر والنهي. وذلك بأن لا يعارضا بترخص يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، ولا بغلو يجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي، ولا يحملا على علة توهن الانقياد كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء، فإذا أُمن من هذا المحذور جاز شربه ونحو ذلك. وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وهذه العلل الفاسدة كم عطلت لله من أمر .. وأباحت من محرم .. وحرمت من مباح؟. وأما الترخص والغلو، فالأول تفريط، والثاني إفراط، ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه. فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.

والغلو نوعان: نوع يخرج العبد عن كونه مطيعاً كمن زاد في الصلاة ركعة عمداً، أو سعى بين الصفا والمروة عشراً عمداً ونحو ذلك. ونوع يخاف منه الانقطاع كقيام الليل كله، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، وسرد صيام الدهر أجمع. وهذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا .. ويسروا وأبشروا .. وأملوا ما يسركم من ربكم. الثانية: تعظيم الحكم الكوني القدري. فالأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري. فكما يجب على العبد أن يراعي حكم الله الديني بالتعظيم، فكذلك يراعى حكم الله الكوني بالتعظيم. وتعظيمه بأن لا يرى فيه عوجاً، ولا يطلب له عوجاً، بل يراه كله مستقيماً؛ لأنه صادر عن عين الحكمة، فلا عوج فيه. فكل ما يجري في الكون من الحركات والسكنات، والطاعات والمعاصي، والخير والشر، كله بقضاء الله وقدره. لكن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، والمقضي فعله المباين له، المنفصل عنه، وهو المشتمل على الخير والشر، والعوج والاستقامة. فقضاؤه سبحانه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل. وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل، ومنه جور. وقضاؤه كله مرضي، والمقضي منه مرضي، ومنه مسخوط. وقضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية، وهذا إرادته الدينية، ومن تعظيمهما الانقياد لهما، فهما وصفان للرب سبحانه.

فأمره الشرعي وقدره الكوني سواء، أمره لا يبطل قدره، وقدره لا يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه، وهو أيضاً من قضائه. فما دُفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، وما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع مقدور الله إلا بقدر الله وأمره. ومن تعظيمه أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله، فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وأن المتصرف فيه حقاً هو مالكه الحق سبحانه. فهو سبحانه الذي يقيمه ويقعده، ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم، وذلك مناف لتعظيمه. الثالثة: تعظيم الرب سبحانه. الحق الذي له الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه، والأولى تتضمن تعظيم أمره. وتعظيم الحق سبحانه أن لا تجعل دونه سبباً، فهو الذي يوصل عبده إليه، فلا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه سواه، ولا يدني إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، ولا هدى إليه سواه. وكذلك لا ترى لأحد من الخلق حقاً على الله، بل الحق لله على خلقه، فهو الذي خلقهم ورزقهم وهداهم وأبقاهم. وأما حقوق العباد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم، وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها حقوق أحقوها هم عليه. فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه سبحانه. ومن تعظيمه عزَّ وجلَّ أن لا ينازع العبد له اختياراً، فإذا اختار لك أو لغيرك شيئاً إما بأمره ودينه .. وإما بقضائه وقدره، فلا تنازع اختياره، بل ارض باختيار ما

اختار لك، فإن ذلك من تعظيمه جلَّ جلاله. ولا ترد عليه قدره من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها، لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه. ومن تعظيمه عزَّ وجلَّ تعظيم حرماته: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. وحرمات الله هي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص .. والأزمنة والأمكنة .. والأوامر والنواهي. فتعظيم الأمر، وتعظيم أمره ونهيه، وتعظيم حرماته، وتعظيم قضائه وقدره، هو الواجب على كل مسلم، فيعظم ربه تعظيماً لذاته، وخوفاً من عقابه، وطلباً لثوابه. فهو سبحانه أهل أن يُعبد وأن يُّحَب، وأن يعظم، وهو الذي يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، فمنه كل شيء، وبيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء. ومن تعظيم الله جلَّ جلاله صيانة الانبساط بين يدي الله أن تشوبه جرأة فيخرج عن أدب العبودية، فلا بدَّ من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة، وصيانة السرور بين يدي الله أن يداخله أمن، فينبغي للعبد أن لا يأمن في هذه الحال المكر، ولا ينسب ما حصل له من الاجتهاد التام والعبادة الخالصة إلى نفسه، بل ذلك محض فضل الله عليه. ومن أعظم الظلم والجهل والسفه أن يطلب العبد التعظيم والتوقير من الناس، وقلبه خال من تعظيم الله وتوقيره. فما أجهل الإنسان حين يوقر المخلوق ويجله أن يراه في حال لا يوقر الله أن يراه عليها، فلو عرف الناس ربهم وعظموه، وعرفوا حق عظمته وحَّدوه، وأطاعوه وشكروه. فطاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب،

المبني على معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة عظمته وقدرته، ولطفه ورحمته. ومن وقاره سبحانه أن لا تعدل به شيئاً من خلقه ... لا في اللفظ كقولك: ما شاء الله وشئت .. ولا في الحب والتعظيم والإجلال .. ولا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله، بل أعظم؛ كما عليه أكثر الظلمة والفجرة .. ولا في الخوف والرجاء، فلا يجعله أهون الناظرين إليه. ولا يستهين بحق الله عزَّ وجلَّ ويقول هو مبني على المسامحة، ولا يجعله على الفضلة ويقدم حق المخلوق عليه. ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه، ويعطي الله في عبادته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه. ولا يجعل مراد نفسه مقدماً على مراد ربه. فهذا كله من عدم وقار الله في القلب، ومن لا يوقر الله العظيم، كيف يوقر كلامه ورسله ودينه وأوامره؟. {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13]. ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذلك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم. ومن وقار الله وإجلاله وتعظيمه أن يستحي العبد منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس. ومن وقار الله أن يستحي العبد من اطلاعه على سره وقلبه فيرى فيه ما يكره. ومن وقار الله توقير كلامه ورسله ودينه، وعدم هجر كتابه، ومن لا يوقر الله وكلامه، وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وإكرامه؟.

10 - فقه الإنابة

10 - فقه الإنابة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17]. وقال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)} [الزمر: 54]. وقال الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]. الإنابة: هي الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه. وهي تتضمن المحبة والخشية، فإن المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشع ذليل بين يديه. ومعنى الإنابة: هي عكوف القلب على الله عزَّ وجلَّ كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه. وحقيقة الإنابة: عكوف القلب على محبة الله، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن لم يعتكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52]. فالإنابة هي الرجوع إلى الحق، وهي نوعان: أحدها: إنابة لربوبيته سبحانه، وهي إنابة البشر كلهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)} [الروم: 33]. الثاني: إنابة لألوهيته، وهي إنابة أوليائه إليه إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور:

محبة الله .. والخضوع له .. والإقبال عليه .. والإعراض عما سواه، كما قال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 31 - 35]. والصحابة رضي الله عنهم لما آمنوا وأنابوا إلى الله تغير فكرهم .. وتغير عملهم .. وتغيرت عواطفهم .. وتغير جهدهم. فاجتهدوا للدين حتى صارت الطاعات عندهم شهوات، وصارت المعاصي بمنزلة السموم المهلكة .. واجتهدوا على تحصيل الإيمان والأعمال الصالحة بدل الاستكثار من الأموال والأشياء. وأكثر المسلمين اليوم اجتهدوا للدنيا حتى صارت الأشياء المادية عندهم شهوات .. وثقلت عليهم الطاعات .. وصارت المعاصي لهم محبوبات .. فالإيمان واحد، والوحي واحد، والقلوب واحدة، ولكن اليقين اختلف. فالمؤمن يقينه على الإيمان والأعمال الصالحة، وغير المؤمن يقينه على الأموال والأشياء. والصحابة رضي الله عنهم لكمال إنابتهم ومحبتهم للدين يستأذنون الدين ليعملوا قليلاً للدنيا، ونحن نستأذن الدنيا لنعمل للدين. والصحابة رضي الله عنهم يحبون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة الله، والدار الآخرة، وكثير من المسلمين يملون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة المخلوق، وحب الشهوات. والصحابة رضي الله عنهم استخدموا أنفسهم وأموالهم وأفكارهم وأوقاتهم للدين، وأكثر المسلمين اليوم استخدموها للدنيا والشهوات. والناس في إنابتهم إلى ربهم على درجات متفاوتة: فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة

مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية، والخوف والحذر من سخط الرب وعقوبته. ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده، وقد حبب إليه فعل الطاعات وأنواع القربات، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء، ومطالعة الوعد والثواب والكرامة من الله عزَّ وجلَّ لعباده المؤمنين. وهؤلاء أبسط نفوساً، وأشرح صدوراً من أهل القسم الأول، وجانب الرجاء ومطالعة المنة والرحمة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات. ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء والافتقار إلى الله، وسؤال الحاجات كلها منه، ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة، والغنى والكرم والقدرة. فأنزلوا به حوائجهم، وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكن إنابتهم الخاصة إنما هي من هذه الجهة. وأعلى أنواع الإنابة إنابة الروح بجملتها إليه؛ لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم. وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منها شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح. فلما أنابت الروح بذاتها إليه إنابة محق صادق المحبة، ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه، أنابت جميع القوى والجوارح، فأناب القلب بالمحبة والتضرع .. والذل والانكسار. وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه شبهة. وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسية، والأخلاق الذميمة،

والإرادات الفاسدة، وانقادت لأوامره، خاضعة له، وفوضت أمرها إلى مولاها، راضية بقضائه، مسلِّمة لحكمه. وأناب الجسد بالقيام بالأعمال فرضها وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة، فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة في مباديها، فإنها عذاب في عواقبها. فإنابة العبد -ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة- أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره. فأين إنابة هذا من إنابة من قبله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بل هذه روح منيبة أبداً، وأما أصحاب الإنابات السابقة، فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر، فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ساعة، ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعي نفسه وطبعه. والله عزَّ وجلَّ يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته كما اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها، وأعظم الكتب وأحسنها. وهو سبحانه يهدي إليه من ينيب إليه كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. والله سبحانه هو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين. وإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو العظيم الذي يملك كل شيء، المنفرد بالنعم كلها، وكشف النقم كلها، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات وإن أحداً من الخلق ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الملك الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فأقبل عليه، وأناب إليه،

وأعرض عما سواه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. ومن اطلع الله على قلبه، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه، ومحبته، ومحبة ما يقرب إليه، فإنه وإن جرى منه في بعض الأوقات ما هو مقتضى الطبيعة البشرية، فإن الله يعفو عنه، ويغفر له الأمور العارضة غير المستقرة كما قال سبحانه: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25].

11 - فقه الاستقامة

11 - فقه الاستقامة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وقال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]. الاستقامة: أن يعبد المؤمن ربه وحده لا شريك له، ويستقيم على الأمر والنهي، فيعمل بطاعته، ويجتنب معصيته، ويؤدي فرائضه. والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد في النيات والأقوال والأعمال، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عن ذلك فالتفريط والإضاعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ أدْوَمُهَا إِلَى الله وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (¬1). فأمرهم بالاستقامة ثم بين أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة. فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله. والاستقامة تتعلق بالنيات والأقوال والأعمال والأحوال، والاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله. والاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح مات، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، واللفظ له، ومسلم برقم (782).

وتحصل الاستقامة بثلاثة أشياء: الأول: تحقيق (لا إله إلا الله) في قلب العبد. فيتيقن أن الخالق الرازق المالك المتصرف في الكون كله هو الله وحده لا شريك له، فيتوجه إليه وحده في جميع أحواله. الثاني: تحقيق شهادة (أن محمداً رسول الله) بأن يعلم أن الوصول إلى الله عن طريق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيؤثر حياته على حياة الشهوة والهوى واللعب واللهو. الثالث: أن يعيش حياته بالإيمان والأعمال الصالحة كأنه عابر سبيل ومسافر من هذه الدنيا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري (¬1). وهذه الأمة لها مقصد وهو العبادة .. ولها وظيفة وهي الدعوة إلى الله، وكلما تجاوز الإنسان مقصده، وترك وظيفته أصيب بآفتين: الأولى: الإحساس بالتعب كما قال سبحانه عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62]. الثانية: مرافقة الشيطان له، فإذا غفل عن الرحمن وأعرض عنه، رافقه الشيطان يزين له المعاصي والمنكرات، والقبائح والكبائر ويؤزه إليها كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37]. وهذه الأمة الآن في كثير من البلاد قد تجاوزت مقصد حياتها، وتركت وظيفتها، وظلمت نفسها، وظلمت غيرها، واستقلت المراكب لعمارة الدنيا فماذا حصل؟. عامة بلاد الإسلام في شقاء وتعب .. وذل وهوان. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6416).

ملوكها وأمراؤها .. تجارها وفقراؤها .. رجالها ونساؤها .. أبناؤها وبناتها .. إن الأمة الأسلامية في أغلب ديار الإسلام قد تجاوزت مقصد حياتها، وسافرت إلى الدنيا، فهي الآن عليلة تشكو من كل شيء في أخلاقها ومعاشراتها، في معاملاتها وكسبها، في بيوتها وأسواقها. لأنها تجاوزت مقصد حياتها فرافقها الشيطان في جميع أحوالها، لا يبيع الإنسان ويشتري إلا والشيطان معه، ولا يأكل ولا يشرب إلا والشيطان معه، ولا يلبس إلا والشيطان معه، ولا ينفق إلا والشيطان معه، ولا يقوم ولا يقعد ولا يمشي إلا والشيطان معه. ولا صلاح للبشرية إلا بأن ترجع الأمة الإسلامية إلى مقصدها ووظيفتها، بعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والدعوة إلى الله. فموسى - صلى الله عليه وسلم - لما جاوز مقصده قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62]. فأحس موسى بالتعب لما جاوز مقصده، ولا يتخلص من هذا التعب، ولا يسلم من الشيطان إلا بالرجوع إلى مقصده {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف: 64، 65]. فلما رجعا ظفرا بالخير ونالا مرادهما. وقد منَّ الله على هذه الأمة، وطلب منها أن تستقيم في جميع أمورها، وأن تعيش كما عاش الأنبياء والمرسلون؛ لأنها قدوة البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ولكن أكثر الأمة ترك مقصد حياته. فصار كثير من المسلمين اليوم يعيشون عيشة اليهود والنصارى في أفكارهم وأعمالهم، وفي كسبهم ومعاملاتهم، وفي سائر شعب حياتهم في الدنيا يرافقون ويشاركون اليهود والنصارى والشياطين في طريقة حياتهم، وفي الآخرة يريدون

مرافقة الأنبياء والمرسلين في الجنة، وهذا ليس من سنة الله، بل سنة الله معلومة لا تتبدل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. فالأمة إذا تركت الحق حركها الشيطان بالباطل .. وإذا لم تقتدِ بالأنبياء والمرسلين ابتليت بالاقتداء بأحفاد القردة والخنازير والشياطين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قال: «فَمَنْ» متفق عليه (¬1). وحسب أعمال البشر يرسل الله تبارك وتعالى الأحوال على العباد. فمن كانت أعماله طيبة نزلت عليه من الله أحوال طيبة، ومن كانت أعماله سيئة نزلت عليه أحوال سيئة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. فإذا كانت الأعمال التي تصدر من الجسد موافقة لأوامر الله، وعلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي أعمال صالحة. فالعين إذا رأت حسب أمر الله .. والأذن إذا سمعت حسب أمر الله .. واللسان إذا تكلم حسب أمر الله .. والبدن عَبَدَ الله حسب أمر الله، فهذه أعمال صالحة تسعد الإنسان في دنياه وآخرته. والإنسان آلة الأعمال، فهو إما أن يتحرك بطاعة أو يتحرك بمعصية فهو يومياً ينتج أعمالاً كثيرة. والملائكة كل يوم يتعاقبون على البشر، ويصعدون بسجلات الأعمال إلى ربهم، ويعرضونها أمام الله، ثم يرسل آخرون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3456)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).

مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه (¬1). فسبحان من أحصى كل شيء عدداً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ثم الله عزَّ وجلَّ ينزل الأحوال حسب الأعمال خيراً كانت أو شراً: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]. ولله على كل قلب هجرتان: الأولى: هجرة إلى الله بالتوحيد والإيمان .. والإخلاص والتقوى .. والإنابة والمحبة .. والخوف والرجاء .. والتوكل والاستعانة .. وعدم الالتفات إلى ما سواه. الثانية: هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحكيم له، والتسليم والانقياد لحكمه، وتلقي الأحكام من مشكاته. فمن قام بهذه الهجرة فهو من أسعد الناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وأصول الدين الإسلامي ثلاثة: الإيمان .. والأحكام .. والأخلاق. فالإيمان: هو اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555)، ومسلم برقم (632) واللفظ له.

أما الأحكام: فهي ما شرعه الله لعباده من الأعمال والأوامر التي يسيرون عليها، والمراد بها الأعمال الظاهرة التي تقوم بها الجوارح كالعبادات والمعاملات. والشريعة لا تنفك عن العقيدة، ولا يتم قبول العمل إلا بهما جميعاً. والعقيدة لن تثمر والشريعة لن تؤثر في حياة الإنسان إلا حين يتحلى الإنسان بصفة الإحسان في كل شيء. فالإحسان أعظم الأخلاق وأعلاها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فيجب على العبد أن يحسن المعاملة مع ربه، ومع الناس، وأن يحسن في عبادته كلها، وأن يحسن في جميع أموره كما أمر الله ورسوله. والاستقامة: ثمرة الإيمان، وبها يحصل كمال التقوى، وكمال العمل. وكمال العمل يحصل بتطبيق حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام بجهد محمد - صلى الله عليه وسلم -، -العبادة والدعوة إلى الله-. والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. وعند الفتن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام اعتزلهم. لكن ينبغي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله أبداً، ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، والاستغناء عن الناس، وعدم الإصغاء إلى أراجيف البلد، والقناعة باليسير من المعيشة، وتذكر الموت. والعزلة والخلطة تختلف بحسب الأحوال والأشخاص، لكن في الأصل الخلطة أفضل. ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله عزَّ وجلَّ ..

مستغرق اللسان بذكره .. مستغرق الأعضاء والجوارح بعبودية الله. فإذا كان كذلك أحبه الله ثم أنزل له القبول والمحبة في الأرض، فصارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]. وكما أن النفس تحب تكميل الشهوات، فكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب تكميل الأوامر التي هي الدين، وهي: الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. فالإيمان: أساس كل شيء. والعبادات: تنظم علاقة العبد مع ربه سبحانه، وتقوي إيمانه، ليكون ذاكراً لربه حامداً له. والمعاملات والمعاشرات والأخلاق تنظم علاقة العبد مع العباد، ليكون الجميع كالجسد الواحد. وعلى من يطلب الاستقامة أن يحفظ نفسه من أربعة أشياء: اللحظات .. والخطرات .. واللفظات .. والخطوات. ومن حفظ نفسه من هذه الأربعة فقد أحرز دينه، وحفظ استعمالها كما أمر الله سبحانه. وإذا أهملها العبد وغفل عنها دخل منها العدو فجاس خلال الديار وأهلك الحرث والنسل، وأفسد الظاهر والباطن. وكلما كان إيمان العبد أقوى، وعبادته أحسن، كانت معاملاته ومعاشراته وأخلاقه أفضل وأحسن. وبمقدار ما يكون العبد محبوباً عند الله، يكون محبوباً عند أهل السماء وعند أهل الأرض. وكل من ضحى بشهواته من أجل الدين أعطاه الله امتثال أوامره في جميع الأحوال على وجه الكمال.

والله تبارك وتعالى أوجب على كل مسلم من هذه الأمة العبادة والدعوة. وكما يسأل الإنسان عن حياته، فكذلك سيسأل عن مسئوليته. وجميع المسلمين يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرهم يكرهون حياته. وكل المسلمين يكرهون اليهود والنصارى، وأكثرهم يحبون حياتهم. وبعض المسلمين يحبون حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لا يريدون ولا يطيقون ولا يرغبون في جهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتمام الاستقامة بتطبيق حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام بجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. وأبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن عنده إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في النار. والمنافقون عندهم صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن عندهم دين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم في النار، فشرط الصحبة القيام بالدين. والإنسان يقضي حاجاته الدنيوية بالأسباب، وكذلك الله يدخلنا الجنة بالأسباب والأعمال، وهي الإيمان والعبادات والأخلاق والأعمال الصالحة فهذه أسباب. فللدنيا أسباب .. وللآخرة أسباب .. وللجنة أسباب .. وللنار أسباب. والله عزَّ وجلَّ أمر عباده أن يقوموا بجهد أوامر الله في مجال العبادة، وفي مجال الدعوة وفي مجال التعليم .. وهكذا. كما أمرهم أن يقوموا بجهد الكسب وأسبابه، فكلمة الزراعة لها جهد ولها أوامر .. وكلمة التجارة لها جهد ولها أوامر .. وكلمة الصناعة لها جهد ولها أوامر .. وهكذا، والكل عبادة. وكذلك كلمة الإيمان لها جهد ولها أوامر .. وكلمة الوضوء لها جهد ولها

أوامر .. وكلمة الصلاة لها جهد ولها أوامر، وكلمة الرزق لها جهد ولها أوامر .. وهكذا، والكل عبادة. فحتى يأتي الإيمان لا بدَّ من الجهد، وحتى تأتي الهداية لا بدَّ من الجهد كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وحتى يأتي الرزق لا بدَّ من الجهد، والأرزاق بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً تنال بواسطتها كالتجارة والزراعة ونحوهما، وهذه لعموم البشر، وللمؤمنين باب آخر يحصلون منه على أرزاقهم، وهو باب الإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وعلى قدر الإيمان تكون الطاعة، وعلى قدر الطاعة تكون الهداية. وإذا قام الجهد للدين انتشرت الرحمة في العالم، وعمت الفضيلة، وإذا فقد الدين جاءت المصائب في العالم، وعمت الرذيلة، كالمطر إذا جاء نفع الجميع، وإذا انقطع صار مشكلة على الجميع. فالاستقامة: لزوم طاعة الله واجتناب معصيته في جميع الأحوال. والناس عامة رؤوسهم ثلاثة: العلماء .. والعبَّاد .. والأغنياء. وإذا صلحت أحوال هؤلاء صلحت أحوال الناس، وإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. ثم قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34].

والاستقامة على ثلاث درجات: الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، وذلك ببذل المجهود وأداء العمل بإخلاص وفق السنة. والاقتصاد في العمل هو السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإفراط جور على النفوس، والتفريط إضاعة الأمور. فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية إلى البدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام به. وإن رأى فيه حرصاً على السنة وشدة طلب لها أمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها. وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة، وكل الخير في اجتهاد في اقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع. الدرجة الثانية: استقامة الأحوال، بشهود تفرد الرب بالأفعال وتفرده بالوجود، وتفرده بالإيجاد، وما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، ويستيقظ من غفلته، ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه، فليس سبب بقائه في قدر اليقظة بحفظه؛ بل بحفظ الله له. الثالثة: الاستقامة بترك رؤية الاستقامة، وأنها حصلت بتوفيق الله، فالله هو الذي أقامه ورزقه الاستقامة، لا بنفسه ولا بطلبه، فذكره لهذا يغيب به عن استشعار طلبه لها. والاستقامة كلمة جامعة، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والطاعة والوفاء بالعهد.

واستقامة الأمة المسلمة تقوم على أمرين: الأول: الإيمان والتقوى، التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل، التقوى الدائمة المستمرة حتى يبلغ الكتاب أجله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. الثاني: الأخوة في الله على منهج الله، والتعاون لتحقيق منهج الله، بالاعتصام بحبل الله، لا بأي حبل من حبال الجاهلية الكثيرة كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. وبهذين الأمرين تحقق الأمة وجودها، وتؤدي دورها وفق مراد ربها، وبدون ذلك يكون تجمعها جاهلياً يمزق الأمة، ويفسد الأخلاق، ويعبث في حياة الأمة بلا منازع. والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد، يملك السلطان على القلوب والأبدان، ويملك السلطان على الظواهر والبواطن، ويملك السلطان على الحركة والسلوك. ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الآخرة، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له. وإنما تشقى البشرية وتفسد حياتها وتضطرب أحوالها حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي. حين تكون السلطة لله في القلوب والشعائر، بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع. حين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة، بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا. وبمثل هذا تفسد الحياة، وتتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، فيحصل التصادم بين أوامر الله، وأهواء البشر.

ويحصل لمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. ومن أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، سواء كان هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها. فقد جاء ومعه شريعة معينة تحكم واقع الحياة، إلى جانب عقيدة تنشئ التصور الصحيح بالإيمان بالله، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله، والتي تذكره بربه فيقبل على طاعته ويحذر معصيته. وهذه الجوانب الثلاثة قوام دين الله حيثما جاء دين من عند الله. والحياة البشرية لا يمكن أن تصلح وتستقيم، حتى يكون دين الله هو منهج الحياة كلها. والحكم بما أنزل الله وإقامة الحياة وفق شريعة الله سيواجه في كل زمان ومكان معارضة من بعض الناس، ولن تقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام. وهذه سنة الله، فالحق له أهل وأنصار، والباطل له أهل وأنصار ستواجه الحق وأهله معارضة الكبراء والطغام والسلاطين. وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت. وستقاومه سهام ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال؛ ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها، وسيأخذهم بالعقوبة عليها، وسيجعل الناس أمام دين الله سواء. وستواجهه أفراد وأمم ومذاهب حسداً من عند أنفسهم. وستقاومه وتقف له الجموع المضللة أو المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل

أحكام شريعة الله وتشغب عليها. فعلى أهله الذين كلفوا بالاستقامة عليه والمحافظة عليه، وكلفوا أن يكونوا شهداء عليه أن يؤدوا الشهادة له في أنفسهم بالاستقامة عليه، والثبات عليه، وبذل النفوس من أجله. وقد علم سبحانه أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات، فلا بدَّ من مواجهة هذه المقاومة والصمود لها، واحتمال تكاليفها في النفس والمال كما قال سبحانه: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله، ولا تقف خشيتهم لهؤلاء وغيرهم دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة. فالله وحده هو الذي يستحق أن يخشوه ويخافوه. وقد علم سبحانه أن بعض المستحفظين على كتاب الله قد تراودهم أطماع الدنيا وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله ورسوله، فيتملقون شهوات هؤلاء جميعاً طمعاً في عرض الحياة الدنيا كما يقع من علماء السوء المحترفين في كل زمان ومكان، فالله ينادي هؤلاء بقوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. وذلك لقاء السكوت .. أو لقاء التحريف .. أو لقاء الفتاوى المدخولة، وكل ما أخذوه -ولو كان ملك الدنيا- فهو قليل يباع به الدين، وتشترى به جهنم عن يقين. فما أشنع خيانة المستأمن .. وما أبشع تفريط المستحفظ. وما أخس تدليس المستشهد .. وما أخطر الحكم بغير ما أنزل الله .. وما أشد تحريف الكلم عن مواضعه؛ لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله

سبحانه. فما أخسر هؤلاء؟ .. وما أشد حسابهم؟ .. وما أعظم جرمهم؟. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. إن كيد الأعداء للمسلمين عجيب، وأعجب منه غفلة المسلمين عن هذا الكيد قروناً طويلة، وأعجب من هذا وذاك وجود العلاج بين أيديهم، وهم لا يفقهونه، ولا يعرفونه، ولا يستخدمونه. ومن هذا الكيد اللئيم: هذه الدراسات والبحوث الفقهية غير المطبقة في الحياة، إنها دراسة للتلهية، لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في الأرض التي تدرسه في معاهدها ومساجدها وهي لا تطبقه في واقع حياتها، وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ليخدر مشاعر الأمة بهذا الإيهام والتضليل، وإضاعة الأوقات في بحوث باردة لا تحرك ساكناً ولا تقيم معوجاً. إن هذا الدين جد وحق، جاء ليحكم الحياة في النفس والمجتمع، في المسجد والبيت والسوق، وفي كل مكان وزمان. جاء ليعبد الناس الله وحده، ويرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه. جاء هذا الدين العظيم الكامل الشامل ليحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية. ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار، ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة، ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء. وبمثل هذا انحدر كثير من المسلمين في القاع، وبدلوا نعمة الله كفراً، وارتدوا على أعقابهم من بعد ما تبين لهم الهدى، وركبوا مركباً آخر، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول، أو مغتر كفور: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ

أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. إن هذا الدين الذي أكرم الله به هذه الأمة ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترفه الذهني، والتكاثر بالعلم والمعرفة. وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، بل إنما هو مع ذلك حركة لتغيير منهج الناس في الحياة ليكون على مراد الله لا على مراد غيره كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40]. والاستقامة مبنية على شيئين: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها، والاسترسال معها. الثاني: صدق التأهب للقاء الله عزَّ وجلَّ. فأصل الفساد كله يجيء من قبل الخواطر؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب. فإذا تمكن بذرها في القلب تعهدها الشيطان بالسقي مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال المهلكة. ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فالخواطر كالشرارة يسهل إطفاؤها، والإرادات والعزائم كالنار المشتعلة. ولحفظ الخواطر أسباب عدة: أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه عليك، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفاصيل خواطرك. الثاني: حياؤك منه. الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته

ومحبته وعبادته. الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته. السادس: خشيتك أن يستعير شرر تلك الخواطر فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله. السابع: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به. الثامن: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان، ودواعي المحبة في قلب المؤمن؛ لأنها ضدها من كل وجه. التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته. العاشر: أن تلك الخواطر الرديئة هي وادي الحمقى، وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، أما الخواطر الإيمانية فهي أصل الخير كله، فإذا بذر في القلب بذر الإيمان، والخشية، والمحبة، والإنابة، أثمرت كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات. وحفظ الخواطر نافع لصاحبه بشرطين: أحدها: أن لا يترك به واجباً ولا سنة. الثاني: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر الرديئة، ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بدَّ من الانتباه لهذا. أما صدق التأهب للقاء الله فهو من أنفع ما للعبد، وأبلغه في حصول استقامته. فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها وعن مطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى

محبته، وعلى إيثار مرضاته. واستحدث همة أخرى وعلوماً أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه. فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة. فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة، كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار. وأكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة ولا تصوروها، فضلاً عن أن يصدقوا بها، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، وإلا كما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة. وإذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد. وكل إنسان في العالم هالك وخاسر إلا من قضى حياته في أمرين: إصلاح نفسه .. وإصلاح غيره. فإصلاح النفس تزكيتها وتربيتها حتى تستقيم على أوامر الله. وإصلاح الغير دعوة الناس إلى الحق والصبر على ذلك كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وهو العدل الذي يجمع الحكمة والعفة والشجاعة، فالله عزَّ وجلَّ لما أسكن الروح في البدن المعرض للمهالك أودع فيه ثلاث قوى: القوة الشهوانية البهيمية الجالبة للمنافع .. والقوة الغضبية السبعية الدافعة للمضار .. والقوة العقلية الملكية المميزة بين النافع والضار. والله بحكمته لم يحدد تلك القوى. فيحصل فيها إما الزيادة، أو النقصان، أو العدل -وهو الوسط-. فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة .. وإفراطها التدقيق في سفاسف الأمور ..

ووسطها الحكمة. وتفريط القوة الشهوانية الخمود وعدم الاشتياق إلى شيء، وإفراطها الفجور، بأن يشتهي ما صادف، حَلّ أو حَرُم، ووسطها العفة، بأن يرغب في الحلال، ويهرب من الحرام. وتفريط القوة الغضبية الجبن والخوف مما لا يخاف منه، وإفراطها التهور .. ووسطها الشجاعة لإعلاء كلمة الله. فالأطراف الستة ظلم .. والأوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم. وقد أرسل الله الأنبياء بالدين الذي جاء بتنظيم وتحسين حياة الناس عامة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق. فمن استقام على ذلك أسعده الله في الدنيا والآخرة. ومن انحرف عن ذلك شقي في الدنيا والآخرة. أما من يصلي على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ويبيع ويشتري على طريقة اليهود .. ويتزوج ويلبس على طريقة النصارى .. ويأكل ويشرب على طريقة المجوس، فهذا الخلط مردود غير مقبول، ولمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بعبادته وطاعته، وأرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - قدوة للبشرية إلى يوم القيامة. فمن آمن به وأطاعه واقتدى به سعد في الدنيا والآخرة. ومن عصاه واقتدى بمن خالفه شقي في الدنيا والآخرة. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا أول الناس إيماناً به، وأحسنهم اقتداء به، وأعظمهم نصرة له؛ لأزموه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل إليه.

فكانت لياليهم كليل النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلاة وذكر، ودعاء وبكاء لهداية الأمة. ونهارهم نهار النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوة الناس إلى الله، وغشيانهم في مجالسهم، وتلاوة القرآن عليهم، وتعليمهم أحكام الدين، ومواساتهم بما يسرهم. وظاهرهم ظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم -: مزين بالسنن في جميع الأحوال، وباطنهم باطن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مزين ومعمور بالإيمان والتقوى، واليقين وتعظيم الله، وخشيته ومحبته. وقلوبهم على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -: شفقة ورحمة للناس، وتواضع لهم، ورغبة في هدايتهم وصلاحهم، وصبر على أذاهم. وأموالهم أنفقوها في سبيل الله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل إعلاء كلمة الله، وإكراماً لأضياف الإسلام، ومواساة للفقراء والمساكين وما تحتاجه النفس، وما يلزم للأهل والأولاد. فهم أول الناس إسلاماً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقربهم اقتداء بسيد المرسلين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. والله عزَّ وجلَّ خلقنا .. وهدانا .. واشترانا .. وشرفنا .. وكرمنا .. واجتبانا .. وحملنا ثلاث مسؤوليات كبرى وهي: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. والدعوة إلى الدين. وهذه واجبة على كل أحد بحسب استطاعته. وكل فساد في العالم سببه نسيان هذه المسؤوليات الثلاث، أو التقصير فيها، حتى صار الناس كالأنعام؛ بل أضل، يعيشون كيف شاءوا لا كما يشاء الله تعالى ويحب ويريد: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].

وإذا قام الإنسان بهذه المسؤوليات الثلاث صار أفضل الناس، يتعلم كيف يعبد الله، ويدعو إلى عبادة الله. وإذا كانت أحوال الأسرة داخل البيت الزوج يعيش كيف شاء، والزوجة تعيش كيف تشاء، والولد يعيش كيف شاء، والبنت تعيش كيف تشاء، فهذا البيت لا يسمى بيت الإنسان، بل بيت الحيوان. وكم البيوت في العالم الآن تعيش بهذا الترتيب كما تشاء، لا كما يشاء الله تبارك وتعالى ويحب. وهكذا هذه الدنيا جعلها الله بيتاً للإنسان، فكم يكون الفساد في العالم بسبب خراب هذا البيت الكبير؟. ولهذا بعث الله الأنبياء والرسل لإصلاح أحوال سكان هذا البيت الكبير بالإيمان بالله، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه. وحياة الناس في الجاهلية فاسدة ومضطربة بسبب تعطيل هذه المسئوليات الثلاث. فلما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدين من عند الله أفهمهم مسئوليتهم، فعاشوا بترتيب الإنسان، وتركوا حياة الحيوان والشيطان. ونقلهم بأمر الله وبدين الله من شر القرون إلى خير القرون: نقلهم من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن الجهل إلى العلم .. ومن الظلم إلى العدل .. ومن القسوة إلى الرحمة. فكانوا أحسن الناس استقامة كما قال الله عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. فعلينا القيام بأداء هذه المسؤوليات لتصلح أحوال هذا البيت الكبير ومن فيه، وتنكشف عنه الغموم والهموم، وتزول عنه الأسقام والآلام كما أمر الله سبحانه

بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والشيطان لما كفر واستكبر وترك مسئوليته صار أكبر مضل ومفسد في العالم، فاستحق الطرد والإبعاد واللعنة والعذاب الأليم. فكل من ترك مسئوليته من البشر صار من أتباع الشيطان .. يتعلم الضلال .. ويعمل بالضلال .. ويدعو إلى الضلال والنار. كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. والعقل حين ينعزل عن منهج الله بعيداً عن الوحي فإنه حينئذ يتعرض للضلال والإنحراف وسوء الرؤية وفساد العمل. فيرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، ويدمر أجهزة إنسانية كريمة. ولو اتبع الوحي الإلهي لكفى البشر هذا الشر كله، وجعل التجارب والتقلبات في الأشياء والآلات، وهي مجاله الطبيعي، والخسارة في النهاية مواد وأشياء لها أنفس وأرواح. فالعقل وحده قاصر يتقلب ويضطرب تحت ضغط الشهوات والأهواء، فلا بدَّ له من ضابط آخر يضبطه ويحرسه ويرجع إليه وهو الوحي. فالعقل يضل .. والفطرة وحدها تنحرف .. ولا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي .. فهو النور الذي يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. والدين يأتي في حياتنا بقدر التضحية من أجله بالأنفس والأموال، والشهوات والأوقات، والأوطان. فنضحي بالدنيا من أجل الدين .. وبالشهوات من أجل الأعمال .. والله يرضى عنا بقدر قوة الدين في حياتنا.

وإذا فكرنا في الموت والآخرة، وتذكرنا نعيم الجنة وعذاب الآخرة، سهل علينا التضحية بالدنيا، وامتثال أوامر الله وتقديمها على ما سواها. وطالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين: الأول: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه بذكر الله وطاعته، وفعل الواجبات والمندوبات التي يحبها الله. الثاني: حبس قلبه عن الالتفات إلى غيره، كحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات بترك المحرمات والمكروهات. وكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وهو المؤمن، أو سائر إلى الحبس وهو الكافر: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. وقد ربى الله بالقرآن الكريم وبهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - جيلاً كريماً مستقيماً رضِيَ اللهُ عنهُ ورضوا عنه، فهم قدوة البشرية إلى يوم القيامة. إنهم خير القرون، وخير جيل عرفته الأرض، إنه عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله. عالم عالي الصفات .. نقي القلب .. طيب المشاعر .. عف اللسان .. عف السريرة .. له أدب مع الله .. وأدب مع رسول الله .. وأدب مع نفسه .. وأدب مع غيره .. أدب في هواجس قلبه .. وفي حركات جوارحه .. له شرائعه المنظمة لأوضاعه .. وله أحكام تضبط استقراره .. وتكفل صيانته. إنه عالم كريم له أدب مع الله، ومع رسول الله، يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، وأمام الرسول الذي يبلغ عن الرب، فلا يسبق المؤمن إلهه في أمر ولا نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز ما يأمر به، وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة، أو رأياً مع خالقه تقوى منه وخشية، وحياءً وأدباً.

فلا يقول في أمر قبل قول الله وقول رسوله فيه. وذلك أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل. وهو منبثق من تقوى الله، النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكذلك أدب المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم. فلا يقترح منهم مقترح على الله ورسوله .. ولا يدلي منهم أحد برأي لم يطلب منه أن يدلي به .. ولا يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول رسوله. حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألهم عما يعلمونه قطعاً في حجة الوداع، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم، خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -! وهو ما نهى الله عنه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]. وعن نفيع بن الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل يوم النحر فقال: «أتدرون أيَّ يَوْمٍ هَذَا». قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، فقَالَ: «ألَيْسَ بِيَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قَال: «فأي شهر هذا؟» قلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال: «أَلَيْسَ بِذي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ! قَال: «فَأَيُّ بَلدٍ هذا؟» قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، قال: حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، قَال: «أَلَيْسَ بالبلدَةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قالَ: «فَإنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ وَأعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هذا، فَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» متفق عليه (¬1). ولهذا الجيل الطيب الطاهر السامق أدب مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقير ينعكس على أصواتهم ويميز شخص رسول الله ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، ومسلم برقم (1679)، واللفظ له.

بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله جل جلاله يدعوهم إلى ذلك الأدب بهذا النداء الحبيب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. وكانوا يوقرون النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى الإيمان، وتلا عليهم القرآن، وجمعهم على الهدى، فكانوا معه في غاية الأدب خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون. وقد نوه الله بتقواهم وغضهم أصواتهم عند رسول الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]. وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل عالم، لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم. فالنداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي. والنداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير. وهذا وذاك هما الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات، فلا بدَّ من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها. أما النداء الثالث فهو يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء؟ وكيف يتصرفون بها؟ ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]. فلا بدَّ من التثبت من خبر الفاسق. أما المؤمن الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، أما الشك في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة.

فعلى من أراد الاستقامة: أن يدخلوا في السلم كافة .. وأن يتركوا أمرهم لله ورسوله .. ويستسلموا لقدر الله وتدبيره .. ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه .. ويشكروا ربهم على نعمة الإيمان الذي هداهم إليه .. وحرك قلوبهم لحبه .. وكشف لهم عن جماله وفضله .. وعلق أرواحهم به .. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان .. وهذا كله من رحمة الله وفيضه. فهو الذي أراد بهم هذا الخير .. وخلص قلوبهم من ذلك الشر .. وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة. وليطمئنوا إلى قضاء الله وتدبيره، فالله يختار لهم الخير، ورسول الله يأخذ بأيديهم إلى هذا الخير: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8]. والاستقامة هي الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وذلك في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، ليكون على منهج الله وفق أمر الله، وهذا ما أمر الله به رسوله ومن تاب معه بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]. ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن القصور والتقصير، بل بالنهي عن الطغيان والمجاوزة. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه من يقظة القلب قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله،

ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته، والله مطلع على القلوب والأعمال. ولا يجوز لأهل الإيمان والاستقامة أن يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين، والطغاة المفسدين، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)} [هود: 113]. فركون المؤمنين إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الأكبر، وجزاء هذا الانحراف أن تمسهم النار، وليس لهم من الله والٍ ولا ناصر. والاستقامة على الطريق في فترات الشدة وتكالب الأعداء أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين. والله يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين إلى زاد الطريق بقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. وهذا الزاد هو الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل القلوب المؤمنة بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية. والاستقامة في حاجة إلى الصبر، كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر. فالاستقامة إحسان .. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان .. والصبر على كيد المكذبين إحسان .. والله لا يضيع أجر المحسنين {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)} [هود: 115].

وأهل الاستقامة هم الذين استقاموا على أن الله ربهم وحده .. واستقاموا على طاعته وأداء فرائضه .. واستقاموا على إخلاص الدين والعمل إلى الموت .. واستقاموا في أقوالهم وأفعالهم .. واستقاموا في سرهم وجهرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومهابته استقامت الجوارح كلها على طاعته.

12 - فقه الإخلاص

12 - فقه الإخلاص قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. الإخلاص: هو إفراد الله تبارك وتعالى بالقصد في الطاعة، وتصفية العمل عن ملاحظة الخلق بدوام النظر إلى الخالق. والإخلاص يكون بتصفية العمل عما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق .. وإما طلب مدحهم .. وإما الهرب من ذمهم .. أو طلب تعظيمهم .. أو طلب أموالهم أو خدمتهم .. أو طلب محبتهم وقضائهم حوائجه .. أو غير ذلك من العلل والشوائب التي يجمعها إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان. والإخلاص سر بين العبد وربه لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا عدو فيحسده. والإخلاص على ثلاث درجات: الأولى: عدم رؤية عمله وملاحظته، والخلاص من طلب العوض عليه، وعدم رضاه به وسكونه إليه. فالذي يخلص العبد من رؤية عمله مشاهدته لمنَّة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه. والذي يخلصه من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجرة. وما يناله من الأجر والثواب تفضل منه، وإحسان إليه، وإنعام عليه، لا معاوضة ولا أجرة.

والذي يخلص من رضاه بفعله وسكونه إليه مطالعة عيوبه وآفاته، وتقصيره فيه، وما فيه من حظ النفس والشيطان، وعلمه بما يستحقه الرب جلَّ جلاله من حقوق العبودية، وآدابها الظاهرة والباطنة، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها، وأن يرضى بها لربه. الدرجة الثانية: خجله من عمله، مع بذل مجهوده فيه، وهو شدة حيائه من الله، إذ لم ير ذلك العمل صالحاً له، ودون ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه. وتوفير الجهد التام لتصحيح العمل محتمياً عن شهوده له، ورؤية عمله من عين جوده سبحانه، لا بالعبد ولا منه كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. الدرجة الثالثة: إخلاص العمل، بأن يجعل العبد عمله تابعاً للعلم، موافقاً له، مؤتماً به، يسير بسيره، ويقف بوقوفه. ناظراً إلى الحكم الديني الشرعي، متقيداً به فعلاً وتركاً، ناظراً إلى ترتيب الثواب والعقاب عليه سبباً وكسباً. شاهداً للحكم الكوني القدري الذي تنطوي فيه الأسباب والمسببات، والحركات والسكنات، فلا يبقى هناك غير محض المشيئة، وتفرد الرب وحده بالأفعال. نافياً لما سواه، معتصماً به وحده، متوكلاً عليه وحده، قاصداً وجهه وحده كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه سبحانه: «أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (¬1). والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأعمال بدون الإيمان لا تكون شيئاً، ولا تكون عملاً صالحاً، بل هي مطلق عمل لا يعبأ الله به. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2985).

فإذا كانت مع الإيمان وعلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صارت أعمالاً صالحة. وكذلك الإيمان مقترن بالإخلاص فهما توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فأول من يدخل الجنة الشهيد والجواد والقارئ، وأول من تسعر بهم النار هؤلاء الثلاثة. فبوجود الإيمان والإخلاص لهؤلاء الجنة، وبفقد الإيمان والإخلاص هؤلاء إلى النار كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (¬1). والرياء ضد الإخلاص، وهو مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع. فالمرائي يري الناس أو يُسمعهم ما يطلب به الحظوة والمنزلة عندهم، والرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1905).

وأصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول وهي: حب لذة الحمد .. والفرار من ألم الذم .. والطمع فيما في أيدي الناس. عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه (¬1). فهو يقاتل شجاعة ليذكر ويحمد، ويقاتل حمية لأنه يأنف أن يقهر ويذم، ويقاتل رياء ليرى مكانه، وهذا هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك الرياء. والرياء له صور مختلفة: فتارة يكون من جهة البدن .. وتارة من جهة اللباس .. وتارة من جهة الكلام .. وتارة من جهة العمل .. وتارة بكثرة الأصحاب والزوار، ونحو ذلك. وفي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء. وفي إظهار الأعمال فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير. ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، فعلى المظهر للعمل أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي، بل ينوي الاقتداء به. فمن كان قوي الإيمان، تام الإخلاص، وصغر الناس في عينه، واستوى عنده مدحهم وذمهم، فلا بأس له في الإظهار؛ لأن الترغيب في الخير خير. والله تبارك وتعالى خلق الإنسان للآخرة، وأعطاه الدنيا يستعين بها على طاعة الله، ومن جعل مقصد حياته الدنيا أعطاه الله من الدنيا ما يشاء، ولا حظ له في الآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18]. فالذي يجعل مقصد حياته التجارة والزراعة أو الصناعة، الله يفهمه سر ذلك. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7458)، واللفظ له، ومسلم برقم (1904).

والذي يجعل مقصد حياته عبادة الله، والدعوة إلى الله، الله عزَّ وجلَّ يفهمه سر جمع الأمة على الإيمان والهدى وأعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فأهل الدنيا الله أعطاهم مقصدهم، وأهل الدين كذلك، لكن أهل الدنيا أخلصوا في عملهم فزادت وزانت دنياهم كما نرى، ولكن الدنيا فانية رامحة متقلبة فلا يفرح بها إلا جاهل: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. أما الذي يستحق أن يفرح به فهو الدين الذي أكرم الله به البشرية كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وأهل الدين لم يخلصوا في أعمالهم، فلذلك الله لم يعطهم؛ لأن معهم صورة الدين لا حقيقة الدين، ولو أخلصوا أعمالهم لله، واتبعوا رسوله فيما جاء به لنصرهم وأعزهم ورفع مكانهم ووفر أرزاقهم كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وقلب الإنسان يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة. فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الأمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» أخرجه أحمد والدارمي (¬1). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (21590) وهذا لفظه. وأخرجه الدار مي برقم (233)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (404).

فالقلب لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه عنه. والفقه أن يمقت المسلم الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً، فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم، وضعفهم وتفريطهم، وإضاعتهم لحق الله، وإقبالهم على غيره، وبيعهم حظهم من الله بالعاجل الفاني، لم يجد بداً من مقتهم على إعراضهم عن ربهم. ولكن إذا رجع العبد إلى نفسه وحاله وتقصيره كان لنفسه أشد مقتاً، فكم في النفوس من علل وأمراض، وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه. فقد يعمل العبد العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه وهو خالص لوجه الله، ولا يعرف هذا إلا أولو البصائر. فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب، وفرق شيطانية مستعدة لإزهاق روح العمل قبل أن يصل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء، ولا زهد في الدنيا، ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، وبين الحق والباطل. ثم بين الرب وبين القلب مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية العمل، ونسيان منَّة الله فيه، وعلل خفية لو استقصى العبد في طلبها لرأى العجب. ومن رحمة الله أن سترها على أكثر العمال، إذ لو رأوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط، وترك العمل، وفتور الهمة.

والرياء ضد الإخلاص وهو نوعان: أحدها: الرياء المذموم: وهو أن يكون الباعث عليه قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه ونحو ذلك كمن يتصدق أو يصلي أو يذكر، أو يعلم أو يجاهد من أجل أن يرى أو يقال عنه كذا، فهذا كله من الرياء المذموم شرعاً. الثاني: الرياء المحمود: وهو أن لا يكون الباعث عليه ما سبق كمن يحسن صلاته وعنده من يريد أن يتعلم منه، فيكون محسناً إليه بالتعليم، وإلى نفسه بالإخلاص، وتعريف الجاهل، وكمن ينفق ماله جهراً ليقتدى به في الخير، فهذا جدير بأن يحصل له مثل أجور من اقتدى به.

13 - فقه التوكل

13 - فقه التوكل قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. التوكل من أعظم مقامات الدين وأجلها وأفضلها. وقد أمر الله أنبياءه ورسله وعباده بالتوكل عليه، وحثهم عليه في جميع أحوالهم، وفيما أمرهم به، وفيما تعبدهم به. وأخبر سبحانه أنه يحب المتوكلين عليه، كما يحب الشاكرين والمحسنين وأخبر سبحانه أن كفايته للناس مقرونة بتوكلهم عليه، وأنه كاف من توكل عليه. وجعل سبحانه لكل عمل من أعمال البر جزاء معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. ثم قال في التوكل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. فالتوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه، والتوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة .. والإنابة هي العبادة. وقد خاطب الله بالتوكل أحب الخلق إليه، وأقربهم إليه، وأكرمهم عليه وهم المؤمنون، وأمرهم به، وجعله شرطاً في صحة إيمانهم، فمن لا توكل له لا إيمان له فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. وأخبر سبحانه عن رسله أن التوكل على الله ملجؤهم ومعاذهم في جميع أحوالهم فقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 84، 85]. فالتوكل أصل لجميع مقامات الدين من الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، ومنزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. وينشأ التوكل من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، والخلائق كلها في قبضة الله، وهي موكولة إليه سبحانه. وأن العبد لا يملك شيئاً منها، فهو لا يجد بداً من اعتماده عليه، وتفويض أمره إليه، وثقته به من الوجهين: من جهة فقر العبد إلى ربه وعدم ملكه شيئاً البتة .. ومن جهة كون الأمر كله بيد الله، والتوكل ينشأ من هذين العلمين. ومقصود التوكل على الله تسليم الأمر إلى من هو له، وعزل نفسه عن منازعة مالكه واعتماده عليه فيه، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه كما قال سبحانه عن رسله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم: 12]. فالأنبياء وأتباعهم يتوكلون على ربهم في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم؛ لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعموم إحسانه، وسعة رحمته. وتوكل الأنبياء في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهي التوكل على الله في إقامة دينه ونصره .. وهداية عبيده .. وإزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل. ومجموع الدين أمران: أن يكون العبد على الحق .. وأن يكون متوكلاً على الله. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل: 79].

والإنسان آفته: إما من عدم الهداية .. وإما من عدم التوكل. فإذا جمع مع الهداية التوكل فقد جمع الإيمان كله. والناس في التوكل متفاوتون: فمن متوكل على الله في حصول الملك .. ومن متوكل على الله في حصول رغيف .. ومن متوكل عليه في جلب مصلحة دينية أو دنيوية .. أو دفع مفسدة دينية أو دنيوية. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. فإن كان محبوباً لله مرضياً له كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه. وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، إلا إذا استعان به على طاعته. والتوكل عمل القلب، وعلم القلب بكفاية الرب للعبد، وانطراح القلب بين يدي الرب يقلبه كيف يشاء. والمتوكل من رضي بالله وكيلاً، ورضي بكل ما يفعل الله، وتعلق بالله في كل حال. والتوكل: أن لا يظهر في العبد انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقته إليها، ولا يزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفه عليها. والتوكل على الله لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد. والتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، فمن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. والتوكل درجته أن يكون بعد التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ

حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. فالتوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه مع فعل ما أمر به، والتفويض إليه في كل حال، وقطع علائق القلب بغير الله. وسر التوكل: هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه. فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء آخر، فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت إلى الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها. والتوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به. فإن قيل: المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدَّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدعُ؟. وإن لم يقدَّر لم يحصل، توكل أو لم يتوكل، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدِّر له؟. فيقال: بقي قسم ثالث وهو الواقع، وهو أن يكون قد قضى الله بحصول الشيء عند وجود سببه من التوكل والدعاء، فنصب سبحانه التوكل والدعاء سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يفعل السبب لم يحصل. كما قضى سبحانه بحصول الشبع إذا أكل، وحصول الري إذا شرب، فإن لم يفعل لم يشبع ولم يرو، وقضى بحصول الولد إذا جامع الرجل المرأة، فإن لم يجامع لم يخلق الولد، وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض، وإلقاء البذر فيها، فإذا لم يفعل ذلك لم يحصل إلا الخيبة.

وقضى سبحانه بدخول الجنة لمن أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا لم يسلم ولم يعمل صالحاً لم يدخلها أبداً. فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل. ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها. فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره. فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية. ومن نفى الأسباب فالبهائم أفقه منه؛ لأنها تسعى في السبب بالهداية العامة. ولا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل. فإن العبد متى التفت قلبه إلى غير الله نقص من توكله بقدر ذلك الالتفات. ومن هنا ظن بعض الناس أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح. فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعاً عنها بقلبه، متصلاً بها ببدنه، وتلك سنته - صلى الله عليه وسلم -، وفعله وأمره. فخلع الأسباب من القلوب توحيد، وتعطيل الأسباب إلحاد وزندقة، فخلعها عدم اعتماد القلب عليها وركونه إليها مع قيامه بها، وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح. فالذي أمر بالتوكل بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. هو الذي أمر بأخذ الحذر بقوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)} [النساء: 71].

ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. أما أركان التوكل: فالتوكل حال مركبة من عدة أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها: وأول ذلك معرفة العبد بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع فيها العبد قدمه في مقام التوكل. والثاني: إثبات الأسباب على الجوارح، ورفضها عن القلوب، ومن نفاها فتوكله مدخول. والثالث: اعتماد القلب على الله وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها. وعلامة هذا: أن لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها. الرابع: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه. والخامس: استسلام القلب لله، والانقطاع عما سواه، بأن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ولا يمتنع منه، ولا يكون له حركة ولا تدبير، بل يستسلم لتدبير الرب، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل في باب القضاء والقدر، أي فيما يفعله الرب بالعبد، لا فيما أمرك الرب بفعله .. فتنبه. وروح التوكل ولبه وحقيقته: تفويض الأمور كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً،

كتفويض الابن العاجز الضعيف كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته، وحسن ولايته وتدبيره، فهو يرى أن تدبير أبيه له وقيامه بمصالحه خير له من تدبير نفسه، فلا يجد أصلح له وأرفق به من تفويض أموره كلها إلى أبيه. فإذا وضع العبد قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل وأعظمها فائدة. فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله. وباستكمال هذه الدرجات يستكمل العبد مقام التوكل، وتثبت قدمه فيه. والتوكل له تعلق بعامة أسماء الله وصفاته كالغفار والعزيز، والرحمن والتواب، والفتاح والرزاق، والقوي والقدير، والمعطي والمانع ونحو ذلك. وبحسب معرفة العبد بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، يصح له مقام التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله على ربه أقوى. وكان الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: الأول: من عنده الأشغال الكسبية، وهؤلاء عامة الصحابة رضي الله عنهم. الثاني: من ليس عنده الأشغال الكسبية، كأصحاب الصفة رضي الله عنهم. ومن كان عندهم الأشغال الكسبية كان في توكلهم شيئان: الأول: أنهم لا ينظرون إلى زيادة المال، بل ينظرون إلى تنفيذ أوامر الله ورسوله فيه ولو قل المال. الثاني: أنهم كانوا متهيئين مع شغلهم ومستعدين للخروج في سبيل الله في أي وقت طلبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، ومتى لزم الأمر، ولا يتفكرون في أموالهم، وبذلك أعطاهم الله البركة في أموالهم. أما من ليس عنده الأشغال الكسبية ففي توكلهم ثلاثة أشياء: أنهم كانوا لا يسألون الناس باللسان ولا بالحال .. وليس في قلوبهم إشراف لما عند الناس .. وإذا جاءت عليهم المشقة لا يخبرون أحداً بل يتوجهون إلى الله

وحده ويبكون أمام الله، وبذلك يأتيهم الفرج، وتنزل عليهم نصرة الله. وقد وكل الله عزَّ وجلَّ بدينه أنبياءه ورسله، ومن آمن بهم، ووفقهم للإيمان به والقيام بحقه، والذب عنه، وجهاد أعدائه. وهو توكيل رحمة وإحسان، وتوفيق واختصاص، لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجته إليه. فمن آمن بهم أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن كذبهم وأعرض عن هديهم فالرسل قائمون بها، مؤدون لها، مستقيمون عليها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90]. والتوكل على ثلاث درجات: الأولى: التوكل على الله مع الطلب وفعل السبب، على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والشهوات، فإنه إن لم يشغل النفس بما ينفعها شغلته بما يضره. وكذلك يقوم بالسبب على نية نفع النفس، ونفع الناس بذلك. وكذلك يقوم بالسبب ليتخلص من إشارة الخلق إليه، الموجبة لحسن ظنه بنفسه، الموجب لدعواه، فالسبب ستر لحاله ومقامه، وحجاب مسبل عليه. ومن وجه آخر، وهو أن يشهد به فقره وذله، وامتهانه امتهان العبيد والفعلة، فيتخلص من رعونة دعوى النفس. وأعظم من هذا كله أن القيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية، وحق الله على عبده، الذي توجهت به نحوه المطالب، وترتب عليه الثواب والعقاب، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض. الدرجة الثانية: التوكل مع إسقاط الطلب من الخلق، فإن الطلب من الخلق في الأصل محظور، ولا يباح إلا عند الضرورة، فلا يطلب من أحد شيئاً. فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والله تعالى غني حميد، يحب

من يسأله، وقبيح بالإنسان أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). الدرجة الثالثة: أن يعلم أن ملك الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة لا يشاركه فيها أحد، فهي ملكة قوة وامتناع وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك. فهو سبحانه العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه، كما هو المتفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك. وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وقدرته على كل شيء، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله. فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة لم يجد بداً من اعتماد قلبه عليه سبحانه وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وجميع مصالحه كلها بيد الله وحده، لا بيد غيره. وعلة التوكل: التفات القلب إلى ما سوى الله، إلى من ليس له شركة في ملك الحق، ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فهذه علة توكله، وعلة أخرى وهي رؤية توكله، فإنه التفات إلى عوالم نفسه. وعلة ثالثة وهي صرف قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه. والتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669). وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

وحال العبد في توكله على الله درجات: الأولى: أن يكون حاله مع ربه وثقته بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل عادة. الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع ربه كحال الطفل مع أمه، فهو لا يعرف غيرها، ولا يفزع لأحد سواها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها، وطلب منها كل ما يريد. الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، يرى تدبيره وتصريفه بيد مالكه الذي يدبر الكون، فهو مثل صبي علم أنه إن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه ولا تتركه. وهذا المقام في التوكل سببه المعرفة والثقة بكرم الله وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يُسأل، ويقتضي الشكر له، وسؤاله وعدم سؤال غيره. ووجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. وقوة التوكل مبنية على كمال التوحيد، فمن كان توحيده أكمل كان توكله على الله أعظم. فإذا آمن العبد بالله رأى كل شيء صادراً عن الواحد، ومتى علم أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون الخوف منه، والرجاء له، وبه الثقة، وعليه التوكل وحده؛ لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، والكل مسخرون له. فلا يعتمد على المطر أو الماء في خروج الزرع .. ولا يعتمد على الريح في سير السفينة .. ولا على العين في الرؤية .. ولا على الأذن في سماع الأصوات .. ولا على الطعام في الشبع .. ولا على الدواء في الشفاء. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه .. شكر الكاتب دون القلم. وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب.

فسبحان مسبب الأسباب، الفعال لما يريد، الذي لا تتحرك ذرة إلا بإذنه. فالتوكل هو اعتماد القلب على الوكيل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء يحبها ويطمئن إليها كالشفقة والقوة، والمعرفة والغنى، والهداية والأمانة، وحسن التدبير، وحسن الخلق. وإذا عرفت هذا فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة، واسع الرحمة، عظيم الحلم، جزيل العطاء، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه من الوجوه. وإذا لم يجد العبد هذه الحالة في نفسه فذلك إما لضعف اليقين بإحدى هذه الخصال، وإما لضعف القلب باستيلاء الجبن عليه. فلا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً. وليس معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل والقلب، والسقوط على الأرض، فهذا فعل الجهال، وهو محرم في الشرع. وقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين وأعلن محبته لهم. وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده. وسعي العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب .. أو لحفظ موجود كالادخار .. أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل .. أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض. فحركات العبد لا تعدو هذه الأربعة. فالأول: جلب المنافع، وتجلب إما بأسباب مقطوع بها كالأسباب التي أمر الله بها شرعاً وجعلها سبباً كأن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع فلا تمد يدك إليه، وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، فهذا جنون وسفه محض، ليس من التوكل في شيء.

وكذلك لو لم تزرع وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون وجهل بسنة الله، وليس من التوكل. وإنما التوكل أن تعتمد على الله في كل شيء، وتباشر الأسباب التي أمر الله بها ببدنك. والثاني: أسباب ليست متيقنة كمن يسافر بغير زاد متوكلاً على الله، فهذا مجرب على الله، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به. الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل. الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر، فليس من التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في أرض مسبعة، أو مجرى السيل، أو تحت جدار خراب، فكل ذلك منهي عنه. ولا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال، ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضياً بكل ما يقضي الله عليه. ومتى عرض له أنه إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه فقد بان أن توكله مدخول، وأنه بعيد عن التوكل. الرابع: السعي في إزالة الضرر كمداواة المريض ونحو ذلك. فالسبب المزيل للضرر إما مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا تركه ليس من التوكل في شيء، بل تركه جنون وسفه. وإما أن يكون السبب مظنوناً كالفصد والحجامة، وشرب المسهل ونحو ذلك فهذا لا يناقض التوكل. وقد تداوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالتداوي. وإما أن يكون السبب موهوماً كالكي والرقية زمن العافية لئلا يمرضوا، فهذا ينافي التوكل، وإنما تكون الرقية والكي بعد المرض.

وليس معنى التوكل أن نترك العمل، بل الله عزَّ وجلَّ أمرنا بأمرين: أمرنا أن نعمل .. وأمرنا ألا نعتمد على العمل. أمرنا أن نكتسب، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الرزاق وحده .. وأمرنا أن نتداوى، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الشافي وحده .. وأمرنا أن نعد للعدو ما نستطيع، وأمرنا أن نعتمد عليه وحده .. وأمرنا أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد عليه وحده. فمن أعد وعمل ولم يتوكل عليه سبحانه فقد أخل بأحد الأمرين، ومن توكل ولم يستعد فقد أخل بأحد الأمرين. فلا بدَّ من الإيمان بالله، والإيمان بالأسباب التي بثها الله في الكون، فمن أنكر الأسباب وعطلها كفر، ومن جعل لها تأثيراً أشرك. فالأسباب نؤمن بها ونفعلها، ولكن لا نعتمد إلا على الله وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

14 - فقه الاستعانة

14 - فقه الاستعانة قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. وقال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]. العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. والاستعانة: هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وقد ذكر الله سبحانه الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع أعماله وعباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي. فهو سبحانه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاستعانة بالصبر والصلاة على جميع الأمور. ففي الصبر بجميع أنواعه -وهي الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، في الصبر على ذلك كله- معونة عظيمة على كل أمر من الأمور. وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وعلامته، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يستعان بها على كل أمر من الأمور. وقلب الإنسان يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف وهما: الرياء، والكبر. فدواء مرض الرياء بـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5].

ودواء مرض الكبر بـ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. فإذا عوفي العبد من مرض الرياء بـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ومن مرض الكبرياء والعجب بـ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، ومن مرض الضلال والجهل بـ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، فقد عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد كاليهود الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين، وهم أهل فساد العلم كالنصارى الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه، فهم يعمهون في الضلال. فالذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به وهم المؤمنون. فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كاليهود، وإن اختل قيد العلم فهم الضالون كالنصارى. ولا يمكن للعبد أن يعبد ربه إلا بتوفيقه وعونه، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. فالله وحده خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وإلقاء الداعية في القلب، وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك. والاستعانة هي طلب العون من الله تبارك وتعالى. ويطلب من المخلوق ما يقدر عليه من الأمور. وكل عبد مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، وصلاح العبد في عبادة الله والاستعانة به، ومضرته وهلاكه وفساده في عبادة غير الله والاستعانة بما سواه. والإنسان ضعيف عاجز محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات. فمن حقق الاستعانة بالله في ذلك كله أعانه الله، ومن ترك الاستعانة بالله

واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولاً؛ لأنه عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه جميعاً إلا الله عزَّ وجلَّ. فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المذموم المخذول كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. والاستعانة حال للقلب ينشأ من معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فيوجب للعبد ذلك اعتماداً على ربه، واستعانةً به، وثقةً به، ويقيناً بكفايته. والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله .. والاعتماد عليه. فالعبد قد يثق بالواحد من الناس وهو مع ذلك لا يعتمد عليه لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقثه به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به. والله عزَّ وجلَّ هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، وهو المعبود المستعان في كل أمر كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. والاستعانة جزء من العبادة، والعبادة حق الله الذي أوجبه على عباده، والاستعانة طلب العون على العبادة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم. والاستعانة بالله لها وجهان: أحدهما: أن يسأل الله تعالى من ألطافه ما يقوي دواعيه، ويسهل الفعل عليه. الثاني: أن يطلب باستعانته بقاء كونه قادراً على طاعة ربه مستقبلاً، بأن تجدد له القدرة حالاً بعد حال. والناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام: الأول: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، وهؤلاء أجل الأقسام وأفضلهم.

الثاني: أهل الإعراض عن العبادة والاستعانة بالله، وهؤلاء هم شر البرية. الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة أو باستعانة ناقصة، فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم. الرابع: الذين يشهدون تفرد الله بالنفع والضر، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدوروا مع ما يحبه الله ويرضاه، ومع ذلك توكلوا عليه واستعانوا به على حظوظهم وشهواتهم، فهؤلاء لا عاقبة لهم، وما أعطوه من جنس الملك الظاهر والأموال التي لا تستلزم الإسلام فضلاً عن الولاية والقرب من الله تعالى. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

15 - فقه الذكر

15 - فقه الذكر قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. ذكر الله عزَّ وجلَّ هو قوت القلوب التي متى ما فارقها صارت الأجساد لها قبوراً. وفي كل جارحة من جوارح الإنسان عبودية مؤقتة كالصلاة والصيام والحج، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة. والذكر جلاء القلوب وصقالها ودواؤها، وبه يزول الوقر عن الآذان، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار. زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء. والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده ما لم يغلقه العبد بغفلته. وبالذكر يصرع العبد الشيطان، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بذكره، ونهى عن ضده من الغفلة والنسيان كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205]. وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. فالذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان، والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك بغير اختياره، ولهذا قال سبحانه: {وَلَا تَكُنْ

مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205]. فلم يقل: ولا تكن من الناسين؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه. والذكر من حيث ما يذكر ثلاثة أنواع: ذكر الله وأسمائه وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها .. وذكر الأمر والنهي .. والحلال والحرام .. وذكر الآلاء والنعماء والإحسان. وذكر الله تبارك وتعالى تارة يكون بالقلب واللسان وهو أعلى الدرجات .. وتارة يكون بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية .. وتارة يكون باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة. وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكوراً، كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. والذكر على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الذكر الظاهر ثناءً أو دعاءً أو رعاية، والمراد بالظاهر ما تواطأ عليه القلب واللسان. فذكر الثناء: نحو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وذكر الدعاء: نحو: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. وذكر الرعاية: ما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، وأنسه بالله، وثقته به كما قال سبحانه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فيشعر قلب العبد أن الله معنا، وأنه يرانا، وأنه يسمعنا. فيتولد من ذلك الحياء من الله، والإقبال على طاعته، والبعد عن معصيته، ودوام ذكره وشكره. الدرجة الثانية: الذكر الخفي، وهو الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من

الواردات. ويكون بالتخلص من الغفلة والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب والرب سبحانه، وملازمة الحضور مع المذكور سبحانه، ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه، ولزوم القلب لذكر ربه. تملقاً تارة. وتضرعاً تارة .. وثناءً تارة .. وتعظيماً تارة .. ومحبة تارة .. وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب .. وهذا شأن كل محب وحبيبه. الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق سبحانه إياك، فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي، حيث ذكره فيمن اختصه وأهَّله للقرب منه، ولذكره فجعله ذاكراً له. فهو سبحانه الذي جعل الذاكر ذاكراً، والموحد موحداً، والكافر كافراً، والأبيض أبيض، والقصير قصيراً، فله المنَّة والفضل، والعطاء والمنع، وله كل شيء، وبيده كل شيء، وهو رب كل شيء. وحقيقة ذكر الله هي تركيز اتجاه القلب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت من الأوقات بالذكر والدعاء، وعند الأوامر والنواهي، وسائر الأحوال. فالمسلم يبدأ ذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً .. ثم بقلبه يقيناً واعتقاداً .. ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه. وذكر الله سبحانه هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به سبحانه، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نستحضر عظمته وجلاله، وجماله وكماله، لنطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره. والهدف من ذكر الله: هو إحياء جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والذكر قسمان: فرض .. ونفل.

فكما أن الصلاة والصيام قسمان: فرض ونفل، فكذلك الذكر نوعان: فالذكر الحقيقي: هو الالتزام بأداء جميع الأحكام والعبادات المفروضة في وقتها، والالتزام بجميع الأدعية والأوراد المشروعة طبقاً لما ورد في السنة، وهذا هو الذكر الواجب. يؤدي المسلم ذلك كله معظماً لربه، حامداً له، محباً له، خاشعاً لربه، معتقداً بفضلها، راجياً من ربه الثواب عليها. أما الذكر النفلي: فهو عبارة عن الأذكار المسنونة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي ترسخ حقائق الأوامر الإلهية في القلب، وتنشط الجوارح لأدائها والإكثار منها، والصبر عليها. فالذكر الحقيقي: فرض واجب، ولا يمكن تركه، ولا الزيادة فيه، ولا النقصان منه، ولا التصرف في كيفية أدائه، أو تحديد أوقاته. أما الذكر النفلي: فهو أمر اختياري مسنون، يقوم به العبد المسلم في الأوقات المتبقية من أداء الواجبات والفرائض الشرعية، وذلك حتى يظل المسلم دائم الصلة بربه، وحتى لا يشتغل الإنسان بالأعمال التي لا تعنيه في حياته. إذ أن الشيطان يسعى لإشغال المسلم القائم بأداء واجباته الدينية في أوقات الفراغ باللهو واللعب، واللغو والفواحش، فللبعد عن حملات الشيطان، وهوى النفس وشهواتها، والمحافظة على الرباط الذي يربط المسلم بربه، لتحصل له البركات، لزم الاهتمام بالذكر النفلي. وحتى يصل الإنسان إلى حقيقة الذكر لا بدَّ من أمور: الأول: بذل الجهود الممكنة لفهم القرآن وتدبره، وقراءة ما تيسر منه يومياً إما في آخر الليل، أو قبيل نوافل التهجد. ومن لا يستطيع أن يقرأ فعليه أن يهتم بسماع القرآن من غيره، وعلى القارئ أن يقرأ بتدبر وتفكر ليتأثر قلبه فينشط للإيمان والخشوع والطاعات، معظماً لربه، وكلام مولاه، منفذاً لأحكامه.

ويتيقن أن الله يراه، ويسمع تلاوته، وأنه مطالب بالعمل بما جاء فيها من أحكام بقلبه وجوارحه. الثاني: المحافظة على الأذكار الواردة في السنة يومياً كأذكار الصباح والمساء، وأذكار أدبار الصلوات الخمس، والأذكار المطلقة، مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ونحو ذلك. الثالث: الاهتمام بأداء الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب الأوقات والأحوال المختلفة كدعاء دخول المسجد والخروج منه، ودعاء لبس الثوب، والدعاء عند دخول الحمام، وعند الفراغ من الوضوء، والدعاء عند النوم، وعند الأكل والشرب، وغير ذلك من الأدعية والأذكار المقيدة بتلك الأحوال مما ورد في السنة النبوية الصحيحة. الرابع: أن يتعود الإنسان على ذكر الله دائماً، ويلازم ذكراً خاصاً مما ورد في السنة المطهرة، وهذا التعود يجنب الإنسان اللغو، كما يجعله مستحقاً للثواب والأجر، دائم الصلة بمولاه. ويختار من تلك الأذكار ما يناسب ظروفه وطبيعته، فيكثر مثلاً من (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فله بكل واحدة يقولها شجرة في الجنة. وكذلك يكثر من (لا حول ولا قوة إلا بالله) فهي كنز من كنوز الجنة، وبذلك يصفو ذهنه، ويخشع قلبه، وينشط بدنه لطاعة ربه، ولسانه لذكره، ويسلم من أعدائه. وإنما كانت المعاصي سبباً لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللباس والركوب والجماع؛ لما في مقارنة اسم الله من البركة. وذكر اسمه سبحانه يطرد الشيطان فتحصل البركة. وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به، ومن هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق

بركة العمر والرزق، والعلم والعمل. والذكر ثلاثة أقسام: إما أن يكون باللسان .. أو بالقلب .. أو بالجوارح. فذكر الله باللسان: أن يحمد العبد ربه، ويسبحه، ويكبره، ويثني عليه، ويقرأ كتابه. وذكر الله بالقلب ثلاثة أنواع: أحدها: أن يتفكر العبد في الدلائل الدالة على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله. الثاني: أن يتفكر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فيفعل ما يقربه إلى الله، ويجتنب ما يبعده عنه. الثالث: أن يتفكر في أسرار مخلوقات الله، وما له سبحانه فيها من الحكم. أما ذكر الله بالجوارح: فيكون بأن يستعمل العبد جوارحه كلها في طاعة الله، لتكون جوارحه مستغرقة في الأعمال التي أمره الله بها، وخالية من الأعمال التي نهى الله عنها. وذكر الله معناه: استحضاره، واستحضار عظمته، واستحضار عظمة أوامره، واستحضار عظمة وعده ووعيده في كل حين. فلا يتحرك حركة ولا يعمل عملاً في ليل أو نهار إلا وهو يستحضر ربه ويذكره، وكل عمل خلا عن ذلك فلا روح له، بل هو كالميت. والذكر أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها، فإنها شرعت لتعين العبد على ذكر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا.

وألفاظ الذكر ثلاثة أنواع: فأفضلها ما كان ثناء على الله سبحانه كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4]. وقول المصلي في دعاء الاستفتاح: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). وقوله في الركوع «سبحان ربي العظيم»، وفي السجود «سبحان ربي الأعلى»، ثم يليه ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافاً بما يجب لله عليه، كقوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79]. وقول المصلي في الركوع: «اللَّهُمَّ! لَكَ رَكَعْتُ»، وفي السجود: «اللَّهُمَّ! لَكَ سَجَدْتُ» أخرجه مسلم (¬2). ثم يليه ما كان دعاءً وطلباً من العبد كقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (¬3). والإنسان إذا استعاذ بالله من الشيطان حفظه الله، ووقاه كيده، وإذا ذكر الله وبدأ عمله ذاكراً اسم الله فإنه يشعر أن الله معه يعينه ويسدده، ويشعر أنه بدون الله غير قادر، وأن قوته الذاتية لا تنفعه، وأنه بحاجة إلى عون الله في كل لحظة، وفي كل عمل، ويطرد الغرور عن نفسه. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (775)، صحيح سنن أبي داود رقم (701). وأخرجه الترمذي برقم (243)، صحيح سنن الترمذي رقم (202). (¬2) أخرجه مسلم برقم (771). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).

ومن لا يذكر الله يعمل والغرور يملأ قلبه؛ لأنه يشعر أنه يستطيع أن يحقق ما يريد بقوته الذاتية. فكأنه استغنى عن الله وابتعد عنه، وكيف يستغني العاجز الفقير عن الغني الحميد؟. ومن أعظم المصائب أن يحس الإنسان أنه يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد بذاته ناسياً ربه. فإذا أصابته نعمة من الله نسبها إلى نفسه، وادعى أنه يستطيع الحصول على الرزق بقدرته هو، مستغنياً عن ربه: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)} [الإسراء: 83]. فإذا أنعم الله عليه بنعمة نسبها إلى نفسه، فأعرض عن الله بدلاً من أن يشكره .. لماذا؟. لأنه حقق شيئاً بما أعطاه الله من علم في الأرض، فأوهمه هذا العلم أنه استغنى عن الله، وأنه بذاته يحصل على ما يريد. ولا ريب أن الله بيده كل شيء، والمؤمن دائماً يسأل ربه حاجته، ويستعين به في جميع أموره. فإن نزل المطر شكر ربه .. وإن تأخر المطر رفع يديه إلى السماء طالباً من الله رحمته، هذا حال الإنسان، حتى أنعم الله عليه بشيء من العلم فاستطاع أن يشق الأنهار، ويبني السدود، ويخزن المياه؛ ليستعين بها في وقت الجفاف على حوائجه، فأحس أنه استغنى عن الله فلا يدعو ربه، فهل نسي أن الله هو الذي أنزل الماء الذي ملأ به السد، وحفظه من التسرب والفساد؟. وهكذا أنعم الله على الإنسان بالعلم الذي استطاع به أن يقيم سداً، ليحجب ويحفظ مياه المطر حتى الموسم القادم. وكان الرد أن الإنسان بدلاً من أن يشكر الله على نعمة العلم الذي أتاحه له ليجعل حياته أيسر، فإذا به ينأى عن الله سبحانه وينساه، وينسب العلم إلى نفسه

وإلى قدراته هو، وكأنه استغنى عن الله الذي خلقه، وساق إليه المطر، وأوصله إليه، وأعطاه العلم ليبني السد ويحفظ الماء فيه. وماذا يغني السد لو حبس الله المطر؟. وماذا يغني السد لو ملأه الله بالماء الملح الأجاج الذي لا يقبله نبات، ولا حيوان، ولا إنسان؟. ألا ما أجهل الإنسان .. وما أشد غروره .. كلما زاده الله نعمة ازداد بها غروراً وطغياناً: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. إن الله تبارك وتعالى كلما كشف للبشر من العلم ليعطيهم حياة أيسر وأفضل ابتعد هؤلاء الناس عن الله، وانشغلوا بالمخلوق عن الخالق، وبالنعمة عن المنعم، ونسوا أن الذي أعطاهم السمع والبصر والعقل، هو الذي أعطاهم العلم، وهو الذي أعطاهم النعم. إن العبد كلما ذكر الله كان الله معه يعينه، ويفتح له الطريق، ويحفظه من الشر، ويذلل له العقبات، ويدله على الخير، كما أمر الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أن يذهبا إلى فرعون ذاكرين لله بقوله {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 42 - 44]. فلما قالا: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [طه: 45]. قال الله لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]. والإنسان عندما يعتاد دوام ذكر الله في كل أحيانه، ويذكر الله عند كل عمل، فإنه لا يمكن أن يبدأ بمعصية. فلا يسرف، ولا يزني، ولا يشرب الخمر، ولا يقتل، ولا يسرق. فما دام ذكر الله على لسانه فإنه يمنعه من المعاصي، وهو سد منيع بينه وبين الآثام، ولذلك أمرنا الله بذكره في جميع الأحوال والأوقات. وإذا تعودت ذكر الله في كل عمل استحييت أن تبدأ عملاً يغضب الله؛ لأنك لا

تبدأ باسم الله إلا فيما أجازه الله، أو أباحه الله، أو أوجبه الله. والله سبحانه يريد بالتسمية قبل كل سورة في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) أن يذكرنا دائماً أن ندخل عليه متوكلين عليه، معتمدين على رحمته لا على عملنا، فالإنسان مهما عمل .. ومهما اجتهد .. ومهما بذل وأعطى .. ومهما نصح .. فلا يخلو عمله من شائبة. فإن تكلم فقد ينم ويغتاب .. وإن حكم فقد يظلم .. وإن عمل فقد يقصر، والإنسان خلق ظلوماً جهولاً، وخلق خطاءً، ولولا رحمة الله ما بقيت لنا نعمة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّة» قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). إن الذين يبذلون أقصى جهدهم في طاعة الله لا يصلون إلى مرتبة الكمال، وحسبهم أن يقاربوا، فالكمال لله وحده، والإنسان ظلوم كفار، وإن عمل فهو خطاء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2). والشيطان يريد ويحاول أن يقعد بالإنسان عن الصراط المستقيم، وأن يمنعه من طاعة الله، والنفس تأمره بالسوء. ولذلك كان لا بدَّ من باب الرحمة يدخل منه البشر إلى الله سبحانه، وأن يكون الباب مفتوحاً على مدى الزمن يهرع إليه كل عبد، وكل عاص، وكل تائب. وكم من الكفار والعصاة الذين فتح الله لهم باب رحمته فتابوا إلى الله، فقبل توبتهم، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أئمة هذا الدين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (2816)، واللفظ له. (¬2) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2499)، صحيح سنن الترمذي رقم (2029). وأخرجه ابن ماجه برقم (4251)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3428).

شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته وذكره، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن أطاع فهو من المفلحين، ومن عصى فهو من الخاسرين. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]. وذكر الله ليس باللسان فقط، إنما هو شعور بجلال الله ورقابته، والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، فمن وهبه الله هذا ذاق حلاوة الإيمان، وتلذذ بذكر ربه. والشكر لله درجات تبدأ بالاعتراف بفضله، والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جفان. ومن قصر في الذكر والشكر انتهى به ذلك إلى الكفر والعياذ بالله. ولقد ذكر المسلمون الأوائل ربهم وشكروه فذكرهم ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة، ثم نسوه فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه، لا ذكر لهم في الأرض، ولا في الملأ الأعلى، ولا عند المولى، ومن ذكر الله ذكره، والوسيلة قائمة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. ولكي يؤثر ذكر الله في القلب لا بدَّ عند الذكر من ثلاثة أشياء: أحدها: فراغ القلب من كل شيء سوى الله، كما قال سبحانه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]. الثاني: التبتل وهو الانقطاع إلى الله، والانفصال بالقلب عن الخلائق كما قال سبحانه: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 8].

الثالث: التدبر لما يقول، فإذا قال: سبحان الله، قال: يا الله أنت بريء من كل عيب، وأنا مليء بكل عيب، وإذا قال: الحمد لله، قال أنت العظيم الكريم فلك كل حمد، وأنا لا أستحق الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، قال: أنت معبودي وإلهي وأنا لا أمشي على هواي، وإذا قال: الله أكبر قال: أنت الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وكل ما سواك مخلوق صغير. فبالتدبر يدخل كل هذا في القلب، ويؤثر فيه أعظم من تأثير الطعام في البدن، وبذلك يحصل على كمال الإيمان واليقين والتقوى. فالعبادات والصلوات والأذكار كلها تذكر العبد بربه .. فيزيد إيمانه .. ويحرص على طاعته .. ويجتنب معصيته .. ويرجو رحمته .. ويخاف عذابه .. ويشكره على نعمه .. ويستحي أن يراه على معصيته. ولذلك أمرنا الله بكثرة ذكره وتسبيحه في كل حين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42].

16 - فقه التبتل

16 - فقه التبتل قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 8]. وقال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 98، 99]. التبتل: هو الانقطاع إلى الله بالكلية، والانفصال بالقلب عن الخلائق. والتبتل على أربع درجات: الدرجة الأولى: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفاً منه، أو رغبة فيه، أو فكراً فيه، بحيث يشغل قلبه عن الله. ثم اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له حباً له، وخوفاً منه، ورجاء له، وإنابة إليه، وتوكلاً عليه. والذي يعين على ذلك حسم مادة رجاء الخلق من القلب، والرضا بحكم الله عزَّ وجلَّ، فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع. ويحسم مادة الخوف من الخلق التسليم لله، فإن من سلَّم نفسه لله واستسلم له، علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه نصيب. فإنه قد سلَّم نفسه إلى وليها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، فلا معنى للخوف من غير الله بوجه، وإذا سلَّمها لله فقد أودعها عنده حيث لا تنالها يد عدو، ولا باغ مهما كان. وكذلك يرى كل شيء من الله وبالله، وفي قبضته، وتحت قهره، فلا يتحرك شيء إلا بأمره، ولا يسكن إلا بأمره، ولا يتغير شيء إلا بحوله وقوته، ولا ينفع ولا يضر أحد إلا بإذنه وعلمه. فلا يبالي العبد بما سوى الله بعد هذا الشهود، وبذلك ينقطع عن الخلق، ويتصل بالخالق.

الثانية: الانقطاع عن النفس بمجانبة الهوى، وتنسم روح الأنس بالله عزَّ وجلَّ، فالنفس لا بدَّ لها من التعلق، فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله، فأبصرت جمال وجلال معبودها، وطريقة الوصول إليه، وما أعده من النعيم لأوليائه. وأدركت عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها، فانقطعت لربها ومولاها، الذي هو نعم المولى ونعم النصير. الثالثة: الإعراض عما سوى الله، ولزوم الإقبال عليه، والاشتغال بمحابه، فلما كانت الدرجة الأولى انقطاعاً عن الخلق، والثانية انقطاعاً عن النفس، فالثالثة طلباً للسبق، وذلك بتصحيح الاستقامة بالإقبال على الله، وأن يشغله طلب الوصول إليه عن كل شيء، ويعلم أن قيام الخلق كلهم بالحق وحده، وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير والتصريف. الرابعة: انقطاع العبد عن مراده من ربه إلى مراد ربه منه، فلا يريد منه، بل يريد ما يريده الله منه من عبادته، وطاعته وتوحيده، منقطعاً بذلك عن كل إرادة. فيعبد ربه بما شرع، ويستعين به في جميع أموره، ويوحده بذلك كله، مريداً بذلك وجهه، منقطعاً بذلك عن كل حظ ومراد يزاحم حق ربه ومراده. فالتبتل معناه: الانقطاع إلى الله بالكلية بعيداً عن ملاحظة الأعواض، فالمتبتل ليس كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة، فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر، بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا من أجل الأجرة {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 98، 99].

17 - فقه الصدق

17 - فقه الصدق قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119]. الصدق: الوفاء لله بالعمل، والقول بالحق في مواطن الهلكة. وأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كمال الإخلاص للمرسل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} [الإسراء: 80]. وأخبر عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84]. وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)} [يونس: 2]. وكذلك أخبر الله أن لهم مقعد صدق عند ربهم فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55]. فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق .. ومخرج الصدق .. ولسان الصدق .. وقدم الصدق .. ومقعد الصدق. وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى

الله، وهو ما كان بالله ولله، من الأقوال والأعمال والنيات، ومداخله - صلى الله عليه وسلم - ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته. والصادق لا تراه إلا هارباً من مكان إلى مكان، ومن عمل إلى عمل، ومن حال إلى حال؛ لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها أن تقطعه عن مطلوبه، فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى، الذي يفوق به الأغنياء. والصادق مطلوبه رضى ربه، وتنفيذ أوامره، وتتبع محابه، فهو متقلب فيها يسير معها حيث سارت، فبينما هو في صلاة، إذ رأيته في ذكر، ثم في غزو، ثم في حج، ثم في إحسان إلى الخلق، ثم في أمر بالمعروف، ثم في نهي عن منكر، أو في عيادة مريض، أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم .. أو غير ذلك من القرب والطاعات وأعمال البر المختلفة. والصدق يطلق على معان كثيرة: منها الصدق في القول، فلا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها. وينبغي للعبد أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه، فإن كان قلبه منصرفاً عن الله، مشغولاً بالدنيا، فهو كاذب. ومنها الصدق في النية والإرادة، وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن فقد ذلك بطل صدق النية. ومنها الصدق في العزم والوفاء به كأن يقول: إن آتاني الله مالاً تصدقت به ونحوه. ومنها الصدق في الأعمال، وهو أن تستوي سريرته وعلانيته في جميع أعماله. ومنها الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء، والزهد والحب، والتوكل على الله ونحو ذلك. وكل من عامل الله بالصدق استأنس به، واستوحش من الخلق.

ومن علامات الصدق: كتمان الطاعات والمصائب جميعاً .. وكراهة اطلاع الخلق على ذلك. ومقام الصديقين مقام رفيع، ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراده، وليس وقفاً على أفراد، ولا على طائفة، فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله فله حظ في هذا المقام الرفيع: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]. ألا ما أجمل هذا الدين وما أحسنه؟. إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم، وليس إلا العمل الصالح المبني على التقوى، فهو الذي يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه (¬1). والصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم القوية، ولذلك صار موصلاً إلى الجنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ، يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831)، واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (2607).

والصدق على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: صدق القصد، وهو كمال العزم وقوة الإرادة، بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك، وبه يتلافى كل تفريط، فلا يترك فرصة تفوته، وما فاته يتداركه بحسب الإمكان. فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة، ويعمر فيه ما خربته يد البطالة، ويقلع ما وجده شوكاً، ويزرع منه ما وجده بوراً. قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه، وابتعد عن صحبة أهل الغفلة وقطاع الطريق إلى الله، فإن اضطر لصحبتهم صحبهم بقالبه لا بقلبه؛ لئلا يفسدوا عليه حاله. الدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فهو لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه، ويقوم بعبوديته لا لعلة من علل الدنيا وشهواتها، ولا يرى نفسه إلا مقصراً قليل الزاد. فمن عرف نفسه وعرف ربه لم ير نفسه إلا بعين النقصان والتقصير، ويعمل على رضا محبوبه والتقلب في محابه، فإن كانت الرخص أحب إليه من العزائم كالفطر في السفر فعلها، فهو يستعد بهذه الرخصة لعبودية أخرى. أما الرخص التأويلية، والآراء الشاذة، والأقوال التي تصيب وتخطئ، فالأخذ بها عين البطالة وهو مناف للصدق. الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق، فإن العبد إذا صدق الله رضي الله بعمله وحاله ويقينه؛ لأنه قد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً. فرضي الله به عبداً، ورضي بأقواله وأعماله القائمة على الإخلاص والمتابعة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ

رَبَّهُ (8)} [البينة: 7، 8]. والصدِّيق كثير الصدق، الذي لم يصدر منه الكذب أصلاً، الذي صدق بقوله واعتقاده وأعماله كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41]. والصديقون قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ودرجتهم تلي درجة النبيين. والصدق هو الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من الهالكين، وبه تميز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكان الجنان من سكان النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضِع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أزاله وصرعه، وهو روح الأعمال ولبها. والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر. وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق كما قال سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} [الأحزاب: 24]. وأخبر سبحانه أنه لا ينفع العبد ولا ينجيه من عذابه يوم القيامة إلا الصدق كما قال سبحانه: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119].

18 - فقه التقوى

18 - فقه التقوى قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3]. تقوى الله تبارك وتعالى أكرم ما أسررنا، وأزين ما أظهرنا، وأفضل ما ادخرنا، وأحسن ما لبسنا. والخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من يستوي عنده السر والعلانية. وتقوى الله عزَّ وجلَّ: أن تفعل ما أمرك الله به رجاء ثوابه، وأن تترك ما نهاك عنه خوفاً من عقابه. وحق تقاته: أن لا يترك المسلم شيئاً مما أمر الله به إلا فعله، وأن يجتنب كل ما نهى الله عنه. فيطيع ربه ولا يعصيه .. ويذكره ولا ينساه .. ويشكره ولا يكفره .. ويؤمن به ويتوكل عليه. وقد أمر الله عباده المؤمنين بالتقوى؛ لأنهم هم الذين يعرفون ما يستحقه سبحانه من التعظيم والإجلال والتوقير، وكمال المحبة والطاعة والذل للرب سبحانه فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. ولكن أحداً لا يستطيع أن يقوم بكمال التقوى، فمن رحمة الله أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا فعل الإنسان ما يستطيع مما أمر الله ورسوله به، وترك ما نهى الله ورسوله عنه، فقد اتقى الله حق تقاته كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ

وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. والتقوى تقوم على أصول عظيمة، ولها دلائل وشواهد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والأعمال الصالحة التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره، والأخلاق الحسنة التي هي جمال الإنسان، فمن اتصف بهذه الصفات فهو من الأبرار الصادقين المتقين كما قال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177]. والتقوى: هي التحلية بعد التخلية، والتزين بعد التطهر بفعل الطاعات بعد التخلي عن السيئات. والتحلية فعل الحسنات إما بالقلب، أو القالب، أو المال. فرأس الأعمال القلبية الإيمان، والجامعة للأعمال البدنية هي الصلاة التي هي عماد الدين، وقطب الأعمال المالية هي الزكاة والصدقات كما قال سبحانه: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 1 - 3]. والتقوى وصية الله للأولين والآخرين كما أخبر الله بذلك بقوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)} [النساء: 131]. وتقوى الله عزَّ وجلَّ هي أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك،

وأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. والتقوى قسمان: تقوى القلوب .. وتقوى الجوارح. والأصل تقوى القلوب، وتقوى الجوارح من لوازم تقوى القلوب، وهي ثمرة تقوى القلوب، فالتقوى في الحقيقة في القلب كما قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. وتقوى الجوارح لا قيمة لها ولا وزن بدون تقوى القلوب. والله سبحانه أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحد منهما إلا بصاحبه وقرينه، والإسلام علانية، والإيمان في القلب. وكل إسلام ظاهر لا يقوم على حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه إيمان باطن. وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت. فلو تمزق القلب بالمحبة لله، والخوف منه، والتعظيم له، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار. كما أنه لو قام بظواهر الإسلام، وليس في باطنه حقيقة الإيمان، لم ينجه ذلك من النار: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وأكمل الهدي في الإسلام والإيمان والإحسان وفي كل شيء هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان موفياً كل واحد حقه، فكان مع كمال تقواه وإرادته يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويحج ويعتمر، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، ويكرم الضيوف، ويواسي

المحتاجين، ويخالط أصحابه، ويؤدي الفرائض، ولا يترك شيئاً من النوافل والأذكار والأوراد. وإذا عرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان: الأول: من صرف ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها، وإن لم يكونوا خالين من أصلها، ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال الصالحة. الثاني: من صرف ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم، وعكوفها على الله وحده، والجمعية عليه، وحفظ الخواطر والإرادات معه. وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة للرب، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتعظيم والحمد، ورأوا أن أيسر الواردات على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية. فإذا حصل لأحدهم وارد أنس، أو حب، أو انكسار، أو ذل، لم يستبدل به شيئاً سواه البتة، إلا أن يجيء الأمر الواجب فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد؛ فإذا جاءت النوافل فإن أمكن القيام إليها فذاك، وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله: هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف، وإرشاد الضال، وجبر المكسور، واستفادة إيمان ونحو ذلك. فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة. ومتى قدمها لله وتقرباً إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان. وإذا كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه، فإنه يفوت والنافلة لا تفوت. وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق، ومراتب الأعمال، وتقديم الأهم

فالمهم و «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين» متفق عليه (¬1). وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مصالح الدنيا والآخرة في قوله: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» أخرجه ابن ماجه (¬2). فنعيم الآخرة ولذاتها إنما ينال بتقوى الله عزَّ وجلَّ. وراحة القلب والبدن، والسلامة من التعب والكد في طلب الدنيا، إنما ينال بالإجمال في الطلب. فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة .. ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها. وتقوى الله عزَّ وجلَّ تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، ولهذا أمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» أخرجه أحمد والترمذي (¬3). فتقوى الله توجب للعبد محبة الله له، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، والتقصير في فعل الطاعات، أو فعل السيئات، يمحوه اتباع ذلك بفعل الحسنات. والعبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، وأقرب الوسائل إلى الله ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، والتضرع إليه، وإرادة وجهه وحده بالنيات والأقوال والأعمال. ومن أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره وإجلاله وتقواه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037). (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743). انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607). (¬3) حسن: أخرجه أحمد برقم (21354). وأخرجه الترمذي برقم (1987)، صحيح سنن الترمذي رقم (1618).

ومن السفاهة والجهل أن توقر المخلوق وتجله أن يراك، في حال لا توقر الله أن يراك عليها، وهذا من أعظم الجهل، فمن لم يعرف الله لم يوقره كما قال سبحانه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13]. ولا بدَّ لكل إنسان من أمرين: أحدهما: طاعة الله ورسوله، بفعل المأمور وترك المحظور. الثاني: الصبر على ما يصيبه من القضاء المقدور. فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر، وقد جمعهما الله في قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} [يوسف: 90]. وقد خلق الله في كل نفس ثلاث قوى: قوة البذل والإعطاء .. وقوة الكف والامتناع .. وقوة الإدراك والفهم. فمن وفقه الله للإيمان وهداه استعملها فيما يحب الله، ويسره لكل يسرى في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7]. ومن خذله ولم يرد له الهداية استعملها فيما يبغض الله، فنال بسبب ذلك العقوبة كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 8 - 10]. وأبواب البركات تفتح مع كمال الإيمان، وكمال التقوى كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. والبركات الإلهية لا يحصيها إلا الله .. ومنها البركة في العمر .. والبركة في الرزق .. والبركة في الوقت .. والبركة في الأهل والأولاد .. والبركة في الأموال .. والبركة في الأعمال. ومنها قضاء الحاجات بدون الأسباب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

ومنها حصول الأموال بدون جهد، وحصول الأشياء بدون تعب، وحصول الأرزاق مباشرة من الرب، كما قال الله عن مريم: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]. والآن أغلقت أبواب البركات، وحرم منها أكثر المسلمين، بسبب ضعف الإيمان، ونقص التقوى. نسينا الله فنزع منا كل شيء، والذي لم ينزع ذهبت بركته. نزع منا حب كلام الله، وحب كلام رسوله، وحب عبادة الله، وحب طاعته، وحب أوليائه، وحب أوامره، وحب دينه. فارتفعت الخيرات والبركات؛ لكثرة المعاصي والمخالفات. وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وقيمة كل شيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات. وكذلك قيمة الإنسان ترتفع عند الله بقدر ما فيه من الصفات الإيمانية، وبقدر ما يقوم به من الأعمال الصالحة، وما يتحلى به من الأخلاق العالية. وبنو آدم كثيرون لا يحصيهم إلا الله، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأكملهم وأفضلهم وهم المؤمنون. فهؤلاء خير الناس، وأفضل الناس، وأكرم الناس، وأغلى الناس، والسلعة إذا خفي عليك قدرها، فانظر المشتري لها من هو؟. وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع؟ فالسلعة: النفس المؤمنة، والمشتري لها: هو الله سبحانه، وثمنها: جنات النعيم. والسفير في هذا العقد: خير خلقه من الملائكة وأكرمهم وهو جبريل، وخير خلقه من البشر وأكرمهم عليه وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد أعلن الله هذا العقد للبشرية كافة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ

وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. وقد أوجب الله على كل عبد واجبين: واجب بينه وبين الله .. وواجب بينه وبين الخلق. فأما الواجب بينه وبين الله سبحانه فهو الإيمان به، وعبادته وحده، وإيثار طاعته، وتجنب معصيته، وكمال تقواه. وأما الواجب بينه وبين الخلق فهو أن تكون مخالطته لهم تعاوناً على البر والتقوى علماً وعملاً، لا تعاوناً على الإثم والعدوان كما قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2]. والبر: كلمة جامعة لجميع أنواع الخير. والإثم: كلمة جامعة لجميع أنواع الشر التي تهلك الإنسان. وكل عمل لا يكون طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض، لا العادة ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب. والإثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى في جانب الأمر. والفرق بين الإثم والعدوان: أن الإثم ما كان محرم الجنس كالزنى والسرقة والكذب ونحو ذلك. والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة، بأن يتعدى ما أبيح له منه إلى القدر المحرم، كما إذا أُتلف عليه شيئاً أَتلف أضعافه، أو كأن يتزوج خامسة، أو يطأ امرأته في حيضها أو نفاسها أو دبرها، أو اعتدى في الدعاء، أو زاد ركعة في الصلاة، أو أخذ أكثر من حقه ونحو ذلك.

والتقوى باعتبار ما يتقيه الإنسان ثلاثة أقسام: فتارة تضاف إلى الله؛ لأنه أعظم من يتقى ويُخاف ويُرجى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. وتارة تضاف إلى مكان عقوبة الله كالنار كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران: 131]. وتارة تضاف إلى زمان عقاب الله كيوم القيامة كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. ومعية الله ونصرته تكون معنا في الأحوال الآتية: الأولى: حين تأتي فينا الصفات التي يحبها الله من الإيمان، والتقوى، والإحسان ونحوها كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. الثانية: حين نمتثل أوامر الله ونطيعه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)} [المائدة: 12]. الثالثة: حين نقوم بالدعوة إلى الله، ونضحي بما نملك من أجل إعلاء كلمة الله، ونشر دينه كما قال الله لموسى وهارون حين ذهبا لدعوة فرعون إلى الله: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]. والله سبحانه أنزل للبشر لباسين: لباساً ظاهراً يواري العورة ويسترها. ولباساً باطناً من التقوى يجمل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت

عورته الباطنة كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها. واللباس وستر العورة زينة للإنسان، وستر لعوراته الجسدية، كما أن التقوى لباس، وستر لعوراته النفسية كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف: 26]. والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها. والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله، ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم لتأصيل هذه المحاولة، هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته .. ونزع زينته الداخلية والخارجية .. والتي صار بها إنساناً .. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان .. ليتولى كشف سوأته. إن العري فطرة حيوانية، ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من رتبة الإنسان، وإن رؤية العري جمالاً هو كرؤية الكفر فلاحاً، وذلك انتكاس في الذوق، والعقل البشري قطعاً، والعري النفسي من الحياء والتقوى، وهو ما تجتهد فيه أقلام وأفلام أهل الباطل هو النكسة والردة إلى الجاهلية. والتزود في السفر شأن العقلاء، فإن فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن سؤالهم أموالهم، وفي الإكثار منه نفعٌ وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين هذا في سفر الدنيا. وأما الزاد الحقيقي فهو زاد التقوى، الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجلّ نعيم دائم أبداً كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]. وأهل الإيمان والتقوى هم الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ

آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64]. وماذا أعد الله للمتقين في الآخرة؟ وماذا ينتظرهم من النعيم المقيم؟ فلنسأل القرآن لنعلم ماذا أعد الله لعباده المتقين: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرعد: 35]. وقال سبحانه {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]. وقال سبحانه: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} [الزمر: 20]. وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. وقال سبحانه: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. وقال سبحانه: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 49 - 54]. وقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ

مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55]. وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 15 - 19]. وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)} [النبأ: 31 - 36]. فسبحان الله! ماذا أعد الله من النعيم للمتقين؟ وماذا هيأ لهم من الكرامات والبشائر؟ والحبور والسرور؟ وألوان الطعام والشراب وفاخر الدور؟ والغرف والقصور؟ وأما في الدنيا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [الطلاق: 4، 5]. وماذا على المسلم إذا علم ما أعد الله لأهل التقوى من جزيل الأجر والثواب؟ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 69 - 71]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28]. والله حكيم عليم خلق كل شيء بحكمة، وخلق كل شيء لمقصد وحكمة، فخلق سبحانه الشمس للإنارة .. وخلق الماء للشرب .. وخلق النبات والحيوان لخدمة الإنسان .. وخلق الإنس والجن للعبادة. والإنسان صنع السيارة للنقل .. والقلم للكتابة .. وهكذا. وكل شيء يؤدي وظيفته والمقصد منه، فهو محترم مكرم محبوب، غال عند أهله، فإذا ترك المقصد، أو تعطل عن العمل، ذهبت قيمته، وزهد فيه أهله. وكذلك الإنسان خلقه الله لعبادته، وأمره بالإيمان والتقوى، فإذا ترك المقصد منه وهو العبادة، صار لا قيمة له في الدنيا والآخرة، وهو محاسب على ترك المقصد الانفرادي وهو العبادة، وترك المقصد الاجتماعي وهو الدعوة إلى الله، وإلى دينه. وعمل هذه الأمة عمل الأنبياء، ووظيفتها وظيفة الأنبياء، إيمان وتقوى، وعبادة، ودعوة، تعلم وتعليم، وجهاد وصبر: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33].

19 - فقه الغنى

19 - فقه الغنى قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وقال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. الغنى: اسم للملك التام، فالمالك من وجه دون وجه ليس بغني، وعلى هذا لا يستحق اسم الغني بالحقيقة إلا الله وحده، وكل ما سواه فقير إليه بالذات. ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم. والغنى في الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق. وكما أن كون الإنسان مخلوقاً أمر ذاتي له، فكونه فقيراً أمر ذاتي له، وغناه أمر نسبي عارض له، فإنه قد استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به، فقير إليه. ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته، وهو الله الغني بذاته عما سواه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وغنى البشر قسمان: غنى عال .. وغنى سافل. فالغنى السافل هو الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والأموال، والأنعام، والحرث والزرع، والعقار والمراكب ونحو ذلك. وهذا أضعف الغنى، فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع إلى مالكها سبحانه عن قريب.

ولا أضعف من همة مَنْ رضي بهذا الغنى الزائل، وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، ولا أحب إلى الشيطان ولا أبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى، والخوف من فقده. فجدير بمن نصح نفسه أن لا يغتر به، ولا يجعله غاية مراده، بل إذا حصل له جعله سبباً لكسب الأجور، ووسيلة لغناه الأكبر، ويجعله خادماً من خدمه لا خادماً له، ويعز نفسه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 66]. أما الغنى العالي، فإن العبد إنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته، ويدفع حاجته، وهو نوعان: غنى بالله .. وغنى عن غير الله. وفي قلب الإنسان فاقة عظيمة، وضرورة تامة، وحاجة شديدة، لا يسدها إلا بحصول الغني الحميد، الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء. ومن استغنى به سبحانه عما سواه زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور وفرح. والغنى على ثلاث درجات: الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، فيتعلق بالله وحده، وإذا تعلق به تخلص من التعلق بغيره. والغنى عند أهل الغفلة بالسبب والأشياء، ولذلك قلوبهم معلقة به، وصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها. وغنى العارفين بالمسبب سبحانه، فمن كان سكونه إلى ربه فهو غني به، وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه. الثانية: غنى النفس، فالنفس من جند القلب ورعيته، وهي من أشد جنده خلافاً عليه وشقاقاً له، وغناها تماماً لغناه، ويكون ذلك باستقامتها على المرغوب وهو الحق سبحانه باستدامة طلبه، وقطع المنازل بالسير إليه، وسلامتها من التعلق

بغير الله، وبراءتها من المراءاة، وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها. فمراداتها دليل على شدة فقرها، وعدم استقامتها على مطلوبها الحق. وذلك يدل على أنها غير واجدة لله، إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه، ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره، ولمََا أرادت بعملها غيره. الثالثة: الغنى بالحق، وذلك يكون بشهود ذكره إياك، ومطالعة سبقه للأشياء جميعاً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والفوز بوجوده، فهو الموجود بذاته، والغني بذاته، وجميع المخلوقات في العالم العلوي والسفلي هو الذي كساها حلة الوجود، فهي معدومة بالذات، فقيرة إليه بالذات، وهو سبحانه الغني بذاته: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]. والقلب لما كان هو الملك، فصلاحه صلاح لجميع رعيته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). فالقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه، وعطاياه السنية من الإيمان والتوحيد، والمعرفة والعبودية، والطاعة والاستقامة، خلع على الأمراء والرعية خلعاً تناسبها، تأنس بها وتسعد بها: فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة، والرضا والإخبات، فأدت الحقوق سمحة بانشراح ورضى، وجانست القلب ووافقته، وصارت وزير صدق، بعد أن كانت عدوة له معاندة له. وأثمرت هذه المؤازرة والموافقة الطمأنينة واللذة. وسلاح النفس كامن متوارٍ، لولا قوة سلطان القلب وقهره لها لحاربت بكل سلاح تملكه. وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار والانقياد، وخلع على الوجه خلعة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، واللفظ له، ومسلم برقم (1599).

المهابة والنور والبهاء .. ، وخلع على اللسان خلعة الصدق، والقول السديد والحكمة النافعة .. ، وخلع على العين خلعة الاعتبار في النظر، والغض عن المحارم .. ، وخلع على الأذن خلعة استماع النصيحة، واستماع القول النافع من كلام الله ورسوله .. ، وخلع على اليدين والرجلين خلعة المسابقة والمسارعة إلى الخيرات والطاعات .. ، وخلع على الفرج خلعة العفة عما حرم الله .. وهكذا. فلا ترى هذا العبد إلا يغدو ويروح يرفل في هذه الخلع والحلل. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس فذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض. وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر، وطلبها الرفيق الأعلى، فحينئذٍ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق. مؤدية لحقوقه .. قائمة بأوامره .. راضية عنه .. مرضية له. {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. فغنى القلب سلامته من الفقر إلى السبب، وشهوده والاعتماد عليه، والركون إليه والثقة به. فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط. ومتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن منازعته لأحكام الله، ومن علة مخاصمة الخلق إلا في حقوق ربه استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً أمره إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ

إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه (¬1). وأما غنى النفس فهو استقامتها على المرغوب، وهو أمر الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله سبحانه، وتعظيماً لأمره، وإيماناً به، واحتساباً لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلباً لتعظيم المخلوقين ومدحهم له، أو هرباً من ذمهم، أو طلباً للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل الفقر إلى المخلوق لا إلى الله. أما الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه فهي أعلى درجات الغنى، وأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عزَّ وجلَّ إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر سبحانه خلقك ورزقك وعملك، وإحسانه إليك، ونعمه عليك، حيث لم تكن شيئاً البتة. وذكرك جلَّ جلاله بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، فجعلك أهلاً لما لم تكن له أهلاً قطّ، وإنما هو الذي أهَّلَك بسابق ذكره، وهو الذي أيقظك وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام. ومن الذي وفقك للتوبة وقبلها منك فذقت حلاوتها؟. ومن الذي وفقك لمحبته وعمر قلبك بمحبته فأنست به بعد الوحشة؟ ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة، ذكرك بها قبل وجودك، وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده. إذ هو الجواد المحسن، المحسن لذاته لا لمعاوضة، ولا لطلب جزاء منك، ولا لحاجة دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟. فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك؛ لذكره لك ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120)، واللفظ له، ومسلم برقم (769).

بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبب إليك بنعمته. هذا كله مع غناه عنك، فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء. أما الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عزَّ وجلَّ فهي دوام شهود أوليته سبحانه، وهذه أعلى مما قبلها. فالله عزَّ وجلَّ إذا فتح قلب عبده فشهد أوليته سبحانه، حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عما سواه. الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويمجده ويعبده، فهو معبود محمود، حي قيوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال. فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه، فسائر الموجودات كلها سواه سبحانه أفنتها أولية الحق سبحانه، وكل صفة من صفات الرب سبحانه يستغنى العبد بها بقدر حظه من معرفتها، وقيامه بعبوديتها. فمن شهد مشهد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتوفيته لعباده، وتعبد بمقتضى هذه الصفات، يعرج قلبه إلى الصمد مناجياً له، مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز الجبار. فيشعر بأن كلامه وعمله صاعدان إليه، معروضان عليه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك. ويشهد نزول الأوامر والمراسم الإلهية إلى أقطار العالم كل وقت بأنواع التدبير والتصريف: من الإحياء والإماتة .. والتولية والعزل .. والخفض والرفع .. والعطاء والمنع .. والإكرام والإهانة .. والغنى والفقر .. والصحة والمرض .. وتقلب الدول .. ومداولة الأيام بين الناس .. إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا

يتصرف فيها سواه، فهو الذي: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 5، 6]. والمسلم إذا أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك إذا شهد العبد مشهد علم الله المحيط، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في أعماق البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط علمه سبحانه بكل شيء في الكون، وعلمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود، من مراقبته لنفسه، وحراسة خواطره وألفاظه، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن جميع حركاته الظاهرة والباطنة، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لربه علانية، بادية لا يخفى على الله منها شيء. وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله سبحانه سماع صوت من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع من سمع في كل زمان ومكان. ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة كما قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28]. فإذا استشعر ذلك، وتعبد بمقتضى هذا الشعور بذكر ربه والثناء عليه، وتعظيمه وإجلاله، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وجوارحه، استغنى بذلك عما سواه سبحانه. وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير، الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه في العالم العلوي والسفلي. وكذلك إذا شهد مشهد قيومية الرب تعالى، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على

كل نفس، وأنه تعالى القائم بنفسه، المقيم لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره. وأنه سبحانه بكمال قيوميته لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قادر على كل شيء. فهذا المشهد العظيم مشهد الربوبية الذي يدركه كل إنسان. وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم، وهو شهادة أن (لا إله إلا الله)، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه باطل ومحال. فلا أحد سواه سبحانه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية التعظيم مع نهاية الذل له إلا هو سبحانه. وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو عزَّ وجلَّ المستحق للطاعة التامة وحده، والمعبود وحده، وله الخلق والأمر وحده، وله الحكم وحده، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى عنه سبحانه فقر وفاقة، وكل عزٍّ بغيره ذلٌّ وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة. فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره، فكذلك يستحيل أن يكون لهم إله غيره. فهو الذي انتهت إليه الرغبات والمخلوقات، وتوجهت نحوه الطلبات والسؤالات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فهو الغني الصمد بذاته، الذي حاجة كل أحد إليه، ولا حاجة به إلى أحد. وتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره؛ لصحة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطر لها كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. والدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده، وهذا الغنى أعلى درجات الغنى. لأنه غنى بالحق سبحانه، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده، يعرف بذلك النور عظمة الذات كما يعرف عظمة الصفات، ويميز به بين الحي الذي يموت ويفنى، والحي الباقي الذي لا يزول ولا يفنى، فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم. فيا له من فقر ينقضي، ومن غنى يدوم، ومن عيش لذيذ. ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين؛ لأنه قد قرت عينه بالله، والفوز بوجوده، فيناجيه ويعبده كأنه يراه، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة» أخرجه ابن ماجه (¬1). وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه، فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟. فالفقر الحقيقي: الافتقار إلى الله في جميع الأحوال، والاستغناء به في جميع الأحوال، وأحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه في جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال. وحاجات هذا العبد الفقير إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات، وطلبها ممن يملكها بطريقها الصحيح، فهو عامل على ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (4105)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3313). انظر السلسلة الصحيحة رقم (950).

مراد الله منه، لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله، قد خلص بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله. وقد نزه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الفقر الذي يسوغ أخذ الصدقة بقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 - 8]. وعوضه سبحانه عما نزهه عنه بأشرف المال وأجله وأفضله، وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله، الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً كما قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. فالله عزَّ وجلَّ خلق المال ليستعان به على طاعته ونفع عباده، وهو بأيدي الكفار ظلماً وعدواناً. فإذا فاء ورجع إلى أولياء الله وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم. ولكن لم يكن غنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وملكه من جنس غنى بني الدنيا وأملاكهم، فإن غناهم بالشيء، وغناه - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء وهو الغنى العالي. وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بإذن سيده كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأنَا الْقَاسِمُ، وَلا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» متفق عليه (¬1). وذلك لكمال مرتبة عبوديته، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عزَّ وجلَّ، والعبد لا مال له فيورث عنه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3116)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).

وقد جمع الله عزَّ وجلَّ له بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، وأكمل له بذلك مراتب الكمال، فكان في فقره أصبر خلق الله، وأشكرهم له، وكذلك في غناه. وقد جعله الله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، وعرض عليه أن يجعل له جبل الصفا ذهباً فلم يقبله، وخير بين أن يكون ملكاً نبياً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً. ومع هذا جبيت إليه أموال جزيرة العرب وغنائم حنين، فأنفقها كلها، ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمل عيال المسلمين وديونهم فقال: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه (¬1). فرفع الله سبحانه قدر نبيه أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين أغناهم بالأموال المكتسبة والموروثة، بل أغناه به عما سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسع عليه غاية السعة. فأنفق - صلى الله عليه وسلم - غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، ولا استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقاراً ولا أرضاً، ولا ترك شاة، ولا بعيراً، ولا عبداً، ولا ديناراً ولا درهماً. فصلوات الله وسلامه عليه، فقد أكمل مرتبتي الغنى والفقر، وأوفاهما حقهما وعبوديتهما، وقد أغنى الله به الفقراء، وأعز به الأذلاء. فما نالت أمته الغنى والعز إلا بسببه، وأغنى الناس من صار غيره به غنياً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وأعظم ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ربه كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي هو هدى للناس، وموعظة للقلوب، وشفاء لما في الصدور ورحمة للعالمين كما قال ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2398) واللفظ له، ومسلم برقم (1619).

سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 57، 58]. فالقرآن العظيم شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني. وفي القرآن الكريم من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت عند الإنسان الرغبة في الخير والرهبة من الشر أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوات نفسه. وفي القرآن الحكيم من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبيَّنها أحسن بيان ما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده. والقرآن المجيد هدى للناس، ورحمة للعالمين، والهدى هو العلم بالحق، والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به، فالهدى أجلّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يُهتدى به ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين. وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور، وحصل الغنى التام للقلب ولذلك أمر الله عباده بالفرح بذلك فقال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين أعظم نعمة ينعم بها الإنسان على الإطلاق، ولا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل.

20 - فقه الفقر

20 - فقه الفقر قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. وقال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. الفقر: عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه. وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير إليه بالذات والصفات؛ لأنه محتاج إلى الله في وجوده، وفي بقائه، وفي حركاته وسكناته، وفي سائر حوائجه. وفقر العبد إلى ربه بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأن حاجاته لا حصر لها، فالله عزَّ وجلَّ غني بالذات، والخلق كلهم فقراء إليه بالذات. وقد نادى الله جميع الناس وأخبرهم بحالهم، ووصفهم بأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه. فقراء في إيجادهم .. فلولا خلق الله لهم لم يوجدوا. وفقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، فلولا إعداد الله إياهم بها لما استعدوا لأي عمل كان. وفقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة .. فلولا فضل الله وإحسانه وتيسيره الأمور لما حصل لهم من الأرزاق والنعم شيء. وفقراء إلى الله في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير. وفقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم .. فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا. وفقراء إلى ربهم في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم؛ لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.

وفقراء إلى ربهم في تألههم له، وحبهم له، وعبادتهم إياه، وإخلاص العبادة له .. فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم. فهم الفقراء بالذات إلى ربهم بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أو لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع إليه سبحانه أن يعينه على جميع أموره، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها. الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وغناه تام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن غناه أنه أغنى الخلق كلهم في الدنيا والآخرة. وهو سبحانه الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها عليا، وأفعاله كلها فضل وإحسان، وعدل وحكمة ورحمة، فهو الحميد في ذاته، الحميد في أسمائه وصفاته، الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، الحميد في غناه. فهذا الفقر العام المطلق، أما الفقر من المال فالعاقل يرى أن الأموال والأشياء كلها في خزائن الله تعالى لا في يد نفسه، فلا يفرق بين أن تكون بيده أو بيد غيره، وكل رزق في الكون فهو من رزقه. وللفقير إلى الله آداب في باطنه وظاهره .. وآداب في مخالطته .. وآداب في أفعاله. فأما أدب باطنه، فأن لا يكون فيه كراهة لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر، فالله أعلم بما يصلح له، وإن كان كارهاً للفقر، فهذا أقل درجاته وهو واجب، وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به، وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به، لعلمه بغوائل الغنى، كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ

اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. وأما أدب ظاهره فأن يظهر التعفف والتجمل، ولا يظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره، مستغنياً بربه مفتقراً إليه وحده، فهؤلاء الفقراء الأغنياء: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وأما في أعماله فأن لا يتواضع لغني لأجل غناه، فهذه رتبة، وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء، ولا يرغب في مجالسهم؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع وهو مذموم. وأما أدبه في أفعاله فينبغي له أن لا يفتر بسبب الفقر عن العبادة، ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عن حاجته، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر مما يبذل عن ظهر غنى. والسؤال محرم في الأصل، وإنما يباح لضرورة أو حاجة مهمة. وإنما حرمه الشرع؛ لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: أنه إظهار لشكوى الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه، وهو عين الشكوى لله. وكما أن العبد المملوك لو سأل غير سيده لكان سؤاله تشنيعاً على سيده، فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى، فهو محرم لا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة للمضطر. الثاني: أنه فيه إذلال للسائل نفسه لغير الله تعالى، وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، بل عليه أن يذل نفسه لمولاه، فأما الخلق فإنهم عباد أمثاله، فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة، وفي السؤال ذل للسائل، وظلم للمسئول من الخلق. الثالث: أن السؤال لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً؛ لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب نفس، فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ، وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع.

ففي المنع نقصان جاهه، وفي البذل نقصان ماله، وكلاهما مؤذيان، والسائل هو السبب في الإيذاء، وأذى المسلم محرم. والفقراء أربعة: فقير لا يسأل، وإن أعطي لا يأخذ، فهذا بأرفع المنازل. وفقير لا يسأل، وإن أعطي أخذ، فهذا دونه. وفقير يسأل عند الحاجة، فهذا دونه .. وهؤلاء كلهم محمودون. وفقير يسأل من غير حاجة وضرورة، فهذا مذموم، وصاحبه مأزور غير مأجور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَألَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِر» أخرجه مسلم (¬1). وحب الدنيا رأس كل خطيئة، ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد، ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها، ويسمى ذلك زهداً. ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادة. والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى. والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وكم من غني شغله غناه عن ربه؟ وعن تنفيذ أوامره؟ وكم من فقير شغله فقره عن ربه، وعن امتثال أوامره؟ وصرفه عن حب الله والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، والدنيا معشوقة الغافلين. فالمحروم منها مشغول بطلبها .. والقادر عليها مشغول بحفظها وجمعها والتمتع بها، وتنميتها والاستكثار منها. والفقير عن الخطر أبعد، وفراق المحبوب شديد، فإذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بعد الموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه. وكل من فارق محبوباً كان أذاه في فراقه بقدر حبه له وأنسه به، فعلى العاقل أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1041).

يحب من لا يفارقه وهو الله تعالى، ويزهد في الدنيا التي إن لم تفارقه هي فارقها هو، فهو دائم الخوف والحسرة عليها. وأما آداب الفقير في قبول العطاء: فإن جاءه مال بغير سؤال ولا استشراف فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور: نفس المال .. وغرض المعطي .. وغرضه في الأخذ. أما في المال فينبغي أن يكون خالياً عن الشبهات كلها، فإن كان فيه شبهة لم يأخذه. وأما غرض المعطي فلا يخلو إما أن يكون طالباً للمحبة والإلفة وهو الهدية، فلا بأس بقبولها إذا لم تكن رشوة، ولم يكن فيها منَّة. وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر هل هو مستحق لذلك أم لا؟ وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياسة والسمعة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد فلا يأخذه. وأما غرضه في الأخذ فلينظر هل هو محتاج إليه أو مستغن عنه؟ فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات فالأفضل له الأخذ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» متفق عليه (¬1). والفقر نوعان: الأول: فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه. الثاني: فقر اختياري، وهو نتيجة علمين شريفين: أحدهما: معرفة العبد بربه .. والثاني معرفته بنفسه. ومن حصلت له هاتان المعرفتان أثمرتا له فقراً هو عين غناه، وعنوان سعادته ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7163)، ومسلم برقم (1045)، واللفظ له.

وفلاحه. وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين: فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق .. ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل والظلم. والله عزَّ وجلَّ أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً، ولا يقدر على عطاء ولا منع، ولا ضر ولا نفع، ولا شيء البتة. فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمراً مشهوداً محسوساً لكل أحد، ولا ريب أن هذا من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إلى بارئه وفاطره. فلما أسبغ الله عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأعلمه وأقدره، وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على الدواب، وعلى صيد الطيور، وقهر الوحوش، وحفر الآبار، وغرس الأشجار، وتعلية البناء، ويسر له الكسب والتجارة، ورزقه الأموال والأشياء، ظن المسكين أن له نصيباً من الملك والتصريف والتدبير. وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} [مريم: 67]. ففقر العباد إلى ربهم نوعان: فقر إلى ربوبيته: وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى ربها، في إيجادها ومصالحها. وفقر إلى ألوهيته: وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين. وهذا هو الفقر النافع، فإن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له ليس له

نظير فيقاس به. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، ومهما حصل له من اللذات والسرور بغيره فلا بدَّ أن يفارقه. وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت وفي كل حال وأينما كان. فنفس الإيمان به وتوحيده، ومحبته وعبادته، وذكره وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه. فليست عبادته وشكره وذكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لمجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان. بل عبادة الله وشكره ومعرفته وتوحيده قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب، وأطيب نعيم ناله من أكرمه الله بهذا الشأن. وفقر العباد إلى الله أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، وغنى الرب سبحانه لذاته لا لعلة أوجبت غناه. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته سبحانه. وفقر العالم كله إلى الله عزَّ وجلَّ أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته. فالفقر المطلق ثابت للعباد من كل وجه، والغنى المطلق ثابت للرب من كل وجه. والفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة، فالفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة لله، لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه عبداً مملوكاً مستعملاً فيما أمره به سيده. فنفسه مملوكة، وأعماله مستحقة، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من أعماله، ويرى ما بيده من الأموال والأسباب كالوديعة، فهي أموال سيده ونعمه، وهو

متصرف فيها بأمر سيده. فالله هو المالك الحق لكل شيء، وما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإحسان، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله، فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله، ورهبة من عقابه، وتقرباً إليه وطلباً لمرضاته؟. أم يكون البذل والإمساك منهم صادراً عن مراد النفس، وغلبة الهوى، وموجب الطبع؟. فيعطي لهواه، ويمنع لهواه، فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك؛ فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس. وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح، أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء. فهذا يرى نفسه مالكاً خرج عن حد العبودية ونسي فقره. ولو عرف نفسه حقاً لعلم أنه مملوك ممتحن، في صورة ملك متصرف كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]. ووجود المال بيد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملكيته، وإنما هو لسيده وهو كالخازن لسيده، الذي ينفذ أوامره في ماله، وله خزائن السموات والأرض. وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة أو جائحة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد والجزع والهلع؟. وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله وحده: إن شاء أبقاه .. وإن شاء أفناه .. وإن شاء زاده .. وإن شاء نقصه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه .. بل يرى تدبيره هو موجب الحكمة.

والفقر على ثلاث درجات: الأولى: فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، فهو لا يضبط يده مع وجود المال شحاً، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وحرصاً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحاً أو ذماً. فهو إن حصلت له الدنيا مدحها .. وإن فاتته ذمها .. ومدحها أو ذمها علامة موضعها من القلب، والشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحاً أو ذماً. والقلوب تولد كما تولد الأبدان. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، فإن قلوبهم وأرواحهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي، إلى نور العلم والإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد. والقلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلب لم يولد ولم يأن له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغي، والجهل والضلال. وقلب قد ولد، وخرج إلى فضاء المعرفة والتوحيد، ونور العلم والإيمان، فقرت بالله عينه، وقرت عيون به وقلوب، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه. وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً. تأبى عليه غلبات المعرفة والحب والشوق إلا تقرباً إلى ربه، وتأبى عليه غلبات الطبع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين هذا مرة، وهذا مرة. الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل، وذلك يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال. فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة، والأعمال الصالحة. وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته.

والقلب إناء واحد، والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره. وإنما يمتلئ الإناء بأعلى أنواع الأشربة إذا صادفه خالياً، ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إناءه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى. فهو سبحانه الأول في كل شيء .. والآخر في كل شيء .. الظاهر فوق كل شيء .. الباطن دون كل شيء .. فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضل الله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد. فمنه سبحانه الإعداد .. ومنه الإمداد .. وفضله سابق على الوسائل .. والوسائل من مجرد فضله وجوده. وعبوديته باسمه الآخر تقتضي كذلك عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلق بما يموت ويفنى، والتعلق بالآخر تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول. فالأمر ابتدأ منه سبحانه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث تنتهي الأسباب، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه، فهو سبحانه أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وخالقه وبارئه فهو إلهه ومعبوده. وعبوديته باسمه الظاهر أن يعلم أن ربه ليس فوقه شيء، له العلو المطلق على كل شيء بذاته، القاهر فوق عباده. فالتعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده، ويلجأ إليه، ويتوكل عليه ويفر إليه. وعبوديته باسمه الباطن أن يعلم أن ربه ليس دونه شيء، وأنه محيط بالعالم، وأنه العظيم الذي كل العوالم في قبضته ظاهرها وباطنها كبيرها وصغيرها فكما أنه

العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه. الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، وهذه الدرجة فوق الدرجتين قبلها، فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية، والثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال، والثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود كله في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه. فالفقر الأعلى أن يشهد العبد اضطراره إلى الحي القيوم، ويشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إليه من جهة كونه رباً له، ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد. قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك. وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد. وإن تحرك بمبادئ معصيته صرخ واستغاث بربه قائلاً: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فإن تم تحريكه بمعصية التجأ إلى ربه التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له ولا يفكه من أسره إلا سيده، أما هو فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده متى يفكه منه؟. فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو سبحانه الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يهدي لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ

لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. والغنى والفقر مطيتان يركبهما الناس إلى الآخرة .. والغنى له عبودية .. والفقر له عبودية .. وكما أن للغنى أوامر .. فكذلك للفقر أوامر. والغنى كالفقر أمر من أوامر الله يبتلى بهما العباد، والمسلم غني بربه فلا يخاف من الفقر، وكيف يخاف المسلم من الفقر ومولاه له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟. وحقيقة الفقر: أن يصير العبد كله لله، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه؛ لأنه إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به. ولفظ الفقر ورد في القرآن في ثلاثة مواضع: أحدها: في قوله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} [البقرة: 273]. الثاني: في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60]. الثالث: في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. فالصنف الأول: خواص الفقراء. والثاني: فقراء المسلمين عامهم وخاصهم. والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم فقيرهم وغنيهم، ومؤمنهم وكافرهم.

والمراد بالفقر هنا شيء أخص من هذا كله، وهو تحقيق العبودية لله، والافتقار إلى الله تعالى في كل حال، والاستغناء به عما سواه. وأما الفقير الصابر .. والغني الشاكر .. أيهما أفضل؟. فإن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال، والتفضيل عند الله بالتقوى لا بالغنى والفقر كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. والفقر والغنى ابتلاء من الله لعباده كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 15 - 20]. فالإكرام ليس بالغنى، والإهانة ليست بالفقر، بل الإكرام أن يكرم الله عبده بطاعته والإيمان به، ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك. والدنيا: ما سوى الله تعالى من المال والجاه، والصور والمراتب، وهي اسم لمدة بقاء هذا العالم .. أو اسم لما بين السماء والأرض، فعلى الأول تكون الدنيا زماناً، وعلى الثاني تكون مكاناً. ولما كان لها تعلق بالقلب واللسان والجوارح كان حقيقة الفقر تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها، وسلبها منها، وتفريغها لطاعة الله، وتحريكها وتشغيلها بامتثال أوامر الله، وحبسها عن محارم الله. وجميع ما يدب على وجه الأرض من آدمي وحيوان، بري أو بحري، وكل طير، وكل حشرة، وكل ذرة، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، وهم جميعاً فقراء إليه في إيجادهم وإمدادهم وبقائهم. وهو سبحانه الذي يعلم مستقر هذه الدواب، والمكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وجميع حركاتها وسكناتها، وعوارض أحوالها، كل ذلك كتبه الله في اللوح المحفوظ، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وهذه الخلائق جميعاً قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها، ومكانها وزمانها، وقسم أرزاقها، ولتعمل بما أمرها الله ورسوله به من الإيمان بالله، وتوحيده وطاعته، وفعل ما أمرها الله به، واجتناب ما نهى الله عنه {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].

21 - فقه الصبر

21 - فقه الصبر قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر، ومدار سعادة الدنيا والآخرة عليهما. فلله على كل عبد عبودية في حال العافية، وعبودية في حال البلاء، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر. وساحة العافية أوسع للصبر من ساحة البلاء، لكن بعد نزول البلاء فليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه (¬1). والصبر: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن ما لا يحمد. وحقيقة الصبر: هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به الإنسان من فعل ما لا يحسن فعله، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات على أحكام الكتاب والسنة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1469)، واللفظ له، ومسلم برقم (1053).

وحدُّ الصبر: أن لا يعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر. والشكوى نوعان: أحدهما: الشكوى إلى الله، فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر؛ بل تضاده وتبطله، وفرق كبير بين شكوى الرب، والشكوى إليه. والصبر والجزع ضدان كما قال سبحانه عن أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} [إبراهيم: 21]. والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام، والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، ففسدت وأفسدت. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل نفس قوتين: قوة الإقدام .. وقوة الإحجام. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره. فرحم الله عبداً جعل لنفسه خطاماً وزماماً، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله. فالصبر عن محارم الله، وعلى طاعة الله، وعلى أقدار الله، أيسر من الصبر على عذاب الله وعقابه. والصبر نوعان: صبر محمود .. وصبر مذموم. فالمذموم كالصبر على التعب والألم والشدائد للوصول إلى ما حرم الله من الفواحش، والكبائر، وسائر المحرمات.

والمحمود كالصبر على أنواع الطاعات، والصبر عن ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والصبر على أقدار الله. وهذا النوع متعلقاته كثيرة، وله ارتباط بمقامات الدين من أولها إلى آخرها، وله مراتب وأسماء بحسب متعلقه: فإن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة، وضدها الفجور والزنى والعهر. وإن كان صبراً عن شهوة البطن، أو تناول ما لا يجمل منه سمي عفة، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً، وإن كان على قدر من العيش يكفيه سمي قناعة، وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب سمي حلماً. وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة سمي وقاراً. وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهروب سمي شجاعة. وإن كان صبراً عن إجابة داعي الانتقام سمي عفواً وصفحاً. وإن كان صبراً عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جوداً. فللصبر عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله الصبر. والصبر والتصبر والاصطبار أسماء تختلف معانيها بحسب حال العبد مع نفسه ومع غيره. فإن حبس نفسه ومنعها من إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقاً له وملكة سمي صبراً، وإن كان بتكلف وتجرع لمرارته سمي تصبراً، وإذا تكلفه العبد صار سجية له، ومن يتصبر يصبره الله. وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر. فالصبر حال الصابر في نفسه .. والمصابرة حاله في الصبر مع خصمه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].

وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر، فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أن التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً. وينقسم الصبر باعتبار محله إلى قسمين: بدني .. ونفسي .. وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري. فهذه أربعة أقسام: فالصبر البدني: إما اختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختياراً كحمل الأشياء الثقيلة ونحوها. وإما اضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض، والجراحات، والحر والبرد ونحو ذلك. أما الصبر النفسي فهو إما اختياري كصبر النفس عما لا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً كالفواحش والرذائل ونحوها. وإما اضطراري كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه. وهذه الأقسام مختصة بنوع الإنسان دون الملائكة والبهائم .. أما الملائكة فلكمالها، وأما البهائم فلنقصانها، فإنها تشارك الإنسان في نوعين منها، وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين، ويمتاز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين. أما الجن فهم مكلفون بالصبر على الأوامر، والصبر عن النواهي كما كلفنا نحن بذلك. لكن ما كان من لوازم النفس كالحب والبغض، والإيمان والكفر، والموالاة والمعاداة، فنحن وهم مستوون فيه. وما كان من لوازم البدن كغسل الجنابة، وغسل الأعضاء في الوضوء، والاستنجاء وغسل الحيض، ونحو ذلك، فلا تجب مساواتهم لنا في تكلفه، وإن تعلق بهم ذلك على وجه يناسب خلقتهم وحياتهم. وأما الملائكة فلم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم، ولا بشهوة تزاحم عبادتهم، بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا.

فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى، وإن كان لهم صبر يليق بهم، وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع. والمخلوقات ثلاثة أقسام: فقد خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوات .. وخلق البهائم شهوات بلا عقول .. وخلق الإنسان وجعل له عقلاً وشهوة. والإنسان إذا غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالبهائم. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في ابتداء أمره ناقصاً، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، ثم بعد ذلك يستعد لقوة الصبر. وعند أول سن التمييز يلوح عليه إشراق نور الهداية، وينمو ذلك على التدريج إلى سن البلوغ، كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره. وكل هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها، بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها. فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة، وأشرق عليه نورها، رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما، فتلمح العواقب، ولبس لامة الحرب، وبدأت في قلبه الحرب بين داعي الطبع والهوى، وداعي العقل والهدى. والمنصور من نصره الله .. والمخذول من خذله الله .. ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين، ويصير إلى ما خلق له في إحدى الدارين. وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال: الأول: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين على داعي الهوى، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، وأهل هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وخصهم الله بهدايته دون غيرهم.

الثانية: أن تكون القوة والغلبة لداعي الهوى على داعي الهدى، فيستسلم اليائس للشيطان وجنده، فيقودونه حيث شاؤوا، فإما أن يصير من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف، وإما أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط، والمبتدع الداعي المتبوع، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلهم النار يوم القيامة: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 104 - 108]. وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر والإيمان والتقوى. وأصحاب هذه الحال أنواع شتى: فمنهم المحارب لله ورسوله، الساعي في إبطال ما جاء عن الله ورسوله، يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً. ومنهم المعرض عن ما جاء به الرسول، المقبل على دنياه وشهواتها فقط. ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يأكل بالكفر والإسلام. ومنهم الماجن المتلاعب، الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب. ومنهم من يقول ليس الله محتاجاً إلى صلاتي وصيامي وعبادتي، وأنا لا أنجو بعملي، والله غفور رحيم. ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته. ومنهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما قد عملت من الكبائر. ومنهم من يرعى في وادي المعاصي، ويقول سوف أتوب. إلى غير ذلك من أصناف الجاهلين المفترين، الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم، فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر، يستعمله في رعي الخنازير، وعصر الخمر.

وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه بمنزلة رجل قهر مسلماً، وباعه للكفار وسلمه إليهم، وجعله أسيراً عندهم. فإنه لما أذل سلطان الله الذي أعزه به ورفع به قدره، وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيراً له، سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه، فجعله تحت قهره وسلطانه، يسخره حيث شاء ويسخر منه، فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب، فلما ترك مقاومته واستسلم له سلط عليه عقوبة له كما قال سبحانه عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99، 100]. والله عزَّ وجلَّ لم يجعل له سلطاناً على العباد، وإنما هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جنده وحزبه، فصار سلطانه عليهم، بأن تمكن منهم وتلاعب بهم، مع ضعفه وكونه لا يملك سلطان الحجة، وإنما دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. الحالة الثالثة: أن تكون الحرب سجالاً ودولاً بين الجندين، فتارة له .. وتارة عليه. وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم. وهذه الأحوال الثلاث هي أحوال الناس في الصحة والمرض، فمن الناس من تقهر قوته داءه، فيكون السلطان للقوة. ومنهم من يقهر داؤه قوته، فيكون السلطان للداء. ومنهم الحرب بين دائه وقوته سجالاً، فهو متردد بين الصحة والمرض. وتكون الأحوال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء. فمن الناس من يدخل الجنة، ولا يدخل النار. ومنهم من يدخل النار، ولا يدخل الجنة.

ومنهم من يدخل النار، فإذا تطهر من الذنوب دخل الجنة. والصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: أحدها: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها. الثاني: صبر عن المنهيات والمخالفات حتى لا يقع فيها. الثالث: صبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها. وهذا كله متعلق بطرفين: طرف من جهة الرب سبحانه .. وطرف من جهة العبد. فأما الذي من جهة الرب، فالله تعالى له على عبده حكمان: حكم كوني قدري .. وحكم شرعي ديني. فالكوني متعلق بخلقه، والشرعي متعلق بأمره، وهو سبحانه له الخلق والأمر. وحكم الله الديني الشرعي الطلبي نوعان: فالمطلوب إن كان محبوباً لله سبحانه فالمطلوب فعله سواء كان واجباً أو مستحباً، ولا يتم ذلك إلا بالصبر. وإن كان المطلوب مبغوضاً له فالمطلوب تركه سواء كان محرماً أو مكروهاً، وذلك كذلك لا يتم إلا بالصبر. فهذا حكم الله الديني الشرعي، فمرجع الدين كله إلى هذه الثلاث: فعل المأمور .. وترك المحظور .. والصبر على المقدور. وأما الذي من جهة العبد، فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف، فكما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها، فكذلك عبودية الأمر والنهي والقدر لا تقوم ولا تستوي إلا على ساق الصبر. وأكمل أنواع الصبر الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي، فهو أفضل من الصبر على مجرد القدر. فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بدَّ لكل أحد من

الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً. وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر الرسل وأتباعهم، وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك. وكل صبر في محله وموضعه أفضل. فالصبر عن الحرام في موضعه أفضل .. والصبر على الطاعة في محلها أفضل .. والطاعات ترفع الدرجات .. والمصائب تحط السيئات. والصبر قسمان: قسم مذموم .. وقسم محمود. فالمذموم: الصبر عن الله وعن إرادته ومحبته وسير القلب إليه، وهذا يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية، وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه، فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذي لا حياة له بدونه البتة. فالصبر عن الله جفاء، ولا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه الذي لا مولى له سواه. وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر بالله .. وصبر لله. فالأول: كقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]. والثاني: كقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. فيصبر مستعيناً بالله من أجل مرضاة الله. وكل إنسان لا بدَّ أن يصبر على بعض ما يكره إما اختياراً وإما اضطراراً. فالكريم يصبر اختياراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأن المقدر لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله. فإذا كان آخر الأمر الصبر، فما أحسن أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره. وأما اللئيم فإنه يصبر اضطراراً، فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر

في طاعة الشيطان. فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وتحصيل شهواتهم، وأقل الناس صبراً في طاعة ربهم. فيصبر اللئيم على البذل في معصية الرحمن وطاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء. ويصبر على تحمل المشاق في مرضاة الشيطان، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة الله. والإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال. فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله .. ونهي يجب عليه اجتنابه .. وقدر يجري عليه .. ونعم يجب شكر المنعم عليها .. وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات. وكل ما يلقاه العبد في هذه الدار لا يخلو من أمرين: أحدهما: يوافق هواه ومراده .. والآخر يخالف هواه ومراده. وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما. أما النوع الموافق لغرضه كالصحة والسلامة والجاه والمال، وأنواع الملاذ المباحة، وهو أحوج شيء إلى الصبر فيها، حتى لا يركن إليها ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر، والفرح المذموم، الذي لا يحب الله أهله. وحتى لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، فاعتل وحرم الأكل والشرب والجماع. وعليه أن يصبر على أداء حق الله فيها، ولا يضيعه فيسلبها، وأن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكِّن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام ولا بدّ. والبلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون، وإنما كان الصبر على السراء شديداً؛ لأنه مقرون بالقدرة.

ولذا حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج والأولاد بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [التغابن: 14]. وليس المراد بالعداوة هنا عداوة البغضاء والمحادة، بل إنما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد، وتعلم العلم، والصدقة، وغير ذلك من أمور الدين، وأعمال البر المختلفة. وأما النوع الثاني المخالف للهوى فلا يخلو: إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي .. أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره، ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه. فأما ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله: فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية؛ لما في طبعها من الكسل وإيثار الراحة، والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة والشح والبخل. فلا يكاد العبد يفعلها مع هذه الأمور، وإن فعلها مع ذلك كان متكلفاً، فيحتاج العبد هاهنا إلى الصبر على الطاعات قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على إعطاء العبادة حقها. ويصبر بعد الشروع فيها عن دواعي التقصير والتفريط فيها، وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، وأن لا ينساه في أمره. فليس الشأن في فعل المأمور فقط، بل الشأن كل الشأن أن لا ينسى الآمر حال الإتيان بأمره، بل يكون مستصحباً لذكره في أمره.

فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته، ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية .. عن حضور قلبه بين يديه سبحانه. وأما الصبر بعد الفراغ من العمل، فأن يصبر عن الإتيان بما يبطل أعماله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة: 264]. وكذلك يصبر عن رؤية الطاعة والعجب بها، والتكبر والتعظم بها، فهذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة. ويصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية. فلا يظن العبد أن بساط الصبر يطوى بعد الفراغ من العمل. وأما الصبر عن المعاصي الظاهرة والباطنة فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات .. ومفارقة الأعوان عليها .. وقطع العوائد. فإذا انضافت الشهوات إلى العادات تظاهر جندان من جند الشيطان، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما مع ضعفه. القسم الثاني: ما لا يدخل تحت اختيار العبد، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه، وسرقة ماله ونحو ذلك وهو نوعان: ما لا صنع للآدمي فيه .. وما أصابه من جهة الآدمي. فالأول للعبد فيه أربع مقامات: أحدها: مقام العجز والجزع، والشكوى والتسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة. الثاني: مقام الصبر. الثالث: مقام الرضا به، وهو أعلى من مقام الصبر.

الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة، فيشكر المبتلى عليها. وأما النوع الثاني، وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه ما سبق، ويضاف إليها أربعة أخر: أحدها: مقام العفو والصفح. الثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام، وفراغه من ألم مطالعة الجناية في كل وقت. الثالث: شهود القدر، وأنه وإن كان ظالماً بإيصال هذا الأذى إليك، فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم. وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه، فالكل جار بقدر الله وإن اختلفت طرقه وأسبابه. الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء، ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله. القسم الثالث: ما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه كالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها كشرب المسكرات، وتناول المخدرات، وأكل السموم ونحو ذلك. فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله، فلما فاته بقي فرضه الصبر عليه في آخره، وأن لا يطيع داعي نفسه وهواه. والدواء النافع لهذا الداء وغيره الصبر والتقوى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. فإذا صبر لله تعالى، وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور، أثيب على صبره؛ لأنه جهاد منه لنفسه، وهو عمل صالح يؤجر عليه. وأما عقوبته على ما تولد منه فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه كما

يعاقب السكران على سكره، وعلى ما جناه في حال سكره. والله تبارك وتعالى يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها كما قال سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (¬1). ومشقة الصبر تكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل، وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر. وإن فقدا معاً سهل الصبر عنه، وإن وجد أحدهما دون الآخر سهل الصبر من وجه، وصعب من وجه. فمن لا داعي له مثلاً إلى القتل والسرقة والزنى، ولا هو سهل عليه، فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله عليه، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه، فصبره عنه أشق شيء عليه. ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم .. وصبر الشاب عن الفاحشة .. وصبر الغني عن اللذات والشهوات عند الله بمكان. ولذلك استحق السبعة أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (¬1). ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والفقير المختال أشد العقوبة؛ لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمة عليهم، لضعف دواعيها في حقهم، فتركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليل على تمردهم على الله، وشدة عتوهم عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ (قال أبُو مُعَاوِيَةَ: وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ) وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» أخرجه مسلم (¬2). ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر، لشدة الداعي إليهما وسهولتهما. فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالغيبة والنميمة، والكذب والمراء، والثناء على النفس، والطعن على من يبغضه، والثناء على من يحبه ونحو ذلك. فتتفق قوة الداعي، وتيسر حركة اللسان، فيضعف الصبر. ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ومع ذلك يطلق لسانه في الغيبة والنميمة، ويتفكه في أعراض الخلق. وكثير من نجده يتورع عن الدقائق من الحرام، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام لقوة الداعي إليهما وسهولتهما. ولهذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬3). وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالصبر وعلق الفلاح به فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031). (¬2) أخرجه مسلم برقم (107). (¬3) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630). وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).

وأخبر سبحانه أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. وبين سبحانه مضاعفة أجر الصابر على غيره بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. ووعد الله الصابرين بثلاث خصال كل واحدة خير من الدنيا وما فيها فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. وبين سبحانه أن المغفرة والأجر الكبير إنما تحصل بالصبر والعمل الصالح فأخبر سبحانه أن كل أحد خاسر: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} [هود: 11]. وجعل سبحانه الصبر سبب محبته ومعيته، ونصره وعونه، وحسن جزائه، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً. فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران: 146]. وقال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (¬1). والأمور المنافية للصبر: الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه. أما الشكوى إلى الله فهي محمودة مشروعة كما قال أيوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَيُّوبَ إِذْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641)، واللفظ له، ومسلم برقم (2573).

نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]. وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة به فيما يقدر عليه، والتوصل إلى زوال ضرره، لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بما يؤلمه ويشكو منه، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه. والأنين على قسمين: أنين شكوى فيكره .. وأنين استراحة وتفريج فلا يكره. وأما الشكوى فهي نوعان: شكوى بلسان المقال .. وشكوى بلسان الحال، ولعلها أعظمها، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنعم عليه ربه أن يظهر نعمة الله عليه، وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير، فهذا أمقت الخلق عند ربه. ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، وحلق الشعر، وضرب إحدى اليدين بالأخرى، والدعاء بالويل. ولا ينافي الصبر والبكاء، والحزن عند المصيبة كما قال الله عن يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} [يوسف: 84]. وَاشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: «أقَدْ قَضَى؟» قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللهِ! فَبَكَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فَلَمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، بَكَوْا. فَقَالَ: «ألا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا (وَأشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) أوْ يَرْحَمُ». متفق عليه (¬1). ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة، والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1304)، ومسلم برقم (924) واللفظ له.

ويضاد الصبر الهلع، وهو الجزع عند حصول المصيبة، والمنع عند ورود النعمة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج:19 - 21]. والصبر ألوان: صبر على التكاليف والأوامر من عبادة ودعوة وجهاد .. وصبر على النعماء والبأساء .. وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم ... وصبر على البلاء والفتن. والمؤمنون يصبرون على كل ذلك ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس جزعوا، ولا تجملاً ليقول الناس صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع، وقد وعد الله هؤلاء بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً، له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة. والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله .. وصبر عن معصية الله .. وصبر على أقدار الله المؤلمة. فالأولان صبر على ما يتعلق بكسب الإنسان، والثالث صبر على مالا كسب للعبد فيه، فصبر يوسف - صلى الله عليه وسلم - عن مطاوعة امرأة العزيز على ما تريد منه أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه. فهذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر. وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس وشهواتها، لا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة. فإنه كان شاباً عزباً غريباً مملوكاً، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، ومع هذه الدواعي صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ

لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإنّ فعل الطاعة أحب إلى الله من ترك المعصية، وعدم الطاعة أبغض إليه وأكره من وجود المعصية. والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. فالأول: الاستعانة بالله ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]. والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، أو طلب حمد الخلق ونحو ذلك، فإن الصبر عمل، والعمل لا بدَّ أن يكون خالصاً لله. والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها حيث نزلت، قد جعل نفسه وقفاً على محاب ربه وأوامره. وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين، فالصبر من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد وهو الثبات مع الله، وتلاقي بلائه بالرحب والسعة، والثبات على أحكام الكتاب والسنة حتى يلقى ربه. والصبر أكبر عون للعباد على جميع الأمور كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. والذي يعين على الصبر أمور أهمها: الأول: معرفة العبد ما في الطاعات من زيادة الإيمان وصلاح القلوب. الثاني: معرفة العبد ما في المحرمات والمعاصي من الضرر والرذائل، وما توجبه من العقوبات في الدنيا والآخرة. الثالث: معرفة العبد ما في أقدار الله من البركة والحكمة والرحمة، وما لمن قام

بالصبر عليها من الأجور كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. الرابع: معرفة العبد أن محبة الله معه كلما اتقى وصبر كما قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]. ومن كان الله معه فكل شيء معه، فكيف لا يجاهد المسلم نفسه على الصبر وهذه أجوره وبركاته ومنافعه؟ فبالصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات، وأداء حقوق الله، وأداء حقوق عباده، وترك ما تنهاه نفسه من المحرمات، وبذلك يهون عليه الصبر عن جميع الشهوات، وجميع الشدائد في الأقدار والأوامر. والصبر على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية بمطالعة الوعيد، إبقاء على الإيمان، وحذراً من الحرام، وأحسن منها الصبر عن المعصية حياءً. فالإبقاء على الإيمان يبعث على ترك المعصية؛ لأنها لا بدَّ أن تنقصه أو تذهب بهجته، أو تطفئ نوره، أو تضعف قوته. وأما الحذر من الحرام فهو الصبر عن كثير من المباح حذراً من أن يسوقه إلى الحرام والشبهات. والحياء يبعث عليه قوة المعرفة بالله، ومشاهدة معاني الأسماء والصفات. وأحسن من ذلك أن يكون الباعث عليه وازع الحب، فيترك معصيته محبة له، وصاحب الحياء أحسن حالاً من أهل الخوف؛ لأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته، وحضور القلب معه، ولأن فيه من تعظيم الله وإجلاله سبحانه ما ليس في وازع الخوف. فَمَنْ وازعه الخوف قلبه حاضر مع العقوبة، ومن وازعه الحياء قلبه حاضر مع الله، والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها، والمستحي مراع جانب ربه، وملاحظة عظمته، وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان.

الدرجة الثانية: الصبر على طاعة الله، بالمحافظة عليها دوماً، ورعايتها إخلاصاً، وتحسينها علماً وعملاً. وفعل الطاعة أكبر من ترك المعصية، فيكون الصبر عليها آكد، وفوق الصبر عن ترك المعصية، فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة، والمنهي عنه لما كان يُضعف المأمور به ويُنقصه نهي عنه؛ حماية وصيانة لجانب الأمر. والصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء: دوام الطاعة .. والإخلاص فيه .. ووقوعها على مقتضى العلم. والطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة. فالعبد إن لم يحافظ عليها دوماً عطلها، وإن حافظ عليها دوماً عرض لها آفتان: الأولى: ترك الإخلاص، وحفظها من هذه الآفة برعاية الإخلاص. والثانية: أن لا تكون مطابقة للعلم، فحفظها من هذه الآفة بتجريد المتابعة. الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، وتهوين البلية بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم، فيعد العبد نعم الله عليه، وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر. وبذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج يتعلق بالمستقبل. والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على أقداره والصبر لله أكمل من الصبر بالله، والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره. فصبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومة قومهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبباً عن فعله.

وكذلك صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف عليهما الصلاة والسلام. ومراتب الصبر أربع: الأولى: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله، فيكون العبد في صبره مبتغياً وجه الله، صابراً به، متبرئاً من حوله وقوته، فهذه أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها، وفي ذروتها الأنبياء. الثانية: أن لا يكون فيه صبر لله، ولا صبر بالله، فهذا في أخس المراتب، وهو أردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان، وبكل حرمان. الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، فهو مستعين ومتوكل على حول الله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله فيما هو مراد الله الديني منه. فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له، وإنما كانت عاقبته شر العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار، وأرباب الأحوال الشيطانية، فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله. وهم من جنس الملوك والرؤساء الظلمة، فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر، والمؤمن والكافر. الرابعة: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به، والتوكل عليه، والثقة به، والاعتماد عليه. فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه، ونصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله. فهذا حال المؤمن الضعيف، وصابر بالله لا لله حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله حال المؤمن القوي، وهو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وكل عبد لا يخلو قط من أن يكون في نعمة أو بلية. فإن كان في نعمة ففرضها الشكر والصبر، أما الشكر فقيدها وثباتها، والكفيل بمزيدها.

وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها، فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلي. وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً. أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا. والصبر من أجلّ مقامات الدين، وأخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، وذلك لا يقوم إلا على ساق الصبر. والصبر على البلاء يكون بحبس النفس على المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته، ويشهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به، وحسن اختياره له، وبره به، فيحصل له لذة بذلك. وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليدخل في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله. فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هي موافقة المحبوب في محابه، فيحب كل ما يحبه محبوبه، وإن كرهه من حيث الطبع البشري، كما يحب الدواء الكريه لما فيه من الشفاء. وتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه فيه عن مراده هو منه، فإذا شهد مراد محبوبه أحبه، وإن كان كريهاً إليه. وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى، وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة والسرور.

والصبر نوعان: أحدهما: صبر على المقدور كالمصائب. الثاني: صبر على المشروع وهو نوعان: صبر على الأوامر ... وصبر عن النواهي. فذاك صبر على الإرادة والفعل .. وهذا صبر عن الإرادة والفعل. فأما النوع الأول فمشترك بين المؤمن والكافر، لا يثاب عليه بمجرده إن لم يقترن به إيمان واحتساب كما قال - صلى الله عليه وسلم - لابنته: «مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» متفق عليه (¬1). ومن قل يقينه قل صبره .. ومن قل صبره خف واستخف، ولعبت به الأهواء كما تلعب الريح بكل خفيف. وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ابتلي بالنار، ومفارقة الأهل والأولاد والدار، فصبر ابتغاء وجه ربه، فأنجاه الله من النار، وجعل في ذريته النبوة والكتاب. ومن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة فليوطن نفسه على الصبر على البلاء، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ومن أراد أن يقتدي في دينه فليتبع الأنبياء؛ لأنهم بالله أعرف وله أطوع. وقد أمرنا الله باتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمر رسوله باتباع ملة إبراهيم، وملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - البذل والتضحية بكل شيء من أجل التوحيد والإيمان وإعلاء كلمة الله. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من أجل الدين بذل نفسه حين سلمها للنيران .. وبذل ماله حين سلمه للضيفان .. وضحى بولده حين بذله للقربان .. وأسكن وترك بواد غير ذي زرع طاعة للرحمن. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2284)، ومسلم برقم (923)، واللفظ له.

فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فاجتهد في متابعة ولده الصبي .. كيف انقاد لحكم ربه، مع صغر سنه، فمد عنقه للذبح امتثالاً لأمر ربه. وأنه لابتلاء عظيم، وبلاء مبين للوالد والولد، يحتاج إلى صبر كالجبال، إنه ابتلاء يهز القلوب، ويرجف له الفؤاد، ولكنه أمر الله، ولا بدَّ من امتثاله. فمن يطيق أن يذبح ابنه؟ ومن يتحمل مباشرة الذبح؟ ولكن الله يريد صفاء إبراهيم، وهو خليل الرحمن، وقد تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، فأمره الله أن يذبح من زاحم حبه حب ربه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102]. فلما قدَّم إبراهيم طاعة ربه وعزمه على ذبح إسماعيل، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 103 - 111]. وإن كنت دون الرجل، فاتبع الموسوم بنقصان العقل والدين، وهي أم الذبيح إسماعيل، هاجر المملوكة امرأة إبراهيم .. وانظر كيف أطاعت ربها وصبرت، فتحملت المحنة في ولادتها، ثم صبرت حين تركها الخليل مع ولدها في مكة، حيث لا ماء ولا زاد ولا أنيس، ثم توجهت إلى ربها ليغيثها، فلما تربت على اليقين على الله، جعل الله خطواتها عبادة إلى يوم القيامة، وهي السعي بين الصفا والمروة. كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]. ومن صفات الله تبارك وتعالى الصبر، وأطلق عليه الصبر أعرف الخلق به،

وأعظمهم تنزيهاً له نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًىً سَمِعَهُ مِنَ الله، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه (¬1). وصبر الله تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه منها: أن صبره سبحانه عن قدرة تامة، ومنها أنه لا يخاف الفوت، ومنها أنه لا يلحق بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما. والفرق بين الصبر والحلم، أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، والحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر. والمخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته. وحلمه وقدرته وعلمه من لوازم ذاته سبحانه، وأما صبره عزَّ وجلَّ فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم. فلا يحمله ذلك على تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده، ويمهله ويستصلحه، ويرفق به، ويحلم عليه. حتى إذا لم يبق فيه موضع للصنيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق والحلم، ولا ينيب إلى ربه، ولا يدخل عليه لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له، ودعائه إليه من كل باب. وهذا كله من موجبات صفة حلمه. ولو أن الناس أعطوا هذا الاسم حقه، لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما أنه أحق باسم العليم والرحيم وسائر الأسماء من جميع الخلق. والتفاوت الذي بين صبره سبحانه وبين صبر الخلق كالتفاوت الذي بين حياتهم وحياته، وعلمه وعلمهم، وكذا سائر صفاته وصبره سبحانه من أعظم مصبور ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099) واللفظ له، ومسلم برقم (2804).

عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومَنْ إحسانه فوق كل إحسان، بالكفر والمعاصي، وغاية القبح، وأعظم الفجور، وأفحش الفواحش، ونسبته إلى مالا يليق به. والقدح في كماله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله، مقابلتهم بالسب والشتم والأذى. وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق إلى صبره سبحانه. وماذا صدر عن العباد من الجهل والسفه؟ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 88 - 95]. {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181]. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 72 - 74]. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} [الجاثية: 24]. فبحلمه سبحانه صبر عن معاجلة أعدائه بالعقوبة، وكذلك خرور الجبال، وانشقاق الأرض، وتفطير السماء، يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه.

وما يأتي به الكفار والمشركون والفجار في مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضي البطش والهلاك، ولكن الله غفور حليم يمهلهم لعلهم يرجعون. وهو سبحانه الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به. فإذا أغضبته معاصي الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته وعباده المؤمنين، وطاعتهم له، وحمدهم له، فيعيذ رضاه من غضبه. وكما جعل سبحانه في الأرض من يكفر به، ويجحد توحيده، ويكذب رسله، كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك، ومصدق بما كذبوا به، وبهذا تماسك العالم العلوي والعالم السفلي: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)} [الأنعام: 89]. والله تبارك وتعالى ذو العزة والجبروت، وذو الجلال والإكرام، وذو الملك والكبرياء والعظمة خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بما يصلحهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عما يضرهم ويشقيهم في الدنيا والآخرة، وقدر عليهم أقداره وأحكامه، وهم لا يستطيعون القيام بما أمرهم، والكف عما نهاهم، وتحمل ما قدر عليهم إلا بالصبر. وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمر إلا أعان عليه، ونصب له أسباباً تمده وتعين عليه. ولما كان الصبر مأموراً به، جعل سبحانه له أسباباً تعين عليه، وتوصل إليه، كما أنه ما قدر داءً إلا وقدر له دواءً، وضمن الشفاء باستعماله. والصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن، وهو يتركب من مفردين: العلم .. والعمل .. فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان. فأما الجزء العلمي: فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضرر والنقص والهلاك. فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة، والهمة

العالية، والنخوة والمروءة الإنسانية، وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء، فمتى فعل ذلك حصل له الصبر، وهانت عليه مشاقه، وحلت مرارته، وانقلب ألمه لذة. والصبر: مصارعة باعث الدين والعقل لباعث الهوى والنفس. وكل متصارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له، وإضعاف الآخر. فإذا قوي باعث شهوة الزنى مثلاً، وغلب بحيث لا يملك معها فرجه، أو يملكه ولكن لا يملك قلبه، وشغله ذلك، وبذل كل شيء من أجله. فإذا عزم على التداوي ومقاومة هذا الداء، فعليه أن يضعفه أولاً بأمور: أحدها: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة، فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة إما بنوعها، أو بكميتها، فيحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم، فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها. الثاني: أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر، فداعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة، والنظر سهم مسموم من سهام إبليس. وإذا أطلق العبد نظرة، ونصب قلبه غرضاً، فيوشك أن يقتله بسهم من تلك السهام المسمومة. الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوِّض عن الحرام، فإن كل ما يشتهيه الطبع في ما أباحه الله سبحانه غنية عنه، وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس. فالأول: يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح لإضعاف قوتها. والثاني: يشبه تغييب الشعير عن البهيمة؛ لئلا تتحرك قوتها. والثالث: يشبه إعطاؤها من الغذاء ما يميل إليه طبعها بحسب الحاجة لتبقى معه القوة. الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فإنه لو لم تكن جنة ولا نار، لكان فيه من المفاسد ما ينهي عن إجابة هذا الداعي، ولكن عين الهوى عمياء.

الخامس: الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها، إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره. فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب والحشرات. ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف من هذا القبح الذي يغطي كل جمال وملاحة في الوجه والبدن. فالزنى قبيح وخبيث، وقبحه وخبثه ينتشر على الزاني والزانية. وإذا أراد الإنسان معرفة ذلك، فلينظر إلى القبح والخبث الذي يعلو وجه أحدهما في كبره، وكيف يقلب الله تلك المحاسن مقابح، حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]. وأما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور: أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصى وهو يرى ويسمع. وأن يشهد محبته سبحانه، فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الطاعة طاعة المحبين، وأفضل الترك ترك المحبين. الثاني: مشهد النعمة والإحسان، فالكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فليمنعه مشهد إحسان الله إليه ونعمته عليه عن معصيته حياءً منه. فلا يحسن أن تكون نعم الله تنزل عليه، ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه، فملك ينزل بهذا .. وملك يعرج بهذا .. فأقبح بها من مقابلة. الثالث: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب جل جلاله إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب جل جلاله لم يقم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف. الرابع: أن يتذكر كم يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً، وتزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعاً وعقلاً وعرفاً.

ويكفيه أنه فاته اسم الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة فيه خير من الدنيا وما فيها، فكيف يبيعه بشهوة تذهب لذتها، وتبقى تبعتها؟. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» متفق عليه (¬1). فينزع الإيمان عن الزاني كما ينزع القميص، فإن تاب صادقاً رد إليه الإيمان. الخامس: مشهد القهر والظفر، فإن قهر الشهوة، وغلبة الشيطان، له حلاوة ومسرة عند من ذاق ذلك، وعاقبته أحمد عاقبة. السادس: مشهد المعية وهو نوعان: معية عامة .. ومعية خاصة. فالمعية العامة: اطلاع الرب عليه، وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله. والخاصة كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]. فهذا المعية الخاصة خير له وأنفع في دنياه وآخرته ممن قضى شهوته ونال وطره على التمام. فكيف يؤثر عليها لذة منغصة منكدة في يسير من العمر؟ السابع: مشهد العوض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله، ونهى نفسه عن هواها، وليوازنه بين العوض والمعوض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه. الثامن: مشهد معاجلة الموت له، واخترام أجله، وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل، فيأخذه على غرة لاهياً بشهواته، فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة. التاسع: مشهد البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2475) واللفظ له، ومسلم برقم (57).

والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها. فأهل البلاء هم أهل المعصية إن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الإيمان والطاعة وإن مرضت أبدانهم. العاشر: أن يُعود العبد باعث الدين مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر، فتقوى حينئذٍ همته، ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه باعث الدين، وقوي فيه باعث الشهوة. الحادي عشر: كف الباطل عن حديث النفس، وإذا مرت به الخواطر نفاها، وقطع العلائق التي تدعوه إلى موافقة الهوى. وليس المراد، أن لا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه، ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى، فإن ذلك يرفع عنه شر استعماله في معاصيه. فكل شيء في الإنسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان، وما لا يستعمله لله، استعمله لنفسه وهواه ولا بد. فالعلم إن لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن له كان للرياء والنفاق. والمال إن لم ينفق لله أنفق في طاعة الهوى والشيطان. والقوة إن لم يستعملها لله استعملها في معصيته. فمن عود نفسه العمل لله لم يكن أشق عليه من العمل لغيره. ومن عود نفسه العمل لهواه لم يكن أشق عليه من الإخلاص والعمل لله، وهذا جارٍ في جميع أبواب الأعمال. الثاني عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها، وهي آياته المتلوة، وآياته الكونية، فذلك يرفع عنه محادثة الشيطان ووسواسه. الثالث عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها، وقرب انقضائها، فلا يرضى لنفسه

أن يتزود منها لدار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعاً إلا ساقط الهمة، دنيء المروءة، ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه، فكيف إذا ترك تزود ما ينفعه على زاد يعذب به، ويناله بسببه غاية الألم. الرابع عشر: تعرضه إلى من القلوب بين إصبعيه، وأزمة الأمور بيديه، فلعله أن يصادف أوقات النفحات، ولا يستوحش من ظاهر الحال. فالله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله وصفاته، فإنه ما حَرَمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال. الخامس عشر: أن يعلم العبد أن فيه جاذبين متضادين هو ممتحن بهما، جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين. فكلما انقاد إلى الجاذب الأعلى صعد درجة، حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحل الأعلى. وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة، حتى ينتهي إلى موضعه من سجين. وإذا أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين روحه في هذا العالم، فإنها إذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذي كانت تجذبه إليه في الدنيا فهو أولى بها. وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بالطبع. فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وأعمالها إلى أعلى، والنفوس السافلة إلى أسفل. السادس عشر: أن يطهر العبد قلبه ويفرغه من إرادات السوء وخواطره، ويبذر فيه بذر الذكر والفكر، والمحبة والإخلاص. فعند ذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة، والأحوال الشريفة. وفضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد، فلو زال ذلك المانع لسارع إليها

الفضل من كل صوب. السابع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه، وأمن لا خوف فيه، وغنى لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه. وامتحنه في هذه الدنيا بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل، ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف، وبعده الخوف. وكذلك الغنى واللذة، والفرح والسرور، الذي هنا مشوب بضده، فغلط أكثر الخلق في هذا فطلبوا النعيم والبقاء، والعز والملك، والجاه والشرف في غير محله ففاتهم في محله. وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل زائل. والله عزَّ وجلَّ أرسل رسله وأنزل كتبه بعبادة الله وحده، والدعوة إلى النعيم المقيم، والملك الكبير في الجنة. فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم؛ لأن العبد إذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو الملك حقاً. لأن صاحب هذا الملك حر، والملك المنقاد لشهواته وغضبه عبد شهوته وغضبه، فهو مسخر مملوك في زي مالك. الثامن عشر: أن يتخلص من الشر بالبعد عنه، وعن أسبابه ومظانه ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة. ولا يعتز بما في مظان الشر من بعض الخير، فإن الشيطان يخدعه بذلك، فإذا قرب منه صاده وألقاه في الشبكة. والعبد في الدنيا لا يخلو من حالين: الأولى: ما يوافق هواه من الصحة والمال، والجاه والملاذ. والعبد في هذا محتاج إلى الصبر؛ لئلا يركن إليها، وينسى حق الله فيها.

الثانية: ما يخالف هواه، وهو ثلاثة أقسام: أحدها: الطاعات، فيحتاج العبد على الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، فمن العبادات ما تكرهه النفس بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسبب الشهوة كالصيام، ومنها ما يكره بسبب الخوف كالجهاد، ومنها ما يكره بسبب الكسل والبخل كالحج. ويكون الصبر على الطاعة في ثلاثة أحوال: حال قبل العبادة، بتصحيح النية والإخلاص، والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهي أن لا يغفل عن الله تعالى أثناء العبادة. والثالثة بعد الفراغ من العمل، فيصبر عن إفشائه، والتظاهر به؛ ليسلم من الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطله. الثاني: الصبر عن المعاصي الصغائر والكبائر، فإن كان مما يتيسر فعله كمعاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء، كان الصبر عليه أثقل. الثالث: ما لا يدخل تحت الاختيار كالمصائب، مثل موت الأحبة، والأمراض، وهلاك الأموال، وسائر أنواع البلاء. فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، ومنه الصبر على أذى الناس كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. والله سبحانه قادر على أن يحيي الدين كله في العالم كله، ولكن الله جعل ذلك إلينا، لنقوم بالدعوة إلى الله، ونصبر على ذلك، فنحصل على أجر الهداية والدعوة والصبر. والله قادر على أن يجعل الناس كلهم أغنياء، ولكن الله عزَّ وجلَّ بحكمته ورحمته جعل فينا الغني والفقير، ليحصل الغني على الأجر بالإنفاق، ويحصل الفقير على الأجر بالصبر، وكلاهما على خير.

والصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ومنتهى الصبر أن يكون العبد يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وقد ذكر الله عزَّ وجلّ في كتابه الصبر الجميل .. والصفح الجميل .. والهجر الجميل .. فالصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه .. والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه .. والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].

22 - فقه الشكر

22 - فقه الشكر قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} [النحل: 114]. الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، والاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، والثناء على المحسن بذكر إحسانه، ورؤية النعم والمنعم، واستفراغ الطاقة في الطاعة، وأن لا تعصي الله بنعمه. والشكر والصبر في محل الاستواء، فالشكر وظيفة السراء، والصبر وظيفة الضراء. والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح: فالقلب للمعرفة والمحبة .. واللسان للثناء والحمد .. والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور .. وكفها عن معاصيه. والشكر مبني على خمس قواعد وهي: خضوع الشاكر للمشكور .. وحبه له .. واعترافه بنعمه .. وثناؤه عليه بها .. وأن يستعملها فيما يحب لا فيما يكره. وأقوى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة. وأكمل الشكر: رؤية النعمة والمنعم، وكلما كان شهود النعمة أتم كان الشكر أكمل. وحقيقة الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً .. وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة. والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه،

وجعله سبباً للمزيد من فضله. والشاكرون قسمان: فشكر العامة: على المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب ونحوها. وشكر الخاصة: على ما سبق، وعلى التوحيد والإيمان والهداية. وهذا أكمل، وأعلى، وأتم، وأشمل. والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، وما يُّحمد الرب تعالى عليه أتم مما يُشكر عليه، فإنه يُّحمد على أسمائه وصفاته، وأفعاله ونعمه، ويُشكر على نعمه. وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان. وكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر. وإذا كان الصبر مأموراً به فأداؤه هو الشكر. وحقيقة الشكر إنما تلتئم من الصبر والإرادة والفعل. وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر، ولكن اندرج شكره في صبره، فكان الحكم للصبر، كما اندرج صبر الشكور في شكره، فكان الحكم للشكر. ومقامات الإيمان لا تعدم ولا تزول بالتنقل فيها، بل تندرج ويطوى الأدنى في الأعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في الرضا، ويندرج الرضا في التفويض، لا أن ذلك يزول والمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر، سواء كان محبوباً أو مكروهاً. فالفقر مثلاً يتعلق به الصبر، وهو أخص به؛ لما فيه من الكراهة. والغنى يتعلق به الشكر؛ لما فيه من النعمة، فمن غلب شهود نعمته في الفقر

وتلذذ به عده نعمة يشكر عليها، ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق عده بليّة يصبر عليها، وعكسه الغنى. والله تبارك وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وعد كل ذلك ابتلاء فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35)} [الأنبياء: 35]. والله سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار. وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، والعافية والبلاء. والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والنعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، وأذى الخلق له، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها. فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني عنهما طرفة عين. والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الطعام والشراب أيهما أفضل؟ وكالسؤال عن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل؟ فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر، والمحرم لا يترك إلا بصبر وشكر. وأما المقدور الذي يقدَّر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره. والله عزَّ وجلَّ امتحن كل عبد بنفسه وهواه، وأوجب عليه جهادها في الله، فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به، وتصبر عن الهوى المنهي عنه، فلا ينفك العبد عنهما غنياً أو فقيراً، معافى أو مبتلى. والله سبحانه لم يفضل أحداً بالفقر والغنى، كما لم يفضل أحداً بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، «قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، (قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» أخرجه أحمد (¬1). والناس من آدم، وآدم خلق من تراب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والتقوى مبنية على أصلين: الصبر .. والشكر .. وكل من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فأتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله هو الأفضل. فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره. والفقراء وإن كانوا يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فهذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة، وإن سبقوهم بالدخول إلى الجنة. فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل الجنة كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم (¬2). وقد جمع الله سبحانه لرسوله بين المقامين: الصبر والشكر على أتم الوجوه، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (23489)، انظر السلسله الصحيحة رقم (2700). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1827).

فكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين. فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه. فكان - صلى الله عليه وسلم - أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه عزَّ وجلَّ كمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين. فصلوات الله وسلامه عليه عدد المخلوقات والذرات والأنفاس. وقد جعل الله نبيه غنياً شاكراً بعد أن كان فقيراً صابراً كما قال له سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 - 8]. والشكر مبني على ثلاثة أركان: الأول: معرفة النعمة وقدرها. الثاني: الثناء على الله المنعم بها. الثالث: استعمالها فيما يحب موليها ومعطيها وهو الله سبحانه. فمن كملت له هذه الثلاثة فقد استكمل الشكر. وبمشاهدة النعمة يتولد في القلب الحب والتعظيم للمنعم، ويخبت لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علماً ومعرفة بحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة ومحبة، وإنابة وإخباتاً، وشكراً وتوكلاً. والشكر قيد النعم، فإن شُكرت قرّت، وإن كُفرت فرت، كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. وأعظم الشكر لله سبحانه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له. والله تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه، فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، والمنتفع

بالشكر هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر كما قال سبحانه: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]. ولكنه سبحانه يحب أن يحمد ويشكر، ويكره أن يكفر به وبنعمته كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. والكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112]. والله حكيم في عطائه، وحكيم في منعه، وله الحمد على هذا وهذا، وهو الحكيم العليم. ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ الشاكر والشكور كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. وقال سبحانه: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغابن: 17]. وشكر الرب تعالى ليس كشكر المخلوق، بل له شأن آخر كشأن صبره سبحانه، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة. فإنه يعطي العبد، ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء، فلا يستقله أن يشكره. ويشكر الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، وبين ملائكته. ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك شيئاً لله أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً، رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو سبحانه الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وعلى هذا. فسليمان - صلى الله عليه وسلم - لما عقر الخيل التي أشغلته عن ذكر ربه أعاضه عنها متن الريح. ولما احتمل يوسف - صلى الله عليه وسلم - ضيق السجن شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض

يتبوأ منها حيث يشاء. ولما بذل الرسل والمؤمنون أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته. ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاته أعاضهم عنها أن ملَّكهم الدنيا، وفتحها عليهم. ومِنْ شكره سبحانه أن يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا بأن يخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه. ومن شكره سبحانه أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق الناس. وهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه، وأعظم من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة. فهو سبحانه المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه؟. وشكره سبحانه يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء كما قال سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، ولا يضيع عليه هذا القدر. ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره وينوه بذكره، كما شكر لصاحب ليس مقامه، ودعوته إليه. ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلق إليه من اتصف

بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها، واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى كلها. أحب الخلق إليه من اتصف بموجبها .. وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها. ولهذا يبغض سبحانه الكفور والظالم، والجاهل والبخيل، والجبان واللئيم. وهو سبحانه جميل يحب الجمال، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، عفو يحب العافين. وكل ما عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]. والخلق لم يقصروا في شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها. ثم إن عرف العباد نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله فقط، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهي طاعة الله وعبادته، ولله تعالى في كل موجود حكمة ونعمة فليشكر العبد ربه عليها. والشكر على ثلاث درجات: الأولى: الشكر على المحاب، فكل الخلق في نعم الله، وكل من أقر بالله رباً، وعلم تفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر، وهو الاستعانة بها على مرضاته. الثانية: الشكر في المكاره، وهو أشد وأصعب من الشكر على المحاب، ولهذا كان فوقه في الدرجة، فالمسلم لا يحب المكروه، ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه، فكان شكره كظماً للغيظ الذي أصابه، وستراً للشكوى. وهذا الشاكر قابل المكاره الذي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوسطهم

بالصبر، وأقلهم بالرضا، قابلها هو بأعلى من ذلك كله، وهو الشكر والحمد. الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم، فهو مشغول بمراده منه عن غيره، وواقف مع مراد الملك منه، لا مع مجرد حظه من الملك، وعبادة النفس أن يقف الإنسان مع مراده من الله، لا مع مراد الله منه. ودرجات الشكر وأنواعه كثيرة: فحياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر .. ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر .. والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر .. والمعرفة بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر .. والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر. وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر .. وشكر أهل الجود والإحسان من الخلق شكر، فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله .. وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر. وتلقي النعم بحسن القبول، واستعظام صغيرها شكر، واستعمال النعمة في طاعة الله شكر، والثناء على الله بها شكر. والنعمة: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وكل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى. والنعمة على ثلاثة أقسام: أحدها: نعمة تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق. الثانية: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة أنها وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة .. والخالق لذلك المنعم .. والخالق لداعية الإنعام في قلب ذلك المنعم، إلا أنه لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد، كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى، ولهذا قال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14]. فبدأ بنفسه تنبيهاً إلى أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله.

الثالثة: نعم وصلت إلينا بسبب طاعاتنا، وهي أيضاً من الله؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وفقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأزاح الأعذار عنا، وإلا لما وصلنا إلى شيء منها. والمدح: يحصل للعاقل وغير العاقل كمدح الإنسان العاقل على حسن خلق، ومدح اللؤلؤ لجماله. والحمد: لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام، والإحسان، سواء وصل إليك أو إلى غيرك. والشكر: عبارة عن تعظيم المنعم وشكره على الإنعام الواصل إليك. فالمدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. والله سبحانه هو الذي أنعم على البشر بالأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي أعطاهم إياها، وجعل ينميها فيهم شيئاً فشيئاً إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، خاصة السمع والبصر والعقل كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]. فلله الحمد والشكر على ما أعطانا من كل خير .. وله الحمد على ما صرف عنا من الشر .. وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا وعلى غيرنا .. وله الحمد والشكر أن ابتدأنا بالنعم قبل أن نسأله .. وله الحمد والشكر على دوام النعم خاصة نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة. «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (478).

«اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [وَمَنْ فِيهِنَّ]، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ» متفق عليه (¬1). اللهم لك الحمد كله .. ومنك الفضل كله .. وإليك يرجع الأمر كله .. أوله وآخره .. علانيته وسره .. كبيره وصغيره .. لك الحمد لا أحصى ثناءً عليك. أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد. وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد. وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد. وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد. وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد. وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد. وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد. وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد. وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد. وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

23 - فقه التواضع

23 - فقه التواضع قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِِنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلا يَبْغِ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ» أخرجه مسلم (¬1). التواضع: أن يخضع العبد للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ويتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والانقياد له، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه. وبهذا يحصل للعبد خلق التواضع. وحقيقة التواضع: خضوع العبد لصوله الحق، وانقياده لها، وخفض الجناح، ولين الجانب. والتواضع خلق جميل ينشأ من معرفة جلال الرب وعظمته، ومعرفة نعمه وإحسانه، ومعرفة نقص الإنسان، فيتولد التواضع من الإنسان الضعيف الناقص لربه ذي الجلال والإكرام. والتواضع على ثلاث درجات: الأولى: التواضع للدين، وهو الانقياد والتسليم والإذعان لكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعارض شيئاً مما جاء به، ولا يتهم دليلاً من أدلة الدين، بحيث يظنه ناقص الدلالة أو غيره كان أولى منه. ومن عرض له شيء من ذلك فليتهم نفسه، وليعلم أن الآفة منه لا من الدليل. وإذا رأى العبد من أدلة الدين ما يشكل عليه فليعلم أنه لعظمته وشرفه لم يدرك معناه، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم لم يؤت مفتاحه. ويقدم نصوص الكتاب والسنة على آراء الرجال، ولا يجد إلى خلاف النص ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865).

سبيلاً البتة لا بباطنه ولا بلسانه، ولا بفعله ولا بحاله. الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبداً من المسلمين أخاً، وأن لا ترد عن عدوك حقاً، وأن تقبل من المعتذر معاذيره. فإذا كان الله رضي أخاك المسلم لنفسه عبداً، أفلا ترضى أنت به أخاً؟ فإن عدم رضاك به وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده هو عين الكبر. وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته، وسيده راض بعبوديته؟ قال الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ. أَلا أخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ» متفق عليه (¬1). وكذلك تقبل الحق ممن تحب وممن لا تحب، فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك، فلا تمنعك عداوته من قبول حقه، ولا من إيتائه إياه. ومن أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كان أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله تعالى. وعلامة الكريم أنه إذا رأى الخلل في عذره لا يوقفه عليه ولا يحاجه، بل يصفح عن المعتذر فوراً، ويقول: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدر لا بدَّ واقع ونحو ذلك. الثالثة: أن تتواضع للحق سبحانه، وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره، لا على ما تراه من رأيك. ولا يكون الباعث لك على عبادته داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له؛ بل يكون باعثه على العبودية لربه مجرد الأمر، ولا ترى لنفسك حقاً على الله ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6071) واللفظ له، ومسلم برقم (2853).

لأجل عملك؛ بل تكون مع الله بالعبودية والفقر المحض، والذل والانكسار. فمتى رأى لنفسه على ربه حقاً صارت معلولة، وخيف منها المقت، وخشي عليها الطرد والإبعاد. ولا ينافي هذا ما أحقه الله وأوجبه على نفسه من إثابة عابديه واكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره، وجوده وإحسانه، لا باستحقاق العبيد، فلا يدخل أحد الجنة بعمله أبداً، ولا ينجيه من النار كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُدْخِلُ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَلا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلا أنَا، إِلا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2817).

24 - فقه الذل

24 - فقه الذل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. للعبودية لوازم وأحكام وأسرار وكمالات لا تحصل إلا بها، ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم. فالله تبارك وتعالى يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هي حقيقة العبودية. والذل أنواع: الأول: ذل المحبوب لمحبوبه، وهو أكملها وأعلاها. الثاني: ذلك المملوك لمالكه. الثالث: ذل الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه، المالك له. الرابع: ذل العاجز عن مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره، وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له في أن يجلب له ما ينفعه. الثاني: ذل له في أن يدفع عنه ما يضره على الدوام، ويدخل في هذا ذل المصائب كالفقر والمرض، وأنواع البلاء والمحن. فهذه خمسة أنواع من الذل، إذا وفاها العبد حقها، وشهدها كما ينبغي، وعرف ما يراد به منه، وقام بين يدي ربه مستصحباً لها، شاهداً لذله من كل وجه، ولعزة ربه وعظمته وجلاله، كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.

فالعبودية حقاً كمال الحب لله .. مع كمال التعظيم له .. مع كمال الذل له: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].

25 - فقه الخوف

25 - فقه الخوف قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. وقال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 40 - 45]. وقال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. الخوف: هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، واضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها، وأزعج النفوس للآخرة. والناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق. وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزَّ وجلَّ، فإنك إذا خفته فررت إليه. والخوف المحمود ما حال بين العبد وبين محارم الله عزَّ وجلَّ، وهو ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة، وله متعلقان. نفس المكروه المحذور وقوعه .. والسبب والطريق المفضي إليه. فإذا عرف الإنسان قدر الخوف، وتيقن إفضاء السبب إليه، حصل له الخوف. الثانية: خوف المكر، فمن حصلت له اليقظة بلا غفلة، واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك.

فإنه ينبغي للعبد أن يخاف المكر، وأن يُسلب هذا اليقين والحضور، واليقظة والحلاوة. فكم من مغبوط بحاله، انعكس عليه الحال، ورجع من أحسن الأعمال إلى أقبح الأعمال، واستبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالقرب بعداً. الثالثة: هيبة الجلال لذي الجلال، فإن وحشة الخوف تكون مع الانقطاع والإساءة؟. أما هيبة الجلال فإنها متعلقة بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكلما كان العبد بربه أعرف، وإليه أقرب، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم، وهي أعلى درجات الخوف. وأكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهو وقت تملق العبد ربه، وتضرعه بين يديه، وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه مع هيبة جلاله. وأكمل الأحوال اعتدال الخوف والرجاء في القلب مع غلبة الحب لله. فالخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة، والتي عليها مدار مقامات السالكين إلى الله وهي: الخوف .. والرجاء .. والمحبة. والخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يتخلف عنه. وقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على أقرب عباده إليه بالخوف منه فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الانبياء: 90]. وكلما كان العبد بالله أعرف كان له أخوف، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به. فأعرف الناس بالله أخشاهم لله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} [فاطر: 28]. ومن عرف الله جل جلاله اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وإجلاله له.

فخوف الله جلَّ جلاله من أجلِّ منازل الطريق إلى الله، فإن العبد له حالتان: إما أن يكون مستقيماً .. أو مائلاً عن الاستقامة. فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهذا الخوف ينشأ من ثلاثة أمور: أحدها: معرفة العبد بالجناية وقبحها. الثاني: تصديق الوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها. الثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب: إما أن يكون عدم علم العبد بقبحه .. وإما عدم علمه بسوء عاقبته .. وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب على ذنوب أهل الإيمان. فإذا علم العبد قبح الذنب، وعلم سوء مغبته، وخاف أن لا يفتح له باب التوبة، اشتد خوفه فابتعد عنه. وهذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وأما إن كان المسلم مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وخوف العبد المسيء الهارب من الله خوف مقرون بوحشة ونفرة، فهو مشفق من عمله لعلمه بأنه صائر إلى العقوبة كما قال سبحانه: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22]. وأما خوف المسيء الهارب إلى الله الفار إليه فهو خوف محشو بالحلاوة

والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه، فله نظران: نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة .. ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأنس وحلاوة وطمأنينة. ولهذا يزول الخوف وسائر الآلام والأحزان في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. والخوف متعلق بالذنب، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، فهي سبب المخافة. فإن قيل: ما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي سبب المخافة؟، وشدة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قيل: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله، والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد؛ لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه ما لا يجب على غيره كما قال سبحانه عن الملائكة: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} [النحل: 49]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (¬1). وأيضاً فإن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ولولا خوف ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063) واللفظ له، ومسلم برقم (1401).

الإزاغة لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. وكذلك الله عزَّ وجلَّ خالق العباد وأفعالهم الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلوب، ويجعل فيها التوبة والإنابة، وأضدادها، وكل عبد مفتقر في كل لحظة إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركه بها في طاعته، وهذا إلى الله سبحانه فهو خلقه وقدره. فمن هداه وصلاحه ونجاته بيد غيره من أحق بالخوف منه؟ ومن هنا كان خوف أولياء الله من فوات الإيمان. والعلماء هم الذين يخشون الله ويخافونه، والعلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بدَّ من العلم بأمور ثلاثة: الأول: العلم بقدرة الله، فإن الملك مثلاً عالم باطلاع رعيته على سوء أفعاله، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها. الثاني: العلم بكونه عالماً، فالسارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه. الثالث: العلم بكونه حكيماً، فالعامل عند السلطان عالم بكونه قادراً على منعه، وعالم بفعله للقبائح، لكنه يعلم أنه قد رضي بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف. فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، قادراً على جميع الكائنات، غير راض بالفواحش والمنكرات. ولا حرج على العبد أن يخاف من المؤذيات طبعاً كالسباع والحيات ونحو ذلك، فيتحرز منها بالأسباب الواقية. كما أنه لا حرج على المسلمين في الخوف من عدوهم حتى يعدوا له العدة المادية مع الاعتماد على الله، فنأخذ بالأسباب ولا نعتمد إلا على الله وحده. والخوف الذي نهى الله عنه بقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، هو الخوف من المخلوق على وجه يحمل صاحبه على ترك

الواجب، أو فعل المحرم خوفاً منه، وهكذا الخوف من غير الله على وجه العبادة لغيره، واعتقاد أنه يعلم الغيب، أو يتصرف في الكون، أو ينفع أو يضر بغير مشيئة الله، كما يفعل المشركون مع آلهتهم. وأسباب الخوف كثيرة: فقد يكون الخوف بسبب جناية قارفها الخائف. وقد يكون عن صفة في المخوف كمن وقع في مخالب سبع. وقد يكون الخوف من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل، أو جوار حريق، فالماء من طبيعته الإغراق، والنار من طبيعتها الإحراق. وكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع. وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي. وتارة يكون بهما جميعاً. فإذا كملت معرفة العبد بربه أورثت جلال الخوف، واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن، وعلى الجوارح، وعلى الصفات. وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره على الأعمال أن يمنع عن المحظورات والمحرمات والشبهات. ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، ولا وصول إلى ذلك في الآخرة إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تتم المعرفة إلا بالعمل ودوام الفكر، وانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك ذلك إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف الذي يحرق كل شهوة. فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، وفضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي، ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف.

وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع، والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله. وليس الخوف بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب، وكمال المعرفة بالله، فما أخطر الجهل، وما أعظم الغفلة؟ فلا قرب الرحيل ينبهنا .. ولا كثرة الذنوب تزعجنا .. ولا رؤية الخائفين تخوفنا .. ولا خطر الخاتمة يزعجنا .. ولا عظمة الجبار وقوة بطشه تزجرنا. ونحن نخاف من يوم القيامة؛ لأننا لا ندري هل يعاملنا الله بعدله، أم يعاملنا بفضله؟ فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، ولا ندري هل تكون أعمالنا مقبولة أو مردودة؟. ولا ندري بم تواجهنا ملائكة الله؟ فأهل الإيمان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الانسان: 7]. والخائفون من الله درجات: فمنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى .. والخوف من المناقشة .. والخوف من النار .. أو حرمان الجنة .. أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى .. ومنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة .. ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم .. أو خوف الميل عن الاستقامة .. ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة. وأعلى من هذا خوف السابقة .. ومنهم من يخاف سكرات الموت وشدته .. أو سؤال منكر ونكير .. أو عذاب القبر. ومنهم من يخاف كل ذلك أو بعضه بحسب قوة المعرفة واليقين وضعفهما. فالخوف نعمة من الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى. ومن ثمرات الخوف:

أنه يقمع الشهوات .. ويكدر اللذات .. فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة .. فتحترق الشهوات بالخوف .. وتتأدب الجوارح .. ويذل القلب ويستكين .. ويفارقه الكبر والحسد .. ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة .. وحفظ الأنفاس والأوقات، وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف .. وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى وأسمائه وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال. والخوف من الله تعالى على مقامين: أحدهما: الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان أو قوة الغفلة. الثاني: الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء، فإن معرفة عظمة الله وجلاله وأسمائه وصفاته تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب، ويخافون من العذاب. ولولا أن الله لطف بعارفيه، وروَّح قلوبهم بالرجاء لاحترقت من نار الخوف، وأقرب الخلق إلى الله وأعلمهم به أشدهم له خشية كالملائكة، والأنبياء والعلماء، والأولياء، والعباد، ونحن أجدر بالخوف منهم؛ لكثرة معاصينا، وجهلنا بربنا. وإنما أَمِنّا لغلبة الجهل علينا، وشدة غفلتنا. والصفات السيئة كالكبر، والعجب، والحسد، سباع وهوام مشحونة في باطن الإنسان، فمن قهرها وقتلها قبل الموت نجا، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه، وظاهر بشرته يوم القيامة. والله تبارك وتعالى هو الذي بيده الحول كله، والخلق كله، والأمر كله، والقوة كلها، فالخوف والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويُخاف إنما هما لله، وبيد

الله، فكيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة؟ بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فعلى قدر خوف العبد من غير الله يسلط عليه، وعلى قدر رجائه لغيره يكون الحرمان. وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمعت لتكوينه الخليقة. ومن خاف الله أمن من كل شيء، ومن خاف غير الله أخافه الله من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله. ووجل القلب يحصل للعبد بمعرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه، ثم معرفة عظمة أسماء الله وصفاته، ثم معرفة عظمة كلام الله، ثم معرفة عظمة أوامر الله، ثم معرفة عظمة ثوابه وعقابه. فإذا عرف العبد ذلك سارع لطاعة ربه وامتثال أوامره. فسبحانه من إله ما أعظمه .. وما أعظم أسماءه وصفاته وأفعاله .. وما أعظم كلامه .. وما أعظم دينه وشرعه: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]. وخوف الناس قسمان: أحدهما: خوف عبادة وتذلل وتعظيم، وهذا لا يصلح إلا لله سبحانه، فمن خاف من الأصنام، أو الأموات، أو الأولياء، أو مخلوق مثل هذا الخوف فهو مشرك شركاً أكبر. الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي، فهذا إن حمل على ترك واجب، أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئاً مباحاً فهو مباح. والخشية نوع من الخوف لكنها أخص منه، والفرق بينهما: أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي منه وحاله كقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

والخوف قد يكون من الجاهل، وأيضاً الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف. وكلما قوي إيمان العبد زاد خوفه، وزال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، والشيطان يكيد ابن آدم بذلك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. والله عزَّ وجلَّ هو المقرب والمبعد، فليحذر القريب من الإبعاد، والمتصل من الانفصال، يعلم من يصلح للقرب منه، ومن لا يصلح كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. والله عزَّ وجلَّ غيور، لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته، واتصل قلبه بمحبته، والأنس به أن يكون له التفات إلى غيره البتة. ومن غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده أن يلتفت إلى غيره. فإذا أذاق عبده حلاوة محبته، والأنس به، ثم ساكن غيره، باعده من قربه، وقطعه من وصله، وأوحش سره، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان. فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب، وملئ من الهموم والغموم والأحزان، وصار محلاً للجيف والأقذار، وبدل بالأنس وحشة، وبالعز ذلاً، وبالقرب بعداً، كان هذا بعض جزائه. فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات. ومن عرف ربه، وذاق حلاوة قربه ومحبته، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره، ثبط جوارحه عن طاعته، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته، وأخره عن محل قربه،

وولاه ما اختاره لنفسه. وإذا أراد المرء أن يعرف ما حل به من بلاء الانفصال، والبعد وذل الحجاب فلينظر من استعبد قلبه .. واستخدم جوارحه .. وشغل سره؟ وينظر أين يبيت قلبه إذا أخذ مضجعه؟ وأين يطير قلبه إذا استيقظ من منامه؟ فذلك هو معبوده وإلهه، فإذا سمع النداء يوم القيامة: لينطلق كل واحد مع من كان يعبده، انطلق معه كائناً ما كان: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر: 15].

26 - فقه الرجاء

26 - فقه الرجاء قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. الرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده. والرجاء ضد اليأس؛ لأن الرجاء يبعث على العمل، واليأس يمنع من العمل، والرجاء محمود لأنه باعث، واليأس مذموم لأنه صارف عن العمل. والخوف ليس ضد الرجاء، بل هو رفيق له، بل هو باعث آخر بطريق الرهبة، كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة. فالرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال. ومن آثار الرجاء: التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى .. والتنعم بمناجاته، والتلطف في التملق له. والدواء يحتاج إليه أحد رجلين: إما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله، وإما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وانقطع عن العمل. وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال، فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال. فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه، فمثل هذا المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، والأسباب المهيجة له. فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناضراً إلى مواقع العلل، معالجاً لكل علة بما يضادها ويزيلها.

والمطلوب هو العدل، وخير الأمور أوسطها. فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط، لا بما يزيد في ميله عن الوسط. وأسباب الرجاء تستعمل في حق الآيس، أو فيمن غلب عليه الخوف، والخوف والرجاء جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى، وذلك موجود في القرآن والسنة، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حسب الحاجة والحالة استعمال الطبيب الحاذق، لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض. وحال الرجاء يطلب بالاعتبار وتدبر القرآن، والآثار. أما الاعتبار: فيتأمل العبد أصناف النعم التي أنعم الله بها على عباده، ويعرف لطائف نعم الله على عباده، وعجائب حكمه في خلق الإنسان، وما أعد له من الأرزاق في الدنيا والآخرة مما هو ضروري أو جمالي. فمن أعطى عباده هذا كيف يرضى بسوقهم إلى الهلاك المؤبد؟ ولكن الناس يظلمون أنفسهم تارة باليأس .. وتارة بالتقصير .. وتارة بالاستهانة بأوامر الله. بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت؛ لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر. فإذا كان أغلب الخلق في الدنيا الغالب عليهم الخير والسلامة، فالغالب أن أمر الآخرة يكون كذلك إلا من مات كافراً أو مشركاً، أو منافقاً. ومدبر الدنيا والآخرة واحد، وهو غفور رحيم كريم لطيف بعباده، فهذا إذا تدبره الإنسان قوَّى به أسباب الرجاء كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا وَأزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، أوْ

أغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَة» أخرجه مسلم (¬1). وكذلك النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا، ووجه الرحمة للعباد بها في الدنيا والآخرة. وأما الآيات فكقوله سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. وقوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «للهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» أخرجه مسلم (¬2). والرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله، والاستشعار بجوده وفضله، والثقة بجوده وكرمه، وهو حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير إلى ربها ومرضاته. والفرق بين الرجاء والتمني: أن التمني يكون مع الكسل .. والرجاء يكون مع بذل الجهد، وحسن التوكل. فعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة. والرجاء ثلاثة أنواع: رجاء من عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه. ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه، وهذان ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2687). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2747).

محمودان. والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا الغرور والتمني، والرجاء الكاذب. والخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وفي كلا الرجائين كمال: رجاء المحسن ثواب إحسانه وطاعاته، لقوة أسباب الرجاء معه، ورجاء المذنب المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه؛ لأن رجاءه مجرد من علة رؤية العمل، مقرون بذلة رؤية الذنب. والرجاء من أجلِّ المنازل وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله عزَّ وجلَّ. وقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه. ولولا الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، ولولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا روح الرجاء وريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات، وعلى حسب محبة الله وقوتها يكون الرجاء والخوف، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المطيع المحب لا يصحبه وحشة، بخلاف خوف المسيء. ورجاء المطيع المحب لا يصحبه علة، بخلاف رجاء المذنب المسيء. والرجاء ضروري ولازم لكل عبد، لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة

يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله، ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد عن هذه الأمور أو بعضها. والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، بل هو من أقوى الأسباب، فالراجي راغب وراهب، ومؤمل لفضل ربه، وحسن الظن به، متعلق الأمل، ببره وجوده، عابد له بأسمائه الحسنى كالبر والكريم، والجواد والوهاب، والمعطي والرزاق، والحليم والغفور. والله سبحانه يحب من عبده أن يرجوه، ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]. وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك سبحانه في ملكه، فإن الراجي إنما يرجو تصرفه في ملكه بما هو أولى وأحب الأمرين إليه. فإن الفضل والإحسان أحب إليه من العدل، والعفو أحب إليه من الانتقام، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء، والترك أحب إليه من الاستيفاء، ورحمته سبقت غضبه. فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له، المرضي له، وإذا تعلق الراجي بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له، هارباً من مراده المكروه له، وعلى تقدير أن يكون محبوباً له إذا كان انتقاماً فالعفو والفضل أحب إليه منه، فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه. وليس الدعاء والرجاء اعتراضاً على ما سبق به القدر، بل تعلقاً بما سبق به الحكم، فإنه إنما يرجو فضلاً وإحساناً ورحمة سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها للعبد. أما فوائد الرجاء: فالرجاء يبرد حرارة الخوف التي قد تصل بصاحبها إلى اليأس. وفيه إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه بسؤاله.

وهو سبحانه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الجواد، أجود من سئل، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر: 29،30]. والرجاء يحدو العبد في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء، وبالرجاء يزداد العبد حباً لله، فإنه كلما اشتد رجاؤه، وحصل له ما يرجوه ازداد حباً لله، وشكراً له، ورضى به وعنه. وبالرجاء يزداد العبد من معرفة الله وأسمائه وصفاته، ومعانيها، والتعلق بها، والتعبد بها. وفي الرجاء تكميل مراتب العبودية من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة. ولهذا قدر الله على العبد الذنب وابتلاه به لتكميل مراتب العبودية له بالتوبة التي هي أحب شيء إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف. ودرجات الرجاء ثلاث: الأولى: رجاء يبعث العامل لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه، ويولد عنده اللذة حين الطاعة والعبادة. فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها، وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره، وكذا المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل رضاه عنه، وقبوله سعيه، وقربه منه، تلذذ بتلك المساعي والأعمال. وكذلك الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد، ولا تسمح له بتركها إلا

بعوض هو أحب إليها من رسومها. فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف سمحت الطباع بترك تلك الرسوم، فإن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو حذراً من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب. الثانية: رجاء يبعث النفس لترك مألوفاتها، والاستبدال بها مألوفات أخرى هي خير منها وأكمل. فرجاء هؤلاء أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت، ولزوم الشرع، والوقوف عند حدوده. الثالثة: رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق، المبغض المنغص للعيش، المزهد في الخلق. وهذا الرجاء أفضل أنواع على الرجاء وأعلاها، والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه، وعيشه منغص حتى يلقى محبوبه. فهناك تقر عيناه، ويزول عن عيشه تنغيصه، ويزهد في الخلق وما يملكون؛ لأن صاحبه طالب للأنس بالله، والقرب منه، فهو أزهد شيء في الخلق، إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم، وأوصله إليه، فهو أحب خلق الله إليه، ولا يأنس من الخلق بغيره، ولا يسكن إلى سواه. فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك، فإن لم تظفر به فاتخذ الله رفيقاً، ودع الناس كلهم جانباً. وعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة، ولزوم العبادة، والخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام عال ومنزل محمود. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة لكل من أراد الله والدار الآخرة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والله رؤوف بالعباد، رحيم بهم، ومن رحمته أن خلقهم في أحسن تقويم،

وهداهم إلى الإيمان، وأعانهم على الطاعة، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسكنهم في أرضه، وأطعمهم من رزقه، وسقاهم من مائه، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ومظاهر رحمته يوم القيامة أعظم وأكبر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6000)، ومسلم برقم (2752) واللفظ له.

27 - فقه المراقبة

27 - فقه المراقبة قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. المراقبة: هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه على ظاهره وباطنه. وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين. ومن راقب الله عزَّ وجلّ َفي خواطره عصمه في حركات جوارحه. وعلامة المراقبة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله، والرجاء يحرك إلى الطاعة، والخوف يبعد عن المعاصي، والمراقبة تهديك إلى الطريق الحق. والمراقبة على ثلاث درجات: الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام، بين تعظيم لربه يذهله عن تعظيم غيره، وعن الالتفات إليه، وامتلاء قلبه بذلك. فالحضور مع الله يوجب له أنساً ومحبة، إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجاً عن حدود العبودية ورعونة، ودنواً وقرباً من ربه يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره. وسرور باعث على الفرحة والتعظيم واللذة في ذلك القرب، فإن سرور القلب بالله، وفرحه به، وقرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة. وهذا السرور يبعث على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته.

ومن لم يجد هذا السرور والطعم والحلاوة ولا شيئاً منه، فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان ولذته. الدرجة الثانية: مراقبة العبد لمراقبة الله له، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات الباطنة، التي منها رفض معارضة أمره وخبره ورفض كل محبة تزاحم محبته .. وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به، وتوجب الإعراض عن الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة .. والاعتراض على شرعه وأمره بالآراء والأقيسة المتضمنة تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، والاعتراض على حقائق الشرع والإيمان بالأذواق والكشوفات الباطلة، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه، فاغتالوا القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من ذلك خراب العالم، وهدم كثير من قواعد الدين، والاعتراض على الدين بالسياسات الجائرة التي قدموها على حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا بها ولها شرعه وعدله وحدوده. والعاصم من كل ذلك التسليم المحض للوحي، وكذلك الإعراض عن الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره، وهذا اعتراض الجهال، وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم. وكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله، إلا نفساً قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فتلك حظها التسليم والانقياد، والرضا كل الرضا. الثالثة: شهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه، وأنه كان ولم يكن شيء غيره البتة. وكل ما سواه كائن بتكوينه له، وكل ما يظهر في الأبد هو عين ما كان معلوماً في الأزل، وإنما تجددت أوقات ظهوره.

ومراقبة الإخلاص في كل حال، ومراقبة مواقع رضا الرب ومساخطه في كل حركة، والفناء عما يسخطه بما يحب سبحانه، فانياً عن مراده من ربه مهما علا بمراد ربه منه. ومن حسن المراقبة أن تكون قيماً على إيمانك حتى لا ينقص، وعلى جوارحك حتى لا تكل، فإذا وفيتها الحظوظ فاستوف منها الحقوق: حق الله .. وحق رسوله .. وحق كتابه .. وحق دينه .. وحق الأهل .. وحق الأرحام .. وحق الجيران ... وحق المؤمنين. ومن حسن المراقبة إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلاً باللسان فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتاً أو مستخفياً فاذكر علم الله بك ونظره إليك، فهو الذي لا يخفى عليه شيء: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61]. وحقيقة المراقبة ملاحظة الرقيب، وانصراف الهمم إليه، وهي حالة للقلب تثمرها معرفة الله، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في القلب والجوارح. أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب، واشتغاله به، والتفاته إليه، وملاحظته إياه، وانصرافه إليه. وأما المعرفة التي ثمرتها هذه الحالة فهي العلم بأن الله مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أعظم من ذلك. فإذا استولت هذه المعرفة على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب، وصرفت همه إليه، فتولد من ذلك قوة الإيمان واليقين، والرغبة في الطاعات، وكراهية المعاصي والسيئات.

ولب المراقبة أن تكون أبداً كأنك ترى الله عزَّ وجلَّ، ومن راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه. وهذا الدين بني على أصلين: مراقبة الله في كل عمل .. وأن يكون العلم على ظاهرك قائماً. ولا يغرَّنك اجتماع الناس عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك. وأفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات، فعليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء.

28 - فقه المحاسبة

28 - فقه المحاسبة قال الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. المحاسبة: هي التمييز بين ما للإنسان وما عليه. فيأخذ ماله .. ويؤدي ما عليه .. لأنه مسافر سفر من لا يعود. وينظر ما قدم لغد، هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أولا يصلح؟ وينظر هل يكفيه ما قدم من عمل فينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله؟ وينظر كذلك إلى ما قدم من العمل، هل يحبه الله ويرضاه، أم يبغضه ويسخطه؟. ومن حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته في الدنيا والآخرة. والناس متفاوتون في المحاسبة، وفي كيفية الحساب؟ والمحاسبة أن يخلو العبد بنفسه مثلاً ويقول: اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وإن كل عبد ينشر له بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له خزانة منها فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيسره ذلك، ويفتح له خزانة أخرى مظلمة يفوح ريحها نتناً، ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله فيها فيسوؤه ذلك، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا ما يسره، وهي الساعة التي نام عنها، أو غفل عنها، ويتحسر على خلوها. وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته وأعماله وإهماله. ثم يستأنف لنفسه وصية أخرى في أعضائه السبعة وهي: العين .. والأذن .. واللسان .. واليد .. والرجل .. والبطن .. والفرج.

فيشغل ويحلي كل عضو بما خلق له من الطاعات، ويحفظه من المعاصي. ثم يواصل ترغيبها في العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، فرضها ونفلها، بالاستكثار منها، وحسن أدائها، والمواظبة عليها حتى تتعود النفس على ذلك. وعلى الإنسان أن يراقب نفسه قبل العمل، وأثناء العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو الرياء، أو المحرك له هو الله تعالى، فإن كان الله أمضاه وهذا هو الإخلاص، وإن كان لغيره تركه. وقد خلق الله تبارك وتعالى النفس أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرنا الله بتزكيتها وفطامها لتكون مطمئنة عابدة لربها. ومن محاسبة النفس وعظها وتذكيرها بما ينفعها، وزجرها عما يضرها كأن يقول لها: يا نفس .. أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة، ولا يتوقف على سن دون سن، وكل ما هو آت قريب، فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب؟ يا نفس .. أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار، فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير، وربما اختطف في يومه أو غده؟. يا نفس .. إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كنت تعلمين أنه يراك فما أشد جهلك، وما أقل حياءك. يا نفس .. إن كان المانع لك من لزوم الاستقامة حب الشهوات فاطلبي الشهوات الباقية الصافية من الكدر. يا نفس .. ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول أم ألم النار في الدركات؟ يا نفس .. جوار رب العالمين لا يعدله جوار، فاعملي في أيام قصار لأيام طوال، واخرجي من الدنيا خروج الأحرار، قبل أن يكون خروج اضطرار. واعلمي أن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. وكل فساد في الدنيا إنما يحصل حينما لا يتوقع الفرد أو المجتمع حساباً، أما إذا توقع المجتمع حساباً فهنا ينتظم الأمر، وتصلح أحوال الأمة.

والمحاسب في المجتمع: إما الحاكم الذي نصبه الله ليقيم شرعه في الأمة. أو المجتمع الذي يحاسب صاحب الجريمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو النفس التي تحاسب صاحبها وتلومه وتؤنبه، أو الاعتقاد أنه محكوم أمام عيني خبير لا تخفى عليه خافية، لا يستطيع أن يستتر عنه أحد، وأنه يراقبني وسوف يحاسبني على ما عملت. فمن لا يرجو حساباً .. ولا يتوقع سؤالاً في الدنيا والآخرة، فإنه يفسد ويهمل العمل للآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 21 - 28]. والمحاسبة لها ثلاثة أركان: أحدها: أن تقايس بين نعم الله عليك وبين جنايتك، وما من الله وما منك، فيظهر لك حينئذ التفاوت، وتعلم أن ليس إلا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطب. وبذلك يعلم العبد أن كل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل، وأن النفس منبع كل شر، وأساس كل نقص، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً، ولولا هداه ما اهتدت. ثم تقايس بين الحسنات والسيئات، فتعلم أيهما أكثر وأرجح قدراً أو صفة بالعلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، ويبصر به مراتب الأعمال أفضلها وأدناها، ومقبولها ومردودها، وبإساءة الظن بالنفس؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال المراقبة والتفتيش، ويُلَبَّس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالاً، ويميز بين النعمة والفتنة: فيفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مستدرج بالنعم

وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه. وكذلك على العبد أن يميز بين منَّة الله عليه، وبين حجة من الله عليه. فكل قول، أو عمل، أو مال، أو علم، أو فراغ، أو جهد، أو ثناء اقترن به رضا الله وطاعته، واشتغال بما يحبه ويرضاه، فهو منَّة من الله، وإلا فهو حجة من الله عليك. الثاني: أن يميز العبد بين ما للحق عليه من وجوب العبادة، وفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وبين ماله وما عليه، فعليه حق، وله حق، ولا بدَّ من إعطاء كل ذي حقه حقه. الثالث: أن يعرف الإنسان أن كل طاعة رضيها الله منه فهي عليه. فجهل الإنسان بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنى وشرب الخمر ونحوهما. وأرباب العزائم وأهل البصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات، بشهودهم تقصيرهم فيها، وعدم القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه. وأنه لولا الله لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده، فالنفس مأوى كل عيب وشر، وعملها عرضة لكل آفة ونقص، ولكن الله يعفو ويضاعف ويرحم، ويجزي على العمل القليل الأجر الكثير، وهو الجواد الكريم. والتاجر يحسب كل يوم كم كسب؟ وكم خسر؟ وكم استهلك؟ وذلك ليضمن بقاء ماله ونمو تجارته. وهكذا كل مؤمن ينبغي أن يحاسب نفسه، فإن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فعليه أن يحمد الله، ويستمر في الطاعة، ويزيدها وينوعها ويحسنها، لتكون مقبولة موفورة.

وإن كانت معاصيه أكثر من طاعاته فعليه فوراً المبادرة إلى التوبة، فهو عرضة للهلاك والعطب. وإن كانت معاصيه وطاعاته سواء فهذا جمود، والمؤمن مأمور بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، والمنافسة فيها، وترغيب الناس فيها. والمؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عزَّ وجلَّ، يعلم أنه مؤاخذ ومحاسب على سمعه وبصره، وعلى لسانه وجوارحه. وحياة المسلم كلها علم وعمل، وعبادة ودعوة، وجهاد وإحسان، فيجب عليه أن يحاسب نفسه أول النهار وآخره. ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران، ليتبين له الزيادة من الخسران. فرأس المال في الدين الفرائض .. وربحه النوافل والفضائل .. وخسرانه المعاصي والسيئات. وينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على المعاصي في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمى بكل معصية يفعلها حجراً في داره؛ لأمتلأت داره في مدة يسيرة. ولو كان للمعاصي رائحة كريهة ما أطاق أحد الجلوس في بيته، ولكن الإنسان يتباهى بذكر الطاعات، ويتساهل في حفظ نفسه من المعاصي. والكل معدود ومحسوب ومعروض على العبد، أحصاه الله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7،8]. وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون فكره الأغلب فيما يتعلق بدينه، فينظر في أربعة أمور: الطاعات .. والمعاصي .. والصفات المنجيات .. والصفات المهلكات. فيحرص على الطاعات .. ويجتنب المعاصي .. ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.

فمن المهلكات ينظر في عشرة، فإن سلم منها سلم من غيرها وهي: الكبر .. والعجب .. والبخل .. والرياء .. والحسد .. وشدة الغضب .. وشره الطعام .. وشره الوقاع .. وحب المال .. وحب الجاه. ومن المنجيات ينظر في عشرة وهي: الندم على الذنوب .. والشكر على النعماء .. والصبر على البلاء .. والرضا بالقضاء .. والزهد في الدنيا .. واعتدال الخوف والرجاء .. والإخلاص في الأعمال .. وحب الله تعالى .. وحسن الخلق مع الخلق .. والخشوع لله. فيتخلص من المهلكات واحدة بعد واحدة، ويبادر إلى المنجيات واحدة بعد واحدة، وذلك لا يتم إلا بتوفيق الله وعونه. وعلى المسلم إن كان عليه مظالم أن يردها قبل أن يموت، فإن غرماءه يحيطون به يوم القيامة، فهذا يقول ظلمني، وهذا يقول استهزأ بي، وهذا يقول أساء جواري، وهذا يقول سرقني. فيؤخذ من حسناته، وتعطى لكل واحد بقدر مظلمته، فإن فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، نسأل الله السلامة والعافية.

29 - فقه المشاهدة

29 - فقه المشاهدة قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. وقال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 10،11]. كلام الله تبارك وتعالى لا ينتفع به إلا من كان له قلب حي واع، وأصغى بسمعه كله نحو المتكلم، وأحضر قلبه وذهنه عند المكلِّم له وهو الشهيد، كالمبصر لا يدرك حقيقة المرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة، وحدق بها نحو المرئي، ولم يكن قلبه مشغولاً بغير ذلك. والمشاهدة: قوة اليقين، ومزيد العلم، وارتفاع الحجب بين القلب وبين الرب. فيرى العبد حقيقة أسماء الله وصفاته، وأفعاله وكماله، وجماله وجلاله، وأنه ليس كمثله شيء في كماله، وكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه. وكل من كان بصفات الله أعرف، ولها أثبت، كان أكمل شهوداً، وكل من كان بها أعرف، كان بالله أعلم، وله أعبد. ولا سبيل للبشر إلى شهود الذات الإلهية في هذه الدنيا البتة، وإنما إليهم شهود المخلوقات والصفات والأفعال. وأما ذات الرب جل جلاله فلا يراها أحد في الآخرة إلا المؤمنون كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22،23]. وأما الكفار فلا يرون الله في الآخرة كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]. والمعاينة: هي الرؤية بالعين، ورؤية الله في هذه الدار ممتنعة.

والمعاينة ثلاث درجات: إحداها: معاينة الأبصار، وهي الرؤية بالعين، برؤية الشيء عياناً ومشاهدة بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة. الثانية: معاينة عين القلب، وهي معرفة عين الشيء على نعته، وقد جعل سبحانه القلب يبصر ويعمي كما تبصر العين وتعمى كما قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. الثالثة: معاينة عين الروح، وهي التي تعاين الحق عياناً محضاً برؤية الحق من الباطل، وقوة اليقين. وأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم بقلبه شاهد من الدنيا وحقارتها، وفنائها، وخسة شركائها، ويرى أهلها صرعى حولها، أضحكتهم قليلاً، وأبكتهم كثيراً، وعذبتهم بأنواع العذاب. فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل عنها، وسافر في طلب الدار الآخرة. فيرى الآخرة ودوامها فأهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها، فهي دار القرار، ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها، وبعد قعرها، وشدة حرها، وصراخ أهلها، فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه، زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم. ويراهم يسبحون في النار على وجوههم، يأكلون فيها الزقوم، ويشربون الحميم، ويفترشون النار، قطعت لهم ثياب من نار: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} ... [فاطر: 36]. فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي، واتباع الشهوات، ولبس ثياب الخوف والحذر، وهانت عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه. وبحسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، وتذوب من قلبه تلك الفضلات والمواد المهلكة، فيجد القلب لذة العافية وسرورها.

فيقوم بقلبه بعد ذلك شاهد من الجنة، وما أعد الله لأهلها فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما وصفه الله لعباده من النعيم المقيم، المشتمل على المطاعم والمشارب، والملابس والقصور، والبهجة والسرور. فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصباؤها الدر والياقوت، وبناؤها من الذهب والفضة، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب من المسك، وأبرد من الثلج. ويرى الحور العين التي غلب نورهن ضوء الشمس، والحور العين اللاتي كأمثال اللؤلؤ المكنون، وأمثال الياقوت والمرجان. ويرى الولدان المخلدون الذين كاللؤلؤ المنثور، وهم يخدمون أولياء الله في الجنة، ويرى أهل الجنة يأكلون من ألوان الفواكه في الجنة، فاكهة لذيذة دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، يأكلون لحم طير مما يشتهون، ويشربون من عسل مصفى، وماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه، وخمر لذة للشاربين، ويراهم على الأرائك متكئين، على سرر متقابلين، وفي جنة يحبرون، وفيها من كل ما يشتهون: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 71]. فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضوانه. فإذا انضم هذا الشاهد على الشواهد التي قبله، فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها، وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد، ويغيب به العبد عنها كلها، وهو شاهد جلال الرب وجماله وكماله، وعزه وسلطانه، وقيوميته وعلوه. فإذا شاهده العبد شاهد بقلبه قيوماً قاهراً فوق عباده، مستوياً على عرشه، متفرداً بتدبير مملكته، آمراً ناهياً، يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضي ويغضب،

ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويحيي ويميت. يعطي من سأل .. ويرحم المسترحمين .. ويغفر للمذنبين .. ويجيب الداعين. أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء .. وأقوى من كل شيء .. وأعز من كل أحد .. وأحكم من كل أحد: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. فلو جمعت قوة الخلائق كلهم، ثم جمعت تلك القوى في واحد منهم، ثم كانوا كلهم على تلك القوة، ثم نسبت تلك القوى إلى قوة الجبار سبحانه لكانت أقل من قوة البعوضة بالنسبة لقوة الأسد. ولو قدر جمال الخلق كلهم، وجعل في واحد منهم، ثم كانوا كلهم بذلك الجمال، ثم نسب إلى جمال الرب تعالى، لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس. ولو كان علم الأولين والآخرين على رجل منهم، ثم كان كل الخلق على تلك الصفة، ثم نسب إلى علم الرب تعالى، لكان ذلك بالنسبة إلى علم الرب كنقرة عصفور في البحر. وهكذا سائر أسمائه وصفاته كسمعه وبصره، وسائر نعوت كماله، فإنه يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل سبحانه. سواء عنده السر والعلانية .. والغيب والشهادة .. يرى دبيب النملة السوداء .. على الصخرة الصماء .. في الليلة الظلماء. يضع سبحانه السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، ويقبض سماواته بيده اليمنى، ويقبض الأرضين بيده الأخرى. ولو أن الخلق كلهم من السماوات والأرض، والجبال والأشجار، والملائكة والروح، والإنس والجن، وسائر الخلق كلهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله جل جلاله، والله بكل شيء محيط، وكل نور في العالم من نوره.

«حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬1). فسبحان من بيده الملك، وهو على كل شيء قدير. وسبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة. فإذا قام بالعبد هذا الشاهد، اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تعدم، بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها. ومن هذا شاهده وسلوكه فله سلوك وسير خاص، ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أو معرفة مجملة. وصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه، له شأن، وللناس شأن. وكل ما يقوم بقلوب عابديه ومحبيه سبحانه هو من هذا الشاهد، وهو الباعث لهم على العبادة والمحبة، والخشية والإنابة، وتفاوتهم فيه لا يحصر. وأعظم الناس حظاً في ذلك معترف بأنه لا يحصي ثناء عليه سبحانه، وأنه فوق ما يثني عليه المثنون، وفوق ما يحمده الحامدون: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. وكل قلب متلوث بالخبائث والأخلاق الرديئة، والصفات الذميمة، متعلق بالمرادات السافلة، حرام عليه أن يقوم به هذا الشاهد. ومَنْ منَّ الله عليه فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه. إن قام بقلبه شاهد الربوبية والقيومية رأى أن الأمر كله لله، ليس لأحد معه من الأمر شيء: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (179).

وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. وإن قام بقلبه شاهد من الإلهية رأى في ذلك الشاهد الأمر والنهي، والأنبياء والكتب، والشرائع، والمحبة والرضا، والثواب والعقاب. ورأى الأمر نازلاً ممن هو مستو على عرشه، وأعمال العباد صاعدة إليه، ومعروضة عليه. يجزي على الإحسان إحساناً، ويضاعف الأجور والحسنات، ويكسو وجوه أوليائه نضرة وسروراً، وكل ما لم يكن على وفق أمره وشرعه من الأقوال والأعمال يجعله هباءً منثوراً كما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]. وإن قام بقلبه شاهد من الرحمة رأى الوجود كله قائماً بهذه الصفة، قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلماً، وبلغت رحمته إلى حيث بلغ علمه. فاستوى جل جلاله على عرشه بأوسع صفاته وهي الرحمة، لتسع كل شيء كما وسع عرشه كل شيء كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وإن قام بقلبه شاهد العزة والكبرياء والعظمة والجبروت، فله شأن آخر، فيرى ربه مستوياً على عرشه، عزيزاً في ملكه لا يضام، له الكبرياء في السماوات والأرض، الذي تفرد بالعظمة والجبروت: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]. وهكذا يرى بقلبه شواهد جميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، فيطمئن قلبه، ويزيد إيمانه، ويقوى يقينه، فيسهل عليه امتثال أوامر الله، ويقبل على طاعة مولاه. وإن قام بقلبه شاهد الخلق والأمر في هذا الكون الكبير، رأى الخلاق العليم خالق كل شيء، وبيده ملك كل شيء، فالعرش شيء، والكرسي شيء، والجنة

شيء، والنار شيء، والله خالق كل شيء، وبيده أمر كل شيء. والسماوات شيء، والملائكة شيء، والشمس شيء، والقمر شيء، والنجوم شيء، والله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء. والسحب شيء، والهواء شيء، والرياح شيء، والعواصف شيء، والله خالق كل شيء. والأرض شيء، والجبال شيء، والبحار شيء، والنبات شيء، والمعادن شيء، والله خالق كل شيء. والإنس شيء، والجن شيء، والحيوانات شيء، والطيور شيء، والأسماك شيء، والذرات شيء، والأنفاس شيء، والله خالق كل شيء. والحياة شيء، والموت شيء، والصحة شيء، والمرض شيء، والغنى شيء، والفقر شيء، والأمن شيء، والخوف شيء، والله خالق كل شيء. والأبيض شيء، والأسود شيء، والماء شيء، والحجر شيء، والفرح شيء، والحزن شيء، والله خالق كل شيء. والقائم على كل شيء، وعلى كل نفس، وعلى كل ذرة. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 62 - 64]. لا يوجد شيء، ولا يحيا شيء، ولا يموت شيء، ولا يزيد شيء، ولا ينقص شيء، ولا يرتفع شيء، ولا ينخفض شيء إلا بأمره وإذنه، وتقديره وتدبيره سبحانه. يرى كل شيء .. ويسمع كل شيء .. ويعلم كل شيء .. محيط بكل شيء .. رقيب على كل شيء .. قادر على كل شيء .. بصير بكل شيء .. لا يعزب عنه شيء .. ولا يخفى عليه شيء: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ

وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 102،103]. فسبحان العزيز الجبار .. العليم الخبير .. الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض .. ويعلم ما في البر والبحر. يعلم مكاييل البحار .. وعدد ذرات الرمال .. وعدد ورق الأشجار .. وعدد الملائكة والإنس والجان .. وعدد الكلمات والأنفاس .. وعدد الأقوال والأفعال .. وعدد الحركات والسكنات {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. ألا ما أعظم قدرة الملك العزيز الجبار، وما أوسع ملكه، وما أعظم خلقه. إن الإنسان الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات ليأخذه العجب من عظمتها وجمالها، وكمالها وكثرتها، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ومدبرها؟ إننا لو نظرنا وتدبرنا في خلق واحد من أضعف المخلوقات وأصغرها، وقد ملأ الله به الكون كله، وهو عالم الذرات، الذي أعطى الله كل ذرة منه: أمر الإيجاد .. وأمر البقاء .. وأمر النفع والضر .. وأمر الحركة والسكون .. وأمر الصعود والهبوط. فكم عدد الذرات التي خلقها الله في العالم؟. وكم عدد الأوامر التي تتعلق بتدبيرها؟ إن ذرات غرفة واحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القصر، وذرات القصر لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات المدينة، وذرات المدينة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الدولة، وذرات الدولة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارة، وذرات القارة الواحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارات السبع. وذرات الأرض كلها لا تساوي شيئاً بالنسبة للذرات الموجودة في الجو بين السماء والأرض.

وذرات الجو والأرض لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات السماوات السبع. وذرات السماوات السبع والأرضين السبع لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الجنة والنار. وذرات العالم العلوي والعالم السفلي، وذرات الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الكرسي. وذرات الكرسي لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات العرش، فسبحان الله الذي خلق هذه الذرات، وأحصى أعدادها، وعلم مكانها، وكل هذه الذرات لا تساوي شيئاً بالنسبة لما في خزائن الله من الذرات: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وكل ذرة من هذه الذرات التي لا يحصيها إلا الذي خلقها لها أمر من الله بالإيجاد، وأمر بالبقاء، وأمر بالتحريك والتسكين، ولا يخفى على الله منها ذرة في الأرض ولا في السماء. سبحانه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سبأ: 3]. ولا يند من هذه الذرات شيء، بل جميعها في ملك الله، وفي قبضة الله كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16]. فهذا الكون كله ما نبصره وما لا نبصره، كله ملك رب العالمين. أرأيت أعظم من هذا الملك، وأوسع من هذا العلم؟ {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. فهذه عظمة العزيز الجبار وقدرته في خلق واحد من مخلوقاته وهي الذرات التي أكثر الناس غافل عنها.

فكيف بعظمة خلق الكائنات الأخرى كالعرش والكرسي .. والسماوات والأرض .. والجبال والبحار .. والشمس والقمر .. والكواكب والنجوم .. والجماد والنبات .. والإنسان والحيوان؟ وكيف بعظمة الخلاق العليم الذي خلقها؟ {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11]. هو سبحانه الذي له الخلق كله، والأمر كله، ظاهره وباطنه، كبيره وصغيره، وأوله وآخره. يحيي ويميت .. ويخلق ويرزق .. ويعطي ويمنع .. ويعز ويذل .. ويعافي ويسقم .. ويرفع ويضع .. بيده وحده النفع والضر .. والخلق والأمر .. والتصريف والتدبير .. والتحريك والتسكين .. والأمن والخوف .. واليسر والعسر .. والإكرام والإهانة. وله ملك السماوات والأرض وما فيهن: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120]. خلق سبحانه الدنيا والآخرة، والجنة والنار، والنعيم والعذاب، والثواب والعقاب، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فأين من يشاهد؟ وأين من يرى؟ وأين من يبصر؟ وأين من يعلم؟ فسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. ماذا بيد الله؟ وماذا بأيدينا؟ وماذا علمنا؟ وماذا جهلنا؟ وماذا قدمنا؟ وماذا أخرنا؟ {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ

اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 18 - 20]. وهكذا يرى بقلبه شواهد جميع الصفات، فيزيد إيمانه، وتنقاد جوارحه لطاعة ربه، ويلهج لسانه بذكره وحمده.

30 - فقه الرعاية

30 - فقه الرعاية قال الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} [الأعراف: 171]. وقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]. الرعاية: مراعاة العلم، وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإخلاص والإحسان، وحفظه من المفسدات، ومراعاة الحال بموافقة الشرع. ومن التزم لله شيئاً لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه كمن شرع في طاعة مستحبة بإتمامها، فالتزامها بالشروع كالتزامها بالنذر. فكما يجب عليه ما التزمه بالنذر وفاءً، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماماً. وقد ذم الله سبحانه من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها كما قال سبحانه عن النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [الحديد: 27]. فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده، وأذن بها، وحث عليها، وأمر بها سبحانه؟ والرعاية التي ينبغي للمسلم الالتزام بها ثلاث درجات: الأولى: رعاية الأعمال، وتكون بأدائها على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وأوقاتها، واستصغارها في عينه واستقلالها، وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر قصر عنه العبد، وأنه لم يعرف حقه، وأنه لا يرضى لربه بعمله الناقص ولا بشيء منه، فيكثر من الاستغفار. فمن شهد واجب ربه سبحانه، وشهد مقدار عمله، وشهد عيب نفسه، لم يجد بداً من استغفار ربه منه، واحتقاره إياه، واستصغاره. ويوفي الأعمال حقها من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها، وذلك مخافة

العجب والمنة بها، فيسقط من عين الله، ويحبط عمله. وعليه أن يجريها على مجرى العلم المأخوذ من مشكاة النبوة، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه، وطلب مرضاته. الدرجة الثانية: رعاية الأحوال، بأن يتهم نفسه في اجتهاده أنه راءى الناس، فلا يطغى بعمله، ولا يسكن إليه، ولا يعتد به، ويتهم يقينه، وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي، وما حصل له منه لم يكن به ولا منه، ولا استحقه بعوض، وإنما هو فضل الله وعطاؤه. فهو يذم نفسه في عدم حصوله، ولا يحمدها عند حصوله، بل يحمد الله الذي وفقه وأعانه قائلاً: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. الثالثة: رعاية الأوقات، بأن يقف مع كل خطوة، ومع كل حركة، ظاهرة وباطنة؛ ليصححها نية وقصداً، وإخلاصاً ومتابعة. فيقف قبل كل خطوة حتى يصحح الخطوة. والعباد مسئولون عن الدين أداءً وإحساناً، وإتماماً ورعاية، فعليهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه .. والوفاء بالعهد الذي عاهدوا الخلق عليه .. وهم مسئولون عن كل ذلك كما قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]. فمن وفى فله الثواب الجزيل .. ومن نقض العهد فعليه الإثم العظيم: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. فبأي وجه يلقى الله من جعل أوقاته للشهوات، وحركاته لجمع حطام الدنيا، وقصر في حق ربه، وفي حق دينه، وفي حق رسوله، وفي حق البشرية قاطبة؟ وبأي حجة يلقى الله من قصَّر في عبادة الله، والدعوة إليه، وتعليم شرعه؟ إن الكل مسئول عما قدم وأخر، ويحاسب على ما عمل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ

أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف: 6 - 9]. إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه. تارة يعبد ربه .. وتارة يدعو إليه .. وتارة يتعلم أو يعلم شرعه. فأين من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى بين الورى؟ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [الذاريات: 50].

31 - فقه الذوق

31 - فقه الذوق قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» أخرجه مسلم (¬1). الذوق: مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر. ولا يختص ذلك بالفم بل بجميع الحواس. فالإيمان له طعم، والقلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب، وذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق الجسم حرارة الأشياء أو برودتها. فللإيمان طعم وحلاوة، يذوق طعمه القلب ويجد حلاوته. والذوق على ثلاث درجات: الأولى: ذوق التصديق، فالمؤمن إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته ثبت على حكم الوعد واستقام. وذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه شيء عند الجد في الطلب، والسير إلى ربه. والذوق أمر باطن، والوجد كذلك، والعمل دليل عليه، ومصدق له، كما أن الريب والنفاق أمر باطن، والعمل دليل عليه ومصدق له. فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد، واليقين يثمر الجهاد، ومقامات الإحسان كلها. ولا يقطع العبد أمل ولا طمع في دنيا عن سيره إلى ربه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (34).

فمن ذاق حلاوة الإيمان بمعرفة الله، والقرب منه، والأنس به، لم يكن له أمل في غيره، وإن تعلق أمله بسواه فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، فهو يؤمله لأجله، لا يؤمله معه. والذي يقطع هذا الأمل قوة رغبته في المطلب الأعلى، الذي ليس شيء أعلى منه، ومعرفة خسة الدنيا وسرعة زوالها، فإن نعيم الدنيا بحذافيرها جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة بجنب جبال الدنيا، ويسير من رضوانه سبحانه-ولا يقال له يسير- أكبر من الجنات وما فيها، فلا تعوق العبد أمنية عن سيره إلى ربه. الثانية: ذوق العبد طعم الأنس بالله، والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العبد من نعيم الجنة. فإذا ذاق العبد طعم الأنس بالله جد في إرادته وطاعته، والأنس به، فلا يتعلق به شاغل، ولا يشغله عن سيره إلى الله؛ لشدة طلبه الباعث عليه أنسه، الذي قد ذاق طعمه، وتلذذ بحلاوته لدوام ذكره، وصدق محبته، وإحسان عمله. وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب من ربه، ولا يفسده عارض، والعارض ما سوى الله، وإرادة السوي وإن علا تحجب عن الله، وبقدر إرادتك لغيره تحجب عنه. الثالثة: ذوق صاحب البعد طعم القرب. فالبعد: أنس القلب بغير الله تعالى، والالتفات إلى ما سواه. والقرب: تجريد التعلق به وحده، والانقطاع عما سواه. وذوق صاحب الهمة طعم مناجاة الله، والأنس به، ومحبته، والقرب منه، حتى كأنه يخاطبه ويعتذر إليه، ويتملقه تارة، ويثني عليه تارة، حتى يبقى القلب ناطقاً، وإن كان اللسان ساكتاً و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].

32 - فقه الصفاء

32 - فقه الصفاء قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]. وقال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. معرفة العبد لأسماء الله وصفاته، وجلاله وجماله، وبره وإحسانه، ولطفه ورحمته، يوجب له قربه من ربه سبحانه، وقربه منه يوجب له الأنس به، والمحبة له، والهيبة منه. والأنس ثمرة المحبة والطاعة، فكل عبد مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش. والقلوب المشرقة بنور الأنس بالله تستحلي الذكر، وتستأنس به، طلباً للاستئناس بالمذكور، وتتغذى بسماع القرآن كما تتغذى وتتلذذ الأجسام بالطعام والشراب. فإذا كان العبد محباً صادقاً، طالباً لله، عاملاً على مرضاته، كان غذاؤه بسماع القرآن، ولذته بتلاوته، والتفكر في معانيه ومواعظه، والعمل بأحكامه، والتأدب بآدابه. وهذا الغذاء له لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب والأرواح، وإن كان منحرفاً فاسد الحال مغروراً مخدوعاً كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان، المشتمل على الفحش والفجور ونحو ذلك من محاب النفوس ولذاتها، وحظوظها، وأصحابه أبعد الخلق من الله عزَّ وجلَّ. وما أحسن القلوب الصافية الخالية من كدر الشرك والنفاق والبدعة والمعصية، المملوءة بنور العلم والإيمان والطاعات: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].

والصفاء: اسم للبراءة من الكدر. وهو على ثلاث درجات: الأولى: صفاء علم يهذب لسلوك الطريق، وهو العلم الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية. وحقيقة العبودية: التأدب بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً .. وتحكيمه باطناً وظاهراً .. والاقتداء به في سائر الأحوال والأقوال والأفعال .. وصفاء علم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير. فأكثر الناس سالك بجده واجتهاده غير منتبه إلى المقصود. وصفاء علم يصحح همة القاصد، ومتى صحت الهمة علت وارتفعت. وأعلى الهمم: همة اتصلت بالحق سبحانه طلباً وقصداً، وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحاً، وشمرت للعمل بدينه وحفظه، والجهاد في سبيله. وهمم العباد متفاوتة: فهمة متعلقة بمن فوق العرش .. وهمة حائمة حول الحش .. وبينهما من الهمم ما لا يعلمه إلا الله .. وقيمة كل امرئ بقدر ما يطلبه. الثانية: صفاء الحال، فالحال ثمرة العلم، ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له، وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال. وإذا صفا الحال شاهد العبد آثار الحقائق وهي حلاوة مناجاة الله، فمتى صفا قلبه من الشوائب ذاق حلاوة الإيمان، وحلاوة المناجاة، ونسي به ما سوى الله، واشتغل بالحق عن الخلق. الثالثة: صفاء اتصال بربه، فمن تمكن الإيمان من قلبه، وصفا له علمه وحاله، اندرج عمله جميعه في مرضاة ربه، ورآه في جنب حق ربه أقل من خردلة بالنسبة لجبال الدنيا.

فسقطت رؤيته من قلبه لقلته وصغره، فلا يطلب المجازاة عليه. ويدرك بعين البصيرة صحة الخبر، وصدق المخبر، فيقوى القلب، ويصير الغيب كالشهادة، كأنه يرى ربه جل جلاله فوق سماواته على عرشه، مطلعاً على عباده، يسمع كلامهم .. ويرى مكانهم .. ويبصر أعمالهم. ويشاهد ربه وهو يرضى ويغضب، ويعطي ويمنع، ويشاهد عظمة ربه وجلاله، وجماله وكماله، وعزته وكبريائه. فيأنس بربه ومالكه .. ويتلذذ بعبادته .. ويفرح بطاعته وامتثال أوامره .. ويرى أوامره أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

33 - فقه السر

33 - فقه السر قال الله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود: 31]. وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. أصحاب السر هم الأخفياء والأتقياء الذين وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِنَّ اللهَ يُّحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» أخرجه مسلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ» أخرجه مسلم (¬2). وهؤلاء الأخفياء ثلاث طبقات: الأولى: طائفة علت هممهم فلم تقف دون الله، ولم تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه. ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، وعلو همة المرء عنوان فلاحه وسعادته. ومن علامات هؤلاء خلوص قصدهم من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى، بل يصير القصد مجرداً لمراده الديني الأمري، خالصاً من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2965). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2622).

وأن يكون العمل على سواء السبيل، الدرب النبوي المحمدي، لا على الجواد الوضعية، والأهواء الشيطانية. وهؤلاء أخفياء سبقوا الناس في السير إلى الله، ولم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه. فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه، وكان وقوفهم معه. ولم يُنسبوا إلى اسم يشتهرون به بين الناس، ولم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال، فإن هذا آفة العبودية، وهي عبودية مقيدة. وأما العبودية المطلقة فلا يُعرف صاحبها باسم معين، فهو يقوم بها على اختلاف أنواعها، فله في كل عبودية نصيب. وهؤلاء لخفائهم على الناس، وصدق زهدهم وإخلاصهم لم يُعرفوا بينهم حتى يشار إليهم بالأصابع، وهؤلاء هم الذخائر والجواهر. فإنهم لما كانوا مستورين عن الناس بأحوالهم، غير مشار إليهم، ولا متميزين برسم وشكل عن الناس، ولا منتسبين إلى طريق، أو مذهب، أو شيخ، أو زي، كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة. وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات، فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها كما سبق، وهذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله وهم لا يشعرون. والعجب أن أهلها هم المعروفون بالجد والطلب والإرادة والسير إلى الله، وهم إلا القليل المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود. الطبقة الثانية: اختاروا السر وأرادوه، صيانة لأحوالهم، وحفظاً لأعمالهم، فمقاماتهم عالية لا ترمقها العيون، يشيرون إلى ما يعرفه المخاطب، ويخفون ما مكنهم فيه الحق سبحانه من أحوال المحبة، وآثار المعرفة. فهم مع الناس بظواهرهم، لكنهم يسترون عنهم أشرف أحوالهم، وأحسن

أعمالهم فيحسبونهم مثلهم. يشيرون إلى أنهم جهال وهم العارفون بالله حقاً .. وأنهم مسيئون وهم المحسنون، وذلك لكمال معرفتهم بالله، وما يجب له من الوقار والتعظيم، والإخلاص، وحسن العمل. يظهرون ما يجوز إظهاره ولا نقص عليهم فيه ولا ذم من الله ورسوله عليه، ليكتم به الإنسان حاله وعمله. فيظهرون ما لا يُّحمدون عليه، ويسرون ما يحمدهم الله عليه، كما إذا أظهر الغنى وكتم الفقر والفاقة، وأظهر الصحة وكتم المرض، وأظهر النعمة وكتم البلية. فهذا كله من كنوز الشر، وله في القلب تأثير عجيب يعرفه من ذاقه، فهؤلاء يغارون على أحوالهم وأعمالهم فيسترونها عن الناس، ويغار الله عليهم فيسترهم عن الخلق. يتحلون بآداب تصونهم عن سوء الظن بهم، وتصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمال، فلهم لين مع الناس وتبسط إليهم، فهم أحلى من كل حلو، وأزين من كل زين، يأنسون بالله وبالخلق، ويأنسون بهم. وهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفاً، فتراهم أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم وأحسنهم عشرة. قد زالت عنه ثقالة النفس، وكدرة الطبع، فأحبه الناس وأحبهم، والناس ينفرون من كثيف الطبع، ولو بلغ الدين ما بلغ، وليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك. الطبقة الثالثة: طائفة أسرهم الحق عن أنفسهم، وشغلهم به عن أنفسهم، فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم، وفرغهم لذكره وعبادته. وهؤلاء ضد الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، قد أظهر الله لهم من معرفة جماله

وجلاله لائحاً أذهلهم عن إدراك ما هم فيه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 18]. فهم أشبه الخلق بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإن الخلق ثلاثة أصناف: خلق خلقه الله غافلاً عن نفسه، مستغرقاً في عبادة ربه، وهم الملائكة. وخلق خلقه الله مستغرقاً في تكميل شهواته، غافلاً عن غيره، وهم البهائم. وخلق خلقه الله له نفس تريد تكميل شهواتها، وله روح تريد تكميل أوامر ربها. والإنسان بين هذه، وهذه، فإن غلبت النفس جرته إلى عالم البهائم .. وإن غلبت الروح رفعته إلى عالم الملائكة .. والحرب سجال .. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

34 - فقه القبض

34 - فقه القبض قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 60،61]. القبض نوعان: قبض في الأحوال .. وقبض في الحقائق. فالقبض في الأحوال: أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح. وهو قسمان: أحدهما: ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب، أو تفريط في عمل، أو بعد أو جفوة ونحو ذلك. الثاني: ما لا يعرف سببه، بل يهجم على القلب هجوماً لا يقدر على التخلص منه، وضده البسط. فالقبض والبسط حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما، ولهما تعلق بالخوف والرجاء، فالرجاء يبسط إلى الطاعة، والخوف يقبض عن المعصية. والقبض أقسام: قبض تأديب .. وقبض تهذيب .. وقبض جمع .. وقبض تفريق. وهذا كله يمنع صاحبه من الأكل، والشرب، والكلام، والانبساط إلى الأهل وغيرهم. فقبض التأديب: يكون عقوبة على غفلة، أو خاطر سوء، أو فكرة رديئة. وقبض التهذيب: يكون إعداداً لبسط عظيم شأنه يأتي بعده، فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه، والمقدمة له، كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي، وإعداد لوروده.

وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج، والبلاء مقدمة بين يدي العافية، والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن. وقد جرت سنة الله عزَّ وجلَّ أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها. وأما قبض الجمع: فهو ما يحصل لقلب العبد حال جمعيته على الله من انقباضه عن العالم وما فيه، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه. وأما قبض التفرقة: فهو القبض الذي يحصل للعبد من تفرق قلبه عن الله، وتشتته عنه في الشعاب والأودية. فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت. وأما القبض في الحقائق: فهو يتضمن قبض القلب عن غير الله إليه، وجمعيته بعد التفرقة عليه. فالرب سبحانه حال بين خواص عباده وبين التعلق بالخلق، وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه، وهم الذي ادخرهم الحق اصطناعاً لنفسه جلَّ جلاله. وهؤلاء على ثلاثة أقسام: الأولى: فرقة قبضهم إليه قبض التوفي، فضن بهم عن أعين الناس، فسترهم عن العالمين وقاية لهم، وصيانة عن ملابستهم، فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم. وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان، وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأزمات دون بعضها، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء، فالعزلة تحمد في وقت، وتذم في وقت. الثانية: فرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس، فهم مع الناس مخالطون لهم، والناس يرون ظواهرهم، وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها، فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه.

إذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب، واللباس والمراكب، والنكاح وطلاقة الوجه قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا. وإذا رأوا منهم الجد والصبر والصدق، وحلاوة الإيمان، وحسن المعرفة بالله، وكثرة ذكره قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة، فأخفاهم عن عيون العالم بذلك. فهؤلاء يكونون مع الناس، والمحجوبون لا يعرفونهم، ولا يرفعون بهم رؤوساً، وهم من سادات أولياء الله، صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم، لئلا يفتنوا بهم، وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم. فهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلا الله، فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة. فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (¬1). الثالثة: فرقة قبضهم منهم إليه، وهذه الفرقة أعلى من الفرقتين قبلها، فالله عزَّ وجلّ قد ستر هؤلاء عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه، وشغلهم به عنهم، فهم في أعلى الأحوال والمقامات، وقلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، قلوبهم عامرة بالأسرار والتعظيم، والذل والمحبة لمولاهم، وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى أوكارها، قد سترهم وليهم عنهم، وأخذهم إليه منهم. والناس قسمان: منهم من يجمع بين الإساءة والأمن .. ومنهم من يجمع بين الإحسان والخوف. وهذا القسم وجلون خائفون مشفقة قلوبهم، كل ذلك من خشية ربهم: خوفاً أن يضع عليهم عدله فلا تبقى لهم حسنة .. وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى .. وخوفاً على إيمانهم من الزوال .. ومعرفة بربهم وما ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).

يستحقه من الإجلال والإكرام. فهؤلاء يفعلون ما أمروا به بكل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من أعمال البر، ومع هذا قلوبهم وجلة خائفة عند عرض أعمالها على الله سبحانه، والوقوف بين يديه أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 59 - 61].

35 - فقه البسط

35 - فقه البسط قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. البسط: إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم، ويكون باطنه مغموراً بالمراقبة والمحبة والأنس بالله، فيكون جماله في ظاهره وباطنه. فظاهره قد اكتسى الجمال بموجب العلم، وباطنه قد اكتسى الجمال بالمحبة والرجاء، والخوف والمراقبة والأنس. وقد جمع الله عزَّ وجلَّ بين جمال الظاهر والباطن في غير موضع كقوله سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف: 26]. والله تبارك وتعالى هو الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه، ولطفه وبسطه، وهؤلاء بسطهم الحق سبحانه على لسان رسوله، وبسطهم هو ما كان عليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع القريب والبعيد من سعة الصدر، ودوام البشر، وحسن الخلق، والسلام على من لقيه، والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحياناً، ولين الجانب. وأهل البسط ثلاث طوائف: فطائفة بسطت رحمة للخلق، جعل الله انبساطهم مع الخلق رحمة لهم كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. فالله عزَّ وجلَّ بسط هؤلاء مع خلقه ليقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران،

ويشفى بهم العليل، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم، يقتدي بهم إذا سكتوا، وينتفع بهم إذا نطقوا. فحركاتهم وسكناتهم، ونطقهم وسكوتهم لما كان بالله ولله وعلى أمر الله .. جذبت قلوب الصادقين إليهم، وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة. والعلماء ثلاثة: عالم استنار بنور العلم، واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء. وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما. وعالم لم يستنر بنوره، ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم. وطائفة بسطت لقوة معاينتهم، وثبات مناظر قلوبهم، ورؤية ربهم في جميع أوقاتهم وأحوالهم. وطائفة بسطت أعلاماً على الطريق، وأئمة للهدى، ومصابيح للسالكين، فهذه الفرقة أعلى مما قبلها؛ لأنها اتصفت بما اتصفت به الأولى من الأعمال، واتصفت بما اتصفت به الثانية من الأحوال. وزادت عليهما بالنفع للسالكين، والهداية للحائرين، والإرشاد للطالبين، فاهتدى بهم الحائر، واستقام بهم المعوج، وأقبل بهم المعرض، وكمل بهم الناقص. وهؤلاء هم خلفاء الرسل، وهم أولو البصر واليقين، فجمعوا بين البصيرة والبصر كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. فلا يستوي من شرح الله صدره للإسلام فاتسع لتلقي أحكام الله، والعمل بها،

قرير العين، مسرور القلب، ومن قلبه قاسٍ حجري لا يلين لكتابه، ولا يتذكر بآياته، ولا يطمئن بذكره: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]. فما أعظم من شرح الله صدره للإسلام، وما أعظم ضلال من أعرض عن ربه ومولاه، ومَنْ كل السعادة في طاعته والإقبال عليه.

36 - فقه الحزن

36 - فقه الحزن قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. وقال الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34]. الحزن: هو الانخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة، لتأسف على فائت، أو توجع لممتنع. فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله كشفها ودفعها، وهو من عوارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين إلى الله، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه جزاءً ولا ثواباً، بل نهى عنه في غير موضع كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل: 127]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» أخرجه البخاري (¬1). فالهم والحزن قرينان، وهو الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم. فالحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 10]. فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى بها العبد بغير اختياره كالألم والمرض ونحوها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2893).

وأما أن يكون الحزن عبادة مأمور بها فلا، ولكن يحمد في الحزن سببه، ومصدره، ولازمه، لا ذاته. فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في طاعة ربه وعبادته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته، وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه. ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك، ولم يحزن، ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه. بل الذي ينفعه أن يستقبل السير، ويجد ويشمر، ويبذل جهده. وأخص من هذا الحزن حزن العبد على جزء من أجزاء قلبه، كيف هو خال عن محبة الله؟ وحزنه على جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؟ ويدخل في هذا الحزن كل معارض يشغل العبد عن ربه من خاطر، أو إرادة، أو شاغل من خارج. فهذه المراتب من الحزن لا بدَّ منها في الطريق، ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكره فيما يدفعها به. فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به، فأوردتها الحزن. وإن كانت نفساً شريفة كبيرة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن كان منه مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه، وإن كان ذلك عوضاً لها من الحزن فلا فائدة في الحزن أصلاً. ومن عرف الله أحبه ولا بدّ، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب.

فإنه لا حزن مع الله أبداً كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - في الغار وحكاه الله في القرآن: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فدل هذا على أنه لا حزن مع الله، وإنما الحزن لمن فاته الله، فمن حصل له الله فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. فمعرفة الله تعالى جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة، وزال بها كل حزن، وحصل بها كل فلاح وسعادة، فبذلك فليفرحوا. وإنما أمر الله بالفرح بفضله ورحمته؛ لأن ذلك يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى وقوتها، وهذا فرح محمود. أما الفرح بلذات الدنيا وشهواتها، أو الفرح بالباطل فإن هذا مذموم كما قال سبحانه عن قوم قارون أنهم قالوا له: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} [القصص: 76]. وكما قال سبحانه في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83]. فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين لا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل عن قريب.

37 - فقه الإشفاق

37 - فقه الإشفاق قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 - 61]. وقال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 26 - 28]. الإشفاق: رقة الخوف، بصرف الهمة إلى إزالة المكروه عن الناس. وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه بدوام الحذر، مقروناً بالترحم. والإشفاق على ثلاث درجات: الأولى: إشفاق على النفس أن تجمح إلى العناد، وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان. وإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع، فيخاف على عمله أن يكون لغير الله، وعلى غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويخاف أن يضيع في المستقبل إما بتركه، وإما بمعاص تفرقه وتحبطه. وإشفاق على الناس من جهة مخالفة الأمر والنهي، مع نوع رحمة بملاحظة جريان القدر عليهم. الثانية: إشفاق على الوقت أن يخالطه ما يفرقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض إما فترة، وإما شبهة، وإما شهوة، وكل ما يعوقه عن ربه. وإشفاق على اليقين أن يركن إلى سبب فيتعلق به دون ربه، فيقدح ذلك في يقينه. الثالثة: إشفاق يصون سعي العبد عن العجب، فالعجب يفسد العمل كما يفسده الرياء.

وإشفاق يكف صاحبه عن مخاصمة الخلق التي تفسد الخُلق. وإشفاق على إرادته مما يفسدها من الهزل واللعب. فإذا صح للعبد عمله وخلقه وإرادته استقام سلوكه، وقلبه، وحاله. والمؤمنون مشفقون من خشية الله؛ لعلمهم بعظمته، وعلمه بكل صغيرة وكبيرة، ومشفقون من الساعة؛ لعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء والحساب، وخوفهم أن لا تكون أعمالهم منجية لهم: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)} [الشورى: 18]. والظالمون لأنفسهم بالكفر والمعاصي خائفين وجلين مشفقين مما كسبوا؛ لعلمهم بعقوبة الله على كل جرم ومعصية: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} [الشورى: 22].

38 - فقه الخشية

38 - فقه الخشية قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك: 12]. مقام الخشية لله تبارك وتعالى جامع لمقام المعرفة بالله، والمعرفة بحق عبوديته، فمتى عرف العبد ربه، وعرف حقه، اشتدت خشيته له كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فالعلماء بالله وبأمره هم أهل خشيته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ! إِنِّي لأرْجُو أنْ أكُونَ أخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأعْلَمَكُمْ بِمَا أتَّقِي» أخرجه مسلم (¬1). والعالم حقاً كل من خشي الله فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه كما قال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. ومن علامات معرفة الله الهيبة، فكلما ازداد العبد معرفة بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه. ومن عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شي، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، واستوحش من غيره، وأورثته تلك المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال والمراقبة، والمحبة والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره. والله تبارك وتعالى لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالماً إلا من يخشاه، وما من عالم رباني إلا وهو يخشاه. والعلم والخشية متلازمان، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1110).

دلت على انتفاء العلم. والمراد بالعلماء الذين يخشون الله: هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وله الخلق والأمر، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. إن قلوب المؤمنين واجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله، متجهة إلى ربها بالطاعة، هذه الأرواح هي التي تؤمن بالله، وتعرف حقه، وقدره وعظمته: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} [السجدة: 15]. هؤلاء إذا ذكروا بآيات الله خروا سجداً؛ تأثراً بما ذكروا به، وتعظيماً لله الذي ذكروا بآياته، وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيراً عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب، وسبحوا بحمد ربهم مع حركة الجسد بالسجود، وهم لا يستكبرون، فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال. وهؤلاء: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} ... [السجدة: 16]. فالمضاجع تدعوهم إلى الرقاد والراحة ولذة النوم، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة، والرقاد اللذيذ، شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع، يتنازعها الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته، الخوف من غضبه، والطمع في رضاه، الخوف من خذلانه، والطمع في توفيقه. وهذه الصورة المشرقة لهؤلاء المؤمنين يرافقها الإكرام الإلهي، والحفاوة الربانية بهذه النفوس العالية: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].

إنها حفاوة الله بهؤلاء القوم، وتوليه بذاته إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقرب به العيون. هذا المذخور لا يطلع عليه أحد سواه، ويظل عنده مستوراً، حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه. والقرآن الكريم أحسن الحديث، والذين يخشون ربهم يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش، تقشعر منه الجلود، ثم تهدأ النفوس، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر كما قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. وما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها إصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق، والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} [الكهف: 17]. فهو سبحانه يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال التي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه بحال. وأهل كرامته هم أهل خشيته كما قال سبحانه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8]. وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخافه ويخشاه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فسبحان العزيز الذي بعزته قهر جميع الخلائق، الغفور الذي يغفر ذنوب التائبين، الشكور الذي يقبل القليل، ويجازي بالكثير. والخشية خوف يشوبه تعظيم، وهي تألم القلب بسبب توقع مكروه في

المستقبل، يكون تارة بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، فهي خوف مقرون بمعرفة، وخوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء، أما الخوف فهو لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين. فكل من كان بالله أعرف كان له أخوف، وله أخشى، ومنه أشفق: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} [الأنبياء: 48،49].

39 - فقه الغيرة

39 - فقه الغيرة قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا شَيْءَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ» متفق عليه (¬1). الغيرة منزلة شريفة جداً، وهي نوعان: غيرة من الشيء .. وغيرة على الشيء. والغيرة على الشيء: هي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك. والغيرة من الشيء: هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك. والغيرة باعتبار من يغار قسمان: غيرة الحق تعالى على عبده .. وغيرة العبد لربه لا عليه. فأما غيرة الرب على عبده فهى أن لا يجعله للخلق عبداً، بل يتخذه لنفسه عبداً، فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين، بل يفرده لنفسه، ويضن به على غيره، وهذا أعلى الغيرتين. أما غيرة العبد لربه فنوعان: فالتي من نفسه: أن لا يجعل شيئاً من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه عزَّ وجلَّ. والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون، وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره، ولا أحد أغير من الله أبداً. ولذلك لم يجعل الكفار أهلاً لفهم كلامه، ولا أهلاً لمعرفته، وتوحيده ومحبته، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجاباً مستوراً عن العيون، غيرة عليه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4634) واللفظ له، ومسلم برقم (2760).

أن يناله من ليس أهلاً له كما قال سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء: 45]. والغيرة: هي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه، ويحجبه عنه ضناَ به أن يعتاض عنه بغيره، وأن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه. وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه، والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه. والغيرة على ثلاث درجات: الأولى: غيرة العبد على ما ضاع عليه من عمل صالح، فهو يسترد ضياعه بأمثاله، ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وسائر القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها، فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويعوض ما يلزم فيه العوض، ويجبر ما يمكن جبره. ويستدرك ما فاته من أداء الحقوق والواجبات، ويتدارك قواه ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف، فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله. ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه غيرة له وعليه. الثانية: غيرة العبد على فوات الأوقات، فالوقت أعز شيء عليه، يغار عليه أن ينقضي بدون عمل صالح، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه، وهي غيرة قاتلة؛ لأن حسرة الفوت قاتلة، والاشتغال بالنوم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر، والوقت منقضٍ بذاته، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت حسراته. الثالثة: غيرة العبد على بصيرة غطاها ستر أو حجاب عن ربه، أو يتعلق برجاء من ثواب منفصل، ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته، أو يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به، ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد، وهو الله وحده.

والغيرة غريزة تشترك فيها الرجال والنساء، بل قد تكون من النساء أشد. وغيرة الله عزَّ وجلّ تكون من إتيان محارمه، فالمسلم الذي يطيع هواه وينقاد للشيطان ويقع في محارم الله فكأنه جعل لغيرة الله فيه شريكاً. ولما كانت الطاعة خاصة بالله عزَّ وجلَّ، ويأبى أن يشاركه فيها غيره، كان ذلك مبعثاً لأن يستثير العاصي غضب مولاه، وغيرته عليه، وما ذلك إلا لأن ربه سبحانه لا يرضى لعبده المعصية كما لا يرضى لهم الكفر. ومن ثم تكون الغيرة من جانب الله غيرة حقيقية على ما يليق بجلاله وكماله، ومن لوازمها كراهة وقوع العبد في المعاصي، وإشراكه غير الله في الطاعة. قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: لَوْ رَأيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، والله لأنَا أغْيَرُ مِنْهُ، والله أغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أجْلِ غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7416) واللفظ له، ومسلم برقم (1499).

40 - فقه الثقة بالله

40 - فقه الثقة بالله قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص: 7]. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123]. الثقة بالله: خلاصة التوكل ولبه، كما أن سواد العين أشرف ما في العين، فالثقة كالروح، والتوكل كالبدن الحامل لها، ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان. والثقة بالله على ثلاث درجات: الأولى: أن يعلم الواثق بالله أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه. فمن حكم الله به بحكم، وقسم له بنصيب من الرزق، أو الطاعة، أو العلم، أو غيره فلا بدَّ من حصوله له، ومن لم يقسم له ذلك فلا سبيل إليه البتة. فإذا علم قعد عن منازعة الأقسام. فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه، وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته، وبذلك يتخلص بالثقة بالله من قحة الإقدام، والجرأة على إقدامه على ما لم يحكم له به، ولا قسم له. الثانية: درجة الأمن، وهو أمن العبد من فوت المقدور، فمن حصل له الإياس من منازعة الأقسام حصل له الأمن. فمن عرف الله وعلم أن ما قضاه الله فلا مرد له البتة أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له، وأمن من نقصان ما كتبه الله له، فيظفر بروح الرضا؛ لأن صاحب الرضا في راحة، ولذة وسرور. فإن لم يحصل له هذا المقام ظفر بعين اليقين، وهو قوة الإيمان، فإن لم يحصل

له هذا المقام حصل على لطف الصبر، وما فيه من حسن العاقبة. الثالثة: شهود تفرد الرب تعالى بالبقاء، وتيقنه فراغ الرب عزَّ وجلَّ من المقادير، وسبق القدر بها، وبذلك يتخلص من المحن التي تعرض له، ويتخلص من الالتفات إلى الأسباب بقلبه، ويتخلص كذلك من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدراً، فلا يتكلف طلبه وقد حماه الله عنه. ويتخلص كذلك من تكلف الاحترازات، وشدة احتمائه من المكاره، لعلمه بسبق القدر بما كتب الله له منها، لكن يحتمي مما نهى الله عنه، وما لا ينفعه في طريقه. وإذا كان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يفضي إلى المشاقة والمحادة، ولا تستسهل هذا فإن مباديه تجر إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره، وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد بأنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته. وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، لا سيما إذا ضعف الإيمان، وقويت الرغبة أو الرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحداً في الجانب الذي فيه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. بل يعده الناس ناقص العقل، سيئ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون. وذلك من مواريث أعداء الرسل، فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب، والناس في شق وجانب آخر. ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون يقيناً له، ولا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه، ولوم من لامه، ولا يتم ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا، وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من الدنيا، وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه مما سواهما.

وهذا كله صعب في بادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وشيطانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من ربه، وصار ذلك الصعب سهلاً .. وذلك الألم لذة .. فإن الرب شكور .. لا بدَّ أن يذيق عبده ووليه لذة تحيزه إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ويريه كرامة ذلك .. فيشتد به سروره وغبطته. ويبقى من كان محارباً له على ذلك، بين هائب له، ومسالم له، ومساعد وتارك له، ويقوي جنده، ويضعف جند العدو. ولا يستصعب العبد مخالفة الناس، والتحيز إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان وحده، فإن الله معه وإنما امتحن يقينه وصبره. وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع إلى غير الله، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ويعين العبد على التجرد من الطمع والفزع التوحيد، والتوكل، والثقة بالله، وعلم العبد بأن الأمر كله لله، وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وليس لأحد مع الله شيء، بل الخلق كله والأمر كله بيد الله وحده لا شريك له: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

41 - فقه التفويض

41 - فقه التفويض قال الله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)} [غافر: 44]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» متفق عليه (¬1). التفويض: أن يتبرأ العبد من الحول والقوة، ويفوض الأمر إلى الله. والتوكل أوسع من التفويض، ولا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض، فإنه إذا فوض أمره إلى الله اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه. والتفويض على ثلاث درجات: الأولى: أن يعلم العبد أنه لا يملك قبل عمله استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية. فاستطاعة العبد بيد الله لا بيده، فهو مالكها دونه، إن لم يعطها له فهو عاجز، فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه، فكيف يأمن العبد المكر وهو محرَّك لا محرِّك. يحركه من حركته بيده، فإن شاء ثبطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن منعه هذا التوفيق: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46]. فهذا مكر الله بالعبد، أن يقطع عنه مواد توفيقه، ويخلي بينه وبين نفسه، ولا يبعث دواعيه، ولا يحركه إلى مراضيه ومحابه. وليس هذا حقاً على الله فيكون ظالماً بمنعه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).

هو مجرد فضله الذي يحمد على بذله لمن بذله، وعلى منعه لمن منعه إياه، فلله الحمد على هذا وعلى هذا. وإذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي تفرد بخلقه ورزقه، وهو أرحم الراحمين فكيف ييأس من معونته له. وكذلك لا يعول على نيته وعزمه ويثق بها، فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده، وهي إلى الله لا إليه، فلتكن ثقته بمن هي في يده حقاً، لا بمن هي جارية عليه حكماً. الثانية: أن يرى ضرورته وفاقته وحاجته التامة إلى الله، فنجاته إنما هي بالله لا بعلمه ولا بعمله، فلا يرى عملاً منجياً، ولا يرى ذنباً مهلكاً، بل يرى فضل الله، وسعة مغفرته ورحمته. ومشاهدة شدة ضرورته وفاقته إليه يوجب له أن لا يرى ذنباً مهلكاً، ويمنعه من اقتحام الذنوب المهلكة. ولا يرى سبباً حاملاً، بل الحامل له هو الحق تعالى لا الأسباب التي يقوم بها، فإنه وإياها محمولان بالله وحده. الثالثة: شهود تفرد الحق بملك الخلق والأمر، والحركة والسكون، والقبض والبسط، فيشهد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن، فيشهد تعلق الحركة باسمه الباسط، وتعلق السكون باسمه القابض، فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26،27].

42 - فقه التسليم

42 - فقه التسليم قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22]. التسليم لله نوعان: تسليم لحكم الله الديني الشرعي .. وتسليم لحكم الله الكوني القدري. فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين. وأما الثاني: فهو التسليم لحكم الله الكوني، وهي مسألة الرضا بالقضاء والقدر. والتسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها. وأما الأحكام والأحوال التي أمره الله بدفعها فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها، كمدافعة قدر المرض بالعلاج، ومدافعة قدر الجوع بالطعام وهكذا. وليس في التسليم إلا علة واحدة، وهي أن لا يكون تسليمه صادراً عن محض الرضا والاختيار، بل يشوبه كره وانقباض، فيسلم على نوع إغماض. فهذه علة التسليم المؤثرة فاجتهد في الخلاص منها. والتسليم: هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض الشرع والقدر. وصاحب هذا التسليم هو صاحب القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا

من أتى به كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88،89]. والتسليم على ثلاث درجات: الأولى: تسليم ما يزاحم العقول. فإن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه، فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب، والعقل يأمر بها، فصاحب التسليم يسلم إلى الله عزَّ وجلَّ ما هو غيب عن العبد، فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه. والأوهام يسبق عليها أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب، والتسليم يقتضي التجرد عنها، والعقل ينهى عن ذلك. والتسليم ضد المنازعة، والمنازعة إما بشبهة فاسدة تعارض الإيمان، وإما بشهوة تعارض أمر الله عزَّ وجلَّ، أو إرادة تعارض مراد الله من عبده، أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره، بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع، وخلاف ما قضى وقدر، فالتسليم التخلص من هذه المنازعات. الثانية: تسليم العلم إلى الحال، بأن ينتقل من صورة العلم إلى المعاني والحقائق. فينتقل من العلم إلى اليقين، ومن اليقين إلى عين اليقين، ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان وحلاوته، ومن علم التوكل إلى حاله وهكذا. الثالثة: تسليم ما دون الحق إلى الحق، مع السلامة من رؤية التسليم. فالحق سبحانه هو الذي سلم إلى نفسه ما دونه، فالحق سبحانه هو الذي سلمك إليه، فهو المسلم والمسلم إليه، وأنت آلة التسليم، فمن شهد هذا المشهد العظيم وجد نفسه مسلمة إلى الحق، وما سلمها إلى الحق غير الحق، فقد سلم العبد من دعوى التسليم ورؤية التسليم.

«اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ». فَقُلْتُ أسْتَذْكِرُهُنَّ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أرْسَلْتَ. قَالَ: لا: «وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).

43 - فقه الرضا

43 - فقه الرضا قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وقال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (¬1). الرضا: سكون القلب إلى فاطره ومعبوده ومحبوبه، ورضاه مما اختار الله له. فهو راضٍ بمحبوبه .. راضٍ بما يناله من محبوبه. ومن أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم العبد ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام ولا بدَّ. والرضا يتحقق بثلاثة أمور: باستواء الحالات عند العبد، وسقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح. فالراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له؛ لأنه مفوض، والمفوض راضٍ بكل ما اختاره الله له. ولأنه جازم بأن لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه، فالنعمة والبلية بقضاء سابق، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهو عبد محض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار المحسن الناصح، بل يتلقاها بالرضا به وعنه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (34).

ولأنه محب راضٍ بما يعامله به حبيبه، وهو جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه، ولأنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، وربه سبحانه يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها. ومن أعظم أسبابها ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب. ولأنه مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخط ذلك. ولأنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضاً وسخط، وعلمه بأن قضاء الرب تعالى خير له، وعلمه أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه. فلا تتم عبوديته لربه إلا بالصبر والشكر، والتوكل والرضا، فليس الشأن في الرضا بالقضاء الملائم للطبيعة، إنما الشأن في الرضا المؤلم المنافر للطبع. ولأنه يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه في جميع الأحوال يثمر رضى ربه عنه. فإذا رضي العبد عن ربه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل، ووجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه. ولأنه عارف بربه حسن الظن به، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه. ولأنه يعلم أن الرضا يوجب له الطمأنينة، وينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت حاله. ومقامات الدين تدور على أربعة أمور: الرضا بربوبية الله .. والرضا بألوهيته .. والرضا برسوله - صلى الله عليه وسلم - والانقياد له .. والرضا بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت فيه هذه الأربعة فهو الصديق حقاً. فالرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه،

والاستعانة به، والثقة به، والاعتماد عليه، والرضا بكل ما يفعله به. والرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وذلك يتضمن عبادته، والإخلاص له. فالأول يتضمن رضا العبد بما يقدر عليه، والثاني يتضمن رضاه بما يؤمر به. وأما الرضا بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه. فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة. وأما الرضا بدينه، فإذا قال سبحانه أو حكم، أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق بقلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. والرضا آخر التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض، حصل له الرضا ولا بدّ. ورضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه. والرضا يفتح للعبد باب السلامة، فيجعل قلبه سليماً نقياً من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم. والرضا عن الرب عزَّ وجلَّ في جميع الحالات يثبت الأقدام في مقام العبودية، والسخط يوجب التلون، ويفتح عليه باب الشك في الله وفي قضائه وقدره وحكمته وعلمه. والرضا بالقضاء يوجب له السعادة، والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة. والرضا يوجب للعبد أن لا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه، وذلك أفضل

الإيمان. والرضا بالقدر يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ صدره غنىً وأمناً وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته. والرضا يثمر الشكر الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وينفي عنه آفات الحرص على الدنيا. والرضا يخرج الهوى من قلب المؤمن، فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه مما يحبه الله ويرضاه. والرضا عن الله يثمر للعبد رضا الله عنه، والراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم. والطاعات كلها أصلها من الرضا، والمعاصي كلها أصلها من عدم الرضا، وعدم الرضا يفتح باب البدعة، والرضا يغلق ذلك الباب عنه. ولو تأمل العبد جميع البدع لرآها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني، أو الديني، أو كليهما. وما يقضيه الله ويقدره نوعان: قضاء ديني .. وقضاء كوني. فالديني: مأمورات، ومنهيات، ومباحات. والكوني: إما نعماً ملذة، أو بلاياً مؤلمة. والرضا يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته، وأصل مخاصمة إبليس لربه من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية، فلو رضي لم يطرد ويلعن ويبعد. وجميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله، فهو موجب أسماء الله وصفاته، فمن لم يرضى بما رضي به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته. وكل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه فلا يخلو من أمرين: إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه

بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك. أو يكون سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه ينقطع، وما ترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع. فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقضيه ويقدره له. وحكم الرب عزَّ وجلَّ ماضٍ في عباده، وقضاؤه عدل فيهم، قضى بالذنب وقضى بعقوبته، فالأمران من قضائه عزَّ وجلَّ، وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب، وفي قضائه بعقوبته. أما عدله في العقوبة فظاهر، وأما عدله في قضائه بالذنب فإن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه. فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه استحق أن يضرب بهذه العقوبة. ولا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاءً وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية. ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه، ولو عرف ربه لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة. فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه. وإذا علم العبد أن ربه عزَّ وجلَّ تفرد بالخلق، وتفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، فإذا عرف ذلك لم يكن له غير الرضا بمواقع الأقدار من ربه. ورضا الله سبحانه عن العبد أكبر من الجنة وما فيها؛ لأن الرضا صفة الله، والجنة خلقه. وهذا الرضا جزاء على رضا المؤمنين عنه في الدنيا.

ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. والمحبة لله، والإخلاص له، والإنابة إليه، لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راضي عن حبيبه في كل حالة. والرب عزَّ وجلَّ شكور، إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه، وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله. وأعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها، فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها. فالمحبة والرضا حال المحب الراضي لا تفارقه أصلاً، وصاحبها في مزيد متصل ولو فترت جوارحه. والله عزَّ وجلَّ ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال. والرضا ثلاث درجات: الأولى: الرضا بالله رباً. الثانية: الرضا عن الله، وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر. فالرضا به متعلق بأسمائه وصفاته، والرضا عنه متعلق بثوابه وجزائه. الثالثة: الرضا برضا الله، فيغيب برضى ربه عن رضاه هو. {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. والمؤمن الموفق من باع نفسه وأرخصها وبذلها طلباً لمرضاة الله، ورجاءً لثوابه، فمن بذلها للعلي والوفي الرؤوف بالعباد، استحق رضاه، وفاز بجنته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة: 207].

والرضا نوعان: رضاً مشروع .. ورضاً غير مشروع. والرضا المشروع نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [التوبة: 62]. الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والرضى والذل، فهذا الرضا مستحب، فإن لم يكن فلا أقل من الصبر. أما الرضا غير المشروع فهو الرضا بالكفر والفسوق والعصيان. فلا يرضى العبد بذلك؛ لأن الله لا يرضاه، ولا يحبه كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. فهذا مع أن الله أراده وقدره فهو لا يحبه ولا يرضاه. والمؤمن مأمور باتباع ما يحبه الله ويرضاه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان، وأن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب. فهو من الذنوب يستغفر .. وعلى النعم يشكر .. وعلى المصائب يصبر كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17].

44 - فقه الزهد

44 - فقه الزهد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]. الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك كل ما يشغل عن الله، وإسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية، وسفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة بترك الحرام، وترك الفضول من الحلال. وفضول الحلال إن شغلت العبد عن ربه فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، بل كان شاكراً لله فيها فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها. ومعنى الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، والزهد في الدنيا مقام شريف. وحال الزهد يستدعي مرغوباً عنه، ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه، والمرغوب عنه شرطه أن يكون مرغوباً فيه بوجه من الوجوه. فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً. فتارك الحجر والتراب لا يسمى زاهداً، وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير لله. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيراً من المرغوب عنه. وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو زاهد في الآخرة. فالأول رابح .. والثاني خاسر .. ولكن العادة جارية بإطلاق لفظ الزهد على من

زهد في الدنيا. وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وعلى سبيل الطمع، فذلك كله من محاسن العادات، ولا مدخل لشيء منه في العبادات. وإنما الزهد أن تترك الدنيا لأجل الله، لعلمك بحقارة الدنيا ونفاسة الآخرة. وقد يبذل الإنسان المال طمعاً في الذكر والثناء والشهرة بالسخاء، أو استثقالاً له لما في حفظه من المشقة. والحاجة إلى التذلل للغير ليس من الزهد أصلاً، بل هو استعجال حظ آخر للنفس. بل الزاهد حقاً من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه، ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله، ومحباً لما سوى الله، أو تركها طمعاً في ثواب الآخرة، فترك التمتع في أطعمة وأشربة الدنيا طمعاً في أطعمة وأشربة الآخرة. فآثر جميع ما وعده الله به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً، لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى كما قال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]. ويقتصر الزاهد في الدنيا على المهمات فيأخذ منها بقدر الحاجة وهي: المطعم .. والملبس .. والمسكن .. والمنكح .. والمركب .. والمال .. والأثاث. فأما المطعم فلا بدَّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ويستعين به على طاعة ربه، ويأكل في اليوم والليلة في النوع والمقدار والحال كما كان يأكل إمام الزهاد - صلى الله عليه وسلم -. وأما الملبس فيلبس ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ويلبس في النوع والمقدار كلبسه - صلى الله عليه وسلم -. وأما المسكن فيسكن بيتاً على قدر حاجته من غير زيادة، ولا زينة، ولا إسراف، وأما أثاث البيت فيكون بقدر حاجته، ولا يأنف من الدون من الأثاث.

والمنكح يقتصر منه على ما لا يشغله عن ربه، وطاعته، وذكره، وعبادته، والزواج من سنن المرسلين، فلا غنى له عنه إلا من علة. وأما المركب فيتخذ ما يحتاجه؛ لئلا يضطر إلى سؤال الناس، وليستعين به على طاعة الله، فيركب بقدر حاله كما فعل إمام أهل الزهد - صلى الله عليه وسلم -، والمراكب تختلف فيركب ما تيسر بقدر حاله من دابة أو سيارة. وأما المال والجاه فهو وسيلة إلى ما سبق، والزاهد من يزهد في ذلك، ولا يسعى لطلب المحل في القلوب، فإن زهده وعبادته تمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار، فكيف وهو بين المسلمين. وتوكله على ربه واستغناؤه بما في يده يغنيه عن الجمع والاستكثار، فلينفق لينفق الله عليه. ومن علامات الزهد: أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود كما قال سبحانه: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]. وأن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال، والثاني علامة الزهد في الجاه، وأن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة: إما محبة الدنيا .. وإما محبة الله. وهما في القلب كالماء والهواء في الإناء، فإذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان، وكذلك الأنس بالدنيا وبالله لا يجتمعان. وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية. وأن يستوي عنده التراب والذهب؛ لقوة توكله وزهده. العطاء أحب إليه من الأخذ، غفور شكور، حليم صبور، عزيز كريم، خاشع القلب، دائم الذكر والفكر فيما يرضي الله. ولا تتم رغبة العبد في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا

إلا بعد نظرين صحيحين: الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم الكد فيها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف. فطالب الدنيا لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها وفراقها. الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، وما فيها من النعيم المقيم. فإذا تم للعبد هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، وكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل، واللذة الحاضرة، إلى الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل. فإذا آثر العبد الفاني الناقص على الباقي الكامل كان ذلك: إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة. فالراغب في الدنيا، الحريص عليها، إما أن يصدِّق بأن ما هناك في الآخرة أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق. فإن لم يصدق كان عادماً للإيمان رأساً. وإن صدق ذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل، سيئ الاختيار لنفسه. فإن إيثار الدنيا على الآخرة، إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما، وقد قال خالقها عنها: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)} [الرعد: 26]. وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا

وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20] وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله، وطلب الآخرة، وقد توعد الله من لم يرج لقاء الله، ورضي بالدنيا، واطمأن بها، وغفل عن آيات ربه بالنار كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7،8]. والزهد في الدنيا أن تنزعها من قلبك وهي في يدك. والذي يصحح هذا الزهد أربعة أمور: الأول: علم العبد أن الدنيا فانية. الثاني: علم العبد أن وراء الدنيا داراً أعظم منها وأفضل، وهي الآخرة. الثالث: معرفة العبد أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها. الرابع: علمه أن الذي خلقها ذمها وحذر منها فكيف يتعلق بها؟ ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهواته، وما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما تحبه النفس. والناس في الدنيا معذبون على قدر هممهم بها: فالقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة. وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38]. وماذا يجدي نعيم ساعة مشوب بالكدر إذا كان ينتظره شقاء الأبد.

{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207]. وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. والزهد المشروع ثلاث درجات: الأولى: الزهد في الشبهات بعد ترك المحرمات، وهو ترك ما يشتبه على العبد هل هو حلال أو حرام؟، حذراً من توجه عتب الله عليه، وأنفاً من نقصه عند ربه، وسقوطه من عينه، وسقوطه من أعين الناس؟. الثانية: الزهد في الفضول من الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، والمنكح. فيكفيه البلغة، ويزهد فيما وراء ذلك؛ اغتناماً لتفرغه لعمارة وقته فيما يقرب إلى الله، أو يعينه على ذلك من مأكل ومشرب ونحوهما. فإنه إذا أخذها بنية القوة على ما يحبه الله كانت من عمارة الوقت، فإن اللذة عند أهل العقول تذكر باللذة، والفرح يذكر بالفرح، والسرور يذكر بالسرور الأخروي. فيزهد في الفاني، وينشط للباقي، ولا يلتفت إلى الدنيا في حالتي مباشرته لها وتركه، كالأنبياء والصديقين فهم الزاهدون حقاً، فهم زاهدون فيها وإن كانوا لها مباشرين. الثالثة: الزهد في الزهد، فمن امتلأ قلبه بمحبة الله وتعظيمه لا يرى أن ما تركه لأجله من الدنيا يستحق أن يجعل قرباناً. فالدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فيستحي أن يذكره أو يعتد به، ويستوي عنده ترك ما زهد فيه وأخذه، إذ ليس له عنده قدر، فيكون زاهداً فيه في حال أخذه كما هو زاهد في حال تركه، إذ همته أعلى من ملاحظته أخذاً وتركاً لصغره في عينه، فمن استصغر الدنيا بقلبه واستوى أخذها وتركها عنده، لم ير

أنه اكتسب بتركها الدرجات. وكذلك يشاهد تفرد الله وحده بالعطاء والمنع، فما أخذه فهو مجرى لعطاء الله إياه، وما تركه فالله سبحانه وتعالى هو الذي منعه منه، فيطمئن بذلك عن شهود كسبه وتركه. والزهد على أربعة أقسام: أحدها: زهد فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب. الثاني: زهد مستحب، وهو درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه، وهو الزهد في المكروه، وفضول المباحات، والتفنن في الشهوات. الثالث: زهد المشمرين في السير إلى الله، وهو نوعان: أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس المراد إخلاء اليد منها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك كحال الأنبياء والمرسلين والخلفاء الراشدين، فليس الزهد في المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه، ولقد كان سليمان - صلى الله عليه وسلم - في ملكه من الزهاد. الثاني: الزهد في النفس، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه. فالزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته، وقبح ثمرته، وحماية لدينه، وإيثاراً للذة، والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأسره عدوه. ويسهِّل على الإنسان الزهد في المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم، والنعيم المقيم. ويسهِّل عليه الزهد في الدنيا معرفته بما وراءها، وما يطلبه من العوض التام

والمطلب الأعلى. وأما الزهد بالنفس فهو ذبحها بغير سكين وهو نوعان: أحدهما: أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها. قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبها إذا دعتك. وهذا هو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يشرف منها الإنسان على منازل المقربين، ويخلص من سجون المحن والبلاء، وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها وسرورها بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، واللجوء إلى مولاها الحق، ومالك أمرها، ومتولي مصالحها. الثاني: أن يبذل نفسه للمحبوب مولاه جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئاً، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله، قد تعلقت رغبة محبوبه به. فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه. وجميع مراتب الزهد السابقة مبادٍ ووسائل لهذه المرتبة. وإذا أراد الله بعبد خيراً أزهده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصره بعيوبه، والزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس المرقعات.

45 - فقه الورع

45 - فقه الورع قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). الورع: ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، من كل ما يخاف ضرره في الآخرة. والورع على وجهين: ورع في الظاهر .. وورع في الباطن. فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه. والورع أول الزهد، بأن يتورع عن كل ما سوى الله، ويتوقى الحرام والشبه وما يخاف ضرره، حذراً وخوفاً من ربه. والورع على ثلاث درجات: الأولى: تجنب القبائح، وذلك بصون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويزري بها عند الله عزَّ وجلَّ، وعند ملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه. ومن كرمت عليه نفسه صانها وحماها عن الرذائل والقبائح، ومن هانت عليه نفسه ألقاها في الرذائل وأطلق زمامها في القبائح. وكذلك يوفر زمانه على اكتساب الحسنات، فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها. ¬

(¬1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (52) واللفظ له، ومسلم برقم (1599).

وكذلك يصون إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. فالقبائح تسود القلب، وتطفئ نوره، والإيمان نور في القلب، والحسنات تزيد نور القلب، والسيئات تطفئ نور القلب وتقسيه. فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء. الثانية: حفظ الحدود، وذلك بترك كثير مما لا بأس به من المباح إبقاءً على صيانته، وخوفاً عليها أن يتكدر صفوها، ويذهب بهجتها. فالأول يسعى في تحصيل الصيانة، وهذا يسعى في حفظ صفوها أن ينكدر، ونورها أن يطفأ بالتشمير للمراتب العالية، والترفع عن الدناءة. وكذلك لا يقتحم الحدود، فالحدود هي النهايات، وهي مقاطع الحلال والحرام، فمن اقتحم ذلك وقع في المعصية، وقد نهى الله عن تعدي حدوده وقربانها، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه، وهو اقتحام الحدود. الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت وإضاعته، فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه، ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه، ومن لم يكن عمله لله فلا بدَّ أن يعمل لغيره. وهذا الورع يقتضي التورع عن كل حظ يزاحم مراد الله منك. وملاك ذلك كله: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن وآياته وتدبرها، وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، والعمل بموجب ذلك، فهذه طريقة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى. ومراتب الورع ثلاث: الأولى: واجبة، وهي الإحجام عن المحرمات. الثانية: مندوبة، وهي البعد عن الشبهات. الثالثة: فضيلة، وهي الكف عن كثير من المباحات، والاقتصار على أقل الضرورات.

وللورع مظاهر متعددة تختلف باختلاف أعضاء الإنسان ومصالحه: فمنها الورع في النظر .. والورع في السمع .. والورع في الشم .. والورع في اللسان .. والورع في البطش .. والورع في الأكل .. والورع في البطن .. والورع في الفرج .. والورع في البيع والشراء. وملاك الدين الورع .. وآفتة الطمع، والورع من أعلى مراتب الإيمان، وأفضل درجات الإحسان. وتمام الورع أن يعلم العبد خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فمن لم يعلم ذلك فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع. وملاك الدين الورع، وآفتة الطمع، وزينة العلم الورع، والحلم، والتوكل. وأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، والخوف من المعصية خوف الصالحين. وكل من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، ولا يمكن أن يصل العبد إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته، والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر. فمن عرف الله تعالى عرف أنه فعال يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويحكم ما يريد ولا يخاف. ومن أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة وكمال الورع، والمؤمن إذا عرف ربه أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وتورع عن كل ما لا يرضيه.

الباب العاشر فقه النبوة والرسالة

الباب العاشر فقه النبوة والرسالة ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الاصطفاء والاختيار 2 - فقه النبوة والرسالة 3 - حكمة تعدد بعث الرسل 4 - حكمة موت الرسل 5 - فقه الدعوة إلى الله 6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 7 - فقه النصيحة 8 - فقه الهداية 9 - فقه الابتلاء 10 - فقه الشورى 11 - فقه الإنفاق في سبيل الله 12 - فقه الهجرة والنصرة 13 - فقه الجهاد في سبيل الله 14 - فقه النصر 15 - فقه الخلافة

1 - فقه الاصطفاء والاختيار

1 - فقه الاصطفاء والاختيار قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33]. وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75]. وقال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]. الله تبارك وتعالى خلق الخلق، وجعل لكل منهم كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه، فإن عدم ذلك انتقل إلى ما دونه وهكذا. حتى إذا عدم كل فضيلة صار كالشوك والحطب الذي لا يصلح إلا للوقود. كالفرس إذا كمل أعد لمركب الملوك، وأكرم إكرام مثله. فإن نقص قليلاً أعد لمن دون الملك، فإن نزل أعد لآحاد الأجناد، فإن تقاصر استعمل استعمال الحمار إما حول المدار، وإما لنقل الزبل، فإذا عدم ذلك استعمل استعمال الأغنام للذبح والإعدام، وهكذا الآدمي: خلقه الله عزَّ وجلَّ ضعيفا ًجهولاً. فإذا كمل وبلغ كماله ذروته صار صالحاً لاصطفاء الله له، فاتخذه رسولاً ونبياً فـ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. فإن كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة صالحاً لخلافة النبوة رشحه لذلك وبلغه إياه، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رشح لها، وإن كان ممن يصلح للعبادة والعمل دون المعرفة والعلم جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين. فإن نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل

حطباً ووقوداً للنار والعياذ بالله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. والله عزَّ وجلَّ أكرم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجتباها واصطفاها، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأمور: فجعلهم الله أمة وسطاً .. وجعلهم شهداء على الناس .. واختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها وهي الكعبة .. واختار لهم سيد الأنبياء وأفضلهم وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .. واختار لهم خير الأديان وهو الإسلام .. وأنزل عليهم خير الكتب وأحسنها وهو القرآن .. وأعطاهم وظيفة الأنبياء إلى يوم القيامة .. وهي الدعوة إلى الله. والله عزَّ وجلَّ لا يستخدم لدينه والدعوة إليه إلا من يقدم نفسه، فمن علم الله منه الرغبة والطلب الصادق والتضحية استخدمه الله لدينه، وجعله سبباً لهداية الناس. والعامل إنما يستخدمه صاحب العمل إذا قدم نفسه، أما المعرض فإنه لا يستخدم؛ لأنه ليس عنده الطلب. والله عزَّ وجلَّ أعطى كل إنسان طاقات، وأمره أن يستخدمها للدين، فيجب أن نستخدم البدن لقضاء طلبات الدين، وهكذا. وهذه الثلاثة (البدن والفكر والدعاء) استعملت الآن لقضاء طلبات الدنيا وعمارتها وتكميلها. والله تبارك وتعالى يصطفي من خلقه ما يشاء، فاصطفى من الملائكة رسلاً، واصطفى للنبوة والرسالة من شاء من البشر، وهو أعلم حيث يجعل رسالته كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75]. وبعد الاجتباء والاختيار والاصطفاء يربيهم الله ويبتليهم، ثم يبعثهم إلى الناس بالدين الحق.

فموسى - صلى الله عليه وسلم - اصطنعه الله لنفسه، واصطفاه على الناس بالرسالة والتكليم، ورباه على الإيمان والتوحيد، ثم أرسله إلى فرعون، ولكن تلقى قبل ذلك ثلاثة أنواع من التربية وهي: التربية البدنية .. والتربية الأخلاقية .. والتربية الإيمانية. فموسى - صلى الله عليه وسلم - رباه الله في قصر فرعون، وعاش حياة القصور، ورأى الإسراف في ألوان الطعام، وتعلم هناك التربية البدنية، ولذا لما ضرب القبطي ضربة قتله كما قال سبحانه: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)} [القصص: 15]. وفقأ عين ملك الموت، ورفع الصخرة عن البئر وحده في مدين. وفي مدين رباه الله على حسن الأخلاق مع البهائم، ليتدرب على حسن الأخلاق مع الناس، فرعى الغنم عشر سنوات في مدين، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وفي ذلك حكمة بالغة: فمزاج الغنم الانتشار لتحصيل المنافع، وكذلك الداعي مزاجه الانتشار لنشر الهداية، ومزاج الراعي جمع الغنم على الماء والكلأ، ومزاج الداعي جميع الأمة على الدين والهدى. ومزاج الراعي الصبر على الغنم، والشفقة عليها، والرفق بها، ورحمتها والعناية بها، وكذلك الداعي مزاجه الصبر على الأذى من الناس، والشفقة عليهم من عذاب الله، ورحمتهم والإحسان إليهم. والراعي يورد الغنم أماكن الماء والعشب والكلأ، ويجنبها ما يتعبها ويشق عليها، وكذا الداعي مزاجه السير بالأمة في سبل النجاة والهدى، وإبعادها عن مواطن الهلكة والردى. والبيئة مؤثرة، فالذي يرعى الإبل تأتي فيه صفة الكبر، والذي يرعى الغنم تأتي فيه صفة التواضع، لذلك الذي يكون في المسجد تأتي فيه صفة الملائكة الذين: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

ومزاج الراعي أنه يعيش جل وقته في خدمة الغنم وحفظها، وبذل المنافع لها، وكذلك الداعي يعيش كل وقته من أجل هداية البشر إلى الصراط المستقيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وفي طور سيناء علم الله موسى التربية الإيمانية بقسميها النظري والعملي. فالنظري كما كلم الله موسى - صلى الله عليه وسلم - عند الشجرة، وبين الله له أنه الإله الذي لا إله غيره، وأمره بعبادته وطاعته، وأن الناس راجعون إلى ربهم، وسيحاسبهم على ما عملوا يوم القيامة، وحذره من ترك ما أمر به، ومن طاعة أهل الكفر والأهواء فقال سبحانه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه: 12 - 16]. ثم علم الله موسى - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عملياً فقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} [طه: 17،18]. فالله سبحانه أراد أن يعلم موسى - صلى الله عليه وسلم - معنى لا إله إلا الله عملياً، فأمره بإلقاء عصاه، فلما ألقاها جاءها أمر الله فوراً فتحولت بأمر الله إلى حية: {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} [طه: 19،20]. فأمره الله بإلقائها وهي نافعة، ثم أمره بأخذها وهي ضارة، تدريباً له على الإيمان وتمام الطاعة، ليعلم أن كل شيء بيد الله: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 21]. وآية أخرى يراها تجري عملياً ليعلم بها قدرة الله في التصرف في الأشياء وتبديل أحوالها فوراً: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه: 22].

ولما عرف حقيقة الإيمان نظرياً وعملياً أرسله الله إلى فرعون يدعوه إلى الله فقال له ولأخيه هارون عليهما الصلاة السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43،44]. فماذا قال موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [طه: 45]. فقال الله لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]. فذهب موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى فرعون بهذا اليقين، ودعاه إلى الله: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} [القصص: 39،40]. فأهلكه الله وأغرقه وقومه في البحر، وأنجى الله موسى وبني إسرائيل كما قال سبحانه: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 65،66]. والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]. خلق سبحانه أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، واختاره فاستوى عليه بأعظم صفة وأوسعها وهي الرحمة، فاستوى جلَّ جلاله على أعظم المخلوقات بأوسع الصفات وهي الرحمة، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. واختار قلب الإنسان ليكون محلاً لنظره سبحانه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (¬1). فالعرش عظيم جداً، والقلب صغير جداً، فإذا كانت (لا إله إلا الله) في قلب ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564).

الإنسان رجح بالسماوات والأرض، وصار ذلك القلب لائقاً بجلال الله، كما أن العرش لائق بجلال الله سبحانه لعظمته، وكماله، وخلوه من العيوب. والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده أن يزينوا قلوبهم بالإيمان، وأن تكون خالية من الشرك والعيوب، لتكون لائقة بنظر الله جل جلاله. والله سبحانه ينظر إلى العمل الذي ينظف القلب، ويطهره من العيوب، ويمقت العمل الذي يلوث القلب ويفسده. وقد أكرم الله هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله. وجميع الأمم السابقة هي الآن في القبور تنتظر مجيء هذه الأمة، ورحمة بهذه الأمة جعلها الله خير الأمم وآخر الأمم؛ لئلا يطول عليها زمن الانتظار، وجعلها تعمل قليلاً، وتؤجر كثيراً. وكشف الله لهذه الأمة أعمال وفضائح وأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم؛ لتتعظ وتعتبر بمن خالف أمر الله، وتقتدي بمن أطاع الله ورسله. وستر عيوب هذه الأمة عن الأمم السابقة. فما أعظم احتفاء الله بهذه الأمة .. وما أشد عنايته بها .. ! فمتى تشكر هذا التشريف والإكرام؟ والله جل جلاله كما اصطفى المؤمنين على سائر البشر، كذلك اصطفى بيت آل إبراهيم على سائر البيوت. فهذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق، فقد جعل الله فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - نبي إلا من أهل بيته، وجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة. فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، واتخذ منهم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام. وجعل سبحانه صاحب هذا البيت وبانيه إماماً للعالمين كما قال سبحانه:

{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]. وأجرى جل جلاله على يديه بناء بيته العتيق، الذي جعله قياماً للناس، وقبلة لهم، وحجاً لهم إلى يوم القيامة، فكان ظهور هذا البيت وعمارته من أهل هذا البيت الأكرمين. وأخرج سبحانه من أهل هذا البيت الأمتين العظيمتين، وهم أمة موسى - صلى الله عليه وسلم - وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمة محمد تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله سبحانه، وأبقى عليهم لسان صدق وثناء في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم. وجعل سبحانه خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة. وسد سبحانه جميع الطرق بينه وبين العالمين فلم يفتح لأحد قط إلا من طريقهم وبابهم، وخصهم سبحانه بالعلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين. فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكامه وأفعاله، وثوابه وعقابه، وشرعه ومواقع رضاه وغضبه، ومخلوقاته وملائكته منهم. فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين، وخصهم بالدعوة إلى توحيد الله ومحبته، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم بها، وأطاع لهم أهل الأرض ما لم يحصل لغيرهم. وأيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه بما لم يؤيد غيرهم. ومحا بهم من آثار أهل الضلال والشرك والآثار التي يبغضها الله ويمقتها ما لم يمحه بسواهم. وجعل عزَّ وجلَّ آثارهم سبباً لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم في الأرض وشرائعهم.

وأظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت سواهم كما قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54]. ومن بركات الله تبارك وتعالى عليهم: أن أعطاهم ما لم يعط غيرهم .. فمنهم من اتخذه خليلاً كإبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الذبيح كإسماعيل - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الكليم كموسى - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من آتاه شطر الحسن كيوسف - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من آتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العالمين كسليمان - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من رفعه مكاناً علياً .. وفضلهم على العالمين .. ورفع الله العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثتهم .. فأهلكت الأمم السابقة التي عصت بعذاب الاستئصال كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، فلما أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن رفع الله بها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من خالفهم، وجعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنبياء والرسل، وجعل أمته خير الأمم، واختار منهم السابقين والأولين، واختار منهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها. واختار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأمم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، ووهبهم من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها. واختار سبحانه من الأماكن والبلاد والبقاع خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، وجعل فيها بيته المبارك، ومسجده الحرام، وجعله حرماً آمناً، لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، وسبباً لدخول الجنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» متفق عليه (¬1). وجعل الله سبحانه الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، فهو أفضل بقاع ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1773) واللفظ له، ومسلم برقم (1349).

الأرض على الإطلاق، وهو في أم القرى، كما أن الفاتحة أم الكتاب. والله سبحانه فضل بعض الأيام والليالي والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل الشهور شهر رمضان، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام. والله تبارك وتعالى خلق جميع المخلوقات، واختار من كل جنس أطيبه، واختصه لنفسه، وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من الأقوال والأعمال والكلام والصدقات إلا الطيب. فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى: فله من الكلام الكلم الطيب، الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان، والبذاء والكذب، وكل كلام خبيث. ولا يحب من الأعمال إلا أطيبها وهي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. واصطفى سبحانه من الكتب القرآن، واصطفى من الكلام أربعاً، وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وهو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمه فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره، فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وليس كل أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محال مخصوصة، لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله وحده أعلم بهذه المحال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقد اختار الله عزَّ وجلَّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، واختار لهم أوسط القِبل وأفضلها، وهي الكعبة، وهم أوسط الأمم وخيارهم كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143]. فاختار سبحانه أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل، وأفضل الكتب، وأفضل اللغات، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تل عالٍ والناس تحتهم. فسبحان من يختص برحمته من يشاء: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. فهذه الخصائص وغيرها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نصلي على أهل هذا البيت كما صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نطلب من الله تعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على أهل هذا البيت المعظم في كل صلاة بقولنا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه (¬1). فجزى الله أهل هذا البيت عن بريته أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيماً وتشريفاً، وصلى الله وسلم عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).

وهلا نتشبه بأهل هذا البيت، ونقتدي بهم، ونستن بسننهم؟. وقد اتخذ الرب تعالى من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه فهو سقفها، وهي الفردوس سيدة الجنان. والله عزَّ وجلَّ يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات البشر، واختار من البشر المؤمنين، واختار الأنبياء والرسل من المؤمنين، واختار من الأنبياء والرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام. واختار سبحانه من الملائكة جبريل .. واختار محمداً - صلى الله عليه وسلم - من البشر .. واختار من السموات العلا .. ومن البلاد مكة .. ومن الأشهر المحرم .. ومن الليالي ليلة القدر .. ومن أيام الأسبوع الجمعة .. ومن أيام العام يوم النحر ويوم عرفة .. ومن الليل ثلثه الآخر .. ومن الأوقات أوقات الصلوات الخمس: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]. والله حكيم عليم قسم بين العباد معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم، وهو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح له. وهو سبحانه الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات بعلمه وحكمته. وهو سبحانه أعلم بمواقع اختياره. وكما خلق الله العباد وحده، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه. وهذا الاختيار دال على ربوبيته ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. والله عزَّ وجلَّ خلق السموات السبع، واختار العليا منها، وجعل فيها البيت

المعمور، وجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه وعرشه، وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السموات، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وخلق سبحانه الكرسي وجعله محيطاً بالسموات والأرض: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]. وخلق سبحانه العرش، وجعله أكبر المخلوقات وأوسعها وأعلاها، واختاره من بين المخلوقات فاستوى عليه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. وخلق سبحانه جنة الفردوس، وفضلها على سائر الجنان، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه. وخلق سبحانه عالم الملائكة، واختار منهم المصطفين منهم على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل. فذكرهم سبحانه لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله عزَّ وجلَّ. فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح. وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والنبات. وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه صعق من في السموات ومن في الأرض، فإذا نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. واختيار الرب تعالى لعبده نوعان: أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا القسم غير ما اختار له سيده كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. فاختيار العبد خلاف ما اختار الله له مناف لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً.

الثاني: اختيار كوني قدري كالمصائب التي يبتلي الله بها من شاء من عباده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، ويدفعها ويكشفها، وليس في هذا منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا القدر لا يسخطه الرب، بل يأمر به كما أمر بدفع قدر الجوع بالأكل، وقدر العطش بالشرب، وقدر المرض بالدواء .. وهكذا. وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، فهو قدر المعائب والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ومطلوب منه التوبة منها. فالحمد لله الذي أرسل إلينا أفضل رسله .. وأنزل علينا أحسن كتبه .. وشرع لنا أفضل شرائعه .. وجعلنا خير أمة أخرجت للناس .. وأعطانا وظيفة الأنبياء والرسل وهي الدعوة إلى الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].

2 - فقه النبوة والرسالة

2 - فقه النبوة والرسالة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. الله تبارك وتعالى خلق الإنس والجن لعبادته، واختار الإنسان ليكون خليفة في الأرض، واختار للإنسان منهجاً لسير عليه وسماه الإسلام، وأرسل رسله إلى خلقه بذلك، وأمرهم أن يقولوا للناس شيئين: الأول: أن يقولوا إن لهذا الكون رباًّ، ولهذا الكون إلهاً، ولهذا الكون خالقاً، ولهذا الكون آمراً، فجميع الأشياء والأمور بيد الله رب العالمين، فلا بد أن تؤمنوا به لتستفيدوا من خزائنه، وتسألونه حاجاتكم، أما نحن فما علينا إلا البلاغ، ونحن كغيرنا ليس بأيدينا شيء: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. الثاني: أن يقولوا إن أردتم أن تستفيدوا من خزائن الله، خزائن الهداية والرحمة، وخزائن الأموال والأرزاق، وغيرها مما في خزائن الله، فعليكم أن تجعلوا حياتكم كحياة الأنبياء والرسل: إيمان وتوحيد، وعبادة ودعوة، وأخلاق حسنة. وبذلك يكون الله معكم، وينصركم ويرزقكم، ويتولاكم ويعزكم كما فعل ذلك مع الأنبياء.

وإن أردتم أن يحبكم الله فاتبعوا رسله كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. وأمر الله جميع الأنبياء والرسل بإقامة الدين في مجتمعاتهم وجمع الناس عليه كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. وأمرهم بنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق .. ومن اليقين على الأموال والأشياء إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن الفكر في الدنيا إلى الفكر في الآخرة، ومن طاعة النفس والشيطان إلى طاعة الله ورسوله .. ومن عادات وتقاليد القبيلة إلى أحكام وآداب الشريعة. وكل نبي أعطاه الله شيئين: الدين .. والدعوة إلى الله. ثم أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى الأنبياء جميعاً، لكن جعل رسالته لعموم البشرية، بل للإنس والجن، بل جعله رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للرسل، وجعل أمته خير الأمم وآخرها، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وأشرف الوظائف وأعلاها، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. وبنو آدم درجات: فمنهم العاقل والمجنون، والرشيد والسفيه، والمؤمن والكافر، وأعلاهم درجات الرسل ثم أتباعهم، ومهمة الأعلى أن يأخذ بيد الأدنى، فالأنبياء والرسل أرسلهم الله ليرفعوا البشرية من التشريعات البشرية

السفلية إلى الإيمان والفضائل والتشريعات والأخلاق السماوية. فإذا عكس البشر القضية وشد الأدنى الأعلى صار الجميع في المنحدر، وذلك ما يريده الشيطان وأتباعه. وهذه الأمة أمة أمية، ونبيها أمي، والأمي كما ولدته أمه لم يأخذ ثقافته من مساويه بل أخذها من ربه الأعلى. وإذا كان الله عزَّ وجلّ َقد حرم محمداً بالأمية من معطيات عقول البشر فقد وصله بالعلوية التي تعلم البشر، وتهدي البشر، وتملك البشر. وأعداء الإسلام يعرفون هذا الدين، وهذا القرآن كما يعرفون أبناءهم. يعرفون ما فيه من سلطان وقوة، وما فيه من خير وصلاح، وما فيه من أخلاق وآداب، وما فيه من سنن ونظام. ويحسبون لهذا الكتاب ألف حساب، ويعلمون أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين. وهم يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة ليعرفوا كيف يبني الرجال؟ وكيف تبنى الأخلاق؟ ليقوموا بتخريب هذا البناء، ويبحثوا عن مقتل لهذا الدين كما قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. وقد اجتهدوا وبحثوا حتى خدعوا كثيراً من المسلمين، وحولوا الدين من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتجعل الدين كله لله. حولوه بعد جهود وتضحيات إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدال فقهي أو طائفي فارغ، ومعلومات تصدع الرؤوس ولا تزكي القلوب وحولوا العقيدة إلى مفهومات وتصورات مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة مع أن أجنحتها وأخلاقها تكسر في كل لحظة، وفي كل ميدان، وفي كل بلد.

وفي النهاية ملؤوا فراغ العقيدة بتصورات أورثت الشك في دين الله، والإعراض عنه، وتجاوزه إلى غيره، وهبط أكثر المسلمين في القاع، لا في الزهد في الدين ونبذه فحسب، بل بتنفير الناس عنه بالأقوال والأفعال والصفات. وقام في الأمة من بني جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ويصد عن سبيل الله بلسانه وقلمه وحاله. إن دور الأنبياء وأتباعهم إبلاغ دين الله، ولزوم هذا العمل، والصبر على مشاق الطريق. أما هدى الناس أو ضلالهم فهو بيد الله وحده لا شريك له، وله سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول أو الداعي في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب ويؤذي كما قال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35]. إن شخصه لا اعتبار له في هذا الأمر، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر، وما التزم وما استقام كما أُمر، وأَمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس فهو العليم الحكيم: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39]. وجميع الخلق في قبضته، وهو أعلم بمن يصلح للهداية أو الضلالة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35]. وصاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، الذين لا تنفتح قلوبهم لدلائل الهدى، وموجبات الإيمان. إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا، فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم لتزكو قلوبهم، ويتفقهوا في دينهم، وتصلح أخلاقهم، وهذا كله يحتاج إلى جهد بعد جهد الدعوة. أما الواقفون على الشق الآخر فجزاؤهم بعد الدعوة الإهمال والإعراض، وحين

ينمو الحق في ذاته، فإن الله يجري سنته كما قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18]. وقد خلق الله بني آدم، وأخذ عليهم العهد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]. وزودهم بالعقول، وفطرهم على التوحيد، ولكن الله قدر برحمته ألا يحاسبهم على ما فطرهم عليه من التوحيد، ولا على ما وهبهم من العقول. بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فجعل برحمته الحجة عليهم الرسالة كما قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. فعلم الله تبارك وتعالى أن الفطر والعقول لا تكفي وحدها للهدى دون رسول من الله. وقد بعث الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدل، أو محرف، أو منسوخ، ودين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك. وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من كوكب، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو نار، أو غير ذلك مما زينه الشيطان وغرَّبه العباد، وقد آمن من هؤلاء أكثر ممن آمن من أهل الكتاب. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (¬1). فقد أخذ الله الميثاق على جميع البشر أن يؤمنوا به، لكن ثواب من آمن به ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2278).

وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب الإيمان المجمل الذي أقرت به الأمم السابقة، فله عليه الصلاة والسلام نصيب من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن ضلال وغواية كل إنسان من الجن والإنس لإبليس منه نصيب، وعهد آدم عليه الصلاة والسلام وما بعده إلى ما قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبه زمن طفولة الإنسان، وزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن كمال الإنسان. فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بالدين الكامل الشامل الباقي إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فالمولود يخاط له ثوب صغير، وكلما زاد طوله يخاط له أكبر، فإذا اكتمل طوله يخاط له ثوب يبقى طوله إلى أن يموت. وهكذا الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - صالح كامل، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يقبل الله ديناً سواه بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وقد أرسل الله الرسل لهداية الكفار، وإصلاح من فسدت حياته من المسلمين، وقد بعث الله الأنبياء والرسل ليأمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. فمن آمن من الناس بما جاءت به الرسل حصلت له السعادة في الدنيا والآخرة، واستفاد من قدرة الله، فإن الله لما آمنوا به وأطاعوه أحبهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات. فالاستفادة من المخلوقات يشترك فيها المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لكن يمتاز المؤمن بحصول البركة في رزقه.

أما الاستفادة من قدرة الله فلها شرطان: الإيمان .. والتقوى. وهي خاصة بالأنبياء ومن آمن بهم كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51، 52]. فنوح - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى الإيمان وعبادة الله وحده لا شريك له، ولم يؤمن به إلا القليل، فسأل ربه أن يهلك من استكبر وكفر فأغرقهم الله بالماء. وكذا هود - صلى الله عليه وسلم - أهلك الله من لم يستجب له بالريح العقيم. وموسى - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يهلك عدوه فرعون وقومه لما كذبوه فأغرقهم الله في البحر. وقارون لما أعرض عن الدين واستغنى بماله خسف الله به وبداره الأرض. وقوم لوط لما كذبوا لوطاً، وأصروا على فعل الفاحشة، قلب الله عليهم ديارهم، وحصبهم بحجارة من السماء. وعطش أصحاب موسى - صلى الله عليه وسلم - فدعا الله فخرج لهم الماء من الحجر اثنتا عشرة عيناً. ودعا صالح - صلى الله عليه وسلم - قومه إلى الإسلام فلم يؤمنوا فدعا عليهم فأخذتهم الصيحة مشرقين، فهلكوا جميعاً. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - عطش أصحابه فدعا الله فخرج لهم الماء من بين أصابعه، فشربوا منه. وهكذا سائر الأنبياء والمؤمنين إنما يستفيدون من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة.

وقد أعطى الله تبارك وتعالى الأنبياء شيئين: الدعوة .. والدعاء. فالدعوة للبشر، والدعاء لله، فالحوائج تقضى بالدعاء وسؤال الرب الذي يملك كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء، بعد فعل الأسباب المشروعة، وأحياناً تقضى بالأموال والأسباب ابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر. وبالدعاء يأتي اليقين على الأعمال الصالحة. فعندما يتأخر نزول المطر نصلي .. وعندما تكسف الشمس نصلي .. وعندما نريد النصر نصلي .. وهكذا في سائر الحوائج نتوجه إلى الله دائماً، ونسأله وندعوه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. والمطلوب في كل عمل أن نقوم بالعمل على الطريقة التي ورد بها، فمن جاء بالعمل بدون طريقته لم يقبل. والمطلوب في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمور: تعلم سننه .. وتعلم اليقين على سننه .. وتعليم الناس ذلك. والله عزَّ وجلَّ جعلنا خير أمة أخرجت للناس، وأكرمنا بالدين الكامل، وشرفنا بالدعوة إليه. وحتى نؤدي الأمانة، ونحقق مراد الله في عباده، يجب أن يكون قدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتحقق ذلك بثلاثة أمور: الأول: أن نتبعه - صلى الله عليه وسلم - في صورته وشكله. الثاني: أن نتبعه في سيرته وعبادته، ومعاملاته، ومعاشراته، وأخلاقه. الثالث: أن نتبعه في سريرته، وفي إيمانه بربه، ويقينه عليه، واستسلامه له، والتوكل عليه، والخشية منه، وتفويض الأمر إليه. ونتبعه في الفكر والهم الذي في قلبه - صلى الله عليه وسلم -، وهو همّ هداية الناس، ودعوتهم إلى الله، ورحمتهم والشفقة عليهم، حتى يخرجوا من الظلمات إلى النور: {يَاأَيُّهَا

النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. والله سبحانه لما بعث الأنبياء صار الناس قسمين: الأول: المؤمنون الذين آمنوا بالله، وأسسوا حياتهم على الغيب. الثاني: الكفار الذين لم يؤمنوا، وأسسوا حياتهم على المشاهدات، فهؤلاء الحيوان خير منهم؛ لأن الحيوان يذكر الله، والكافر ميت لا يذكر الله، والحيوان يعرف إشارة صاحبه، والكافر لا يعرف أوامر خالقه ولا يؤمن بها. والحيوان يعرف رزقه وما ينفعه ولا يأكل إلا الطيب، والكافر يأكل ما ينفعه وما يضره، ويغشي المحرمات بلا حياء، ويكفر بالنعم والمنعم بها: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وجميع الأنبياء والمرسلين دعوا الناس من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن المخلوق إلى الخالق .. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن دار الفناء إلى دار البقاء. فاجتهدوا على القلوب والأبدان لتكون حياة الناس مطابقة لحياة الأنبياء. واجتهدوا على العيون حتى ترى ما يحب الله ورسوله. واجتهدوا على الآذان حتى لا تسمع إلا ما يحب الله ورسوله. واجتهدوا على العقول حتى لا تفكر إلا فيما يحب الله ورسوله. واجتهدوا على الأيدي حتى لا تفعل إلا ما يحب الله ورسوله. واجتهدوا على الأقدام حتى لا تمشي إلا فيما يرضي الله ورسوله. فعملهم العبادة، ووظيفتهم الدعوة، فعلينا الاقتداء بهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90].

والنبي - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، وبعد بعثته لا بدَّ من اتباعه، ومن تبع غيره حتى لو كان نبياً يعد مخالفاً، وعمله غير مقبول كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم (¬1). وجميع الأنبياء قاموا بالدعوة إلى الله بين أقوامهم، فمنهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن، ومنهم من استجاب، ومنهم من لم يستجب. وسنة الله أنه بعد كل الجهود تظهر النتائج، فالله يظهر قدرته بعد تكميل الجهد، فالذين آمنوا بالرسل أنجاهم الله وأسعدهم في الدنيا والآخرة. وأهلك الله كل من لم يؤمن بالرسل من الأمم السابقة تارة بالماء، وتارة بالريح، وتارة بالخسف .. وتارة بالصيحة .. وتارة بالحجارة .. كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. وأساليب دعوة الأنبياء واحدة: فأولاً: يعرضون أنفسهم وما جاءوا به على الناس، وإذا احتاجوا لعرض الدين على الناس أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم بذلوها. وثانياً: لا يسألون الناس على دعوتهم لهم شيئاً كما قال سبحانه عن كل رسول أنه قال: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} [الشعراء: 109]. وثالثاً: إذا عارضهم الناس أو طردوهم أو شتموهم فلا يجاوبون جهالتهم بالجهالة، وإنما يصبرون عليهم ويدعون لهم بالهداية كما قال سبحانه: ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (153).

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (¬1). ورابعاً: أنهم يدعون الناس إلى الله بالشفقة والرحمة والتواضع واللين في جميع الأحوال. وخامساً: أنهم يقومون بالدعوة إلى الله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً كما قال نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} [نوح: 5، 6]. ويدعون إلى الله في جميع الأحوال، حال الأمن وحال الخوف، وحال الصحة وحال المرض، وحال الإقامة وحال السفر. والأنبياء والرسل هم أول من عرف منافع التوحيد والإيمان والطاعات، وأول من عرف مضار الشرك والكفر والمعاصي والبدع. ولكمال معرفتهم بذلك يَغْشَون الناس لدعوتهم إلى الله في البيوت والأسواق، ويطرقون الأبواب، ويقطعون المسافات، ويصعدون الجبال، ويصبرون على كل ما يصيبهم في سبيل تنفيذ ما أمروا به. ويرحمون الناس ويكرمونهم، ويبذلون من أجل ذلك أموالهم، والناس يؤذونهم ويسبونهم فيعفون عنهم، ويصبرون على أذاهم. فالأنبياء يدعون الناس إلى ربهم بالرحمة واللين وحسن الخلق، وأهل الباطل ينشرون باطلهم بطريق الشدة والكبر والتسلط كما قال الشيطان لفرعون: أعلن للناس ليرهبوك ويرجوك: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]. ثم أمره بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4]. ثم سخر فرعون بموسى قائلاً ما حكى الله عنه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).

وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 52]. فلما أوغل في العناد والاستكبار وآذى موسى وبني إسرائيل أغرقه الله في البحر وأغرق معه آله ووزراءه وجنوده وقومه، ويدخلهم النار يوم القيامة: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45، 46]. وقارون بغى وبخل، وأفسد بنفسه وماله، مع ما أنعم الله عليه بكثرة الأموال والأشياء كما قال سبحانه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]. فهل استجاب للنصيحة: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 76، 77]. كلا لم يستجيب وإنما: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 78]. فلما نصحه قومه وأبى وبغى خسف الله به وبداره الأرض كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81]. فكل من سار على هدي الأنبياء سعد في الدنيا والآخرة، ومن مشى وراء الشيطان خسر في الدنيا والآخرة ولو كان ملكاً كما حصل لفرعون، ولو كان غنياً كما حصل لقارون. وجميع الأنبياء والرسل رجال من البشر من أهل القرى، ليس فيهم امرأة ولا ملك ولا جني ولا أعرابي، اصطفاهم الله واجتباهم، وبعثهم من خيار قومهم على غاية الكمال في الخلقة البشرية والأخلاق الحسنة، وهم معصومون في تحمل الرسالة وإبلاغها، ومن كبائر الذنوب، وإن وقعت منهم صغيرة لا يقرون

عليها، بل يسارع النبي إلى التوبة منها، وهم أكثر الخلق تعظيماً لله، وحمداً له، وتكبيراً له، واستغفاراً له، وهم أعرف الخلق بالله، وأكملهم إيماناً به، وأعظمهم توحيداً له، وأحسنهم طاعة له. وقد يبعث الله نبياً وحده، أو رسولاً وحده، وقد يجمع الله بين بعثة نبيين أو نبي ورسول أو أكثر في زمن واحد. كما بعث سبحانه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وبعث في زمنه لوطاً - صلى الله عليه وسلم -، وكما بعث يعقوب وابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام في زمن واحد، وكما بعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في زمن واحد. وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأنزل الله إليهم التوراة فيها هدى ونور، وتفصيل كل شيء كما قال الله سبحانه عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145]. ولهذا كانت أمة موسى أوسع علماً ومعرفة من أمة المسيح، ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها. فإن المسيح وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل مكمل لها، متمم لمحاسنها، وغالبه مواعظ وزهد وأخلاق وحض على الإحسان والاحتمال والصفح، ثم جاء القرآن الكريم جامعاً لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. والشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الشرائع وأكملها، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق كما قال سبحانه عنه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ

الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 37]. فالرسل قبله بشروا به، وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس صدق خبرهم، وعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6]. وموسى - صلى الله عليه وسلم - اصطنعه الله لنفسه، وخصه بكلامه، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - من أعظم خلق الله هيئة ووقاراً، وأشدهم بأساً وغضباً لله، وبطشاً بأعداء الله، وكان لا يستطاع النظر إليه. وموسى - صلى الله عليه وسلم - كان في مظهر الجلال، ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر. فأمته أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجل لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم. وعيسى - صلى الله عليه وسلم - كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال، وهم به عصاة لشرعه، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال، والرهبانية ابتدعوها ولم تكتب عليهم كما قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [الحديد: 27]. وأما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، وهذا اللين والرحمة والرأفة. وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال، وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات. ولذلك جاءت شريعته بالعدل إيجاباً له، وبالفضل استحباباً، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين.

فيذكر سبحانه العدل ويوجبه، ويذكر الفضل والإحسان ويندب إليه. وحرم - صلى الله عليه وسلم - على أمته كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع. وكل ما حرمه الله على هذه الأمة رحمة لهم، وما حرمه على من قبلهم عقوبة لهم. وجعلهم سبحانه خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، وكمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن ما فرقه في الشرائع من قبله. وجعل هذه الأمة شهداء على الناس، واصطفاهم على الأمم كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. وقد خلق الله سبحانه آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض. وحقيقة الخلافة أن يأمر الله الكائنات فتطيعه، فكما أطاع الله، الله يأمر الكائنات فتطيعه، يأمر البحار والجبال، والملائكة والرياح فتطيعه كما أطاع الله، كما سخر الله الماء لنوح فأغرق الله به أعداءه، وكما سخر نفس الماء فجعله سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه. وكما سخر البحر لموسى فانغلق اثني عشر طريقاً يابساً وفي وقت واحد وبماء واحد وبأمر واحد أغرق الله فرعون وقومه، وأنجى موسى ومن آمن معه. وكما سخر الله لداود الجبال والطير تسبح معه، وألان له الحديد يفعل به ما يشاء. وكما سخر الله لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، وعلمه منطق الطير، وسخر

له الجن. وأنزل الملائكة يقاتلون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وأخرج الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - فشرب الناس وتوضؤوا منه، وغير ذلك مما أعطى الأنبياء وأتباعهم. وحتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره، ويعيش حياة مستقرة، هيأ الله له نظاماً شاملاً كاملاً، لم يتدخل فيه أحد من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم وسماه الدين، واصطفى لذلك الرسل وبعثهم به، ليكونوا قدوة للناس، وحفظ حياتهم من تأثير الشياطين. وهؤلاء الرسل يقولون للناس: الأمور كلها بيد الله، ونحن ليس بأيدينا شيء، فآمنوا بربكم يسعدكم ويقضي حاجاتكم، ويقولون كذلك إن أردتم أن يكون الله معكم، وأن تستفيدوا من قدرته وخزائنه، فاجعلوا حياتكم مطابقة لحياتنا، فيكون الله معكم كما كان معنا كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. وقد أرسل الله تبارك وتعالى الرسل إلى الأمم بالحق: فمنهم من قبل الحق ثم تركه واعتمد على الأسباب وهم اليهود، فهؤلاء في النار، ومنهم من قبل الحق ثم ضل عنه وهم النصارى، فهؤلاء في النار: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]. ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب وتوكل على الله، فهؤلاء في الجنة لكن يعذبون بقدر ما تركوا من الحق. ومنهم من قبل الحق وأخذ بالأسباب ودعا إلى الحق وتوكل على الله، فهؤلاء في أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.

وكل نبي وكل رسول دعا قومه إلى لا إله إلا الله، وبشر قومه بالثواب لمن آمن، وبالعقاب لمن كفر، ولكن الهداية بيد الله وحده، وهو أعلم بمن يصلح لها. فنوح - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الله، ودعا ابنه إلى الإيمان، وقال له: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)} [هود: 42]. وكان عنده نسبتان: نسبة الأبوة، ونسبة النبوة. ولكن ابنه كنعان كفر فهلك، وإن كان عنده نسبة البنوة، وأبوه نبياً؛ لأنه فقد النسبة الأم، وهي نسبة الإيمان بالله. فكان يقين ابنه على غير الله، على المشاهدات، على الجبل، فكان يرى عصمته ونجاته في الجبل، وكان اعتماده على الجبل لا على رب الجبل، فغرق هو والجبل بالماء كما أخبر الله عنه: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} [هود: 43]. وهكذا كل من لم يقبل دعوة الأنبياء والرسل لهم الغرق والدمار والهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59]. وبما أن الأمم السابقة من طلب منهم آية تدل على صدق المرسل إليهم أجيب إليها، فإن لم يؤمنوا بعدها عاجلهم الله بعذاب الاستئصال. ولكون هذه الأمة هي الخاتمة حفظها الله من عذاب الاستئصال، وشرفها بالدين والبقاء، والدعوة إلى الله إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. وقد بعث الله الأنبياء والرسل لهداية البشرية إلى عبادة الله وحده لا شريك له،

وليأتي فيهم طلب الهداية من الله ليستفيدوا من قدرته، ومن خزائن الله بالإيمان والتقوى. وقد جعل الله وظيفة هذه الأمة وظيفة رسولها محمد - صلى الله عليه وسلم -، التي ذكرها الله بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 45 - 48]. فوظيفة كل مسلم ومسلمة تنحصر في هذه المسائل العشر المذكورة في الآية. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة وقدوة لكل مسلم كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة: في الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق، وفي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله فهذه حياته - صلى الله عليه وسلم -: جهد على النفس بالعبادة .. وجهد على الغير بالدعوة. وقت للعبادة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4]. ووقت للدعوة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3]. فمن قام بهذين الأمرين فاز .. ومن تركهما خسر. قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكام جميع الأحوال التي يمكن أن يمر بها الإنسان، أحياناً بقوله، وأحياناً بفعله، فلا تخلو حال من أحوال الإنسان من سنن وأحكام يسير

عليها الإنسان وفق أمر الله. أباً أو ابناً .. وزوجاً أو زوجة .. وعماً أو خالاً .. وأخاً أو قريباً .. رجلاً أو امرأة .. غنياً أو فقيراً .. مقيماً أو مسافراً .. صحيحاً أو مريضاً .. بائعاً أو مشترياً .. كبيراً أو صغيراً .. راعياً أو تاجراً .. مربياً ومرشداً .. عابداً أو زاهداً .. عالماً أو معلماً أو متعلماً .. ضيفاً أو مضيفاً .. داعياً أو مدعواً. وغير ذلك من الأحوال التي جاء الشرع بأحكامها مفصلة كاملة كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. ودعوة الأنبياء وجهدهم على أقوامهم ونصحهم لأممهم إنما هو شفقة عليهم، لا يريدون به شيئاً من الدنيا ولا من الناس، يستفيدون من الله، ويفيدون عباد الله، ويبتغون الأجر من الله لا من غيره: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ: 47]. وبقدر أذى أممهم لهم تكون شفقتهم عليهم، وكلما زاد الأذى منهم توجهوا إلى الله ليرحم أممهم، ويتوب عليهم، ويهديهم، ويعتذرون عنهم بأنهم لا يعلمون كما حكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحد الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (¬1). أوقاتهم كلها لله .. يجتهدون على الناس بدعوتهم إلى الله والعمل بشرعه .. ويجتهدون أمام ربهم ويسألونه الهداية لعباده. في النهار يوجهون عباد الله إلى الله، ويدعونهم إليه .. وفي الليل يدعون ربهم لرحمة عباده وهدايتهم، ويدعون لهم ويستغفرون لهم. ألا ما أجهل البشر، وما أشد عداوة الشيطان لهم؟. الأنبياء يدعونهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وهم تارة يسبونهم، وتارة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).

يؤذونهم، وتارة يسخرون منهم، وتارة يطردونهم، وتارة يقتلونهم: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. وكل نبي جاء بالدين .. وجاء بجهد الدين. فمن آمن به فاز وأفلح .. ومن خالفه واستغنى بملكه أو ماله أو جاهه أو تجارته أو زراعته أو صناعته أهلكه الله كما فعل الله بقوم نوح وعاد وثمود، وكما فعل بقوم لوط، وكما فعل بفرعون وقومه. فإن قام مخالف واحد أهلكه الله كقارون. وإن قامت عائلة أهلك الله العائلة .. وإن قام جماعة أهلك الله الجماعة .. وإن قام قوم أهلك الله القوم .. وإن قامت دولة أهلك الله الدولة .. وهكذا. فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمة بالإسلام قال لهم: انظروا للأنبياء السابقين كيف كانت عاقبة مخالفيهم؟. كما قال سبحانه: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. فكل من قام مخلصاً بالدين وجهد الدين أيده الله بنصره وحفظه، فإن خالفه وآذاه واحد أهلكه الله، وإن خالفه جماعة، أو عائلة، أو قوم، أو قرية، أو دولة أهلكهم الله وتولى تدميرهم، وأنجى أولياءه كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 44]. والله تبارك وتعالى ينصر المؤمنين من هذه الأمة كما نصر الأنبياء السابقين الذين يقدمون الشكوى إلى رب العالمين، ويتوجهون إلى ربهم ليكشف ما بهم من ضر، وينجيهم من أعدائهم، فاستجاب لهم وأنجاهم، ونصرهم وخذل أعداءهم، وهذه سنة جارية في نصر أوليائه وخذلان أعدائه كما قال سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 7 - 9].

وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله يقوم على الدعوة إلى الإيمان بالله أولاً، ثم الدعوة إلى القيام بالأعمال ثانياً. وكان جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحياة المكية لإدخال الإيمان في القلوب لتستعد لقبول الأعمال، وذلك بتعريف الناس بربهم، وذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، وجلاله وجماله، وعظمته وكبريائه، ليعرفوه ويعظموه ويكبروه، فإذا عرفوه توجهوا إليه وحده دون سواه، وذكر آلائه ونعمه وفضله وإحسانه إلى الخلق ليشكروه ويحمدوه ويتوجهون إليه في قضاء حوائجهم. وذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وكيف نصر الله رسله وأولياءه، وخذل أعداءه وأهلكهم. وفي الحياة المدنية كان حفظ الإيمان وزيادته بسبب قوة الأعمال، وقوة الجهد على النفس وعلى الغير، ففي مكة كانت قوة الاستعداد لفعل الأوامر، وفي المدينة كان تنفيذ الأوامر بالرغبة والمحبة والشوق كالعبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحو ذلك، وكذلك الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق والآداب. فنزلت الأحكام في المدينة كالمطر، شاملة لكل أحوال الإنسان، واستقبلها الصحابة بإيمان تام، ويقين راسخ، وفرحوا بها، وتلذذوا بأدائها، وتنافسوا في المسارعة إليها، والإكثار منها، وسلموا أنفسهم لله بالإيمان والطاعة، ولرسوله بكمال الانقياد والامتثال فكانوا حقاً أعظم وأفضل نواة لخير أمة أخرجت للناس في كل شيء: في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. وبهذا رضي الله عنهم كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وأهم أعمال الأنبياء والرسل العبادة والدعوة، والجولة على الناس لدعوتهم

إلى الله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجول على الناس ويزورهم ويدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم القرآن، ويعلمهم السنن والأحكام، ويطعم جائعهم، ويعود مريضهم، ويكرم ضيفهم، ويجيب سائلهم، ويكسو عاريهم، ويقبل هديتهم ويثيب عليها، ويشكر لمحسنهم، ويعفو عن مسيئهم، فصلوات الله وسلامه عليه عدد نجوم السماء وذرات الأرض، والحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه على ما من به علينا من بعثة هذا الرسول الرحيم بهذا الدين العظيم. فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ولا تصلح أحوال البلاد والعباد إلا بالدين الذي أنزله الله شريعة للعباد، ولما بعث الله يوسف - صلى الله عليه وسلم - إلى بني إسرائيل في مصر أعطاه الله الملك، وصلحت أحوال بني إسرائيل. ولما أعرضوا عن الدين ضعف إيمانهم وقلت أعمالهم، وفسدت معاشراتهم، وساءت أخلاقهم، فاستجلبوا بذلك غضب الله، فسلط عليهم فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وهو أذل الناس. ولما اشتد أذاه وزاد طغيانه أرسل الله الداعي إلى الله نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الله، ويدعو بني إسرائيل، فدعاهم إلى الله فآمن بنو إسرائيل، وكفر فرعون وجنوده، فأغرق الله فرعون وجنوده، وأنجى الله موسى ومن آمن معه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. والله حكيم عليم جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده في بيان الدين، وما أحل

لهم، وما حرم عليهم. وجعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في إبلاغ العلم والهدى، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغوا ذلك إلى من بعدهم، فالعلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم وبلغوه إلى من بعدهم، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. والعالم الرباني: هو الذي يعمل بعلمه ويخشى الله ويتقيه، ويعلم الناس أمور دينهم كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وأمراض القلوب أشد وأخطر من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم الإلهي؛ ولهذا اصطفى الله الأنبياء والرسل، ورباهم وأرسلهم إلى الأمم بالهدى والعلم الإلهي الذي به صلاح العالم. وكثير من الأفراد والشعوب والأمم يستغنون عن الأطباء، وأما العلماء بالله وأمره وشرعه فهم حياة الوجود وروحه، ولا يستغنى عنهم طرفة عين. وحاجة القلب إلى العلم والإيمان أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والتنفس والعلم للقلب، كالماء للسمك إذا فقده مات، ولهذا سماه الله شفاءً كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وتزكية النفوس بالإيمان والهدى أصعب من علاج الأبدان وأشد، ولا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريق الأنبياء والرسل. فتزكية النفوس البشرية مسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم

إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليماً، وبياناً وإرشاداً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وقد شرع الله سبحانه التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة كالحج، وقيام الليل، وبعد صلاة الفريضة، وبعد كمال الوضوء ونحو ذلك؛ لأن العبد لا بدَّ له من الغفلة، والنسيان والتقصير. ولما كان إبلاغ الدين والجهاد في سبيله من أعظم وظائف الرسل، وقد قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأداها كما أمره ربه، شرع له الاستغفار عقيبها بعد أداء ما أمر به فقال له ربه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. فأمره سبحانه أن يسبح بحمد ربه الذي خلقه وهداه واجتباه، وأعانه ووفقه حتى تمكن من أداء ما أمر به، وأن يستغفر ربه من كل ذنب ليلقى ربه طاهراً مطهراً من كل ذنب، فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه. وقد بعث الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، ليس بمسلط عليهم ولا قهار لهم، ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام أو يكرههم عليه، وإنما أمره ربه الذي أرسله أن يذكِّر بكلامه من يخاف وعيده، فهو الذي ينتفع بالتذكير، وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير كما قال سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45]. وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن العزة والغلبة والنصر والتمكين لرسله وأوليائه بالحجة والقهر. فمن أمر منهم بالحرب نصره على عدوه، ومن لم يؤمر بالحرب أهلك الله عدوه كما أهلك قوم نوح بالماء، وقوم عاد بالريح، وقوم ثمود بالصيحة: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21].

والله تبارك وتعالى له الخلق كله، وله الأمر كله، وكل شيء وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدى، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفرج في وقته الذي يليق به. وجميع أقدار الرب تعالى على عباده واقعة في أليق الأوقات بها فـ: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. وقالت الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]. ومن رحمة الله العزيز الرحيم بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وكلما ضل الناس أو انصرفوا عن عبادة الله إلى غيره بعث نبياً يردهم إلى ربهم وخالقهم. فبعث الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما كان الناس إلى بعثته. وبعث سبحانه هوداً - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما كان الناس إلى بعثته. وبعث صالحاً - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما كان الناس إلى بعثته. وبعث سبحانه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما كان الناس إلى بعثته. وبعث موسى - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وبعث عيسى - صلى الله عليه وسلم - كذلك. وبعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله. فهدى به من الضلالة، ودل الأمة على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وكانت بعثته أعظم نعمة امتن الله بها على أهل الأرض قاطبة. والله سبحانه خلق كل شيء، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال. فهدى الحيوان إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره .. وهدى الجماد المسخر لما خلق له، فله هداية تليق به، ولكل نوع من الجماد والنبات والحيوان هداية تليق به.

فسبحان {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر، وأول وهلة، وأحسن طريق وأخصرها. فإن من لم يهمل هذه الحيوانات والمخلوقات، ولم يتركها سدىً، ولم يتركها معطلة، بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، مهملاً ومعطلاً وسدىً، لا يهديه إلى أقصى كمالاته، وأفضل غاياته، بل يتركه معطلاً لا يأمره ولا ينهاه، ولا يثيبه ولا يعاقبه، هذا من أكبر المحال؟. إن هذا لا يليق بجلال الله وحكمته، ويتعالى الله عنه، وقد نزه الله نفسه عن هذا الحسبان فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115، 116]. فمن لم يهمل أمر كل دابة في الأرض .. وأمر كل طائر في الجو .. وأمر كل حيوان يسبح في البحر .. بل جعلها أمماً وهداها إلى غاياتها ومصالحها .. كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم وما يسعدكم في الدنيا والآخرة؟. بل رحمكم فبعث إليكم رسله .. وأنزل عليكم كتبه .. لتحصل لكم الهداية .. وتتم عليكم النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} [المائدة: 3]. والله عزَّ وجلَّ كما يحمي أنبياءه ورسله ويصونهم ويحفظهم، ويتولاهم وينصرهم، كذلك يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، وسخريتهم بهم، كما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تارة ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كذاب، وآذوه وسبوه، وشتموه وسخروا منه، وكادوه وحاربوه وكذبوه. وضربوا له أمثالاً، وهو أبعد خلق الله منها، وقد برأه الله منها، وقد علم كل عاقل

أنها كذب وافتراء وبهتان: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 38 - 43]. وفي هذا الابتلاء بأذى الكفار للأنبياء والرسل ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم، ويجعل العاقبة لرسله وأتباعهم، وليحصل لهم كمال اليقين على قدرة ربهم ونصره لرسله وأوليائه إذا فعلوا ما أمرهم الله به: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110]. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريعة كاملة لعموم البشرية إلى يوم القيامة. ولرسالته - صلى الله عليه وسلم - عمومان: الأول: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم فلا يخرج أحد من الناس بعد بعثته عن عموم رسالته البتة. الثاني: عموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -. فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه. فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين الكامل، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء

إلا وقد ذكر للأمة منه علماً، بل علمهم أحكام كل شيء، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، وشريعته كاملة، ما طرق العالم شريعة أكمل منها في بيان كل شيء. فيجب على كل إنسان الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم. فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة، فكذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به. ومن ظن أن شريعته ناقصة تحتاج إلى من يكملها فهو كمن ظن أن الناس بحاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، فقد جاء - صلى الله عليه وسلم - بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة لأحد سواه. ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل الله بعده رسولاً؛ لاستغناء الأمة به عمن سواه، فصلوات الله وسلامه عليه. ومن فضل الله ورحمته وإحسانه إلى هذه الأمة أن جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعل الرسالة فيهم، واختار أفضل الرسل منهم كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. فالذي يتلوه عليهم هو الحق، وما أعظم فضل الله حين يخاطب الله العبيد بكلامه، يتلوه عليهم رسوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. ولولا فضل الله ورحمته ما زكى من الخلق أحد، ولا تطهر ولا ارتفع، ولكن العزيز الكريم أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - يطهر أرواح الناس من لوثة الشرك، ودنس الجاهلية، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات، فلا ترتكس أرواحهم في حمأة الرذيلة، ويطهر حياتهم بما جاء به من الدين من الظلم والبغي، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب، وينشر فيهم العدل والإحسان. ويعلمهم الكتاب والحكمة الذي به قوام حياتهم وعزتهم، وهو مادة التوجيه

والإعلام والإرشاد. والاستقامة على الحق والتواصي به أمر عظيم يتطلب الصبر، ويجعل الإنسان مشدود الأعصاب، مضطرب الفؤاد؛ لما يراه من كثرة الأعداء وقلة الناصر، وقلة ذات اليد. فلا بدَّ من الصبر على الطاعات .. والصبر عن المعاصي .. والصبر على البلاء .. والصبر على جهاد الأعداء .. والصبر على بطء النصر .. والصبر على انتفاش الباطل .. والصبر على قلة الناصر .. والصبر على ثقلة العناد .. والصبر على السب والشتم والضرب والقتل. وقد أمر الله رسوله بالصبر على كل ذلك كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وأمر أمته كذلك بالصبر والمصابرة ليحصل لهم الفوز والفلاح كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. وحين يطول الأمد قد يضعف الصبر أو ينفذ إذا لم يكن هناك زاد، ومن ثم أمرنا الله بالصلاة التي بها تتجدد الطاقة ويزيد الإيمان، فيمتد حب الصبر ولا ينقطع. فلا بدَّ للإنسان الفاني الضعيف أن يتصل بربه الكبير، ويستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الظاهرة والباطنة، وحينما يثقل عليه جهد الاستقامة بين دفع الشهوات، وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة مرة، وحينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة. هنا لا بدَّ له من الاتصال بربه، فيتوجه القلب المتعب المكدود إلى خالقه، وهنا يستجيب الله لمن دعاه، ويؤيده ويثبته ويؤنسه، ولا يدعه يقطع الطريق وحده، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، بل يمدهم بما ينفعهم حين ينفذ زادهم، ويوجههم للحصول على ذلك إلى أمرين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. والدين الذي بعث الله به الأنبياء والرسل هو منهج الحياة الذي أراده الله للبشر، ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله. فكل دين جاء به الرسل يقوم على أربعة أصول: الأول: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والتوجه إليه، والاستعانة به في جميع الأحوال. الثاني: الشعائر التعبدية التي تربط المخلوق بخالقه كالصلاة ونحوها. الثالث: الشرائع والأحكام التي تنظم حياة الناس وفق أمر الله. الرابع: الأخلاق العالية التي تهذب النفوس، وتزكي القلوب. فالدين الحق الذي يريده الله وأرسل به رسله يقوم على هذه الأصول الأربعة جميعاً، فلا يمكن أن ينفك الإيمان عن الشعائر التعبدية، عن الشرائع والأحكام، عن القيم الأخلاقية، في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي. وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة، ويخالف مفهوم الدين الذي أراده الله عزَّ وجلَّ. فالدين تنظيم كامل وشامل لحياة الناس كلها، لا يقتصر على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا يقتصر على العبادات والشعائر وحدها، ولا يقتصر على الجانب التهذيبي للأخلاق وحده، ولا ينفصل فيها الجانب التشريعي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي. وبدون هذه الأمور مجتمعة لا يكون دين على الإطلاق كما قال سبحانه محذراً من فعل بعضها وترك الآخر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. فتوحيد الرب وعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والتخلق بأخلاقه، واتباع الشرائع

والسنن التي جاء بها، والدعوة إلى ذلك، والصبر عليه، هذا هو الصراط المستقيم، وما عداه عوج وضلال وانحراف كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. وهذا الدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستطيع أن يلتقط الفرد الإنساني، بل المجموعة الإنسانية، من أي مستوى؟ ومن أي درجة؟ ومن أي جنس؟. ويرفعها لتدرج في مدارج العز والعلا، والأمن والطمأنينة، والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل لهداية البشرية إلى الحق، ولتطاع بإذن الله، لا لمجرد الإبلاغ والإقناع كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]. فإذا آمن الناس بالله فلا بدَّ أن يعملوا بدينه، ويتحاكموا إلى شرع الله ممثلاً في القرآن والسنة، ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ليحسبوا مؤمنين، بل لا بدَّ أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ولا بدَّ للمؤمنين أن يطيعوا الله، ويطيعوا الرسول، وأولي الأمر منهم، وترد المسائل التي تشكل إلى الله ورسوله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. وكل نبي أرسله الله إلى قومه بسلطان مبين، فشريعة الله سلطان من الله، وكل

شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان، وما جعل فيها من سطوة على القلوب، بل كلها عذاب وشقاء وإن لوحت بما تحبه النفوس، لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب، وسيطرة الجلاد القاسي، فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها، ولها في النفوس مهابة وخشية، وقد أرسل الله الأنبياء والرسل إلى أممهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويبشرونهم بما أعد الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم ما أعده الله للكافرين والعصاة من جحيم وغضب: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]. وكل الأنبياء تلقوا الوحي من الله، وكلهم جاءوا بوحي واحد لهدف واحد: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163]. فهو موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بني البشر، موكب من الأنبياء والرسل من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين، في شتى الأوقات والأزمان. لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن، ولا لغة ولا لون، ولا وقت ولا زمن. كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم أرسله الله رحمة بالعباد، ليأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور. سواء منهم من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين وهو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)} [الحديد: 9].

ولله الحجة البالغة الظاهرة البينة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقول ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، وكان ذلك كافياً ليؤمنوا بالله سبحانه، ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها الله لهم وهي العقل، اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يذكرونهم ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم، وتحرير عقولهم من غلبة الهوى، وركام الشهوات التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق كما قال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2]. فالله رؤوف بالعباد، اقتضت رحمته بالناس أن لا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها، فقد تضل هذه الفطر بسبب البيئة. وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك، فالعقل قد يضل وينهزم تحت ضغط الشهوات. وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات بينات، فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها أو بعضها في كيان الإنسان. لقد ناط الله تبارك وتعالى بالرسل والأنبياء مهمة استنقاذ الفطر مما ران عليها من ركام الشهوات، واستنقاذ العقول من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس. وجعل سبحانه العذاب مرهوناً بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله عليه، كذلك هي

تدل على أن الفطرة والعقل والحواس والبصائر لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات ما لم تساندها العقيدة، وما لم يضبطها الدين. فالله جل جلاله إنما يرسل رسله رحمة بعباده، فهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، فهو غني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا آمنوا وأحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. كذلك تتجلى رحمته سبحانه في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلاً آخر يستخلفه كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133]. فلا ينسى الناس كلهم أنهم موجودون بأمر الله، وأنهم باقون برحمة الله، وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله، وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه. فما لأحد في نشأته ووجوده من يد، وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة، وأنتم أيها الكفار لستم بمعجزين، إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره، فلستم بمفلتين أو مستعصين، ويوم الحشر ينتظركم، وإنه لآت لا ريب فيه، ويوم ذاك لن تعجزوا القوي المتين: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: 134]. وسنة الله عزَّ وجلَّ مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون أن يأخذهم أولاً بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب، ولعل المصيبة إذا أصابتهم أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله، واستكانوا للحق فإذا لم تهزهم يد البأساء، وكلهم الله إلى الرخاء وهو أشد فتنة من البأساء، حتى تلتبس عليهم سنة الله ولا ينتبهوا لها، ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 94، 95]. وكل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي أوجبه الله على نفسه، بأن لا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالبيان، وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول كما قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} [يونس: 47]. والأمر كله لله، وليس لأحد من الأمر شيء، وعلى الرسل والأنبياء والدعاة إبلاغ دين الله، والهداية بيد الله وحده، يسوقها لمن يستحقها ويطلبها، ويمنعها من لا يستحقها ولا يطلبها: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8]. وجميع الأنبياء والرسل دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فمنهم من آمن، ومنهم من كذب. وهؤلاء المكذبون لا يسكتون عن الحق وأهله، فيؤذون الرسل وأتباعهم، ويسبونهم ويسخرون منهم. وبعد الإنذار الطويل، والتذكير الطويل، والتكذيب الطويل، لا بدَّ أن ينتصر الله لأوليائه من أعدائه. فيتوجه النبي إلى قومه متحدياً لهم، متوكلاً على ربه، مستعيناً به وليس معه إلا الإيمان بربه، القوة التي تصغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير. إنه الإيمان بالله العزيز الجبار، الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المهيمنة على هذا الكون بما فيه. وليس هذا التحدي غروراً ولا تهوراً ولا افتخاراً، إنه تحدي القوة الحقيقية

الكبرى للقوة الهزيلة الفانية التي تتضاءل مهما كانت أمام أصحاب الإيمان كما قال الله لرسوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)} [يونس: 71]. قال نوح - صلى الله عليه وسلم - لقومه: إن كان الأمر بلغ منكم مبلغ الضيق، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم، وتذكيري لكم بآيات الله، فأنتم وما تريدون، وأنا ماض في طريقي، لا أعتمد إلا على الله وحده فهو حسبي. أما أنتم فأجمعوا أمركم، وخذوا أهبتكم متضامنين غير مترددين، ثم اقضوا إلي، ونفذوا ما عزمتم عليه بشأني، ولا تنظروني ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد. فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه، فهو مولاي وناصري ممن بغى علي وآذاني، ولو كانوا جميع أهل الأرض فربي لهم بالمرصاد. أرأيت قوة اليقين في قلوب الأنبياء؟. إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله قائل إلا وهو مطمئن إلى ربه، مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويثيرهم بمثيرات القول على أن يهاجموه. فماذا كان مع نوح - صلى الله عليه وسلم - من القوة والعدد والعساكر؟. إنه الإيمان الذي يصله بربه، الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة برسل الله، وأنه ينبغي أن تمتلئ قلوبهم بالثقة بالله حتى تفيض، وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده، ويقفوا في وجه الطاغوت أياً كان. ولن يضرهم الطاغوت إلا أذىً يسيراً ابتلاء من الله، لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه، ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف، ثم تعود الكرة للمؤمنين، ويحق وعد الله لهم بالتمكين كما قال سبحانه: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا

يُنْصَرُونَ (111)} [آل عمران: 111]. والله سبحانه يقص قصة نوح وهو يتحدى قوة الطاغوت في زمانه، هذا التحدي الواضح الصريح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 72]. إنه لا ينقص أجري بتوليكم وإعراضكم، فإن أجري على الله، ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها لله. فماذا كان من أمر الله؟، وماذا حصل لنوح ومن آمن به؟، وماذا حصل لمن كفر به؟. {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} [يونس: 73]. وعجل الله سبحانه إعلان نجاة نوح والمؤمنين معه؛ لأن نوحاً والمؤمنين معه كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة، فلم تكن النصرة مجرد إهلاك هذه الكثرة، بل كان قبلها نجاة القلة المؤمنة من جميع الأخطار، واستخلافها في الأرض تعيد تعميرها، وتجديد الحياة فيها على منهج الله فترة من الزمان. هذه سنة الله في الأرض، وهذا وعده لأوليائه، ووعد الله آت لا محالة بنصر أوليائه وخذلان أعدائه. وقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين، حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين، إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم؛ لأن فساد الحياة بالكفر والمنكرات والفواحش يقضي عليها بعد حين حتماً، فإذا تميزت الأمة المسلمة بدينها عن الأمة الكافرة، وتمايز الفريقان ووقف جند الرحمن أمام جند الشيطان، كانت قوة الله مع المؤمنين، والقوة الهزيلة مع المخلوقين.

فيحق وعد الله بنصر رسله وأوليائه مع أعدائه مع قلتهم وقلة عددهم، وكثرة عدوهم وكثرة أسلحتهم فـ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]. وهود - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله إلى قومه عاد، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} [هود: 50]. فأبوا وأصروا على كفرهم، واغتروا بما هم عليه من النعيم، وما وهبهم الله من القوة والبطش والغلظة: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)} [هود: 53]. وبعد هذا لم يبق لهود إلا التحدي وإلا التوجه إلى الله وحده، والاعتماد عليه وحده، وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين الظالمين، فماذا قال لهم؟ وبأي شيء واجه قوتهم؟. {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} [هود: 54، 55]. وإن الإنسان ليدهش حقاً لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى، فيسفه أحلامهم وعقيدتهم، ويقرعهم ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، ولا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفتأ غضبهم. إنه لأمر عجيب أن يقتحم هذا الاقتحام رجل فرد على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يعلم الإنسان أنه رسول الله، والله معه، والإيمان يملأ قلبه، وإذا كان الله معه فلماذا يخاف البشر؟. إنه يقول بإيمان الواثق من ربه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} [هود: 54، 55]. ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء، ثم كيدوني بلا تريث ولا تمهل، فما أبالي بكم جميعاً: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ

دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. إن ربي ورب الخلائق قوي قاهر، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها، ويقهرها بقوته قهراً. فما خوفه من هذه الدواب؟، وما احتفاله بها؟ وإن توليتم فقد أديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه، ويستخلف ربي قوماً غيركم، يليقون بتلقي دعوته، ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم، ولا تضرونه شيئاً فما لكم به من قوة. والله حافظ دينه وسننه ورسله وأولياءه من الأذى والضياع: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} [هود: 57]. فلما أصروا على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم لرسولهم أنزل الله بهم عقوبته، فأرسل عليهم الريح العقيم التي ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 6 - 8]. وحقت عليهم لعنة الله بسبب كفرهم واستكبارهم كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 59، 60]. وقد بعث الله الأنبياء والرسل إلى أقوامهم وأممهم، فبلغوا ما أمرهم الله به، ثم توفاهم الله، وسوف يجمع الله يوم القيامة بين الرسل ومن أرسلوا إليهم، وسيسألهم جميعاً كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7]. وسوف يجمع الله الرسل يوم القيامة ويسألهم ماذا أجبتم كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}

[المائدة: 109]. سوف يجمع الله هؤلاء الرسل الذين فرقهم في الزمان فيتتابعوا على مداره، وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته، وفرقهم في الأجناس فذهب كل إلى قومه، وكلهم يدعون إلى الله بإذنه. سيجمعهم الله على مشهد من الملأ الأعلى .. وعلى مشهد من الناس أجمعين .. إنه الاستجواب الذي يراد به المواجهة .. مواجهة البشرية برسلها .. ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم ليعلن في موقف الإعلان أن هؤلاء الرسل إنما جاءوا من عند الله بدين الله. فيعلنون أمام ربهم الذي أرسلهم أنه أعلم بهم وبأممهم، وأعلم بمن أجابهم، وأعلم بمن عصاهم؟. وسوف يسأل الناس كلهم يوم القيامة عن أمرين: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65]. {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)} [الشعراء: 92]. وفي ختام الاستجواب كلمة الفصل من رب العالمين: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119]. واختيار الرسل للرسالة موكول إلى علم الله المحيط بمن يليق بهذا الأمر، فالرسالة أمر هائل خطير، أمر كوني من الرب لعبد من عباده، يتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي في قلب بشر، وفي واقع الناس. ويتجرد فيه الإنسان من حظ ذاته ليخلص لتحقيق مراد ربه، ويصبح موصولاً بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة. ولا تتم هذه الصلة إلا إذا كان الإنسان صالحاً للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا موانع، فليس أي أحد يصلح للرسالة والنبوة.

والله وحده هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تصلح أن ترسل من بين كافة البشر: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124]. والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة هم أولاً لا يصلحون لهذا الأمر، وهم جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح. وقد جعلها الله سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم من لدن نوح حتى انتهت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - خير خلق الله، وخاتم النبيين: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} [الحج: 75، 76]. وحياة الرسل والأنبياء وأتباعهم مملوءة بالابتلاء، وذلك لتربية قلوبهم على اليقين والصبر، لتتوجه إلى الله في جميع الأحوال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل من أشد الناس بلاء؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وكم تبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل وهم يواجهون الكفار والمشركين، وأهل الإصرار والجحود، والعمى وأهل العناد. وتمر عليهم الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم أحد إلا القليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة. ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).

إنها ساعات حرجة في حياة الرسل والباطل ينتفش ويطغى، ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد، فلا يتحقق لهم في هذه الأرض، فتهجس في خواطرهم الهواجس. وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه البشر في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110]. تلك سنة الله في الدعوات، لا بدَّ من الشدائد، ولا بدَّ من الكرب، حتى لا تبقى بقية من جهد، ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من باب واحد من عند الله العزيز الحكيم، فينجو الذين يستحقون النجاة .. وينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين .. وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون .. ويحل بأس الله ونقمته بالمجرمين، فلا يحسبن أحد أن شأن الدعوة هين، وشأن الإيمان سهل، بل لا بدَّ من الابتلاء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. وذلك كي لا يكون النصر رخيصاً، فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً، والأدعياء لا يتحملون تكاليف الدعوة، فلا بدَّ من الابتلاء والصبر في محل الشدائد التي لا يصمد لها إلا الصادقون، الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة. إن الدعوة التي كلف الله وشرف بها الأنبياء وأتباعهم ليست تجارة قصيرة الأجل، قد تخسر فيتركها إلى أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة.

إن الذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم برحلة مادية قريبة الأجل. إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف العامة، ويملكون تأليب الأمة على الدعاة إلى الله باستثارة شهواتها، وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأنه لن ينضم إليها في أول الأمر الأقوام المستضعفة المستخفة الطائشة، إنما ينضم إليها الصفوة المختارة التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة. وهم وإن كانوا قلة فإن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق بعد جهاد يطول أو يقصر، وعندئذ فقط يدخل الناس في دين الله أفواجاً كما حصل ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر الله عنه بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. وقد أرسل الله كل رسول بلسان قومه، ليتمكن من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وليبين لهم، وليفهموا عنه، فتتم الغاية من الرسالة. وعلى الرسول البيان والبلاغ، أما ما يترتب على ذلك من هدى أو ضلال فلا قدرة له عليه، وليس خاضعاً لرغبته، إنما هو من شأن الله الذي وضع الله له سنة {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. فمن سار على درب الضلال ضل، ومن سار على درب الهدى وصل، وهذا وذاك يتبع مشيئة الله التي شرعت سنته في الحياة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} [إبراهيم: 4]. والرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى الإسلام حتى عم الإسلام الجزيرة العربية، ومن ثم

تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض في كل زمان. والحقيقة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث برسائله إلى خارج الجزيرة العربية يدعو إلى الإسلام تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة، ولكن الذي قدره الله له حسب عمره البشري المحدود أن يبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته إلى البشرية كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى أصقاع الأرض وقد كان. فلا تعارض بين رسالته للناس كافة، ورسالته بلسان قومه في تقدير الله وفي واقع الحياة. ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل قوم هاد منهم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. ألا ما أعجب البشر، بدل أن يعتزوا باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته إليهم، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء: 94]. وما المانع أن يختار الله بشراً رسولاً، ويمن عليه ببعثته إلى الناس؟. والرسل لا ينكرون بشريتهم، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منَّة الله عليهم في منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} [إبراهيم: 11]. وهي منَّة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم، ولكن كذلك على البشرية التي تتشرف باختيار أفراد منها لهذه المهمة العظمى، مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى، وهي منَّة كبرى على البشرية جمعاء. إن الله تبارك وتعالى ربى الأنبياء على الإيمان والتقوى، فواجهوا الطغيان بالإيمان، وواجهوا الأذى بالصبر والثبات؛ لأنهم مطمئنون إلى ربهم متوكلون

عليه، فما لهم بغيره من حاجة كما قال الرسل لأممهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم: 12]. إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه، المالئ يديه من وليه وناصره، المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بدَّ أن ينصر ويعين. والقلب الذي يحس أن يد الله سبحانه تقود خطاه، وتهديه السبيل، هو قلب موصول بالله القوي العزيز، فلا يتردد في المضي في الطريق مهما كانت العقبات. وماذا يهم المسلم حتى ولو لم يتم النصر في الدنيا، إذا كان هو قد ضمن هداية السبيل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وماذا يخاف القلب الموصول بالله؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد لربه؟. وقد حاول المشركون في مكة فتنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أوحى الله إليه، ليفتري على ربه غيره وهو الصادق الأمين، ولكن الله عصم رسوله من الفتنة وثبته على الحق، ولو تخلى عنه سبحانه لركن إليهم فاتخذوه خليلاً كما قال سبحانه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 73 - 75]. هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة يأخذونها. ومن حملة الدعوة من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً، فأصحاب

السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما يطلبون تعديلات وتنازلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، ولا ريب أن الانحراف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. والذي يقبل التسليم أول مرة لا يمكن أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد. إن كل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 43، 44]. وأصحاب السلطان يستدرجون الدعاة، فإذا سلموا في جزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، ورفع السعر، ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها. والتسليم في جانب ولو يسير من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها إنما هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الحق والدعوة، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فالله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، وفي جميع أمورهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، فما حاجتنا إلى غيره؟. ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً، لذلك امتن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن ثبته على ما أوحي إليه، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير. وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة، ولو أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنوة

وقسراً لحل بهم الهلاك كما قال سبحانه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 76، 77]. وقد جعل الله عزَّ وجلَّ هذه سنة جارية لا تتحول؛ لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم الفوري. وهذا الكون تصرفه بأمر الله سنن مطردة لا تتحول أمام اعتبار فردي، فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشاً بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل لحكمة يعلمها لم يرسل الرسول بالخوارق، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى الله إليه بالهجرة، ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول. وصاحب الدعوة غني بربه، يعلم أن مولاه ناصره ولا بدّ، ولا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه لينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله. والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه إلا أن يكون السلطان وخدمه من جندها، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} [الإسراء: 80]. والله تبارك وتعالى يربي أنبياءه ورسله ويبتليهم؛ لتزكو قلوبهم، ويستعدوا لأعباء الرسالة، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم كما في قصة نوح وهود، وصالح وشعيب، وإبراهيم ولوط صلوات الله وسلامه عليهم. أو كان الابتلاء بالنعمة كما في قصة داود وسليمان، أو كان الابتلاء بالضر كما في قصة أيوب، فلا بدَّ من الصبر على تكاليف الرسالة وأعباء الدعوة وانتظار نصر الله لأوليائه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 34].

وقد أرسل الله يونس - صلى الله عليه وسلم - إلى قرية نينوى فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وغادرهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض فهي فسيحة، والأقوام متعددون، والقرى كثيرة. وقاده غضبه إلى شاطئ البحر فوجد سفينة مشحونة فركب فيها مع الركاب، حتى إذا كانت في لجة البحر ثقلت، فقال ربانها إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق، فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه فالتقمه الحوت مباشرة بأمر الله واستلمه وضيق عليه أشد الضيق. فلما كان يونس في الظلمات، ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، نادى ربه كما قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. إن الدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وأجورها أعظم الأجور، فلا بدَّ لأصحابها أن يتحملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً ولكنه بعض تكاليف الرسالة، فلا بدَّ من الصبر والتأني والرفق والحلم مهما واجه الداعية من الإنكار والتكذيب والعتو والجحود: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. ولا بدَّ من استحياء القلوب بكل وسيلة، ولا بدَّ من محاولة العثور على العصب الموصل، ولمسة واحدة قد تحول الإنسان تحويلاً تاماً من الشر إلى الخير، ومن الظلام إلى النور: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17]. إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب؛ لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس، إنه عمل مريح قد يهدأ به الغضب، وتهدأ الأعصاب،

ولكن أين هي الدعوة؟. وما الذي عاد إليها من هجران المكذبين المعارضين؟. إن الداعية أداة في يد الله، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله، والهدى هدى الله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام: 35، 36]. وقد أعطى الله عزَّ وجلَّ كل نبي قوتين: قوة الدعوة .. وقوة الدعاء. وبحسب قوة الدعاء والاستجابة والاستقامة تكون سرعة إجابة الدعاء كما قال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90]. فهم كانوا يسارعون في الخيرات فسارع الله في استجابة الدعاء الصادر منهم، وهم يدعون ربهم رغبة في رضوانه، ورهبة من غضبه، وقلوبهم وثيقة الصلة بالله، وهم خاشعون لا متكبرون ولا متجبرون. بهذه الصفات وبهذا اليقين وبهذا العمل استحق زكريا وزوجه أن ينعم عليهما بالابن الصالح يحيى، فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه. وأحب شيء إلى الأنبياء والرسل أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدرك الناس ما جاءوا به من عند الله فيتبعوه، وأن يؤمنوا بربهم ويعبدوه. ولكن العقبات في طريق الدعوة كثيرة، والرسل بشر أجلهم محدود، وهم يحسون هذا ويعلمونه، فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6].

والله عزَّ وجلَّ يريد أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الشرعية، ثم من شاء أن يؤمن، ومن شاء فليكفر، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة على أصول الدعوة كفيلة أن تثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم في نهاية المطاف. ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات فرصة للكيد للدعوة، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس. ولكن الله سبحانه يحول دون كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هناك شبهة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [الحج: 52]. وسنة الله جارية في إرسال الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له منذ عهد نوح - صلى الله عليه وسلم - إلى بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كل قرن يستوفي أجله ويمضي، وكلهم يكذبون، فتأخذهم سنة الله في الهلاك، ويصيرون عبرة لمن بعدهم: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 43، 44]. وجميع الأمم يشغلهم عما جاء به الرسول من الآيات البينات والدين القويم الاعتراض على بشرية الرسول، وعلى وضعه ومكانته بينهم كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} [المؤمنون: 45 - 48]. وكما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94، 95].

فاستهانوا بهما وكذبوهما لبشريتهما، فأما آيات الله التي معهما، وسلطانه الذي بأيديهما، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة، سببه انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكفار الكبراء المترفين وبين الوحي الإلهي الذي يصل الإنسان بخالقه الكريم. ومن رحمة الله بالبشرية أن أرسل إلى كل قوم رسولاً منهم، ولكن كفار مكة اعترضوا عليه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7، 8]. إنه يمشي في الأسواق ليكسب رزقه، فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير من غير كد ولا عمل، أو ألقى إليه كنز يغنيه عن السعي، أو تكون له جنة يأكل منها، هذا ما قالوه. والله سبحانه لم يرد للأنبياء أشياء تشغلهم عما أرسلهم الله به، فلم يرد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له كنز، ولا أن تكون له جنة؛ لأنه سبحانه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته. ينهض بتكاليف رسالته العظيمة الهائلة، ويسعى في الوقت ذاته في طلب رزقه كما يسعى رجل من أمته. وقد انهال المال بعد الهجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله عن إبلاغ رسالة ربه، فأنفقه في وجوه البر والخير، وكان فرحه بإنفاقه أعظم من فرح الآخذ له. وكان - صلى الله عليه وسلم - كالريح المرسلة في جوده، وكان أجود ما يكون في رمضان، وذلك ليستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ

فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ». متفق عليه (¬1). والله قادر أن يجعل لرسوله الأموال والجنات والقصور والخزائن، ولكنه سبحانه شاء أن يجعل له خيراً من ذلك، وهو الاتصال بالله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومعطي كل شيء، والشعور برعايته وإحاطته، وتذوق حلاوة ذلك الاتصال الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)} [الفرقان: 10، 11]. وفوق هذا فسنة الله في جميع الرسل أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، فهي سنة مقدرة مقصودة، لها غايتها المرسومة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. وأي غرابة في أكل الطعام والمشي في الأسواق فهذه سنة الله في جميع البشر، فلا يعترض على ذلك إلا جاهل لا يدرك حكمة الله في تدبير خلقه، فليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره، فالله ابتلى الرسل بأممهم، وابتلى الأمم بالرسل، وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الفقراء بالأغنياء؛ ليعلم سبحانه من يصبر على هذا الابتلاء، وينفذ أمر الله فيه. ولا بد للمسلم من الصبر، وبث الشكوى إلى من بيده مقاليد الأمور، وقد واجه الأنبياء والرسل من أذى البشر ما لا يطيقه إلا من ثبته الله وأعانه، من الكفر والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والضرب والأذى، والتحقير والتنفير، والصد والإعراض. وقد حكى الله عن رسوله شكواه لقومه أنهم هجروا كتاب ربهم: {وَقَالَ الرَّسُولُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6) واللفظ له، ومسلم برقم (2308).

يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: 30]. لقد هجروا القرآن الكريم، الذي أنزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه منهج حياتهم. وتلك سنة الله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي جاءهم به، ويصدون عن سبيل الله، ولكن الله يهدي رسله وأتباعهم إلى طريق النصر على أعدائهم كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها، ويطبعها بطابع الجد والحزم. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعوات الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائغين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المخلصة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى. ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقاً ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، وتمزقت الأمة شيعاً وأحزاباً. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضياً، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً، فلا يكافح ويناضل إلا أصحاب دعوة الحق الجادون، الذين يؤثرون الدعوة والحق على كل شيء مهما كان.

فلا يثبت على الكفاح المرير والجهد المتواصل إلا أصلبهم عوداً، وأقواهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانة بما عند الناس، عندئذ تتميز دعوة الحق عن دعوة الباطل، وتمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، وأولئك هم الأمناء عليها. والذي يقع غالباً أن أكثر الناس يقف متفرجاً على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، فإذا ثبت أهل الحق ومضوا في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة: إنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم إلا أن وراءها ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن، وعندئذ يتقدمون ليروا ما هو العنصر الغالي الثمين الذي يجاهد هؤلاء من أجله، ويقدمون له حياتهم. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجاً في هذا الدين بعد طول التفرج على الصراع. فمن أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما أصابهم وهم ماضون في الطريق، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر، وإما الشهادة كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: 52]. إن بروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي، فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية: فساد في القلوب .. وفساد في الأخلاق .. وفساد في النظم .. وفساد في الحكم .. وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد العام الطام يكمن المجرمون المفسدون، الذين ينشؤون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. فأمر عادي أن يبرز المجرمون للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم، واستبقاءً

للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون. ولكن دعوة الحق تنتصر في النهاية؛ لأنها تسير وفق أمر الله، موافقة للفطرة: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. وهناك فئة من الناس يعاندون ويستهزؤون بالأنبياء والدعاة، والأنبياء لم يقصروا في الدعوة، ولم يقصروا في الحجة، إنما العلة فيهم أنفسهم، فهم يجعلون من هواهم إلهاً يعبدونه، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان. فهذا النوع من الناس غير قابل للهدى، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره، ولا أن يحفل بشأنه، وقد أشار الله إلى هؤلاء بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43]. ثم يخطو القرآن خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يعبدون هواهم، فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل، ثم يخطوة الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من درجة الأنعام إلى درك أسفل وأحط كما قال سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة على دين الله الثابت، المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. فهذا الدين هو العاصم من الأهواء والشهوات والشبهات، وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، وكلاهما من الله. والله الذي خلق القلب البشري، هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه، والفطرة ثابتة والدين ثابت، لا تبديل لخلق الله، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة

لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة، فطرة البشر وفطرة الوجود: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. وقد اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزاً عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت الغنائم، ومع هذا فقد كان يمضي الشهر والشهران وما يوقد في بيوته نار، مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله، رغبة الذي يملك ولكنه يقف ويستعلي ويختار. ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكلفاً من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته. فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته، ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفواً بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقاً، لا جرياً وراءها، ولا تشهياً لها، ولا انشغالاً بها، ولا انغماساً فيها. ولم يكلف أمته أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد استعلاءً على اللذائذ والمتاع. ولكن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن نساءً من البشر، لهن مشاعر البشر، وعلى فضلهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله والمؤمنين راجعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر النفقة، فلم يستقبلها بالرضا والترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضا، إذ كانت نفسه ترغب أن تعيش فيما اختاره لها، متجردة من الانشغال بذلك الأمر. وأن تظل حياته وحياة من يلوذ به على ذلك الأفق السامي، بالتحرر من هواتف شهوات هذه الأرض الرخيصة، وأن تظل القيم الإسلامية العالية ممثلة ومترجمة في بيت النبوة، الذي سيبقى منارة للإسلام والمسلمين حتى يرث الله

الأرض ومن عليها. فنزلت آية التخيير لنسائه، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28، 29]. فاختارت نساؤه الله ورسوله والدار الآخرة اختياراً مطلقاً، ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء. ولمكانة أمهات المؤمنين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن أزواجه، ومحل القدوة لنساء العالمين، ولهن حقوق وعليهن واجبات؛ تبعاً للمكان الذي هن فيه، يناسب مقامهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب: 30]. فالعذاب يضاعف للمقارفة ضعفين، كما أن الأجر يضاعف على الطاعة والقنوت ضعفين كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 31]. وهن لسن كأحد من النساء، عليهن واجبات في معاملة الناس، وفي عبادة الله، وفي بيوتهن، وأمهات المؤمنين أطهر نساء على وجه الأرض، ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل والتوجيهات. فللمؤمنات مكانة عالية بين نساء العالمين، فعليهن أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا

خَبِيرًا (34)} [الأحزاب: 32 - 34]. فهذه حال سيد المرسلين، وهذه أوامر نسائه، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه نساء المؤمنين بين نساء العالمين إلى يوم القيامة. إن النبوة والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية وفق أمر الله، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهاج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به وهم بشر، فلا بدَّ أن يكون رسولهم من البشر؛ ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يتبعوه. ومن ثم كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - معروضة لأنظار أمته، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحياة بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون: حياته الشخصية .. وحياته المنزلية .. وحياته الأسرية .. وعباداته ومعاملاته .. ومعاشراته وأخلاقه .. وجهاده وغزواته .. وأحواله في سفره وإقامته .. وصحته ومرضه .. وسننه في حال الأكل والشرب .. والنوم واليقظة .. واللباس والركوب .. والسلم والحرب .. والغنى والفقر .. وهكذا .. حتى خطرات قلبه سجلها القرآن لتطلع على كل ذلك الأجيال، وتقتدي بها، وتسير على هديها إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وقد أرسل الله الرسل مبشرين من أطاع الله بالجنة، ومنذرين من عصى بالنار، فيا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة الفوز والفلاح، وفرصة النجاة، فيعرضون عنها، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم، لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها. ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين، ولكنهم يجافون أبواب الرحمة، ويسيئون الأدب مع الله: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} [يس: 30].

إن في إهلاك المكذبين الأولين عظة لمن يتدبر، فما بال الإنسان يرى مصارع الظالمين المخزية، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق والغرور يملي له؟. إن جميع الخلق عائدون إلى الله، وليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} [يس: 31، 32]. إن العجب من أن يكون الرسول بشراً قاله كل قوم، وتعللوا به منذ بدء الرسالات، وتكرر إرسال الرسل من البشر، وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض. ومن البلاء أن يكون أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون هو الذي كان دائماً موضع العجب، فأي سفه فوق هذا؟. {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94، 95]. فما المانع أن يكون الرسول من البشر، يدرك كيف يفكر الناس، ويعرف ما يستطيعه البشر وما لا يستطيعونه من جهد وعمل، يعيش بينهم، ويكون قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسون أنه واحد منهم، بشر منهم، من جيلهم خرج، وبلسانهم يتكلم، يعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتجاوبون وإياه. ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة لاختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته. فلم العجب مما خلافه هو العجب: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} ... [ص: 4]. والرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد على هذه البشرية التي أرسل إليها، يشهد أنه بلغها ما أمر به، وأنها استقبلته بما استقبلت به، وأنه كان منها المؤمنون، ومنها الكافرون، ومنها المنافقون، وكان منها الصالحون، ومنها المفسدون، فيؤدي الشهادة كما أدى

الرسالة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} [الأحزاب: 45 - 47]. والمكذبون للرسل لهم طبيعة واحدة، وجبلة واحدة، يستقبلون بها الحق والرسل: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} [الذاريات: 52، 53]. وما تواصوا بشيء لأنهم لم يلتقوا، وإنما هي طبيعة الطغاة والطغيان وتجاوز الحق في كل جيل. والله جل جلاله يوجه الأنبياء وأتباعهم ألا يحفلوا بهؤلاء المكذبين، وأن يستمروا بالتذكير مهما أعرض المعرضون، وكذب المكذبون: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 54، 55]. فالتذكير هو وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيها لله وحده لا شريك له. والله عزَّ وجلَّ أرسل رسله بالبينات والبراهين، وأنزل معهم الكتاب والميزان لتحقيق العبودية لله رب العالمين كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25]. فكل الرسالات جاءت رحمة من رب العالمين لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية لتقويم الأعمال، والأحداث، والأشياء، والرجال، والنساء، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء، واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزاناً عادلاً لا يحابي أحداً؛ لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد؛ لأن الله رب الجميع.

هذا الميزان هو الدين الذي أنزله الله، وأرسل به رسله، هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات التي تحيق بها في معترك الأهواء، والعواطف، والمنافسة، وحب الذات. فلا بدّ من ميزان ثابت يؤوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والإنصاف بلا محاباة، ليقوم الناس بالقسط وفق مراد الله. وكما أنزل الله الكتاب والميزان، فكذلك أنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وهذه إشارة إلى الجهاد بالسلاح، والذين ينصرون الله ورسله بالغيب، إنما ينصرون منهجه ودعوته ودينه، أما الله سبحانه فلا يحتاج إلى نصر من أحد، فإن الله قوي عزيز. والله تبارك وتعالى وكل الأنبياء والرسل بنشر الهداية والدعوة إلى الله كما وكل الشمس بالإنارة، ووكل السحب بنقل المياه وتوزيعها في العالم. فوظيفة الرسل الدعوة إلى الله، وإقامة حياة الناس على منهج الله الذي أرسلهم به إليهم، ليعبد الناس كلهم إلهاً واحداً لا إله إلا هو كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وهذه الأمة مكلفة بما كلف الله به الأنبياء والرسل، وقد شرفهم الله بالقيام بذلك، وأسوتهم الأنبياء كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} [الممتحنة: 6]. وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتأسى بإبراهيم والذين معه، فله فيهم أسوة تتبع، وسابقة تهدي، في الدعوة والعبادة، وإقامة الدين في الأرض. ومن أراد من هذه الأمة أن يتولى عن هذا المنهج، من أراد أن يحيد عن طريق

القافلة، من أراد أن يقصر عن الصراط المستقيم، من أراد أن ينسلخ من هذا النسب العريق، فما بالله من حاجة إليه، فهو سبحانه: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68]. وقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وخلقه لهذا الوجود، ورعايته وتدبيره لكل كائن في الوجود، ودعوة الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإقامة حياتهم على منهج الله. وإنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنة الله وتدبيره لكل كائن، فهذا كله من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة. فدين الله واحد منذ أول الرسالات إلى خاتمة الرسالات، ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد. لكن الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - أوسع وأدق وأشمل وأكمل من كل تصور سابق في الشرائع الإلهية السابقة. وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة، ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه، وتنشئ فيه هذا التصور الكامل الشامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره؛ ليدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية، ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويعيش في مجال هذه القدرة، وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام، ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، ولا يندّ عنها شيء، سواء في ذلك القليل والكثير، والصغير والكبير، والجليل والحقير. وأن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وخشية وخوف، وطمع ورجاء، وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته

وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال، وأخيراً يشعر بالوجود كله متجهاً إلى خالقه، فيتجه معه مسبحاً بحمد ربه، فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته، فيخضع لشريعته وأوامره: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1]. والله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]. فكل رسول عبد لله، وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته، وظيفته الدعوة إلى الله، أما الغيب فهو مختص بالله دون العالمين، لا يعلمه أحد إلا الله، فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا ما يطلع عليه رسله، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس، فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه، يكشفه لهم في حينه، ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، ويراقبهم كذلك. فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته يطلعهم على جانب من غيبه هو هذا الوحي، موضوعه وأحكامه، وقصصه وأخباره، والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ. وهو سبحانه في الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة للحفظ والرقابة، يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه، ومن وسوسة النفس وتمنيها، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة، ومن النسيان أو الانحراف، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف. إنها الرقابة الدائمة الكاملة للرسول وهو يؤدي هذا الأمر العظيم. إنه يتلقى التكليف بالبلاغ، ولا يملك إلا أن يؤدي ما أمره به ربه. فالله عالم بكل ما لديه .. وكل ما في قلبه .. وكل ما حوله .. ليس متروكاً لنفسه .. ولا متروكاً لضعفه .. ولا متروكاً لهواه .. ولا متروكاً لما يحبه ويرضاه. إنما هو الجد الصارم، والرقابة الدقيقة من ربه، فهو يعلم ما حوله من الحرس

والرصد، ويعلم ما هو مسلط عليه من علم وكشف، ويعلم من يراقبه، ويعلم من يحصي عليه أقواله وأفعاله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. إنه موقف يثير العطف على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل مسلم، كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير. حقاً إن إنذار البشرية وإيقاظها وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان، إن ذلك كله واجب ثقيل شاق حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً. فالبشرية من الضلال والعصيان، والتمرد والانحراف، والعتو والعناد، والإصرار والاستكبار، يجعل من الدعوة أصعب شيء، وأثقل ما يكلفه إنسان في هذه الحياة لولا عون الله وتوفيقه. ولكن الله يصطفي ويختار من يصلح لهداية البشرية، ويربيهم ويهديهم، ويوفقهم ويعينهم على حمل الأمانة العظمى. إن الله عزَّ وجلَّ يأمر رسوله بإنذار البشرية كافة، ويوجهه في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره إلى تكبير ربه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3]. كبر ربك وحده، فهو وحده الكبير الذي يستحق التكبير، فكل شيء، وكل أحد، وكل مخلوق، وكل قيمة، وكل كائن صغير، والله وحده هو الكبير، والسموات والأرض، والأجرام والأحجام، والأحداث والأحوال، كلها تتوارى وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 22 - 24]. وهو توجيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليواجه نذارة البشرية ومتاعبها وأهوالها وأثقالها بهذا التصور، وبهذا الشعور، وبهذا النظر. فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وكل شخصية، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه المهمة والنذارة هو الكبير الذي بيده كل شيء ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور، وهذا الشعور. ويوجهه ربه كذلك إلى التطهر كما قال سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]. فالطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى، وهي ألصق شيء بهذه الرسالة، وهي ضرورة لملابسة الإنذار والتبليغ. ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث. ويوجهه كذلك إلى هجران الشرك، وموجبات العذاب كما قال له سبحانه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5]. ويوجهه كذلك إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه كما قال سبحانه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6]. وهو - صلى الله عليه وسلم - سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيقوم بالكثير من الجهد والتضحية والعناء، ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه، ويستكثره ويمتن به. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها الله إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله. وهو اختيار واصطفاء وتكريم، يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار. وأخيراً يوجهه الله إلى الصبر لربه كما قال له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر: 7]. والصبر وصية الله لكل رسول، وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه

الدعوة. فالصبر هو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، وهي الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس، وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء، وهي معركة طويلة عنيفة، لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله. ومنهج الله تبارك وتعالى الذي أرسل به رسله كلهم واحد، وهو الإيمان بالله وعبادته وحده لا شريك له، وإقامة الحق والعدل بين الناس. وكان كل رسول يؤمن بمن قبله، ويوصي أمته أن ينصروا الرسول المقبل، وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء، وكان هذا الميثاق أن كل رسول يأتي في عصر رسول آخر يؤمن به كما حدث بالنسبة لإبراهيم ولوط مثلاً، فقد أرسلا في عصر واحد، هذا يعالج داءً، وهذا يعالج داءً آخر، وكان كل منهما مؤمناً بالآخر. وإن لم يكن النبي الآخر في عصره أوصى أمته بالإيمان به ونصرته وطاعته. فرسالة الله عزَّ وجلَّ للبشرية، في جوهرها واحدة كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81]. فالدعوة إلى منهج الله واحدة منذ أول الخلق حتى نهايته، فلا يتعصب قوم لملتهم ولا لنبيهم؛ لأنهم جميعاً يبلغون عن إله واحد منهجاً واحداً. فموكب الرسل موكب واحد متلاحم متعاضد متكامل، ولا يجوز لنبي ولا تابع نبي أن يصادم دعوة الرسول الذي يأتي بعده، ما دام مصدقاً لما بين يديه، ومزيداً عليه، وبذلك يزداد موكب الإيمان ولا ينقص. فرب الناس هو الله، وعدو المؤمنين هو الشيطان، والكفار في كل زمان ومكان. فكل من تولى وأعرض عن الرسول الجديد الذي جاء مصدقاً لما معهم، ومبيناً

لهم بعض الذي اختلفوا فيه، فهذا يكون قد حارب موكب الإيمان، وفرق المؤمنين، وفسق عن الإيمان وخرج عنه. لذلك فكل من أعرض وأعطى ظهره للنبي الجديد يقول الله عنه: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} ... [آل عمران: 82]. والفسق هو الخروج عن منهج الله لعباده، وقد أوجب الله علينا أن نأخذ الكمال الإيماني من مواكب الرسل جميعاً. وما من رسول أتى وهاجم منهج الرسول الذي قبله أو سفهه أو أنكره. بل كل رسول من رسل الله جاء مصدقاً بمن قبله، مبشراً بمن بعده، فمن آمن بهذا الرسول، وكفر بمن قبله من الرسل، فإنما هو بهذا خارج عن منهج الله؛ لأن الرسالات السماوية في جوهرها واحد، وفي مصدرها واحد: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136]. والحقيقة: أن رفض الإيمان بالرسول الجديد له أسباب، وهذه الأسباب هي التي تدفع الذين اعتنقوا منهج الرسول السابق من تصديق الرسول الجديد. وهؤلاء قد حرفوا وبدلوا منهج رسولهم لفائدتهم، ووضعوا منه ما لم يأمر به الله، وما لم يقله رسوله، ثم نسبوه إلى الله افتراءً وكذباً. وهذا التحريف والتبديل، هو الذي يمنعهم من اتباع الرسول الجديد؛ لأن الرسول الجديد جاء بمنهج حق، يجردهم من ميزات الدنيا التي وضعوها لأنفسهم ومصالحهم، ونسبوها إلى الله ظلماً وعدواناً: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79]. فهل هؤلاء من المؤمنين وهم يقدمون أكل الدنيا على الإيمان بالرسول الجديد؟ وهل يمكن أن يقال إن هؤلاء بقوا على إيمانهم، أم أنهم خرجوا عن منهج الله؟

والله سبحانه تكرم على البشرية بإنزال منهج يحيط بالإنسان في جميع أحواله، فلا تجد تصرفاً بشرياً إلا وله أمر من الله يستوعبه كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. فمنهج الله الذي أرسل به رسوله - صلى الله عليه وسلم - يحيط بحياة الإنسان إحاطة كاملة .. وفيه شفاء للبشرية، وحل مسائلها إلى يوم القيامة. فلا أحد يترك منهج الله وخاتم رسله إلا أن يكون له غرض شخصي، منهج يوافق هواه، فيترك منهج السماء، ويتبع منهجاً وضعه البشر، ولكن لماذا؟ إن الإنسان عادة لا يحب أن يتبع مساوياً له، بل لا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه؛ لأن عنده ما لا يملكه، فيتبعه للحصول عليه، ولكنه يتنازل عن هذا، ويتبع منهجاً بشرياً من مساو له، وذلك حين تتلاقى المصالح والأهواء، ويحلل الحرام، ويباح كل منكر، فحينئذ يتبع الإنسان منهج الإنسان. فالأمم والشعوب حين تترك منهج الله، الذي هو عدل لا هوى فيه، والذي يعطي كل إنسان حقه، والذي هو أمن وأمان للجميع، حين تترك منهج الله وتتبع منهج البشر فذلك من هوى النفس: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. ومن عناية الله ببني آدم وكمال رحمته بهم أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، منهم من قص الله علينا أخبارهم، ومنهم من لم يقص علينا أخبارهم، وذلك ليعلم الناس أن هناك مواكب للرسل. ومن رحمة الله بعباده أنه لم يرسل رسولاً واحداً فقط كما نور الكون كله بشمس واحدة فقط لماذا؟ لأن الله عزَّ وجلَّ لو أرسل رسولاً واحداً في أول البشرية بتعاليم من الله، ثم بعد ذلك تعاقبت الأجيال، وأخفى كل جيل جزءاً من رسالة الله لضاعت الرسالة كلها.

ولجئنا يوم القيامة مجادلين بأن ما وصلنا عن الله سبحانه وتعالى هو غير ما أراده الله سبحانه، وهنا لا يكون الحساب عدلاً. ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل مواكب الرسل لتبين وتظهر ما حرف في الرسالات السابقة، وما أخفي عن الناس، وما نسي بقدم العهد. وكل رسول يعالج الأدواء التي حدثت في زمنه، والانحراف عن منهج الله الذي حصل، وكان هناك أكثر من رسول في وقت واحد كإبراهيم ولوط، ويوسف ويعقوب، وموسى وهارون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم جاء الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم، الذي جاء به الرسول الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة، ليصل إلى العباد كما أنزله الله، ليس فيه إخفاء ولا تحريف ولا تبديل. كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. وجميع الأنبياء جاءوا بدعوة التوحيد كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. أما شرائعهم فهي مختلفة كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. فكل إنسان بفطرته التي فطره الله عليها يستطيع أن يهتدي بعقله إلى أن هناك خالقاً لهذا الكون، وهو الله وحده، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هي مرادات الله من خلقه؟ ولا كيف يعبد الله؟ ولا كيف يشكر الله على نعمه؟ ولا يعرف ما يحب الله؟ ولا ما يبغض الله؟. ولا يعرف ما هو الجزاء على الطاعات والمعاصي؟ ولا اليوم الآخر، ولا الجنة ولا النار؟. ولذلك أرسل الله الرسل لبيان ذلك كله كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. فالرسل أرسلهم الله سبحانه مبلغين لمنهج الله، مفصلين أحكام دينه، مبشرين

من أطاعوه بالجنة، منذرين من عصوه بالنار، مثبتين للذين آمنوا أمام أحداث الدنيا وتقلباتها، وجعلهم أسوة للعباد في جميع أحوالهم ليقتدوا بهم، فمن اقتدى فقد اهتدى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. وجاءت رسل الله لتبشر خلق الله برحمة الله، وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة. فهو سبحانه بعد أن خلق لهم النعم في الدنيا، ثم خلقهم فيها، زادهم فضلاً على فضل بأن خلق لهم الجنة لينعموا بها في الآخرة، فهو سبحانه رحمان الدنيا والآخرة، ورسوله رحمة للناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الانبياء: 107]. ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن أرسل الرسل من البشر، يختارهم منهم، حتى يكون الرسول شهيداً على من أرسل إليهم يوم القيامة. فإن قالوا إن هذا المنهج كلفنا ما لا نطيق، كانت هذه الحجة مردوداً عليها، فإن هذا المنهج طبقه بشر مثلكم، ولم يتحمل فوق ما يطيق، وكان مثلاً لكم تحتذون به، فالتكليف مناسب للمكلف به. ولو أرسل الله إلى البشر ملكاً لقال الناس هذا ملك مخلوق من نور، ونحن مخلوقون من طين، وله قدرات فوق قدرتنا. ولكن كون الرسول بشراً، وكونه من بين قومه، وكونه يطبق المنهج، يسقط حجة هؤلاء جميعاً: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94،95]. والرسل تهدي إلى طريق الحق والهدى، وتبين للناس أحكام الدين وتهديهم إلى الطريق المستقيم، وتوضح لهم سبله كما قال سبحانه لرسوله: {وَإِنَّكَ

لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52،53]. أما قبول الناس للهدى والدين أو عدم قبولهم له فذلك بيد الله وحده، فهو الذي يعلم من يستحق الهداية ويطلبها فيسوقها إليه، ويعلم من لا يستحق ذلك ممن لا خير فيه فيصرفه عنها كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. ومدار السعادة في الدنيا والآخرة وعنوان الفلاح إنما يكون بطاعة الله ورسوله، وكل رسول مأمور أن يبلغ ما أرسل به إلى الناس بلاغاً تقوم به الحجة، وليس بيده من هداية الناس شيء، ولا من حسابهم شيء، وإنما يحاسبهم على أعمالهم من الطاعات والمعاصي عالم الغيب والشهادة كما قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} [التغابن: 12]. وهذا القرآن الكريم فيه كل ما يسعد العباد في الدنيا والآخرة، وبه يصلون إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، لما اشتمل عليه من العلوم الشريفة، والسنن والآداب، والأحكام والشرائع، والأخلاق العالية، والترغيب والترهيب، وأحوال اليوم الآخر، حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. فما الذي دهى الأمة حتى أعرضت عنه، ونبذت أحكامه وسننه وشرائعه؟ إن هذا الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه حق واجب لكل إنسان، فيجب إيصاله إليه ودعوته إليه، حتى لا تكون فتنة وفرقة وخلاف، ويكون الدين كله لله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وقد جمع الله للأنبياء بين الصديقية والنبوة، كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41]. والصديق كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، المصدق بكل

ما أمر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لكمال اليقين، والعمل الصالح الكامل. وجمع لهم بين النبوة والرسالة، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام الرسل، وتبليغ ما جاء به من الشرع دقه وجله. والنبوة تقتضي إيحاء الله إليه، وتخصيصه بإنزال الوحي إليه، فالنبوة بينه وبين ربه، والرسالة بينه وبين الخلق، كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} [مريم: 51]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يتيماً .. ونشأ مسكيناً .. وعاش فقيراً .. ومع ذلك أمره الله بأمر عظيم، وهو إبلاغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافة، وما أعطي لإبلاغ ذلك شيئاً من الملك والأموال والأسباب؛ لأن معه معية الله ونصرته، التي أيد بها رسله. فنصره الله على قوم يقينهم أن الفوز والفلاح في الأموال والدولة، ومعهم قوة الأسباب، ويقينهم أن قضاء الحاجات في أيدي الأوثان والأصنام. ووقف أهل الأرض في وجهه، ولكن الله نصره عليهم مع قلة الأسباب؛ لأن النصر ليس بيد الأسباب، بل بيد الناصر وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. وقد نادى الله جميع الأنبياء والرسل بأسمائهم، ونادى محمداً - صلى الله عليه وسلم - بوصف النبوة والرسالة. فنادى آدم - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35]. ونادى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} [الصافات: 104،105]. ونادى موسى - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)} [القصص: 31].

ونادى عيسى - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} [آل عمران: 55]. أما محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين فقد ناداه ربه بوصف النبوة والرسالة؛ تذكيراً له بعظمة الوظيفة التي أرسل بها. فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45،46]. وقد خير الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً، فاختار العبودية على الملك؛ لأنها أقرب إلى التواضع والافتقار، ولأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه ومالكه، ويعظمه ويحمده ويثني عليه، ويتشرف بذكر أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه وإحسانه، وإذا كان ملكاً كان افتخاره بملكه وعبيده وأمواله. فالعبودية لله أعظم صفة شرف له ولأتباعه، وليس عند العبد شغل أو عمل إلا امتثال أوامر سيده، وطاعته في جميع الأحوال. ولذا قال الله عنه في مقام الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10]. وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1]. وفي مقام التنزيل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]. وجميع الأنبياء والرسل أرسلهم الله عزَّ وجلَّ بثلاثة أشياء، وهي:

الدعوة إلى الله .. وبيان الطريق الموصل إليه .. وبيان حال المدعوين بعد قدومهم عليه. فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل أمة، على لسان كل رسول. فعرَّف الرسل ربهم عزَّ وجلَّ بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، ويرونه يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء. وعرَّفوا الخلق بالطريق الموصل إلى ربهم، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده، وعرَّفوهم بما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب، والميزان، والحوض، والصراط. فقعد شياطين الإنس والجن على رأس القاعدة الأولى، فحالوا بين القلوب وبين معرفة ربها، وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستواءه على عرشه تشبيهاً وتجسيماً، فنفروا عنه من انخدع بمكرهم وكيدهم. وترتب على ذلك الإعراض عن الله، وعن معرفة أسمائه وصفاته، والإعراض عن ذكره ومحبته، والثناء عليه بأوصاف كماله، وانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه. وجاء أهل الآراء الفاسدة، والأذواق المنحرفة، والعوائد الجاهلية، فقعدوا على رأس الطريق الموصل إلى الله، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى نبيها، وما كان عليه هو وأصحابه، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك، ورغب عما اختاروه لأنفسهم، فتركوا الإيمان والأعمال الصالحة، واشتغلوا بالأموال والأشياء، ورغبوا بالدنيا عن الدين، والعادات والتقاليد عن العبادات والسنن. وجاء أصحاب الشهوات فقعدوا على رأس طريق المعاد، والاستعداد للجنة ولقاء الله، وعمروا الدنيا، واتبعوا الشهوات، وقالوا لا نبيع حاضراً بغائب،

وقالوا للناس خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة. فالإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وشهود القلب لذلك هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، والحادي بهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد. فمن لا شاهد له فلا سير له ولا طلب، وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه. ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عزَّ وجلَّ له بفضله ومنِّه علماً يشاهده بقلبه فيشمر إليه، ويعمل عليه. فسبحان من حال بين أعدائه وبين محبته ومعرفته، والسرور والفرح به، ورؤيته، والتمتع بخطابه في محل كرامته، ودار ثوا به، فلو رآها أهلاً لذلك لمنَّ عليها به، وأكرمها به، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته. وقد شاء الله عزَّ وجلَّ برحمته وحكمته أن لا يأخذ الناس بعهد الفطرة، وهي معرفة ربهم، وأن لا يأخذهم بالآيات الكونية التي تدل على عظمة الله واستحقاقه الحمد، بل مع ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ إقامة للحجة، وإبلاغاً لدين الله سبحانه. وأرسل الله الرسل لكل قوم، وفي كل أرض، فحيثما وجد الناس كانت رحمة الله معهم، وكان رسول الله بينهم: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر: 24]. ثم بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. فعموم العالمين حصل لهم النفع برسالته: أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة. وأما أعداؤه المحاربون له فالدين عجل قتلهم، وموتهم خير لهم من حياتهم،

فقد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير من طول أعمارهم في الكفر. وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإسلام حقن دمائهم، وحفظ أموالهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه، فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته، فصلوات الله وسلامه على من بعثه الله رحمة للعالمين، فهو رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، وانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها ولم يقبلوها، ولكن نالهم من بركتها ما هو رحمة لهم وإن لم يزيدوه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

3 - حكمة تعدد بعث الرسل

3 - حكمة تعدد بعث الرسل قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]. وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} [الأنعام: 83 - 87]. إن الله تبارك وتعالى خلق البشر، واصطفى منهم رسلاً مبشرين ومنذرين، وأرسلهم إلى خلقه رحمة منه؛ ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة، فأدوا ما أرسلوا به، وبلغوا البلاغ المبين واحداً بعد الآخر، الأول يبشر بالآخر، والآخر يصدق بالأول. وقد أرسلهم الله عزَّ وجلَّ رحمة بعباده، ليأمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، وإقرار منهج الله في الحياة وحده. هذا موكب الإيمان .. وهؤلاء رسله الكرام .. وهذا منهجه العدل .. إنه يواجه البشرية ويوجهها في رحلتها الطويلة على هذه الأرض. يواجهها كلما التوت بها الطريق، وكلما انحرفت عن صراط الله المستقيم، وكلما تفرقت بها السبل، تحت ضغط الشهوات التي يقودها بها الشيطان من خطامها، ليرضي حقده وينفذ وعيده، ويمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم.

ولكن رحمة الله جلَّ جلاله تدرك العباد كلما ضلوا، فإذا الموكب الكريم من رسل الله يواجه البشرية بالهدى، ويلوح لها بالنور، يبشرها بالجنة، ويحذرها من النار، ونزغات الشيطان الرجيم. إن هذا الإنسان المزدوج الطبيعة، العجيب التركيب، ذو فطرة وعقل، وذو جسد وروح، خلقه الله قابلاً للهدى والضلال، والإيمان والكفر، يؤمن بربه، ويتعامل معه فيعرف أسماءه وصفاته، ومشيئته وقدره، وقدرته وجبروته، ورحمته وفضله. ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكة ربه .. ويتعامل مع إبليس وقبيله .. ويتعامل مع هذا الكون المشهود .. ويتعرف على سنن الله فيه .. ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض .. ويتعامل مع بعضه البعض .. يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك. وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط يجري تاريخه، وتختلف أحواله، ويتلون سلوكه، وتختلف مشاربه، فهو بحاجة إلى الهدى والرشاد، والحفظ والإيمان، والتوفيق والسداد، وقد شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى، وأمر الملائكة بالسجود له، والبارئ العظيم يعلن ميلاده، ويعلن خلافته في الأرض كما ذكر الله في كتابه. وشهدنا ضعفه بعد ذلك، وكيف قاده منه عدوه الشيطان، وكان سبباً في خروجه من الجنة. وشهدنا مهبطه إلى الأرض، وانطلاقه بشتى أنواع التعامل على ظهرها وقد أهبط الله آدم إلى هذه الأرض مؤمناً بربه، مستغفراً لذنبه مأخوذاً عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه، ولا يتبع الهوى ولا الشيطان بعد ما ابتلاه الله في الجنة. ثم مضى به الزمن وتقاذفته الأمواج في الخضم، وتفاعلت تلك العوامل في كيان ذاته وفي الوجود من حوله، فإذا هو يدلف إلى الجاهلية.

إنه ينسى وقد نسي، إنه يضعف وقد ضعف، إن الشيطان يغلبه وقد غلبه، ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى. لقد هبط إلى الأرض مؤمناً مهتدياً تائباً موحداً، ولكن ها نحن نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً فماذا حصل؟. لقد تقاذفته الأمواج في الخضم .. واجتمعت عليه الشياطين من كل جهة .. وداعبته الشهوات والمشتهيات في كل وقت .. فنسي وضل. ولكن رحمة ربه لا تفارقه، فمن رحمة ربه ألا يتركه وحده، فيهلك بين هذه الأمواج العاتية، فأرسل إليه الرسل ترده إلى ربه الذي خلقه وصوره، وفطره على الإيمان والتوحيد. فها هو موكب الإيمان يرفع أعلامه رسل الله الكرام من النبيين والمرسلين، ومنهم نوح وهود وصالح .. وإبراهيم ولوط وشعيب .. وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .. ويونس وموسى وهارون .. وداود وسليمان وأيوب .. وزكريا ويحيى وعيسى .. ومحمد .. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا الموكب الجليل الكريم يحاول بتوجيه الله وتعليمه إنقاذ الركب البشري من الضلال والهاوية التي يقوده إليها الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان. فكم من صراع حصل بين الحق والباطل؟. وكم من معارك وخصومات حصلت بين أهل الهوى وأهل الضلال؟. وكم جرى بين الرسل الكرام وبين شياطين الجن والإنس من حروب وجدل وخصومات؟. وكل ذلك من أجل سعادة الإنسان ونجاته وخلاصه في الدنيا والآخرة. وفي الختام وبعد الإنذار والتذكير نشهد مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين في كل مرحلة. إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة، ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة

مشتركة، وذلك بفعل عوامل في ذات الإنسان، إلى جانب العوالم والعناصر التي يتعامل معها، والبيئة التي يعيش فيها. وهنا يأتي من الكريم الرحمن رسول يرد الناس إلى فطرتهم التي كانوا عليها، يردوهم إلى طاعة ربهم وعبادته قائلاً لقومه: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} [هود: 50]. وهذه الحقيقة الشرعية يقوم عليها الدين كله، ويتعاقب بها الرسل على مدار التاريخ، وعليها مدار سعادة الإنسان في كل زمان ومكان. فكل رسول يجيء يقولها لقومه الذين اجتالتهم الشياطين عنها فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع الله آلهة أخرى. وعلى أساس ذلك تدور المعركة بين الحق والباطل، وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين. لقد جاءت الرسل رسولاً بعد رسول بالتوحيد الخالص، ليعرف الناس رب العالمين، ويتوجهوا له بالعبادة أجمعين. مبينين الشعائر والشرائع التي أرسلوا بها للبشر كمنهج حياة من رب العالمين، معرفين لهم بمالهم بعد القدوم على الله يوم الدين. وكل رسول جاء إلى قومه بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه. فبنوا آدم نشأوا موحدين لرب العالمين كما كانت عقيدة آدم وزوجه، ثم انحرفوا بفعل العوامل السابقة كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865)

فلما جاء نوح - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى فترة طويلة، فما آمن معه إلا قليل، ثم جاء الطوفان لما دعا عليهم فأهلك الله به المكذبين، ونجا المؤمنين، وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من قبلهم، حتى إذا جاء هود أهلك الله المكذبين لرسوله بالريح العقيم وهكذا. ولقد أرسل الله كل رسول إلى قومه ليقول لهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50]. ونصح كل رسول قومه، وحذرهم عاقبة ما هم عليه من الشرك والجهل والظلم، وفي كل مرة وقف الملأ من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه، ورفضوا الاستسلام لرب العالمين، وأبوا أن تكون العبودية لله وحده، وأبوا أن تكون الحياة على منهج الله وحده. فصدع كل رسول في وجه هؤلاء الطواغيت، فانقسم قومه إلى مؤمنين وكفار، وعندئذ يجيء الفتح، ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المستكبرين المكذبين، وينجي الطائعين المسلمين. وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل ولا نصر قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده، وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم، وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم والبراءة منهم. وهذا ما بينه الله في القرآن في حكاية أحوال الرسل مع أممهم .. فمصارع المكذبين للرسل تجري على سنة لا تتبدل .. نسيان لآيات الله .. وانحراف عن طريقه .. إنذار من الله للغافلين على يد رسول .. استكبار عن العبودية لله وحده .. عدم الخضوع لرب العالمين .. اغترار بالرخاء .. واستهزاء بالإنذار .. واستعجال للعذاب .. طغيان وتهديد .. وإيذاء للمؤمنين .. وثبات للمؤمنين .. ومفاصلة على العقيدة .. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنن الله بعد التبشير والإنذار.

وطاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق، بل يتابع الحق ويطارده، وأهل الباطل لا يطيقون رؤية الحق يعيش، ولا رؤية جماعة تدين لله وحده، وتخرج من سلطان الطواغيت كما قال قوم شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 88،89]. فالطواغيت لن يتركوا أهل الإيمان إلا أن يتركوا دينهم كلية ويعودوا إلى ملة الكفر، فلا بدَّ من الصبر، وخوض المعركة، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة، ثم تجري سنة الله بعد ذلك بالفتح: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام سبقه موكب إيمان الخلائق في الكون كله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. إن الإيمان بهذا الإله العظيم، الذي خلق السموات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي تجري وتتحرك المخلوقات بأمره، والذي له الخلق والأمر كله، هو الذي يدعو إليه الرسل. إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة، هي التي يدعون إليها البشرية كافة، كلما قعد لها الشيطان على صراط الله، فأضلها عنه، وردها إلى الجاهلية. والله في القرآن الكريم يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون المطيع لربه، والذي يعيشون فيه، والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله، والذي يتحرك مسخراً بأمره. وفي ذلك ما يهز القلب البشري هزاً، ويستحثه من داخله على أن ينخرط في

سلك الخلائق الطائعة لربها، ولا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله. إن رسل الله عزَّ وجلَّ لا يدعون البشرية لأمر شاذ، أو مستحيل، أو ضار، إنما يدعونهم إلى التوحيد الذي يقوم عليه الوجود كله، والمركوز في فطرة البشر. إسلام الوجه لله ... والإيمان به .. وعبادته وطاعته .. وتنفيذ أوامره .. مع الخلائق الأخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. ومن سنة الله عزَّ وجلَّ في إرسال الرسل بعث كل رسول من قومه وبلسانهم؛ تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرهم، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف، وإن كان الذي فسدت فطرهم يعجبون من هذه السنة فلا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} [إبراهيم: 4]. ويطلبون أن تبلغهم الملائكة، وإن هي إلا تعلة، وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى مهما جاءهم من أي طريق. أرسل الله تبارك وتعالى نوحاً إلى قومه كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف: 59]. فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة إلى التوحيد وماذا قالوا له؟ {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} [الأعراف: 60]. دعاهم نوح - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة الله وحده، وإقامة منهج الله في الحياة، ليكون السلطان كله لله في حياة الناس كلها، قال لهم ذلك، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، ولكنهم رموا الداعي إلى الحق المبين بالضلال المبين، وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب أن من يدعوه إلى

الهدى هو الضال، هكذا تنقلب الموازين، ويحكم الهوى، ويضل العباد بسبب إغواء الشيطان، وغياب دعوة الرسل، وغلبة حب الدنيا على الناس. فماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدي الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يسقط منهم في الوحل والمستنقع الكريه بالرضا والقبول. وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ذلك كله تخلفاً وجموداً. وماذا تقول الجاهلية لمن يترفع عن جنون اللعب، والفن، والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول إنه جامد، مغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة، وتحاول أن تجره إلى الوحل الساقط الهابط مع البهائم. وينفي نوح عن نفسه الضلال، ويكشف لقومه عن حقيقة دعوته، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه، إنما هو رسول رب العالمين، يحمل لهم الرسالة، ومعها النصح والأمانة، ويعلم من الله ما لا يعلمون: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)} [الأعراف: 61]. وأرسلت إليكم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف: 62]. وقد عجب هؤلاء الملأ أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم، ويحمله رسالة إلى قومه، وما من عجب في هذا الاختيار؟ فإذا اختار الله من البشر رسولاً، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فيتلقى هذا المختار عنه الحق، ويبلغه إلى خلقه ليسعدوا ويفلحوا فما العجب في ذلك؟ {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)} [الأعراف: 63].

إن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد لا تتفكر ولا تتدبر، ولا تتذكر ولا تستجيب، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير، وحينئذ تتحقق سنة الله في المكذبين المعرضين: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف: 64]. فبعماهم هذا كذبوا، وبعماهم لاقوا هذا المصير، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وتمضي عجلة الزمن، وتتابع الأيام، فإذا نحن أمام عاد قوم هود، وقوم عاد من ذرية نوح والذين نجوا معه في السفينة، وكانوا يعبدون الله وحده. فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود إلى الجاهلية مرة أخرى. يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد كما قال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} [الأعراف: 65]. وقبيلة عاد كانوا بالأحقاف، وهي كثبان رملية على حدود اليمن، وقد أضلهم الشيطان كما أضل قوم نوح، فاغتروا بقوتهم ودنياهم واستكبروا في الأرض كما قال الله عنهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15]. ولم يتدبروا، ولم يتذكروا، ما حل بقوم نوح - صلى الله عليه وسلم - من الغرق والهلاك. وحذرهم نبيهم هود - صلى الله عليه وسلم - عافبة كفرهم. وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى، فراحوا يتهمونه بالسفاهة والكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياد: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)} [الأعراف: 66].

فكشف لهم هود عن نفسه، وبين لهم العمل الذي أرسل به: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف: 67، 68]. وكلما جاء رسول ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم تعجب البشر من اختيار الله له من البشر. وقد عجب قوم عاد من اختيار الله لهود - صلى الله عليه وسلم - نبياً لهم، كما عجب قوم نوح - صلى الله عليه وسلم - من قبل، فإذا هود - صلى الله عليه وسلم - يكرر لهم ما قاله نوح لقومه من قبل: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} [الأعراف: 69]. ثم ذكرهم هود - صلى الله عليه وسلم - بنعمة الله عليهم من استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح - صلى الله عليه وسلم -، وأعطاهم قوة في الأجسام، وقوة في السلطان والسيطرة فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} [الأعراف: 69]. ونعمة هذا الاستخلاف، وهذه القوة والبسطة، تستوجب شكر النعمة، والحذر من البطر والكفر، واتقاء مصير المجرمين الغابرين. ولكن الفكرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر، ولا تتذكر، وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم، واختصروا الجدل، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح، ويهزأ بالإيمان والإنذار، فماذا قالوا لنبيهم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} [الأعراف: 70]. وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، واتباعاً للهوى والشهوات، ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً، فأرسل الله عليهم الريح العقيم، التي تدمر كل شيء بأمر ربها، وبلغهم نوح عاقبة تكذيبهم: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: 71]. وجاءهم العذاب صريحاً بالهواء الذي لا يستغني عنه أحد كما جاء العذاب قوم

نوح بالماء الذي لا يستغني عنه أحد: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16]. لقد نزل بهم العذاب الذي لا دافع له، وغضب الله المصاحب له، وانتقم الله من هؤلاء المكذبين المعاندين، وأخزاهم في الدنيا والآخرة. وأنجى الله هوداً ومن آمن به، وقطع دابر الكافرين، وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير، وطويت صفحة سوداء من صحائف المكذبين، وبقيت العاقبة للمتقين: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} [الأعراف: 72]. وتتوالى الأيام، وتمر الدهور، فتأتي أمة أخرى، أغواها الشيطان وأضلها عن هدي ربها، وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية، ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل، ومصرع جديد من مصارع المكذبين بعد الإنذار والتبليغ، إنهم ثمود قوم صالح - صلى الله عليه وسلم -، دعاهم نبيهم صالح إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ... [الأعراف: 73]. وقبيلة ثمود كانوا يسكنون الحجر وما حوله من أرض الحجاز بين المدينة وتبوك، وقد جاءهم صالح - صلى الله عليه وسلم - بآية بينة تدل على صدق نبوته، لعلهم إذا رأوها يؤمنون به فقال لهم: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [الأعراف: 73]. ثم أخذ صالح - صلى الله عليه وسلم - بالنصح لقومه بالتدبر والتذكر والتفكر في مصائر الغابرين، والشكر لله على نعمة الاستخلاف بعد أولئك الغابرين قائلاً لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

مُفْسِدِينَ (74)} [الأعراف: 74]. فآمنت طائفة من قوم صالح - صلى الله عليه وسلم -، وكفرت طائفة، واتجه الملأ الذين استكبروا من قوم صالح إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)} [الأعراف: 75]. فعاد الضعاف بالإيمان أقوياء، فقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، فأعلنوا للمستكبرين أنهم مؤمنون بما جاء به صالح - صلى الله عليه وسلم -. فأعلن الملأ المستكبرون عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد، على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا تدع ريبة لمستريب: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} [الأعراف: 76]. ثم أتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه، والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم، ولكنهم عتوا وهددوا وطغوا: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)} [الأعراف: 77]. فماذا كانت عاقبة المجرمين؟ وماذا نزل بهم من العذاب؟. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78]. وهم إلى الآن في ديارهم جاثمون، أما صالح الذي كذبوه وتحدوه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} [الأعراف: 79]. وقال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} [فصلت: 17،18]. وقال سبحانه: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)} [الذاريات: 43 - 45].

وهكذا نزل عذاب الله بكل من طغى وبغى، وتجبر واستكبر، وكذب وتولى. تارة بالماء .. وتارة بالريح .. وتارة بالرجفة، وتارة بالصاعقة .. وتارة بالصيحة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 44]. وهكذا طويت صفحة من صحائف المكذبين الظالمين، وحق النذير بعد التذكير على المستهزئين: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)} [الشعراء: 158،159]. وتمضي عجلة الزمن، وتتوالى الأيام، فيأتي عهد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فيرسله الله إلى قومه داعياً إلى التوحيد، وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 51،52]. فماذا قال له قومه: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)} [الأنبياء: 53]. فقال لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} [الأنبياء: 54]. فبماذا أجابوه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} [الأنبياء: 55]. فقال لهم: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} [الأنبياء: 56]. فأقسم إبراهيم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل؛ ثقة بالله ودفاعاً عن دينه، فواجه قومه كلهم بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} [الأنبياء: 57،58]. فلما رجعوا وجدوا أصنامهم التي يعبدونها مكسرة قطعاً إلا الأكبر منها: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} [الأنبياء: 59 - 61]. فلما جاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62)} [الأنبياء: 62]. فماذا قال لهم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا

يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء: 63 - 65]. فلما أقروا بعجز أصنامهم وأنها لا تتمكن من الدفاع عن نفسها لا بالقول ولا بالفعل: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء: 66،67]. فلما عجزوا عن محاجة إبراهيم أرادوا إظهار الغلبة بأي وجه كان، بالانتقام ممن فعل بأصنامهم ما فعل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء: 68]. فتوجه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، فأمر الله النار فوراً أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. فأحبط الله كيدهم، وأنجى إبراهيم إلى الأرض المباركة في الشام، ورزقه إسحاق، ويعقوب نافلة، وجعل الجميع هداة ودعاة إلى دينه، يعبدون الله ويفعلون الطاعات، ويجتنبون ما نهاهم الله عنه كما قال سبحانه: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء: 70 - 73]. ثم جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من نسله، وشرفه ببناء البيت مع ابنه إسماعيل كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127]. وجعل سيد الأنبياء محمداً - صلى الله عليه وسلم - من نسله، حيث دعا ربه بقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 129]. وجعل ملته وشريعته ديناً يقتدى به من بعده، ولا يعرض عنه إلا من سفه نفسه

كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 130 - 132]. وفي زمن إبراهيم عاش لوط - صلى الله عليه وسلم -، وقد أرسله الله إلى القرية التي كانت تعمل الخبائث فماذا قال لهم: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80،81]. والإسراف الذي يدمغهم به لوط - صلى الله عليه وسلم - هو الإسراف في تجاوز منهج الله، المتمثل في الفطرة السوية، والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها؛ لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة. فإذا أراقوها في غير موضع الإخصاب فهي مجرد شهوة شاذة؛ لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية. ويتجلى الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82]. إن فطرة الإنسان إذا انحرفت رأت الحق باطلاً، والباطل حقاً، والقذر نظيفاً، والخبيث طيباً، والنجس طاهراً. من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً، ليبقى فيها المدنسون الملوثون، إنها الجاهلية التي لا تطيق أن ترى المتطهرين، وترحب بأهل الأدناس والأقذار والنجاسة. فماذا فعل الله بهؤلاء المفسدين؟، وماذا حل بديارهم؟. {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)} [الحجر: 74]. رفعت ديارهم إلى السماء، ثم قلبت عليهم، وأتبعوا بحجارة من سجيل، وأمطروا مطراً مهلكاً، مع ما صاحبه من عواصف، فكان هذا المطر المغرق

والماء الدافق لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه، وأنجى الله لوطاً وأهله إلا امرأته، ودمر العصاة الفاسقين كما قال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} [الأعراف: 83،84]. ثم سارت عجلة الزمن فجاءت أمة أخرى، ولها صفحة من صحائف الأقوام المكذبة بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك، وهم مدين الذين أرسل الله إليهم رسوله شعيباً، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]. وقد جاءهم ببينة من ربه تثبت أنه مرسل من عند الله، ويدعوهم إلى توفية الكيل والميزان، والنهي عن الفساد في الأرض، والكف عن قطع الطريق على الناس، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم كما قال شعيب لقومه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 85،86]. وقوم شعيب كانوا مشركين بالله، لا يعبدون الله وحده، وكانوا لا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل، مع إفسادهم في الأرض، وقطع الطريق على سواهم. فبدأ شعيب بدعوتهم إلى عبادة الله وحده، وإقرار منهج الله وحده في حياتهم، ويذكرهم بنعم الله عليهم، ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم فيقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)} [الأعراف: 86]. كذلك يطلب منهم العدل وسعة الصدر، فلا يفتنون المؤمنين عن دينهم الذي

هداهم الله إليه، ولا يقعدون لهم بكل صراط مهددين لهم، وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين، إن كانوا هم لا يريدون الإيمان كما قال شعيب - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} [الأعراف: 87]. لقد دعا شعيب قومه إلى أعدل خطة، ووقف عند آخر نقطة، لا يملك أن يتراجع عنها خطوة، وهي الانتظار والتعايش بغير أذى، وترك كل وما اعتنق من دين. ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان بالله وجود في الأرض ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت، بل تدين لله. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت، حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده. إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة، إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل، وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]. فلما تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم، أو العودة في ملتهم صدع شعيب بالحق مستمسكاً بملته، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه سبحانه يدعوه ويستنصره: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 88،89]. إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة كبرى مهما لاح فيها من السلامة والأمن، وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟. وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟ وفوق هذا فإن حكم الطواغيت يكلف الناس أموالهم التي لا يحميها

شرع، كما يكلفهم أولادهم، إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات، والأخلاق الهابطة، والتقاليد الجاهلية، فوق ما يتحكم في طريقة حياتهم ذاتها، فيصبغهم باللون الذي يريد، ويذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد والجاه لذاته. ثم يكلفهم أعراضهم وشرفهم، فيتحكم الطاغوت في الفتيان والفتيات، ويمهد لهم أسباب الخنا والفجور تحت أي شعار؛ ليكسب محبة أرباب الشهوات، وقلوب مرضى القلوب: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع، فلا بد من أمرين: عبادة الله وحده .. واجتناب عبادة الطاغوت. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والمال والعرض، ومهما تكن تكاليف العبودية لله فهي أربح وأقوم، حتى بميزان هذه الحياة، فضلاً عن وزنها بميزان الله عزَّ وجلَّ الذي له ما في السموات وما في الأرض. إن صلاح البشرية وفسادها متوقف على من بيده زمام أمرها من الأمراء والعلماء. فهم الذين لهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمور، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شئون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الأمة وآمالها، ويصوغون الحياة كما يحبون ولو كان يغضب الله ورسوله. فإذا كان هؤلاء الزعماء ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه، فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الأشرار والفجار إلى كنف الدين، وهذه وظيفة الخليفة كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا

جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. وأما إذا كانت سلطة الزعامة والإمامة بأيدي رجال انحرفوا عن الدين الحق، وعصوا الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة تدريجياً ثم كلياً بقضه وقضيضه على البغي والعدوان، والفواحش والمنكرات، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والعلوم، والآداب والأخلاق، والمعاشرات والمعاملات، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها، وماذا بعد الحق إلا الضلال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. إن أول ما يطالب به الله عباده أن يدخلوا في عبودية الحق كافة، مخلصين له الطاعة والانقياد، وأن لا يكون لحياتهم منهج إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. ثم الإسلام يطالبهم مع هذا بإزالة الفساد في الأرض، واستئصال شأفة السيئات والمنكرات، الجالبة على العباد غضب الله وسخطه والفتنة. كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104،105]. وهذه الغايات السامية من الاستقامة والدعوة والإصلاح لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة البشرية وتسيير شئونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال، وأتباع الحق وأنصاره مستسلمون لهؤلاء، منقادون لجبروتهم، قانعون بذكر الله وتلاوة كتابه في بيوتهم أو مساجدهم، منقطعون عن الدنيا وتدبير شئونها، راضون بما يتصدق عليهم هؤلاء الجبابرة من الأموال

والإعانات، والتسهيلات والمسامحات، والشفاعات وقضاء الحاجات. ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة، وإقامة نظام الحق من أهمية كبرى تجعلها من غايات الدين وأسسه، ولذلك أوجب الله طاعة أولي الأمر الصالحين إذا حكموا وأمروا بما جاء عن الله ورسوله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. والمسلم لا يمكنه أن يبلغ رضا الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة، وتقاعس عن القيام بها. فإن غرض الدين الحقيقي وهدفه هو تحقيق العبودية لله رب العالمين في حياة البشرية كلها، وإقامة نظام الحق والإمامة الراشدة، وتوطيد دعائم الدين في الأرض كلها، حتى يكون الدين كله لله، وينسجم العالم البشري مع العالم الكوني كله في طاعة الله وعبادته سبحانه. ولا يتم ذلك إلا وفق سنة الله بالدعوة إلى الله أولاً .. فإذا دخل الإيمان في قلوب البشر اشتاقت قلوبهم لمعرفة الأحكام .. وجاء عندهم الاستعداد لفعل الأوامر واجتناب النواهي .. فإذا حصل هذا وحقق البشر العبودية مكن الله لهم في الأرض كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل على البشرية، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة الدين الحق في العالم. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك.

وكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق لا ينتهي عمله فإنه يبذل جهده لإفراغ حياته في قالب الإسلام فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكفار والفجار والظلمة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويستعبدون البشر، حتى يتسلمه رجال ذو صلاح، ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في أرض الله حكمه ودينه، وشرعه الذي ارتضاه لعباده، وأرسل به رسله، وبه صلاح الدنيا والآخرة. إن الله تبارك وتعالى حين يدعو الناس إلى إقامة حكم الله وشرعه في الأرض، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم، وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد إلى عبودية الله وحده. كما يدعوهم لإنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم. إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطواغيت تحت رايته، لينقذهم من بلاء وشدائد أكبر وأكثر وأطول. لذلك قالها شعيب - صلى الله عليه وسلم - مدوية حاسمة: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]. وما أحسن أخلاق الأنبياء، وما أحسن آداب أنبياء الله ورسله، إن شعيباً - صلى الله عليه وسلم - لكمال إيمانه ويقينه على ربه، بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه، بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه أمام ربه الجليل الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً. إنه يفوض الأمر إلى ربه في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه. ثم يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعو ربه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق قائلاً: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. عندئذ توجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم،

ليفتنوهم عن دينهم كما قال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)} [الأعراف: 90]. فالطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية إلى الله ليسكتوه، ويصرفوه عن الدعوة إما بالأذى، أو بشغله بما يعطونه من الحطام ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بربه وتمسك بإيمانه ولم يرهبه التخويف بما يملكه الطغاة من الوسائل والأسلحة تحولوا إلى الذين اتبعوه، يفتنونهم عن دينهم الحق بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب. ولكن من سنة الله الجارية، أنه عندما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة، تجري سنة الله التي لا تتخلف، وهكذا كان لقوم شعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)} [الأعراف: 91]. فكل نبي لم يؤمر بقتال يتولى الله تدمير أعدائه وإهلاكهم بما شاء، وهكذا عاقب الله قوم شعيب بالرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة للمؤمنين. وطويت صفحة هؤلاء الكفار من أهل مدين، وباءوا بالهلاك والخسار والعذاب، وانفصلوا عن نبيهم شعيب - صلى الله عليه وسلم -، ولم يندم ولم ييأس على مصيرهم الأليم بعدما أبلغهم ونصحهم: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} [الأعراف: 93]. وتوالى إرسال الرسل إلى البشرية، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده، وإقامة الحياة على منهج الله وحده. وأنشأ الله بعد هؤلاء المكذبين المعاندين قروناً آخرين، كل أمة في وقت مسمى، وأجل محدود، وأرسل إليهم رسلاً متتابعة لعلهم يؤمنون وينيبون، فلم يزل الكفر والتكذيب دأب الأمم العصاة والكفرة البغاة، كلما جاء أمة رسولها كذبوه وآذوه، مع أن كل رسول أوتي من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، فأهلك الله هؤلاء، ولم يبق منهم باقية وصاروا أحاديث يتحدث بأحوالهم من بعدهم،

فكان ما أصابهم عبرة للمتقين، ونكالاً للمكذبين كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 42 - 44]. ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم لم يفدهم هذا، ولا أغنى عنهم شيئاً، فلم يؤمنوا، فلما كذبوا رسلهم عاقبهم الله لردهم الحق: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)} [الأعراف: 101]. وقد أخبر الله أن تلك الأمم التي أرسل الله إليها رسله أكثرهم لم يلتزم بوصية الله، ولم ينقَدْ لأوامر الله التي أرسل بها رسوله، بل اتبعوا أهواءهم، وأعرض أكثرهم عن هدي الله، ولم يستقم على دينه إلا القليل، ممن سبقت لهم من الله السعادة. وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى، واستكبروا عما جاءت به الرسل، فأحل الله بهم من العقوبات المتنوعة ما حل كما قال سبحانه: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} [الأعراف: 102]. وبعد بعثة موسى - صلى الله عليه وسلم - ونزول التوراة رفع الله عذاب الاستئصال عن الأمم المكذبة، وشرع الله لرسله والمؤمنين بهم جهاد المكذبين المعاندين، ووعدهم النصر على أعدائهم بالإيمان والتقوى، والتوكل على الله، وإعداد ما يستطيعون من قوة، وقد فعل سبحانه فنصر أولياءه، وخذل أعداءه. فقد ذكر الله الأمم المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس كما قال سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} [الأعراف: 103].

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)} [المؤمنون: 49]. فبعد نزول التوراة على موسى - صلى الله عليه وسلم - بعد إهلاك فرعون انقطع الهلاك العام، وشرع جهاد الكفار بالسيف كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} [القصص: 43]. وموسى - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وقد أرسله الله إلى فرعون، وإلى قومه بني إسرائيل، فآمن من قومه مَنْ آمن، وكفر من كفر، ولم يؤمن به إلا قليل على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم كما قال سبحانه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)} [يونس: 83]. وأما فرعون فأبى واستكبر وآذى موسى ومن آمن معه: فأهلكه الله بأن أغرقه وجنوده في البحر كما قال سبحانه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. ثم أضل الشيطان من آمن بموسى، وفرقهم فاختلفوا، فلما أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن تبدلت حياتهم من السعادة إلى الشقاوة كما قال سبحانه: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63]. وافترقت بنو إسرائيل من بعد موسى إلى طوائف: فمنهم المتشددون في العبادة، ينكرون البدع، ويترخصون في حياتهم الشخصية، ويستمتعون بملاذ الحياة، ولا يعترفون بأن هناك قيامة. وطائفة أخرى فيهم الزهد والتصوف، ينكرون على من قبلهم التشدد في العبادة، وجحدهم البعث والحساب، وفيهم غرور واعتزاز بالعلم والمعرفة. وطائفة ثالثة وهم السامريون، يدينون بالكتب الخمسة في العهد القديم

المعروفة، بالكتب الموسوية، وينفون ما سواها. وطائفة رابعة يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة والتنظيم. وغير ذلك من الطوائف التي يجمعها البلبلة في الاعتقاد، والاختلاف في الأعمال، والتبديل والتحريف. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]. وقد حذر الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الاختلاف وتلك الفرقة التي حصلت في أهل الكتاب بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104،105]. ولهذا الاختلاف والفرقة، وضلال بني إسرائيل، وإعراضهم عن الدين الحق، أرسل الله لهم عيسى - صلى الله عليه وسلم - ليردهم إلى الدين الحق، وإلى التوحيد الذي تركوه بعد موسى كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6]. فلما جاء عيسى لبني إسرائيل بالبينات الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به: من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى ونحو ذلك من الآيات، قال لهم: قد جئتكم بالنبوة والعلم، ولأبين لكم صواب وجواب ما اختلفتم فيه من شريعة موسى - صلى الله عليه وسلم -، فجاء عليه الصلاة والسلام متمماً ومكملاً لشريعة موسى - صلى الله عليه وسلم -، ولأحكام التوراة، ومجدداً لما ترك منها. وجاء بعض التسهيلات الموجبة للانقياد له وقبول ما جاءهم به، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وطاعته وامتثال أمره، واجتناب نهيه والإيمان برسالته وطاعته

كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)} [الزخرف: 63،64]. فلما جاءهم عيسى بهذا اختلف الأحزاب من بينهم، كل قال بعيسى - صلى الله عليه وسلم - مقالة باطلة، ورد ما جاء به إلا من هدى الله من المؤمنين الذين آمنوا بالله وشهدوا له بالرسالة، وصدقوا ما جاء به كما قال سبحانه: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)} [الزخرف: 65]. لقد أرسل الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - إلى بني إسرائيل ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى، وانقسموا فرقاً وأحزاباً، ونقضوا العهد. فدعاهم عيسى إلى تقوى الله وعبادته وطاعته فيما جاءهم به من عند الله، وجهر بكلمة التوحيد خالصة، وقال لهم: إن هذا صراط مستقيم، وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي، والعناية بالقلب البشري. وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان، وقد طال انتظارهم له، فلما جاءهم أنكروه وشاقوه، وهموا أن يصلبوه، وافتخروا بقتله كذباً وبهتاناً كما حكى الله عنهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 156 - 158]. أما المؤمنون من أهل الكتاب بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر فلهم كغيرهم من المؤمنين أجر عظيم: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)} [النساء: 162]. وطارد اليهود أتباع عيسى - صلى الله عليه وسلم - وآذوهم، ثم ذهب عيسى - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، حيث رفعه الله إليه، واختلف أتباعه من بعده شيعاً وأحزاباً:

بعضها يؤلهه .. وبعضها يقول هو ابن الله .. وبعضهم يقول: إن الله ثالث ثلاثة: أحدهم المسيح بن مريم، وضلوا عن الهدى، وفعلوا ما استحقوا به الكفر والضلال وغضب الله وسخطه. وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وضاعت دعوة الناس إلى الإيمان بربهم وعبادته مخلصين له الدين: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)} [الزخرف: 65]. وهكذا انحرفت عقيدة النصارى، وصار أكثرهم كفاراً مشركين بالله كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة:73، 74]. ثم بين الله قول الحق في المسيح بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 75،76]. وضل الناس عن الهدى والإيمان والتوحيد الذي جاء به الأنبياء بسبب الاختلاف والفرقة، والتحريف والتبديل، والكفر والشرك من أهل الكتاب، الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، ونقضوا العهد والميثاق، فلما فعلوا ذلك أنكر الله عليهم فقال: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)} [آل عمران: 98]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99].

ثم أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد الذي جاء به الرسل من هذه الأمة، وما زال بحمد الله باقياً صافياً، وإن كان حوله فرق ضالة عنه، وعالم آخر من البشرية لم يسمعه، وهذا الدين للبشرية كافة كما قال سبحانه لرسوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. إن الله تبارك وتعالى ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - نقل النبوة والرسالة من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل، ممثلة في الرسالة الأخيرة ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع منهجه، والرسالة الأخيرة التي أرسل الله بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى البشرية كافة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} [الشورى: 3]. فمصدر الوحي واحد، فالموحي لجميع الأنبياء هو الله العزيز الحكيم، والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان صلوات الله وسلامه عليهم. وهذه الحقيقة حين تستقر في قلوب المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه من الدين، ووحدة مصدره، وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي وهو العلي العزيز الحكيم. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين، أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تمتد جذورها في شعاب الزمن. وهذا الإله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعاً: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} [الشورى: 4]. فكل ما في السموات وما في الأرض من شيء فهو لله، لا يشاركه فيه أحد سواه، وهو العلي العظيم، فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. وإذا استقر هذا في القلوب عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم

من خير، ومن رزق، ومن كسب. إن الله جل جلاله مالك هذا الكون كله يصرفه كيف يشاء، وله الكبرياء والعظمة، والعزة والجبروت، والجلال والجمال، وهو العلي العظيم. وتكاد السموات تتفطر من روعة العظمة التي تشعر بها لربها، ومن زيغ بعض أهل الأرض: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} [الشورى: 5]. والسموات هي هذا الخلق الهائل العظيم المرفوع الذي نراه يعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض. هذه السموات يكدن يتفطرن من فوقهن من خشية الله وعظمته وعلوه، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض، ونسيانهم لهذه العظمة والكبرياء التي يحسها ضمير هذا الكون فيرتعش وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه. والملائكة أهل طاعة مطلقة، وهم أولى الخلق بالطمأنينة، ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم؛ لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في طاعته وحمده، بينما أهل الأرض لجهلهم ينكرون ويكفرون ويشركون وينحرفون، فتشفق الملائكة من غضب الله عزَّ وجلَّ، ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير في حق هذا الإله الذي يجمع إلى العزة والحكمة العلو والعظمة، ثم المغفرة والرحمة. أما مركز القيادة الجديدة، وموضع الرسالة الأخيرة، فهو أم القرى مكة المكرمة، وأنزل سبحانه القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده، والله أعلم حيث يجعل رسالته: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى: 7]. لقد جاء الإسلام رحمة من الله لينقذ البشرية كلها مما وقعت فيه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهلية عمياء، في كل مكان معمور من الأرض. فقد حرفت شريعة الله التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل من قبل اليهود والنصارى،

وبدلت وأقصيت من حياة الناس. وجاء القرآن الكريم ليهيمن على حياة البشرية، ويقودها في الطريق إلى الله على هدىً ونور كما قال الله لرسوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]. وهكذا جاء القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها، فلما خرجت الجزيرة العربية من الجاهلية إلى الإسلام وخلصت كلها للإسلام، حملت الراية الإسلامية إلى جميع جهات الأرض، وقدمت الرسالة الجديدة والشريعة السمحة للبشرية جمعاء كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. أما الجهة التي يرجع إليها عند الاختلاف فهي هذا الوحي الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]. القرآن الذي أنزل الله فيه حكمه القاطع وقوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة، وأقام للناس به المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم ومعاشهم وأخلاقهم، وبيَّن لهم هذا كله بياناً شافياً. وجعل سبحانه هذا القرآن كتاباً جامعاً شاملاً لحياة البشر، فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله حاضر بين في هذا الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لتقوم الحياة على أساسه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10]. والدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الدين الذي بعث الله به جميع رسله، وهو الإسلام، فالرسالة واحدة، يحملها للبشرية رسول بعد رسول كما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ

وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ففيم يتقاتل أتباع موسى، وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟. ولم لا يجتمع الكل ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟. ولم لا يتحدوا لينفذوا الوصية الواحدة الصادرة للجميع؟. {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وقفوا من هذه الدعوة موقفاً آخر: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. والتفرق الذي وقع مخالفاً لتلك الوصية التي أوصى الله بها رسله لم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم، وقع بغياً وظلماً وحسداً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14]. تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة، والشهوات الباغية، ولو أخلصوا لعقيدتهم واتبعوا منهجهم ما تفرقوا، ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله بعذاب أخذاً عاجلاً جزاء بغيهم وظلمهم وتفرقهم، ونقضهم العهد والميثاق. ولكن كلمة سبقت من العزيز الرحيم لحكمة أرادها بإمهالهم إلى أجل مسمى، ولولا هذه الكلمة لقضي بينهم، فحق الحق، وبطل الباطل، وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا، ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم. فأما الأجيال الذين ورثوا الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من أتباع كل نبي فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ لوجود الخلاف والشك، والغموض والحيرة بين شتى المذاهب كما قال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا

الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14]. وما هكذا تكون العقيدة، فالعقيدة يجب أن تكون راسخة في القلب، ظاهرة على الجوارح، شاملة لمنهج الحياة. ولقد جاءت على أيدي الرسل ليعرف الناس طريقهم إلى الله، ويتوجهوا إليه، ويقودوا من وراءهم من البشر من غير تردد ولا ضلال ولا ارتياب. فأما حين تصبح العقيدة موضع شك، ومثار ريبة، وأهلها اشرأبوا وشكوا، فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون. وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم. فرسالة الله التي تقود البشرية إلى النور والهدى والسعادة في الدنيا والآخرة قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها، والذين جاءوا من بعدها تلقوها في ريبة وشك، ولا تستقيم معها قيادة راشدة، وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد. فالدين الذي جاء به الرسل صار فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المنافقين والمحرفين، حتى فقد شكله، وروحه، وطعمه، وريحه، فلو بُعث أصحابه الأولون لم يعرفوه، وأصبحت معاقل الإسلام، وأماكن التوحيد والإيمان، ومهود العلم والحضارة، مسرحاً للفوضى والانحلال والاختلال، وسوء النظام، وعسف الحكام، واختفت السنن، وظهرت البدع. وشغلت الأمة بنفسها لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري. وصار العالم يسير على شفا جرف هار من الفوضى والتمزق؛ لأن الذي ينظم حياة الأمة جفاه أهله، فانهارت حياتهم، وأظلمت ديارهم، وصارت مسرحاً للعابثين والدجالين والظالمين.

وصارت الأمم والقبائل والشعوب تتحارب وتتناحر، ويأكل بعضها بعضاً، فلا دين يحكمهم، ولا شريعة تعدل بينهم. أما النظم التي حرفها أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام، وغاب الدين الحق من حياة الأمة فتاهت في الظلمات، وغرقت في بحر الشهوات. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل العام الطام .. فالله لا يترك خلقه بلا دين ينظم حياتهم .. ويصلهم بربهم .. ويجمع كلمتهم .. ويوحد صفوفهم. فأكرم الله البشرية كلها ببعثه هادياً جديداً، يهدي الأمة إلى الصراط المستقيم هو محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنبياء والمرسلين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. فإن أتباع الرسل قبله قد تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم، ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب. لهذا وذاك .. ولانتشار الفساد والظلم والفواحش .. وللتبديل والتحريف في الكتب المنزلة السابقة .. ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد مؤمن راشد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله، ويوجه الناس إليه .. لذا أرسل الله الكريم الرحيم رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة الأخيرة الكاملة إلى الناس كافة إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28]. ووجه الله تبارك وتعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأمر، وأمره أن يدعو، وأن يستقيم على دعوته، وأن لا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله، وحول دعوته الواضحة المستقيمة، وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة إلى التوحيد التي شرعها الله للنبيين أجمعين فقال لهم سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15]. إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء، القيادة الحازمة المستقيمة على منهج الله، تدعو إلى الله على بصيرة، وتستقيم على أمر الله دون انحراف، وتنأى عن الأهواء المنحرفة التي تهب من هنا وهناك. إنها الرسالة السماوية الأخيرة التي جاء بها سيد الخلق لخير أمة أخرجت للناس، وأنزل عليها القرآن العظيم، وجعله مهيمناً على سائر الكتب قبله، فيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء. فجاءت هذه الرسالة العامة المباركة لتعلن وحدة الرسالة، ووحدة الكتاب، ووحدة المنهج والطريق، وترد الإيمان إلى أصله الثابت، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 137،138]. جاءت هذه الرسالة لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر، وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض، وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات، ليؤمن الناس بربهم، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. والله تبارك وتعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدين الكامل، وربى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بهذا الدين، وأقام الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود البشرية بعد وفاته بهذا الدين، ولهذه الجماعة المختارة التي سوف تتحمل المسؤولية صفات وخصائص تكون بها صالحة للقيادة العملية للبشرية، وأهم هذه الصفات: الإيمان .. والتوكل على الله .. واجتناب كبائر الإثم والفواحش.

والمغفرة عند الغضب .. والاستجابة لله ولرسوله .. وإقامة الصلاة .. والشورى الشاملة .. والإنفاق مما رزق الله .. والانتصار من البغي .. والعفو .. والإصلاح .. والتواصي بالحق. هذه أهم مقومات الأمة المسلمة التي سوف تتحمل أمانة الدين بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة. إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً، وهناك أرزاق وأولاد، وشهوات ولذائذ، وجاه وسلطان، وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض هبة خالصة من الكريم المنان، لا تتعلق بطاعة ولا معصية، ولكن هذا كله ليس له قيمة ثابتة باقية، إنما هو متاع زائل، متاع محدود الأجل، لا يرفع ولا يخفض، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يعتبر بذاته علامة رضاً من الله أو غضب: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. فما عند الله خير في ذاته، وأبقى في مدته، ومتاع الحياة الدنيا زهيد بالنسبة إلى ما عند الله في الآخرة، والعطاء في الدنيا والآخرة كله من عند الله، ومن فضله وإحسانه. هذا ما يجب أن يعلمه الذين آمنوا، فعن طريق الإيمان بالله ينشأ الإدراك لحقيقة هذا الوجود، ومن ثم ينسق المسلم حركته مع حركة هذا الوجود الكبير سامعاً مطيعاً لربه، ولا ينحرف ولا يشذ عن طاعة ربه. ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة وسلام واستسلام، وهذه الصفة لازمة لكل إنسان، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة المسلمة التي تقود البشرية وتهديها إلى بارئ الوجود. وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية، والثقة بالطريق، وعدم الحيرة أو التردد أو الخوف أو اليأس. وهذه الصفات لازمة للأمة التي سوف تقود البشرية إلى ربها.

وقيمة الإيمان التجرد كذلك من الهوى والأغراض والمصالح، إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته، ويحس أن ليس له من الأمر شيء، إنما هي دعوة إلى الله، وهو فيها أجير عند الله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ: 47]. وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة، كي لا يقنط إذا أعرض عنه الشارد أو المعاند من البشر، أو أوذي في الدعوة، ولا يغتر إذا ما استجابت له الأمة، أو دانت له الرقاب، فإنما هو أجير. ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً، وأثر في غيرهم ممن عاصرهم، وما زال يؤثر فيمن بعدهم، وكانت صورة الإيمان في النفوس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم. فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة، تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها مسؤولية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فالإيمان الذي تلقته هذه الأمة من نبيها حل جميع عقد الشرك والكفر؛ فانحلت العقد كلها، وجاهدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي، وانتصر الإسلام على الجاهلية في البداية، فكان النصر حليفه في كل معركة، وقد دخل هؤلاء الصفوة الأخيار في السلم كافة بقلوبهم وأرواحهم وجوارحهم كافة. لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم،

وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، لا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنىً، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم. أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها أخلاقاً، وأزكاها نفوساً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة شرعه، وإبلاغ دينه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» متفق عليه (¬2). وكان علمهم بالله قبل ذلك باهتاً، وكانوا قبل ذلك يسجدون للأصنام والأوثان، وكانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل، وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية، فأخذوا بأيديهم أزمة الأمور، وتولوا إدارة المملكة، وتدبير شئونها، وتوزيع أرزاقها، وهكذا زين لهم الشيطان سوء أعمالهم. فكانت ديانتهم سطحية طافية، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم، ولا تأثير لها في أخلاقهم وسلوكهم. وكان إيمانهم بالله، وإحالتهم خلق السموات والأرض إلى الله، لا يزيد على جواب تلميذ قيل له: من بنى هذا القصر؟ فيسمي ملكاً من الملوك دون أن يخافه أو يخضع له، فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله، ودعائه، وهيبته، وما كانوا يعرفون عن الله ما يولد عظمته في قلوبهم، ولا ما يحببه إليهم، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة، قاصرة مجملة، لا تبعث في نفوسهم هيبة، ولا محبة، ولا عبادة. فانتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673) واللفظ له، ومسلم برقم (2541). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652) واللفظ له، ومسلم برقم (2533).

عميقة واضحة روحية، ذات سلطان على النفس والروح، والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والسلوك، وذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها. آمنوا بالله الذي خلق كل شيء، المالك لكل شيء، وله الخلق والأمر، وعلموا أنه يثيب على الطاعة الجنة، ويعاقب على المعصية بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وبيده مقاليد الأمور في السماء والأرض. وظهر منهم من روائع الإيمان واليقين، وقوة الصبر والشجاعة، ما حير العقول، ولا يزال موضع حيرة ودهشة إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق بالله سبحانه. وكان هذا الإيمان قوة باعثة، ومدرسة خلقية ونفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية: من صرامة إرادة، وقوة نفس، ومحاسبتها والإنصاف منها، وكان أقوى وازع عرف التاريخ يزجر النفس عن الزلات والسقطات. فإذا سقط الإنسان سقطة أو زلّ زلة حيث لا تراقبه عين، ولا يعلم به أحد، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة، عنيفة، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بجرمه، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مرتاحاً مطمئناً؛ تفادياً من سخط الله، وعقوبة الآخرة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ فقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «أبِكَ جُنُونٌ؟». قَالَ: لا، قَالَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ». قَالَ: نَعَمْ، فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» متفق عليه (¬1). وكان هذا الإيمان الذي أكرمهم الله به حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6815) واللفظ له، ومسلم برقم (1691).

وكل ذلك ثمرة الإيمان ومراقبة الله، واستحضار علمه في كل مكان وزمان. وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأخلاق والسلوك والأفعال، والشرك، والظلم والفساد، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام، يسيرون على الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء. فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان، والأمر والنهي، والتحليل والتحريم، بالعبودية لله، والطاعة المطلقة لله ورسوله، واستسلموا لربهم، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً، ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يأذن الله به ويسمح به. لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله، ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون، ولا يَصِلون ولا يقطعون إلا بإذن الله وفق أمره. هذا الإيمان الذي انطبع في قلوب الجماعة التي اختارها الله لقيادة البشر ودعوتها بهذه العقيدة. ومن مقتضيات هذا الإيمان التوكل على الله، فالإيمان بالله وحده يقتضي التوكل عليه وحده دون سواه، وهذا الشعور ضروري لكل مؤمن، كي يقف رافع الرأس، لا يحني رأسه إلا لله، مطمئن القلب بالله، لا يرجو ولا يرهب أحداً إلا الله. فهذا هو التوحيد في أكمل صوره، إيمان بالله وأسمائه وصفاته، ويقين أنه لا يستطيع أحد في هذا الوجود أن يفعل شيئاً إلا بمشيته، وأنه لا يقع شيء إلا بإذنه، ومن ثم يقصر توكله على ربه، ولا يتوجه المؤمن في فعل ولا ترك لمن عداه، وطهارة القلب ونظافة السلوك من كبائر الإثم والفواحش أثر من آثار الإيمان الصحيح، وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة. وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها، وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان، وطمسته المعصية، وذهبت بنوره السيئات.

ولقد ارتفع الإيمان في قلوب تلك العصبة المؤمنة حتى بلغت في سلوكها وأخلاقها وأعمالها ما تحار فيه العقول، وتأهلت بذلك لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة. والله سبحانه يعلم ضعف الإنسان، فجعل الحد الذي يصلح به للقيادة والذي ينال معه ما عند الله هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش، لا صغائر الآثام والذنوب كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى: 37]. ورحمة الله واسعة، فتسع ما يقع من الإنسان من هذه الصغائر؛ لأنه أعلم بطاقته، وهذا فضل من الله، وسماحة ورحمة بهذا الإنسان، وذلك يوجب الحياء من الله، فالسماحة تخجل، والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء من العفو. ومن صفات تلك العصبة المختارة أنهم إذا ما غضبوا يغفرون، وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد. والله عزَّ وجلَّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها، فهو يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته، وهو ليس شراً كله، فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل مطلوب وفيه الخير. ومن ثم لا يحرم الغضب لذاته، ولا يجعله خطيئة، ولكنه في الوقت ذاته يدعوه ربه إلى أن يغلب غضبه، وأن يغفر ويعفو، ويحسب له هذه صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة. جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أوصني، قال: «لا تَغْضَبْ». فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لا تَغْضَبْ» أخرجه البخاري (¬1). والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب لله، فإذا غضب لله لم يقم ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6116).

لغضبه شيء، ولكن هذه درجة عالية، لم يكلف الله نفوس المؤمنين إياها وإن كان يحببهم فيها، إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب، والعفو عند القدرة، ما دام الأمر متعلقاً بالأشخاص. ومن صفاتهم الاستجابة لربهم في كل أمر كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)} [الشورى: 38]. فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم، تلك العوائق الكامنة في النفس التي تمنع الوصول إلى ربها، وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها، عوائق من شهواتها ونزواتها. فإذا خلصت من هذا كله، وجدت الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولاً، وحينئذ تستجيب بلا عائق، ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها أو شهوة تقعدها، وهذه هي الاستجابة، ومن صورها: (وأقاموا الصلاة) وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي صورة الاستجابة الأولى لله، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً وسجداً لله، لا يرتفع رأس على رأس، ولا تتقدم رِجل على رِجل، ولا يعلو صوت على صوت. ومن صفات هؤلاء الأخيار: أن أمرهم كله شورى بينهم، فقد تحملوا مسؤولية الدين، وإقامة الدين، والعمل بالدين، وتعليم الدين، والدعوة إلى الدين، وكل هذه أمور عظام تحتاج إلى عقول تفكر وتشاور، ثم تسمع وتطيع، ثم تباشر العمل في الميدان، فالشورى طابع الجماعة الإسلامية التي أمرها الله بإبلاغ دينه، وتوجيه العباد إلى ربهم، إن الشورى طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة الإسلامية المختارة لهداية البشرية وقيادتها. والشورى من ألزم وأهم صفات القيادة والدعوة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في أمر الدين ونشره، وقد أمره ربه بذلك كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ

وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. أما شكل الشورى فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان، فالنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة، وليست نصوصاً حرفية، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والبحث في أشكال الأنظمة والأحكام الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء، فلا بدَّ من الإيمان أولاً، والعمل الصحيح ثانياً: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. ولا بدَّ للمسلم من الإنفاق فيما يرضي الرب تبارك وتعالى؛ تطهيراً للقلب من الشح، واستعلاء على حب المال، وثقة بما عند الله، وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان، فإن الدين بذل وترك من أجل مصلحة الدين، وأمر ونهي، وحب وبغض في الله. والدعوة كفاح، فلا بدَّ من التكافل في هذا الكفاح وجرائره، ولهذا كان من صفاتهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]. وكان التكافل بين تلك الصفوة المختارة كاملاً، بحيث لا يبقى لأحد مال متميز كما حدث في أول العهد المدني بهجرة المهاجرين من مكة، ونزولهم على إخوانهم الأنصار في المدينة، فأكرموهم وأضافوهم ابتغاء وجه الله، فلما هدأت حال الأمة، وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة، فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات العالية. ومن صفاتهم الكريمة: صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس، لتكون خير أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتغشى أوساط الناس، وممالك الدول، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39].

فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي، وأن تدفع العدوان الجائر الذي يهلك الحرث والنسل رحمة بالعباد. وأَمْرُ المؤمنين بكف أيديهم عمن يؤذيهم من الكفار في مكة أَمْرٌ عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة، وله أسبابه الخاصة، إلى جانب ما فيه من تربية المسلمين على الصبر. ولقد كانت هناك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي منها: أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم يصدر عن هيئة مسيطرة، إنما هو تعذيب فردي، فالذين يؤذون من أسلم هم غالباً خاصة أهله، ولم يكن أحد يجرؤ على إيذائه، ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد، والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة. ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى والظلم، وصبر المسلمين على الأذى كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين، وهذا ما حصل في حادث الشعب، وحصر بني هاشم فيه، فقد صارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة من الظلم والجور. ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تنفع لنظام. والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب، مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة، وعلى كل مغنم، فلهذه الاعتبارات وأمثالها اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة، مع تقرير الطابع الأساسي من أول يوم بالانتصار ممن بغى واعتدى.

ويؤكد هذه القاعدة: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. مقابلة السيئة بالسيئة كي لا يتبجح الشر ويطغى حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض، فيمضي وهو آمن مطمئن. هذا هو الأصل مع استحباب العفو ابتغاء وجه الله، وإصلاح النفس من الغيظ، وهو استثناء من تلك القاعدة. والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة، فهناك يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء. فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة، ولم يجيء ضعفاً يخجل ويستحي، والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو، فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا، ولا كذلك عند الضعف والعجز. أما العفو عند العجز فهو شر يُطمع المعتدي، ويذل المعتدى عليه، وينشر البغي والفساد في الأرض. والذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي بالسيئة السيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح، وهو يزاول حقه المشروع، فما لأحد عليه من سلطان، ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد. إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذي يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)} [الشورى: 41،42]. إن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس؛ ليكفوه ويمنعوه من ظلمه، وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه. والله عزَّ وجلَّ يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم، ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له، ويأخذوا عليه الطريق.

أما حين يكون الصبر والسماحة مع المقدرة استعلاءً لا استخذاءً، وتجملاً لا ذلاً فهو محمود: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]. هذه أهم صفات المؤمنين التي ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية بعد نبيها، وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. ألا ما أعظم فضل الله على عباده، أية رعاية؟، وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟، وأية عناية بهذا الإنسان من الرب الكريم؟. إن الله تبارك وتعالى العلي الكبير، الغني الحميد، يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان، فيوحي إليها الوحي، ويرسل إليها الرسل لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، ورد شاردها، وهي وغيرها أهون على الله من البعوضة على الإنسان حين تقاس إلى ملكه العريض الواسع الذي لا يحيط به سواه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. فهذا الكتاب العزيز، الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - نور خالص تخالط بشاشته القلوب التي يشاء الله لها أن تهتدي به بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله بما يعلمه بما في قلوب عباده، فهو يهدي إلى الصراط المستقيم الذي تلتقي عنده المسالك؛ لأنه الطريق إلى المالك الذي له ما في السموات وما في الأرض، والذي تصير الخلائق كلها إليه وتلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره. وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه .. ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين. وقد وكل الله للقيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة أمانة قيادة البشرية إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه:

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52،53]. ألا ما أعظم هذه الأمانة .. وما أشد تبعاتها .. وما أعظم أجر من أداها .. وما أسعد البشرية التي تقبلها. إن الله عزَّ وجلَّ بعث كل رسول بكلمة التوحيد، ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد من أول يوم نزل فيه آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض. عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وغيرهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ويعيش بها ولها. ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم، فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه، وله أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده عن طريق ذريته وعقبه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف: 28]. ولقد قام بها من بعده رسل كان منهم ثلاثة من أولي العزم وهم: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. ولم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته ونسله، وأوصى بها إبراهيم بنيه من بعده كما قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]. وقام عليها من بعده رسل من نسله يتصلون لا ينقطعون، حتى كان آخرهم وسيدهم وأفضلهم ابنه الأخير من نسل إسماعيل، وأشبه أبنائه به، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، محمد - صلى الله عليه وسلم -، قائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة للبشرية كافة. تلك الكلمة: (لا إله إلا الله) التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور. فهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه، هذه هي تأتي إلى هذا

الجيل على لسان واحد من عقبه، فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم وإلى ملة إبراهيم؟. لقد بعد بهم العهد .. ومتعهم الله جيلاً بعد جيل .. حتى طال عليهم العمر .. ونسوا ملة إبراهيم .. وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة .. واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال. وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية فاختل في أيديهم كل ميزان كما قال سبحانه: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)} [الزخرف: 29،30]. وفرق كبير بين الحق والسحر، وإنما هي دعوى، وكفار قريش هم أول من يعلم بطلانها، وما كان كفار وكبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق كما قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. وقد اعترضوا على اختيار الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي أرسله الله إليهم حاملاً الحق والنور كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذؤابة قريش، ثم من ذؤابة بني هاشم، وهم في العلية من العرب، كما كان معروفاً بحسن الخُلق، والصدق، والأمانة قبل بعثته، قد جمع المجد من أطرافه. ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولقد اختار الله لها من يعلم أنه لها أهل، ولعله سبحانه لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها، فاختار لها رجلاً ميزته الكبرى حسن الخلق، وهو من طبيعة هذه الدعوة، وسمته البارزة التجرد لعمله، وهو من حقيقة هذه الدعوة. ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء، كي لا تلتبس قيمة واحدة من هذه القيم الأرضية بهذه الدعوة النازلة من السماء،

ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلي هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة، ولكي لا يدخلها طامع، ولا يتنزه عنها متعفف. فلما اعترضوا على اختيار العليم الخبير لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - رد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله واختياره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. وكانت قيادة البشرية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني إسرائيل، فالله خالق البشر وحده، وهو الذي يشرع لهم وحده، ويرسل لهم من شاء وحده: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)} [الجاثية: 16]. فكانت فيهم التوراة شريعة الله .. وكان فيهم الحكم لإقامة شريعة الله .. وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب .. وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة .. فكانت مملكتهم، ونبواتهم في الأرض المقدسة الطيبة .. الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات .. وفضلهم الله على أهل زمانهم بطبيعة الحال، وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله، وإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وآتاهم الله شريعة بينة فاصلة حاسمة، لا غموض فيها ولا لبس، ولا عوج ولا انحراف، ولم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف. وما حصل الخلاف بين بني إسرائيل عن غموض في الأمر، ولا عن جهل بالحكم، إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم، ونزاع وظلم، مع معرفة الحق والصواب، وكان الواجب أن يشكروا هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم، ويقوموا بها على أكمل الوجوه، وأن يجتمعوا على الحق الذي بينه الله لهم،

ولكنهم عكسوا الأمر، فعاملوها بعكس ما يجب. وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع عليه على الرغم مما منّ الله عليهم به من العلم الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف والتفرق البغي والظلم من بعضهم على بعض: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)} [الجاثية: 17]. وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض، وبطل استخلافهم وأمرهم بعد ذلك إلى يوم القيامة. ثم كتب الله تبارك وتعالى الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في حياة البشرية جمعاء كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 18،19]. وهكذا يتمحض الأمر: فإما شريعة الله .. وإما أهواء الذين لا يعلمون .. وليس هناك من فرض ثالث .. ولا طريق وسط بين الشريعة الإلهية، والأهواء البشرية .. وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء. فكل ما عدا شريعة الله هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون. وكل ما جاء به القرآن الكريم وكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [الجاثية: 20]. فهذا الكتاب العظيم فيه تبيان كل شيء، فيه الهداية والإنارة، فهو بذاته بصائر كاشفة، وهو بذاته هدى، وهو بذاته رحمة. وحين يستيقن القلب ذلك يعرف طريقه إلى ربه، وعندئذ يصبح القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين.

إن الله عزَّ وجلَّ يعرض على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أحوال الأمم السابقة مع رسلهم، وهو الذي انتهت إليه أمانة الدعوة إلى الله في الأرض كلها إلى آخر الزمان، ووكلت إليه هداية البشرية إلى ربها في العالم كله إلى يوم القيامة. واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول، يعرض عليه بالتفصيل أحوال الأنبياء مع أممهم؛ ليرى في حياة الأنبياء الرحمة بالخلق، والإحسان إليهم، والعفو عنهم، والشفقة عليهم، والصبر على أذاهم، واللطف بهم. ويرى كذلك جهد الأنبياء وتضحيتهم من أجل إعلاء كلمة الله، وإقرار حقيقة الإيمان في الأرض، وتوجيه الخلق إلى عبادة ربهم. ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق، وفساد القيادة الضالة، وغلبتها على القيادة الراشدة، ثم رحمة الله بعباده بإرسال الرسل تترى كلما فسدت أحوال البشر، وضلوا عن طريق الإيمان والهدى كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 44]. وتعرض تلك الأحوال العجيبة كذلك على الأمة المسلمة عامة، فهي الوارثة لدعوة الله في الأرض بعد رسولها - صلى الله عليه وسلم -، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة؛ لترى صور الجهاد والكفاح، والتربية والدعوة، والإصرار والثبات من جميع الأنبياء والمرسلين؛ لأقرار حقيقة الإيمان في الأرض. كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة، وإنجائها من الهلاك الشامل في ذلك الحين: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110]. وتعرض آيات القرآن كذلك تلك الأحوال على الكفار والمشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين، ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولاً رحيماً بهم، لم يدع عليهم بالهلاك الشامل، وذلك لما يقدره من الرحمة بهم إلى حين.

حقاً: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. نِعَم الله تنزل على خلقه كل آن .. ورسله تتوالى عليهم .. وكتبه تنزل عليهم .. وآلاؤه معروضة عليهم، وهم يقابلون ذلك بالعناد والإعراض والاستكبار، والله يمهلهم لعلهم يتوبون ويرجعون إليه. ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه في إرسال رسله تترى بعد العناد والإعراض والاستكبار من هذا الخلق الضعيف الهزيل؟. ثم تلك الجهود الموصولة منذ عهد نوح، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ من رسل يُكفر بهم، أو يُستهزأ بهم، أو يُّحرقون بالنار، أو يُنشرون بالمناشير، أو يَهجرون الأهل والديار من أجل إعلاء كلمة الله؟. وما بذله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعه من جهود قل أن يثبت لها أحد، ثم تتوالى الجهود المضنية، والتضحيات المذهلة من القائمين على الدعوة من بعده في كل أرض، وفي كل جيل؟. والجواب: نعم. فإن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض، وإقامة منهجه في حياة الناس، يساوي كل هذا الجهد، وكل هذا الصبر، وكل هذه المشقة، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل زمان ومكان. فالحياة بدون الإيمان وبدون شريعة الله ضلال وظلام، وفساد وطغيان، وبغي وعدوان، وظلم وفسق، وشقاء وعناء: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. ولا تسعد البشرية ولا تستقيم حياتها إلا باتباع منهج الله، وتحكيم شرعه في جميع الأمور، ونبذ ما سواه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام:

153]. فإذاً لا بدَّ من أداء الأمانة، والقيام بالوظيفة؛ ليبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ويدخل الإيمان كل بيت، وكل قلب، ويسمع الناس كلام ربهم، ويذكروه بألسنتهم، ويطيعوه ويعبدوه وحده لا شريك له {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. ولا بدَّ من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان، هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل، وقلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون. اختارهم عزَّ وجلَّ لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض، وهي أمانة لا بدَّ أن يؤدوها .. فنعم الرجال .. ونعم العمل .. ونعم الجزاء. إن هذه الحقيقة العظيمة أكبر من الإنسان ذاته، ومن أرضه وسمائه، ومن كل هذا الكون الكبير، وقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها. وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة، وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة سامقة في التاريخ، بل كانت حلماً أكبر من الخيال، ولكنه متمثل في واقع بحياة الناس. وقد تحقق هذا المستوى العالي من الحياة والأخلاق في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونالوا بذلك رضا ربهم، ورضوا عنه، وجزاهم على تلك الطاعة والعبودية الجنة كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. إنه لا يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق علم، أو فلسفة، أو فن، أو مذهب، أو نظام إلى المستوى الذي وصلت إليه عن طريق استقرار حقيقة

الإيمان بالله في نفوس الناس، وحياتهم، وأخلاقهم. وحين فقدت البشرية قيادة المؤمنين الصادقين لم ينفعها شيء من ذلك كله، بل انحدرت إلى أقل من مستوى البهائم الضالة. بل انحدرت قيمها وأخلاقها، وموازينها وإنسانيتها، كما غرقت في الشقاء النفسي، والحيرة الفكرية، والأمراض العصبية، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين، وتمرغها في الشهوات في كل حين، وستعرض البشرية، وما زال أكثرها معرضاً عن الهدى ودين الحق، كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد وغيرهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} [يوسف: 103،104]. وستذهب مع القيادات الضالة المضلة، الظالمة الكافرة، وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعاً مختلفة من العذاب، وتنكل بهم ألواناً من النكال ابتلاءً من الله، ليعلم الله الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. ستفعل ذلك كما ألقت إبراهيم في النار، ونشرت زكريا بالمنشار، وسخرت واستهزأت، وكفرت وكذبت بالأنبياء والرسل على مدار التاريخ. ولكن دين الله باق، والدعوة إلى الله لا بدَّ أن تمضي في طريقها كما أراد الله؛ لأنها الحل الوحيد لفلاح وسعادة البشرية إلى يوم القيامة، وهي كرامة الله للبشرية جمعاء: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وحسن الخلق أحسن ما يتحلى به البشر، وأعظم ما يؤثر في النفوس، فالمقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه، وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان

حسن الأخلاق، رحيماً كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويصفح عن زلاتهم، ويخصهم بوجوه البر والشفقة، والإكرام والإجلال. فلهذا وجب أن يكون الرسول أحسن الناس أخلاقاً، ليؤثر في قلوب الناس، ولأنه محل قدوة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك كما وصفه الذي خلقه وأرسله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، بعثه الله رسولاً إلى الثقلين الإنس والجن، والإنس والجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130]. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يُبعث إلى طائفة مخصوصة منهم. والجن كالإنس مثابون معاقبون حسب أعمالهم، وهم مأمورون بالشرائع في الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات في الآخرة حسب أعمالهم كما قال سبحانه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)} [الأحقاف: 19]. والرسل مأمورون بإبلاغ ما أرسلوا به إلى الناس، فهم يتلقون الوحي من الله، ويبلغونه للناس كما قال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)} [الأنعام: 19]. وكلام الله إلى البشر يتم بواحدة من ثلاث: الأولى: الوحي الذي يلقيه الله في النفس مباشرة، فتعرف أنه من الله عزَّ وجلَّ.

الثانية: أن يكلم الله النبي من وراء حجاب كما كلم الله موسى - صلى الله عليه وسلم -. الثالثة: أن يرسل الله رسولاً وهو الملك، فيوحي بإذن الله ما يشاء إلى الرسول بإحدى الطرق الآتية: إحداها: ما كان يلقيه الملك جبريل في رَوْع الرسول وقلبه من غير أن يراه. الثانية: أن يتمثل الملك للرسول رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول، كما كان يأتيه على صورة دحية الكلبي أحد الصحابة. الثالثة: أن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته من شدته لتبرك به إلى الأرض. الرابعة: أن يرى الملك في صورته التي خلقه الله عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين: مرة في الأرض .. ومرة عند سدرة المنتهى في السماء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 13 - 15]. فهذه صور الوحي وطرق الاتصال بالأنبياء: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 51،52].

4 - حكمة موت الرسل

4 - حكمة موت الرسل قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]. وقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34،35]. الله تبارك وتعالى أحكم الحاكمين، يخلق ما يشاء ويختار، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، ويهدي ويضل. خلق السموات والأرض، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر. وخلق الملائكة والشياطين، وخلق الإنس والجن، وخلق الطير والحيوان، وخلق الجماد والنبات. ومن مخلوقاته عزَّ وجلَّ ما يبقى إلى أجل ثم يموت كالبشر .. ومنها ما أبقاه إلى يوم القيامة كالشيطان وذريته .. ولله في ذلك حكم منها: أن الله عزَّ وجلَّ جعل الشيطان محنة للعباد، يخرج به الطيب من الخبيث، ووليه من عدوه، فأبقاه سبحانه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه. ومنها أن حكمته جل وعلا اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، وكما امتحن الله به آدم - صلى الله عليه وسلم - امتحن به أولاده من بعده. ومنها أن الشيطان لما كان لا نصيب له في الآخرة وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر، ولكنه استغل هذا البقاء لإفساد العباد وإضلالهم كما قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ

فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 79 - 83]. ومنها أن إبقاء الشيطان لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات لكان خيراً له، وأخف لعذابه، وأقل لشره، ولكنه لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، وإضلال عباده، كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة، فأُبقي في الدنيا، وأُملي له؛ ليزداد إثماً على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر. فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة. ومنها أن الله سبحانه علم أن في ذرية آدم من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث فأبقاه له، فكأنه قال له: هؤلاء أصحابك وأولياؤك فاجلس في انتظارهم، وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لما مكنتك منه، فأنا ولي الصالحين وأنت ولي المجرمين: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99،100]. وأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم على الله، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها، ومقاساة أعدائهم وأتباعهم. وموت الأنبياء والرسل أصلح لهم وللأمة: أما هم فلراحتهم من الدنيا، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، لا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به. وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم، بل يعبدون الله

بأمرهم ونهيهم، والله هو الحي الذي لا يموت، فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم. والأنبياء من البشر، والله عزَّ وجلَّ لم يخلق البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام، بل جعلهم خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف، ولضاقت بهم الأرض. فالموت كمال لكل مؤمن، ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا، ولا هناء لأهلها بها، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة فسبحان {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وشعور الإنسان بأن الشيطان عدوه، وأنه حي راصد لحركاته يثير ذلك في نفس الإنسان الحذر من الفخ الذي ينصبه الشيطان للإنسان. وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان، ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. والشيطان قد أعلن الحرب على بني آدم، ولا نجاة للإنسان إلا بالوقوف تحت راية الله وحزبه في مواجهة الشيطان وحزبه، وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها إلى يوم القيامة؛ لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه الله وطرده، فعلى المؤمن أن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها، وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله، وإما أن يكون ولياً للشيطان. ومن كان الله مولاه أفلح ونجا، ومن كان الشيطان مولاه خسر وهلك: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119]. والأنبياء والرسل من البشر، وسنة الله في البشر أن يعيش الإنسان إلى أجل، ثم

إذا بلغ أجله مات كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34،35]. وقد فرغ الله إلى كل إنسان من البشر من خمسة: من أجله .. ورزقه .. وأثره .. وعمله .. وشقي أو سعيد. والأنبياء والرسل جاءوا برسالة من ربهم وبلغوها للناس، فإذا ماتوا بعد البلاغ فإن الدين والهدى الذي جاءوا به باق في الأمة تعمل به، وتعلمه وتدعو إليه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

5 - فقه الدعوة إلى الله

5 - فقه الدعوة إلى الله قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. وقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. الله تبارك وتعالى بمنِّه وفضله شرَّف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، واصطفاها واجتباها من بين الأمم، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وعلى كل مسلم ومسلمة واجبان: إصلاح نفسه بالعبادة .. وإصلاح غيره بالدعوة، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والإيمان، فمن قام بهما فاز، ومن أخل بواحد منهما خسر كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. والمسلم عبد لله وحده، وليس عند العبد عمل إلا امتثال أوامر سيده. وأوامر الله عز وجل تدور على أربعة أصول: الدعوة إلى الله .. والعبادة .. وتعلم الدين وتعليمه، وأعمال البر التي تكون سبباً

لمحبة الناس للدين وللداعي إليه. والدعوة إلى الله هي أم الأعمال، وبسبب الدعوة يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ووقت المسلم كله في امتثال أوامر ربه في العبادة والدعوة: ففي النهار قيام بالدعوة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3]. وقال سبحانه: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 7،8]. شبه الدعوة بالسباحة، فلو غفل السباح عن الحركة يغرق، وكذلك الداعي إذا غفل عن الدين والدعوة غرق في شئون الدنيا. وفي الليل يقوم بالعبادة والدعاء أمام ربه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4]. وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)} [الإنسان: 26]. ففي الليل جهد أمام الله بالدعاء والبكاء والتضرع، وتعظيم الرب وتسبيحه، والاستغفار من الذنوب، وشكر المنعم، وطلب العون والهداية له ولغيره. وفي النهار جهد على عباد الله بالدعوة بتكبير الرب ليعظموه، وبذكر نعمه وآلائه ليشكروه، وبذكر وعده ليرغبوا في طاعته وعبادته، وبذكر وعيده ليحذروا من معصيته. والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل وأنزل الكتب ليظهر الحق ويبطل الباطل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. والله قادر على إظهار الحق وإبطال الباطل بلا جهد أحد، ولكنه سبحانه وكل الرسل وأتباعهم بالهداية، كما وكل الشمس بالإنارة، والأرض بالإنبات، والسحب بحمل الغيث وتفريقه في البلاد، فجعل سبحانه الدعوة سبباً للهداية

وشرف بها الإنسان. فإذا جاهد الرسل وأتباعهم بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا أوقاتهم وجاههم، وضحوا بشهواتهم ومحبوباتهم من أجل الدين، أظهر الله الحق، وأبطل الباطل، ونصر أولياءه، وخذل أعداءه. والدعوة إلى الله رسالة كل مسلم، وهو فيها أجير عند الله، يبلغ دين ربه، ويتوكل عليه وحده، وينال أجره منه وحده. وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن تُوْكل إليه مهمة القيادة، كي لا يقنط إذا أعرض عنه مَنْ علم الله أنه لا يصلح، أو أوذي في الدعوة، ولا يغتر إذا استجابت له الجموع، وأنصت له الناس، أو دانت له الرقاب، فإن هذا كله بإذن مالكه، وإنما هو أجير، وأجره على من أرسله وأمره كما قال سبحانه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)} [الشعراء: 145]. والمسلم إذا قام بالدعوة حصلت له الهداية، وحصل له الأجر وإن لم يستجب له الناس كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. ولا بدَّ أن تتوفر في الداعي صفات الإيمان والتقوى ليؤثر في غيره، ويكون الله معه، كالفرشاة لا بدَّ أن تمتلئ بالصبغ أولاً، ثم يصبغ بها الجدار، وحينئذ تكون سبباً لتلوينه، وتغيير صورته، وكالمال فمن ليس في جيبه مال لا يستطيع الإنفاق على غيره. فكذلك الداعي لا بدَّ أن تكون فيه صفات الإيمان والتقوى، فمن ليس عنده إيمان ولا تقوى ولا أعمال كيف ينشر ما لا يملك؟ وقد تكفل الله لمن يبلغ دينه في مشارق الأرض ومغاربها بكل ما يحتاج من الطعام والشراب، والسكن والمركب، والأجر والحفظ في الدنيا والآخرة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ» متفق عليه (¬1). والدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. والموعظة الحسنة: هي التذكير بفضل الله على عباده .. والتذكير بعظمة الله وجلاله .. والترغيب في العمل الصالح لنيل الدرجات العلى من الجنة .. والترهيب من النار للنجاة من عذابها. وساحة الإيمان والتقوى مملوءة بكل خير، وبكل بر، وبكل عمل صالح يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وساحة الكفر والشرك مملوءة بكل شر، وبكل إثم، وبكل معصية، وبكل فاحشة، وبكل ظلم ونحو ذلك مما يبغضه الله ورسوله. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قام بالدعوة إلى الله انحلت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، ولما انحلت هذه العقدة الكبرى، انحلت العقد كلها. وهكذا جاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي لكل واحد من أصحابه. فلما آمنوا دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم، لا يشاقون الرسل بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر ونهى. والداعي إلى الله من ذا يخيفه؟ وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟. فحين أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 45،46]. والداعي يقوم بالدعوة والبلاغ، وليس له من أمر الهداية والضلالة شيء، فالله ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2442) ومسلم برقم (2580) واللفظ له.

يعلم من يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا، فلا مبدل لما شاء: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. والسموات والأرض أكبر من خلق الناس، قالتا لربهما أتينا طائعين، وهذا الخلق الصغير من البشر الذي يدب على الأرض مع سائر الدواب الطائعة .. يأكل من رزق الله .. ويسكن في أرض الله .. ويكفر بالله .. ويعارض رسل الله .. ويسخر بهم .. ويستهزئ بآيات الله. فماذا يكون جزاء هذا الكفر والإعراض والاستهزاء والاستكبار؟. {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت: 13]. وماذا ينتظر هؤلاء من العقوبات؟: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. وهذا الإنذار المخيف يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب من الإنسان. والسنن الكونية لها أصول وأهداف، والسنن الشرعية كذلك لها أهداف وأصول. فالشجرة لها زينة وهي الأوراق والأزهار، ولكن المقصد من الشجرة الثمرة، والشجرة إنما جاءت من البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة، وهي الأرض والماء والهواء والضوء، وبعد ذلك تظهر الشجرة، ثم تكون الثمرة. وكذلك الإنسان زينة قلبه بالإيمان، وزينة جسده بالأعمال الصالحة، ورضى الله هو الغاية والمقصد من الدين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة، ولا بدَّ للإيمان من بيئة صالحة يزداد فيها الإيمان، وتحفظه من النقصان، تتمثل فيها أوامر الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، واتباع السنن

النبوية، والآداب الإسلامية، والتحلي بالأخلاق الكريمة، وكل ما يرضي الله ورسوله. فكمال الآدمي وسعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة بخمسة أمور: الأولى: الدعوة إلى الله .. ثم يأتي الإيمان .. ثم تأتي طاعة الله ورسوله .. ثم يأتي رضى الله عنه .. ثم دخوله الجنة. وإذا أهملنا الدعوة إلى الله ضعف الإيمان .. وإذا ضعف الإيمان رغبت النفس في معصية الله ورسوله .. وإذا عصى العبد الله ورسوله غضب الله عليه .. وإذا غضب الله أنزل عقوبته بمن عصاه، وعقوبته سبحانه للعصاة والكفار الشقاء في الدنيا، والنار في الآخرة. والداعي إلى الله يدعو الناس على اختلاف طبقاتهم إلى الاستقامة على الدين، وتنفيذ أوامر الله فيما هم فيه: فيقول للحكام كونوا كنبي الله سليمان لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كفرعون فتدخلوا النار. ويقول للوزراء كونوا كيوسف - صلى الله عليه وسلم - لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كهامان فتدخلوا النار. ويقول للتجار كونوا كتجار المهاجرين لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقارون وقوم شعيب فتدخلوا النار. ويقول لأهل الزراعة كونوا كالأنصار لتدخلوا الجنة، ولا تكونوا كقوم سبأ فتدخلوا النار. ويقول للعامة والخاصة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف: 59]. والمسلم يحترم المسجد؛ لأنه بيت الله، ومحل أداء فرائض الله، وكذلك الفقير نحترمه ونكرمه؛ لأنه محل صدقاتنا وزكاتنا فلا نحقره. وهكذا الكافر والمشرك والعاصي هؤلاء عبيد الله، ولهم حق الرحمة والدعوة،

والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه، فالمسلم يرى الكافر غريقاً ويجتهد عليه لعل الله أن يرحمه وينقذه من النار. والشفقة والرحمة أعظم سلاح أعطيه الأنبياء والرسل كما قال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. والشفقة والرحمة لخلق الله تكون وتنمو بكثرة الجهد للدين حتى تصبح كالأمواج في البحار بعضها فوق بعض، فتنبعث أمواج الشفقة والرحمة بقدر الجهود والتضحيات على خلق الله سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وإذا كان مسؤولية أهل الدنيا تفقد الملك والأموال والأشياء والفكر فيها، وحسن رعايتها، والقيام عليها، فمسؤولية أهل الدين: هي تفقد الإيمان والأعمال الصالحة .. وكيف تأتي فينا وفي حياة الناس .. وكيف يتحقق مراد الله من عباده فيعبدوه وحده لا شريك له .. وكيف يتحقق مراد الخلق من ربهم فيتوجهوا إليه في جميع حوائجهم لينالوا رضاه، ويفوزوا بجنته، وينجوا من عذابه ... وتعريف الناس بربهم وخالقهم .. وما هو حقه عليهم؟ ... ولماذا خلقهم؟ ... وماذا يريد منهم؟ ... وبيان طريق السعادة وطريق الشقاوة ... وتعريف الخلق بما يحب ربهم ليفعلوه ... وتعريفهم بما يبغض ليجتنبوه ... وتعليمهم الآداب الإسلامية ... وحسن المعاشرات وأحسن الأخلاق ... وتعريفهم بنعم الله ليشكروه ... وتعريفهم بأسمائه وصفاته، وأفعاله وخزائنه ليعظموه ويحمدوه ويسألوه .. وإخبار الناس بما أعد الله من الكرامة لمن أطاعه .. وما أعد من العذاب لمن عصاه. وكيف يقضي الإنسان حياته على طريقة الأنبياء والمرسلين، لا على طريقة البهائم والشياطين. وتعريف الناس بالطريق الموصل إلى الله ... وما لهم بعد القدوم على الله يوم

القيامة. وأُمر الناس بتكميل محبوبات رب العالمين في الدنيا من الإيمان، والطاعات والعبادات، والمعاملات، وحسن المعاشرة، وحسن الأخلاق، حتى يكمل الله لهم في الآخرة ما يحبون من المطاعم والمشارب والمساكن والملابس والأزواج والحور. فمسؤولية كل فرد من المسلمين عظيمة، ووظيفته كبيرة، وعمله مستمر دائم ما دام حياً كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. ومكانة المسلم عند الله عظيمة، وحياته عند الله غالية؛ لأنه مؤمن بالله، ويقيم أمر الله، ويعبد الله، ويدعو إلى الله، ولذا توعد الله من قتل مؤمناً بغير حق متعمداً بأشد العقوبات كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. وبحسب المكانة تكون المسؤولية، ويكون المقام عند الله، فمكانة المسلم عظيمة، ومسؤوليته كذلك عظيمة. ولا أحب عند الله من المسلم الذي يدعو الناس إلى ربهم، ويحببهم إليه، ويردهم إليه كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. فأعظم الواجبات بعد الإيمان والتقوى الدعوة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. لذا فواجبنا جميعاً رجالاً ونساءً .. كباراً صغاراً .. العامة والخاصة .. الأغنياء والفقراء .. والسادة والعبيد .. والعرب والعجم .. أن نقوم بالدين، ونستقيم عليه، ونقيم الدين وندعو إليه في العالم حتى يكون الدين كله لله، وينعم الناس بهذا الدين الكامل الذي رضيه الله لهم، وأرسل به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كما قال

سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والدعوة إلى الله .. ونشر الدين .. وهداية البشرية إلى ما يسعدها في الدنيا والآخرة عمل عظيم وكبير .. يحتاج إلى فكر مستمر .. وعمل دائب .. وهم مذيب .. وسير الأقدام .. وإيلام الأبدان .. وبذل الأموال .. والتضحية بالأنفس والأوقات والشهوات .. والصبر على المشاق .. وتحمل الأذى .. وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه في الأرض، وإزالة الباطل. وهذا العمل العظيم جزاؤه عند الله عظيم كما قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88،89]. وبداية الفكر والعمل: أن نجتهد أولاً على أنفسنا حتى تكون حياتنا مطابقة لحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سره وسيرته، وعباداته ومعاملاته، ومعاشراته وأخلاقه، وسائر أحواله كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. فالمقصود صفات الرسول لا ذات الرسول، وأعمال الرسول لا ذات الرسول، والناس يتأثرون من الصفات والأخلاق، لا من الأبدان والذوات. فكل إنسان له ذات، لكن ليس مع كل إنسان الصفات والأخلاق العالية، وإنما فضل الله المسلم على غيره بالإيمان والأعمال الصالحة والصفات العالية، لا بالذات أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الجاه، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. والصفات التي يحبها الله، والأعمال التي يحبها الله، والأقوال التي يحبها الله،

أظهرها الله في الأنبياء، وأكملها في حياة سيد الأنبياء والمرسلين، فعلينا التخلق بها، ودعوة الناس إليها. فإذا جاءت فينا الصفات والأعمال التي يحبها الله كان الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج لأحد سواه، فلا نرجو إلا إياه، ولا نخاف إلا منه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نستعين إلا به، ولا نسأل إلا إياه، وهو مولانا وناصرنا: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. ثم ننظر ونتفكر في العالم البشري .. وفي العالم الإسلامي .. وفي العالم الجاهلي .. لنعرف حجم العمل .. وحجم التقصير .. ونعلم مساحة الكفر .. ومساحة الإسلام .. ومقدار العدل .. ومقدار الظلم .. وحجم الصلاح .. وحجم الفساد في الأرض، ونضع العالم بين أيدينا وأمام أعيننا، ونجعل ذلك همّ قلوبنا، وشغل أبداننا، فنحن مسؤولون عن إبلاغهم الدين ومأمورون به كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه (¬1). وقد بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، وهذا الدين رحمة للعالمين، وهو حق لكل إنسان في العالم، لا بدَّ من أدائه إليه وإيصاله له، واسماعه إياه، ودعوته إليه. إن حجم المسؤولية كبير واسع، طويل الأمد، فلا بدَّ من الفكر والعلم والعمل، وتصور أحوال الأمم في الأرض: فكم قارة في العالم؟ .. وكم بلد في العالم؟ .. وكم مدينة في العالم؟ .. وكم قرية في العالم؟ .. وكم بيت في العالم؟ وكم إنسان في العالم؟ .. وكم كافر في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، واللفظ له، ومسلم برقم (1679).

العالم؟ .. وكم مسلم في العالم؟ .. وكم جاهل في العالم؟ .. وكم غافل في العالم؟ .. وكم ضال في العالم؟ .. وكم تائه في العالم؟ .. وكم محتار في العالم؟. وكم مشرك في العالم؟ .. وكم مبتدع في العالم؟ .. وكم مطيع لله في العالم؟ .. وكم عاص لله في العالم؟ .. وكم ظالمٍ في العالم؟ .. وكم من مظلوم في العالم؟ .. وكم من فاسق في العالم؟. وكم داعٍ إلى الحق في العالم؟ .. وكم داعٍ إلى الباطل في العالم؟ .. إن هذه الأمم والشعوب والأفراد، والقارات والمدن والقرى، كلها تحتاج إلى رسالتين: الأولى: (لا إله إلا الله) لإصلاح قلوبها بالإيمان واليقين والتوحيد. الثانية: (محمد رسول الله) لإصلاح أبدانها وعباداتها ومعاملاتها ومعاشراتها وأخلاقها، فلا بدَّ من الحركة والقيام والجهد والتضحية والسير في الأرض لنعرف حجم المرض الكبير الذي تفشى في البشرية، وهو الشرك والكفر والمعاصي والفواحش، والإثم والبغي والظلم والفساد. ثم نقوم فوراً بعلاج هذا الداء الذي عمَّ وطمَّ، بالدعوة إلى الله، ليعود الناس إلى ربهم، ويتوبوا إليه، ويؤمنوا به وحده لا شريك له. فقد جاء الباطل في حياة الأمة لأنهم تركوا الدعوة إلى الله، فجاءهم من يدعوهم إلى الباطل، ويقول لهم إن السعادة والنفع والضر في المخلوقات والأشياء، وأن المخلوق يفعل ما يريد، وله أن يقضي حياته كالبهائم كيف شاء، وهذه دعوة الباطل، وهي توجب غضب الرب، وتمنع نزول النصر، وتسبب الشقاء، وتحول بين المرء والسعادة. أما دعوة الحق فهي أن نعلم أن الله هو الخالق وحده، وهو الفعّال لما يشاء، وهو الذي بيده كل شيء، وما سواه مهما كان ليس بيده شيء، فله سبحانه الخلق والأمر وحده، لكن الله عزَّ وجلَّ يفعل من وراء الأسباب. فذاته وقدرته سبحانه مغيبة وراء الأسباب ابتلاء وامتحاناً، وبسبب ضعف

الدعوة ضعف الإيمان فجاء اليقين على المخلوقات والأسباب، وصار تعامل الناس معها بدون اللجوء إلى الله سبحانه، فأصابهم بسبب ذلك التعب والشقاء. فكل من لم يرض بالتوجه إلى رب الأسباب وكله الله إلى الأسباب وأذله بها، ثم عاقبه على ذلك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. فالله عزَّ وجلّ هو الفعال وحده لا شريك له، ولكنه أخفى قدرته وراء الأسباب امتحاناً وابتلاءً للعباد. فالله عزَّ وجلَّ بحكمته وعلمه يفعل ما يشاء، ويظهر ما يشاء، ويخفي ما يشاء، وقد أظهر سبحانه أربعاً، وأخفى أربعاً: أظهر المخلوقات وأخفى نفسه .. وأظهر الدنيا وأخفى الآخرة .. وأظهر قيمة الأشياء .. وأخفى قيمة الأعمال .. وأظهر الأبدان والأجساد وأخفى الأرواح والعقول. والأمة إذا تركت الدعوة إلى الله أصيبت بآفتين: ذهاب الدين من حياتها تدريجياً حتى لا يبقى منه إلا بعض الشعائر والآداب .. وصار اليهود والنصارى أئمتها في أمور حياتها كلها. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرفوا حقيقة الإيمان، وقاموا بالدعوة، صار إمامَهم إمُام الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحوالهم، فسعدوا وأسعدوا، فرضي الله عنهم ورضوا عنه. وكل إنسان يملك ثلاثة جواهر: النفس .. والمال .. والوقت .. وقد جاد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الثلاثة، وبذلوها للدين، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. وبجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعه خرج كثير من الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن البدعة إلى السنة، ومن

الضلال إلى الهدى، ومن غضب الله إلى رحمة الله ورضاه. وجهد الدعوة لا يؤتي ثمرته حتى يكون حسب ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فكر وقول، وعمل وأخلاق. فأول ما دعا عليه الصلاة والسلام إلى الله اجتهد على ثلاثة أصناف من الناس: الرجال، والنساء، والأطفال. فأول من استجاب له من الرجال أبو بكر - رضي الله عنه -. وأول من استجاب له من النساء خديجة رضي الله عنها. وأول من استجاب له من الأطفال علي - رضي الله عنه -. فآمنوا بالله ورسوله، ولازموا رسول الله يتعلمون منه، ويقتدون به، وأول ما انتقل إليهم منه جهد الدعوة قبل العبادة، فقاموا به خير قيام قبل نزول الأحكام. وما قاموا به هو ما تعلموه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان واليقين وذلك بالدعوة إلى الله لنقل فكر الناس من اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق وحده .. ومن اليقين على الأموال والأسباب إلى اليقين على الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن العادات والتقاليد الجاهلية .. إلى السنن والأحكام الشرعية .. ومن عمارة الدنيا إلى عمارة الآخرة .. ومن الشرك والكفر .. إلى الإيمان والتوحيد .. وأهم أعمال الأنبياء والرسل الدعوة إلى الله، بالجولة على الناس وزيارتهم، وغشيانهم في مجالسهم وبيوتهم لدعوتهم إلى الله. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغشى الناس في مجالسهم، ويذكرهم بالله، ويدعوهم إليه، ويتلو عليهم القرآن. وكان - صلى الله عليه وسلم - يتجول في سوق ذي المجاز على الناس ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ الله تُفْلِحُوا» قَالَ: وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَتَتْرُكُوا اللاَّتَ وَالْعُزَّى.

قَالَ: وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد (¬1). وفعل فِعْله أصحابه في مكة، وفي المدينة، وفي الحضر والسفر، وفي الليل والنهار، وفي البيوت والأسواق. وأمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يذهبا إلى فرعون لدعوته إلى الله بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43،44]. وكان همُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير فكر الناس من الشرك إلى التوحيد .. وتغيير القلوب .. وتغيير اليقين .. وتغير العمل .. وتغيير البيئة .. وتكميل الإيمان والأعمال الصالحة. وليس همه تغيير الأشياء، ولا جمع الأشياء، ولا الفكر في الأشياء، ولا اتباع الشهوات والملذات. وقد أمر الله عزَّ وجلّ رسوله بأربعة أشياء: أن يتعلم الوحي .. وأن يعمل به .. وأن يعلمه .. وأن يقيم الناس عليه. وهذه المسؤوليات انتقلت إلينا بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبالدعوة يأتي الإيمان، وإذا جاء الإيمان جاءت الرغبة في الأعمال والطاعات، والنفرة من المعاصي والمنكرات، ولما ضعف الإيمان والعمل بالدين في عهد نوح أرسل الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم -، فلما دعا الناس إلى الله جاء الإيمان والدين، فلما مات ضعف الإيمان ثم ضعفت الأعمال، وبقي العلم وحده فجاء الكفر. وهكذا كلما ضعف الإيمان والعمل بعث الله رسولاً يدعو الناس إلى ربهم، والعمل بشرعه، وهكذا بعث الله رسولاً بعد رسول، حتى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله فجاء الإيمان والدين في الأمة، ومن أول يوم أقام الأمة على الإيمان والدعوة إلى الله. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16603)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.

ووضع الشيء في غير موضعه ظلم، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه ظلم، وعدم أداء الأمانة ظلم، والمسلم عليه حق وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وله حق وهو دخول الجنة إذا أدى حق الله، وعليه واجب وهو الدعوة إلى الله، فالمسلم ميدانه الدعوة إلى الله، فإذا لم يستعمل نفسه في ميدانه ولم يؤد الأمانة فهو ظالم لنفسه ولغيره، والله لا يحب الظالمين. وجهد الداعي إلى الله نوعان: جهد على الكافر حتى يأتي عنده الإيمان. وجهد على المسلم ضعيف الإيمان ليقوى إيمانه، وتحسن أعماله، فإذا زاد إيمانه جاءت عنده الرغبة في الأعمال الصالحة كلها من عبادة، ودعوة، وتعليم، وحسن خلق وغيرها. والدعوة إلى الله على منهاج النبوة واجبة على كل مسلم بحسب ما لديه من الإيمان والعلم الشرعي، يدعو إلى الله، ويحيي السنن، ويميت البدع، وينصر الحق، ويخذل الباطل، ويكون قدوة لغيره، يفعل الخير ويدعو إليه، وينتهي عن الشر ويحذر منه. أما من يملك قسطاً من الحماس مع خلو من الفقه الشرعي، أو يقول فسد الزمان ويدعو إلى العزلة، أو من قعد يبكي وصلح في نفسه وأعرض عن آلام أمته، أو من رمى الناس بالكفر ويأس من الإصلاح، أو من قنع من الإسلام بالزهديات، وكف عن النزول في الساحات، وغشيان الناس في أماكنهم وأسواقهم، فهؤلاء وأمثالهم ومن في حكمهم بحاجة إلى دعوة وعودة إلى منهج النبوة؛ ليزول عنهم الخطر، وتنتفع الأمة بهم. أما من أعرض عن الدعوة وركض وراء المال والجاه، واتبع الشهوات وأضاع الأوامر، فهؤلاء نعوذ بالله من شرورهم. والدعوة والعبادة والتعليم أهم أعمال الدين، وحتى تكون مقبولة عند الله لا بدَّ أن تقوم على المحبة والإخلاص والمتابعة، فيجب دعوة الناس إليها باللين

والرفق والحكمة من غير تنفير، حتى تنشرح لها صدورهم، وترغب فيها نفوسهم، وتتحرك بها جوارحهم. وجميع الأمة عمال يعملون في دار الملك إلى أجل مسمى، فليحذروا معصيته في قصره، ومخالفة أمره في مملكته، فإن أخذه أليم شديد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. ومن أهم أصول الدعوة: أن يجعل المسلم هدفه في الدنيا عبادة الله، والدعوة إلى دينه، فيصلح نفسه بأوامر الله ورسوله، ويدعو الناس إلى ذلك. وأن يختار في إبلاغ دين الله لعباده الطرق النبوية التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرف أصحابه عليها، وعلمهم إياها، وأمرهم بها، من بذل المال والنفس والوقت لنشر دين الله، والتضحية بكل ما يملك من أجل إعلاء كلمة الله. وفي القرآن والسنة خيرات كثيرة، وكنوز مختلفة، وسير عبقة للأنبياء، فيأخذ الداعي منها ليفلح في دعوته، وأن يستمر في إبلاغ الدين والعمل به وتعليمه في أي حال ومهما كانت الأحوال، في الليل والنهار، وفي حال العسر واليسر، وفي حال الصحة والمرض، وفي حال الأمن والخوف، في البيت والسوق، وفي حال الإقامة والسفر، ولا تؤثر عليه التغيرات والتقلبات الجوية والمكانية والاجتماعية، ولا يعبأ بأي عارض أو معرض، أو كائد أو حاسد، فإن الله معه يسمع ويرى، وهو حامل رسالة الله إلى خلقه، فليؤد الرسالة، ويبلغ ما أمر به، والله يعصمه من الناس: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. وأن يستمر في دعوته، ويبلغ دين الله، ولا يأخذ على ذلك أجراً من أحد، فقد تكفل الله بأجرته، فعليه الصبر وانتظار العقبى الحسنة. وأن يجعل هذا الدين والعمل به والدعوة إليه مقصد حياته، ويواصل العمل

حتى يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فلا تفلت منه لحظة في غير طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162،163]. إن كل ما يراه الإنسان من ظاهرة التمسك بالكتاب والسنة، وحسن الاستقامة، والرغبة في الدين لدى بعض الناس، إنما ذلك ثمرة جهود العلماء والدعاة المخلصين، فلا نكتفي بالفرح والنظر إلى هذه الثمار الطيبة فحسب، بل يجب أن نقوم نحن بزرع بساتين جديدة كما فعلوا حتى يعم الإسلام أقطار الأرض، فتلك أمانة تحملناها، وحق علينا يجب أداؤه لكل إنسان، حتى يكون الدين كله لله. فالمسلم لو صام نهاره، وقام ليله، وقرأ القرآن كله في يوم، وتصدق بآلاف الريالات يومياً، فإنه لا يصل بعمله الفردي هذا إلى درجة ما يصل إليه الدعاة من الأجر والثواب. فالدال على الخير كفاعله، حيث ينال هؤلاء الدعاة أجور المدعوين الذين اعتنقوا الإسلام، أو رغبوا فيه واستقاموا عليه بتبليغهم إياه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (¬1). فالدعاة مشاركون في أجور مئات الألوف من المصلين، والصائمين، والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في أنحاء العالم من غير أن ينقص من أجور المدعوين شيء. وكما أن الله أمر بعبادته بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

فكذلك أمر سبحانه بالدعوة إلى دينه بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. فكما أن العبادة أمر الله فكذلك الدعوة أمر الله، وكل منهما يجب أداؤه، فالدين خطوتان: خطوة للعبادة .. وخطوة للدعوة .. وحركة في إصلاح النفس .. وحركة في إصلاح الغير. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإحسان منه لعباده، ولا يستطيع أحد أن يؤدي شكر هذه النعمة، فإن عمل العبد ينقطع بعد موته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم (¬1). ولكن الداعي إلى الله يستمر أجره وثوابه ما بقي وتناسل من دعاهم إلى الله إلى يوم القيامة، ولذلك قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. وكثير من المسلمين اليوم تركوا الدعوة إلى الله؛ لأنهم صاروا قانعين بالعمل الصالح، فنشأ من ذلك أن ضعف إيمانهم، ثم قلت طاعاتهم، وكثرت معاصيهم، حتى خرج بعضهم من الدين بالكلية، وتمرغ في الشهوات، وأعرض عن أوامر الله وشرعه، كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. والفرق بيننا وبين الصحابة ر ضي الله عنهم، أن الصحابة لما آمنوا رأوا الدين غالياً جداً، ورأوا الدنيا رخيصة جداً، فقدموا أوامر الدين على أوامر الكسب، واشتغلوا بزيادة الإيمان والأعمال الصالحة، فغزوا ورزقهم الله، وفتح لهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1631).

بركات السماء والأرض، ورضي الله عنهم، ورضوا عنه. واجتهدوا وبذلوا أنفسهم وأموالهم لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، فزاد إيمانهم، ونزلت الهداية على أهل الأرض. وكثير من المسلمين اليوم رأوا الدنيا غالية جداً، والدين رخيصاً جداً، فقدموا أوامر الكسب على أوامر الدين، واشتغلوا عما أراد الله منهم من الإيمان والأعمال الصالحة بما قسم لهم من الأرزاق، فحصل لهم الشقاء والتعب والذلة، بسبب الإقبال على المخلوق والإعراض عن الخالق وعن أوامره. وأفضل الأوامر {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2]. وبه يحيا الدين كله، والدعوة على الله أم الأعمال، وأوامر الدعوة إلى الله أول الأوامر، وأوامر الكسب آخر الأوامر، وإذا تعارض الأمران في وقت قدمنا أوامر الدعوة على أوامر الكسب. والصحابة رضي الله عنهم لما قدموا أوامر الجهد والدعوة على أوامر الكسب نقصت الأموال والأشياء، وبالمقابل زاد الإيمان وزادت الأعمال الصالحة. ونحن لما قدمنا أوامر الكسب على أوامر الدعوة جاء أمران: زادت الأموال والأشياء .. ونقص الإيمان والأعمال الصالحة، والصحابة لما قاموا بالدعوة إلى الله امتلأت قلوبهم بالإيمان وامتلأت بيوتهم بالأعمال الصالحة، وخلت من كثرة الأموال والأشياء، وانتشر الخير في العالم. ونحن لما تركنا الدعوة إلى الله، امتلأت بيوتنا بالأموال والأشياء، وأقفرت من الأعمال الصالحة إلا من رحم الله، وانتشر الشر في العالم، وأقبل الناس على سنن اليهود والنصارى يعملون بها ويدعون إليها. وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بأوامر الدين، فجاء فينا صفتان من صفات اليهود والنصارى: الأولى: الاهتمام بجمع الأموال، وهذا فيه تشبه باليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم.

الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات، وهذا فيه تشبه بالنصارى الذين ضلوا عن الحق وأضلوا الناس عنه، فغضب الله عليهم ولعنهم. والجهد موجود ومستمر إما للدنيا وإما للدين، وسبب الخسران الجهد في غير محله، واتباع الهوى وترك الهدى، وتقديم ما يفنى على ما يبقى، وإيثار الدنيا على الآخرة. وطريق الحق له علامات منها: المشي فيه بالمكاره .. وإثارة الشبهات والشكوك حول من يمشي فيه .. والاستهزاء به .. والسخرية منه .. وسب وشتم من يمشي فيه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52]. ومنها الابتلاء بالسراء والضراء .. والشدة والرخاء .. ليعلم الله الصادق من الكاذب .. ويعلم هل يشغله ذلك عن الحق والعمل به والدعوة إليه والصبر عليه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3]. ونشر الدين يتم بقول اللسان .. وحركة القدم .. وكتابة القلم .. وحسن العمل .. وحسن الأخلاق .. وبذل المال والنفس والوقت من أجل الدين .. وحسن التدبير .. وكثرة الدعاء .. وقوة اليقين .. وجهد الداعي نوعان: جهد على فاسد الأخلاق، وهذا سهل، وأهله أسرع انقياداً كمن يجتهد على الفساق ومن يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ونحوهم من أهل الشهوات بالترغيب في الجنة وما فيها من الشهوات، والترهيب من النار، وبيان عظمة الله، وذكر آلائه ونعمه ونحو ذلك، فإن القلوب تلين بالتذكير والوعظ فتقلع عن المعاصي، وتقبل على الطاعات، وترغب في التوبة. وجهد على فاسد الفكر، وهذا يحتاج إلى جهد أقوى كالجهد على أصحاب الأفكار الرديئة، وأهل الشبهات والأهواء ونحوهم.

فعلى جميع المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الله في جميع أوساط الناس، ويدعونهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والرحمة والشفقة، في جميع الأوقات، وفي سائر الأقطار. ويجتهدوا في دعوة سائر الناس: الراغبين والطالبين .. والشاردين والمعرضين .. والغافلين والجاهلين، ولا نشغل أنفسنا بمن يعارضنا ويؤذينا، بل ندعو الله لهم، ونحسن الظن بهم، ونرفق بهم، ونكون البيئة الصالحة التي تظهر فيها الأعمال والصفات والأخلاق وهم يأتون إليها، وإن يرد الله بهم خيراً يأت بهم كما جاءت الوفود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة منقادة طائعة راغبة في الإسلام من كل مكان. والله تبارك وتعالى يعلمنا بالمخالفين والمعارضين حسن الصبر، والتوجه إلى الله، فالبيئة المخالفة تربي الداعي وتزكي قلبه، وكلما زادت المعارضة زاد التوجه إلى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، فتأتي نصرة الله كما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الطائف من التكذيب فدعا ربه فاستجاب له. قالت عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قال: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِيَالِيلَ بْنِ عَبْدِكُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلا وَأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقال: إِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قال: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وأنا مَلَكُ الْجِبَالِ، وقَدْ بَعَثَني رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأمْرِكَ، مِمَّا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخْشَبَيْنِ؟ فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لا يُشْرِكُ

بِهِ شَيْئًا» متفق عليه (¬1). والداعي يدعو الناس إلى الله حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له. والعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، ويعرفهم بما أمر الله به من الطاعات ويرغبهم فيه، ويحذرهم عما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات. والدعوة إلى الله أعظم واجبات الدين، ولذلك فهي واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وبدأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل المسائل والأحكام؛ لأنها مسؤولية الأمة. وأعظم وظائف الدين: الفتوى .. والتذكير .. والدعوة. فالإفتاء: مسؤولية العلماء، فمن علم حكماً أفتى به. والتذكير: وهذا واجب على كل مسلم لإخوانه المسلمين كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]. والدعوة: وهذه واجبة على كل مسلم لعموم الناس. والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة بالدين الكامل لا ببعضه، بالإيمان والأعمال الصالحة، بالعبادة والدعوة، بالعلم والعمل. فالعابد فقط جهده على نفسه، وعنده عاطفة إنكار المنكر، والداعي جهده على نفسه وعلى غيره، وعنده عاطفة تغيير المنكر، ونقل حياة الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن طاعة هواه ونفسه إلى طاعة ربه ورسوله. والله عزَّ وجلَّ اجتبى هذه الأمة من بين الأمم، وتوَّجها بتاج الانبياء وهو الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3231)، ومسلم برقم (1795) واللفظ له.

وكثير من الناس رمى هذا التاج، وتَوَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، جمع الحطام واتباع الشهوات. والواجب على كل مسلم أن يتعلم شيئين: جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الدعوة .. وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الدين الكامل. وإذا كانت الدعوة موجودة في الأمة، وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست موجودة، فلا يكون في الدعوة فلاح، ولا تنزل هداية ولا نصر. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون للناس إذا دعوهم إلى الله: كونوا مثلنا؛ لأن حياتهم كانت مثل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك رضي الله عنهم وجعلهم نواة خير أمة أخرجت للناس. فهم خير القرون وخير الناس للناس كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. وهذا الفساد في الأمة سببه ترك جهد الدعوة، الذي يزيد الإيمان ويحرك الجوارح للطاعات، ويحجزها عن المحرمات، ويكون سبباً لنزول الهداية على الخلق، فإذا قامت الدعوة ظهر الحق، وبطل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وصار من الصالحين مصلحون، ومن الفجار أبرار، ومن الغافلين ذاكرون. ومدار جهد الأنبياء والمرسلين يقوم على أمرين: كيف يكون الله معنا .. وكيف الله يدخلنا الجنة. وللحصول على هذين الشيئين كان الأنبياء يقومون بأمرين: الأول: تعليق القلوب بالله، وذلك بالإيمان بالله سبحانه. الثاني: تعليق الأجساد بالله، وذلك بالعمل الصالح. فالعمل الصالح لا ينفع إلا إذا كانت هناك علاقة بالله، وهي الإيمان، والإيمان لا

ينفع إذا لم تظهر ثمرته على الجوارح، وهي العمل الصالح الذي جاء به الأنبياء، والأنبياء لا يدعون الناس لترك الأموال والأشياء، بل يدعونهم لاستعمالها حسب أمر الله ملكاً، أو جاهاً، أو مالاً، أو عملاً، وسليمان عليه الصلاة والسلام جعل الله على كرسيه جسداً يدبر ملكه فتنة، فلم يتوجه إلى الأسباب، ولكن توجه إلى الله واستغفر وأناب مع أن عنده الملك والمال، فأعطاه الله ما طلب منه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 34 - 39]. وإذا قمنا بهذين الأمرين الإيمان والأعمال الصالحة فالله عزَّ وجلَّ يعطينا كل شيء، البركة والعزة والخلافة، فالصحابة رضي الله عنهم لما سلموا القلب والجسد لله رضي الله عنهم وأعزهم، وجعل الأموال والممالك تحت أقدامهم. وكما أن للعبادات أصولاً وأوامر، فكذلك للدعوة إلى الله أصول وأوامر ومن أصول الدعوة: أولاً: أن ندعو كل إنسان إلى الله غنياً أو فقيراً، حاكماً أو محكوماً، ذكراً أو أنثى، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، وحسن القول، وحسن الخلق، وإنزال الناس منازلهم. ثانياً: ندعو إلى الله في كل مكان، في المدن والقرى، وفي الأسواق والبيوت وغيرها. ثالثاً: نقوم بالدعوة إلى الله في كل وقت ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، فالعبادة كالصلاة والصيام والحج لها أوقات، لكن الدعوة مشروعة كل وقت، وفي كل مكان، ولكل جيل. رابعاً: نقوم بالدعوة في جميع الأحوال، في حال الأمن والخوف، وفي حال الشدة والرخاء، وفي حال الغنى والفقر وهكذا، ولا نأخذ على ذلك أجراً لأن

أجرنا على الله. خامساً: نقوم بالدعوة إلى الله بصفة الإحسان فنتحلى بأحسن الصفات وندعو الناس إلى أحسن الصفات، ولا نسأل الناس أجراً كالشمس طبعها النور، وتعطي الناس النور بلا أجر. سادساً: ندعو الناس إلى الدين بالشفقة والرحمة، ونتحمل منهم كل أذى في سبيل إعلاء كلمة الله كالأم تعطي ابنها اللبن وتتحمل منه كل أذى. وإذا قام الداعي بالدعوة إلى الله بهذه الأصول تعرض للأذى، فعليه أن يصبر ويعفو، ولا يغضب ولا يجادل، ويكون هيناً ليناً رحيماً، ولا يكون فظاً غليظ القلب لئلا ينفر منه الناس. ويكون قدوة حسنة في صورته وسيرته وسريرته، يقلل من جهد الدنيا، ويكثر من جهد الدين، يدعو إلى الله وإلى القيام بأوامر الله وإلى طاعة الله ورسوله، ويكون أسبق الناس إلى ذلك. يعرض دعوته على الناس مع التواضع، ولا يحقر أحداً من الناس، ويدعو للناس بالهداية، ويحب للناس ما يحب لنفسه، يدعو الناس إلى الإيمان والأعمال الصالحة ويكون أسبقهم إليها، وأحسنهم أداء لها ومحافظة عليها. وكما أن للوضوء نواقض وللصلاة نواقض وللإسلام نواقض فكذلك للدعوة إلى الله نواقض. منها: الرياء وعدم الإخلاص ... ومنها بيع كلام الله ورسوله بالوظيفة أو الأجرة .. ومنها الدعوة إلى النفس وحب الشهرة .. ومنها حمية الجاهلية والعصبية كمن يدعو إلى حزب أو طائفة أو جماعة ولا يقبل الدعوة من غيره، والله أمرنا أن ندعو إليه، ولا ندعو إلى غيره. وكل من ترك أصول الدعوة، ودعا على هواه، ابتلي بخمسة أشياء: تزكية النفس .. الحرص على الجاه والمنصب .. احتقار الآخرين .. النظر في عيوب الدعاة إلى الله .. الإنفاق على شهواته وعدم الإنفاق على الدين.

وعبادة الله والدعوة إلى الله أهم الأوامر بعد الإيمان، فمن قام بهما حفظه الله وأسعده وجعله سبباً لهداية العالم. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع ليقيموا الصلاة، حيث أسباب الموت موجودة، وأسباب الحياة مفقودة، فحفظهم الله وأخرج من هذه الذرية سيد الأولين والآخرين، وخير أمة أخرجت للناس كما قال إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]. والله عزَّ وجلَّ أخفى في المجاهدة الهداية، وحصول البركات، والرزق الحلال، والحفاظة، والترقي في الدين كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وكل عمل له بداية ونهاية كالصلاة بدايتها التكبير ونهايتها التسليم، وكذلك الدعوة، فكما أن المسلم عليه الصلاة إلى أن يموت، فكذلك عليه الدعوة إلى الله إلى أن يموت. فالعبادة أعظم الأعمال، والدعوة أم الأعمال كلها، فإذا قامت الدعوة نزلت الهداية، وجاءت العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق العالية، وحصلت السعادة للعباد في الدنيا والآخرة. لقد اجتهد شياطين الإنس والجن على هذه الأمة ليحولوا بينها وبين ربها ودينها ومصدر عزها، فضربوها بثلاثة معاول: الأول: طرد حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسننه من حياة المسلمين، وترغيبهم في حياة اليهود والنصارى الذين غضب الله عليهم ولعنهم، وحياة البهائم الضالة، والشياطين المضلة الملعونة، وإشغالهم بالشهوات عن الأوامر. الثاني: طرد جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من حياة الأمة، ومحاربة العلماء والدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واتهامهم والتضييق عليهم، والقضاء

عليهم، وإماتة جهدهم حسياً ومعنوياً. الثالث: إحياء ومساندة الدعوة إلى الباطل، وإلى زينة الدنيا، وإلى تكميل الشهوات، وإلى جمع الأموال بأي وسيلة، وإلى الإنفاق على النفس لا على الدين، وإضاعة الأوقات والأموال في اللعب واللهو، وإشغالهم بتكميله وتحسين المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب. هذا جهد الباطل على الحق في كل زمان ومكان، وبسبب ترك الدعوة نال الأعداء ما نالوه من إفساد أحوال المسلمين وإضلالهم وصرفهم عن دينهم. والأم إذا فر منها ابنها تضطرب حتى يعود إليها، ونحن لا بدَّ أن نتفكر ونجتهد ونعمل لتعود الأمة إلى حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودينه وشرعه، وإلى جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله. والابن إذا كان مريضاً اضطرب أبواه حتى يشفى، وإذا أصيب جميع الأولاد بمرض خطير فماذا تكون حال أبويهم؟. لقد ابتلي كثير من المسلمين بمرض ترك الدين، وترك الدعوة إليه، فكيف يأتي عندنا الهم والفكر والعمل لإعادة الأمة لجهد الدعوة إلى الله، وإحياء أوامر الله في جميع الأمة، وفي جميع شعب الحياة؟. والأمة الآن أصابتها أمراض خطيرة وكبيرة وكثيرة جداً، غيرت صورتها وبدلت سعادتها شقاء، وأمنها خوفاً، وعزها ذلاً، فلا بدَّ من الدعوة والدعاء في جميع الأوقات والأحوال حتى تعود الأمة إلى الله وإذا قامت الأمة بالدعوة إلى الله ظهر الحق، وانتشرت الفضائل في العالم، وإذا تركت الأمة الدعوة واشتغلت بالدنيا ظهر الباطل وانتشرت الرذائل في العالم. والخير والشر الموجودان في العالم إنما هما ثمرة حركة الناس في العالم رجالاً ونساءً، إن تحركوا بخير انتشر الخير في العالم، وإن تحركوا بشر انتشر الشر في العالم. وكثير من المسلمين يعرفون أحكام الدين، ولا يعرفون أوامر جهد الدين وهي

الدعوة؛ لأنهم يشعرون أنهم غير مسئولين ولا مكلفين بالدعوة، وإنما هي واجب العلماء منهم. وهذا من الجهل الذي عمَّ وطمَّ، وانتشر بسببه كل شر وبلاء وفساد، فإن الدعوة واجبة على كل مسلم كما أن الصلاة واجبة على كل مسلم. كما أن أوامر الصلاة لا تتغير فكذلك أوامر الدعوة لا تتغير، وقد أكمل الله لنا ذلك وبينه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وسلاح الدعوة الأخلاق العالية، فنكرم كل أحد، ونتحمل الأذى من كل أحد، ولا نجرح أحداً، وندعو لكل أحد بالهداية، وندعو جميع طبقات الأمة إلى الإسلام، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام: فأسلم أبو بكر من الرجال، وعلي من الصغار، وزيد من الموالي، وخديجة من النساء، وشعر كل واحد من هؤلاء أنه مسئول عن الدعوة إلى الله من أول يوم. فأبو بكر - رضي الله عنه - اجتهد على الخواص والأغنياء فدعاهم إلى الله فأسلم منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة. وعلي - رضي الله عنه - اجتهد على أقرانه، وعلى الزائرين إلى الحرم لأنه من أهل البيت. وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - اجتهد على أقرانه من العبيد والمماليك. وخديجة رضي الله عنها اجتهدت على النساء، فأسلم على يديها فاطمة بنت الخطاب التي كانت سبباً في إسلام أخيها عمر، وأسلمت على يديها سعدى بنت كريز التي كانت سبباً في إسلام عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكلاهما من الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة. وإذا بذلنا للدين ما نستطيع، الله يرزقنا وييسر لنا ما لا نستطيع، كما أنزل الملائكة يقاتلون مع المؤمنين في بدر، وأرسل الريح والجنود على الأحزاب، ونصر أولياءه وخذل أعداءه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25]. وكما نتفكر لحل مسائل الدنيا، كذلك يجب أن نتفكر لحل مسائل البشرية في

الدنيا والآخرة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وهدايتها إلى الصراط المستقيم الموصل إلى النعيم المقيم. وكلما جاءت علينا الأحوال والمسائل والمشاكل في مجال الدعوة لا ننظر إلى الأحوال، بل نتوجه إلى الله بالدعاء، ونقدم الشكوى إليه، فهو الذي بيده تغيير الأحوال، وبيده النصر والتمكين. وننظر مع ذلك إلى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماذا فعل في تلك الحال؟، وبماذا أمر؟. كما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفار في بدر في قلة من المؤمنين، وقلة من العدة، ومخالفة الأحوال، فنصره الله وخذل أعداءه وأمده بجند من الملائكة وكما أنفذ أبو بكر جيش أسامة مع مخالفته للأحوال التي أعظمها موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكما أخرج أبو بكر الجيوش لحرب المرتدين مع مخالفته في الظاهر لتلك الأحوال .. وهكذا .. وقبل ذلك وعلى ذلك سار الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، فالله مع الأنبياء وأتباعهم يحفظهم ويؤيدهم وينصرهم. فالنمرود لما جمع الحطب لإحراق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وألقاه في النار، كان مع إبراهيم كمال الإيمان والتقوى، فلم يلتفت للنار ومن أشعلها، بل توجه إلى الله الذي بيده كل شيء أن ينجيه، فأنجاه الله من النار، ولم يتوجه إلى الأسباب والمخلوقات، بل توجه إلى الله مباشرة، فوجه الله النار بأمره مباشرة أن تحفظه ولا تضره كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68،69]. والامتحان الآخر: أن الله أمر إبراهيم أن ينقل بعض أسرته، هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، ويضعهم بوادٍ غير ذي زرع حيث أسباب الهلاك موجودة، وأسباب الحياة مفقودة لأمر يريده الله، فامتثل إبراهيم أمر ربه، وأسكنهم بواد غير ذي زرع، وراح وتركهم فحفظهم الله، وساق الناس إليهم، وأنبع الماء لهم، وجبى لهم الثمرات من كل مكان.

وأكرم سبحانه خليله إبراهيم بأن جعله إماماً للناس، وجعله أمة في العبادة والدعوة، وجعل الأنبياء من بعده من ذريته، فهو أب الأنبياء وخليل الرحمن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]. والامتحان الثالث: أن الله عزَّ وجلَّ أمر إبراهيم لما بلغ ابنه إسماعيل السعي أن يذبحه كما قال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 101 - 106]. فاستسلم إبراهيم لذبح ابنه، وسلم إسماعيل رقبته للذبح، وكان قضاء الله أن يباشر الأب ذبح الابن؛ لأعلان كمال الطاعة والانقياد لأمر ربه مع مخالفته للطبيعة والأحوال. فحفظه الله وحفظ ابنه وأبقى إسماعيل، وأخرج من نسله سيد المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين. فما أعظم هذا البلاء، وما أعظم تلك الطاعة .. وما أعظم ذلك التسليم والانقياد لأمر الله. والله عزَّ وجلَّ أعطى الأنبياء الدين وجهد الدين، وأعطى محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمته الدين وجهد الدين. وأول الأوامر بعد التوحيد والإيمان هي أوامر الدعوة في مكة، ثم جاءت أحكام ومسائل الدين في المدينة .. وتفصيل أصول الدعوة والدعاة إلى الله من النبيين والمرسلين، وما واجهوه من أقوامهم فصله الله في القرآن، وهو من أول ما نزل، وهو غالب سور القرآن.

وتفصيل أحكام الدين بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفصلها في السنة النبوية بعد الهجرة إلى المدينة كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوها. وأول الشهداء شهداء الدعوة في سبيل الله كما حصل لسمية وياسر وغيرهم في مكة قبل الهجرة وقبل مشروعية القتال في سبيل الله. فالتوحيد والإيمان والعبادة والدعوة هي أعظم حقوق الله على عباده فيجب تذكيرهم بهذه الحقوق جميعاً في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الأحوال كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. وأعظم أصول الدعوة: نفي المخلوق واثبات الخالق الذي بيده كل شيء. ونفي جميع الطرق وإثبات طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال والأعمال. وتوجيه الناس من الدنيا إلى الآخرة .. ومن العادات والتقاليد إلى السنن النبوية .. ومن تكميل الأموال والشهوات إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب .. ومن جهد الدنيا إلى جهد الدين .. ومن جهد غير الرسول إلى جهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وندعو إلى الله بيقين النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذات الله وأسمائه وصفاته. ونجتهد على الناس بنية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهداية العالم كله إلى يوم القيامة. ونقوم في جميع الأحوال بأعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - حيثما كنا. ونؤدي جميع الأعمال بطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا نفعل إلا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمر به أو أقره أو شرعه. فإذا فعلنا ذلك وقمنا بالدعوة بهذه الأصول الأربعة: يقين النبي .. ونية النبي .. وأعمال النبي .. وطريقة النبي. جاء الابتلاء من الله لتكميل تربية العبد، وامتحان صدقه وصبره كما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الجوع والخوف والأذى، والسب والشتم والاستهزاء،

والمكر والكيد وغير ذلك. فلما صبروا لله واستقاموا على دينه، وتوكلوا على ربهم، وامتثلوا أوامره، بدل الله أحوالهم، وأذهب عنهم الجوع والخوف والمرض، وأعزهم ونصرهم، واستخلفهم في الأرض، وخذل أهل الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأكمل الله الدين، وأتم النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فخلف هذه الأمور الأربعة من العباد .. أربع كرامات من رب العباد وهي: نصرة الله عزَّ وجلَّ .. والتمكين في الأرض .. ونزول الهداية .. والفوز بالجنة والنجاة من النار. فدين الإسلام عند الله عظيم، ومكانة المسلم كذلك عند الله عظيمة. ومسؤولية المسلم تجاه الدين عظيمة، والواجب على كل مسلم ومسلمة أربع مسؤوليات: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. وإبلاغ الدين. فتعلم الدين والعمل بالدين للإنسان نفسه، ليعرف المسلم شرع ربه، ويقوم بامتثال أوامر الله ورسوله، ويؤدي ذلك بعلم، وتعليم الدين والتذكير بمواعظه لعموم المسلمين ليفعلوا الطاعات ويجتنبوا المعاصي. وإبلاغ الدين حق واجب على المسلم يؤديه لعموم الناس ليدخلوا في الدين وتقوم عليهم الحجة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الكفار ليهتدوا ويدخلوا في الإسلام، وعلى المؤمنين بالتذكير والتعليم والوعظ ليستقيموا على أوامر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وقال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].

وجهدنا الآن ينبغي أن يكون على المسلمين أولاً لتكون حياتهم كحياة الأنبياء والصحابة، وأخلاقهم كأخلاق الأنبياء والصحابة، ويقينهم كيقين الأنبياء والصحابة، وهذا تذكير لا تبليغ. فإذا قامت الأمة على الجهد، واستقامت على أوامر الله، وجاءت فيها الصفات التي يحبها الله، والأعمال التي أمر بها الله، سهل عليها تبليغ الدين للناس كافة بالأقوال والصفات والأعمال كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. وبسبب ترك الدعوة حلت بالمسلمين المصائب، وكثرت المعاصي، وظهرت فيهم صفات اليهود والنصارى، فارتد بعضهم عن الإسلام، وولى الدين ظهره، واتبع سنن اليهود والنصارى الذين حذرنا الله منهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100، 101]. وأول ما خرج من الأمة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته .. ثم خرجت طاعة الله ورسوله، وجاءت طاعة النفس والشيطان والكفار .. ثم خرج الدين من حياة جمهور كبير من المسلمين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما علم الأمة بعد التوحيد والإيمان أوامر الجهد للدين والدعوة إليه في مكة من أول يوم، ثم علمهم في المدينة بعد الهجرة أحكام الدين. ولكن الأمة الآن نسيت وتركت الجهد للدين، وجهلت أوامر الجهد التي فصلها الله في القرآن في قصص الأنبياء، وبينها الرسول عملياً ففقدت الدين وأقبلت على الدنيا: تجمع الأموال .. وتتمرغ في الشهوات .. وتضيع الأوقات باللهو واللعب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أصول دعوة الكفار بالترتيب: الدعوة إلى الله .. فإن لم يستجيبوا طالبناهم بالجزية .. فإن أبوا قاتلناهم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ... ِإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ، إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم (¬1). والصحابة رضي الله عنهم كانت أمامهم الدعوة إلى الله أصالة، فإذا لم يقبل الناس الدعوة طالبوهم بدفع الجزية، فإن أبوا قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ثم جاء بعد من قدم القتال على الدعوة فخاف الملوك والكفار، ورفعت النصرة من الله، فتوجهت القلوب إلى الأسباب والأشياء، وصار المسلمون كالكفار في الاعتماد على الأسباب فغلب من أسبابه أقوى. وصار المسلمون الآن أذلة لتغير اليقين والترتيب وكثرة المعاصي والذنوب، وقوة أسباب الأعداء، ولا يرفع الله عنهم هذا الذل حتى يرجعوا إلى الدين ويستقيموا عليه ويدعوا إليه كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1730).

ومسؤولية الأنبياء وأتباعهم أعظم مسؤولية، فالرؤساء والعامة يتفكرون للأحوال الدنيوية وحلها قبل الموت. بينما فكر الأنبياء كيف تصلح أحوال البشرية كلها قبل الموت وبعد الموت. وإذا كان العالم سبب لبقاء أعمال الدين، فإن الداعي سبب لبقاء الدين، فبسبب ترك تعليم الدين انتشرت في الأمة البدع، وعم الجهل، وصار كثير من المسلمين يقترف المحرمات، ويترك الطاعات، ويعبد الله على جهل وضلال، فهذا تقصير العالم. وبسبب ترك الدعوة حلت بالأمة عقوبات ومصائب، وتسلط أهل الشر والباطل، فأقفلت كثير من المساجد، والتي لم تقفل عطلت عن أعمال المسجد من العبادة والدعوة والتعليم، وبقيت مكاناً تؤدى فيها الصلاة ثم تقفل. وملئت الأسواق بالسلع، وأماكن اللهو بالملاهي، وأماكن اللعب بالألعاب، وغشى الناس أسواق الفساد والشهوات وأماكن اللهو واللعب، واشتغلوا بالدنيا عن الدين، رجالاً ونساءً، ليلاً ونهاراً. وخلت كثير من المساجد من جهد الدعوة إلا ما رحم ربك، فأغلقت إلا لصلاة فريضة، ولما خلت المساجد من الأعمال تبعتها البيوت فصارت خالية من الأعمال إلا ما رحم ربك، مملوءة بالأشياء المباحة والمحرمة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. خلت المساجد من حلقات الذكر والتعليم، والشورى والتفكر لهداية البشرية، وخلت البيوت كذلك وجلس الناس مجالس الغيبة والنميمة .. واللهو واللعب .. وتكميل شهوات النفس. وتشاوروا ماذا يأكلون؟، وماذا يبنون؟، وماذا يعملون؟، وكم يربحون؟. وصاروا يتعلمون ما يقيمون به دنياهم، وتتلمذ كثير منهم على أيدي من غضب الله عليهم ولعنهم من اليهود والنصارى، فجاؤوا بحياة اليهود والنصارى وأفكارهم وأعمالهم، ووضعوها في صحن الإسلام وسفرته، ودعوا الناس

إليها باسم العلم، فقعد الناس عليها وهم مطمئنون، يتلذذون بطعمها وحلاوتها، ولو كانت تغضب الله، وتوجب لعنته، وتجلب سخطه، وتسبب عقوبته: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. وصار الفكر والعمل عند هؤلاء بالإجماع كيف تزيد الأموال والأشياء، لا كيف يزيد الإيمان والأعمال، وماذا يريد الناس لا ماذا يريد الله. وصارت حياة اليهود والنصارى وسائر الكفار تنقل إلينا، بل تفرض علينا، وحياتنا وديننا لا تنقل إليهم، ولا تعرض عليهم. وبدأ كثير من المسلمين يخرجون من الدين بسبب ضعف الإيمان واليقين، وقلة العلماء والدعاة والمصلحين، والكفار ينفرون من الدين، فزادت الدنيا ونقص الدين، وتعلق كثير من الناس بالمخلوق، وأعرضوا عن الخالق ودينه وشرعه. وإذا قامت الدعوة فتحت أبواب الدخول في الدين، وإذا فقدت الدعوة فتحت أبواب الخروج من الدين، وبدأ يخرج اليقين من الإيمان والأعمال، إلى اليقين على الأموال والأسباب والأشياء. وإذا قامت الدعوة إلى الله فتحت مداخل الخير كلها، فيدخل الإيمان واليقين والإخلاص، ويدخل الصبر والعفو والإحسان، وتدخل الرحمة والشفقة والتقوى، ويدخل الكفار والعصاة في الهداية والطاعة .. ويجتمع الناس على الحق والهدى. وإذا لم تقم بالدعوة فتحت مداخل الشر كلها، فيدخل كل شر بكل لون، في كل وقت، ولكل نفس، وإذا دخل كل شر خرج كل خير، فيخرج من الإنسان كل شيء جميل. يخرج الإيمان واليقين والتقوى، والأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، حتى في النهاية يخرج الناس من دين الله أفواجاً كما دخلوه أفواجاً.

والفقه في الدين والإنذار بالدعوة متلازمان، ومن غلب هذا على ذاك، أو ترك هذا من أجل ذاك، فقد ضل عن الصواب، وكان كمن له رِجلٌ أطول من الأخرى، فلا يستقيم له المشي: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. وقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15]. والله تبارك وتعالى بحكمته ابتلى عباده الذين يدعون إلى الله بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع، وله من الكلام والدعوة ما يناسبه: الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً كاليهود، أو عرف الحق وضل عنه كالنصارى كما قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. الثاني: الرؤساء وأهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يقيدهم بأوامره، ويمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه، كما قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. الثالث: الذين نشأوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق وهم على باطل، وهؤلاء هم الأكثرون: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} [الصافات: 69، 70]. وهؤلاء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. والدعوة إلى الله كما أنها مسئولية الأمة كلها فهي كذلك حاجة الأمة كلها،

فالدعوة إلى الله سبب للهداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والدعوة إلى الله أمان للأمة من العذاب والهلاك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117]. وكما أن العبادة أمر الله يجب امتثاله من كل مسلم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]. فكذلك الدعوة أمر الله يجب القيام به من كل مسلم كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وعلى الداعي حين يقوم بالدعوة إلى الله أن يتعرف على المدعوين، وأن يراعي أحوالهم، فالله سبحانه جعل مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، والناس ثلاثة أقسام: الأول: من إذا عرض عليه الحق اعترف به واتبعه، فهذه يدعى بالحكمة بحسن بيان الحق ومقاصد الشرع. الثاني: من إذا سمع الحق اعترف به، لكنه لا يسرع لقبوله والعمل به، فهذا يحتاج مع البيان إلى الموعظة الحسنة بالترغيب في الجنة، والتحذير من النار، ليعلم ثواب الطاعات فيقبل عليها، ويعلم عقوبة المعاصي فيحذر منها، وينشرح صدره للعمل الصالح. الثالث: من إذا عرض عليه الحق لا يعترف به ولا يقبله، بل يرده بالشبهات، فهذا يجادل بالتي هي أحسن حتى تزول شبهته. وقد بين الله ذلك كله بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125].

والدين لا ينتشر ولا يحفظ إلا بأمرين: الدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيل الله. فالدعوة أولاً لعموم الناس، ثم الجهاد في سبيل الله لمن عاند وأبى إلا الكفر أو آذى المسلمين أو اعتدى عليهم كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. وهذا واجب المسلمين في كل زمان ومكان، فاتباع المهاجرين والأنصار ليس فقط بأداء العبادات وترك المحرمات. بل يكون مع ذلك الاقتداء بهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40]. وجميع طبقات الأمة محتاجون إلى الدعوة إلى الله: فالكفار والمشركون يُدعون إلى الدخول في الإسلام والخروج من الكفر. والمبتدعة والعصاة يُدعون إلى الله ببيان أحكام الدين الصحيحة، والترغيب في الأعمال الصالحة، والترهيب من الأعمال السيئة لعلهم يتوبون. والعباد يحتاجون إلى الدعوة ليزيد إيمانهم، ولتحسن أعمالهم، ولتتحرك قلوبهم لدعوة غيرهم. والعلماء يحتاجون إلى الدعوة ليعملوا بعلمهم، وينشروا علمهم في الأمة. وعامة المؤمنين يدعون إلى الله ليزيد إيمانهم ويكمل، فيتوبوا من ذنوبهم، ويحسنوا أعمالهم، ويحفظوا إيمانهم لئلا ينقص. فليس أحد يستغني عن الدعوة إلى الله والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح والإرشاد، لا المؤمن ولا الكافر، ولا العالم ولا الجاهل، ولا المطيع ولا العاصي. وكل يدعو بحسب حاله .. وكل يُدعى بحسب حاله. وإذا قمنا بالدعوة إلى الله يجب أن نخرج من قلوبنا عاطفة الانتقام من الناس

مهما فعلوا بنا وآذونا. فالمريض إذا زاد مرضه واشتد أحياناً يضرب الطبيب الذي يعالجه، والطبيب يشفق عليه ويواصل علاجه، ويسهر من أجله. وهكذا أعداء الأنبياء وأعداء المسلمين بسبب شدة مرضهم وجهلهم يسبون الأنبياء والدعاة والمسلمين ويؤذونهم ويقاتلونهم، والأنبياء وأتباعهم كلما زاد الأعداء في أذاهم زادوا شفقة عليهم، ودعوا الله لهم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. ولما كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تَوَّجها الله بتاجين: أحدهما: صفة الأمة: وهو تاج الإيمان، والعبادات، والمعاملات والمعاشرات والأخلاق. الثاني: عمل الأمة: وهو تاج الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح للخلق. والأمة إذا تركت الدين فقد قطعت صلتها بالله، وأحلت بنفسها عقاب الله .. وإذ تركت الدعوة إلى الله خرج الدين من حياتها، وجاء الفساد في الأمة وفي العالم كله .. وانتشر الظلام مكان النور .. والشرك مكان التوحيد .. والمعاصي مكان الطاعات .. وأوجب ذلك غضب الله وسخطه ولعنته كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. وإن آفة أهل العلم والدعوة حين يقصدون بعملهم غير وجه الله من طلب مال أو جاه أو منصب، فحينئذ يصبح الدين حرفة وتجارة خاسرة لا عقيدة حارة دافعة. فهنا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، وينهون عن الشر ويقتحمونه، فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، وهم

يحسبون أنهم على شيء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]. وكثير من المسلمين يجهل أنه مكلف بالدعوة إلى الله، وبعضهم اكتفى بالعبادة عن الدعوة، وبعضهم اشتغل بالعلم وتعليمه، وبعضهم يؤدي العبادات، وجل وقته للشهوات، وبعضهم ليس معه من الدين إلا اسمه فلا عبادة ولا دعوة، والناس في ذلك طبقات ودرجات، ولكي يعرف كل إنسان ربه ودينه وأعمال رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويعرف أنه مسؤول عن الدين ونشره في العالم، ولكي يعود إلى ربه ويتوب إليه، ويحب دينه، ويرى جهد رسوله، لا بدَّ من تكوين بيئة صالحة يرى فيها المسلم أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: من العبادات والدعوة والتعليم والآداب والسنن القولية والفعلية، وحسن المعاشرات والأخلاق. فإذا دخل في هذه البيئة الصالحة زاد إيمانه، وتغير فكره، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، وترك المعاصي، وصار عابداً داعياً، معظماً لربه، ممتثلاً لأوامره، شاكراً لنعمه، محسناً إلى خلقه، كما حصل ذلك كله في المدينة في المسجد النبوي، وفي بيوت النبي، وفي بيوت أصحاب النبي، فكل من دخل تلك الأماكن تأثر بما فيها من الإيمان والأعمال، واكتسب السنن والأحكام والآداب، فعمل بها داعياً إليها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. ولا بدَّ من التدرج في إيصال هذه الأصول لكل إنسان، ولكل جاهل، ولكل ضال، ولكل عاص، ولكل معاند، ولكل مستكبر، فلما تكونت بيئة الإيمان والأعمال الصالحة في المدينة جاءت الوفود تعلن إسلامها وطاعتها لله ورسوله، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً. وعودة الناس إلى الدين والعمل به والدعوة إليه لها أصول، ويتم ذلك بما يلي:

التأليف .. ثم التعريف .. ثم التكليف. فنؤلف قلوب الناس بالثناء عليهم، وذكر محاسنهم، وإنزالهم منازلهم، ونهدي لهم ما يحبون، ونكرمهم ونحترمهم ونوقرهم، وبذلك يحبوننا، فيسمعون كلامنا، ويتأثرون بصفاتنا، ويرغبون في ديننا. ثم نبين لهم عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته ليعظموه، ثم نبين كثرة نعمه على عباده، وجميل إحسانه إليهم، خاصة هذا الدين الذي منَّ الله به على عباده، ليشكروه ويطيعوه ليزيدهم من فضله. ثم نبين حاجة البشرية الماسة للدين ليسعدوا في الدنيا والآخرة ثم نبين فضائل الدعوة إلى الله، وفضل الخطوات في سبيل الله، وجهود الأنبياء في نشر دين الله، ونرغب الناس في جهد الأنبياء. فإذا عرف الناس ذلك جاءت عندهم الرغبة في العمل بالدين والدعوة إليه، والصبر على ذلك. فإذا قام المسلم بالدعوة إلى الله زاد إيمانه، ونزلت الهداية على العباد، وجاءت عنده الرغبة في التضحية في سبيل الله بنفسه وماله، وأوقاته وشهواته، وبلده وأولاده، وكل ما يملك كما فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89]. ثم تأتي في قلبه رحمة الناس، والشفقة عليهم، والإحسان إليهم، والدعاء لهم، ثم يرى عياناً مظاهر رحمة الله لعباده، وفضله عليهم. وأهم أصول دعوة الأنبياء التي تنزل بسببها الهداية: الإيمان واليقين، والتقوى والإخلاص، والاستقامة على أوامر الله، والتوكل على الله، والصبر على كل أذى، والعفو والصفح، والرحمة والشفقة، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال، والقيام بالدعوة إلى الله، وعدم سؤال الناس

الأجرة عليها. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم يدعون إلى الله بالعزة؛ لعلمهم أن الله معهم وهو مولاهم، ويمشون بالانكسار والتواضع؛ لعلمهم أن الهداية بيد الله وأنهم لا يملكون شيئاً، ويرحمون الناس ويشفقون عليهم، ويرفقون بهم، لعلهم يهتدون فينجون من عذاب الله؛ لأنهم يعلمون ما لا يعلمون. ولم يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في معالجة تقاليد الجاهلية من خمر وزنى وميسر وربا من أول الأمر؛ لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة، فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها جهد ضائع. وإنما بدأ - صلى الله عليه وسلم - من شهادة أن (لا إله إلا الله). وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً في مكة، تم فيها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لسلطانه، وتذكير الناس بنعم الله على عباده، وبيان ثواب أهل الطاعة، وعقاب أهل المعصية، واطمأنت القلوب وأسلمت نفسها لله. حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، وجاءت فيهم محبة الله ورسوله ودينه، واستعدت نفوسهم للطاعة وتنفيذ أوامر الله، بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية وتفصيل أحكامها وأوقاتها ومقاديرها في المدينة. وعندئذ بدأت تنقية رواسب الجاهلية في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق. بدأت في الوقت الذي يأمر الله بأمر فيطيع العباد بلا جدال، بل نزلت أوامر الدين في المدينة كالمطر فاستقبلوها بالطاعة التامة، وتلذذوا بأدائها وتنفيذها، وقالوا سمعنا وأطعنا لله ورسوله؛ لأنهم أسلموا وجوههم لله، فلا يختارون إلا ما اختاره الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].

ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن .. وإما كافر .. وإما منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فلم يكن هناك منافق، ولم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في المدينة في قبائل الأنصار. فإن مكة كانت قبل الفتح بيد الكفار وهم زعماؤها، فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن، والمدينة آمن بها أهل الشوكة والزعامة، فصار للمؤمنين بها عزة ومنعة بالأنصار، فمن لم يظهر الإسلام من الكفار انكشف أمره، وبطل كيده ومكره، فظهر النفاق، واحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان وشعائره مع أن قلوبهم لم تؤمن: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101]. وجميع العبادات مركبة على الرخص، فبدل الوضوء التيمم عند الحاجة، والفطر بدل الصيام في السفر، وقصر الصلاة وجمعها في السفر، والصلاة للمريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب .. وهكذا. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6]. أما الدعوة فهي مركبة على العزيمة كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. وقال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. وحاجة البشرية للدين أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، بل أعظم من الهواء والتنفس؛ لأنهم بفقد الهواء والتنفس يفقدون الحياة الدنيا، وبفقد الدين

يخسرون الدنيا والآخرة، وأي خسران فوق هذا؟ {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119]. فلا بدَّ من الانتشار في الأرض لإبلاغ دين الله، ونشر السنن والأحكام بين الناس، ومقاتلة من يصد عن سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .. كما قال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]. ومن أجل ذلك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله في كل مكان، وعرض دعوته وما جاء به من الدين على أهل مكة .. وأهل الموسم .. وأهل الطائف .. وأهل المدينة .. وأنذر الناس كافة .. والعالمين قاطبة. وجاهد بنفسه، وغزا بنفسه، وأرسل البعوث والسرايا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وقمع المعتدين، ودفع عدوان الظالمين. وكذلك فعل الصحابة معه، ومن بعده، فساروا في مشارق الأرض ومغاربها دعاة إلى الله، مبلغين دين الله، معلمين سنن رسول الله، مجاهدين في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم. ومضوا في هذا السبيل داعين إلى الله، مجاهدين في سبيل الله، في مشارق الأرض ومغاربها، حتى مات أكثرهم في غير مكان مولده، فعلوا ذلك كله امتثالاً لأمر ربهم: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. فعقبة بن نافع مات في الجزائر .. وأبو لبابة في تونس .. وأبو أيوب الأنصاري في أسطنبول .. وأبو طلحة الأنصاري في جزائر الروم .. وقثم بن عباس في سمرقند .. وقتيبة بن مسلم الباهلي في فرغانة .. وعبد الرحمن الغافقي في فرنسا .. والنعمان بن مقرن في نهاوند .. وعلي بن أبي طالب في الكوفة .. والبراء بن مالك في تستر .. والحارث بن هشام في اليرموك .. وأبو عبيدة في الأردن .. وعبد الله بن رواحة في مؤتة .. وخالد بن الوليد في حمص .. وسلمان

الفارسي في المدائن .. وبلال في دمشق .. وأنس بن مالك في البصرة .. وجعفر بن أبي طالب في مؤتة .. وعبد الرحمن بن سمرة في خراسان .. وعمرو بن العاص في مصر .. وشرحبيل بن حسنة في الأردن .. وسهيل بن عمرو في الشام، وغير هؤلاء كثير. والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له عشرة أبناء، سبعة منهم قبورهم في بلاد شتى وولادتهم في مكة: الفضل في الشام .. وعبد الله في الطائف .. وعبيد الله في اليمن .. وقثم في سمرقند .. وعبد الرحمن ومعبد في إفريقيا. وحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع أكثر من مائة ألف، فلما قال لهم: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى لَهُ مِنْهُ» متفق عليه (¬1). خرجوا بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة الباطل من الأرض، وما دفن منهم في المدينة إلا ما يقارب عشرة آلاف، والباقون ماتوا مجاهدين مسافرين مبلغين لدين الله في أنحاء الأرض، فرضي الله عنهم أجمعين: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89]. وكانت الدعوة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة اجتماعية على كل فرد كالعبادة، ثم بقيت العبادة اجتماعية، وتحولت الدعوة إلى أفراد من الأمة، واقتصرت على قلة من الناس، فتأثرت عقيدة الأمة، وفسد يقينها، واهتز أمنها، وكثرت جراحها. فضعف الإيمان .. وبسبب ضعف الإيمان ضعفت الطاعات .. ثم ضعف العلم والذكر والتذكير .. ثم تأثرت الأخلاق .. ثم تغيرت المعاشرات .. وساءت المعاملات .. وتغيرت النيات. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67) واللفظ له، ومسلم برقم (1679).

ولم يقف الأمر عند هذا الحد من التأثر والنقص والضعف، بل أخذ مكان كل صفة ضدها عند كثير من المسلمين: فكان مكان قوة الإيمان ضعف الإيمان .. ومكان قوة الأعمال ضعف الأعمال .. ومكان حسن الأخلاق سوء الأخلاق .. ومكان الدعوة إلى الله الدعوة إلى الأموال والأشياء .. ومكان جهد الدين جهد الدنيا. حتى ظهر في الأمة من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف على كافة المستويات. وركب أكثر الأمة مراكب اللهو واللعب والغفلة والاشتغال بالدنيا كما هو واقع صريح في العالم الإسلامي، فضلاً عن العالم الجاهلي. واقتحم كثير من المسلمين المعاصي والفواحش علانية بلا مبالاة ولا خوف ولا حياء. فهل تُترك هذه الجراح تنزف المعاصي والذنوب والكبائر التي تغضب الله وتسبب سخطه، وتوجب لعنته، وتحل بنا نقمته؟ وهل تترك الأمة تسير وراء الشياطين والمجرمين بلا هدى إلى جهنم؟. وإذا كان العالم الآن ما يقارب سبعة مليارات إنسان، أكثرهم بلا إيمان ولا هدى، ويموت منهم يومياً أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان إلى جهنم؛ لأنهم كفار يعيشون كالبهائم والشياطين بلا هدى. فمن المسئول عن هؤلاء؟، ومن المسئول عن التقصير في دعوتهم إلى الله؟، وماذا خسرت البشرية لما قصرنا في إبلاغها الدين؟ إن مسؤولية البشرية كافة يتحملها المسلمون كافة، فقد اجتباهم الله، وأكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وأخرجهم للناس بأعظم دين، وأشرف وظيفة كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

إن لكل مسلم أخوين: أخ في الدين والنسب وهو المسلم .. وأخ في النسب لا في الدين وهو الكافر، ولكل منهما حق عليه. فحق المسلم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحق الكافر دعوته إلى الله، والعمل بشرع الله. والدعوة إلى الله واجبة على كل فرد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل هي أول واجب وأعظم واجب بعد الإيمان والعبادة على جميع الأمة وفي جميع الأحوال لكل الناس، فمن تركها وشغل نفسه بغيرها فهو آثم مقصر في وظيفته، ومسؤول عن تقصيره. والله عزَّ وجلَّ يحتج على الحكام والملوك إذا تركوا الدعوة بسليمان عليه الصلاة والسلام، فلم يشغله ملكه عن الدعوة إلى ربه. ويحتج سبحانه على الفقراء إذا تركوا الدعوة بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام. ويحتج على الأغنياء إذا تركوا الدعوة إلى الله بأغنياء الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم. ويحتج على المرضى إذا تركوا الدعوة إلى الله بأيوب - صلى الله عليه وسلم - .. وهكذا. والناس مختلفون في قدراتهم ووظائفهم فمنهم الملك، ومنهم الوزير، ومنهم التاجر، ومنهم الطبيب، وهذه الوظائف الصغرى وقتها قليل، ومنافعها محدودة، فلا تعطى كل الوقت وكل الفكر وكل العمل. أما الوظيفة الكبرى لكل مسلم ومسلمة مهما كان فهي مركبة من أمرين: الأول: عبادة الله .. الثاني: الدعوة إلى الله. ففي الأولى إصلاح النفس .. وفي الثانية إصلاح الغير. وكل عمل فيما سوى ذلك فهو خسران محقق على صاحبه كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. فهاتان النسبتان لازمتان لكل مسلم ومسلمة في جميع الأحوال. وقد قسم الله الغني الكريم أرزاق العباد، وجعل لها أسباباً دينية ودنيوية تنال بها، فطلب المعاش وكسب الرزق لا مانع منه، بل هو فريضة بعد أداء فرائض الدين. ولكن نقوم بالكسب بجوارحنا، ونعتمد على الله في حصوله بقلوبنا، فإن الله هو الرازق الذي لا رازق سواه. فنقوم بالكسب وفي قلوبنا دائماً العبودية لله، بامتثال أوامر الله في التجارة، والدعوة إلى الله في كل وقت. فالإسلام حق لكل فرد في الأمة، والناس محتاجون إليه، ولا بدَّ من عرضه عليهم، فالإسلام لكي يقبله الناس لا بدَّ من إحسان عرضه على الناس في مساجدهم وبيوتهم وأسواقهم عن طريق العبادات .. وحسن المعاملات .. وجميل المعاشرات .. وحسن الأخلاق. وبيان عظمة ربهم وجلاله ليعظموه .. وذكر نعمه وآلائه ليشكروه .. وتذكيرهم بإحسانه وفضله ليحبوه ويحمدوه .. وبيان شرعه وأحكامه ليتقربوا به إليه .. وذكر منازل أهل الطاعة في الجنة ليقبلوا على الطاعات .. وذكر منازل أهل المعصية في النار ليحذروا معصيته. وبيان الفضائل والسنن والآداب قولياً وعملياً ليعبد الناس ربهم على بصيرة .. ويقبلوا على طاعته محبين له معظمين له. وعلينا أن نتكلم مع الناس حسب عواطفهم وحاجتهم لا حسب عواطفنا، فكل من لزم عملاً أو سلك طريقاً هو في الغالب مقتنع به خيراً كان أو شراً. فالكافر والعاصي يبين له حسن عمله، ويبين له الأحسن منه، ويذكر بمحاسنه وجميل أفعاله، ويكرم ويدعى له، ويذكر بربه ونعمه. وبمثل هذه الأخلاق ينشرح صدره، ويتأثر قلبه، وينفتح عقله، فيستعد لسماع الحق وقبوله والعمل به والدعوة إليه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ

يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8]. وهل الدعوة إلا توجيه الناس إلى ربهم ودينه بالتي هي أحسن .. ونقلهم بالحكمة والرحمة من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن الباطل إلى الحق .. ومن القبيح إلى الحسن .. ومن الحسن إلى الأحسن. فالدعوة أم الأعمال، والعبادة من ثمراتها، والعبادة خاصة بالنفس، والدعوة عامة للبشرية، ولذلك بين الله أصول الدعوة في القرآن مفصلة؛ لأنها وظيفة الأمة الكبرى. ولكن يعرض للداعي إلى الله عقبات تعوقه أو تثبطه أو تقطعه، فلا بدَّ من معرفتها، ومعرفة علاجها، والحذر منها، وهي خطوات الشيطان التي يسلكها ليضل الخلق عن الحق، ويصرفهم عن الدين. فأولاً إذا قام الداعي بالدعوة إلى الله جاءه العدو الألد (اليأس) ففتت من همته لما يراه من سعة مساحة الكفر، وكثرة الطغاة والعصاة. وعلاجه بقوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17]. ثم يشن (حب الظهور) هجومه، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها على الأرض، فيحترق العمل لفقده الإخلاص. وعلاجه بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]. ثم يبرز إلى الميدان مفسد الأعمال وهادم البنيان (داء الاستعجال)، فتنقلب الأعمال على عقبيها لعدم استوائها ووضعها في غير محلها. وعلاجه بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200].

ثم يتصدى للدعوة (الرأي الشخصي المستبد) الذي يبدد أعمال الإنسان وأعمال الجماعة، ويسبب رفع نصرة الله عنهم، وتمكين الأعداء منهم. ثم يبرز (التفكير الانفرادي) فيهتم بنفسه، ويهمل غيره، فلا يتماسك له بناء، ولا تثمر له شجرة، وإنما خير الناس أنفعهم للناس وعلاج ذلك كله بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ثم يخرج إلى الساحة عدو آخر ماكر وهو (التقليد) فيجد الفرصة سانحة لتقليد الكسالى والقاعدين، وبه يقصم ظهر الهمة، فيكثر القاعدون، فتتراكم الظلمات، وتزداد الجهالات، وتنبت البدع، وتختفي السنن. وعلاجه بقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]. ثم يلوح العدو الغدار وهو (التسويف) الناجم عن العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ معه تأجيل الأعمال الصالحة الأخروية من اليوم إلى الغد، ثم ينسيه الشيطان إياها. وعلاجه بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو (التدخل فيما هو موكول أمره إلى الله). وعلاجه بقوله سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15]. فليس للعبد أن يتأمر على سيده، وإنما واجبه تنفيذ أوامر سيده وطاعة مولاه. وأخيراً يقبل داء (حب الراحة والدعة) الذي هو أم المصائب وعلاجه بقوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم: 39 - 41].

وهذه الدار دار المجاهدة والعمل، والناس في جهاد إما لدينهم وإما لدنياهم، وأحسن الجهاد ما ثمرته كبيرة نافعة باقية، وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وإذا كان الداعي يدعو الناس إلى الله، فالعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، وكما أن كل مسلم مأمور بالعبادة، فهو كذلك مأمور بالدعوة. والناس محتاجون إلى الداعي الذي يدعوهم إلى الله، وإلى العالم الذي يعلمهم أحكام دينهم. والفرق بين الدعوة والإفتاء: أن الفتوى خاصة بمن اختارهم الله لذلك من العلماء والفقهاء الذين مكنهم من العلم بالسنن والأحكام، وأعطاهم القدرة على الحفظ، ووفقهم للفقه في الدين، فهؤلاء العلماء يعلمون الناس، ويجيبون من سأل عن الأحكام ومشكلات المسائل. وكثير من الصحابة كانوا يخافون من الفتوى ويتدافعونها مع غزارة علمهم وكمال معرفتهم بدينهم، ولم يكن فيهم مفت إلا قلة كابن عمر وابن عباس، وعلي ومعاذ، وابن مسعود رضي الله عنهم. أما الدعوة إلى الله فهي عامة لكل فرد من الأمة رجالاً ونساءً، فالدعوة لعموم الناس، والنصيحة لعموم المسلمين، والفتوى خاصة بالعلماء. ومن الناس من اختلط عليه الأمر فظن أن الدعوة خاصة بالعلماء والفتوى مباحة لكل أحد، وهذا بلاء عظيم، وقول على الله بلا علم، وذلك قرين الشرك، بل هو أخطر منه كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. فلنسأل القرآن لينكشف الصواب، ويتميز الحق من الباطل.

ففي الفتوى نسأل العلماء كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. والدعوة وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. والعبادة واجبة على كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]. فعلينا القيام بثلاثة أمور: الأول: أن نجعل حياتنا تابعة لحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن نقوم بجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله لعموم البشرية. الثالث: أن نقيم الأمة على جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الدعوة إلى الله، كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على ذلك من أول يوم. والدعوة إلى الله وإن كانت إحساناً للبشرية، فهي في نفس الوقت حقهم الذي يجب إيصاله إليهم وإبلاغهم إياه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والأمة لما تركت الدعوة إلى الله ضعف فيها الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، وجاء فيها صفتان من صفات اليهود والنصارى: الأولى: الاهتمام بجمع الأموال بأي وسيلة، وفي كل وقت، وشغل الفكر والبدن بذلك كاليهود الذين لعنهم الله. الثانية: الاهتمام بتكميل الشهوات وإضاعة الأوامر، وشغل الفكر والبدن بذلك كالنصارى الذين ضلوا عن الحق. وكان الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: أمة الإجابة وهم المسلمون .. وأمة الدعوة وهم الكفار. ثم أقبل كثير من المسلمين على الدنيا بسبب ترك الدعوة فصار الناس على ثلاثة أقسام:

أمة الإجابة وهم المسلمون .. وأمة نيابة وهم المسلمون الذين يقومون بالدعوة .. وأمة دعوة وهم الكفار. فالواجب الآن أن نجتهد على من ترك وظيفة الدعوة من المسلمين، حتى يكون الجميع أمة نيابة، ثم نجتهد على أمة الدعوة وهم الكفار إذا ظهرت صفات الإسلام وعباداته وأخلاقه في المسلمين، والتي هي سبب للهداية. والله تبارك وتعالى جعل هذا الدين العظيم أمانة عندنا نقوم به وندعو إليه، فلا بدَّ من حفظ هذه الأمانة، وأدائها إلى أهلها، ووضعها في أماكنها، وهي قلوبنا وقلوب الناس، وأبداننا وأبدان الناس. ومن فضل الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة أن أكرمها بوظيفة الدعوة إلى الله في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، ولكل الناس، فبالدعوة يزيد الإيمان، ويقوى اليقين، وتكثر الطاعات، وتقل المعاصي، وتزيد الأجور، ويهتدي الناس، ويزيد الخير، ويقل الشر، وتصلح أحوال البشرية في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70،71]. ومن أجل ذلك قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالدعوة إلى الله في جميع الظروف والأحوال. في حال العسر واليسر .. وفي حال الأمن والخوف .. وفي حال الشدة والرخاء .. وفي حال الحر والبرد .. وفي حال الصحة والمرض .. وفي حال السفر والإقامة .. وفي حال الغنى والفقر. فحين مات عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو طالب وزوجته خديجة في مكة لم يترك الدعوة، بل ضاعف الجهد والعمل، وهاجر من أجل الدين إلى المدينة مع تهديد قريش له، وسعيهم في قتله. وماتت ابنته رقية في المدينة، وهو يجاهد في سبيل الله في غزوة بدر، وقتل عمه حمزة بين يديه في أحد، وجرح في وجهه وكسرت رباعيته في أحد، وقتل

سبعون من أصحابه بين يديه في أحد. ورمى المنافقون زوجته عائشة بالفاحشة، فما منعه كل ذلك عن القيام بالدعوة. وقبل ذلك قال الكفار عنه - صلى الله عليه وسلم - ساحر كذاب، وتارة شاعر، وتارة مجنون .. وطردوه وسبوه وآذوه .. ومكروا به، وكادوه، وسخروا منه .. ثم عزموا على قتله .. ليموت الدين الذي جاء به كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]. والله عزَّ وجلَّ يثبته ويطمئنه ويؤيده، ويأمره بالصبر كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وتوالت عليه تلك المصائب وغيرها، ولكن همّ الدين، وإقامته ونشره وإبلاغه شغله عن تلك المصائب، فأظهر الله دينه، وكانت العاقبة له وللمؤمنين به، فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، الذين بعثهم الله رحمة للعالمين، فبلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا على كل ما أصابهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دينه، أولئك رسل الله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} [الأحزاب: 39]. وكل من قام بالدعوة إلى الله، وغشى الناس في بيوتهم وأسواقهم داعياً ومعلماً للناس فالله يستخدمه لدينه، ويجعله سبباً لهداية العالم، وبجهده يتغير العالم كما تغير بجهد الأنبياء. فتحيا الفرائض والأوامر .. وتحيا السنن والآداب في حياة الناس .. ويحيا في الأمة الشعور بمسئولية الدين .. وتصلح عباداتهم ومعاملاتهم .. وتصلح معاشراتهم وأخلاقهم .. وتصلح بيوتهم وأسواقهم .. وتدخل السنن .. وتخرج البدع .. وتتهيأ القلوب للحق .. ويحصل فيها الاستعداد لجميع أعمال الدين .. ويرزق الله الداعي قوة اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته .. ويجعل أعمال

الدين كلها محبوبة لديه .. ويرى نصرة الله معه .. ويطوي بساط الباطل من حوله .. ويجعل له المحبة في قلوب الناس، ويكتب له مثل أجور كل من دعاه واهتدى بسببه إلى يوم القيامة وتحصل له الهداية، وتنزل بسببه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. فأي خير؟ .. وأي بركات؟ .. وأي منافع تحصل للدعاة والمدعوين بسبب الدعوة إلى الله؟: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. وكم الأرباح التي يحصل عليها الدعاة إلى الله؟. وكم حجم الخسارة التي يخسرها من ترك وظيفة الدعوة إلى الله؟. وكم ينجو من البشرية من النار ببركة الدعاة إلى الله؟. وكم يقع في النار من البشر بسبب ترك الدعوة إلى الله؟. إن الله عزَّ وجلَّ فطر عباده على التوحيد، ولكن الشياطين جاءتهم فاجتالتهم عن دينهم، وزينت لهم سوء أعمالهم، وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضلوا وأضلوا، فلا بدَّ من بذل كل جهد ليعود الناس إلى ربهم وفاطرهم. إن الكافر والعاصي كالغريق لا بدَّ له من عمليتين: الأولى: إخراجه من الماء .. والثانية: إخراج الماء منه. وكذلك الكافر والعاصي نخرجه من البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة التي فيها الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، فإذا دخل الإيمان في قلبه، وجاءت عنده محبة الإيمان والأعمال الصالحة عالجناه بإخراج الشهوات وحب الدنيا من قلبه، ثم نزكيه بالإيمان ولزوم البيئات الصالحة التي يسهل فيها فهم الدين، وحب الدين، والعمل بالدين. والحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يؤثر في قلوب الناس إذا توفرت له ثلاث قوى: قوة دافعة وهي الإيمان .. وقوة ضابطة وهي العلم .. وقوة جاذبة وهي العمل الصالح وحسن الخلق.

وينتشر الحق بين الناس بصنفين من الناس: الأول: أناس مؤمنون يضحون بأموالهم وأنفسهم، ويتركون ديارهم وأعمالهم وأهلهم، وكل ما يملكون، ويخرجون لإعلاء كلمة الله. الثاني: أناس مؤمنون يبذلون أموالهم وأوقاتهم وكل ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله. أناس يتركون لله .. وأناس يبذلون لله .. فالأولون المهاجرون .. والآخرون الأنصار .. فالبذل والترك .. علامة الصدق .. وتاج التضحية، فأولئك وأولئك بالإيمان والبذل والترك من أجل إعلاء كلمة الله رضي الله عنهم كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وكمال شخصية الداعي إلى الله تتطلب التحلي بأحسن الأخلاق والصفات، ليكون سبباً في محبة الناس للدين، ومن ثم دخولهم فيه، فضلاً عن محبة الله لذلك. وقد بعث الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - متمماً لمكارم الأخلاق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (¬1). ومن أهم تلك الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الله: أولاً: اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فيتيقن أن الله معه يؤيده وينصره ويحفظه، واليقين التام بصلاحية دعوته، وأهمية نشرها بين الناس. بل يرى أن عدم عرضها على الناس، وحملهم عليها جناية عليهم، وخيانة لهم. واليقين على أنها السبيل الوحيد لسعادة الأمة، وحل مشاكل العالم، وبها تحيا السنن والأوامر الشرعية. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).

وبذلك الشعور يصبح قادراً على التفاني في سبيل نشرها، والتضحية بكل ما يملك من أجلها كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. ثانياً: حسن الأخلاق، والقدوة الحسنة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق كالرحمة والشفقة، والصدق والصبر، والعفو والحلم، والجود والإكرام، والرفق والحياء، والتواضع، والعدل والإحسان، ومقابلة السيئة بالحسنة كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. ثالثاً: الاهتمام بالروح، وذلك بالتجافي عن الدنيا وحطامها وشهواتها، والإقبال على النفس وتطهيرها وتزكيتها بذكر الله، وفعل الطاعات محبة لله وتعظيماً له، وتضرعاً إليه، واجتناب المحرمات طاعة لأمره. رابعاً: الشجاعة: وهي نوعان: الأول: شجاعة القلب التي تحمله على أن لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يهاب أحداً سواه كما قال سبحانه: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. الثاني: شجاعة العقل التي تحمله على أن يجاهر برأيه، ويصرح بعقيدته، ويصدع بالحق الذي يؤمن به ويدعو إليه، ويعيش من أجله، ويضحي بنفسه وماله وكل ما يملك من أجله كما قال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} ... [الحجر: 94]. والدعوة إلى الله كما هي وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي كذلك وظيفة الأمة، ولهم به قدوة في الدعوة كما لهم به قدوة في العبادة وقد بذل الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهده في إبلاغ الدين، ونشر الرسالة، فلم يدع وسيلة للدعوة إلا استفاد منها، ولا سبيلاً

إلا سلكها، ولا فرصة سانحة إلا شق طريقه إليها، ولا مناسبة إلا كان له نصيب فيها. فلم يذر قريباً إلا عرض عليه الإسلام .. ولا بعيداً إلا شد الرحال إليه .. يدنو البعيد بهمته .. وتذلل الصعاب لعزيمته .. يحدوه الأمل فيجد في العمل .. لا يكل ولا يمل. لا يثنيه تجهم قريب .. ولا صدود بعيد .. ولا سخرية شامت .. ولا كيد حاسد .. ولا ظلم مستكبر .. ولا أذى باغ .. ولا طغيان جبار. عرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل .. واجتمع بوفودها في المواسم .. ودعا عامتهم وخاصتهم إلى الإسلام بالرحمة والشفقة، واللطف واللين .. ولم يأل جهداً ولم يدخر وسعاً .. حتى ظهر أمر الله .. وعز الإسلام وأهله .. وقامت دولته .. وقويت شوكته .. وكملت شرائعه .. ورفعت أعلامه. وأقوى سلاح الدعوة وأبلغها أثراً وأعظمها نفعاً رحمة الناس، والرفق بهم واللين معهم، ليقبلوا الدين، ويعملوا بأحكامه، ففرعون أشد خلق الله طغياناً وكفراً .. وظلماً وكبراً .. وقال ما لم يقله إبليس، نازع الله في الربوبية فقال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]. ونازع الله في الألوهية فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وادعى ما لا يملك وكفر بنعمة الله فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 51، 52]. واستكبر ورد أمر الله كما قال الله عنه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 39]. ومع هذا كله جاء أمر الله لموسى وهارون بدعوته إلى الله بالقول اللين كما قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43، 44].

والدعوة إلى الله على منهج الأنبياء والمرسلين سبب لإقامة الدين في حياة الأمة وقبولها له، وتأثرها به. أما إقامة الدين في حياة الأمة عن طريق الحكومة أو الأموال أو القوة لا عن طريق الدعوة، فهذا من أساليب الشياطين واليهود الذين يسعون في الأرض فساداً كما خرجوا على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالسيف، ومنذ ذلك الوقت والسيف يعمل في المسلمين لا في أعداء المسلمين. وحصل للمسلمين ولعلماء ودعاة المسلمين من الأذى والسجن والطرد والقتل بسبب هذا الفكر ما يندى له الجبين، وما زال يحصل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 66 - 70]. ولما كان الكفار يعلمون أن المسلمين إذا قاموا بالدعوة إلى الله انتشر الدين في العالم، وسلبوا ملكهم ومكانتهم، فقالوا أشغلوا جميع المسلمين في أنحاء الأرض بالأموال والشهوات حتى ينصرفوا عن الدعوة، وتبقى الدنيا في أيدينا نلعب فيها وبمن فيها كيف نشاء. وأشغلوا بعضهم ببعض من أجلها، وأوقدوا نار الحرب بينهم من أجلها، وأخذوا أموالهم وأعطوهم أسلحة يهلك بها بعضهم بعضاً من أجل الدنيا. ولذلك الكفار لا يعبأون بمساجد المسلمين ما دامت لا أعمال فيها، ولا يبالون بعلوم المسلمين ما داموا لا يعملون بها، ولا يهتمون بعبادة المسلمين ما دامت لا روح فيها. إنما همهم كيف يحولون بين المسلمين وبين الدعوة إلى الله، وكسر مفتاح الدين الذي يفتح الله به القلوب والبلدان.

ولذلك اجتهد الأعداء في تكوين بيئة استثمار الأموال، وبيئة الشهوات، في كل مكان، وفي كل مدينة، وفي كل قرية، وفي كل شارع، وفي كل بيت، حتى يشغلوا الناس بالأموال والشهوات، ويستغنوا ويلهوا بها عن الإيمان والأعمال الصالحة. وقد فعلوا ذلك، وصار واقعاً يشهده الطير والحيوان والإنسان، وتغير فكر كثير من المسلمين، ثم تغيرت عواطفهم، ثم تغيرت أعمالهم، ثم تغيرت طريقة حياتهم، وصار أئمتهم اليهود والنصارى لا الأنبياء والصالحين، يسيرون خلفهم ولو كان إلى جهنم. وصار المسلم معرضاً للأخلاق السيئة في سمعه وبصره وشكله وسائر جوارحه، وقام سوق الباطل في صحن الإسلام وبساطه. والحل: أن نقوم بالدعوة إلى الله في كل مكان، ونكوِّن البيئة الصالحة، بيئة الإيمان والإعمال الصالحة كما كوَّنوا البيئة الفاسدة، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإذا غيرنا ما في قلوبنا غير الله جوارحنا وحركها بطاعته والدعوة إلى دينه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ومن اشتغل بوظيفة الكناسين لا يطمع براتب السلاطين، وهكذا المسلم يعطل الأوامر ويترك الدعوة إلى الله ويطمع بمرافقة الأنبياء في الجنة والعزة في الدنيا. وقلب الداعي إلى الله يجب أن يكون مملوءاً رحمة وإيماناً وعلماً كما كان قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك. فحين آذاه أهل الطائف وسبوه وضربوه وطردوه لم ينتقم منهم، بل دعا لهم ودعا لقريش أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله ويعبده وهكذا الداعي إلى الله يصبر إذا شُتم وأوذي، ويتحمل إذا طُرد وسُلب ماله، ولا يتأثر إذا سجن وأهين، ولا تأتي في قلبه عاطفة الانتقام، بل تزداد في قلبه الشفقة والرحمة على العباد. والداعي إلى الله كالشمس التي تأخذ النور من خزائن الله وتؤدي ثلاث وظائف: فهي متحركة بهذا النور على الدوام من المشرق إلى المغرب .. وهي تقوم

بتوزيع جميع ما تأخذ من الله على جميع الخلق .. وهي تعطي النور ولا تأخذ أجراً مقابل النور. فكذلك الداعي يأخذ العلم من الكتاب والسنة وذلك من خزائن الله، ويقوم بالدعوة ليلاً ونهاراً .. ويدعو جميع الناس إلى التوحيد والإيمان، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له .. ويدعو إلى الله ولا يأخذ من الناس أجراً لأن أجره على الله كما قال كل رسول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)} [الشعراء: 143 - 145]. والدعوة كالطعام نحتاجه كل يوم، فالطعام لحفظ البدن وزيادة نموه، والدعوة لحفظ الإيمان وزيادته، وأما الجهاد فهو كالدواء نحتاجه عند الضرورة لإزالة الضرر والظلم عنا وعن الناس، فإذا زال الضرر عدنا إلى الدعوة التي يزيد بها الإيمان، وتنزل بسببها الهداية على الخلق. وجهاد اللسان حسن لذاته وهو الدعوة إلى الله، وتعليم الناس أمور دينهم، وجهاد السنان وهو القتال حسن لغيره، وذلك لما يفضي إليه من حفظ الدين وأهله، وقمع المعتدين، وتمحيص المؤمنين من المنافقين، ومعرفة الصادقين من الكاذبين، واتخاذ الشهداء، وإزالة الظلم عن الخلق، وإقامة الحق مكان الباطل كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193]. والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس لعبادته، وخلقهم للطاعة حتى تنتشر طاعة الله في العالم على طريقة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتكون التصرفات في الأنفس والأموال صحيحة في العالم، ولا يتم هذا المقصود العظيم إلا بالدعوة إلى الله. وهذا الدين والجهد من أجله أمانة أمرنا الله بأدائها، فنستقيم على الدين، وندعو الناس إليه بالرحمة والشفقة وحسن الخلق، ونجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله بأموالنا وأنفسنا.

وعندئذ ينزل الله البركات في أموالنا وأنفسنا، ثم تأتي التيسيرات في حياتنا، ثم تنزل الهدايات فيصير العدو بسبب الدعوة صديقاً كما قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. وإذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت العداوة والمصائب كما قال سبحانه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]. واشتغل الناس بالأموال والأشياء والدعوة إليها بدل العمل بالسنن والدعوة إليها كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. والحق حتى تظهر حقائقه له طلبات، فإن لم توجد طلباته بقي الحق ولكن لا تظهر حقائقه. فإذا بذلنا الأنفس والأموال حسب مقتضى الحق لإعلاء كلمة الله فالله ينزل الحقائق ويظهرها فوراً. فيصير العدو صديقاً .. والكافر مؤمناً .. والمبغض محباً .. والعاصي مطيعاً .. والظالم عادلاً .. والداعي إلى الشر داع إلى الخير. فالدين أمانة، والله أعطانا هذه الأمانة، وأمرنا بإيصالها إلى أهلها وحسن تعهدها. فأولاً نجتهد على أنفسنا حتى يأتي الدين في حياتنا، ثم نتحرك للدين لنشر الهداية في العالم حتى ينتشر الخير في العالم. فعلينا مسئولية أنفسنا، ومسئولية غيرنا، وبالقيام بهذه المسئوليات الله يصلح العالم كما أصلح الله أحوال الأمة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث زال الفساد، وزالت

الجاهلية، وزال الشرك بسبب جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وكل داعٍ لا تكون حياته مطابقة لدعوته فالله لا يستخدمه، ولا يجعله سبباً لهداية الناس وإن ارتفع صوته وعلا صيته. والداعي إلى الله لا بدَّ أن يصبر على الأذى، ويرفق بمن خالفه ويدعو له، فالذين عادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآذوه لما صبر عليهم، ودعا لهم، ورفق بهم، آمنوا ثم هاجروا ثم قاتلوا الكفار الذين فيهم آباؤهم وأبناؤهم، ثم كادوا أن يتقاتلوا على وضوئه - صلى الله عليه وسلم - لشدة محبتهم له وللدين الذي جاء به. ومن أعطاه الله الدين وكلفه بنشره والمحافظة عليه فتلك مسئولية عظمى وأجرها عظيم، ولكنه سيحاسب عليها، ويسأل عن أدائها كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7]. وصاحب الدكان إذا أغلق دكانه حصل نقصان في البلد، والداعي إذا ترك الدعوة حصل نقصان في الدين، ومشى ألوف من الناس كل لحظة إلى نار جهنم، فكم حصل بترك الدعوة من الخسران له ولغيره؟. وكم ذهب إلى النار من الخلق بسبب تأجيل البلاغ أو القعود عنه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والعبادة لا تسمى عبادة ولا تكون مقبولة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة ولا تكون مقبولة إلا مع الطهارة. فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا جاء في الصلاة أبطلها. فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع شر فقد أشرك في عبادة الله، وحبط عمله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65]. وكان الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: الأول: كفار أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد كعبدة الأوثان والمجوس.

الثاني: منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئون. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ النوعين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} [الحج: 17]. فذكر سبحانه ست أمم: اثنتان شقيتان، وهما المجوس والمشركون، وأربع منقسمة إلى شقي وسعيد، حيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر كما خصهم في الآية الأولى. فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والسعيد والشقي، وهذه أمة قبل اليهود والنصارى، وهم نوعان: صابئة حنفاء .. وصابئة مشركون. وهذه الأديان الستة لا يقبل منها بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا واحد، وهو الدين الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لعموم البشرية إلى يوم القيامة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. والداعي الحق هو من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان، وليس له همّ في الحياة إلا أن يستقيم على أوامر الله، وأن يدل البشرية إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة بدعوتهم إلى الله، والسير على منهج الأنبياء والمرسلين. وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها العالي، ويمدوا أبصارهم من الحياة الفانية المحدودة إلى الحياة الباقية المطلقة. فحياة المسلم حسب أمر مولاه لها لون خاص، ولها هدف خاص، ولها أجر خاص.

فهي إيمان وعمل، وجهاد وكفاح، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله، وتوجه إلى الله وحده في جميع الأحوال؛ لأنه الذي يملك كل شيء، وبيده خزائن كل شيء. ثم يجيء الرضا من الله .. ثم يجيء النصر .. ثم يجيء النعيم، هكذا سنة الله التي قد خلت في عباده: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23]. والداعي إلى الله مبارك أينما كان، يبذل كل خير، ويتحمل كل أذى. فهو كالأرض يُطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، وكالغيث أينما حل نفع، وكالشمس يهتدي الناس بنور علمه، وكالسراج يحرق نفسه ليضيء للناس. والذي يدعو إلى الله وإلى سنة رسول الله مخلصاً يجعله الله سبباً لجمع الأمة كلها على الدين. والذي يدعو إلى نفسه وإلى طريقته أو إلى جماعته يمزق الأمة كلها، ويجعلها فرقاً وأحزاباً متناطحة، يفني بعضها بعضاً كالمشركين الذين حذرنا الله منهم بقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31، 32]. والدعوة إلى الله مركبة من عدة أعمال كالطعام الذي يقدم للناس مركب من عدة أشياء، وهكذا الدعوة إلى الله مركبة من عدة أشياء، ليست كلاماً فقط، فيها الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق .. وفيها التعليم .. وفيها الشورى .. وفيها الجولات والزيارات .. وفيها الدعاء والذكر. فإذا وجدت هذه الأشياء فالدعوة تنبت ثم تثمر ثم تتسع، ثم يظهر الحق، ويزول الباطل، ويكون الدين كله لله. والدعوة إلى الله تجمع الأمة على الهدى كالروح تجمع البدن والجوارح على الحياة، فإذا خرجت الروح أنتن الجسد وتمزق، وكذا الدعوة إذا خرجت من

حياة الأمة فسد المجتمع وتمزق. والدعوة إلى الله وظيفة الأمة، ولذلك كانت من أول يوم، فلم يكن هناك فاصل زمني بين الإيمان والدعوة، بينما كان هناك فاصل زمني طويل بين الإيمان ونزول الأحكام والفرائض. فأبو بكر دعا إلى الله من أول يوم فجاء بستة من العشرة المبشرين بالجنة مع أن أحكام الدين لم تنزل إلا بعد ثلاثة عشر عاماً في المدينة. وخديجة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهدت على النساء من أول يوم قبل نزول الأحكام. فقد اجتهدت على فاطمة بنت الخطاب فأسلمت، وكان في صحيفتها عمر، واجتهدت على سعدى بنت كريز خالة عثمان فأسلمت، وكان في صحيفتها عثمان، وكلاهما من الخلفاء الراشدين. واجتهدت على سمية أول شهيدة في الإسلام فأسلمت، واجتهد على أم الفضل فأسلمت، وغيرهن. فجهد الرجال مع جهد النساء قام في وقت واحد. وكما أن أبا بكر سبق الأمة في كل شيء، فكذلك خديجة سبقت نساء الأمة في كل شيء. سبقتهن في الإيمان .. وسبقت في الدعوة .. وسبقت في الإنفاق في سبيل الله، وهي أول من سمع القرآن .. وهي أول من جاءها سلام مخصوص من الله عزَّ وجلَّ .. وأول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وهي أول أزواجه وأم أولاده .. وهي من أكمل النساء .. وأول من بشر ببيت في الجنة. والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، والواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانت لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن الإسلام فيه سعادتهم ونجاتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة وهم يجهلون ذلك. فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، وكما يلزم

الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو الضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله، والإيمان به، والدخول في الإسلام أولى وأوجب؛ لأنه حق الله على عباده فيجب على كل فرد أداؤه. ولأن فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ونحوهم كالمجوس، فهؤلاء جاء الشرع بأنهم يخيرون على الترتيب: إما الإسلام .. أو دفع الجزية .. أو القتال. وأما غيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام كما قال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ كل مسلم ومسلمة بإبلاغ الدين كما أمرهم بالعمل بالدين بقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كل مسلم ومسلمة بتبليغ البشرية عنه ولو آية كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية» أخرجه البخاري (¬1). وتبليغ دينه وسننه إلى الناس أفضل من تبليغ السهام إلى نحور الأعداء؛ لأن الضرب بالسهام يجيده كثير من الناس، وأما تبليغ السنن والأحكام فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم. وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - لمن بلغ عنه ولو حديثاً بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3461). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3660) صحيح سنن أبي داود رقم (3108). وأخرجه الترمذي برقم (2657) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2140).

والمسلم يدعو إلى الحق، والشيطان يدعو إلى الباطل، والشيطان عدو للإنسان، فيجب أن يكون الإنسان عدواً للشيطان كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. وأعظم ما يدعو إليه الشيطان أن يحول بين بني الإنسان وبين الإسلام، فإن لم يستطع حال بينه وبين الدعوة والجهاد في سبيل الله بأربع خطوات وهي: التردد .. ثم التربص .. ثم التثاقل .. ثم القعود. فالتردد: بأن يجعله شاكاً محتاراً في دينه وفي عمله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 45]. ثم التربص: وهو التعلق بما سوى الله ودينه من محبوبات النفس كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24]. ثم التثاقل: وهو التكاسل والميل إلى الدعة والسكون كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 38، 39]. ثم القعود عن الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهو نتيجة ما سبق كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46]. والأمة لما تركت الدعوة إلى الله والدعوة إلى الإيمان والأعمال الصالحة ابتليت بالدعوة إلى الدنيا وإلى الأموال وإلى الأشياء.

فصارت تعرف قيمة المال ولا تعرف قيمة الإيمان .. وتعرف قيمة الأشياء ولا تعرف قيمة الأعمال .. وتعرف قيمة الدنيا ولا تعرف قيمة الآخرة .. وتعرف قوة المخلوق ولا تعرف قوة الخالق .. وتعرف شهوات النفس ولا تعرف أوامر الرب. فجاءت بسبب ذلك المصائب والعقوبات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. والإيمان فضل من الله، وهو قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليس قضية غصب وإكراه وإجبار كما قال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وقد جاء الدين يخاطب الإدراك البشري كله بكل قواه وطاقاته في غير قهر حتى بالخوارق المادية التي قد تلجئ مشاهدها إلجاءً إلى الإذعان. وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد، أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع. وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وإن كان الواجب إلزامه بما ينفعه وما فيه نجاته وسعادته شفقة عليه ورحمة به. والإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه، والكفر هو الغي الذي يجب على الإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به. وحقاً فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما توفره من السعادة في الدنيا والآخرة وما تمنحه للإدراك البشري من تصور واضح، وما تزجيه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس من رغبات في كسب الأجور، وما تحققه

في الأمة من نظام سليم. ما يتدبر الإنسان هذه النعم الكبرى إلا ويجد فيها الرشد والفلاح الذي لا يرفضه إلا سفيه يترك الرشد إلى الغي. فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، وحرية الدعوة إلى العقيدة الراشدة، إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً. والإسلام أفضل الأديان وأكملها وأشملها، وهو أفضل منهج رضيه الله للمجتمع الإنساني ينادي بأن لا إكراه في الدين، ويبين لأصحابه قبل غيرهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين. ولكن عليهم نشره وبيانه، وترغيب الناس فيه، وتحذيرهم من مخالفته: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]. وكل مسلم مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، وتؤيد الخير الذي يحمله للبشر. ولكنه لا يمكن أن يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من نظم. ويجعل من الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه، ويسعى لبقائه وتمكينه ونشره. ويؤثر الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحكم بأمر الله في حياة البشرية، فذلك شهادة بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها، وهي أعز ما يحرص عليها الأحياء. وعهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كل أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

فلا بدَّ لكل مسلم أن يؤدي هذه الشهادة العظيمة للدين مسموعة مرئية، حية ناطقة: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53]. ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه، وكاتم لما أمره الله ببيانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283]. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام، أو قام بها في نفسه ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته، وأدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه وتنفرهم منه، نسأل الله السلامة والعافية: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 85]. وواجب الأنبياء وأتباعهم بيان الحق للناس، وترغيبهم فيه، ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن. فإذا ظهر الحق جلياً وأبى المخالف إلا المكابرة والعناد دعي هؤلاء إلى المباهلة كما قال سبحانه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [آل عمران: 61]. فيبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين. وما كانت البينة هي دائماً التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين، إنما هي المصالح والمطامع والأهواء التي يصد الناس عن اتباع الحق الواضح الذي لا خفاء فيه، وتقديم الهوى على الهدى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].

فالكفار والمعاندون يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان، غير أنهم يكفرون لا لنقص في الدليل ولكن للهوى والمصلحة: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]. وقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14]. والبشر كلهم إلى فناء، والدين إلى بقاء، ومنهج الله في الحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه للناس من الرسل والدعاة على مدار الزمن. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رسول من عند الله، جاء ليبلغ رسالة الله إلى خلقه، فإن مات أو قتل فالله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي أو الداعية الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]. فالدعوة والدين أقدم من الداعية، وأكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على مدى الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بالذي أرسل بها الرسل، وهو سبحانه باق يتوجه إليه المؤمنون في كل حال. ومن انقلب على عقبيه فإنما هو الخاسر، وانقلابه لن يضر الله شيئاً، فالله غني عن الناس وعن إيمانهم، وسيلقى جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله، وتفسد الحياة والأخلاق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال مخالفتهم شرع الله في الدنيا قبل الآخرة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. أما الذين يعرفون مقدار نعمة الدين الذي منحهم الله إياه فيشكرون الله عليه

باتباعه، فيسعدهم به جزاء على شكرهم في الدنيا والآخرة. وحين أشيع أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قتل في أحد أراد الله أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يصلهم بالله مباشرة، وأن يجعل ارتباط المسلمين بالله مباشرة. فهم وإن مات محمد أو قتل فهم بايعوا الله على طاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والثبات على دينه بعد موته، وإبلاغه للناس. وكلما همت الأمة أن تتحرك وتوسع هذا الدين وتحاول تحقيق منهج الله في الأرض كلما تجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب. أحياناً في أصول الدعوة .. وأحياناً في أهل الدعوة .. وأحياناً في أصول الدين وشرائعه .. وذلك لتمزيق أوصالها .. وتشويه أهدافها .. وبعثرة جهودها. والله عزَّ وجلَّ يوجه المؤمنين لمعرفة أعداء الدين الراصدين له في الزمان والمكان، ويبث في القلوب الطمأنينة إلى وعد الله. فتعرف حين تناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الأذى والابتلاء والفتنة، أنها سائرة على طريق الحق، ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى، والادعاء الباطل عليها، وإسماعها ما يكره وما يؤذي. وتلزم الصبر والتقوى، ويصغر عندها الابتلاء والأذى كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. وقد يدخل بين المسلمين من يريد الكيد لهم، ويندس في صفوفهم منافقون، وعلى المسلم أن يعلم أن عين الله على هذه الطوائف التي تبيت وتكيد وتمكر بالمسلمين، والله لهم بالمرصاد: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 79، 80].

وشعور المسلمين بذلك يثبت المؤمن، ويسكب في قلبه الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم، فليأخذهم بظواهرهم، وليعرض ويتغاضى عما يبدو منهم، والله كافيه منهم: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء: 81]. ثم يرشد القرآن هؤلاء بتدبر القرآن ليروا ما فيه من تكريم الإنسان والعناية به كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. والله عزَّ وجلَّ أمرنا بدعوة الناس إلى الله، وهيأ الفرصة لأهل الكتاب أن يدخلوا في الدين. فأعطاهم الفرصة أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي تحت راية الإسلام وهم على دينهم سوى جزيرة العرب، وجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، وذلك ليتم التزاور والتضايف، والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في جو من البر والسماحة. وجعل العفيفات من نساء أهل الكتاب وهن المحصنات بمنزلة المحصنات من نساء المسلمين، يحل الزواج منهن كنساء المسلمين إذا أعطيت لهن أجورهن بالنكاح الشرعي. وهذا وذاك يدل على سماحة الإسلام مع المخالفين له، وتهيئة الفرصة للدخول في الإسلام حين تتم الخلطة، فيروا أخلاق الدين وسننه عملياً، فيرغبوا فيما نفروا عنه، بعد أن يعرفوه ويروه والله حكيم عليم: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

وقال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 8، 9]. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ ما أنزل إليه كاملاً كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. هكذا يبلغ كل ما أنزل إليه، لا يستبقي منه شيئاً، ولا يؤخر منه شيئاً مراعاة للظروف، أو تجنباً للاصطدام بأهواء الناس، أو واقع المجتمع. وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ، فليصدع بكلمة الحق والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصماً فماذا يملك له العباد المهازيل؟. إن كلمة الحق، كلمة (لا إله إلا الله) يجب أن تبلغ كاملة فاصلة من أول يوم، وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء، وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل، لا بدَّ أن يصدع بها الداعي لتصل إلى القلوب في قوة ونفاذ كما قال سبحانه لرسوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1، 2]. وكلمة الحق في العقيدة حين يصدع بها الداعي تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى، وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة. والقوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة لا يعني الخشونة والفظاظة، بل أمر الله رسوله بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. ولا تعارض في ذلك فوسيلة التبليغ شيء، والمادة المبلغة شيء آخر، فقد وصف الرسول الكفار بصفتهم، وفاصلهم في الأمر، وبين أنهم على الباطل المحض، ودعاهم إلى الحق المحض.

وأمره ربه عزَّ وجلَّ أن يقول لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء من الدين والإيمان، بل ليسوا على شيء أصلاً كما قال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]. لأن الدين ليس كلاماً يقال باللسان .. ولا كتباً تقرأ وترتل .. وليس صفات تورث وتدعى. إنما الدين منهج حياة، منهج يشمل العقيدة في القلب، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج الإلهي. ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه كُلِّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين، وليسوا على شيء أصلاً من هذا القبيل، حتى يمتثلوا أوامر الله التي جاءت في كتبه المنزلة. ومواجهة الكفار بهذه الحقيقة ستؤدي إلى أن تزيد كثيراً منهم طغياناً وكفراً، وعناداً ولجاجاً، ولكن هذا لم يمنع من مواجهتهم بها، وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان، والضلال والشرود، بسبب مواجهتهم بها. وأن حكمته سبحانه تقتضي أن يصدع بكلمة الحق، وأن تترتب عليها آثارها في النفوس البشرية فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. والله عزَّ وجلَّ يبين للداعي بهذا منهج الدعوة، ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج، ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغياناً وكفراً، فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق

كلمة الحق، ولا خير في أعماقها ولا صدق. فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ليظهر ما كمن فيها وما بطن، ولتجهر بالطغيان والكفر، ولتستحق جزاء الطغاة والكفار. وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم عن الله، ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة، ووصف لهم ما هم عليه من الباطل بلا مجاملة ولا مداهنة، فهو قد يغرهم ويخدعهم ويضرهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماماً غير ما هم عليه. فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42]. والتلطف في دعوة الناس إلى الله ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها، فالحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة، أما الأسلوب فيكون بالحكمة والموعظة الحسنة. وإذا رأينا اليوم رأينا أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية، وأصحاب الكلمة المسموعة. ورأينا كذلك أصحاب الوثنيات يعدون بمئات الملايين في الأرض. ورأينا أصحاب المذاهب المادية لهم أعداد كثيرة، وقوى مدمرة. وكلمة هؤلاء وهؤلاء وأولئك مسموعة نافذة. وبالمقابل نرى المسلمين ليسوا على شيء؛ لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم، وليس لهم كلمة مسموعة فضلاً عن أن تكون نافذة. فما أعظم الأمر وما أخطره إذا ساد الظلام مكان النور، والباطل مكان الحق، والرذيلة مكان الفضيلة.

إن واقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه، لا تضره كثرة الضلال، ولا ضخامة الباطل، وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة أنهم ليسوا على شيء كذلك ينبغي أن تستأنف بمثل ذلك، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وطريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد إلا الله. والمشقة في هذا الطريق مركبة من أمرين: الأول: التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، إلى جانب الحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة في كل مكان. الثاني: الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه وعرف طعمه وحلاوته، والحماس للحق والرغبة في استعلائه. والداعية عليه أن يقوم بالدعوة ويصبر على الأذى، وليس عليه أن يبعث الموتى ويهديهم فذلك من شأن الله، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن نصر الله آت قريب لا ريب فيه، ولكنه يجري وفق سنة الله، وبقدر الله. وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تتبدل، من ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم. والله سبحانه لا يعجل النصر؛ لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة، ولو كانوا هم الرسل. فإن استسلام صاحب الدعوة لربه، وتسليم نفسه لقدر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا ملل، ويقينه في العاقبة بلا شك، كل ذلك مطلوب من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم. وعلى الداعي إبلاغ الدين للناس كافة، والصبر على المشاق. أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته، والهدى

والضلال يتبعان سنة إلهية لا تتبدل. وبيت الله عزَّ وجلَّ في مكة أول بيت وضع للناس، ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك، ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض، ولم تكن دعوة عامة من قبل، وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة والهداية: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]. والداعي إلى الله لا ينبغي أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة المعاندين لها، فهؤلاء جزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ. وإنما يجب على الداعي أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا وأقبلوا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله بالدين الذي دخلوا فيه، لتمتلئ قلوبهم بالإيمان، وتتحرك جوارحهم بالأعمال الصالحة، وتظهر فيهم أحسن الأخلاق، ولا تترك مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة. وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. والطبيعة التي خلق الله الناس بها أن كل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه. فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها، وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها، هذه طبيعة في الإنسان. فعلى الداعي أن يدرك ذلك، فلا يسب آلهة المشركين، فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى، ولا يزيدهم إلا عناداً وكفراً. فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه، بل قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون

من سب ربهم الجليل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108]. وسنة الله جارية أن يقوم الرسول أو الداعي بالدعوة إلى الله، فيستجيب للدعوة أناس يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة في أرض الدعوة، فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً، ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وهؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره والتمكين له في الأرض. ليقيم مملكة الله في الأرض، وينفذ حكم الله في عباده على هذه الأرض، ويحقق مراد الله في عباده. وليس على الرسل إلا البلاغ المبين، وليس عليهم هداية الناس، فالله وحده هو الذي يملك الهداية، وسواء حقق الله وعده لرسله من مصير القوم، أو أدركهم الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته وهي البلاغ، وحسابهم بعد ذلك على الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40]. وبذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله .. فليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر .. وليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس .. ولا أن يستعجلوا وعيد الله للمكذبين .. ولا أن يستعجلوا وعد الله للمهتدين .. وليس لهم أن يقولوا دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل .. ولقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء. إن عليهم إلا البلاغ، أما حساب الناس في الدنيا والآخرة فهذا ليس من شأن العبيد إنما هو من شأن الله وحده. والبلاغ هو القاعدة الكبرى في نشر هذا الدين، وهو عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمل

الدعاة من بعده، وعمل الأمة قاطبة، وهذا البلاغ أول مراتب الجهاد وأعلى ذروته. وإذا اتجه الناس إلى الإيمان وعبادة الله وحده فإن الجاهلية لا بدَّ أن تواجه الدعاة إلى الله المبلغين لدينه بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة، ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في سبيل الله في حينها نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة، فينصر الله أولياءه، ويخذل أعداءه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. والقرآن الكريم يبين جميع أصول الدعوة، ويقرر أنها دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله وأجره على الله. يدعو بالحكمة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يأمرهم بالتكاليف قبل استعداد النفوس لأدائها بالإيمان واليقين. ويختار الطريقة التي يخاطبهم بها، وينوع في هذه الطريقة تارة ببيان عظمة الله وجلاله .. وتارة ببيان نعمه وآلائه .. وتارة بالترغيب بالجنة .. وتارة بالترهيب من النار .. وتارة بدعوة العقول إلى النظر في الآيات الكونية .. وتارة بالنظر في الآيات الشرعية .. وتارة بإثارة العاطفة لتعظم العظيم، وتحمد الكريم، وتستحي من العزيز الكريم فلا تعصي له أمراً .. ولا تقترف جرماً .. وهكذا. والدعوة بالموعظة الحسنة التي تدخل القلوب برفق، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، وتشحن النفوس بالغضب والعناد. فالرفق في الموعظة والتلطف بالناس كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ. كما تكون الدعوة بالجدل بالتي هي أحسن إذا لزم الأمر، بلا تحامل على

المخالف، ولا ترذيل له، ولا تقبيح لعمله، حتى يطمئن المدعو إلى الداعي، ويشعر أنه ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفوس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، فهي تعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذا الكبرياء، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، ورأيه محترم، وقيمته كريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. ولكي يطامن الداعي من حماسته واندفاعه يشير القرآن إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله، وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للجاجة في الجدل، والتكلف في القول، إنما هو البلاغ والبيان، والأمر بعد ذلك لله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} [الأنعام: 39]. هذا هو منهج الدعوة السليم ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والموعظة الحسنة، والجدل بالحجة والبرهان. فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة وعلى دينهم فإن الأمر يتغير كما قال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126]. فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازاً لكرامة الحق، ودفعاً لغلبة الباطل، على أن لا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع فالإسلام دين العدل والرحمة. والدفع عن الدعوة يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، والله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله خير الناس، وهم لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله.

ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم. فكيف ينهضون بهذا كله وهم يهانون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون. ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل فالإسلام يدعو إلى العفو والصبر حتى يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، وحين يكون العفو فيها والصبر أعمق أثراً. فأما إذا كان الصبر والعفو يهينان الدعوة ويرخصانها فالقاعدة الأولى هي الأولى والأجدر. وعلى الداعي ألا يحزن إذا رأى الناس معرضين لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله وحده، يمضيه وفق سنته في فطرة النفوس واستعدادها. وعليه ألا يضيق صدره بمكرهم وكيدهم وحيلهم فإنما هو داعية لله والله حافظه من كل مكر وكيد، فعليه بالصبر: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 127، 128]. وقد يقع الأذى على الداعي لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مضمونة ومعروفة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون له، ويمكرون به. إن الذين يؤمنون بالله وبما جاء به الرسل لا يقفون عند حد الإيمان، بل يكونون دعاة له، ويحاولون أن يجذبوا غيرهم إلى الهداية، وأن يجادلوا الكفار بالحجة عسى أن يؤمنوا بالله. فالمسلم يقوم بالدعوة إلى الله، فإذا اهتدى الكفار والعصاة كان له أجران: أجر لبيان الطريق المستقيم، واستمرار البلاغ عن الله لعباده.

وأجر على من اهتدى من الكفار أو تاب من العصاة. وموكب المؤمنين مستمر في نشر الهداية بعد الرسل كما قال سبحانه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21]. والناس يسبون صاحب الدنيا ويذمون بضاعته، لكنه صابر لم يغلق دكانه، يتحمل منهم كل شيء من أجل أن يكسب من ورائهم. وكذلك الداعي إلى الله إذا لم يتحمل الناس فإنه لا يكون سبباً لهدايتهم، فالصبر والعفو، والإحسان والتواضع، والرفق والحلم، والرحمة والشفقة، كل هذه أبواب عظيمة يدخل منها الناس إلى الإسلام. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة، ورجع كثير من الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية، وقوانينها الأرضية. ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد للدخول فيه، إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبودية، وتلقى منهج الحياة كله من الله وحده لا شريك له، ونبذ كل ما سواه بالدعوة إلى الله كما بينها الله ورسوله، أما الذين ينفقون أموالهم في البحوث النظرية، وفي الأحكام الفقهية التي لا مقابل لها من الواقع، فنحسب أنهم لو أنفقوا هذه الأوقات في إعادة إنشاء المجتمع المسلم الذي أن كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لنشأ عن ذلك دخول فئات في هذا الدين من جديد كما دخل الناس فيه أول مرة. وينشأ عن ذلك خلافة راشدة، ومجتمع مسلم، ثم يحتاج هذا المجتمع معرفة الأحكام التي تنظم علاقته بربه، كما يحتاج إلى معرفة الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه، وعلاقاته مع غيره. إن الإسلام كما يأمر بالصبر والانتظار، فهو كذلك يأمر بإعداد القوة والحركة والجهاد لإعلاء كلمة الله.

فلا يمكن أن يقف كامناً منتظراً طول الأمد، عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. بل لا بد له مع ذلك أن يواصل الخطى لإنشاء مجتمع إسلامي متميز، يكون واقعاً مشهوداً في الحياة، وأن يزيل العوائق التي تمنعه من إقامة شرع الله في أرضه. وما أكثر المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لكثير من المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه. وأمام الهجوم الماكر على أصل الجهاد في الإسلام من أعدائه. فهؤلاء يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهرباً من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعاً إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الطواغيت والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والتحاكم إلى غير شرعه. فيقولون إن الله يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 61]. ويقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد صلح الحديبية مع المشركين، وعقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها، ولا عليه أن يعبد بقية البشر ما يعبدون من دون الله، ما دام هو آمناً في سربه. وهذا سقوط تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس، وأمام القوى المعادية للإسلام، والتي لا طاقة لهم بها، وذلك سوء ظن بالإسلام، وسوء ظن بالله سبحانه. فهذه النصوص السابقة التي يلجأون إليها نصوص مرحلية، تواجه واقعاً معيناً، وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر مناسبتها.

ولكن ليس معنى هذا أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين. إنما على الأمة أن تسعى في تحسين ظروفها، وإزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في هذه القضية. فالنصوص الأخيرة تقول: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)} [التوبة: 1، 2]. وتقول في شأن الكفار: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36]. وتقول في شأن أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون تحقيق هذه الأحكام، فهم الآن مؤقتاً غير مكلفين بتحقيقها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها، حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة فيما بعد حين يستطيعون تنفيذها، ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. والمؤمنون والدعاة إلى الله قد يجدون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد أكثر الناس، وهنا يرشدهم الله إلى الحل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} [يونس: 87]. اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها ما أمكن، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة على نفسها لتطهر وتزكو حتى يأتي وعد الله. واعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تمتثل فيها

أوامر الله، وتحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح. إن وجود القلة المؤمنة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى، شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية التي تعارضها وتؤذيها. كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو، وترث الأرض، وتعمرها حسب أمر الله. إن هذه العصبة المسلمة التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى والمطاردة، والتعذيب والتنكيل، والسحق والقتل، إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة. وما عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها، وأن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه، وأن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وأن تثق أن وليها قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه لا يمكن أن يترك أولياءه إلى أعدائه إلا فترة الإعداد والابتلاء، وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سينصرها ويمكن لها بلا ريب، فالله حكيم يربي بالبلاء الداعي والمدعو معاً. لقد دعا نوح - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا القليل، وعندما لجأ نوح إلى ربه، والقوم يطاردونه ويزجرونه، ويفترون عليه، ويسخرون منه، ويكذبونه كما قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 9، 10]. عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه مغلوب، ويدعو ربه أن ينتصر لعبده المغلوب، والله يسمعه ويراه، ويرى ما يفعل به، عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة، وأرسل جندياً من جنوده ليكون في خدمة ونصرة عبده المغلوب: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: 11، 12].

إن هذه العصبة المؤمنة غالية عند الله، وقد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء، وأهلك كل حي، ومكن لها في الأرض. وبينما كانت تلك القوى الكونية تزاول عملها في إهلاك القوم المكذبين كان الله مع رسوله وعباده المؤمنين المغلوبين: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 13، 14]. فهل يتعظ بذلك الطرفان المؤمن والكافر: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} [القمر: 15]. لقد طوى الطوفان المكذبين من قوم نوح، واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، ولم يبق على الأرض من الكافرين دياراً. والمؤمنون أنجاهم الله، واستخلفهم في الأرض، تحقيقاً لوعده سبحانه، وسنته التي لا تتبدل: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48]. وتلك سنة الله في كل من ترك الهدى واتبع الهوى وكذب الرسل: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)} [الفرقان: 37 - 39]. إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى الله. كما لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده المنتسب إليه، الذي يستنصر به، وهو يؤدي رسالته إلى خلقه. وإن قوى الجاهلية والكفر تملك من قواها ما تخيف به الناس، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله التي تملك الكون وما فيه، فالقوى ليست متكافئة ولا متقاربة.

وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله كما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله، والله مع المؤمنين المتقين يكلؤهم وينصرهم كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51، 52]. والذين يسلكون السبيل إلى الله عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملاً بكل ما في طاقتهم من جهد، ويستقيموا على أوامر الله، ثم يدعون الأمور لله في طمأنينة وثقة بالله. وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين الذي بيده كل شيء، وأن يجأروا إليه بالدعاء كما جأر عبده الصالح نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر: 10 - 14]. وكما جأر محمد - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء يوم بدر، واستغاث بربه كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10]. فالمسلم يبذل ما يملك من جهد وطاقة، ويستقيم على أوامر الله، ويتوكل على ربه، ويتوجه إليه وحده، ثم ينتظر فرج الله القريب: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 76، 77]. وإبراهيم لما دعا قومه إلى الله فلم يستجيبوا وأرادوا إحراقه بالنار دعا ربه وتوجه إليه، فلما ألقوه في النار وجه الله أمره إلى النار: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69، 70]. ويونس لما دعا ربه في ظلمات البحر لينجيه من الكرب استجاب الله له كما قال

سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88]. والدعوة إلى الله هي استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والاستقامة والحرارة لنشر الهداية. فمتى استشعر القلب حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في قلبه، فلم يطق عليها سكوتاً: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21]. فالداعي إلى الله لا يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، ويرى الجحود والفجور، ويرى الظلم والطغيان والفساد. فهذا الرجل سعى بالحق الذي استقر في قلبه، وتحرك في شعوره، وسعى به إلى قومه ناصحاً لهم، وهم يكذبون ويهددون. جاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشك أن يصبوه على المرسلين. والذي يظهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولكنها العقيدة الحية تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة ناصحاً لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 20، 21]. إن الذي يدعو هذه الدعوة وهو لا يطلب أجراً ولا يبتغي مغنماً إنه لصادق، وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله؟. وما الذي يدفعه إلى حمل همّ الدعوة ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة، والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً. ثم يتحدث عن نفسه هو، وعن أسباب إيمانه فيقول: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22].

ما الذي يحيد بي عن عبادة ربي؟. فالفطرة مجذوبة إلى الذي فطرها تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها، وهو يحس كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية، كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل، فلم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير، فمن حقه أن يعبدوه ولا يعبدوا معه غيره. ثم يقرر الداعي في وجه قومه المكذبين المهددين قائلاً لهم: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} [يس: 25]. قال ذلك لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب، فهذا الداعي جزاؤه الجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس: 26، 27]. فأما الطغيان الذي واجهه فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره فهو ضعيف، فما كانت إلا صيحة واحدة صرعت القوم، وأخمدت أنفاسهم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} [يس: 28، 29]. فما أعظم جهل العباد بربهم، وما أشد تكذيبهم لرسله: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} [يس: 30 - 32]. إن الدعوة إلى التوحيد التي بعث الله بها رسله كما أن لها أنصاراً، فلها كذلك أعداء يقلبون الحقائق، ويقاومون أهلها، ويوهمون الناس أن وراء هذه الدعوة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العالمون ببواطن الأمور، المدركون لما وراء هذه الدعوة من خبئ. ولهذا يعجبون من دعوة التوحيد الخالصة؛ لأنها خطر عليهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5]. فلا يغتر الناس بهذه الدعوة، فليس ما جاءوا به هو الدين الحق، إنما هو شيء

آخر يراد من وراء هذه الدعوة، شيء ينبغي أن يدعه الناس لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت، فليطمئن الناس؛ لأن الكبراء ساهرون على مصالحهم: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} [ص: 6]. ثم يموهون على الناس بأنهم يعرفون الدين، وأنهم أحرص على مصالحهم، وأن ما جاء به هؤلاء ليس التوحيد الذي يعرفه الناس من قديم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 7]. هكذا قالت قريش، فعقيدة التثليث قد شاعت عند النصارى، وأسطورة العزير قد شاعت عند اليهود، وهما منحرفتان عن التوحيد الخالص: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30]. فكفار قريش كانوا يقولون ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله عند أهل الكتاب. والله عزَّ وجلَّ بعث الأنبياء وأرسل الرسل بأمرين: بالدعوة والعبادة .. بالهداية والاستقامة. وكلهم سار في هذا الطريق، وكلهم عانى، وكلهم ابتلي، وكلهم صبر. وكان الصبر هو زادهم جميعاً، وطابعهم جميعاً، كل حسب درجته في سلم الأنبياء والمرسلين. لقد كانت حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات، مفعمة بالآلام، وحتى السراء كانت ابتلاء، وكانت محكاً للصبر على النعماء، بعد الصبر على الضراء، وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال. وقد اختار الله لهم هذه الحياة وإنها لكذلك، فحياتهم صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؟، وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؟، وكيف تتجرد من الشهوات والمغريات من أجل الله؟، وكيف تخلص لله، وتنجح في امتحانه،

وتختاره على كل شيء سواه؟. ثم لتقول للبشرية في النهاية قولاً عملياً صريحاً: هذا هو الطريق إلى الاستعلاء والعلو بالحق الذي يريده الله، هذا هو الطريق إلى الله دعوة واستقامة وصبر: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49]. وعلى المؤمنين بالرسل وأتباعهم مثل ذلك الصبر والتقوى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله في مواجهة التواءات النفس البشرية وجهلها، واعتزازها بما ألفت، واستكبارها أن يقال إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها، وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء. إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكن شأنه عظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. إن كلمة الدعوة هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ والبيان. ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض، أو بالإنكار أو بسوء الأدب، فهو إنما يتقدم بالحسنة، ويرجو من ربه الحسنى، فليس له أن يرد بالسيئة، فالصبر والتسامح وعدم مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين، ومن العداوة إلى المحبة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو

حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. وبذلك ينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، والاستكبار إلى تواضع، والشدة إلى سماحة. غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، حتى لا يصدر الإحسان في نفس المسيء ضعفاً. ودفع السيئة بالحسنة والسماحة والصبر درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 35]. والغضب قد ينزغ، وقد يلقي الشيطان في الروع قلة الصبر على الإساءة، وضيق الصدر عن السماحة، وحينئذ لا بدَّ من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي يستغل الغضب فينفذ منه إلى قلب الإنسان: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. والداعي إلى الله لا يطلب من الناس أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى نعيم الجنة، وينأى بهم عن عذاب النار، إنما هي مودته وحبه لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} [الشورى: 23]. فما أعظم فضل الله على عباده، ليس هو مجرد تناول الأجر على الهداية، بل إنها الزيادة والفضل، ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر. والله غفور شكور يشكر عباده، ويعظم لهم الأجور، وهو الذي وهبهم التوفيق على الإحسان، ثم هو يزيد لهم الحسنات، ويغفر لهم السيئات، ويشكر لهم بعد هذا وذاك. فيا للجود والفيض، والمعروف والإحسان، الذي يعجز الإنسان عن معرفته ومتابعته فضلاً عن شكره.

والله تبارك وتعالى يوجه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، مع المخالفين المحرومين كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [الجاثية: 14]. هذا توجيه كريم من الكريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله، تسامح المغفرة والعفو، وتسامح الكبر والارتفاع، وتسامح القوة والاستعلاء. فالذين لا يرجون أيام الله مساكين، يستحقون العطف أحياناً، لحرمانهم من ذلك النبع الصافي، نبع الإيمان بالله، والطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية بالله، وبأسمائه وصفاته وأفعاله. والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتعون برحمته وفيضه، أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات هذا من جانب. ومن جانب آخر ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ويحسب لهم العفو والمغفرة عن الإساءة في سجل الحسنات. وكل عائد إلى الله، وهناك الجزاء على العمل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} [الجاثية: 15]. وبذلك يتسع صدر المؤمن، ويرتفع شعوره، ويحتمل الإساءة الفردية المتكررة، والنزوات الحمقاء من الجاهلين والمطموسين في غير ضعف وفي غير ضيق، فهو أكبر وأفسح وأقوى. وهو حامل مشعل الهدى للتائهين المحرومين من النور، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع، وهو مجزي بعمله لا يصيبه من وزر المسيء شيء، والأمر لله في النهاية، وإليه المرجع والمآب والحساب والعقاب: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، وقد أوصاه ربه بالصبر والثبات في جميع الأحوال كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا

يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]. وقد سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير، فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير. عبء هداية البشرية جميعها .. وعبء هداية الأجيال كلها .. لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله، وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجدّ في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب. إن مشقة الدعوة هي مشقة الصبر لحكم الله حتى يأتي موعده في الوقت الذي يريده بحكمته. وفي طريق الدعوة مشقات كثيرة: مشقات التكذيب والتعذيب .. ومشقات الالتواء والعناد .. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه .. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون .. ثم مشقات إمساك النفس عن هذا كله .. ولزومها الحق راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق .. لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق مهما كانت مشقات الطريق. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق، وبذلك أوصى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل قبله بقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 34، 35].

ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن جعل مواكب الإيمان، ومواكب الدعوة، مستمرة دائماً تذكر الناس بربهم، وتعرفهم بمنهج الله، وتحثهم عليه، وترغبهم فيه، وتعلمهم إياه. فأساس المنهج الإيماني، أن يواجه الداعي الناس بالدعوة إلى الله، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له كما في قصة أصحاب القرية: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} [يس: 14]. أما موكب الإيمان في سورة الكهف فإنهم لم يواجهوا قومهم، بل هربوا بدينهم وفروا بعيداً عن الكفار كما قال الله عنهم: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} [الكهف: 10]. هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، إنما هم يمثلون المنهج الإيماني واستمراره. فهل في هذا تناقض؟. يبقى الإنسان مرة يجادل .. ومرة يهرب ويفر بدينه؟. والجواب: أن هذا عين الحكمة، فالحكمة في المثلين واحدة وإن اختلف الأسلوب. فالله سبحانه يريد أن يبقي المنهج الإيماني مواجهاً للكفار، مجادلاً لهم حتى آخر لحظة، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد من المنهج الإيماني إذا واجه قوة ستقضي عليه أن يستسلم ويتركها تقضي عليه، إنما عليه أن يفر بدينه إلى مكان آخر، ثم يعود مرة أخرى بعد أن يكون قد قوي واستطاع المواجهة. والله عزَّ وجلَّ لا يريد من الدعاة إلى الله أن يهربوا من المجتمع، أو أن يعتزلوا، بل لا بدَّ أن يبقوا وأن يقولوا كلمة الحق، وأن تظل الدعوة مستمرة كما في قصة صاحب يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} [يس: 20]. والله سبحانه في سورة الكهف قد حدد شرطين لا ثالث لهما ليفر الإنسان بدينه

إلى مكان آخر، ويبدأ بالدعوة من جديد بقوله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف: 20]. فالفتية المؤمنون إذا بقوا فإنهم سيواجهون أحد أمرين: إما أن يرجموهم علناً أمام الناس، ويقتلوهم على رؤوس الأشهاد، وفي هذه الحالة ينتهي موكب الإيمان من هذه البلدة. وإما أن يجبروهم علناً على أن يعودوا إلى عبادة الأصنام، وفي هذه الحالة فالمؤمنون الذين يكتمون إيمانهم سيقتدون بهم، ويرتدون عن الإيمان كما ارتدوا هم، وتلك فتنة، وبذلك يتوقف موكب الإيمان فترة. فالأساس والأصل استمرار موكب الإيمان بالمواجهة، أو المحافظة عليه حتى يقوى ثم يعود: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} [الكهف: 13]. هؤلاء الفتية وجدوا أن بقاءهم في المجتمع الكافر سيعرضهم لأحد شيئين: إما أن يقتلوا ويحرم المنهج ممن يدعو إليه، وفي هذه الحالة قتلهم لا يفيد المنهج؛ لأن المنهج محتاج لموكب إيماني يتحرك به. وإما أن يكرهوا على الكفر فيصبحوا فتنة للذين آمنوا، ودعاة إلى الكفر والإلحاد، وفي هذه الحالة يحرم المنهج الإيماني من حاملين له، ومؤمنين به، ودعاة له. وفي هذه الحالة لا بدَّ أن يفروا بدينهم إلى مكان آخر، ليعودوا مرة أخرى وهم أكثر قوة، فحين آذى الكفار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله اختفى في الغار، ثم هاجر إلى المدينة، ثم عاد فاتحاً للبلد التي أخرجته، وأراد أهلها قتله. وموكب الإيمان في الإسلام لا يهمل أمور الدنيا ويتركها، بل هو يأخذ بأسباب الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]. ولما كان الاشتغال بالتجارة والمكاسب مظنة الغفلة عن ذكر الله أمر الله بالإكثار

من ذكره كما قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]. وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وبذلك يعلم المؤمن أن موكب الإيمان يسعى دائماً إلى مواجهة الكفر والإلحاد بالحجة والبرهان، وأن هذا الموكب الإيماني لا يتوقف أبداً، وأن الكفار لعجزهم عن الحجة والبرهان والإقناع يلجأون إلى القوة والعنف. وهؤلاء الكفار ليسوا بمعجزين في الأرض، فالله إذا تركهم في غيهم فلأنه كتب على نفسه أن يترك الإنسان مختاراً أن يؤمن أو يكفر، وليس لقوتهم وعلو شأنهم، والله قادر على أن ينصر دينه دون معونة أحد من البشر، وأن يهدي الناس جميعاً بلا دعوة أحد، ولكن مواكب الإيمان رحمة من الله سبحانه لعباده المؤمنين ليثيبهم بها في الآخرة، ويرفع درجاتهم، ويدخلهم الجنة: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. والدعاة بين البشر صنفان: دعاة إلى الحق .. ودعاة إلى الباطل. فدعاة الحق هم الأنبياء والرسل وأتباعهم من المؤمنين الذين يدعون إلى الله، ودعاة الباطل هم إبليس وذريته وأتباعه من شياطين الإنس والجن. وهؤلاء .. وهؤلاء .. كلهم قائمون بالدعوة إلى يوم القيامة. هؤلاء يدعون إلى الجنة .. وهؤلاء يدعون إلى النار. حتى إذا بلغ الأجل، واكتمل من شاء الله من عدد أهل الجنة، وعدد أهل النار، انقطع الميلاد والنسل. وقد علم الله من يصلح للجنة والكرامة .. وعلم من يصلح للنار والإهانة، ولكن لإقامة الحجة أرسل الله رسلاً من الإنس والشياطين إلى هؤلاء وهؤلاء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. واصطفى الله سبحانه من الناس من يدعو إليه من الأنبياء والرسل وأتباعهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 23، 24]. وجعل من أهل الشر من يدعو إلى النار كما قال سبحانه في آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص: 41]. وقال سبحانه عن الكفار: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221]. فإبليس وذريته باقون دعاة إلى الباطل، إلى النار، إلى يوم القيامة. أما الرسل والأنبياء فماتوا، وختمهم الله بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فمات، ولكن الله جعل أمته خير أمة أخرجت للناس نائبة عنه، ومبلغة لدين الحق إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. فللحق دعاة .. وللباطل دعاة .. وللجنة دعاة .. وللنار دعاة .. وللدنيا دعاة .. وللآخرة دعاة .. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. فلينظر العبد من أي الدعاة هو؟ .. وعلى أي طريق يسير؟ .. وإلى أي دار يعمل ويدعو؟. إن الواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي، وجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في آن واحد. والدين خطوتان: خطوة للعبادة، وخطوة للدعوة، ولا بدَّ لكل مسلم أن

يخطوهما. ونشر الدين يحتاج إلى خطوات المجتهدين .. وبكاء الخاشعين .. ومداد العلماء .. ودماء الشهداء .. وأخلاق الأتقياء. وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضعف الإيمان، وصارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله. والمطلوب من المسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله، ولكن الأعداء جعلوا الرجل والمرأة ماكينات للاستمتاع والشهوات، والله يريد منهما أن يكونا محلاً للإيمان والأعمال الصالحة، ونشر الهداية. ومزاج المسلم الطاعة، وكل مشاكل العالم جميعها تعود إلى عدم الطاعة، والطاعة لا تأتي إلا بالإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالدعوة. وكثير من الناس في العبادة كالصلاة يحرص على الصف الأول، وفي الدعوة لم يفكر أن يمشي خطوة فضلاً عن خطوات والتضحية بالأموال والأوقات، فمتى يظهر الحق ويزول الباطل، وتظهر الفضائل وتدبر الرذائل، وأحوال أكثر المسلمين هكذا؟. ومتى تفتح أبواب الهداية وأكثر المسلمين قعود عن الدعوة إلى الله، مشغولون بالدعوة إلى الأموال والأشياء؟. وبسبب ترك الدعوة إلى الله حرمنا الحزن على الكفار، ثم حرمنا الحزن على العصاة، ثم انتقلت إلينا صفاتهم. ولما كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله كان كل يوم يظهر الحق، ويزهق الباطل، ويدخل الناس في الدين، وبسبب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة دخل الناس في دين الله أفراداً، وبعد كمال التضحية دخلوا في دين الله أفواجا كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

والصحابة رضي الله عنهم خرجوا من مكة إلى المدينة لنشر الهداية، وتعليم الدين، ونحن نخرج من بيوتنا وديارنا لطلب الدنيا وإكمال الشهوات، ولا نخرج لنشر الهداية، وإبلاغ الدين، وتعليم أحكامه، فكيف نكون رحمة للعالمين؟. إن رحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع خلق الله. والمطلوب من المسلم أن يعيش حياته تحت أوامر الله، لا تحت هواه وشهواته، فللدين أوامر، ولجهد الدين أوامر، وكلاهما مطلوب من المسلم، فالصلاة من الدين ولها أوامر، والدعوة إلى الله من الدين ولها أوامر. فعلى المسلم أن يقوم بالدعوة بكل قوة .. وبكل طاقة .. وفي كل وقت .. لكن مع هذا يدعو الله .. ويستغفر الله .. ويتوكل على الله. وإذا قامت الدعوة على الأصول الشرعية جاء الإيمان والتقوى، وحسن الخلق، ونزلت الهداية والرحمة على الأمة. والله عزَّ وجلَّ أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أكثر المسلمين ترك الدعوة إلى الله؛ لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح. ونشر الدين .. ونصرة الدين .. وإظهار الدين .. وحفظ الدين .. كل ذلك بيد الله وحده، لكن نحن مأمورون بالدعوة والجهد للدين. فالعابد فقط ميدانه نفسه .. والداعي ميدانه كل الناس .. والبحر لا يقارن بالقطرة، والجبل لا يقارن بالذرة، والشمس لا تقارن بالشمعة. ومن العجب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من السقوط في حفرة أو بحر أو نار، وهذا واجب، لكننا تركنا ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يتردون في أودية الكفر والفسوق والعصيان في كل لحظة، ويذهبون إلى نار جهنم بعد موتهم. والصحابة لما قدموا جهد الدين على جهد الدنيا جاءت المنافع والبركات

والفتوحات، ونزلت الهدايات، ونحن لما قدمنا جهد الدنيا على جهد الدين جاءت إلينا الذلة، وحلت بنا المصائب، وانتشرت فينا المعاصي. ولحل مشاكل الأمة يجب علينا سؤال القرآن والحديث لنأخذ العلاج منهما، لكن المصيبة أن الذي بيده كل شيء أكثر الناس معرضون عنه، غير مستعدين للتعامل معه، وطاعة أوامره: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21]. إن الأمة إذا لم تسلك طريق الأنبياء والمرسلين لم يبق لها إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين. إن الداعي إلى الله إذا قام بالدعوة حصل له لأجر والهداية وإن لم يستجب الناس، فإن استجابوا له فله مثل أجرهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. إن وظيفة الدعوة إلى الله كوظيفة الملك، وبقية الوظائف كوظيفة الخدم، والمصيبة أن أكثر الناس اشتغل بوظيفة الخدم عن وظيفة الأنبياء والمرسلين، ويطمع مع ذلك بمنازل الأنبياء والصديقين. ومن المؤسف حقاً أن الإنسان يجتهد في معرفة استخدام كل آلة؛ لأنه يعرف قيمتها ومنافعها، ولا يعرف كيف يستخدم نفسه الاستخدام السليم الذي يرضي به مولاه، وذلك لجهله بخالقها وقيمتها ومنافعها وما أعده الله لها. ومحبة الدنيا تخرج من القلب عظمة الله وعظمة الدين، وإذا قمنا بجهد الدعوة جاءت في قلوبنا عظمة الله وعظمة دينه، وسهل علينا امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، ولا يستطيع الداعي إخراج عظمة غير الله من قلوب الناس حتى يخرج عظمة غير الله من قلبه. وقد يضعف إيمان أهل الحق فيرون الباطل له صولات وجولات، ويعظم ذلك في نفوسهم، لما يرونه من بطش أهل الباطل، وشدة إعراضهم، وتتابع أذاهم للمؤمنين.

وهنا لا بدَّ للمؤمنين من الصبر والدعاء، ولهذا أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى الكفار، وأمره أن يتعوض عن ذلك ويستعين عليه بالتسبيح بحمد ربه ليحصل له الرضا من ربه، ويطمئن قلبه، وتقر عينه بعبادة ربه، كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]. والدعوة إلى الله أعظم وظائف المسلم، ولا بدَّ عند القيام بها من الحكمة، فيؤخذ الناس باللين والرفق لا بالشدة والعنف، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تلين في الدعوة، وبسبب لينه في صلح الحديبية صار الأمان والاختلاط بين المسلمين والمشركين. فرأى المشركون في المسلمين صفات جذبتهم إلى الدين: الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. فدخلوا في الإسلام طائعين راغبين. ففي السنة السادسة من الهجرة كان صلح الحديبية، والمسلمون منذ تسع عشرة سنة كانوا لا يزيدون على ألف وخمسمائة إلا قليلاً، وبعد الصلح دخل الناس في دين الله أفواجاً. فكان فتح مكة بعد سنتين في السنة الثامنة من الهجرة والمسلمون يزيدون على عشرة آلاف، ثم بعد سنتين في السنة العاشرة عام غزوة تبوك كان المسلمون أكثر من ثلاثين ألفاً. ثم بعد سنة في السنة الحادية عشرة حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين أكثر من مائة وعشرين ألفاً من المسلمين. ولما أكمل الله أصول الدين وأحكامه .. وأصول الدعوة وأحكامها .. حمَّل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة مسئولية الدين في حجة الوداع، وأمرهم بأن يبلغ الشاهد

منهم الغائب، ثم قبض الله رسوله بعد كمال الدين وتمام النعمة ودخول الناس في دين الله أفواجاً كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. وبقيت على الأمة من بعده مسئوليات أربع: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين. والداعي إذا ذهب إلى الأمصار والقرى للدعوة إلى الله حصلت بسببه مصلحتان: الأولى: مصلحة الداعية بوجود البيئة التي يزيد فيها إيمانه، وتحسن أعماله، وتعينه على امتثال أوامر الله. الثانية: مصلحة الأمة بوجود بيئة الإيمان والعلم والأعمال، فيتأثرون بها، ويرون أحوالها ويستفيدون من مواعظها. وجهد الدعوة يمشي ويعطي ثماره بستة أمور: باليقين والتوكل .. والهدوء والتدرج .. والتيسير والتبشير .. والرفق واللين .. والإلفة والمحبة .. والتوقير والإكرام. ولا بدَّ من الحكمة في دعوة البشر، والحكمة لا تأتي إلا بالطلب الصادق من العبد، وحزنه على معاصي البشر، والرغبة في زوالها، وهيجان القلب بمحبة نجاة الناس من عذاب جهنم، والاستعانة بالله والاستغاثة به، وامتلاء القلب برحمة الناس. ولا بدَّ من استعمال كل الأوقات للدعوة إلى الله، فكل شيء له وقت محدد إلا الدعوة فهي كل وقت، فالصلاة لها وقت، والصوم له وقت، والحج له وقت، والجهاد له وقت، أما الدعوة والذكر فلهما كل وقت، ولكن لا نترك التجارة، ولا جهد التجارة، لكن نؤخر ذلك حتى يعود الناس إلى الله. وللداعي حالتان:

الأولى: حالة إدبار الناس عنه وإيذائهم له وسخريتهم منه كما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - من كفار قريش وأهل الطائف. وفي هذه الحالة يزداد توجهه إلى ربه فيدعوه فيستجيب له كما نزل ملك الجبال لنصرة الرسول ممن آذاه. الثانية: حالة إقبال الناس عليه واستجابتهم له وفرحهم بقدومه كما حصل من أهل المدينة في استقبال الرسول والمهاجرين وفي هذه الحالة يجب عليه أمران: أحدهما: شكر الله الذي هيأ له ذلك، وجمع الناس، وجعله سبباً لهدايتهم، واستغفاره من التقصير. الثاني: تفقد نيته لئلا يغرَّه الشيطان ويحوله من الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى نفسه، ويعجبه بحسن أسلوبه وغزارة علمه، وينسى الذي علمه وأرسله وأعانه، فالدعوة من المخلوق ولها أجرها، والهداية شيء آخر من الله ولها أجرها. فالعبادة عمل المسلم، والدعوة وظيفته إلى أن يلقى ربه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

6 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). المعروف: هو التوحيد والإيمان والطاعات وكل خير. والمنكر: هو الشرك والكفر والمعاصي وكل شر. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمان من سهام الإسلام، وهما وظيفة الأنبياء والرسل، وقد شرف الله بهما هذه الأمة، فهم خير الأمم إذا قاموا بذلك. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أصول الدين، وهما وظيفة الأمة، فهما واجبان على كل مسلم ومسلمة كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه وظيفته التي شرفه بها ربه، وكلفه بها، ووعده على ذلك الثواب العظيم والأجر الجزيل. والمسلم يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالاً لأمر الله ورسوله: إما رجاء الثواب الذي يحصل له عند القيام بهما .. وإما خوف العقاب على تركهما .. وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه .. وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم وإنقاذهم مما وقعوا فيه من التعرض لعقوبة الله .. وتارة يحمل ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (49).

العبد على القيام بهما إجلال الله وتعظيمه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع ويذكر ويشكر .. وتارة لرؤية الشيطان يتلاعب بالعباد، ويسوقهم إلى المعاصي والفواحش فيغار الإنسان عليهم. والواجب شكر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدعاء لهم، وإكرامهم والوقوف معهم، فمن نبهك على وجود عقرب في بدنك، أو أهدى إليك هدية فعليك أن تشكره، وترضى عنه، وتدعو له، لا أن تمتعض منه. وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يصبر على إهانة الناس له: فإن كانت إهانتهم تعود لكوني مشاركاً في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأحيل ذلك الشخص إلى مُنزل القرآن، الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم. وإن كان كلامه من نوع تحقير وإهانة لشخصي بالذات، فهذا أيضاً لا يخصني، وإنما أنا كالأسير، وإهانة الأسير تعود إلى مالكه، فهو الذي يدافع عنه كما قال الرجل الصالح الناصح لقومه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} [غافر: 44، 45]. ويجب على من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أولاً: العلم بالمعروف والمنكر، والتمييز بينهما، والعلم بحال المأمور، وحال المنهي. ثانياً: الرفق بالناس حال أدائهما، فالله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، واللين يقطع أعظم مما يقطع السيف. ثالثاً: الحلم والصبر على الأذى من الناس كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10].

فلا بدَّ من هذه الثلاثة: العلم قبل الأمر والنهي .. والرفق معه .. والصبر بعده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاهما لازم، لكن الأمر بالمعروف قبل النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف هو الأصل، وبه يستقيم الناس على الدين، فإذا ركب الناس الفواحش، وغشوا المحرمات، وتركوا الطاعات، وأقبلوا على المعاصي، وجب تغيير هذه المنكرات كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). ولتغيير المنكر ثلاث درجات: الأولى: تغيير المنكر باليد، وهذا خاص بولي الأمر، أو من ينيبه عنه، إذ جعل الله له القوة والسلطان والجاه، وخضوع الرعية له. فكل من مكنه الله في الأرض لزم عليه تغيير المنكر باليد، وذلك يشمل حاكم الدولة، والقاضي في محكمته، والقائد في جيشه، والمدير في مصلحته، والأب في منزله. الثانية: تغيير المنكر باللسان، وهذا خاص بالعلماء والدعاة، ويكون بالقول الحسن، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا يخشى في الله لومة لائم. الثالثة: تغيير المنكر بالقلب، وهذا أضعف الإيمان، وآخر المراتب، وهو في الوقت نفسه مهم جداً، ولذا يجب على كل مسلم ومسلمة من العامة والخاصة، ولا يسقط عن المكلف في كل زمان ومكان. والإنكار بالقلب يكون كالتالي: بغض المعصية التي رآها أو سمعها .. التمني وهو أن يتمنى أن لو يستطيع أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (49).

يزيل هذا المنكر بيده أو لسانه .. والدعاء بأن يدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وأن يهدي قلب صاحبه إلى الصراط المستقيم. وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة أحوال: فتارة يصلح الأمر .. وتارة يصلح النهي .. وتارة يصلح الأمر والنهي .. وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق. والمنافع التي يجب على المسلم بذلها نوعان: منها ما هو حق المال كالزكاة الواجبة في الأموال لحاجة الفقراء والمساكين ونحوهم. ومنها ما هو واجب لحاجة عامة الناس إليها، فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة كتعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم بالعدل، والجهاد في سيبل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسانية من مهلكة ونحو ذلك. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله، وأمرنا أن ننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم، ففي المخلوقات والصفات والأعمال ما نبغضه ونسخطه ونكرهه، وفيها ما نحبه ونرضاه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. وإذا كان الله يبغض السيئ منها ويكرهه وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمره الله أن يكرهها ويبغضها؟. وقد أمر الله عباده بكل ما يحبه ويرضيه، ونهاهم عما يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي

غير الدعوة، فالدعوة بيان، والأمر والنهي سلطان، وقد جمع الله بينهما في قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والإصلاح درجات تبدأ: أولاً: بإصلاح النفس وتزكيتها بالأخلاق العالية، لتكون زهرة فواحة بالروائح الطيبة، من لم يقترب منها تأثر برائحتها الطيبة. ثانياً: ثم إصلاح المجتمع، حتى تنتقل هذه الأخلاق الكريمة إلى المجتمع فرداً فرداً، فتدخل البيوت، وتتجمل بها الأسر، وتتزين بها القبائل. ثالثاً: ثم إصلاح الدولة، ليكون حكامها ووزراؤها وعمالها وتجارها هم نواة هذا المجتمع الذي آمن بالله ورسوله، وامتثل أوامر الله ورسوله في كل حال. فإصلاح أحوال المملكة لا يتم إلا بعد إصلاح النفس ثم إصلاح المجتمع، وقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - النفوس في مكة، فلما آمنت واستعدت للطاعة نزلت الأحكام وقامت الولاية في المدينة. وقد بعث الله عزَّ وجلَّ هذه الأمة كما بعث الأنبياء بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتبشير والإنذار، والتعلم والتوجيه كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وكثيراً ما يقع ثناء الناس على البناء والأصباغ دون الأساس؛ لأنه لا يرى، ولا قيمة للبناء لولا الأساس. وكذلك كثيراً ما يثني الناس على العالم أو الداعية، وينسون الأنبياء والرسل الذين هم سبب الهداية، بل ينسون ربهم الذي أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وهداهم صراطه المستقيم، فلا يذكرونه ولا يحمدونه، فاعتبروا يا أولي الأبصار؟. وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين على كل مسلم ومسلمة

فهل للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟. والله يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44]. ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]. والجواب: نعم. فإن المسلم مأمور بشيئين: أحدهما: فعل الطاعات وترك المعاصي. والثاني: أمر غيره بفعل الطاعات وترك المعاصي. وكمال العبد بالقيام بهما معاً، والإخلال بأحد الأمرين لا يقتضي الإخلال بالآخر. ومعنى الآيتين تنبيه وتحذير للمسلمين لعدم الجمع بينهما فعل المحرم، ونهي الناس عنه، فهذا لا يليق بالعامل، فضلاً عن المسلم، فضلاً عن العالم أو الداعي إلى الله. ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التعريف، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً فإذا عرف أقلع عنه، فيجب تعريفه بلطف. ومنها ستر العيوب والقبائح: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» أخرجه مسلم (¬1). وفي الجهر بذكر العيوب والسيئات مفسدتان كبيرتان: الأولى: أن ذلك يجلب العداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء، ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد يفضي إلى جحد الحقوق، وسفك الدماء. الثانية: أن الجهر بالسوء بين الناس يؤثر في نفوس السامعين، فيقتدي بعضهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699).

بعض، فيجهر بالسوء مثله، أو يقلد فاعل السوء في عمله، والجهر بالسوء مباح للمظلوم للضرورة كما قال سبحانه: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)} [النساء: 148]. والمعروف قسمان: ظاهر كالصلاة والزكاة ونحوهما .. وباطن كالإيمان والتوحيد ونحوهما. والمنكر قسمان: ظاهر كالقتل والزنا والفواحش .. وباطن كالشرك والكبر والنفاق. وإنكار المنكر له أربع حالات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزُل بجملته. الثالثة: أن يزول ويخلفه مثله. الرابعة: أن يزول ويخلفه ما هو شر منه. فالأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار المنكر وتغيير المنكر ليحصل بذلك من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله منه، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإن ذلك أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟. فقال: «لا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ» أخرجه مسلم (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْ أمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1855).

شِبْراً فَمَاتَ، إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» متفق عليه (¬1). ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار رآها من إضاعة هذا الأصل العظيم، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات وألوان الشرك في أول بعثته ولم يستطع تغييرها بيده مع بغضه لها. بل لما فتح مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالجاهلية. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «يا عائشة: لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ؛ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأدْخَلْتُ فِيهِ مَا أخْرِجَ مِنْهُ، وَألْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيّاً وَبَابًا غَربيّاً، فَبَلَغْتُ بِهِ أسَاسَ إِبْرَاهِيمَ» متفق عليه (¬2). ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه من سفك الدماء واضطراب الأمن. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كالرماية وسباق الخيل ونحوهما. وإذا رأيت الكفار المقاتلين يشربون الخمر فلا تنكر عليهم؛ لأن الله عزَّ وجلَّ إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية، وأخذ الأموال، وهكذا. وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب الحرج والمشقة، وحصول الفتن، وتكليف ما لا سبيل إليه، وما يُعلم أن الشريعة لا تأتي به. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الأنبياء والرسل، ووظيفة هذه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7054) واللفظ له، ومسلم برقم (1849). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1586)، واللفظ له، ومسلم برقم (1333).

الأمة، والقيام بها من أشرف الأعمال، فلا بدَّ لمن يقوم بهما من العلم لئلا يقع فيما حرم الله، ويوقع عباد الله فيما حرم الله، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إفتاء عملي بدون سؤال، تثيره أحوال الناس وفشو المعاصي بينهم. ولا بدَّ من سلطة في الأرض وجماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالدعوة إلى الله تعود بالناس إلى خالقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيانة للمؤمنين لئلا يقعوا فيما حرم الله، وليقبلوا على ما يحبه الله ويعرفونه ويدعون إليه كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. ومنهج الله في الأرض إيمان وعمل، وبناء وتكوين، وأمر ونهي، وليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان فقط فهذا شطر. والشطر الآخر الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لتستقيم الحياة البشرية على منهج الله، وتصان حياة الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى، وكل ذي شهوة، وكل ذي مصلحة. والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ليس بالهين ولا باليسير إذا نظرنا إلى طبيعته وما يتطلبه من جهد وصبر وبذل، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم. وفيهم الجاهل الغافل .. وفيهم الجبار الغاشم .. وفيهم الحاكم المتسلط .. وفيهم الهابط الذي يكره الصعود .. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد .. وفيهم المنحل الذي يكره الجد .. وفيهم الظالم الذي يكره العدل .. وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة .. وفيهم من يكره المعروف .. وفيهم من يحب المنكر ويفعله وينشره ويدافع عنه. ولا يمكن أن تفلح الأمة، بل لا تفلح البشرية قاطبة إلا أن يسود فيها المنهج

الإلهي، ويكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً محارباً، وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى وتطاع. ومن ثم فلا بدَّ من جماعة تتلاقى على الإيمان بالله والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى، ثم بقوة الحب والإلفة، وهؤلاء هم المفلحون كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والله عزَّ وجلَّ بقدر ما كلف هذه الأمة بهذا الواجب العظيم، أكرمها في نفس الوقت ورفع مكانها ومقامها، وأفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه أمة أخرى كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. فهذه الأمة أخرجها الله للناس لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة بما أنها خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة والإمامة للخير لا للشر في هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة، ومن ثم فهي تمثل حياة الأنبياء والرسل، ولا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما يجب عليها أن تعطي هذه الأمم مما لديها، وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه: من الاعتقاد الصحيح .. والفكر الصحيح .. والنظام الصحيح .. والعلم الصحيح .. والعمل الصحيح .. والخلق المليح. فهذا الواجب يحتم عليها أن تكون في الطليعة دائماً وفي مركز القيادة دائماً، وفي منبر التوجيه والإرشاد دائماً. وأول متطلبات هذا المكان أن تدعو الناس إلى خالقهم، وأن تقوم على صيانة حياة البشرية من الشر والفساد، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمة أخرجت للناس بعملها في حفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد

المعروف والمنكر، لتتحقق الصورة الحسنة التي يحب الله أن تكون الحياة عليها، ويتحقق مراد الله من خلقه، وتحصل للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة. وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتعاون على البر والتقوى، وأن تتواصى بالحق، وأن تهتدي بهدى الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها، ولا يضرها بعد ذلك أن يضل الناس حولها ما دامت قائمة على الدين والهدى. وليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى، والهدى هو دينها وشريعتها. فإذا هي أقامت نظامها في الأرض، بقي عليها أن تدعو الناس كافة إليه، وأن تحاول هدايتهم إليه. وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة، لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم. وكون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، وذلك لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً ثم في الأرض جميعاً. وأول المعروف وأعظمه الإسلام لله، وتحكيم شرعه في كل شيء، وأول المنكر وأعظمه الكفر بالله، وتحكيم غير شرعه في خلقه. فعلى المسلم أن يدري ويعلم أن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، ولا يصلح إلا بعلم وعمل ونصح. ولا بدَّ لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، وإقامتهم عليه، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولإقامة شريعة الله في الأرض، وإقامة الناس عليها. لا بدَّ من جهد بالحسنى حتى تنتشر الهداية في البشرية، وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يعمل

به في ملكه. وبذلك تبرأ ذمة المؤمنين، وينال الظالم جزاءه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105]. والمؤمن يفرح دائماً بالإيمان بالله وطاعته وعبادته كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وهو كذلك مستعد دائماً لتنبيه الغافل، وتذكير الناس، وهداية الضال، ونصح من زل، في كل زمان ومكان، وعلى أي حال حسب استطاعته، فماذا يبقى من الشر والفساد إذا كان كل مسلم يؤدي هذه الوظيفة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). إن كمال كل شيء بأمرين: الأول: أن يبلغ في تلك الصفة شأوه البعيد. الثاني: أن تستحكم فيه تلك الصفة لحد يجعله يؤثر في غيره، ويطبعه بطابع نفسه. فالثلج مثلاً كماله الأول ببرودته في ذاته، وكماله الثاني أن يبرد غيره. والنار كمالها الأول بشدة حرارتها في ذاتها، وكمالها الثاني بإحراق غيرها. فكذلك الكمال الأول للرجل الصالح أن يبلغ قمة الصلاح في حد ذاته، وكماله الثاني أن يكون مصلحاً لغيره بتأثيره فيه. فالمؤمن إذا كان راسخاً في إيمانه كاملاً في طاعته للحق فهو على الكمال الأول من حيث اتصافه بصفة الإيمان. فإذا قويت فيه تلك الصفة واستحكمت لدرجة أنه بدأ يدعو غيره إلى الحق، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (49).

ويهيب به إلى اتباعه، والسير في طاعة الله من خلال سلوكه المثالي وأخلاقه الكريمة، فإنه يرقى إلى الكمال الثاني بإصلاح غيره. فللإيمان كمالان: أولهما: أن يكون المؤمن في حد ذاته متقياً لله، خاشعاً له، مطيعاً لأحكامه وأوامره إلى آخر أنفاس حياته، معتصماً بحبله المتين بكل ما له من قوة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. الثاني: أن يكون المؤمن داعياً إلى الخير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وهذا النوع من الكمال على مراتب متفاوتة: فالشمعة والمصباح، والقمر والشمس، كل هذه أدوات تنوير وإضاءة، فالشمعة لا تنير إلا حجرة صغيرة، بينما المصباح ينير بيتاً كبيراً، ويضيء القمر والأرض وما حولها، وتضيء الشمس عالماً كبيراً. وكذلك المؤمن إذا جعل قلب غيره يستنير بنور الإيمان، فإنه يدخل في مرتبة الكمال الثاني، ولكن لا يكون ذلك إلا أدنى مراتب هذا الكمال. ثم هناك مراتب أخرى يختلف بعضها عن بعض باختلاف أبعادها وفق قيامه بالدعوة في نطاق فئة من الفئات، أو شعب من الشعوب، أو قطر من الأقطار، أو أمة من الأمم. وأعلى مراتب هذا الكمال أن تكون دعوته تشمل العالم بأسره، فلا يسمح بوجود المنكر في ناحية من المعمورة إلا ويتجافى جنبه عن المضجع، ويشمر عن ساق جده لمحوه واستئصال شأفته، ولا يعد نفسه مختصاً بأمة أو قطر أو رقعة من الأرض، أو جنس من الأجناس. وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن غاية المسلم هي عبادة الله وحده لا شريك له، واستفراغ

جهده لجعل العالم من أقصاه إلى أقصاه متبعاً للشريعة الإلهية الغراء كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. والمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع مما يحبه الله ويرضاه. والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه ونهى عنه من الأقوال والأعمال والأعيان وغيرها مما يغضب الله ويسخطه. ومن حق المسلم على أخيه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح دنياه وآخرته وينقذه من مضارها، ولهذا كانت الأنبياء والرسل أولياء المؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها. وإبليس وذريته أعداء المؤمنين لسعيهم في إفساد إيمانهم وأعمالهم وإضلالهم عن ذلك. ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحد، ولو كان لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه الأمر والنهي، والهداية والقبول بيد الله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة: 99]. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كان عالماً بما يأمر به وبما ينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الناس والأشياء. فإن كان من الواجبات الظاهرة كالصلاة والصيام، والمحرمات المشهورة كالزنا والخمر ونحوهما، فكل المسلمين علماء بذلك. وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال والأحكام لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه مما لم يرد فيه دليل فلا إنكار فيه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ومسلمة كما قال

سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. والمسلم يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان، في إقامته وسفره، وفي بيته وسوقه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ». فَقالوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قال: «فَإِذَا أبَيْتُمْ إِلا الْمَجَالِسَ، فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا». قالوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قال: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ» متفق عليه (¬1). والمسلم إذا أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، وذكره بما يجب عليه، وأحبه الناس ودعوا له، وإذا نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، وذكر الغافل، وانبعث له من المؤمنين من يؤازره ويعينه. ومن أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليثق بالثواب من الله تعالى، وليتيقن أن الله معه، فمتى شعر بذلك لم يجد مس الأذى، واشتغل بإصلاح نفسه وإصلاح غيره، وهذا عمل الأنبياء والرسل وأتباعهم: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]. والناس يختلفون في قبول الإيمان والعمل بالأحكام، وعند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بدَّ من مراعاة ذلك. فالناس أربعة أقسام: الأول: قوي الإيمان، عالم بالأحكام. فهذا ليس له عذر، فإذا وقعت منه معصية ينكر عليه بقوة، ويعامل معاملة أشد، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2465)، واللفظ له، ومسلم برقم (2121).

لئلا يكون قدوة لغيره في المعصية، كما اعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين ليلة، وأمر الناس بهجرهم لما تركوا الخروج لغزوة تبوك مع كمال إيمانهم وعلمهم. الثاني: قوي الإيمان، جاهل بالأحكام. فهذا يدعى مباشرة ببيان الحكم الشرعي، وبيان خطر اقتراف المعاصي، وإزالة المنكر الذي وقع فيه. عَنْ عبْدِالله ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ في يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِنْ نََارٍ فيجْعَلُهَا في يَدِهِ»، فَقيلَ لِلَّرََجُلِ، بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِِهِ، قَالَ لا، وَاللهِ! لا آخُذُهُ أَبَدًا، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -» أخرجه مسلم (¬1). الثالث: ضعيف الإيمان، عالم بالأحكام. فهذا يدعى بالرفق واللين بالحكمة والموعظة الحسنة، ليزيد إيمانه فيطيع ربه، ويتوب من معصيته. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأَِخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2090).

وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». قال: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. أخرجه أحمد والطبراني (¬1). الرابع: ضعيف الإيمان، جاهل بالأحكام. فهذا نصبر عليه، ونرفق به، ونعرفه بعظمة من يعصيه، ونعلمه الحكم بالرفق واللطف، ولا نوبخه ولا نزجره ولا نعنفه، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأعرابي الذي بال في المسجد. عن أنس - رضي الله عنه - قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ. قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». أوْ كَمَا قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فَأمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. متفق عليه (¬2). فالمعاصي آفات تصيب القلوب والجوارح، ولإزالتها لا بدَّ من تخلية وتحلية، ببيان عظمة الله، وعظمة كتابه، وعظمة أوامره، وعظمة اليوم الآخر. وبيان خطر المعاصي والسيئات على النفس، وعلى المجتمع، وعلى الأمة، وبيان فضل الطاعات والفضائل وحسن التحلي بها، وبيان خطر المعاصي والرذائل وقبح التلوث بها. فهل نقوم بوظيفة الأنبياء والمرسلين، ونبتعد عن وظيفة الشياطين والملحدين كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104، 105]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22564)، وهذا لفظه. وأخرجه الطبراني في الكبير (8: 162)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (370). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (219)، ومسلم برقم (285)، واللفظ له.

7 - فقه النصيحة

7 - فقه النصيحة قال الله تعالى عن نوح - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف: 61، 62]. وقال الله تعالى عن هود - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف: 67، 68]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه (¬1). الواجب على المسلمين كافة التعاون على البر والتقوى، وأن ينصح بعضهم بعضاً؛ لأنهم كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. والنصيحة التي ينبغي لكل مسلم أن يؤديها خمسة أنواع: فالنصيحة إما أن تكون لله .. أو لكتابه .. أو لرسوله .. أو لأئمة المسلمين .. أو لعامتهم .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم (¬2). فالنصيحة لله: هي وصف الله جل جلاله بما هو أهله، والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محابه بفعل الطاعات، والرهبة من مساخطه بترك المعاصي، وبذل الجهد في رد العاصين إليه، وتقديم حقه على حق غيره. والنصيحة لكتابه: الإيمان بأن القرآن كلام الله لا يقدر على مثله أحد، وتعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، والتصديق بما فيه، وحفظ حدوده، والعمل بموجبه، ونشر علومه، والدفاع عنه، والدعوة إليه. والنصيحة لرسوله: تكون بالتصديق برسالته، والإيمان بجميع ما جاء به، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6011)، ومسلم برقم (2586)، واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (55).

وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء سنته، وبعث دعوته، ونشر شريعته، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبته ومحبة أهل بيته وأصحابه، والدفاع عن سنته. والنصيحة لأئمة المسلمين: تكون بمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف بما نسوه، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم ما لم يفعلوا كفراً بواحاً، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم في غير معصية الله، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح، وهذا بناء على أن المراد بالأئمة الخلفاء. وإن فسر الأئمة بالعلماء، فتكون النصيحة لهم بقبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم، ونصحهم فيما أخطأوا فيه، فلا نؤثم ولا نعصم، وتوقيرهم وإكرامهم، والتأدب في حسن التلقي عنهم. والنصيحة لعامة المسلمين: تكون بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، وستر عوراتهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والرفق بهم، والشفقة عليهم، والرحمة لهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتعليمهم أمور دينهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، والإحسان إليهم، وعدم غشهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه (¬1). والنصيحة إنما تكون لمن في قلبه بعض حياة يحس بها، فهو مريض غافل أو مغفول عنه. فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة: {وَمَنْ يُرِدِ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13)، واللفظ له، ومسلم برقم (45).

اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}} [المائدة: 41]. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم لما فيها من الخير والبركات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم (¬1). والنصيحة تكون من الفرد إلى الفرد، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى الفرد، ومن الراعي للرعية، ومن الرعية للراعي، ومن الأعلى إلى الأدنى، ومن الأدنى إلى الأعلى، ومن نبي لقومه كما سبق، ومن نبي إلى نبي كما نصح موسى أخاه هارون: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142]. وموسى - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه، ولكن المسلم للمسلم ناصح، وقد تلقى هارون النصيحة، ولم تثقل على نفسه، فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار؛ لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه، وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم. إن الصغير حقاً هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ليظهر أنه كبير. إن تمكين منهج الله ليسود في الأرض ليس بمجرد الوعظ والإرشاد والبيان فقط، بل هذا شطر. والشطر الآخر القيام بسلطة الأمر والنهي، لتحقيق المعروف، ونفي المنكر من حياة البشرية كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد، وإخلاص ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2162).

المحبة للغير بإظهار ما فيه صلاحه، وأنصح الناس لك من خاف الله فيك. وأول النصح أن ينصح الإنسان نفسه بحملها على طاعة الله واجتناب معصيته، ومن غش نفسه فقلما ينصح غيره. وحق على من استنصح أن يبذل غاية النصح وإن كان في ذلك شيء يضره، فلا يترك المعلوم للمظنون والله حافظه كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)} [القصص: 20]. والتواصي بالحق والصبر واجب على كل مسلم ومسلمة، فصلاح أمر المسلم بالإيمان والعمل الصالح، وصلاح أمر الأمة كلها بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ويتم ذلك بأداء الطاعات وترك المحرمات، وتحمل البلايا والأذى في كل حال، وهذا سبيل الفلاح والنجاة كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. ويجب على الأمة عامة، وعلى حملة الكتاب والسنة خاصة، نصح الأمة فيما ينفعها وتحذيرها مما يضرها، فإن الكتاب لا ينطق حتى ينطق به، والسنة لا تعمل حتى يعمل بها، ولا يليق بالعاقل أن يقول ما لا يفعل. ولا ينبغي للطبيب أن يداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، وخير الناس أنفعهم للناس: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3].

8 - فقه الهداية

8 - فقه الهداية قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وقال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. القرآن الكريم بصائر لجميع الناس، فهو بصيرة وتبصرة، وموعظة وتذكرة، وهدى ورحمة، وبيان وشفاء. فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وشفاء للعالمين، وهدى للمتقين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين. فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة. فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء، فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة لكنه لم يستعمله. وكذلك الهدى، فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، والهادي هو الله، والمحل القابل هو قلب العبد، والذي يحصل به الهدى هو القرآن. فالمحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فتأثر به، فصار له هدى وشفاء، ورحمة وموعظة، بالوجود والفعل والقبول. وإذا لم يكن المحل قابلاً وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئاً، بل لا يزيده إلا ضعفاً وفساداً إلى فساده كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ

الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة .. ولعدم آلة الهدى تارة .. ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة. ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الثلاثة. وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]. فقطع الله تبارك وتعالى عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه، فإن الإنسان إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، ومحبته له، وحرصه عليه، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك. فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء على الأرض الغليظة العالية، والتي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا هي قابلة للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له. وفي هؤلاء مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به. فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة. وأما المؤمنون فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ورحمة، ولأولئك هدى بلا رحمة. والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين نوعان: عاجلة وآجلة. فأما العاجلة فما يعطيهم الله في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان وحلاوته، والفرح والسرور بهذا الهدى، فهم يتقلبون في نور هداه، ويمشون به في الناس. فهم أشد الناس فرحاً بما آتاهم ربهم من الهدى، وقد أمرهم ربهم أن يفرحوا بفضله ورحمته بقوله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا

يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وفضل الله ورحمته هو العلم والإيمان والقرآن والهدى واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى تكون بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر. والإنسان كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه. والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه ورحمته، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم، والرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة، فهو الذي يؤتيها العبد كما قال سبحانه عن عبده الخضر: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف: 65]. والهداية نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده ممن يصلح لذلك. وكما أن للصحة علامات .. وللمرض علامات .. فكذلك للهداية علامات .. وللضلالة علامات. ومن علامات الهداية: الإقبال على الله .. والتوجه إليه في جميع الأحوال .. والتوكل على الله في جميع الأمور .. والاستعانة به في كل شيء .. والإنابة إلى دار الخلود .. والتجافي عن دار الغرور .. والاستعداد للموت قبل نزوله .. وأن يرى السعادة والمنفعة في امتثال أوامر الله .. والشقاء والمضرة في مخالفتها .. ويرى الخير والنجاة في الإيمان والأعمال الصالحة .. ويرى الشر والهلاك في ترك ذلك .. ويرى الفلاح في الدين .. والخسار في خلاف الدين. والله عليم حكيم يضع الأشياء في مواضعها لكمال علمه وحكمته، فلا بد للعبد

من العلم بأمرين: أحدهما: أن الله وحده تفرد بالخلق والأمر والهداية والإضلال. الثاني: أن ذلك كله وقع منه سبحانه على وجه الحكمة والعدل لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها، بل بحكمة اقتضت هدى من عَلِمَ الله أنه يزكو على الهدى ويقبله، ويشكره عليه، ويثمر عنده، وإضلال من عَلِمَ الله أنه لا يزكو على الهدى ولا يقبله، ولا يشكر عليه، ولا يثمر عنده. فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثاً كما قال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. ولم يطرد سبحانه عن بابه ولم يبعد من جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد. فإن قيل: لم خلق من هو بهذه المثابة؟. قيل: لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال ربوبيته كالليل والنهار، والحر والبرد، والخير والشر، والنعيم والجحيم، والبر والفاجر. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. والله عزَّ وجلَّ أقام الحجة ومكن من أسباب الهداية ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، وإعطاء السمع والبصر والعقل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 2، 3]. والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين هما أصل السعادة: أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها من يزين لها الفساد من شياطين الإنس والجن. والنفس سعادتها أن تحيا الحياة الطيبة فتعبد الله، ومتى لم تحيا هذه الحياة

الطيبة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها. قال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (¬1). الثاني: أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وبما أرسل إليهم من الرسل. ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه الله إلى ما ينفعه، وجعل في فطرته محبة ذلك. والنفس إن علمت الحق وأرادته فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لا بدَّ لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تركبت من كونها لم تعرف الله ولم تعبده. قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]. والهداية إلى الصراط المستقيم أغلى شيء في خزائن الله، ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بطلب الهداية منه في كل صلاة، بل في كل ركعة بقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. وقد بين الله مصدر الهداية بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2]. وبين مكان الهداية بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]. وبين طريق الحصول على الهداية بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وبين لنا أسوة أهل الهداية وهم الأنبياء والرسل بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865).

فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90]. وبين لنا أن مالك الهداية هو الله وحده لا شريك له بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. فالله يهدي من يعلم أنه يصلح للهداية، ويعرف قدرها، ويعمل بها، ويشكر ربه عليها، ويضل من يعلم أنه لا يصلح للهداية، ولا يعرف قدرها، ولا يقوم بواجبها. فهو سبحانه العليم الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، ويعطي العطاء لمن هو أهله، ويعلم أنه يستحقه ويقدره: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} [القلم: 7]. والهداية بيد الله، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ولكن الله جعلنا سبباً للهداية كما جعل الشمس سبباً للإنارة، ووكلنا بنشر الدين في العالم كما وكل السحب بحمل المياه وتوزيعها في العالم، والله يفعل ما يشاء بقدرته ينزل المطر حيث شاء، وينزل الهداية على من يشاء. وقد تحصل الأسباب وتتأخر النتائج ليعلم العباد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور كلها بيده، وأنه لا رب سواه، ولا إله غيره، وأن ما سواه ليس بيده شيء. فأبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده كل أسباب الهداية ولم يهتد؛ لأن عنده العصبية لمحمد لا لدين محمد، وبلال - رضي الله عنه - عنده العصبية لدين محمد لا لمحمد ولذلك قبله الله ولم يقبل أبا طالب، وآسية زوج فرعون عندها كل أسباب الغواية واهتدت، لكمال رغبتها في الدين، وكراهيتها لحياة السلاطين الظالمين. واليهود عندهم كل أسباب الأمن من الحصون والآلات والأموال فلم تمنعهم، وأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا. والنبي - صلى الله عليه وسلم - عنده كل أسباب الخوف في بيته بمكة، وفي الغار، وفي طريق

الهجرة، ومع ذلك لم يخف؛ لأن الله معه، فأنجاه وأعزه وأظهر دينه ومكن له في الأرض، وخذل المعاندين له. ونصر الله رسوله والمؤمنين معه في بدر مع قلة العدد والعدة. وخذل المشركين والكفار في بدر مع كثرة العدد والعدة. فإن قيل: إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الله الهداية؟. فجوابه: أن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه كما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي إلى تفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة. ومن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام، وفوق هذا الإنسان محتاج إلى سؤال الهداية يوم القيامة إلى الصراط المستقيم، الذي هو طريق الجنة، فمن سار عليه في الدنيا، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة. والهدى من الله كثير في الآفاق والأنفس، لكن لا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا اليسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدي بها إلا العلماء. والله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح السبل، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله. ووفق من شاء من عباده بمزيد عناية، وأراد سبحانه من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله: إما جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وعدم ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه. أو لا يشاء له الهداية ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، والله يعلم

وأنتم لا تعلمون: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 23]. والله سبحانه ذو فضل على العالمين .. خلقنا بمنِّه وكرمه في أحسن تقويم .. وهدانا بإعطاء الحواس الخمس الظاهرة والباطنة .. ثم هدانا بنصب الدلائل الكونية والنفسية الدالة على كمال قدرته وعظمته .. ثم هدانا بإرسال الرسل .. وإنزال الكتب .. وأنعم علينا بآلات العلم من السمع والبصر والعقل .. ثم هدانا أعظم هداية بكشف الحجاب عن الحق والباطل .. فظهر الحق حقاً .. وظهر الباطل باطلاً .. ثم أعاننا ووفقنا للعمل بالحق وترك الباطل .. ثم وفقنا لتعليم الحق والدعوة إليه وأعاننا على ذلك. فلله المنَّة والفضل، وله الحمد والشكر: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ» أخرجه مسلم (¬1). وللحصول على الهداية لا بد من الجهد، والجهد في الدين على ثلاثة أقسام: 1 - جهد على النفس فقط، وهذا جهد الصالحين. 2 - جهد على النفس والقرابة أو العشيرة أو القوم، وهذا جهد المرسلين. 3 - جهد على النفس وعلى عموم البشرية وهذا أعلاها وهو جهد سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وهو مطلوب من كل مسلم ومسلمة. وكل عبد مضطر إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فعليه أن يطلب الهداية من ربه، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية. فمن فاتته فهو إما من المغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به وإما من الضالين الذين عرفوا الحق وضلوا عنه، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (477)، (478).

الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178]. والصراط المستقيم: أن يفعل العبد في كل وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم وعمل، ويجتنب ما نهي عنه، فهو محتاج لحصول ذلك له إلى طلب الهداية في كل وقت، والحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى طلب النصر والرزق. وأعظم نعم الله على عباده نعمة الهداية إلى الدين، والذي يستخدمه الله لدينه والدعوة إليه، هو الذي لم تبق عنده أي عاطفة غير عاطفة الهداية، فلا تكون عاطفته الكبرى إلا للدين وهداية الناس، ولكن هذه العاطفة لا تأتي إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله. وكمال التضحية من أجل الدين يتم بسبعة أمور: التضحية بالنفس .. والأهل .. والوقت .. والمال .. والجاه .. والدار .. والشهوات .. كما فعل ذلك الأنبياء والصحابة. فمن ضحى بكل ذلك من أجل الدين هداه الله وجعله سبباً لهداية الناس كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. ومن رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن جعل طرق الهداية كثيرة متنوعة، لتفاوت عقول الناس وأذهانهم وبصائرهم. فمنهم من يهتدي فوراً بنفس ما جاء به وما دعا إليه الرسول أو الداعي من غير أن يطلب منه برهاناً خارجاً عن ذلك، كحال الكُمَّل من الصحابة كالصديق - رضي الله عنه -. ومنهم من يهتدي بمعرفته بحال الرسول أو الداعي، وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله ألا يخزي من قامت به تلك الأوصاف كما قالت خديجة رضي الله عنها للرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ

الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. متفق عليه (¬1). وهذه المقامات من الإيمان عجز عنها أكثر الخلق فاحتاجوا إلى الخوارق والآيات المشهودة بالحس فآمن كثير منهم عليها، وأضعف الناس إيماناً من كان إيمانه صادراً عن المظهر أو النصر، وأضعف من هؤلاء إيماناً من إيمانه إيمان العادة والمنشأ فهذا دين العوائد، وهو أضعف شيء. وخواص الأمة ولبابها لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين وكماله وجلالته، وشهدت قبح ما خالفه ونقصه، خالط الإيمان به ومحبته بشاشة قلوبهم، وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم على الإيمان، وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه، وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله. والأمانة التي أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، هي أمانة الهداية والمعرفة، والإيمان بالله عن قصد وإرادة، وجهد واتجاه. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته وعبادته وطاعته، بغير جهد منه، ولا قصد، ولا إرادة، ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكله الله إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى إتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله. وهذه أمانة حملها، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والهداية: هي العلم بالحق مع قصده، وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العامل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3) واللفظ له، ومسلم برقم (160).

بالحق المريد له، والهداية أعظم نعم الله على العبد، ومن أجل هذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس والنوافل. فالعبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة، فإذا عرفه فهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى من يقدره ويعينه على فعله. ومعلوم أن ما يجهله العبد أضعاف ما يعلمه، وأن كل ما يعلمه أنه حق لا تطاوعه نفسه على إرادته، ولولا إرادته لعجز عن كثير منه، فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي والحال والمستقبل. أما الماضي: فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه، إن كان محسناً شكر الله عليه، وإن كان مسيئاً فيتوب إلى الله منه ويستغفره. وأما الهداية في الحال: فهي مطلوبة منه، فإنه ابن وقته، فيحتاج أن يعلم ما هو متلبس به من الأفعال هل هو صواب؟ أم خطأ؟. وأما المستقبل: فحاجته إلى الهداية منه أظهر، ليكون سيره على الطريق الصحيح. ومن أحاط علماً بحقيقة الهداية وحاجة العبد إليها، علم أن الذي لم يحصل له منها أضعاف ما حصل له، وأنه في كل وقت محتاج إلى هداية متجددة لا سيما والله تعالى خالق أفعال القلوب والجوارح، فالإنسان كل وقت محتاج إلى أن يخلق الله له هداية خاصة، وصرف الموانع التي تمنع موجب الهداية. فالوساوس والخواطر وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدىً تاماً. وحاجة العبد إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه، وهي أعظم حاجة للعبد. والهداية لها أربع مراتب: المرتبة الأولى: الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي إلى

مصالحه التي يقوم بها أمره كما قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]. وحين قال فرعون لموسى: من ربكما يا موسى؟: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. فخلق الله المخلوقات ثم هداها إلى ما خلقت له من الأعمال، فخلق الشمس وهداها للإنارة، والأرض للإنبات، وخلق الرجلين وهداهما للمشي، وخلق العينين وهداهما للإبصار، وخلق الأذنين وهداهما للسمع، وخلق اللسان وهداه للكلام .. وهكذا .. المرتبة الثانية: هداية البيان والدلالة والإرشاد إلى الحق، وهي التي أقام الله بها الحجة على العباد، وأرسل بها رسله، وأمر بها عباده كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. وقال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. وهذه لا تستلزم الهداية التامة. المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام، وهي الموجبة للاهتداء كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. المرتبة الرابعة: الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، كما قال سبحانه عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]. وقال سبحانه عن أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} [الصافات: 22]. وأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد: جهاد النفس .. وجهاد

الهوى .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الدنيا. فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك هذا الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. ولا يتمكن العبد من جهاد عدوه في الظاهر إلا إذا جاهد هذه الأعداء في الباطن، فمن نُصر عليها نُصر على عدوه، ومن نُصرت عليه نُصر عليه عدوه. وقد علق سبحانه الهداية بالجهاد الذي لا ينقطع كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والواجب على الأمة ووظيفتها دعوة الناس إلى الله، وتعليمهم أحكام دينهم، ولكن لا يلزم من ذلك حصول الهداية، فإن ذلك وغيره بيد الله، ولا يلزم من العلم بكون الشيء سبباً لمصلحة العبد وسروره أن يقبله، أو يستجيب له، فقد يمنعه مانع من قبوله والعمل بمقتضاه وذلك لأسباب كثيرة، فللهداية موانع أهمها: الأول: ضعف معرفة العبد وقلة إدراكه. الثاني: عدم الأهلية، فقد يعرف الإنسان الشيء، لكن المحل غير قابل للتزكية، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل التزكية ولا تؤثر فيه النصائح أو كان مريضاً لم ينتفع بكل علم يعلمه. الثالث: محبة الأهل والعشيرة، فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء كثير من الخلق على الكفر بين قومهم وأهلهم. الرابع: محبة الدار والوطن، فيرى أن في دخوله في الإسلام خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة. الخامس: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعناً على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام. السادس: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه،

فتحمله هذه العداوة له على معاداة الحق وأهله، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فلما أسلم الأنصار حملتهم معاداتهم لهم على البقاء على كفرهم. السابع: قيام مانع وهو إما حسد أو كبر، وهو داء الأولين والآخرين، وهو الذي منع إبليس من الانقياد للأمر، وهو الذي منع اليهود ومنع أبا جهل وعبد الله بن أبي من الإسلام، فهؤلاء لم يرتابوا في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر به. الثامن: مانع الرياسة والملك، فقد لا يكون في قلبه حسد ولا كبر، ولكن يضن بملكه ورياسته كحال هرقل، وملك القبط، وهو داء فرعون. التاسع: مانع الشهوة والمال، وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب وغيرهم من الإيمان خوفاً من ذهاب أموالهم ومآكلهم التي تصير إليهم من قومهم، كالأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ، فإن العادة قد تقوى حتى تغلب على حكم الطبيعة، فيتربى على شيء، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكنه مكانها فيعسر عليه الانتقال عنه، وهذا هو الغالب على الأمم. والدعوة إلى الله أقوى سبب لحصول الهداية، فكما نجتهد لكسب المعاش كذلك علينا أن نجتهد لكسب الإيمان، وقد خلقنا الله في دار الأسباب، فجعل الماء سبباً للإرواء، والطعام سبباً للشبع، فكذلك جعل سبحانه الدعوة سبباً لحصول الهداية للداعي والمدعو. ولكن سببية إرواء الماء ليست يقينية فقد يروي وقد لا يروي، ولكن محال أن يجتهد الإنسان جهد الدعوة ولا تحصل له الهداية، والهداية: هي لزوم الصراط المستقيم، والتأثر من الله وعدم التأثر من غيره، فنعتقد أن المخلوقات كلها صغيرها وكبيرها من النملة حتى جبريل لا تنفع ولا تضر إلا بأمر الله وإذنه وإرادته.

وكما أن النملة لا طاقة لها إلا بأمر الله، فكذلك جبريل لا قوة له إلا بأمر الله. وقوة فكر الهداية للأمة ثمرة قوة الإيمان، فكلما كان الإيمان قوياً كانت أعمال الدين من عبادة ودعوة قوية. فإذا زاد الإيمان زادت العبادات وقويت. وإذا زاد الإيمان تفكرت جميع الأمة لهداية كل فرد من الأمة، فإن نقص تفكرت الأمة للأمة بوجه عام. فإن نقص تفكر الفرد وحده لهداية الأمة. فإن نقص لم يتفكر الفرد أو الأمة لهداية الفرد أو الأمة. وهذه أدنى الدرجات، والأولى أعلاها، وعليها كان الصحابة رضي الله عنهم. وأوسع الخلق فكراً في الهداية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان فكره يدور على ثماني دوائر، فكان يفكر ويسعى في هداية نفسه .. وأهله .. وعشيرته .. وقومه .. وقريته .. وما حولها .. والناس .. والعالم. ففكره لنفسه وأهله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وفكره لعشيرته كما قال سبحانه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]. وفكره لقومه كما قال سبحانه: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} [السجدة: 3]. وفكره للناس وفكره لقريته وما حولها كما قال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]. كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28]. وفكره للعالم كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].

وحتى يأتي فينا فكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعماله، لا بدَّ أن نفكر دائماً في كل وقت في هداية أنفسنا .. وأهلنا .. وعشيرتنا .. وقومنا .. وقريتنا .. ومملكتنا .. والناس .. والعالم .. ونقوم بالدعوة .. وندعو الله لنا ولغيرنا بالهداية. وهذا كما أنه وظيفتنا ومسؤوليتنا فبه يزيد إيماننا، وتزداد أعمالنا، ويزيد أجرنا وثوابنا، وبه تكون عزتنا ونصرتنا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. فهذه الثمانية تبدأ بالنفس، وتنتهي بالعالم، وعلى قدر النية يكون الثواب والأجر، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. وحتى يزداد الفكر والهم والعمل لا ننظر كم عملنا؟ بل ننظر كم لم نعمل مما نستطيع؟. ولا ننظر كم قام بالدعوة والتعليم والعبادة؟. بل ننظر كم لم يقم بذلك من الناس؟. ولا ننظر كم اهتدى؟، بل ننظر كم لم يهتدِ؟ كم لم يتب؟. وحتى يقبلنا الله ويستخدمنا لدينه لا بدَّ أن نخرج من مراد النفوس إلى مراد الملك القدوس .. ومن دائرة الأقوال إلى دائرة الأعمال .. ومن اليقين على المخلوق إلى اليقين على الخالق .. ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية .. ومن حب الأموال والأشياء إلى حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وحب الإيمان والأعمال الصالحة .. ومن جهد الدنيا إلى جهد الدين وجهد المرسلين .. ومن الدعوة إلى الأموال والأشياء إلى الدعوة إلى الإيمان والأعمال. وإذا تغير الفكر، تغير العمل، وتغيرت النتائج: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 19،20].

والهداية درجات: وأعلاها أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله، مقبلاً بكليته على ربه ممتثلاً لجميع أوامره، راضياً بقدره، مؤمناً به، مستسلماً له، مقبلاً بكلية قلبه وبدنه وفكره على ربه، بحيث يصير لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بابنه إسماعيل. ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعل إسماعيل - صلى الله عليه وسلم -، ولو أمر بأن يصبر على القتل والشق نصفين في سبيل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأطاع كما فعل يحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام. ويصبر على الإحراق بالنار في سبيل إعلاء كلمة الله كما فعل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. وهذه مقامات الأنبياء، وهي مقامات عظيمة، وأكثر الناس لا طاقة لهم بذلك، ولا ما دون ذلك، وذلك بسبب ضعف إيمانهم ويقينهم. ومن اجتهد لإعلاء كلمة الله هداه الله، وهدى به الناس، وبقدر الجهد تنزل الهداية، وإذا قل الجهد أو عدم خرجت الهداية أو ضعفت وقلَّت، فتخرج الهداية أولاً من المعاملات، من التجارة، من المعاشرات، فيتعامل الناس ويتعاشرون بطريقة اليهود والنصارى، ويكتسبون كذلك. ثم تخرج الهداية من العبادات، ثم ينتهي الدين تدريجياً، فلا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، ويتلى ولكن لا يعمل به، وتظهر في الأمة سنن اليهود والنصارى، وتختفي سنن الدين وأحكامه، ولا يثبت على الإسلام إلا طائفة، من الغرباء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا» أخرجه مسلم (¬1). فإذا جاء جهد الدعوة إلى الله جاءت الهداية أولاً إلى العبادات، ثم ظهرت في ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (146).

المعاملات، ثم ظهرت في شعب الحياة عامة. وبمقدار جهدنا للدين تأتي الهداية من الله للمسلمين والكفار. وجهد الأنبياء قسمان: جهد على الكفار .. وجهد على الأصحاب. فموسى - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله إلى فرعون، وإلى بني إسرائيل، والدعوة لأنفسنا أولاً، ولكن لكثرة الطلبات الإنسان يغفل وينسى نفسه، ويدعو غيره، فلا يترقى في العمل، فالدعوة للداعي .. والأمر بالمعروف للآمر كما أن التجارة للتاجر: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. وبقوة الدعوة والمجاهدة يزيد إيماننا .. وتقوى عباداتنا .. وتصلح معاملاتنا .. وتحسن معاشراتنا وأخلاقنا .. وتنزل الهداية علينا وعلى غيرنا. ومن رحمة الله أن كل شيء تكون حاجة الناس إليه أشد يكون الحصول عليه سهلاً كالماء والهواء والطعام. وكذلك البشرية أحوج ما تكون إلى الدعوة إلى الله، ولذلك جعلها الله أسهل شيء في الدين، يستطيعها كل مسلم، أما الأحكام ففيها صعوبة خص الله بها من شاء من العلماء والفقهاء. فبالدعوة تنزل الهداية، وبالتعليم يصح العمل، وتزول البدع، وبالعبادة تزكو النفوس، وتستقيم على أوامر الله. وقد سمى الله عزَّ وجلَّ العلم الذي بعث الله به رسوله نوراً وهدى وحياة، وجعله روحاً؛ لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح، ونوراً لما يحصل به من الهدى والرشاد: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. والنور ظاهر وباطن: فإذا حل النور بظاهر الجسم كساه من الجمال والجلال والمهابة والحسن

بحسب ما كسي من النور. وإذا حل النور بالباطن اكتسى من الخير والعلم والرحمة والهداية وحسن الخلق بحسب ذلك النور. ولما كان ليوسف الصديق - صلى الله عليه وسلم - من هذا النور النصيب الوافر ظهر في جماله الظاهر والباطن. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - له من هذا النور أكمل نصيب، فهو أجمل الخلق ظاهراً وباطناً، فكان وجهه يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان كلامه كله نوراً، وعمله نوراً، ومدخله نوراً، ومخرجه نوراً، فكان أكمل الخلق في نور الظاهر والباطن. والأنبياء والصحابة لما ضحوا بأموالهم وأنفسهم وأوقاتهم، وتركوا أهلهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله انتشرت الهداية بين الناس. والهداية لا تحصل إلا ببذل الجهد من أجل الدين، والفلاح لا يحصل إلا بركوب قطار الإيمان والأعمال الصالحة. فمن أراد مكة فليركب في السيارة التي تذهب إلى مكة ولا ينزل منها، أما أن يركب إلى الشام وهو يريد مكة فهذا لا يصل إليها أبداً. وهكذا الإنسان بالإيمان والأعمال الصالحة يصل إلى الجنة، أما أن يركب الكفر والمعاصي والكبائر ويستبدلها بأوامر الله، فهذا لا يصل إلى الجنة أبداً، ومن سلكها فإنما توصله إلى النار. ولا تحصل الهداية إلا ببذل الجهد ابتغاء مرضاة الله، وإذا جاءت الهداية جاء الإيمان، وإذا جاء الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله ورسوله، وإذا امتثلنا أوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنا، وإذا رضي الله عنا أسعدنا في الدنيا، وأدخلنا الجنة في الآخرة. والواجب على كل مسلم أمران: أن تكون حياته كحياة النبي .. وأن يكون جهده كجهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلينا أن نجعل حياتنا كحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة وسريرة، قلباً وقالباً، فمن اتصف

بصفات النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعله الله سبباً لهداية البشرية، ومن جعل بيته كبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الله بيته سبباً لهداية البشرية. وعلينا أن نقوم بجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصح الخلق، والجهاد في سبيل الله فالمطلوب من كل مسلم: حياة النبي .. وجهد النبي. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وإذا قمنا بالدعوة إلى الله نزلت الهداية علينا وعلى غيرنا من العصاة والكفار .. وزاد إيماننا .. وزادت أعمالنا .. وصلحت أحوالنا .. وزال الباطل من حولنا. وليست مسؤوليتنا أن نكسر الباطل، بل ذلك على الله سبحانه كما قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18]. لكن علينا امتثال أوامر الله في كل حال، وطاعة الله ورسوله، وإعداد ما نستطيع من قوة، وفعل ما نستطيع، والله يفعل ما يريد، ومن سنته نصر أوليائه .. وخذلان أعدائه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: 14]. والله تبارك وتعالى هو الهادي وحده، وهو كما هدى المؤمنين قادر على هداية الضالين كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149]. ولكن حكمته سبحانه اقتضت إبقاءهم على ضلالهم عدلاً منه تعالى، وليس ظلماً؛ لأن إعطاء الإيمان والهدى محض فضله، فإذا منعه أحداً لم يعد ظالماً، لا سيما إذا كان المحل غير قابل للنعم. والله عزَّ وجلَّ لا يعطي نعمة الهداية إلا على قدر طلب العبد وجهده، والأنبياء بعثهم الله ليجتهدوا على عباد الله ليأتي فيهم طلب الهداية من الله، وإذا كان

جهدنا لله فإن الله يفتح لنا أبواب الهداية، وإذا كان جهدنا لغير الله فإن الله لا يفتح أبواب الهداية أمامنا كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. أما الدنيا فإن الله يعطيها الطالب وغير الطالب، والمجتهد وغير المجتهد. والهداية لها بداية وليس لها نهاية، فكل باب من الهداية وراءه باب آخر، وهكذا تفتح أبواب الهداية حسب الجهد حتى الموت. والله سبحانه جعل في سنن محمد - صلى الله عليه وسلم - نور الهدى، وبسبب هذا النور يهتدي الناس إلى الصراط المستقيم، فإذا فقد هذا النور عاش الناس في الظلمات. فكما أن الإنسان والحيوان والسيارة كل يمشي بسلام بحسب النور الذي عنده، فكذلك المسلم يعيش ويمشي بحسب نور الهداية الذي عنده، فإن لم يكن عنده هذا النور اضطربت حياته، واصطدم مع غيره بسبب فقد النور كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. وللمحافظة على هذا النور لا بدَّ للعبد من بيئة صالحة يزيد فيها إيمانه، وتقوى أعماله، وتتحسن فيها أخلاقه، وتأتي في حياته السنن والآداب الشرعية، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بلزوم هذا البيئة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. فالذي يحضر مجالس الذكر والإيمان يكرمه الله بعشر كرامات: فعلى أهل مجالس الذكر تنزل السكينة .. وتغشاهم الرحمة .. وتحفهم الملائكة .. ويذكرهم الله فيمن عنده .. ويناديهم مناد انصرفوا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات .. ويوقظهم الله من سنة الغفلة .. وتستضيء قلوبهم وتشرق حتى ترى معالم قدرة الله .. ويعطيهم الله القوة لضبط نفوسهم من الانزلاق في طريق النقائص والرذيلة .. ويحبهم الله عزَّ وجلَّ.

والناس في الهدى الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام: الأول: مَنْ قَبِل الإسلام ظاهراً وباطناً، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله كتابه، وفهموا مراده، فعملوا به، وبلغوه إلى الأمة. فهؤلاء كالأرض التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فرعى الناس فيه، ودونهم من حفظه وضبطه، وأداه لغيره، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس، فوردوه وشربوا منه. الثاني: من رده ظاهراً وباطناً وكفر به، وهؤلاء نوعان: السادة .. وأتباعهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (¬1). الثالث: مَنْ قَبٍل الهدى ظاهراً وكفر به باطناً، وهؤلاء هم المنافقون، وهؤلاء نوعان: من أبصر ثم عمي، وأقر ثم أنكر، وأتباعهم من المقلدين، وهؤلاء أخطر من الكفار: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]. الرابع: من آمن به باطناً وكتمه ظاهراً، وهم الذين آمنوا بمكة الذين قال الله عنهم: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} [الفتح: 25]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79) واللفظ له، ومسلم برقم (2282).

ومنهم النجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه. والله عزَّ وجلَّ أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة التوحيد فتثمر بالحمد والشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غُرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، فهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين. فأعطى سبحانه هذا .. ومنع هذا .. لحكمة يعلمها ولا نعلمها: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)} [العنكبوت: 10]. فهو سبحانه ما أعطى إلا بحكمة .. ولا منع إلا بحكمة .. ولا هدى إلا بحكمة ولا أضل إلا بحكمة .. وما عمرت الدنيا والآخرة والجنة والنار إلا بحكمته: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8]. والله عزَّ وجلَّ ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى، وإضلال من ضل، ولم يطرد عن بابه، ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام. بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد، وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه، وجعله من أهله وخاصته وأوليائه. ولو علم سبحانه في الكفار خيراً وقبولاً لنعمة الإيمان، وشكراً له عليها، ومحبة له، واعترافاً بها، لهداهم إلى الإيمان. ولهذا لما قالوا للمؤمنين: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]. أجابهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. وهم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها. فالله عزَّ وجلَّ أعلم بمواقع الفضل، ومحال العطاء، ومحال الحرمان، فبحمده وحكمته أعطى وهدى، وبحمده وحكمته منع وأضل. فمن رده المنع إلى الافتقار إلى الله، والتذلل له، وتملقه، انقلب المنع في حقه

عطاءً، ومن شغله عطاؤه: وقطعه عنه انقلب العطاء في حقه منعاً، فمن أعطاه الله فمحله قابل للعطاء، ومن منعه فلأن محله غير قابل للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، ومن جاء بغير إناء رجع بالحرمان، ولا يلومن إلا نفسه. والهادي هو الله تبارك وتعالى .. وكتابه هو الهدى الذي يهدي به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. والمهتدي هو الذي اهتدى بالهدى بإذن الهادي وتوفيقه. فها هنا ثلاثة أشياء: فاعل .. وقابل .. وآلة. فالفاعل هو الله سبحانه، والقابل قلب العبد، والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل. فالمحل القابل: هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فتأثر به، فصار له هدى وشفاء ورحمة وموعظة. وإذا لم يكن المحل قابلاً وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئاً، بل لا يزيده إلا ضعفاً ومرضاً، وهكذا القرآن شفاء للمؤمنين، وخسارة للكافرين كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. فتخلف الاهتداء يكون إما لعدم قبول المحل تارة .. وإما لعدم آلة الهدى تارة .. وإما لعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة. ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة. وإذا أعرض العبد عن ربه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكِّنه من الإقبال عليه كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)} [التوبة: 127]. فلما انصرفوا بفعلهم صرف الله قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلاً له، فالمحل غير صالح ولا قابل. فانصرافهم الأول كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم القبول والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من

الجهل والظلم عن القرآن، فجازاهم على ذلك صرفاً آخر غير الصرف الأول. كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. فهؤلاء ليس عندهم قابلية للإيمان، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه الإيمان إلى قلوبهم. ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم، وهو الكبر والتولي والإعراض كما قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]. فالأول مانع عن الفهم، والثاني مانع عن الانقياد والإذعان. وإبليس لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره، وأصر على ذلك، عاقبه الله بإن جعله داعياً إلى كل معصية، فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق. فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها. فإن قيل: فالله هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين؟ قيل: هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم، وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولاً تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الشقاء، وأسباب السعادة، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً. فآثروا الهوى على التقوى .. واستحبوا العمى على الهدى .. واشتغلوا بالشهوات عن الأوامر. وقالوا: الشرك أحب إلينا من توحيدك .. ومعصيتك آثر عندنا من طاعتك .. وعبادة سواك أنفع لنا من عبادتك .. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته، فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم.

فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، فَسَدَّه الله عليهم اضطراراً، وخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولاهم ما تولوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون، إذ لا طارق يطرقه منهم. فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله، ولو شاء ربك لَخَلَقهم على غير هذه الصفة. ولكنه سبحانه حكيم عليم، خلق العلو والسفل، والنور والظلمة، والطيب والخبيث، والنافع والضار، والملائكة والشياطين. فسبحان الحكيم العليم، وتبارك الله أحسن الخالقين: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2،3]. والهداية المسؤولة في قوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. هي طلب التعريف والبيان والإرشاد، والتوفيق والإلهام. فكل عبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور، وهو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها، وهي: الأول: معرفة العبد في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوباً للرب تعالى مرضياً له فيؤثره، وكونه مبغوضاً له مسخوطاً فيجتنبه، فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه. الثاني: أن يكون مريداً لجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازماً عليه، ومريداً لترك جميع ما نهى الله عنه، عازماً على تركه بعد خطوره بالبال مفصلاً أو مجملاً، فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة. الثالث: أن يكون قائماً به فعلاً وتركاً، فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه. فهذه أصول الهداية، ويتبعها ثلاثة أخرى هي من تمامها وكمالها. أحدها: أمور هدي إليها جملة، ولم يهتد إلى تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية

التفصيل فيها. الثاني: أمور هدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، لتكمل له هدايتها. الثالث: الأمور التي هدي إليها تفصيلاً من جميع وجوهها، فهو محتاج إلى استمرار الهداية والدوام عليها. ويتعلق بالماضي أمر سابع، وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة، فهو محتاج إلى الهداية ليتداركها بالتوبة منها، وتبديلها بغيرها. وإذا كانت هذه المراتب حاصلة به بالفعل، فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام، لكن أنى يحصل على الكمال وما يجهله العبد أضعاف ما يعلمه، وما لم يفعله أضعاف ما فعله؟. والعبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه وما يذره أصلاً وتفصيلاً، وعلماً وعملاً، وثباتاً ودواماً إلى الموت، فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية. فنسأل الله عزَّ وجلّ َأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه، والله لا يخيب من سأله ودعاه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 54]. والله سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وهو أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته، والهدى والإضلال بيد الله وحده لا بيد العبد، والعبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. والله سبحانه أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم، لا مع مراد أنفسهم، فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم، فاستحقوا كرامته. وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده، وعلم الله سبحانه أنهم لا يؤثرون مراده البتة، وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم، فأمرهم ونهاهم، فظهر بأمره ونهيه ما

قدره عليهم، فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله فعاقبهم بظلمهم. فإن قيل: كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟. قيل: حجته سبحانه قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب. ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر سن، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذب حتى يقيم عليه حجته. فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه. وهو سبحانه وإن قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي منعوه، وحيل بينهم وبينه. والهداية إلى الصراط المستقيم والتوفيق لذلك بيد الله وحده كما قال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50]. والناس قسمان: حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به. وميت لا يقبل الإنذار، ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية، ولا قابلة لخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب، وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، بل لأنه غير قابل ولا فاعل. فلما أرسل الله إليه رسوله فأمره ونهاه، فعصى الرسول بكونه غير قابل للهدى، فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} [يونس: 33].

ومن آمن بالله فقد اهتدى، ومن لم يؤمن بالله فهو المشاق للحق المعادي للهدى، فالمؤمن وحده المهتدي، ولا عليه من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره، ولا عليه من جدله ومعارضته، فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} [البقرة: 137]. وليس في الحياة إلا اتجاهان اثنان: إما الدخول في السلم كافة .. وإما اتباع خطوات الشيطان .. إما هدى .. وإما ضلال .. إما إسلام .. وإما جاهلية. فمن لا يدخل في السلم بكليته، ولا يسلم نفسه لربه وشريعته، فهو لا شك داخل في حلف الشيطان، سائر على خطوات الشيطان، وقد دعا الله عباده المؤمنين إلى الدخول في السلم كافة، وحذرهم من اتباع خطوات الشيطان بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. وليس من سنة الله أن يغفر للكفار الذين يصدون عن سبيل الله بعدما ضلوا ضلالاً بعيداً، وقطعوا على أنفسهم كل طريق للمغفرة. وليس من شأن الله أن يهديهم طريقاً إلا طريق جهنم، وقد قطعوا على أنفسهم كل طريق للهدى، وصرفوا أنفسهم عن كل طريق إلا طريق جهنم، فأبعدوا فيه وأوغلوا، واستحقوا الخلود المؤبد في جهنم بإصرارهم على الكفر والضلال، والظلم والصد عن سبيل الله، بحيث لا يرجى لهم بعد هذا الإصرار والإبعاد مآب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168،169]. وسنة الله سبحانه أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى، وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10].

وأما من لا يتجه إلى الهدى ولا يطلبه فإن الله لا يهديه، ومن عطل أجهزته الفطرية ابتداءً جعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً، فكل شيء بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً أن يسمعوه. والهداية بيد الله عزَّ وجلَّ، ولكنها تجيء في موعدها، لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب, ولا أن المجرمين الضالين يؤذون الطيبين. ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته وشهواته، إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم، ويئس على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة، لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله. فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، فلنزول المطر أسباب وأوقات، ولنزول الهداية أسباب وأوقات، ولا يعلم ذلك إلا الله وحده، ولا مبدل لكلماته: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35]. فهدى الناس لا يتوقف على أن تأتيهم بآية، فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول، فلو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى كالملائكة، وإما بتوجيه قلوبهم، وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه، وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم، أو بغير ذلك، وكلها يقدر الله عليها. ولكنه سبحانه لحكمته خلق الإنسان لوظيفة معينة، وأعطاه استعدادات مختلفة يستقبل بها دلائل الهدى، وموجبات الإيمان. ولذلك لم يجمع الله الناس على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى، وترك لهم اختيار الإيمان والطاعات، أو الكفر والمعاصي، وتلقي

الجزاء العادل في نهاية المطاف. والناس في استقبال الوحي الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فريقان: فريق حي وأجهزة الاستقبال فيه حية عاملة مفتوحة، وهؤلاء يستجيبون للهدى، فهو عندها من القوة والوضوح بحيث يكفي أن تسمعه وتستجيب له فوراً. وفريق ميت معطل الفطرة، لا يسمع ولا يستقبل، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب، ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله، فدليله كامن فيه، إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي. وهؤلاء لا حيلة للرسول فيهم، ولا مجال معهم للبرهان، إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله، إن شاء بعثهم فسمعوا واستجابوا، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الدنيا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام: 36]. والله سبحانه هو الهادي، وهدى الله هو الهدى، والإنسان بل البشرية كلها كلما تركت هذا الهدى، أو انحرفت عن شيء منه، أو استبدلت به شيئاً من عند أنفسها، كلما تخبطت في التيه، وركبت الشقاء، وضلت عن سواء السبيل. وقد وهب الله الإنسان القدرة على التعرف على بعض ما في الكون، وبعض طاقاته وقواه، للانتفاع بها في خلافته في الأرض، وترقية هذه الحياة لنفع البشرية وفق الشرع الإلهي. لكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على معرفة الحقائق المطلقة في هذا الكون، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب، ومنها غيب عقله وروحه، بل غيب وظائف جسمه، وما يدفعه للعمل بهذا الانتظام، وهذا الاتجاه. ومن ثم يحتاج هذا الإنسان إلى هدى الله في كل ما يختص بوجوده وحياته، من عقيدة وخلق، وشعائر وشرائع، تملأ حياته بمنهج ربه وهداه. وكلما فاء هذا الإنسان إلى هدى ربه اهتدى؛ لأن هدى الله هو الهدى كما قال

سبحانه: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]. وكلما بعد الإنسان كلية عن هداه، أو انحرف بعض الانحراف، واستبدل به شيئاً من عنده ضل، وماذا بعد الحق إلا الضلال. لهذا فلا بدَّ لكل إنسان يريد السعادة في الدنيا والآخرة أن يستسلم لرب العالمين، فهو وحده الذي استسلم له العالمون، فالعوالم كلها في العالم العلوي، والعالم السفلي، كلها مستسلمة له، منقادة له، خاضعة له، مطيعة له. فما الذي يجعل الإنسان يشذ من بين العالمين عن الاستسلام لهذا الرب الذي أسلم له من في السموات ومن في الأرض؟. والإنسان في تركيبه العضوي مستسلم لربه، فهو مضطر في وجوده وبقائه ورزقه إلى ربه، كما استسلمت لربه كافة المخلوقات فهو الملك: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. فلم يبق للإنسان إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه، وهو جانب الاختيار فيه، اختيار الهدى أو الضلال، ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي لاستقام أمره، وانتظم تكوينه وسلوكه، وسعد جسمه وروحه، وأفلح في دنياه وآخرته. وكيف لا يستسلم العبد لربه، وهو الذي تحشر إليه الخلائق، فأولى له أن يقدم بين يدي الحشر ما ينجيه، وأن يستسلم له اليوم استسلام العالمين، قبل أن يقف وإياهم أمامه مسؤولين. وجميع أبواب السعادة في الدنيا والآخرة مقفلة عن جميع البشرية إلا عن أهل الإيمان والتقوى فهي مفتوحة لهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا

تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. والله الذي يؤمر الخلق بالاستسلام له، هو الذي خلق السموات والأرض، والذي يخلق يملك ويحكم، فلماذا لا يستجيبون له وهم يعلمون أنه لا شريك له؟. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. والله سبحانه القادر على كل شيء .. ومشيئته مطلقة في الخلق والإبداع .. وفي التغيير والتبديل .. وفي التصريف والتدبير .. وقوله الحق سواء في القول الذي يقول به للخلق كن فيكون .. أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده .. أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل .. أو القول الذي يخبر به عن الخلق والنشأة .. أو في القول الذي يخبر به عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله. قوله الحق في هذا كله، وهو سبحانه خالق كل شيء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73]. فهذا الرب .. وهذا الإله .. وهذا الملك .. وهذا القوي. أولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه، ومن يتبعون قول غيره. وهو سبحانه عليم بكل شيء، يعلم الغيب المحجوب كما يعلم هذا الكون المشهود، عالم الغيب والشهادة، الذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، ولا يند عنه شأن من شؤونهم. فأولى لهم أن يسلموا له، ويعبدوه، ويتقوه. وهو سبحانه الحكيم الخبير الذي يصرف أمر الكون الذي خلقه، وأمور العباد

الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة. فأولى للعباد أن يسلموا له، ويستسلموا لتوجيهه وشرعه، ويفيئوا إلى هداه وحده، ويخرجوا من التيه والضلال إلى نور الهدى والإيمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} [لقمان: 22 - 24]. والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق الخلق، ولو شاء أن يلزمهم الهدى لألزمهم، ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال، وتركه يختار طريقه، ويلقى جزاء اختياره في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال. وخلق الله الإنسان على هذا النحو لحكمة يعلمها، وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له باستعداداته وتصرفاته: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149]. ولو حشر الله كل شيء في هذا الكون يواجه الناس، ويدعوهم إلى الإيمان، فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله، والله سبحانه لم يشأ لبعض الناس؛ لأنهم لا يجاهدون في الله ليهديهم إليه، وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب. إنه لا ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين، إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، أدى إلى رد الحق. والهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، ويجاهدون في الله من أجل الحصول عليه كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والله وحده علام الغيوب، العليم بما في القلوب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا

لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111]. فالإيمان والكفر .. والهدى والضلال .. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق .. فالحق هو برهان في ذاته .. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويطمئن إليه، ويرضخ له. ولكنها المعوقات الأخرى التي تحول بين القلب والحق، وموجبات الإيمان كامنة في القلب ذاته، وفي الحق كذلك بذاته، فيجب أن تتجه المحاولة إذاً إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومعوقاته. ومشيئة الله سبحانه هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال، فقد اقتضت مشيئة الله أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء. وجعل الله سبحانه هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان، فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه، والرغبة فيه، فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى، والصدود عن دلائله وموجباته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله، وأن يبعده، وأن ينساه، وأن يدعه يتخبط في الظلمات. ومرد الأمر كله إلى الله في النهاية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. فالأمر كله مقيد بمشيئة الله، هو سبحانه الذي شاء ألا يهديهم؛ لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى، وهو سبحانه الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء، وهو سبحانه الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى، وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 26 - 29]. والطائعون والعصاة في قبضة الله سواء، وهم جميعاً تحت قهره وسلطانه سواء،

فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بإذن الله، وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف العباد، ولكن المؤمنين يطابقون ويجمعون في القدر المتروك لهم للاختيار بين الخضوع القهري، المفروض عليهم في ذوات أنفسهم وفي تكوينهم العضوي، وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها؛ لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموساً واحداً ورباً واحداً، فالمؤمنون بالله أعقل العقلاء. وأما العصاة والكفار فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم، ولا يملكون أن يخرجوا عنه في تكوينهم الجسمي، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله المتمثل في منهجه وشرعه، شاذون عن طاعة الله من بين سائر الخلق. وهم أشقياء في انفصام شخصيتهم، وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره وإذنه، فالسلطان كله لله، وهم أعجز أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان، فلا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله بإذن الله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. وحواس بعض الناس وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم، فيسمعون ولا يعقلون ما سمعوا .. وينظرون ولا يميزون ما نظروا .. فهي معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها، فهؤلاء في النار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. والأسماع والأبصار والعقول بيد الله وحده، ولكن الله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها، فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً، ولقوا جزاءهم

عدلاً. فلا يضيق الداعي إذا كذبه الناس وهو يدعوهم إلى الحق، ولا يتألم من العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام، فليس إباؤهم عن تقصير منه في الجهد، ولا قصور فيما معه من الحق. ولكن هؤلاء كالصم الذين لا يسمعون، والعمي الذين لا يبصرون، وما يفتح العيون والآذان إلا الله، فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة، والداعية داخل في اختصاص الله سبحانه وحده. فكل عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية ولو كان رسولاً، فالأمر كله لله الواحد القهار في الدنيا والآخرة، وفي العالم العلوي وفي العالم السفلي: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. والله جل جلاله أعلم بعباده من أنفسهم، فهو الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} [القلم: 7]. وهو سبحانه الهادي الذي أنزل الهدى، وهو صاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم: 32]. والهداية إلى الإيمان نعمة كبرى بل هي أجل النعم، لا يعرفها إلا من ذاقها، فهي تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة، ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته جديداً كما لم يبدُ من قبل قطّ لذلك القلب الحي هو الذي نوره الإيمان كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. فالقلوب إذا لم يدخلها الإيمان والهدى فهي ميتة مظلمة، فإذا دخل الإيمان في

القلوب اهتزت وتحركت بالذكر والعبادة والطاعة لمولاها، فاطمأنت بذكره، وأنست بقربه، وتلذذت بعبادته، وأشرقت أرواح المؤمنين بهذا النور وأضاءت، وفاض منها النور تمشي به في الناس، تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتحقق مراد الله في أرضه وعباده. فهل يستوي هذا الحي الذي أنار الله قلبه بالإيمان، بميت جاثم في الظلمات؟. والهدى والرشاد هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وفلاحه. والراشد المهدي هو الذي زكت نفسه بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهو صاحب الهدى ودين الحق. والناس في هذا أربعة أقسام: الأول: مهتد في علمه، راشد في قصده وعمله، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وصفوة الله من عباده، وهم وإن كانوا الأقلين عدداً، فهم الأكثرون عند الله قدراً. الثاني: ضال في علمه، غاو في قصده وعمله، وهؤلاء أشر الخلق، وهم مخالفو الرسل والأنبياء. الثالث: مهتد في علمه، غاو في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية اليهود، ومن تشبه بهم ممن عرف الحق ولم يعمل به. الرابع: ضال في علمه، وقصده الخير، لكنه يتعبد على جهل وهو لا يشعر كالنصارى ومن تشبه بهم ممن ضل عن معرفة الحق. وأكمل الخلق في الهداية والرشد هم الأنبياء، وأكمل الأنبياء في ذلك سيدهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي زكى الله عقله وقلبه ولسانه وكتابه ودينه كما قال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 1 - 4]. ولا يمكن أن تحصل الهداية لأحد من البشر إلا بالوحي الذي أرسل الله به رسله، فالناس لا يهتدون إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي.

وعقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وهو قبل الوحي لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50]. فكيف يحصل لمن دونه الاهتداء إلى حقائق الإيمان بالعقل دون الوحي؟. ونعم الله على العباد كثيرة، وأجلها وأعظمها نعمة الهداية إلى الحق، وواجب العباد الثناء على ربهم المنعم بها، والثناء نوعان: عام: وهو وصف ربه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء. والخاص: التحدث بنعمه، والتحدث بنعمه نوعان: أحدها: التحدث بذكر نعمه المادية من الأرزاق والأولاد والأموال ونحوها، والإخبار بوصولها من جهته. الثاني: التحدث بنعمه الروحية وهي الدين، بالدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، وتعليم الأمة، وكلاهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها كما قال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]. إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية التي لا تفنى، فهو موت، وهو انعزال عن الخالق المالك للوجود كله فهو موت، وهو انطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة فهو موت. والكفر حجاب للروح عن المعرفة والاطلاع فهو ظلمة، وختم على الجوارح والمشاعر فهو ظلمة، وتيه في أودية الضلال فهو ظلمة. وما الكافر؟ .. وما المشرك؟.

إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور. وكيف تكون حاله إذا نسيه ربه وأعرض عنه؟. وما هو مصيره إذا قدم على ربه بمعاصيه؟. ما الذي يمسك به في الظلمات، والنور حوله يفيض؟. الذي يمسك به أن هناك تزييناً للكفر والظلمة، فقد أودع الله في فطرة هذا الإنسان الاستعداد المزدوج لحب النور، وحب الظلام، وابتلاه باختيار الظلمة أو النور. فإذا اختار الإنسان الظلمة زينت له، ولج في الظلام حتى لا يخرج منه، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويزينون للكافرين ما كانوا يعملون: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور يسمع في الظلمة للوسوسة، ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق. والقلب الطيب كالأرض الطيبة، والقلب الخبيث يشبه الأرض الخبيثة، فكلاهما القلب والتربة منبت زرع، ومأتى ثمر. القلب ينبت نوايا ومشاعر، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة. والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه، ومذاقاته وأنواعه: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 58]. فالهدى والآيات، والمواعظ والنصائح، تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة، فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير والبركات، وإن كان القلب فاسداً شريراً كالذي خبث من البلاد والأماكن استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد، وإخراج الشوك والأذى كما

تخرج الأرض النكدة ذلك. وإذا انحرف الناس عن التوحيد والإيمان أغواهم الشيطان، وزين لهم ما انحرفوا إليه، فصار وليهم الذي يشرف عليهم ويصرفهم. ولما ضل أهل الجاهلية عن التوحيد وانحرفوا عنه .. وضل أهل الكتاب عما جاءهم من العلم .. وانحرفوا وبدلوا وكتموا .. واختلفوا في دينهم .. أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لينقذ البشرية من الشرك والكفر .. ويبين لهم الحق من الباطل .. ويفصل فيما وقع بينهم من خلاف في عقائدهم وكتبهم .. وليكون هدى ورحمة لمن يؤمنون به: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النحل: 63،64]. فوظيفة الكتاب الأخير والرسالة الأخيرة هي الفصل فيما شجر من خلاف بين أصحاب الكتب السابقة وطوائفهم، إذ الأصل هو التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له. وكل ما طرأ على التوحيد من شبهات، وكل ما شابه من شرك في صورة من الصور، كله باطل جاء القرآن ليجلوه وينفيه، وليكون هدى ورحمة لمن استعدت قلوبهم للإيمان وتفتحت لتلقيه. والهداية إلى الإيمان فضل من الله تبارك وتعالى يمن به على من يعلم أنه يشكر عليه ويقوم بحقه كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. فهؤلاء علماء بالشرع وطرق الهداية، مهتدون في أنفسهم، يهدون غيرهم بذلك الهدى، فهم في أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة وهي درجة

الصديقين. وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى الله، والأذى في سبيله، وكف النفس عن المعاصي والاسترسال في الشهوات. ووصلوا في الإيمان إلى درجة اليقين، وهو العلم التام الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى اليقين؛ لأنهم تعلموا علماً صحيحاً، وأخذوا المسائل من أدلتها المفيدة لليقين. والهدى فضل من الله على عبده، فمن اهتدى بهدي الله بأن علم الحق وتفهمه وآثره على غيره فلنفسه، والله تعالى غني عن عباده، ومن ضل عن الهدى فإن أعرض عن العلم بالحق أو عن العمل به، فإنما يضل على نفسه، ولا يضر الله شيئاً كما قال سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} [يونس: 108]. والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، وهداه في كتابه المنزل، الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه؛ لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه، والتوفيق منه للإقبال على كتابه، فإذا لم يحصل هذا فلا سبيل إلى الهدى كما قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. والله سبحانه كما يمد الظالمين في ضلالهم، ويزيدهم حباً للضلالة عقوبة لهم على اختيارهم على الهدى كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. كذلك يزيد الله المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته، والهدى يشمل العلم النافع والعمل الصالح، فكل من سلك طريقاً في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه، ويسره له، ووهب له أموراً أخر لا تدخل

تحت كسبه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)} [مريم: 76]. وللهداية أسباب وعلامات منها: الإيمان كما قال سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 54]. بذل الجهد للدين كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. الاعتصام بالله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101]. اتباع ما يحبه الله ويرضاه كما قال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة:15،16]. الإنابة كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]. الدعاء كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. العلم والعمل كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 18]. اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. توفيق الله وعونه كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)} [النور: 46].

وللضلالة أسباب وعلامات منها: عدم الإيمان كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [النحل: 104]. الشرك كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116]. الكفر كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]. الظلم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144]. الفسق .. كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} [التوبة: 80]. عدم إرادة الله هدايته كما قال سبحانه: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} [النحل: 37]. الكذب .. كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزمر: 3]. الإسراف كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28]. الزيغ: كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]. كثرة المعاصي كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. عدم الرغبة في الهدى كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. وحياة القلب ونوره مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه، فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدر، وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدر كما قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125].

ولما كان القلب محل الإيمان والمحبة والعلم والمعرفة، والإنابة والتوكل، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها. فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره، وشرحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيَّق صدره، وأحرجه، فإذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، فلا يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه ويرتاح بذكر غيره كما قال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [الزمر: 45]. وكل إناء فارغ إذا أدخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى. فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أهم أسباب الضلال، وشرحه من أجل النعم، وتضييقه من أعظم النقم. فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي إيمانه كان على مكارهها أشرح صدراً منه على شهواتها ومحابها، فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو بلا ريب أصل كل نعمة، وأساس كل خير. وسبب شرح الصدر نور يقذفه الله فيه، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، والله يعطي هذا ويمنع هذا؛ لأنه الحكيم العليم بما في صدور العالمين، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأدرى بمن يشكر نعمته، فكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمُّل الرسالة عنه وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها. ومن تدبر أحوال نفسه وأحوال العالم وجد أن كل طمأنينة في النفس، وكل صلاح في الأرض، فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو فسببه الشرك بالله، ومخالفة أوامر

الله، ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإن الله أصلح الأرض برسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. فحسن الشريعة في العقول كحسن الإحسان والإنعام من الرحمن، بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة وفضلاً ورحمة. بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة وفضلاً ورحمة. وأخبر سبحانه أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار، وبين الإنسان والحيوان، كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. وعاب على الكفار تبديلهم نعمة الإيمان بالكفر، وبين أن جزاء من فعل ذلك النار كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28،29]. فالناس قسمان: أحدها: أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا الحق، واتبعوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء هم أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات، أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في الظلمات. الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]. وهؤلاء قسمان: أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه، ويعادون أهله،

وينصرون الباطل، ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء، وهؤلاء أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهم الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103،104]. الثاني: أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل، بحيث أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً، فهم في ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم، وظلمة الشك، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله به رسله، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، فهو يتقلب في الظلمات: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40]. والهدى هو الصراط المستقيم، فمن سلكه أوصله إلى الله كما قال سبحانه: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر: 41]. فالطريق الهدى، والغاية الوصول إلى الله، وهما أشرف الوسائل والغايات ولا يتم للعبد تحصيل مصالح دنياه وآخرته إلا بتوحيد طلبه والمطلوب منه. والهدى التام يتضمن توحيد المطلوب .. وتوحيد الطلب .. وتوحيد الطريق الموصلة. فتوحيد المطلوب يعصم من الشرك .. وتوحيد الطلب يعصم من المعصية .. وتوحيد الطريق يعصم من البدعة، والشيطان إنما ينصب فخه بهذه الطرق الثلاثة ليصطاد ابن آدم. اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم إنا نسألك الهدى والسداد وسلوك سبل الرشاد.

اللهم إنا نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنا، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

9 - فقه الابتلاء

9 - فقه الابتلاء قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]. وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. الله تبارك وتعالى جرت سنته في عباده المؤمنين أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانه زيد في بلائه. فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء. وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه كما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاء، فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وعلى حسب إيمان العبد يكون ابتلاؤه، وذلك يتطلب الصبر، والصبر يقوم على ثلاثة أركان: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله. ولا يتم ذلك للعبد إلا بمعرفة الجزاء والثواب والعقاب، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة الإيمان واليقين على الله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، فهو وحده الكافي. فمن علم الله منه الصدق والعزيمة والرغبة في إرضاء الله أعانه ووفقه ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

واستخدمه، وقَبِل ما بذل من نفس ومال، وما قدم من عمل، وعوضه بخير من ذلك في الدنيا والآخرة. فالأنبياء والرسل لما بذلوا أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبّوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في السماء والأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. ويوسف - صلى الله عليه وسلم - لما احتمل ضيق السجن لله، شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 56]. وسليمان - صلى الله عليه وسلم - لما عقر الخيل غضباًَ لله إذ شغلته عن ذكره أعاضه الله عنها متن الريح كما قال سبحانه: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} [ص: 36]. ولما بذل الشهداء أبدانهم لله حتى مزقها أعداؤه شكر الله لهم ذلك بأن جعلهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأعاضهم عنها طيراً خضراً ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم، وخرجوا منها لإعلاء كلمة الله أعاضهم الله عنها أن ملكهم الدنيا، وفتحها عليهم، وجعلهم ملوكها وأمراءها. ولما بذلوا أموالهم في سبيل الله، أعاضهم الله عنها بأن أنفقت كنوز كسرى وقيصر تحت أقدامهم وبين أيديهم. ولما صبروا على غضب أعداء الله وشدة بطشهم أعاضهم الله بأن رضي عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].

ولما تحملوا الخوف والمرض والجوع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه أعاضهم الله بالأمن التام في الدنيا والآخرة، فسارت الضعينة من العراق إلى اليمن لا تخاف إلا الله، وهداهم الله إلى ما ينفعهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. وكل ما يجري في هذا الكون واقع بمشيئة الله وإرادته وإذنه، فما شاء الله كان مهما كان، وما لم يشأ لم يكن مهما يكن. وإرادة الله تبارك وتعالى تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ما تعلقت به الإرادتان الكونية والشرعية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان. الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فأطاع ذلك الأمر المؤمنون، وعصى ذلك الأمر الكفار والفجار. فهذه الإرادة يحبها الله ويرضاها، وقعت أو لم تقع، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع. الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث والأحوال التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يحبها، ولولا مشيئة الله وقدرته وخلقه لها لما كانت، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه الإرادة، فهذا ما لم يكن ولم يقع من أنواع المباحات والمعاصي. والمؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء. والبلاء الذي يصيب المؤمن نوعان: أحدهما: بلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع كالصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، وهذا من أشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه إلا الأنبياء والصديقون،

والناس فيه درجات متفاوتة. الثاني: البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش، والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات ونحو ذلك كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. والصبر هنا لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، لا سيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر، فإن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً. ولهذا كان بين ابتلاء نبي الله يوسف الصديق - صلى الله عليه وسلم - بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب، وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وبين ابتلائه بمراودة المرأة له وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك فرق عظيم، لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء. فإن يوسف كان شاباً جميلاً، عزباً غريباً، وكانت المرأة جميلة، وذات منصب، وكان في دارها، وتحت حكمها، وأغلقت الأبواب، وهي الطالبة، وكانت شديدة العشق والمحبة للرجل، قد امتلأ قلبها من حبه. فهذا الابتلاء الذي صبر معه يوسف، ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح ولده إسماعيل، إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع، ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم طبعه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 106]. وهذا بخلاف البلوى التي أصابت يونس في البحر، والمرض الذي أصاب أيوب، فمن له داعية وشهوة وهو يحبسها لله، ولا يطيعهما حباً له، وحياء منه، وخوفاً منه، وتوقيراً له، فهوأفضل ممن لا داعية له ولا شهوة. ولذا كان صالحو البشر أفضل من الملائكة، وعبادتهم أكمل، وانقيادهم أتم، ودرجاتهم أعلى.

والله تبارك وتعالى يمتحن كل إنسان في ثلاثة مواطن: في الدنيا .. وفي القبر .. وفي المحشر. ففي الدنيا: يكون الابتلاء والامتحان بشيئين: بالسراء والضراء، بالخير والشر وذلك ليعلم الله الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والمؤمن من المنافق: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3]. وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. فمن صبر وأطاع الله فاز .. ومن جزع وعصى خسر. وفي القبر: يكون الامتحان بثلاثة أشياء: من ربك .. ؟ ما دينك؟ ... من نبيك؟ .. فمن عرف ربه في الدنيا، وعرف رسوله، وعمل بدينه أجاب بقوله: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففاز بالجنة، ومن لم يعرف ذلك أجاب بقوله: هاه، هاه، لا أدري، فله النار. أما في المحشر فيكون الامتحان والسؤال عن سبعة أشياء: فيسأل العبد عن عمره فيما أفناه؟ .. وعن شبابه فيما أبلاه؟ .. وعن ماله من أين اكتسبه؟ .. وفيم أنفقه؟ .. وعن علمه ماذا عمل به؟. ويسأل الناس جميعاً عن أمرين: ماذا كنتم تعبدون؟ .. وماذا أجبتم المرسلين؟. والله عزَّ وجلَّ بعباده خبير بصير، وهو أرحم الراحمين، ورحمته وسعت كل شيء، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. فإذا أصيب الإنسان بمصيبة، فالله يعلم أن مصلحة العبد تتحقق هنا، ولو علم العبد ذلك لحمد الله على ذلك، ولكنه لجهله يشكو ويتسخط، والواجب واللائق بالعبد أن يمشي مع أقدار ربه سواء سرته أو ساءته، فالله أعلم بمصلحته، وسَيُوَفِّه أجره إن صبر أو شكر: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ

لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. أليس الإنسان إذا أصيب بمرض في بدنه ذهب إلى الطبيب ليجري له عملية، ويستخرج من بدنه الأشياء الفاسدة، لتزول العلة، ويحصل الشفاء، ويدفع للطبيب مقابل ذلك مبلغاً من المال، مع أن الجراحة تؤلمه، ولكنه يتحملها لحسن عاقبتها. فكذلك المصائب تطهير للعبد من الذنوب، تستحق من العبد الحمد والشكر، ويدرك هذا من حقق معنى لا إله إلا الله. وفيها تمييز للمؤمنين من المنافقين .. والصادقين من الكاذبين .. وأهل الخير من أهل الشر. وبالصبر عليها يرفع الله درجات العبد، ويضاعف حسناته، ويكفر سيئاته. هذه فائدة المحن والمصائب، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، والمحن تمحص لا تهلك. وليس الخير للإنسان أن يكثر ماله وولده، ويعظم جاهه، ولكن الخير أن يزيد إيمانه .. ويكثر علمه .. ويزداد عمله .. ويعظم حلمه .. فإن أحسن حمد الله، وإن أساء استغفر الله، وإن أعطي شكر الله. ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة نصوح. ورجل يسارع في الخيرات والأعمال الصالحة. والمؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدمها .. وحسنة أخرها. والزينة في كل شيء ليست هي المقصد، فقد جعل الله كل ما على الأرض زينة لها، ولكن المقصود منه الابتلاء كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].

فالثياب لستر العورة، والألوان زينة، ولباس الجنود ليس فيها زينة؛ لأنها ليست مقصودة، بل المقصود الخشونة والعمل. وزينة النبات والأشجار من الأوراق والأزهار ليست مقصودة، إنما المقصود الحبوب والثمار. وكذلك الدنيا ليست مقصودة، إنما المقصود الآخرة، وقد خلق الله الأسباب للابتلاء وهي زينة، وليس فيها النجاة، وإنما يميل إليها الغافلون من الأطفال والرجال والنساء، ومن لم يعرف مقصد حياته. فالزينة شيء، والمقصد شيء، والمطلوب لباس التقوى: فإذا بذل الإنسان الأسباب لأجل طاعة الله فاز، ومن نسي الطاعة وتعلق بالأسباب خسر. لذلك مست الحاجة للدعوة وبيان المقصد الأعلى، فالأنبياء يرشدون أممهم إلى المقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل نبي قال لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. فالله مقصود .. وأوامره مقصودة .. فيقدم الله على كل مطلوب .. وتقدم أوامره على كل شيء. ولكن الكفار يجرون الناس إلى التعلق بالزينات، وترك المقصد، فكل من نسي المقصد تعلق بالزينات.؟ فقارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]. وهذه فتنة وشر، فقد خسف الله بقارون وبداره الأرض. وفتن أهل الدنيا بما يغضب الله فقالوا: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} [القصص: 79]. والأحوال والمصائب تأتي على الأمة بسببين: بسبب المعاصي والذنوب .. وبسبب ضعف الإيمان الذي يؤدي إلى التقصير في الأعمال والأوامر، كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. والله سبحانه يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، ويتلقى العباد ذلك كل حسب طبيعته واستعداده وعلمه. فالابتلاء واحد، ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف الرؤية والمعرفة. فالشدة مثلاً تسلط على شتى النفوس: فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاءً إلى الله، وتضرعاً وخشية. وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعداً، وتخرجه من الصف إخراجاً. والرخاء يسلط على شتى النفوس: فأما المؤمن التقي فيزيده الرخاء يقظة وحمداً وشكراً. وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة، ويتلفه الرخاء، ويضله الابتلاء، فالفاسق أو المنافق كشجرة انفصلت من شجرة الحياة فتعفنت وفسدت وهكذا المثل يضربه الله للناس، يضل به كثيراً ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، ويهدي به كثيراً ممن يدركون حكمة الله في تدبيره كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} [البقرة: 26]. وقد خلق الله الإنسان، واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد، والمحبة والتعظيم، والحياء والإخلاص وجعل بدنه محل ظهور العبودية والسنن والآداب والأخلاق التي أمر بها الله عزَّ وجلَّ.

وجعل قلبه محل نظره سبحانه، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأعظمه وأفضله، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ورضاه عنه، والفوز بالجنة، والخلود في النعيم المقيم. ولكنه سبحانه مع ذلك ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس يدخل عليه من هذه الأبواب الثلاثة. فيتفق الشيطان .. ونفس الإنسان .. وهوى الإنسان على العبد، ثلاثة مسلطون آمرون. فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا تزال الجوارح في طاعتهم. ولكن اقتضت رحمة الله أن أعانه بجند آخر يقاوم هذا الجند الذي يريد إهلاكه. فأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، وجعل له مقابل نفسه الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة تأمره بالخير، وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب إلى الهوى المهلك، والمحفوظ من حفظه الله تعالى. والمصائب التي تحصل للعباد قسمان: فهي إما ابتلاء وتربية .. وإما عقوبة وعذاب. فإذا غضب الله على أحد أهلكه بعذاب الغرق أو القذف، أو الخسف أو الصعق كما قال سبحانه عن الأمم التي كذبت رسل الله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. وإذا رضي الله على أحد ابتلاه بما شاء، ثم إن صبر اجتباه وهداه كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ

عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. وكل من عمل عملاً فإنه يستحسنه ويدافع عنه. فالذي يعمل الصالحات يستحسنها ويدافع عنها، والذي يعمل السيئات يستحسنها ويدافع عنها، وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك، وكل يدعو إلى ما يستحسنه: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108]. والذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء، هم شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان. إن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم في قبضة الله، وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده، من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان كف الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]. وحكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا ليبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة بعد سماعهم الحق: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 29،30]. وهؤلاء الشياطين خليق بالمؤمن أن يستهين بهم مهما بلغت قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدعى، فهم في قبضة الله، وتحت قهره وأمره، وعلى بساط ملكه، ولكنه الابتلاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2،3].

والابتلاء ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل الله إلى آدم وحواء فلم يصمدا له: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 35،36]. وكذلك بنوا إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة، ولا يشتغلون فيه بالكسب، فجعل لهم يوم السبت، ثم كان الابتلاء ليربيهم الله، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع. فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وذلك ابتلاء من الله، ولم يصمد فريق من بني إسرائيل لهذا الابتلاء فمسخهم الله قردة خاسئين: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166]. وتواجه المسلم في حياته عقبتان: عقبة داخلية .. وعقبة خارجية .. ومواجهة العقبة الداخلية .. والانتصار عليها أهم من اقتحام المعارك، وذلك بالانتصار على هوى النفس، والشح والبخل، والرياء والنفاق، ومن انتصر على العدو الداخلي، سهل عليه الانتصار على العدو الخارجي كما قال سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} [البلد: 11 - 18].

ومن سنة الله عزَّ وجلَّ أن كل من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلي بالاشتغال بما يضره وحُرم الأول. فالمشركون لما زهدوا في عبادة الرحمن .. ابتلوا بعبادة الأوثان. ولما استكبروا عن الانقياد للرسل .. ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين. ولما استكبروا عن الانقياد للحق .. أذلهم الله بالانقياد لكل مبطل. ولما تركوا اتباع كتب الله المنزلة لهداية العباد .. ابتلوا باتباع أرذلها وأخسها وأضرها للعقول. ولما ترك المحاربون لله ورسوله إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن .. ابتلاهم بإنفاقها في طاعة الشيطان. ولما أهانوا آيات الله ورسله .. أهانهم الله بمن يذلهم في الدنيا من أعدائهم، وفي الآخرة بالعذاب المهين. ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. فالمهاجرون الأولون الذين هجروا أوطانهم وتركوا أموالهم وأهلهم من أجل إعلاء كلمة الله .. عوضهم الله الرزق الواسع في الدنيا، والعز والتمكين في الأرض، والجنة في الآخرة. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله .. وهب الله له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولم يبعث نبياً من بعده إلا من نسله. ويوسف - صلى الله عليه وسلم - لما ابتلي بامرأة العزيز، وصبر وعصم نفسه، وحفظها من الوقوع على امرأة العزيز، وطلب السجن ليبعد عن الفتنة .. عوضه الله بأن مكن له في الأرض، واستمتع بما أحل الله له من الأموال والنساء والسلطان. وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله .. نشر لهم من رحمته، وجعلهم سبباً للهداية. ومريم ابنة عمران لما أحصنت فرجها .. أكرمها الله، ونفخ فيه من روحه، واصطفاها وطهرها، وجعلها وابنها آية للعالمين.

ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله تعالى .. عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذات الدنيا كلها. والله عزَّ وجلَّ خلق العالم العلوي والعالم السفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أحسن عملاً. من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته سبحانه المتضمنة لمحبته وطاعته، وامتحن خلقه بين أمره الشرعي وقدره الكوني، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. وهذا الابتلاء هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في حال السراء والضراء، وفي الخير والشر. والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والصبر على طاعة الله أشق الصبرين. والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأذى الخلق قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها. فالرب عزَّ وجلَّ يبتلي بنعمه وينعم ببلائه، غير أن الشكر والصبر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني العبد عنهما طرفة عين. فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر .. والمحظور لا يترك إلا بصبر وشكر .. وأما المقدور فمتى صبر العبد عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره. والله سبحانه خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه.

وخلق الموت والحياة ليبتليهم .. فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه .. وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب. وزين لهم ما على الأرض ليبتليهم به، أيهم يقدم شهوات نفسه على محبوبات ربه وأوامره؟. وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً بعد أن كان غيباً في علمه. فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم - صلى الله عليه وسلم - ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه، واستمر هذا الابتلاء إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. والله عزَّ وجلَّ ابتلى عباده بأمرين: أمر فيه حيلة .. وأمر لا حيلة فيه. فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة منه لا يجزع منه. ونعم الله في البلاء الذي يصيب الناس مستورة لا يراها إلا أولو الألباب، فإذا أصيب الإنسان بمصيبة فليحمد الله إذ لم تكن في دينه .. وإذ لم تكن أعظم منها .. وإذ كانت في الدنيا ولم تكن في الآخرة .. وإذ لم يحرم الرضا بها .. وإذ يرجو الثواب عليها .. وبها تكمل عبودية الصبر .. وينال ثوابها كما قال سبحانه {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وهو الشيطان وعساكره من شياطين الإنس والجن، فالحرب سجال بينه وبين القلب الذي هو محل معرفة الله ومحبته وعبوديته. فولاه الله أمر هذه الحرب مع النفس والشيطان، وأمده بجند من الملائكة لا يفارقونه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. ثم أيده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه، فأرسل إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل عليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، وعدة إلى عدته.

وأمده سبحانه بالعقل وزيراً له ومدبراً، وبالمعرفة مشيرة عليه، وناصحة له، وبالإيمان مثبتاً له وناصراً ومؤيداً، وباليقين حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه. ثم أمده سبحانه بالقوى الظاهرة والباطنة لخوض هذه الحرب. فجعل العين طليعته .. والأذن صاحبة خبره .. واللسان ترجمانه .. واليدين والرجلين أعوانه .. وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له .. ويسألون الله أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفاع عنه. وحسب قوة الإيمان تكون قوة الابتلاء، فالأنبياء كانوا جبال الإيمان، وجبال اليقين، وجبال الصبر .. ثم يليهم الصحابة، وابتلاؤنا اليوم لا يكون كابتلاء الصحابة فضلاً عن الأنبياء، ولكن لا بدَّ من الابتلاء. فللأنبياء ابتلاء .. وللصحابة ابتلاء .. ولمن بعدهم ابتلاء حسب قوة الإيمان وضعفه. والله سبحانه: «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬1). فكل جمال في العالم العلوي وفي العالم السفلي من جماله سبحانه، وكل جمال ونور في المخلوقات لا يساوي ذرة من جمال الخالق ونوره وجلاله. وإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله. فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجماله عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (178).

ونعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق، فأكبر نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه والفوز برضاه. وقد احتجب سبحانه عن خلقه في الدنيا ليبلو بذلك إيمانهم، أيهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره. والله عزَّ وجلَّ يجزي العباد على إيمانهم بالغيب؛ لأن الله عزَّ وجلَّ لو تبدى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاص. ولكنه تبارك وتعالى احتجب عنهم في الدنيا، ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب، وإلى معرفته والإقرار بربوبيته، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة، ويحق القول على الكافرين. ولو تجلى لخلقه سبحانه لآمن به من في الأرض جميعاً بغير رسل ولا كتب ولا دعاة، ولم يعصوه طرفة عين. فإذا كان يوم القيامة تجلى سبحانه لمن آمن به وصدق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقر بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروه عياناً؛ مثوبة منه لهم وإكراماً، ليزدادوا بالنظر إلى من عبدوه بالغيب ولم يروه نعيماً، وبرؤيته فرحاً وسروراً. وحجب عنه الكفار يومئذ؛ لأنهم لم يؤمنوا به في الدنيا، فحرموا رؤيته في الآخرة كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبوراً. والله عزَّ وجلَّ خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء واختبار العباد أيهم أحسن عملاً، من يكون عمله موافقاً لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن، وهو مواقع محبته ورضاه.

وقدر سبحانه مقادير تخالفها ابتلاء منه، وامتحن خلقه بين أمره وقدره، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. فانقسم الخلق في هذا الابتلاء إلى قسمين: قسم داروا مع أوامره ومحابه، ووقفوا حيث وقف بهم الأمر الشرعي، وتحركوا حيث حركهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وحكموا الأمر على القدر، ودفعوا القدر بالقدر، امتثالاً لأمر الله، واتباعاً لمرضاته، فهؤلاء هم الناجون. والقسم الثاني: عارضوا بين الأمر والقدر، وبين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدره وقضاه، ثم افترقوا: ففرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر، والإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر، فمن كذب بالقدر فقد نقض تكذيبه إيمانه. وفرقة ردت الأمر بالقدر، وهؤلاء من أكفر الخلق، وهم الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35]. وفرقة دارت مع القدر، فسارت بسيره، ونزلت بنزوله، ودانت به، ولم تبال وافق الأمر الشرعي أو خالفه، بل دينها القدر، فالحلال ما حل بيدها قدراً، والحرام ما حرمته قدراً، وهم مع من غلب من مسلم وكافر، وبر وفاجر، وهؤلاء أيضاً كفار. وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر، ولم تدن به، ولكنها استرسلت معه، ولم تحكم عليه الأمر، وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعاً للأمر، فهؤلاء مفرطون. وهم بين عاجز وعاص لله، وهؤلاء كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر الشرعي، وعارضه به، حيث قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ

لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر: 39]. فرد إبليس أمر الله بقدره، واحتج على ربه بالقدر. وانقسم أتباعه أربع فرق كما سبق، فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالاً كونياً، فالقدر دينهم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. فدينهم القدر، وبعث الله الرسل بالأمر الشرعي، وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر. فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر الشرعي، وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر الشرعي حتى يخرجوهم منه كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 37]. فالرسل وأتباعهم دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر، وتحكيم الأمر عليه، وإبليس وأتباعه دينهم القدر، ودفع الأمر به. وحركات العالم العلوي والعالم السفلي وما فيهما موافقة للأمر: إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه .. وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه، وهو سبحانه قدره لحكمة وغاية حميدة. فهو سبحانه يحب المغفرة وإن كره معاصي العباد، ويحب التوابين وإن كره معاصيهم التي يتوبون منها، ويحب المقاتلين في سبيله وإن كره أفعال من يجاهدونه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4]. فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه، فهو رحيم يحب الرحمة، ويحب الرحماء، وهو عفو عن المذنبين، ويحب العفو، ويحب العافين عن الناس .. وهكذا. وإذا ابتلى الله عبده ببلاء، فإن رده ذلك الابتلاء إلى ربه وجمعه عليه وطرحه

ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه وقد عُوِّض عنها أجَلّ عِوَض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه. فهذه البلية له عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. وإن لم يرده ذلك البلاء إليه سبحانه، بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به. فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه. وجاءت طبيعته عند القدرة بالأشر والبطر، والإعراض عن شكر الله وعدم التوجه إليه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل ورفعة كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. والله تبارك وتعالى عليم بخلقه، خلق النفوس وفيها خبأ كامناً يعلمه سبحانه منها، فلا بدَّ أن يقيم أسباباً يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامناً فيها. فإذا ظهر للعيان ترتب عليه أثره من السعادة والشقاوة. وخلق سبحانه السموات والأرض ليعلم العباد كمال عظمته وكمال قدرته وعلمه كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. وخلق سبحانه العالم السفلي ليبلو عباده، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه.

وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسباباً يحصل بها، فلا بد من خلق أسبابه. ولهذا لما كان من أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف: 7،8]. والله عليم حكيم خلق الإنسان وجعله قابلاً للإيمان والكفر .. للحق والباطل .. للخير والشر، للطاعات والمعاصي. وبحسب البيئة التي يعيش فيها، وبحسب المذكر له .. وبحسب العلم والأوامر التي تصل إليه يميل إلى هذا أو ذاك. والقلوب والجوارح لها مصرفان: مصرف محمود .. ومصرف مذموم. فالمحبة مثلاً من أعمال القلوب ولها مصرفان: الأول: مصرف محمود: وهو محبة الله ورسوله، ومحبة أوامر الله، ومحبة ما يحبه الله. الثاني: مصرف مذموم: وهو محبة ما يبغضه الله من الأعمال والأقوال، والأشخاص والأماكن، والأخلاق والأحوال. وكذلك الجوارح لها مصرف محمود .. ومصرف مذموم. فالمحمود استعمالها في طاعة الله .. والمذموم استعمالها في معصية الله. فقلوب الناس وجوارحهم تعمل إما في المصرف المحمود الذي يرضي الله عزَّ وجلَّ .. وإما في المصرف المذموم الذي يغضب الله عزَّ وجلَّ فالمحمود لله وصاحبه رابح .. والمذموم للشيطان وصاحبه خاسر: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119]. والدين كله يتمثل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت .. وتقديم الأوامر على الشهوات .. وتقديم الحقوق على كل محبوب .. وتقديم مراد الله على مراد النفس .. وربط العواطف بأوامر الله.

والإنسان ظلوم كفار، وقد ذمه الله باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء، وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء، فقال سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 9،10]. وإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه له وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة، وهي نعمة الإسلام. والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]. علم سبحانه قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر، بما أظهر معلومه منهم، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قام فيهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم الإلهي السابق. ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع شرائعه؛ إعذاراً إليهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهو لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟. فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل الثواب أو العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما سيكون. وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا، وبما ركب فيهم من الشهوات. فذلك ابتلاء بشرعه وأمره .. وهذا ابتلاء بقضائه وقدره. وقد اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبني عليه، فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمه. كما أن المسؤول إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه، ولو صدق السائل لما أفلح

من رده، وكذلك السارق، وقاطع الطريق، والناصب، والمنتهب، والمختلس في خفارة منع أصحاب الأموال حقوق الله فيها، ولو أدوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم. وكذلك تسليط العالم بعضهم على بعض، وتمكين الجناة والبغاة، حتى أن الحيوانات العادية على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. والله بصير بالعباد، يصرف الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدهم عنه كما صدوا عباده عنه. ويحبس الغيث عن عباده ويبتليهم بالقحط إذا منعوا الزكاة وحرموا المساكين، فلما منعوا المساكين حقهم منع الله عنهم مادة القوت والرزق وهو الغيث. ويمحق الله أموال المرابين ويتلفها كما فعلوا بأموال الناس وأكلوها بالباطل، ومحقوها عليهم، وأتلفوها بالربا، فعوقبوا إتلافاً بإتلاف كما جوزي المتصدقون بأضعاف كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة: 276]. ويسلط الله سبحانه العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، فيسلط الله عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء، ولا يظلم ربك أحداً. هذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن يطوي الله الأرض ويعيدها كما بدأها كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. والتربية الإلهية أولها ابتلاء وامتحان .. وأوسطها صبر ويقين وتوكل .. وآخرها هداية ونصر وتمكين .. وعاقبتها الجنة ورضوان رب العالمين كما قال سبحانه:

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. والله تبارك وتعالى ابتلى الأنبياء بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته ويتوجهوا إلى ربهم في كشف ما بهم من ضر إذا نزل .. وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وحلفائهم إذا أوذوا من الناس .. فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء .. صبروا ورضوا وتأسوا بهم .. ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد الله لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة .. فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعداوتهم .. ويعجل تطهير الأرض منهم. فهذه من بعض حكمة الله في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم لهم: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17]. وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه. كما ابتلى الله جميع الأنبياء، بمعارضة قومهم لهم. وكما ابتلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بقومه الذين كذبوه وألقوه في النار وكما ابتلاه بذبح ولده إسماعيل. وكما ابتلى موسى - صلى الله عليه وسلم - بفرعون وقومه الذين كذبوه، والسحرة الذين بارزوه، وبني إسرائيل الذين اختلفوا عليه. وكما ابتلى أيوب - صلى الله عليه وسلم - بالمرض وذهاب الأهل. وكما ابتلى عيسى - صلى الله عليه وسلم - باليهود الذين كذبوه، وأرادوا قتله وصلبه. وكما ابتلى محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأذى الكفار له، وتكذيبهم له، ومطاردته وإرادة قتله، وإخراجه من مكة، وجمع الناس والأموال لقتاله والقضاء على دينه وأتباعه. وكما ابتلاه باليهود الذين قاتلوه، وكادوا له، ونقضوا عهودهم معه وجمعوا الأحزاب لحربه، وسحروه، ووضعوا السم في اللحم له.

فصبر حتى أظهر الله دينه، وخذل أعداءه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 34]. والبلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام: فهو إما أن يكون في نفس العبد .. أو في ماله .. أو في عرضه .. أو في أهله ومن يحب. والذي في نفسه إما أن يكون بتلفها تارة، أو بتألمها بدون التلف. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله، وأشد هذه الأقسام المصيبة في النفس. والمؤمن كلما نقص شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته. فنقصان بدنه ودنياه، ولذته وسروره، وجاهه ورياسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده كان رحمة به، وخيراً له، وذخراً له. وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة. والله تبارك وتعالى حكيم عليم يبتلي عباده تارة بالنعم .. وتارة بالمصائب. فمن وسع الله عليه وإن كان إكراماً له في الدنيا فلا يدل على أنه كريم عنده من أهل كرامته ومحبته. ومن قتر الله عليه فلا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع سبحانه ابتلاء وامتحاناً، ويقتر ابتلاء وامتحاناً، ويبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} [الفجر: 15،16]. وهو سبحانه يبتلي عبده بنعمة تجلب له نقمة، وبنعمة تجلب له نعمة أخرى، ويبتليه كذلك بنقمة تجلب له نعمة، وبنقمة تجلب له نقمة أخرى. فهذا شأن نعمه ونقمه سبحانه.

فالكرامات امتحان وابتلاء كالملك والسلطان والمال كما قال سليمان - صلى الله عليه وسلم -: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]. فالنعم ابتلاء من الله يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور، كما أن المحن بلوى منه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، فمن شكر زاده الله، ومن كفر سلبه إياه. وإذا ابتلى الله الإنسان بالفقر، فإن صبر أعطي أضعاف ما فاته من الرزق، وإن سخط فله السخط. فالصبر والذكر والشكر من أجل مقامات الدين وأعظمها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. اللَّهُمَّ! أَجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ. وَأخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْها» أخرجه مسلم (¬1). وهذا الحديث يتضمن أصلين عظيمين: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عزَّ وجلَّ، والملك يتصرف في ملكه كيف شاء، أما العبد فلا يتصرف إلا بإذن مالكه ووفق أمره. الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، فليفكر بما يقدم به على ربه من الإيمان والأعمال الصالحة. ولينظر إلى مقدار الأجر على المصيبة إن صبر، وأنها أخف مما هو أعظم منها، وليعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومعرفة هذا أبلغ علاج للمصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، وبه يتسلى عما أصابه. ولله تبارك وتعالى على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (918).

سَوّى بين عباده. فعلى العالم من عبودية الله نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وحمل الناس عليه، والصبر على ذلك ما ليس على المفتي. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وقد غر الشيطان أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات النافعة، فلم يحدثوا أنفسهم بالقيام بها. وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، وتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله من مرتكب المعاصي. ومن له دراية ومعرفة بما بعث الله به رسوله، وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنن رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان؟ وهؤلاء مع سقوطهم عن عين الله، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهي موت القلوب، فالقلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل. ولا بدَّ من تربية النفوس بالبلاء، وامتحانها بالمخاوف والشدائد والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمراث كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ

وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. لا بدَّ من هذا الابتلاء الظاهر المكشوف لكل الناس، كي يعز الدين على النفوس بمقدار ما أدوا في سبيله من تكاليف وصبر، فكلما تألموا في سبيله كلما بذلوا من أجله، وكلما بذلوا من أجله كان أعز عليهم من كل شيء؟ وكذلك لن يدرك الآخرون قيمة الدين وعظمته إلا حين يرون ابتلاء أهله وصبرهم على البلاء من أجله، وحينئذ سيقولون لو لم يكن عند هؤلاء من الخير أكبر وأعظم مما ابتلوا به ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه. وعندئذ ينقلب المعارضون للدين باحثين عنه، مقدرين له، مندفعين إليه، وعندئذ يجيء نصر الله ويدخل الناس في دين الله أفواجاً. ولا بدَّ من البلاء ليصلب عود أهل الحق ويقوى ويشتد. وبحصول الشدائد والمحن يحصل التوجه والالتجاء إلى الله وحده، فحين تهتز الأسناد كلها يتوجه القلب إلى الله وحده، فلا يرى قوة إلا قوته، ولا يرى حولاً إلا حوله، ولا ملجأ إلا إليه، وهذه هي العبودية التي يريدها الله من عبده. إن لهؤلاء في صلوات الله ورحمته وهدايته جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات .. وجزاء على الخوف والجوع والشدة .. وجزاء على القتل والشهادة. فهذا العطاء من الله أثقل في الميزان من كل عطاء، أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور. فهذا طريق مَنْ يريد الله استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين. وسنة الله جارية وفق ما يشاء، ومن سنة الله في المكذبين لرسله أن يأخذهم بالبأساء والضراء، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف: 94]. لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن

يرقق القلوب التي طال عليها الأمد، وأن يتجه بالبشر الضعاف الغافلين إلى خالقهم القهار، يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه، ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له. وليس بالله حاجة لعبادة العباد، فهو الغني وهم الفقراء، وهو القوي وهم الضعفاء، ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم، ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه .. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد أن يغويهم .. وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم التي تقعدهم عن طاعة الله .. وتحرروا من العبودية للعبيد أمثالهم. استحيوا أن يطيعوا خطوات الشيطان .. واستحيوا أن يغضبوا الله بنية أو عمل وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون. لذلك اقتضت سنة الله ومشيئته أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه بالبأساء والضراء، استحياء لقلوبهم بالألم، والألم خير مهذِّب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير موجه إلى ظلال الرحمة لعلهم يضرعون: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 95]. فإذا الرخاء مكان الشدة .. واليسر مكان العسر .. والعافية مكان الضر .. والأمن مكان الخوف .. وإذا هو متاع ورخاء، وكثرة وامتلاء، إنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء. والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، فإنه يذكر صاحبه بالله، فيتجه إليه، ويتضرع بين يديه، فيجد في رحابه فسحة. فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون، فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطفي. فالثراء والغنى يولد حالة قلة المبالاة، وحالة الاستخفاف والاستهتار، فلا

يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه، خاصة حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة. فهم يتنعمون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار، ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان، وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة، وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً بلا سبب معلوم، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء، وقد أخذنا دورنا في الضراء، وجاء دورنا في السراء، هكذا يظنون. عندئذ وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان تجيء العاقبة وفق السنة الجارية: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 95]. هكذا تجري سنة الله أبداً وفق مشيئته في عباده، فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء. أما الطرف الآخر لسنة الله الجارية فكما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. فأهل القرى لو آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار، لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض، هكذا مفتوحة بلا حساب، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيض غامر من كل مكان. وقد ينظر بعض الناس فيرى من يقول إنهم مسلمون مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق. ويرى في المقابل أمماً لا يؤمنون بالله ولا يتقونه مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ. فيتساءل وأين هي السنة الجارية التي لا تتخلف؟ ولكن هذا وذلك وهمٌ تخيله ظواهر الأحوال. إن أولئك الذين يقولون إنهم مسلمون، لا مؤمنون ولا متقون، إنهم لا يخلصون

عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. إنهم في الواقع يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم، ويشرِّعون لهم، وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن حقاً لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره. ويوم كان المسلمون مؤمنين حقاً دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله بالنصر والتمكين في الأرض. وأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة، وهو الابتلاء بالنعمة، وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يَعِدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضا والراحة. إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى بركات في الأشياء .. بركات في النفوس .. بركات في المشاعر .. بركات في طيبات الحياة .. بركات تنمي الحياة وترفعها، وليست مجرد وفرة المال مع الشقوة والتردي والانحلال. فكم من أمة غنية ولكنها تعيش في شقوة؟. فهي في حاضر نراه، يترقبه مستقبل نكد، وابتلاء يعقبه نكال: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. فالعطاء ليس دائماً دليل رضى، فقد يكون مقدمة للعقوبة كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة،

ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه. وهي لمسة قوية للقلب البشري، إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أُديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، ومحاسب على ما كسب فيه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 13،14]. وشعور الإنسان بالرقابة التي تحيط به يجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، شديد الرغبة في النجاة من هذا الامتحان. إن الحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان: عقيدة .. وعبادة .. وأخلاق .. وطريقة حياة. فالذي خلق البشر سبحانه أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم، وما يسعدهم وينجيهم، وما ينفعهم وما يضرهم فأكرمهم به كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. والقرآن يقول لمن يطعمون الحياة الإسلامية والنظام الإسلامي بمنتجات أخرى ونظام آخر من صنع البشر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. إن هذا الإنسان الذي خلقه الله له في حياته حالتان: الأولى: أحوال هو مقهور مجبور أن يسلم فيها لله كوجوده، ويوم ولادته، ولونه وشكله، وطوله وعرضه، ومرضه وصحته، وحركة قلبه ومعدته وروحه، ونحو ذلك. وكل ذلك وأمثاله لا تستطيع أن تفعله، بل أنت مكره فيه، ومجبور عليه، أن

تسلم لله فيما يريد، ويجري عليك قدر الله في جميع ذلك، سواء أردت أو لم ترد. الثانية: أحوال هو فيها مختار، وهي ما أعطاه الله فيها إرادة أن يفعل أولا يفعل، يسلم أو لا يسلم. فهو مختار أن يؤمن أو يكفر .. أو يطيع أو يعصي .. أو يعدل أو يظلم .. أو ينفع أو يضر .. وهو محاسب على اختياره. فالله عزَّ وجلَّ جعل في حياة بعض مخلوقاته كالإنس والجن مناطق الاختيار، يعطيهم فيه الحرية في أن يختاروا ما شاءوا، ومناطق هم مكرهون فيها، مقهورون عليها، لا اختيار لهم فيها، بل اختارها الله لهم، وتكفل بها، وأنفذها فيهم. فقد يحدث للإنسان شيء أو يمرض أو يقع له ما يكرهه، ولو كان للإنسان هنا إرادة حرة لمنع حدوثه ما دام يكرهه، ولكنه مقهور لأمر الله فيه، لا يستطيع دفعه. وما دام يكره شيئاً لا يستطيع دفعه فهو مكره ومجبور أن يسلم لله سبحانه فيما أراد. ففي مثل هذه الأمور الإنسان مسلم لله كرهاً بلا اختيار. بينما في أمور الدين الإنسان مسلم لله طوعاً باختياره، فيستطيع أن يصلي ويصوم، ويتصدق ويذكر الله، ويستطيع ألا يفعل ذلك. وكل ما في السموات والأرض خاضع لله عزَّ وجلَّ مقهور بأمره، مسلم له، عبد له كما قال سبحانه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. فكل من في السموات والأرض أسلم لله جلَّ جلاله، والمطلوب من الإنسان أن ينسجم مع الكون كله في التسليم لله سبحانه، ويسلم حركته الاختيارية فيه لله سبحانه، وهي طاعة أمره وشرعه، كما أسلم لله فيما يكرهه ولا يقدر عليه.

فالمؤمن أسلم لله ربه في كل الأمور، فهو أسلم لله في الأمور التي له اختيار فيها، وهي طاعة الله ورسوله، وأسلم في الأمور التي ليس له فيها اختيار مما قدره الله عليه. فأسلم قيادته لله طوعاً وكرهاً فيما يقدر عليه، وفيما لا يقدر عليه. أما الكافر الذي رفض أن يسلم قيادته لله في الأمور التي له فيها اختيار، فهو يكفر بالله باختياره الذي منحه الله له، ولكنه يسلم لله قهراً أو كرهاً فيما ليس له فيه اختيار، فهو مقهور ومجبور على الاستسلام لله كباقي المخلوقات، فهو والكون كله في قبضة الله. وكل من في السموات والأرض عبيد لملك الملوك كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95]. فليس للعبد إلا أن يسلم ويذعن لمالكه، ويطيع أمره، فهو أعلم بما ينفعه ويصلحه. وكل الكون خلقه الله وسخره وقهره على تنفيذ ما يريد، فالسموات والأرض قالتا أتينا طائعين إجلالاً لربها، ولو أنها لم تأت طائعة لجاءت مكرهة مقهورة لأمر ربها. وكل الخلق راجعون إلى الله، فمن استغل الاختيار الذي أعطاه الله له في الدنيا، وخان الأمانة، وخرج عن الدين، وترك منهج ربه، فلن يفلت، ولن يدفع عن نفسه الموت، ولن يعطي لنفسه الخلود، وستنتهي فترة الاختيار، ويحاسب على ما اختار كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25،26]. إن مجامع المؤمنين تختلف عن مجامع الكافرين مادياً ومعنوياً كما قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36]. مجامع الكفار تقف بمغرياتها الفخمة الضخمة، تقف بمالها وجمالها،

وسلطانها وجاهها، تحقق المصالح، وتوفر المغانم، وتقف باللذائذ والمتاع، والكبر والإسراف. أما مجامع المؤمنين فتقف بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان، وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من ذي سلطان. ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه. لا .. بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئاً في هذه الأرض. إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب فـ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم: 73]. الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟ .. أم الفقراء الذين يلتفون حوله؟ إنها لحكمة الله. إنه الابتلاء .. إنه الامتحان. أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء، لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف ولا فخامة. ليقبل عليها من يريدها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه، وتعارفوا عليه من قيم ومغريات، وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يركض وراء المنصب والجاه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم: 73]. وإذا غفل الناس عما جاء به الأنبياء من الحق، وأعرضوا عنه إلى غيره، استدرجهم الله من النعم إلى النقم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44،45].

فهم يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات، وايثارهم بالنعمة والعطاء: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55،56]. إنما هي الفتنة والابتلاء، ولكنهم لا يشعرون لشدة سكرهم وغفلتهم بما وراء المال والبنين من مصير قادم، وشر مستطير، وعقاب ينتظرهم في النار: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. والمشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين تنكبوا الطريق، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ولا الابتلاء بالنقمة. فإن أصابتهم النعمة حسبوها إكراماً لهم على حسن عملهم كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55،56]. وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم، ولم تستيقظ ضمائرهم، ولم يرجعوا إلى الله، يتضرعون له، ليكشف عنهم الضر، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة، فإذا هم حائرون يائسون: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 75،76]. وإذا كان الإيمان درجات .. والرسل درجات .. والأعمال درجات .. فكذلك الابتلاء درجات .. وأشده ما خص الله به أنبياءه ورسله .. فهم أعظم الناس ابتلاء .. وأكملهم صبراً .. وأوفرهم أجراً. فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو الاستسلام لله بالطاعة والعبودية، وبذل كل شيء، وترك كل شيء من أجل ذلك. فإبراهيم خليل الرحمن ابتلي بذبح ابنه إسماعيل، فما كاد يأنس به حتى ابتلي

بذبحه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]. إنها إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، فلبى دون أن يعترض أو يسأل. ولم يلبِّ في انزعاج ولا جزع، بل استجاب مطمئناً راضياً واثقاً أنه يؤدي واجبه، والذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي. إن الأمر شاق على النفس جداً، فالله لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى المعركة .. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى ذبح ابنه بيده. وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يرى فيه رأيه. إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه، كالذي يعرف المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة واستسلاماً، لا قهراً ولا اضطراراً؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم لأمر ربه. إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - يحب لابنه إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - أن يتذوق حلاوة الإيمان، ولذة التطوع التي ذاقها. فماذا كان من أمر الغلام الذي يعرض عليه الذبح تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟. {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102]. لقد تلقى الأمر لا في طاعة فحسب، ولكن في رضى كذلك ويقين. ثم هو الأدب مع الله بالاستعانة به على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة. فلم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، إنما أرجع الفضل كله لله، إنْ هو أعانه على ما يُطلب إليه، وأصبره على ما يراد به.

ثم يزيد البلاء بدفعه إلى التنفيذ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103]. ألا ما أعظم هذا الابتلاء، لقد كب إبراهيم ابنه على جبينه ليذبحه، والغلام استسلم للذبح فلا يتحرك اقتناعاً، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً. لقد أسلما، فهذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة، وطمأنينة ورضى، وتسليم وتنفيذ. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي تنبي عن الإيمان العظيم. إنها ليست الشجاعة ولا الاندفاع، إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل، القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون. بل هنا الرضا الهادي المتذوق لحلاوة الطاعة. وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أسلما، ولم يبق إلا أن يذبح إبراهيم ابنه إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه. وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعد ما وضع الأب وابنه في هذا الميزان من روحهما وعز مهما كل ما أراده الله منهما، فالابتلاء قد تم، ولم يبق إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح. والله عزَّ وجلَّ لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. فلما علم الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا، فأثمر الصدق والنجاة: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} [الصافات: 104،105]. فالله عزَّ وجلّ لا يريد إلا الإسلام والاستسلام، بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله، أو تعزه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة. فلما بذلا ذلك ولم يبق إلا اللحم والدم، فهذا ينوب عنه ذبح آخر، ذبح من لحم ودم، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت بذبح عظيم، يذبح بدل

إسماعيل، وهذا جزاء المحسنين، ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى تذكيراً بهذا الحادث العظيم .. الذي تجلت فيه حقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وجمال التسليم، وجمال الرحمة، وجمال البذل، وكمال التضحية. وليعرف العباد أن الله لا يريد أن يعذبهم بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه نفوسهم طائعة ملبية وافية، مؤدية مستسلمة، لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه. فإذا علم الله منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام، واحتسبها لها وفاءً وأداءً، وقَبِل منها، وفداها وأكرمها، فهي تذكر بالخير على توالي الأجيال والقرون: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 106 - 111]. وقد ابتلى الله عزَّ وجلّ نبيه أيوب - صلى الله عليه وسلم - ليمتحن صبره، فكان يعيش في نعمة من المال والأهل والصحة. فسلبه الله المال حتى لم يبق لديه شيء .. وسلبه الأهل والأولاد حتى لم يبق له إلا زوجه .. ثم سلبه الله الصحة، وابتلاه بالمرض حتى أصبح لا يخدم نفسه، ونفخ الشيطان في جسده حتى تقرح ثم تقيح. والشيطان يأتي إليه في كل حال، ويذكره بالمال والأهل والعافية، ولكنه لا يبالي به صابراً لله كما قال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44]. ثم جاء الشيطان إلى زوجة أيوب، وذكرها بحالها الأولى، فاعترضت مرة على أيوب، فعلم أن الشيطان سوَّل لها، وحلف ليضربنها مائة سوط، فلما شفاه الله، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه أفتاه الله أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ليبر بيمينه كما قال سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44]. فكان ما أصاب أيوب بسبب الشيطان، فشكاه إلى ربه، وصبر على هذا البلاء كله، فشفاه الله لأنه كمل مراتب العبودية لربه، فأمره أن يضرب الأرض برجله

لينبع منها ماء يغتسل منه ويشرب، فيذهب عنه الضر، ففعل وذهب عنه الضر، وشفاه الله عزَّ وجلَّ. ووهب له أهله ومثلهم معهم، وأغناه وأعطاه مالاً عظيماً، وعافاه في بدنه لكمال صبره على البلاء، وقوة يقينه على ربه كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} [ص: 41 - 43]. فليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر أن الله تعالى يثيبه عاجلاً وآجلاً، ويستجيب دعاءه إذا دعاه، كما صبر أيوب - صلى الله عليه وسلم - على البلاء لوجه الله تعالى، وشكا إلى ربه وأناب إليه، فاستجاب له، وشفاه وأغناه فنعم العبد، ونعم الصابر، ونعم الرسول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44]. والأنبياء فعلوا الأسباب، وأكلوا الطعام، وتزوجوا النساء؛ لأنهم قدوة للناس، وأكثر الأمة تركوا سنن العادة، وقاموا بسنن العبادة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً. وجهد الدعوة له ثلاث مراتب: البداية .. التربية .. الثمرة .. فالبداية بالدعوة .. والتربية بالأحوال والابتلاء .. والثمرة بالنصرة ونزول الهداية. فكل بلاء يصيب العباد لا كاشف له إلا الله الكافي الشافي. وكل بلاء يصيب العبد يحتاج إلى صبر، وبحسب قوة البلاء تكون قوة الصبر، وبحسب قوة الصبر تكون كثرة الأجر كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وقوة الصبر على البلاء تنشأ من عدة أسباب: أحدها: شهود جزاء المصيبة وثوابها. الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة مسطورة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فجزعه لا يزيده إلا عذاباً. الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى وهو الصبر، أو الصبر والرضا وهذا أكمل، أو الصبر والشكر وهذا أعلى. الخامس: علمه أن المصيبة أصابته بسبب ذنبه، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة. السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له، واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه. السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع له، ساقه إليه العليم بمصلحته، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، الرحيم به، فليصبر على تجرعه. الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فلا ينظر إلى مرارة الدواء، بل ينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أولياء الله وحزبه أم لا؟. فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له وعونا له. وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد، وصفع قفاه، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر. العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد حقاً من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال. وأما عبد السراء والعافية، الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به،

وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، ولو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه ولسانه بشكره. فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. والله جل جلاله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، قدر جميع ما يجري في الكون من الأرزاق والآجال، والأقوال والأعمال، والمصائب، والأحوال كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22،23]. فالله سبحانه قدر ما يصيب العباد من المصائب قبل أن يخلق ويبرأ الأنفس والمصائب والأرض. وأخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه، وأنه يسير عليه، وحكمته البالغة التي منها ألا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته، وقد كتبت قبل خلقهم. فإذا علموا ذلك هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل لعلمهم أن المصيبة مقدرة في كل ما يقع على الأرض، فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه؟. ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته .. أو حصول مكروه أو خوف حصوله، نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فوته حيث لم يحصل، ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع. وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وإنَّ ما أخطأه منها لم يكن ليصيبه هانت عليه، وخف حملها،

وأنزلها منزلة الحر والبرد. والجزع ضعف في النفس، وخوف في القلب .. يمده شدة الطمع والحرص .. ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر. ومتى آمن العبد بالقدر علم أن المقدر كائن ولا بدَّ، وعلم أن المصيبة مقدرة في الحاضر والغائب، فلم يجزع ولم يفرح، وإلا فالجزع عناء محض، ومصيبة ثانية. أما رقة القلب فإنها ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان رسول الله أرق الناس قلباً، وأغزرهم دمعاً، وأبعدهم من الجزع؛ لكمال معرفته ورحمته، وأقرب الخلق إلى الله أعظمهم رأفة ورحمة. فالقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان، واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله رق، وسكنت فيه الرحمة والرأفة، فتراه رقيق القلب رحيماً بكل مخلوق: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ولا يجوز للعباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد كالكفر والمعاصي، ولكن على الناس أن يرضوا بكل ما أمر الله به وشرعه، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به وشرعه. وينبغي للإنسان أن يرضى بما قدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر أو مرض، أو ذل أو أذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، والرضا بها مشروع: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} [المعارج: 5]. وعلى المسلم في جميع الأحوال في السراء والضراء لزوم الأوامر الشرعية، وعدم التأثر بالأحوال، وبسبب الأوامر نتحمل الأحوال، وبسبب الأحوال لا نغير الأوامر ليكون الله معنا، ويكشف ما حل بنا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120]. وكل ما قدره الله وقضاه من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال

والحيوانات، ومن هو خارج عن التكليف، ومن لا ثواب ولا عقاب عليه، كله جار على مقتضى الحكمة. فالرب سبحانه أسماؤه حسنى، وصفاته كاملة، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة، وله على ذلك كل حمد ومدح وثناء، وكل خير فمنه وله وبيده، وهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين. والشر ليس إليه بوجه من الوجوه، وإن كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه، وشر بإضافته إلى من صدر منه أو وقع به. والأمر قسمة بين فضل الله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا. فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعمل فيما هو مهيأ له، وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون. فإذا واقعوا معصية عاد ذلك عليهم رحمة، وانقلب في حقهم دواء، وبُدِّل حسنة بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70]. لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله، وأن قلوبهم بيده، وعصمتهم إليه، وأراهم عزته في قضائه، وبره وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل. وأشهدهم حاجتهم إليه، وافتقارهم وذلهم بين يديه، وأنه إن لم يغفر لهم، ويعف عنهم، فليس لهم سبيل إلى النجاة أبداً.

فإنهم لما عزموا ألا يعصوه، ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم قدرته، وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم، وسنة مغفرته لهم، فدعوه فأجابهم وتاب عليهم. فلما تابوا إليه واستغفروه عرفهم رحمته وسعة مغفرته، وأشهدهم حمده العظيم، وبره العميم، وكرمه في أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاك والفساد، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي فرحمهم، وجعل تلك الآثار التي توجبها المعصية من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم، وسبباً إلى علو درجاتهم، ونيل الزلفى والكرامة عنده سبحانه. فأشهدهم العزيز الحكيم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته. والله تبارك وتعالى أرحم بعباده من أنفسهم وأعلم بما يصلحهم، وهو الذي يربيهم بما ينفعهم، فمتى مال قلب العبد إلى ما سوى الله جعل الله ذلك الشيء منشأ للآفات، فحينئذ ينصرف وجه القلب عن المخلوق إلى الخالق، وفي ذلك سعادته ونجاته وفلاحه. فآدم - صلى الله عليه وسلم - لما تعلق قلبه بالجنة جعلها الله محنة عليه حتى زالت الجنة، فبقي آدم مع ذكر الله سبحانه. ولما استأنس يعقوب - صلى الله عليه وسلم - بيوسف - صلى الله عليه وسلم - أوقع الفراق بينهما، حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق سبحانه. ولما طمع محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه، فما أوذي نبي مثل ما أوذي، حتى صار اعتماده وتوكله باليقين على ربه وحده، ولم يلتفت إلى ما سواه. والله تبارك وتعالى خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه، وهذا الحق الذي خلق به خلقه.

وخلق الموت والحياة ليبتليهم أيضاً، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه، وقدر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب. وزين لهم ما على الأرض من أشياء وشهوات ليبتليهم به، أيهم يؤثر ذلك عليه سبحانه. وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب. فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجوداً عياناً، بعد أن كان غيباً في علمه لا يعلمه إلا هو. فابتلى سبحانه أبوي الإنس والجن كلاً منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه الله منه، فلهذا قال سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. واستمر هذا الابتلاء في الذرية، ولا زال ماضياً إلى يوم القيامة، فابتلى الأنبياء والرسل بأممهم، وابتلى أممهم بهم. وبهذا الابتلاء والامتحان تظهر الحقائق، ويظهر ما كان كامناً في النفوس ولذا قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. وأكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص وجهل وفقر وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه، وأنعم عليه بذلك ظاهراً وباطناً. ولذا ينبه الله سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين، ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال، حتى جعله بشراً سوياً يسمع ويبصر، وينطق ويبطش، ويعلم ويتحرك، ويأمر وينهى، ويصول ويجول، كما قال سبحانه: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} [المعارج: 38،39]. فهو سبحانه الرب الإله الذي خلقهم مما يعلمون، لا يحسن به مع ذلك أن

يتركهم سدى، لا يرسل إليهم رسولاً، ولا ينزل عليهم كتاباً، ولا يعجز سبحانه مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقاً جديداً، ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من خير أو شر. فكيف يطمع هؤلاء الكفار في دخول الجنة وهم يكذبون الله، ويكذبون رسله، ويعدلون به خلقه، وهم يعلمون من أي شيء خلقهم؟. وسبب الخذلان لهم عدم صلاحية المحل وأهليته، وعدم قبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه، كما قال سبحانه عن قارون حين: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص: 78]. وسليمان - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أوتيه من الملك من فضل الله عليه ومنته كما قال سبحانه: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]. أما قارون فرأى ذلك من نفسه واستحقاقه وأنه أهله وحقيق به، وإذا علم الله هذا من قلب العبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة. فأسباب الخذلان من النفس .. وأسباب التوفيق مِن جَعْل الله لها قابلة للنعمة، فأسباب التوفيق منه ومن فضله .. وهو الخالق لهذه وهذه .. كما خلق أجزاء الأرض هذه قابلة للنبات .. وهذه غير قابلة له .. وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة .. وهذه لا تقبلها. وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، وإجلاله وتعظيمه، وتوحيده ونصح عباده .. وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل لضده، وهو الحكيم العليم. والإنسان لا يصل إلى أسمى الغايات وأكمل النهايات إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وهذا الجسر لكماله يشبه الجسر الذي لا سبيل إلى دخول الجنة إلا

بعبوره. وكم لله من نعمة ورحمة ومنحة فيما يبتلي به عباده، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه رحمة ونعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان. فتأمل حال أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية، ورفعة المنزلة، فلولا تلك المحنة التي جرت عليه، وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك، لما وصل إلى ما وصل إليه من التكريم، وبعث الأنبياء والرسل والمؤمنين والمجاهدين من نسله. وتأمل حال أبينا الثاني نوح - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض من الكفار بدعوته، وجعل العالم من بعده كلهم من ذريته، وجعله من أولي العزم الذين هم أفضل الرسل. ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء، وخليل رب العالمين، لما بذل نفسه وما يملك لله ونصرة دينه اتخذه الله خليلاً لنفسه، وأمر سيد الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ملته. وجازاه سبحانه على تسليمه ولده لأمر الله أن بارك في نسله، وكثَّره حتى ملأ السهل والجبل. فالله سبحانه جواد كريم من ترك لوجهه أمراً أو فعله لوجهه بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافاً مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافاً مضاعفة. فلما أمر الله إبراهيم بذبح ولده فبادر لأمر الله، ووافق عليه الولد أباه، وكلاهما رضي وسلم لأمر لله، وعلم الله منهما الصدق والوفاء، فداه بذبح عظيم، وأعطاهما الملك والنبوة، وبارك في نسلهما حتى ملؤوا الأرض. وجعل من نسلهما هاتين الأمتين العظيمتين: (بنو إسرائيل) .. و (بنو إسماعيل). مع ما أكرمه الله به من رفع ذكره، والثناء الجميل عليه على ألسنة جميع الرسل

والأمم من بعده، وفي السموات بين الملائكة: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [الصافات: 109 - 111]. ثم تأمل حال الكليم موسى - صلى الله عليه وسلم -، وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلمه الله تكليماً، وقربه منه، واصطنعه لنفسه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، لتحمله الشدائد والمحن العظام في الله، ومقاساة الأمر الشديد مع فرعون وقومه، ثم مع بني إسرائيل. ثم تأمل حال المسيح - صلى الله عليه وسلم - وصبره على قومه، واحتماله في الله ما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطعهم في الأرض، ومزقهم كل ممزق، وسلب ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر. ثم تأمل حال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيرته مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه، من سلم وحرب، وغنى وفقر، وإقامة وظعن، وخوف وأمن، وتركه من أجل الله كل شيء، وقتل أحبابه وأوليائه وأصحابه بين يديه كما حصل في أُحُد وغيرها. وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب، والافتراء عليه، والاستهزاء به، والسخرية منه ومن دينه وأتباعه، وهو في ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، ويرحم عباد الله، ويستعطفهم ليؤمنوا بالله. فلم يؤذَ نبي ما أوذي كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). فرفع الله ذكره .. وقرن اسمه باسمه .. وجعله سيد الناس كلهم في الدنيا والآخرة .. وجعله أقرب الخلق وسيلة .. وأعظمهم جاهاً .. وكانت تلك المحن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2472)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي (2012). وأخرجه ابن ماجه برقم (151)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (123).

والابتلاء عين كرامته .. وهو مما زاده الله بها شرفاً وفضلاً .. وساقه بها إلى أعلى المقامات. وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة والابتلاء، يسوقه الله بها إلى كماله بحسب متابعته له. فكم لله من الحكم في ابتلائه أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء. ونصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، وأكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم رحمة، كما قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. والمؤمن كلما اتسع علمه بالله ودينه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، وهو سبحانه أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحة العبد من نفسه، ومن تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].

10 - فقه الشورى

10 - فقه الشورى قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)} [الشورى: 38]. الشورى: هي استلهام الرأي السديد لمصلحة الدين. والشورى جزء من الدين، وسنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي شعار هذه الأمة، والدين يحتاج إلى الشورى، لينتشر في العالم، وتظهر سننه وآدابه في الناس. ومهمة الشورى: تقليب أوجه الرأي، واختيار الاتجاه السليم من الآراء والاتجاهات المعروضة. فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله يصل الأمر بقدر الله، ويكل أمر العواقب إليه. فللشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتأرجح والتردد، ومعاودة تقليب الرأي من جديد، فهذا مآله الشلل والسلبية وتوهين العزائم، والتأرجح الذي لا ينتهي: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. وإذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة، فلا ينبغي أن يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته في جميع الأمور. والشورى في أمور الدين والدعوة والجهاد من العبادات المتقرب بها إلى الله، وفي الشورى من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره: فمشاورة الرسول أو الداعي للمؤمنين توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، وحسن انقيادهم إليه، وخلوصهم في طاعته.

وبالشورى تُعلم مقادير عقول الناس وأفهامهم، ومقدار حبهم للدين، ومقدار استعدادهم للقيام بالدين، فيستخدمهم للدين كل حسب منزلته. ومشاورة المسلمين في أمور الدين تشعرهم بأن لهم قدراً عند الله، وعند الخلق، وأنهم مسؤولون عن الدين، والملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، وبذلك تجود عقولهم بأنفس الآراء وأصوبها. وفي الشورى تسميح لخواطر المؤمنين، وإزالة لما يصير في النفوس من آثار سوء الفهم، فإن من له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح المسلمين. وفي الاستشارة تنور الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول. ومنها ما تنتجه الشورى من الرأي المصيب، فإن المشاوِر لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم؛ لأنه فعل ما يمكنه، وما ندم من استخار، ولا خاب من استشار. وللشورى آداب: فأساس الشورى الأمانة والنصيحة، والرحمة والشفقة، واللين والمحبة، والعفو والصفح عن الإساءة، وجمع القلوب على الهدى، وخفض الجناح للمؤمنين. فنعطي الرأي بأمانة وصدق لمصلحة الدين .. ونحب الخير للجميع .. ونحترمهم ونوقرهم حتى نستفيد من استعداد الناس لخدمة الدين ونشره وتعليمه .. ونلين لهم حتى تجتمع القلوب على الإيمان ولا تنفر من العمل، وحتى لا يضيع الاستعداد الموجود في الأمة .. والناس معادن كمعادن الذهب والفضة فنستفيد من كل واحد بحسبه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ونعفو ونستغفر لأهل الشورى كما قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. فالعفو عن منصب النبوة الذي قصروا فيه، فلهذا المنصب حق عليهم، فإن قصروا فيه فاعف عنهم تأليفاً لقلوبهم. والاستغفار لهم عن تقصيرهم في حق الله، لعل الله سبحانه أن يغفر لهم بدعائك لهم. فأنت تعفو عن حقك يا محمد .. والله يعفو عن حقه .. حتى يصير الأمر نقياً .. فإذا عفوت عنهم، والله غفر لهم، فالآن: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. لأن الدين كله مسؤوليتهم .. وهم سيتحملونه بعدك. ونستخدم أسلوب التأليف في الشورى: كيف ترون؟ .. ، ماذا ترون؟ .. ماذا تقول يا فلان؟ .. تعظيماً للدين .. وإجلالاً لحملته .. وتأليفاً لقلوبهم .. لتخدم الدين .. وتشعر بالمسؤولية .. وتنهض بأعبائها على الدوام. والله عزَّ وجلَّ يريد منا الاجتماع وعدم التفرق، فلا نشذ عن أهل الشورى ونخالفهم، وإذا انقطع أحد تبعه غيره يلتمس له العذر، ويؤلف قلبه حتى يعود إلى الجماعة، ولما بويع لأبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة تأخر علي - رضي الله عنه - وغيره عن البيعة، فذهب أبو بكر - رضي الله عنه - إليهم ورغبهم ليبايعوا؛ لأنه صار خليفة فرضوا، فطلب منهم أبو بكر أن تكون البيعة في المسجد لئلا يكون في قلوب الناس عليهم شيء، ليكون المجتمع سوياً مستقيماً كأسنان المشط، لا طمعاً في الولاية والتسلط، فحضروا وبايعوا. وفي الشورى نشاور جميع من حضر، من عنده القدرة، ومن ليس عنده القدرة؛ للتأليف، ولكن لا يؤخذ الرأي إلا من أهل الرأي، فنأخذ رأيهم لوجود الاستعداد عندهم. ويكون عندنا الاستغناء عن أموال الناس، ولكننا بحاجة إلى استعدادهم لخدمة

الدين، فنبين مناقبهم وفضائلهم في خدمة الدين، لينشطوا ويرغبوا غيرهم في ذلك كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - مناقب أصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد ومعاذ وأبي عبيدة وغيرهم رضوان الله عليهم، وفي ذلك إظهار لمحاسن أصحابه ليقتدى بهم. فنظهر محاسن أصحابنا ونجمعها ونعلنها لخدمة الدين. ونوقر ونحترم أهل الشورى، ونقدمهم في الرأي والمكان، خاصة ممن لهم قدم صدق في الدين، ممن بذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لخدمة الدين، ونعرف لهم فضلهم، ونعتني بهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم يحملون المسؤولية وهم تحت الشورى، وهؤلاء يفيدون جميع الأمة، وبسببهم ينتشر الإيمان وتنتشر الأعمال في العالم، فحقهم كبير، وأجرهم عند الله عظيم. ونجتنب في جميع الأحوال الطعن واللمز، والسب والشتم، فليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء. ونقدم الرأي ونشير به على أساس الأمانة لمصلحة الدين، ومصلحة المسلمين، ومصلحة الإنسانية، نقدمه ونحن مستعدون للقيام به. ونجلس في الشورى ونحن مستعدون للقيام بأي عمل من أعمال الدين نكلف به، وذلك ليحصل لنا أجر ذلك العمل وإن لم نكلف به، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. ونحترم الآراء في الشورى، ونسمعها كلها، ولا نحقر أحداً، ولا رأيه، ولا نكتم الرأي، بل نقدمه خدمة للدين، وبقدر صفاء القلب، وشدة الحب، وقوة الهم، تكون قوة الرأي، وقوة العمل، وقوة التضحية. ونتجنب الإصرار على آرائنا والاستكبار على غيرنا، فالإصرار والاستكبار مرضان في قوم نوح الذين أهلكهم الله بعدما شكاهم نوح إلى ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)} [نوح: 5 - 7].

فقوم نوح أصروا على رأيهم الباطل، واستكبروا عن الحق الذي جاء من الله، فنقول رأينا بصدق، ونسمع من الآخرين، والله يلهمنا الصواب منهما. ومن الآداب: عدم الإعجاب بالنفس أو الرأي بل يكون عنده الاستعداد إن أخذ منه الرأي، وكان علي - رضي الله عنه - يجلس خلف المجلس ويسأله عمر - رضي الله عنه - أخيراً .. ماذا ترى يا أبا الحسن؟. فإن أخذ أهل الشورى برأي أحدنا استغفرَ الله؛ لأنه قد يكون خطأ، وإن لم يأخذوا برأيه جزم بأن رأي غيره أصوب منه، وبذلك يسلم ويطرد العجب عن نفسه. ونقدم الآراء في الشورى لمصلحة الدين بحرية كاملة مع احترام آراء الآخرين. وتارة نسمع الآراء ثم يأتي الفصل كما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الآراء في أسارى بدر ثم فصل بأخذ الفدية وإطلاقهم، وكما سمع الآراء في الخروج إلى قريش في أحد ثم فصل بالخروج إليهم. وتارة يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - برأي واحد كما أخذ برأي سلمان - رضي الله عنه - في حفر الخندق، وفصل به؛ لأنه لا يعرفه غيره. ونتوجه إلى الله في جميع أمورنا، نتوجه إليه وحده في الشورى، ونستلهمه الرأي السديد لخدمة الدين، فالدين يحتاج إلى رأي كل فرد، كالبدن يحتاج إلى كل الجوارح. فنطلب الجميع في الدعوة والجهاد .. والتعليم والشورى، فالجميع عليهم مسؤولية الدين. وينبغي توحيد الفكر، واجتماع القلوب في الشورى، فنجتمع، ثم نتفكر، ثم نتفق، ثم نقوم بالعمل. فالماكينة تؤدي وظيفتها وهي مكونة من مجموعة قطع وأجهزة، فهكذا أعمال الدين من عبادة ودعوة، وتعليم وجهاد، لا تزيد إلا بالاجتماع، وإذا حصلت الفرقة جاء الخلل والنقص كما حصل في أُحد، كما أن الآلة بفقد جزء منها

يحصل الخلل، ويتغير الصوت، ويقل الإنتاج. ونقبل المسؤولية مهما كانت، ولا نفزع منها، ولا نتأخر عنها، نقبلها تحملاً للأمانة، وأداء لها، ولا نقبلها من باب الحرص عليها فنوكل إليها ونعجز عنها، فنحن لا نطلبها ولكن لمصلحة الدين نتحملها، فالله يعيننا عليها، ونتحملها بنية نفع المسلمين، ولنكون سبباً لدخولهم الجنة. والمستشار مؤتمن، والدين النصيحة، والأحوال والمسائل التي تظهر بسبب الجهد والدعوة لا بد من إظهارها في الشورى ليتم حلها، ولا تكتم المسائل، بل تُظهر ليعلم بها أهل الشورى، فيأتي عندهم الفكر في حلها، وتزول من النفوس، وتبقى مطمئنة مستعدة لأي عمل. وكتمان المسائل والأحوال عن أهل الشورى يؤدي إلى سوء الظن، وسوء الفهم، وسوء العمل. فتأتي الغيبة .. ثم تأتي الفرقة .. ثم يأتي الانقطاع والحرمان. وإذا حصل سوء الفهم بسبب النسيان نعتذر ونقول: نسينا أن نخبرك فسامحنا. والتفكر من أجل الدين، والشورى من أجل الدين، من أهم الأعمال وأجلها، فنجلس من أجل الدين يومياً، ونتشاور في مجال الدعوة كيف تنشر الهداية في العالم؟. وبعد سماع الآراء يكون الفصل وأخذ الرأي السديد، ثم يكون بعد ذلك التنفيذ فوراً، وبذلك ينتشر العمل في العالم. وبعد الشورى ننفق ما عندنا من الجهد والمال والوقت لتنفيذ ما فصل به في هذه المشورة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]. فإذا اتفقوا أنفقوا على ما اتفقوا عليه مما رزقهم الله. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كبار الصحابة رضي الله عنهم يتفكرون ويتشاورون كل يوم من أجل الدين ونشر الهداية في العالم. وكان ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتشاورون مع عمر - رضي الله عنه - أثناء خلافته في

المسجد النبوي من أجل الدين ونشره والجهاد من أجله، وما يقارب من ثلاثين ألفاً من المسلمين كانوا في الحركة في العالم، فكانت المسائل والأحوال تأتي من الخارج، من الميدان في أنحاء الأرض، وعمر - رضي الله عنه - يحملها لأهل الشورى، تارة للمهاجرين والأنصار كلهم، وتارة لبعضهم، حسب أهمية الأمر. وبذلك انتشر الإسلام، واتسعت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن في الصحابة كلهم ثلاثة أشياء: فكر محمد ... وحياة محمد .. وجهد محمد - صلى الله عليه وسلم -. فانتشر التوحيد والإيمان .. والعلم والعمل .. والأخلاق والآداب .. والسنن والأحكام .. كلها في وقت واحد .. لأنهم تيقنوا أنه كما أن العبادة على جميع الأمة .. فكذلك الدعوة على جميع الأمة. والمجالس بالأمانة، فكل ما يجري في الشورى مما لا يصلح نشره ولا يليق إظهاره، فلا نظهره للناس، ونبشر ولا ننفر، ونتطاوع ولا نختلف، ونيسر الأمور، ونتوجه إلى الله بالدعاء في حل جميع المسائل. ونقوم بالعمل، ونستمر فيه، حتى يحيا الدين كله في العالم كله. ونستغفر من التقصير، فالعمل عظيم، والرب له حقوق. والعبد عليه واجبات فيما يخص نفسه، وفيما يخص غيره، والتقصير حاصل في هذا وهذا. فالاستغفار لازم، والتوبة واجبة، ونعفو ونصفح عن بعضنا، وندعو لبعضنا بالإعانة والتوفيق، ونتوجه إلى الله، ونكل أمورنا إليه، ونبادر إلى ما أمرنا به: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15]. والمؤمنون لاجتماعهم وتآلفهم وتوادهم، وتراحمهم وتحابهم وكمال عقولهم لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم.

فإذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال فكر ورأي، اجتمعوا لها وتشاوروا، حتى إذا تبين لهم الرأي السديد أخذوا به، وبادروا إلى تنفيذه كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. ويجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من مسائل الدين، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحروب والغزوات، ومشاورة وجوه الناس فيما يتعلق بمصالح المسلمين. وقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الرأي من أصحابه في أمور عامة وخاصة. فاستشارهم في شأن المنبر .. وفي النداء للصلاة .. واستشار - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر أربع مرات: شاور - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم في الخروج إلى عير قريش .. وشاورهم لما علم بخروج قريش لقتاله. وشاورهم - صلى الله عليه وسلم - في المنزل يوم بدر. وشاورهم - صلى الله عليه وسلم - الرابعة في أسارى بدر. وشاور - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الخروج إلى أحد لقتال قريش، وشاور أصحابه في غزوة الخندق مرتين: الأولى: في كف كيد الأحزاب، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فحفره. الثانية: استشارهم في مصالحة المشركين على ثلث ثمار المدينة، ويرجعوا فأبى المسلمون إلا قتالهم. وشاور أصحابه عام الحديبية .. وشاورهم في حصار الطائف .. وشاور علياً وأسامة في أمر عائشة في قصة الإفك .. وغير ذلك كما ورد في السنة. والشورى مجالها فيما لم ينزل فيه وحي، أما ما ورد فيه نص من الكتاب أو السنة فلا مجال للشورى فيه، فإنه واجب الاتباع كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. والأمة فيها الاستعداد لنشر الدين، بل الواحد منا عنده استعداد لكافة الأمة، ولكن ضاع الاستعداد في الغفلات والشهوات وحب الدنيا. والآراء في الدين تلهم في القلوب حسب صفاء القلوب، وكم كان صفاء قلب عمر فينزل الوحي حسب رأيه. والكبير يستشير الصغير؛ لأن الأمر يعود إلى الكبير، وتؤخذ الشورى ممن يقوم بالعمل لا ممن لا يقوم بالعمل ولا يعرفه، ونأخذ الرأي من الجميع، فمن لم نستشره كيف نستخدمه. ولا نجتهد في العمل بل نعمل بالسنن كما وردت، ولا نحدث شيئاً لأنه يشوش الآخرين، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة أن يذهب إلى عسكر المشركين في غزوة الأحزاب ولا يحدث شيئاً، فذهب وجاء بالخبر، وفي صلح الحديبية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بأشياء وصبروا على ما جاء في الصلح فكان بعدها الفتح الأعظم ودخول الناس في دين الله، والعواطف ولو كانت حسنة فإنها لا تقدم على الأوامر، ولا بد من اتحاد الفكر، واجتماع القلوب على المنهج الصحيح. ونحن أدلاء، والله هو المربي، والتربية تكون بالصحبة، والصحبة لا تنفع إلا مع سلامة الصدر، وكذلك المشورة. والمشورة عمل اجتماعي لمصلحة الدين، والمشورة تجمع القلوب، وتنشط الأفكار في قلوب الدعاة. ونجعل الشورى عملاً اجتماعياً بأمرين: الأول: أن نضحي بأوقاتنا، ونؤخر أشغالنا، ونحضر في الشورى، فالذي لا يحضر في الشورى كالذي لا يحضر الصلاة، والذي يحضر ويجتهد الله يلهمه المراشد لهداية الأمة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. فالأمة تجتمع في العبادات في الصلاة، وتجتمع على الدعوة بالشورى، فنحضر

في الشورى كما نحضر في الصلاة. الثاني: أن نتشاور في الدعوة جميعاً؛ لئلا تكون الأحزاب، ويتصرف كل واحد حسب هواه. ففي أي عمل اجتماعي الحوائج تقضى .. والمانع يزول .. والبركة تنزل .. وأعمال الدين فيها نور النبوة، دعوة وتعليم، عبادة وشورى، والدعوة لا تمشي إلا بمزاج النبوة. ونتجنب الإصرار على الرأي؛ لأن الذي يصر على رأيه يجد في نفسه أنه هو الأحق بالعمل، والرأي حق العمل لا حق الإنسان. والله عزَّ وجلَّ يريد لهذا العمل استعداد الرأي السديد، واستعداد الإنفاق، واستعداد الدعوة، واستعداد التعليم، لينتشر الخير في العالم كله. ولا بدَّ من الحيطة في العمل كما قال سبحانه: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} [الكهف: 19، 20]. وبعض الناس جعل الاحتياط تجاوز الأمور، وبعضهم جعله ترك العمل بالكلية، وهذا خروج عن الاعتدال. فالأعمال الاجتماعية كالدعوة والجهاد والتعليم لا بدَّ فيها من الاعتدال والتلطف، وفي مزاج الأنبياء اللين والرحمة والشفقة على الخلق وجهد الدعوة إلى الله ليس إحساناً للبشرية، بل هو حقهم الذي يجب إيصاله إليهم. وإذا تفرغنا لجهد الدين الله يغنينا بفضله عمن سواه، كما أن الإنسان إذا تفرغ لخدمة السلطان فهو يغنيه. وسبب ترك الأعمال فساد اليقين، وضعف الإيمان، وقلة الاحتساب، فنقوم بكل عمل باليقين التام على أن الأمور كلها بيد الله وحده. والإيمان لا نهاية له، والإيمان بالغيب هو الأصل، فنتعلم الإيمان بالنظر في الآيات الكونية والآيات القرآنية التي تبين عظمة الله وقدرته.

والمقصود من تقوية الإيمان امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، والاستفادة من خزائنه، وبقدر قوة الإيمان تأتي شعب الإيمان من التقوى والتوكل والخوف والرجاء والمحبة. وبقوة الإيمان يتمتع الإنسان بكثرة الأعمال الصالحة، وبكثرة المال يتمتع بكثرة الأشياء التي تعقب الحسرة والتعب. والعمل الاجتماعي أقوى من العمل الانفرادي، فالدعوة الانفرادية يكون معها التكذيب والرد والاستهزاء غالباً. والدعوة الاجتماعية تنزل معها الهداية والنصرة. وطلب العلم لغير الله يولد الفتنة، ويمزق الأمة، ويورث الكبر والجدل والفرقة.

11 - فقه الإنفاق في سبيل الله

11 - فقه الإنفاق في سبيل الله قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262]. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. الكرم والإنفاق من أسمى الصفات المحمودة، فالنفوس الشريفة طبعها البذل والإنفاق والعطاء. فهي تعطي الله الطاعة والتقوى، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - دوام الاقتداء، وتنفق أجود المال، وأجمل الأخلاق، وأحسن القول. وقد مدح الله المؤمنين بأنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3] والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وله خزائن السموات والأرض، وميراث السموات والأرض ملكه وراجع إليه. وقد استخلف الله عباده فيما أعطاهم من الأموال، ووجههم لصرفها في سبيل الله فيما يرضيه وفيما يحبه. وقد بذل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أموالهم في سبيل الله، وأنفقوها من أجل إعلاء كلمة الله، كما بذلوا أنفسهم كما قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89]. فالإنفاق في سبيل الله والجهاد في سبيل الله من أعظم علامات الإيمان، وهؤلاء بذلوا أموالهم وأنفسهم في ساعة العسرة في فترة الشدة قبل فتح مكة، حين كان الإسلام غريباً محاصراً من كل جانب، مطارداً من كل عدو، قليل

الأنصار والأعوان. وكان هذا البذل خالصاً لله، لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض ولا رياء. لقد كان بذلاً يرجون ثوابه حمية ونصرة لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء، وما بذلوه من ناحية الكم كان قليلاً بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه. ولكن الكم ليس هو الذي يرجح بالميزان، ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان كما قال سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} [الحديد: 10]. إن الذي ينفق ويقاتل في سبيل الله والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة، ولا رحمة سلطان، ولا رخاء ولا أمن، غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة قريبة المنال. ذلك متعلق بالله مباشرة، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، لا يجد على الخير أعواناً، وهذا له على الخير أنصار، فدرجات هؤلاء متفاوتة: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. فقد أحسنوا جميعاً على تفاوت ما بينهم في الدرجات، ورد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم، وما وراء أعمالهم من قوة عزائمهم، وحسن نواياهم، ومعرفته تعالى بحقيقة ما يعملون. وتلك لمسة موقظة للقلوب في عالم النوايا المضمرة، وراء الأعمال الظاهرة، وهي التي تناط بها القيم، وترجح بها الموازين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (2564).

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم أول من اعتنق الدين، وعمل بالدين، وعلَّم الدين، ودعا إلى الدين، وأنفق على الدين، وجاهد من أجل الدين، ففضلهم على الأمة عظيم، وحقهم عليها كبير، ومكانتهم عند الله عظيمة، وجزاؤهم عند الله عظيم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» متفق عليه (¬1). والله جل جلاله يحرك القلوب للإحسان والبذل بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. إنه هتاف مؤثر آسر، إن الله الغني الحميد يقول للعباد الفقراء المحاويج: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. إن تصور المسلم أنه وهو الفقير الضئيل يقرض ربه كفيل بأن يطير به إلى البذل طيراناً. إن الناس يتسابقون عادة إلى إقراض الثري الملي منهم؛ لأن السداد مضمون، ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري الملي. فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد، الذي له ما في السموات وما في الأرض؟. ولا يكلهم الله سبحانه إلى هذا الشعور وحده، ولكنه يعدهم عليه الأضعاف الكثيرة، والأجور الكبيرة، والنعيم المقيم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673)، واللفظ له، ومسلم برقم (2541).

بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد: 12]. ولعظم أجر الإحسان إلى الخلق والإنفاق عليهم، الله تبارك وتعالى يوجه عباده دائماً إلى الإحسان والإنفاق في سبيل الله كما قال سبحانه لعباده المؤمنين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. فالله سبحانه يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم، فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدها الخير لهم حين يفعلون، ويريهم شح النفس بلاء ملازماً، السعيد من يخلص منه ويوقاه، والوقاية منه فضل من الله يعقبه فلاح. وترغيباً للمؤمنين في البذل، وتحبيباً لهم في الإنفاق، يسمي إنفاقهم قرضاً له يضاعفه لهم، ويغفر به ذنوبهم، ويشكر المقرض ويحلم عليه حين يقصر في شكره: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغابن: 17]. وتبارك الله الغني الحميد القوي العزيز ما أكرمه .. وما أعظمه، وهو ينشئ العبد، ثم يرزقه، ثم يسأله فضل ما أعطاه قرضاً حسناً يضاعفه له، ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه الذي خلقه ورزقه وهداه. إن هذه الآفاق العليا من الإيمان والصلاة والزكاة، والجهاد والإنفاق والإحسان، مفتوحة دائماً لكل مسلم، ليتطلع هذا المخلوق ويدرج إلى الكمال المستطاع، ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة حتى يحقق كمال العبودية لمولاه، ويلقاه بما يحبه ويرضاه، فيجازيه بما يحبه ويتمناه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. وكثيراً ما يجمع الله تعالى في القرآن بين الصلاة والإنفاق؛ لأن الصلاة متضمنة للقيام بحق المعبود، والنفقة متضمنة للإحسان إلى المخلوق، كما قال سبحانه

في وصف المتقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]. فعنوان سعادة العبد طاعته وإخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع المخلوق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان كما قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7]. وكل ما أنفقه المسلم من نفقة واجبة أو مستحبة، مع قريب أو جار أو مسكين أو يتيم أو محتاج أو غير ذلك، فالله تعالى يخلفه على من أنفقه، فالإنفاق لا ينقص الرزق، بل يزيده، وقد وعد بالخلف للمنفق الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ: 39]. والله غفور رحيم جواد كريم، ومن مغفرته وبرحمته عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91]. والمسلم إذا أنفق ماله في سبيل الله جعل شهواته في العبادة والأعمال الصالحة. وإذا قام المسلم بالدعوة إلى الله أكرمه الله بثلاثة أشياء: الحصول على المال بغير تعب .. والحصول على الأشياء بدون المال .. والراحة بدون الأسباب. وكل من أنفق ماله ومحبوباته لله، الله يرزقه حسن امتثال أوامر الله، ومحبة كل ما يحبه الله. وأهل الإحسان المتعدي هم: العلماء والدعاة إلى الله .. وأئمة العدل .. وأهل الجهاد في سبيل الله .. وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله. فهؤلاء هم الملوك في الدنيا والآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تكتب فيها الحسنات وهم في بطون الأرض ما دامت آثارهم في الدنيا.

والأيدي ثلاث: فيد الله العليا .. ويد المعطي التي تليها .. ويد السائل السفلى. واليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة. وأشرف المال وأجله وأفضله ما اختاره الله لرسوله، وهو ما أخذه العبد في الجهاد في سبيل الله برمحه وسيفه من أعداء الله الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً. فإن الله خلق المال ليستعان به على طاعته وعبادته وفعل ما يحب، فإذا رجع إلى أوليائه وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم؛ لأنهم هم أهله الذين يتعبدون الله به، ويشكرونه عليه كما قال سبحانه: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحشر: 6]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بأمر سيده كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي» متفق عليه (¬1). وذلك من كمال مرتبة عبوديته - صلى الله عليه وسلم -، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عزَّ وجلَّ، والعبد لا مال له فيورث عنه. وقد جمع الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، فهو أغنى الناس بربه، وأعظمهم افتقاراً إليه، وبهذا أكمل الله له مراتب الكمال فصلوات الله وسلامه عليه عدد كل ذرة في الكون. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالإنفاق من الطيب من الأموال والأشياء والثمار، شكراً لله على سهولة تحصيله، وتطهيراً للأموال، وتزكية للنفوس، وأداء لحقوق العباد، ومواساة للفقراء والمساكين، ونهانا من الإنفاق من الرديء ومن الخبيث من الأموال والمطاعم؛ لأنه غني عنا وعن صدقاتنا وأعمالنا، ونفع ذلك عائد ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71) واللفظ له، ومسلم برقم (1037).

علينا كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]. ومع هذا فهو حميد على ما يأمر به من الأوامر الحميدة والأخلاق الكريمة، فعلينا أن نمتثل أوامره؛ لأنها قوت القلوب، وحياة النفوس، ونعيم الأرواح. والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء، يعلم بجميع نفقات العباد واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، طيبها ورديئها، فلا يخفى عليه شيء منها، ويعلم ما صدرت عنه هل هو الإخلاص أم غيره؟. فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله، جازى عبده عليها بالثواب العظيم، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات، أو قصد بذلك رضى المخلوق، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه، واستحق العقوبة البليغة كما قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} [البقرة: 270]. وصدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فالسر ليس خيراً من العلانية، فيرجع في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين، وحصول الاقتداء ونحوه فهو أفضل، وإلا فالسر أفضل؛ لحماية الإخلاص كما قال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} [البقرة: 271]. وفي الصدقات دفع للعقاب، وتكفير للسيئات، ومضاعفة الأجر إذا كانت طيبة، وابتغى بها وجه الله. ومن صفات عباد الرحمن أنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. فإذا أنفقوا النفقات الواجبة والمستحبة لم يسرفوا فيدخلوا في قسم التبذير،

وإهمال الحقوق الواجبة، ولم يقتروا فيدخلوا في باب البخل والشح، فإنفاقهم وسط بين الإسراف والتقتير. يبذلون في الواجبات من الزكوات، والكفارات، والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار. والإنفاق ينفع المؤمن، ولا ينفع الكافر البتة، وقد بين الله الإنفاق الذي يحبه والذي ينتفع به العبد في الآخرة بقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} [آل عمران: 92]. فلا يبلغ العباد مقام البر الموصل إلى الجنة إلا إذا قدموا محبة الله على محبة الأموال فبذلوها في مرضاته، وذلك علامة إيمانهم الصادق، وبر قلوبهم، وحسن تقواهم. ويدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفِق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة. وبحسب إنفاق الإنسان للمحبوبات يكون بره، وينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك. والإنفاق في مرضاة الله يثاب عليه العبد سواء كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم غير محبوب، لكن الكثير المحبوب أكثر أجراً، وأعظم ثواباً. والله يثيب على الكل حسب النية والنفع، وهو بكل شيء عليم. والمنفقون قسمان: الأول: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وطاعته، ويحفظونها مما يبطلها أو يفسدها أو ينقصها وهؤلاء: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262]. الثاني: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن يبطلونها بالمن والأذى وإليهم الإشارة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ

مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة: 264]. والمؤمنون ينفقون أموالهم في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، منشرحة له صدورهم، سخية به نفوسهم كما قال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة: 265]. أما الكفار فينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، وتخف عليهم هذه النفقة لشدة تمسكهم بالباطل، وتكون عليهم حسرة، ويغلبون في الدنيا، ويعذبون في الآخرة بأشد العذاب كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. والله سبحانه يريد من المؤمنين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجه الله، وأجر ذلك عائد على المنفق بركة وزيادة في ماله في الدنيا، وأجراً وثواباً في الآخرة في الجنة. والناس قسمان: منهم من ينفق ماله في سبيل الله .. ومنهم من يبخل بماله. فالمؤمن حقاً يبذل ماله، وينفقه في سبيل الله، ومرضاته عن سرور وفرح بالبذل والعطاء، ومن الناس من يبخل بماله لشدة حرصه على الدنيا، وهذا إنما يبخل على نفسه كما قال سبحانه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. فما يبذله الناس إنما هو رصيد مذخور لهم في الآخرة، يجدونه أحوج ما كانوا إليه، يوم يحشرون مجردون من كل ما يملكون، فلا يجدون إلا ما أنفقوه.

فإذا بخلوا بالبذل فإنما يبخلون على أنفسهم، وإنما يقللون من رصيدهم، وإنما يحرمون أنفسهم بأيديهم. فالله عزَّ وجلَّ لا يطلب منهم البذل إلا وهو يريد لهم الخير، ويريد لهم الوفر، ويريد لهم الكنز والذخر، وما يناله شيء مما يبذلون، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون، فالله الغني وهم الفقراء. فهو الذي أعطاكم أموالكم، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقون منها، وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا، الغني عن أجوركم المذخورة في الآخرة، وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين. أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا .. فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه .. وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة، فهو الذي يتفضل به عليكم .. وما أنتم بموفين شيئاً مما عليكم .. ففيم البخل إذاً؟ .. وفيم الشح؟. وكل ما في أيديكم، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون، هو من عند الله، ومن فضل الله عزَّ وجلَّ. ومن بخل عن الإنفاق في سبيل الله، فإنما يمنع عن نفسه الأجر والثواب ببخله، وإذا بخل المسلمون بالإنفاق في سبيل الله تغلب العدو عليهم، وقهرهم أهل الباطل، وذهب عزهم وأموالهم وربما أنفسهم. أما عقوبة التولي عن الإيمان والتقوى وترك الإنفاق في سبيل الله فهي: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. وأولى الناس بالإنفاق عليه وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقاً عليك، وهم الوالدان الواجب برهما والمحرم عقوقهما. ومن بعد الوالدين الأقربون على اختلاف درجاتهم الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة. واليتامى وهم الصغار الذين لا كاسب لهم، فهم في مظنة الحاجة. والمساكين وهم أهل الحاجات وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة،

فينفق عليهم لدفع حاجاتهم وإغنائهم. وابن السبيل وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان بالنفقة التي توصله إلى مقصده. وكذلك الإنفاق في جميع أنوع الطاعات والقربات، والله يجازي كل منفق على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها، وفي ذلك يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} [البقرة: 215]. وكما لا يستوي من أنفق قبل فتح مكة وقاتل في سبيل الله بمن أنفق بعد ذلك وقاتل، فكذلك لا يستوي العبد المملوك الذي لا يملك من المال والدنيا شيئاً بالحر الغني الذي رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سراً وجهراً: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)} [النحل: 75]. والإنفاق في السراء والضراء من أعظم صفات المتقين كما قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133 - 134]. وقد أمر الله رسوله أن يأمر المؤمنين ويرغبهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم، وهو طاعة ربهم بإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والإحسان إلى الخلق والإنفاق في سبيل الله قبل الموت كما قال سبحانه: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)} [إبراهيم: 31]. وانحراف الإنسان في ماله يكون بأحد أمرين أو بهما معاً: الأول: إنفاقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعاً، بل لا يناله منه إلا الضرر

المحض كإنفاقه في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله، وإخراجها للصد عن سبيل الله. الثاني: إمساك ماله وكنزه وعدم بذله وإنفاقه في سبيل الله كمن يمنع الزكاة والنفقات الواجبة للزوجات والأقارب والنفقة في سبيل الله. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: 34 - 35]. وأفضل جهات الإنفاق في سبيل الله: الإنفاق من أجل الدين ونشره والجهاد في سبيل الله، ثم الإنفاق على النفس والأهل والأولاد، والأقارب المحتاجين .. ثم مواساة الفقراء والمساكين من عموم المسلمين بما يحتاجونه من المال. والمسلم إذا أنفق ماله في سبيل الله، في طاعة الله ومرضاته كالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وسائر القربات والطاعات فالله يخلف عليه ما أنفق، ويضاعف له الأجر والمثوبة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فالله واسع العطاء، لا ينقصه نائل، ولا يحفيه سائل، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ! أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1442)، ومسلم برقم (1010)، واللفظ له.

12 - فقه الهجرة والنصرة

12 - فقه الهجرة والنصرة قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74]. الهجرة في سبيل الله ضربان: هجرة إلى الله ورسوله بالقلب .. وهجرة إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبدن، فالله عزَّ وجلَّ غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصهم بنعمه، وفضلهم على سائر خلقه. ولا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول، وصالح العمل. فلكل واحد من هؤلاء في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة والتسليم، والتفويض والافتقار، والخوف والرجاء. وهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون جميع حركات العبد وسكناته موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته. واتخذ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحده دليله، وإمامه، وقدوته، وقائده، وسائقه. فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرد رسوله بمتابعته والاقتداء به، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، فهذه الهجرة بالقلوب. «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ

هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» متفق عليه (¬1). أما الهجرة بالأبدان، فهي الهجرة في سبيل الله من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن قوم إلى قوم، حين يشتد عليه الأذى، ويحيط به الظلم، ولا يتمكن من إظهار دينه، فيهاجر إلى بلد يأمن فيه على نفسه، ويتمكن من إظهار دينه، والعمل بشرعه. فالهجرة في سبيل الله ليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة لتكميل اللذات والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الدنيا الفانية. ومن يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً لأعداء الله، حيث يتمكن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله ومراغمتهم. كما يجد سعة وفسحة، فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة والرزق والحياة. ولكن ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً. وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق، وأسباب الحياة، وأسباب النجاة، هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين، ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 97 - 99]. فالهجرة عند حصول الأذى والظلم من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر؛ لما في تركها من تكثير سواد الكفار، وفتنة المؤمنين وظلمهم، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (54)، ومسلم برقم (1907)، واللفظ له.

وتفويت الجهاد مع المؤمنين، وربما ظاهر الكفار على المؤمنين، ولا يستثنى من ذلك إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، ولا يهتدون سبيلاً، فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم لعدم قدرتهم، والله تبارك وتعالى يعد كل من يهاجر في سبيل الله أنه سيجد في الأرض منطلقاً، وسيجد فيها سعة، وسيجد الله معه في كل مكان يذهب إليه، يحييه، ويرزقه، وينجيه، ويحفظه. وقد ضمن الله الأجر لكل من هاجر إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت قبل الوصول إلى غايته بقتل أو غيره كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]. يوفيه الله أجره كله: أجر الهجرة .. وأجر الوصول إلى دار الإسلام .. وأجر الحياة في دار الإسلام .. فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟. ومع ضمان الأجر كاملاً التلويح بالمغفرة للذنوب، والرحمة في الحساب، وكان الله غفوراً رحيماً. إنها صفقة رابحة دون شك، يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى في الهجرة. والموت هو الموت لا يتقدم ولا يتأخر، ولا علاقة له بهجرة أو إقامة، ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده، ولخسر الصفقة الرابحة فلا أجر، ولا مغفرة، ولا رحمة، بل هناك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه. والذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون، وعما يحبون من أجل الله، وتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن. هؤلاء يرجون في الآخرة عوضاً عن كل ما خلفوا .. وكل ما تركوا ... وقد عانوا الظلم وفارقوه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 41 - 42]. فذكر لهم سبحانه ثوابين: ثواباً عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهني الذي رأوه عياناً بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم وفتحوا البلدان. والأجر الآخر أكبر وأعظم وأدوم، ويحصل عليه المؤمنون في الجنة في الآخرة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20 - 22]. إن الهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو إليه النفس، ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه من الأهل والأولاد، والأموال والديار، وسائر أعراض الحياة الدنيا، وإيثار العقيدة على هذا كله، ابتغاء رضوان الله، وتطلعاً إلى ما عنده، هو خير مما في الأرض جميعاً. فالذين جمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأهل والأموال والأوطان، طلباً لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله، فماذا أعد الله لهؤلاء؟ .. وبماذا وعدهم؟. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 195]. والإيمان والهجرة والجهاد، هذه الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وقطب رحي العبودية، وبها يُعرف ما مع العبد من الربح والخسران. فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل

السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة وأهل النار. وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل منه صرف ولا عدل، ولا فرض ولا نفل. وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف من أجل رضا الله تعالى. فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله وخلانه تقرباً إلى الله، ونصرة لدينه. وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان وعبدة الأوثان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام، وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين، ويكون باللسان والسنان. فمن قام بهذه الثلاثة على مشقتها كان بغيرها أشد قياماً، فجدير بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]. والهجرة كانت قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فلم تعد هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها صارت دار إسلام، فمن جاهد في سبيل الله وعمل بدينه كان له حكم الهجرة وكان له ثوابها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» متفق عليه (¬1). ويبقى حكم الهجرة سارياً من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 58، 59]. فقد خرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم في سبيل الله، مستعدين لكل مصير، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2783)، واللفظ له، ومسلم برقم (1353).

وضحوا بكل أعراض الحياة ابتغاء رضوان الله، ونصر دينه، فتكفل سبحانه لهم بالعوض الكريم عما فقدوه، وهو الرزق الحسن، وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا. وقد خرجوا مخرجاً يرضي الله، فتعهد لهم بأن يدخلهم مدخلاً يرضونه، فييسر لهم دخول الديار التي قصدوها، ويفتح لهم البلدان، ويمكنهم من الاستيلاء على أموالها وخيراتها عوضاً عما فقدوه، وهذا ما حصل للمهاجرين السابقين، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم الجنة، والله سبحانه العليم بما وقع عليهم من ظلم ومن أذى، وبما يرضي نفوسهم ويعوضها، العليم بجميع الأمور ظاهرها وباطنها، الحليم الذي يعصيه الخلائق ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال قدرته وعلمه، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله، حليم يمهل ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى. إنه إذا اشتد الأذى على المؤمنين، وفُتنوا في دينهم، ولم يملكوا أن يعبدوا الله، فعليهم أن ينجوا بدينهم بالهجرة إلى أرض الله الواسعة. وما دامت الأرض كلها لله فأحب بقعة منها هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه، وإظهار شعائر دينه، فليهاجروا إليها: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} [العنكبوت: 56]. وكل نفس ذائقة الموت، والله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فلا داعي للخوف من خطر الهجرة، فالآجال مقدرة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)} [العنكبوت: 57]. وهؤلاء المهاجرون في سبيل الله فراراً بدينهم مهاجرون إلى الله في أرضه الواسعة، من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وهم عائدون إليه في يوم القيامة، وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة، فلماذا الخوف والقلق؟. ومع هذا فالله الكريم لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده، فإذا فارقوا وطنهم فلهم في الأرض سعة، وإذا فارقوا الدنيا فلهم في الجنة عوض أعظم وأدوم،

فليصبروا على ما ينالهم، وليتوكلوا على الله، ويحسنوا الظن به، فهو مولاهم الذي سيحقق لهم ما وعدهم به في الدنيا والآخرة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)} [العنكبوت: 58، 59]. ولا داعي كذلك لقلق المهاجرين على الرزق بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل، وأسباب الرزق المعلومة، فإن رزق الإنسان يطلبه كما يطلبه أجله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} [العنكبوت: 60]. فالله تبارك وتعالى قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم قويهم وضعيفهم، قادرهم وعاجزهم، فكم من دابة في الأرض، وعلى ظهر الأرض، ضعيفة القوى، ضعيفة العقل، لا تحمل رزقها ولا تدخره، ولا يزال الله يسخر لها الرزق في كل وقت بوقته. فالله يرزق هؤلاء الدواب وإياكم، فكلكم عيال الله، القائم برزقكم كما قام بخلقكم وتدبيركم، وهو السميع لأقوالكم، ودعائكم، العليم بأحوالكم، فلا تخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه. وكيف يقلق المؤمن على الرزق عند الهجرة، وهو يرى مليارات الدواب تدب على وجه الأرض، وهي لا تحصل رزقها، ولا تجمعه، ولا تحمله، ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به لنفسها، ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعاً سواء كانت على ظهر الأرض، أو في قعر البحار، أو في أعالي الجبال. فكذلك الله هو الذي يرزق الناس حيثما كانوا، وإن خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم ويجمعونه، فالله الذي وهبهم وسيلة الرزق وأسبابه، وهذه الهبة ذاتها رزق من الله. فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة، فهم عباد الله مهاجرون إلى أرض الله

الواسعة من أجل الله، والله يرزقهم حيث كانوا كما يرزق كل دابة وهي لا تحمل رزقها، ولكن الله يرزقها ولا يدعها. ولا هجرة بعد الفتح من مكة إلى المدينة لأنها صارت دار إسلام، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. وقد وقع في صدر الإسلام هجرتان: الأولى: هجرة المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش، وفي الحبشة كان لهم إيواء بلا نصرة، فلم ينتشر الدين هناك. الثانية: هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من مكة إلى المدينة، وفي المدينة كان الإيواء والنصرة بتهيئة الفرصة للدعوة فانتشر الدين. والهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد. ومن العجيب أن الإنسان يوسع الكلام في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة من مكة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، وبما لا تتعلق به في العمر أصلاً. وأما الهجرة إلى الله ورسوله بالإيمان والأعمال الصالحة، والتي هي واجبة على مدى الأنفاس والأزمان لا يحصل فيها علماً ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره. وهذه حال من ضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، وغشيت بصيرته، وانتكس قلبه، فقدم الأدنى على الأعلى، وآثر الفاني الرخيص على الباقي النفيس. وهذه الحياة الدنيا ليست إلا لهو ولعب .. حين لا ينظر المرء فيها إلى الآخرة .. حين تكون هي الغاية العليا للناس .. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة .. فلا ينخدع العبد بزينتها ويلهو بلعبها .. وليعمل للحياة الآخرة .. فهي الحياة الفائضة بالحيوية والرضا، والبقاء والخلود، وبكل ألوان النعيم: {وَمَا

هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. فلو كان الخلق يعلمون ذلك لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان إلى دار اللهو واللعب. أما الذين يعلمون حال الدارين فلا بدَّ أن يؤثروا الآخرة على الدنيا بالإيمان بالله وطاعته، وبذل كل شيء في سبيل مرضاته. والهجرة في سبيل الله هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، والهجرة البدنية مبنية على الهجرة القلبية، فمن هاجر إلى الله ورسوله بالإيمان والعبودية لله، والاقتداء برسوله ولم يتمكن من القيام بذلك هانت عليه الهجرة البدنية، وسهل عليه فراق الأهل والدار والمال، وما يهاجر أحد إلا من أجل هدف. وهجرة الأنبياء وأتباعهم كانت من أجل إعلاء كلمة الله، وعبادته، والعمل بشرعه، وهم يسيرون في رعاية الله، يحفظهم ويرزقهم، ويوفقهم ويهديهم كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)} [العنكبوت: 26]. فلما لم يستجب له قومه هاجر من العراق إلى الأرض المباركة في الشام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)} [الصافات: 99]. فهاجر - صلى الله عليه وسلم - وترك كل شيء وراءه، ترك أباه وقومه، وأهل بيته ووطنه، وترك وراءه كل عائق وكل شاغل، وهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه، موقناً أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه. إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن يقين إلى يقين، إنها الهجرة الكبرى التي يختار الله لها الكُمَّل من الناس. فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه، اتجه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100]. واستجاب الله دعاء عبده الصالح الذي ترك كل شيء وراءه، وجاء إلى ربه بقلب سليم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101].

ولما رزق الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بالغلام الحليم وهو إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - ابتلاه الله به، ليتبين صفاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وكمال محبته لربه وخلته. فإن إسماعيل لما وهبه الله لإبراهيم أحبه حباً شديداً، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة. فلما تعلقت شعبة من شعب قلب إبراهيم بابنه إسماعيل، أراد الله أن يصفي وده، ويختبر خلته، فأمره أن يذبح ويقطع بالسكين من زاحم حبه حب ربه كما قال سبحانه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 100 - 102]. فأمْرُ الله تعالى لا بدَّ من تنفيذه، فقال إسماعيل صابراً محتسباً مرضياً لربه، وباراً بوالده: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102]. فقام إبراهيم ليضجع ابنه إسماعيل للذبح، وسلما لأمر الله، الأب جازم على قتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالاً لأمر ربه، وخوفاً من عقابه. والابن إسماعيل قد وطن نفسه على الصبر، وهانت عليه نفسه في طاعة ربه، ورضا والده. وحان وقت التنفيذ، فَتَلَّ إبراهيم ابنه إسماعيل على جبينه ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه لئلا ينظر إبراهيم إلى وجه إسماعيل وقت الذبح فيرحمه ويشفق عليه فلا ينفذ أمر ربه. وفي تلك الحال الشديدة نادى الله إبراهيم وأخبره بصدقه، وفعل ما أمر به جازماً، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه كما قال سبحانه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 103 - 106]. فلما قدَّم إبراهيم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 106، 107].

فلكمال إيمان إبراهيم وكمال يقينه، وكمال طاعته ومحبته لربه، وسرعته لتنفيذ أمره بذبح أحب شيء إليه، حفظ الله له ابنه، ورضي عنه، وفداه بذبح عظيم، فهو عظيم من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قرباناً وسنة إلى يوم القيامة، بذبح كل حب يزاحم حب الله ويشغل عنه. وبعد هذا البلاء وحسن الطاعة والانقياد من إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أثنى الله على إبراهيم، وأبقى له الذكر الحسن إلى يوم القيامة، وهذا جزاء الكريم للمحسنين في عبادة الله ومعاملة خلقه أن يفرج عنهم الشدائد، ويجعل لهم العاقبة والثناء الحسن؛ لكمال إيمانهم بربهم كما قال سبحانه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} [الصافات: 108 - 113]. والمؤمن حقاً لا يقعد به حب الوطن، وإلف المكان، وأواصر النسب، والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها إذا ضاقت به في دينه، وعجز فيها عن الإحسان والعبادة، فالالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان، ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان، وذلك مدخل من مداخل الشرك الخفية في قلب الإنسان: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. والله تبارك وتعالى يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن ترك مألوف الحياة، ووسائل الرزق، واستقبال الحياة في أرض جديدة، تكليف صعب على الناس، ومن ثم يفتح الله على الصابر على ذلك أبواب العوض عن الوطن والأرض، والأهل والإلف، عطاء من عنده بغير حساب. والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، وإنما هو نور وحركة دافعة في القلب، يتولد منها أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.

وهذا الإيمان لا يأتي ولا يتم ولا يقوى إلا بالتضحية بكل شيء من أجله، والتضحية مركبة من أمرين: بذل كل شيء .. وترك كل شيء، من أجل إعلاء كلمة الله. فالمهاجرون هجروا وتركوا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان، والأموال والشهوات، والأحباب والأهل، وبذلوا الأنفس والأموال والأوقات رغبة في الله، ومحبة لرسول الله، ونصرة لدين الله، وإعلاء لكلمة الله. فهؤلاء هم الصادقون الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، والعبادات الشاقة، وهم أسبق الناس إلى الإيمان، وأحقهم بكل فضيلة؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة كما قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. والأنصار: وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - طوعاً ومحبة واختياراً، وآووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوؤا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المهاجرون، إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، والأنصار يحبون من هاجر إليهم، ويؤوونهم في المدينة ويطعمونهم ويستقبلونهم بالمحبة والإيثار، ويعلمونهم الدين، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان. فما أجمل هذه الصفات في الأنصار، وما أحسن أخلاقهم، إيمان ومحبة، وإيثار مع الحاجة، وبذل بلا بخل ولا شح كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ

الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. فهم يحبون من هاجر إليهم من أجل إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه. وهؤلاء الأنصار لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، لسلامة صدور الأنصار، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها. ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة. وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى ودينه مقدمة على شهوات النفس ولذاتها. عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ، فلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا قُوتُهُ وَقوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصّبيَةَ وَاطفِئي السِّراجً، وَقَرِّبي لِلضَيْفِ ما عنْدَكِ، قَالَ: فَنزلَتْ هذِهِ الآَيَةَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}» [الحشر: 9] متفق عليه (¬1). ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه، ومن وقي شح نفسه سمحت نفسه بامتثال أوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ففعلها طائعاً منقاداً، منشرحاً بها صدره. وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوباً للنفس. وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته. وبذلك يحصل للعبد الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام من المهاجرين والأنصار، الذين حازوا من السوابق والمناقب والفضائل ما سبقوا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3798)، ومسلم برقم (2054) واللفظ له.

به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقدوة المتقين، وأفضلهم المهاجرون ثم الأنصار. وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ويتخلق بأخلاقهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هم الذين سبقوا هذه الأمة، وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والنصرة، والجهاد، والدعوة والأعمال الصالحة، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، إذا اتبعوهم بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداءً منهم بالسابقين الأولين. فهؤلاء هم المؤمنون حقاً؛ لأنهم صدَّقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة، والموالاة بعضهم لبعض، وجهاد أعدائهم من الكفار والمنافقين من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74]. فهؤلاء الأصناف الثلاثة: المهاجرون .. والأنصار .. والذين اتبعوهم بإحسان. هم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم الجنات في الآخرة، وقد ذكرهم الله بصفاتهم وأعمالهم لا بأنسابهم ومناصبهم فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. فالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله وإقامة دين الله أصل من أصول الدين،

وعمل الأنبياء والمرسلين، ومن سار على هديهم إلى يوم القيامة، وبذلك يقوم الدين في العالم، وتنتشر الهداية في أنحاء الأرض، وتظهر السنن والآداب الشرعية في الأمة، ويزول الباطل، ويظهر الحق، ويُعبد الله وحده لا شريك له. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة المجتباة، وهؤلاء هم أهل الإسلام الذين هم أهله، جعلنا الله وإياكم منهم. وإبلاغ هذا الدين إلى العالم يحتاج من كل مسلم إلى التضحية بكل شيء من أجل الدين: تضحية بالمال .. وتضحية بالنفس .. وتضحية بالأهل .. وتضحية بالوقت .. وتضحية بالديار .. وتضحية بالشهوات .. وتضحية بالجاه. فأهل مكة كانوا تجاراً فتركوا كل شيء وهاجروا إلى المدينة من أجل الدين. وأهل المدينة كانوا مزارعين فتركوا كل شيء وقاموا بنصرة دين الله، فَنَشْرُ هذا الدين قائم على الهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله، والمهاجرون والأنصار لما صدقوا وعملوا نشر الله بسببهم هذا الدين في العالم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه. ونحن خلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان والأعمال الصالحة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وواجبنا في هذا الزمان: إحياء الدين .. وإحياء جهد الدين. فالمطلوب من كل مسلم ومسلمة جهدان: جهد لإحياء الدين كله في العالم كله. وجهد لإحياء جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، ليكون كل إنسان في العالم عابداً لربه .. معلماً لدينه .. داعياً إليه. وذلك يتطلب منا التضحية بالوقت والنفس، والمال والشهوات كما فعل الأنبياء صلوات الله عليهم، والصحابة رضي الله عنهم.

وكثير من المسلمين اليوم بدؤوا يخرجون من الدين إلى حياة اليهود والنصارى، فكيف نحفظ الدين في هؤلاء؟. أبو بكر - رضي الله عنه - لم يتحمل نقص عقال من الدين، واليوم كم نقص من الدين في حياة كثير من المسلمين؟. لما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وارتدت القبائل عن الدين، اجتهد عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - لردهم إلى الدين، وحفظ الدين في حياة المسلمين، وكان فكره وفكر المهاجرين والأنصار لحفظ الدين في الأمة كما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولما رجع الناس إلى الدين الكامل، وتاب من ارتد من المسلمين، انطلق هؤلاء وهؤلاء لنشر الدين في بلاد الكفر، ثم جاء عهد عمر - رضي الله عنه -، وكان فكر الأمة لنشر الدين، فكانت الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر وغيرها. وهكذا وقتنا الآن يشبه زمن أبي بكر فنقوم بالدعوة إلى الله، ونجتهد على المسلمين حتى يعودوا إلى الدين والصفات التي كانت في القرن الأول، وبذلك يرى الكفار الإسلام قائماً في حياة المسلمين فيسهل دخولهم فيه، ويأتي اليوم الذي يدخل الناس في الدين أفواجاً كما دخلوه أفواجاً في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين. والأصل في دين الله أن يكون السيف تابعاً للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعاً لذلك، كان أمر الإسلام قائماً، فقوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وذلك شرع الله، وكفى بربك هادياً ونصيراً. وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، جاء من الاضطراب والمصائب بحسب ذلك، وفسدت أحوال الناس. ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو اتباع القرآن والسنة، والاقتداء بخير القرون، وهو القرن الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. العبادة موعودها الجنة .. والدعوة موعودها النصرة .. وبسبب ترك الدعوة رفع

الله النصرة .. وبقيت العبادة صورة بلا روح. فالعمل الذي أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل الوقت هو الدعوة، نحن تركناه أو أعطيناه أقل الوقت، والعمل الذي أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل الوقت هو نوافل العبادات نحن أعطيناه أكثر الوقت. والمسلمون يأتون إلى مكة للعبادة، ولكنهم لا يرجعون بالمقصد وهو الدعوة.

13 - فقه الجهاد في سبيل الله

13 - فقه الجهاد في سبيل الله قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وقال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. وقال الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. لفظ الجهاد له معنيان: أحدهما: بمعنى بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، بالدعوة إلى الله، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله سبحانه في الآيات المكية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وقال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 51، 52]. فهذا كله وما في معناه كله بمعنى الدعوة إلى الله، وبذل الجهد في نشر دينه. الثاني: الجهاد بمعنى القتال كما هو غالب الآيات المدنية كقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]. وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]. فالجهاد بمعنى الدعوة حسن لذاته .. والجهاد بمعنى القتال حسن لغيره. فالله خلق الخلق لعبادته وطاعته، وأرسل رسله لإبلاغ شرعه إلى عباده، وأنزل

كتبه ليهتدي بها الناس إلى ربهم. فمن استجاب فآمن بالله وعمل بشرعه فهو من المؤمنين .. ومن أبى الإسلام فعليه أن يدفع الجزية مقابل رعايته في المجتمع الإسلامي .. فإن أبى الإسلام وأبى دفع الجزية فهذا مستكبر معاند، مؤذ ظالم كافر غير شاكر، عاص غير مطيع، يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله. فالقتال في سبيل الله له أسباب .. وله أوامر .. وله أوقات .. وله أحوال. والدعوة إلى الله مشروعة ومفتوحة كل وقت لكل مسلم ومسلمة، والإسلام جاء لهداية الناس ورحمتهم ودعوتهم لعبادة الله وحده لا شريك له. فالدعوة إلى الله واجبة على المسلمين في جميع الأوقات والأحوال ليلاً ونهاراً .. سراً وجهاراً .. حال الأمن وحال الخوف .. حال الإقامة وحال السفر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها أكثر الوقت، وهي مسؤولية الأمة بعده. أما الجهاد في سبيل الله فيشرع عند اللزوم، بل هو واجب لدفع عدو عن المسلمين، وقتال معاند، ونصر مظلوم، وحماية المسلمين، ورفع الظلم عنهم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. فنوح - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الله ولم يقاتل، وهود وصالح، وإبراهيم ولوط، وإسماعيل وإسحاق، وموسى وعيسى، جميع هؤلاء الأنبياء دعوا إلى الله، ولم يؤمروا بقتال، وقاتل داود من أنبياء بني إسرائيل. ثم مَنَّ الله على هذه الأمة بخاتم الأنبياء والمرسلين فدعا إلى الله، ولما أوذي والمؤمنون معه أذن الله لهم بالقتال بعد الهجرة إلى المدينة كما قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]. ولما أظهر الله دينه، وأعز أهله، وصارت لهم دار في المدينة، وقويت شوكتهم، عظم ذلك على الكفار، فزاد شرهم وظلمهم، وعظم كيدهم وطغيانهم، فحملوا سيوفهم وركبوا خيلهم للقضاء على الإسلام وأهله والدعاة إليه، واجتمع

المشركون كافة لإبادة المسلمين كافة، فحينئذ شرع الله للمسلمين قتالهم كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36]. وكلما احتاج المسلمون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القتال بسبب ظلم الكفار لهم، وصدهم عن سبيل الله، شرعه الله لهم، وأمرهم به ورغبهم فيه لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. وقد جاهد المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لرد كيد الكفار، وصد عدوانهم، ومنعهم من الصد عن سبيل الله كما حصل في بدر وأحد، والأحزاب، والحديبية وخيبر، وفتح مكة والطائف وغيرها كما قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة: 88، 89]. وقد فرض الله الجهاد في سبيل الله على المسلمين كافة كما فرض عليهم الصلاة والزكاة، فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. والدعوة إلى الله كالمطر للنبات، فإذا لم يوجد مطر لا يوجد نبات ولا حيوان، وكذلك إذا لم توجد الدعوة لا يعرف الناس الإيمان، ولا العبادات كالصلاة والزكاة، والصيام والحج وغيرها، ولا يعرفون المعاملات والآداب والأخلاق

والسنن والأحكام. فالصلاة لها وقت .. والصيام له وقت .. والحج له وقت، والجهاد له وقت .. والدعوة إلى الله لها كل الوقت لأنها أم الأعمال، وهي وظيفة كل فرد من الأمة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. والجهاد نوعان: جهاد داخلي .. وجهاد خارجي. فالجهاد الداخلي: جهاد النفس .. وجهاد الهوى .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الدنيا. أما الجهاد الخارجي: فهو جهاد الأعداء والكفار من شياطين الإنس والجن باللسان والسيف، والجهاد الداخلي مقدم على الجهاد الخارجي. فإذا انتصر المسلم على عدوه الداخلي نصره الله على عدوه الخارجي، وإذا انتصر عليه عدوه الداخلي انتصر عليه عدوه الخارجي. فيجب علينا الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في جميع الأمور، وامتثال أوامره، وفعل ما يرضيه ويحبه، واجتناب ما يكره، كما يجب علينا ألا نتأثر من الأشكال والأموال، والأشياء، والقوات وغيرها من المخلوقات والأسباب، فالكل في قبضة الله. وإنما نتفكر ماذا يريد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ .. وماذا يحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟. وماذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند لقاء أعدائه فنفعله ليرضى الله عنا، وينصرنا على أعدائنا؛ لأنه تكفل بنصر رسله وأتباعهم. والجهاد ذروة سنام الإٍسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ - أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ

الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). وأهل الجهاد في سبيل الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - في الذروة العليا منه، واستولى - صلى الله عليه وسلم - على أنواعه كلها .. فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان .. والدعوة والبيان .. والسيف والسنان، فلهذا كان أرفع العالمين ذكراً، وأعظمهم عند الله قدراً، وأمره الله عزَّ وجلَّ بالجهاد من حين بعثه فقال: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. فهذه آية مكية أمره الله فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان، وإبلاغ القرآن. ثم لما استمر في الدعوة إلى الله، وآذاه الكفار، وظلموه وسبوه، وأرادوا قتله، وكفروا به، وصدوا عن سبيل الله، وصدوه عن المسجد الحرام، وبالغوا في ظلمهم وطغيانهم، وأصروا على كفرهم وشركهم، أذن الله له بالقتال بعد أن مُنع منه ثلاثة عشر عاماً في مكة، فلما بلغ الأذى والظلم أشده: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]. فجاهد عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة إلى المدينة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويعبد الله وحده لا شريك له، امتثالاً لأمر ربه الذي قال له: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9]. والجهاد بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، كله لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله، ليحصل الخير لجميع البشرية، ويكف عنهم الشر، وذلك يتطلب بذل النفس والمال والوقت، والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله. وحقيقة المجاهدة تكون بثلاثة أشياء: الأول: أن نكمل العمل من أوله إلى آخره، عبادة ودعوة، وشرطه أن يكون خالصاً لله، موافقاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790).

الثاني: التضحية بالبذل والترك من أجل الدين، فنقدم حاجات الدين على حاجات النفس، والدعوة على جميع الأعمال، والأهم على المهم. الثالث: الاستقامة على هذا العمل، والاستمرار فيه، وإقامة الناس عليه، وبذلك تحصل لنا السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وبهذه المجاهدة الله يرزقنا الإخلاص، وحسن العمل، وتحصل الهداية لنا ولجميع الناس كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم حين واجهوا الكفار في بدر لم يتفكروا من سيكون معهم الفرس أو الروم؟. بل هم اجتهدوا كيف يكون الله معنا، وما زالوا يدعون الله ويبكون حتى نزلت عليهم نصرة الله مع قلتهم وقلة ما معهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. فالإيمان والدعاء والأعمال الصالحة عدة المجاهدين في سبيل الله، وهي سبب نصرهم سواء كان جهادهم بالسيف وهو القتال، أو باللسان وهو الدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. وقد أمر الله عباده المجاهدين في سبيله بالشجاعة الإيمانية وإعداد القوة، والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان، والتخلص من قيد الشهوات وسيئ الأخلاق، والثبات والصبر، ليواجهوا الأعداء بكمال الإيمان، وكمال التقوى، وكمال الصبر فيحصل لهم النصر كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45، 46]. وفي ذلك كله نصرة لدين الله .. وقوة لقلوب المؤمنين .. وإرهاب للكافرين .. وإعلاء لكلمة الله .. وإظهار لدينه. وقد بين الله في القرآن الكريم أن المجاهدين في سبيل الله إذا تخلصوا من ثلاث آفات حصلوا على كمال الإيمان والتقوى فحصل لهم النصر من الله وقهر بهم الأعداء، وهدى بهم من شاء من عباده. وهذه الآفات هي: آفة الأخلاق السيئة .. وآفة الشهوات .. وآفة اليقين على المشاهدات، فلا بدَّ أن ينقوا ويهذبوا وينخلوا، لتخرج منهم هذه الآفات، ويحصلوا على كمال الإيمان والتقوى الذي يحصل به النصر. فإذا تمت التنقية بقي ما يحب الله وينصر به، وخرج ما يبغض الله ويخذل به. فالأول: منخل الصفات، فلا بدَّ من التحلي بالأخلاق الحسنة من الإيمان والتقوى، والتخلص من الأخلاق السيئة من الكفر والكبر والحسد والعجب والغرور. فطالوت كان فقيراً يسقي الماء بالقِرَب، فاختاره الله وبعثه ملكاً على قومه من بني إسرائيل، ولكنهم لم يقبلوه بسبب كبرهم وحسدهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة: 247]. فأنى يُنصر هؤلاء وقد ردوا بسبب أخلاقهم السيئة ما اختار الله لهم واصطفاه عليهم؟. فلا بدَّ أن يتخلقوا بالأخلاق الطيبة التي يحبها الله، ويتخلصوا من الأخلاق

السيئة التي يبغضها الله، ولكن هذا لا يكفي، فلا بدَّ أن يمروا بمنخل آخر وهو: الثاني: منخل الشهوات، فالله له محبوبات وأوامر، والنفس لها محبوبات وأوامر، فلا بد من تقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، فالنصر ينزل والهداية تحصل بامتثال أوامر الله، فمن قدم أوامر الله على شهواته فاز ونُصر، ومن قدم شهواته على أوامر الله خسر وحُرِم كما شرب أكثر جيش طالوت من النهر الشرب المنهي عنه فحُرموا الخير، ورجعوا على أعقابهم، ونكصوا عن قتال عدوهم، وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل به المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلاً على الله وثباتاً وتضرعاً إليه، فقعد من شرب كثيراً، وسار مع طالوت من اغترف غرفة بيده كما قال سبحانه: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249]. وحسن الأخلاق، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس لا يكفي، فلا بدَّ من منخل آخر وهو: الثالث: منخل المشاهدات، فالله سبحانه بيده كل شيء، وغيره ليس بيده شيء، فمن كان يقينه على الله نصره، وجعله سبباً لهداية الناس، ومن كان يقينه على المشاهدات والمصنوعات والأعداد أذله الله بها وهزم بسببها كما قال سبحانه عن طالوت وجيشه: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]. فالمؤمنون الذين أطاعوا أمر الله، ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه وساروا مع طالوت لحرب عدوه صاروا فريقين: فريق لما رأوا قلتهم وكثرة عدوهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده؛

لأنهم تأثروا بالمشاهدات من كثرة العدو، وكثرة عددهم وسلاحهم. أما الفريق الآخر فهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ فقالوا مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة: 249 - 251]. فالتصفية الأولى: للتحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الصفات السيئة. والتصفية الثانية: لتقديم أوامر الله على شهوات النفس. والتصفية الثالثة: لتحصيل اليقين على الله، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور، وعدم الالتفات مطلقاً إلى الأشياء والمشاهدات. فمن نجح في هذه الابتلاءات الثلاثة نصره الله عزَّ وجلَّ، وجعله سبباً لهداية الناس. والتقوى والصبر سبب لحفظ المؤمنين من كيد الأعداء، وإذا كادنا الأعداء وغلبونا علمنا أن حقيقة التقوى والصبر لم تكن في قلوبنا كما قال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120]. وإذا تقابلت طائفتان من الناس في ميدان الجهاد، فإن كان يقينهما معاً على الأسلحة والرجال غلبت الطائفة التي معها الأشياء الأكثر، والرأي الأصوب، والصبر الأدوم. وإن كان يقين إحداهما على الله، ويقين الأخرى على الأسباب والأشياء نزلت نصرة الله على من توجه إليه، وهلكت الأخرى ودمرت كما حصل في بدر كما

قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. والجهاد نوعان: الأول: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير. الثاني: جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، وطول مدته. وفي ميدان الجهاد في سبيل الله كلما تركزت الأنظار على الأسباب رفع الله النصرة كما حصل للمؤمنين في بداية غزوة حنين كما قال سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26]. ومقدار النصرة تكون على مقدار الاعتماد على الله، وحسن التوجه إليه في جميع الأمور، والتفويض إليه، والتسليم له، وعدم الالتفات إلى ما سواه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. وتواجه المسلم في حياته قوتان: قوى إنسانية .. وقوى طبيعية. وموقف المسلم من القوى الإنسانية، أن القوى الإنسانية نوعان: الأولى: قوة إنسانية مهتدية: وهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون معها على نشر الخير، وإقامة الحق. الثانية: قوة إنسانية ضالة: وهذه يجب عليه دعوتها إلى الإسلام، فإن أبت ألزمت بدفع الجزية، فإن استكبرت ولم تذعن ولم تستجب فعليه أن يكافحها ويحاربها حتى لا تكون

فتنة ويكون الدين كله لله. ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها الأول، قوة الله عزَّ وجلَّ، تفقد قوتها الحقيقية، كما ينفصل جرم ضخم من جرم ملتهب، فما يلبث أن ينطفئ ويبرد، ويفقد ناره ونوره، على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها، ومن كان الله معه فمعه كل شيء، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء. أما القوى الطبيعية التي يرسلها الله عقوبة أحياناً، وابتلاء أحياناً كالخسوف والزلازل والبراكين، فموقفه منها الاتعاظ والاعتبار والتضرع إلى الله، والتوبة إليه. والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، وكلاهما مطلوب من العبد، والجهاد باللسان مقدم على الجهاد بالسيف، وكلاهما مطلوب من العبد. فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه وجب عليه الجميع، وإن كان لا يقدر بنفسه وله مال وجب عليه الجهاد بماله. فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس فالحرج عنه مرفوع كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91]. والجهاد فريضة من فرائض الله إذا قامت أسبابه، فإذا تركته الأمة وأقبلت على الدنيا هلكت كما قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. ويجب على المسلمين أن يقوموا بما أمرهم الله به من جهاد أعدائهم بحسب استطاعتهم، وأن يتوكلوا على الله وحده ولا ينظروا إلى قوتهم وكثرتهم ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو عليهم، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله أمرنا بفعل الأسباب، ولكن لا نركن إليها، بل نتوكل على الله وحده كما قال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]. وعلينا ألا نغتر بأهل الكفر، ولا بما أعطوه من القوة والعدة، فإن المسلمين يقاتلون بأعمالهم، فإن أصلحوها وصلحت وعلم الله منهم الصدق والإخلاص أعانهم ونصرهم على عدوهم وأذل أعداءهم وخذلهم، فالخلق كلهم عبيده، ونواصيهم بيده، وهو القوي الذي لا يقهر، والعزيز الذي لا يغلب، ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160]. ومن كفر سلط الله عليه العذاب والشقاء، وعذبه في دنياه بالأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. والله عزَّ وجلَّ أمر المؤمنين أن يجاهدوا الكفار لا طمعاً في أرضهم وأموالهم، إنما يجاهدونهم لأجل إنقاذهم من النار إن أسلموا، ولأجل كف ظلمهم وإراحة المسلمين من شرهم وتطهير الأرض من شركهم وكفرهم كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40]. وقد شرع الله القتال في الإسلام وأذن به لتحقيق أهداف كثيرة: أحدها: الدفاع عن المؤمنين، وحفظهم من الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم ودينهم. الثاني: تقرير حرية الدعوة بعد تقرير حرية العقيدة، فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه للبشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ثم من شاء بعد البيان أن يؤمن أو يكفر. فمن وقف في وجه من يقوم بذلك، ومنع الناس من الاستماع للدين والحق، أو صدهم عنه، فهذا يجب قتاله لأنه منع الناس من قول الحق، وسماع الحق،

والعمل بالحق. الثالث: إقامة خلافة الله في أرضه، ليعبد الله وحده لا شريك له، وتمتثل أوامره وحده، وتقرير ذلك وحمايته. فالإسلام هو نظام الحياة المنزل من عند الله، وهو الذي يقرر حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فيقرر عبودية الله، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر. وهذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، فلا بدَّ له من أهل يبذلون جهدهم لتعريف الناس به، وتعليمهم إياه، وردهم إليه. لا بدَّ من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة. وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطيل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم. وعدة الإنسان في الحياة والجهاد والقتال هي الإيمان، فالإيمان زاده وهو الذي يحركه، وهو الذي يحفظه، وبه يحصل له النصر والأمن، سواء كانت معه الأسباب أو لم تكن. فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الله، فهم أقوى الخلق؛ لأن الله معهم يحفظهم وينصرهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الغار: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. والطواغيت والكفار أضعف خلق الله وأخوفهم؛ لأن الله ليس معهم، فهم كالفأرة أمام الأسد .. بل كالحشرات .. بل هم صم بكم عمي .. بل هم أموات أمام الأحياء .. وأنى يفعل الميت بالحي شيئاً: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]. فلما خفناهم ولم نخف الله أذلنا الله بهم، وخوفنا الشيطان منهم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].

فالمؤمنون لقوتهم كالأسود .. والكفار بسبب كفرهم كالفأر. ففرعون أمام موسى كالفأرة أمام الأسد .. ونمرود أمام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كالفأرة أمام الأسد .. وأبو جهل وجيشه أمام محمد - صلى الله عليه وسلم - وجيشه كالفأرة أمام الأسد .. واليهود في المدينة وخيبر أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالفأرة أمام الأسد. وكسرى وجيشه .. وقيصر وجيشه .. أمام المسلمين كالفأرة، فآلاف من الفئران لا تقف لأسد واحد حي .. فكيف إذا كانت الأرض مملوءة بالأسود؟. ونحن اليوم فأرة مسنة معتلة تتحكم في ألف مليون أسد فما السبب؟. السبب: أن أسود اليوم صور، وأسود الأمس حقائق، وإذا كان الأسد صورة جاءت إليه الحشرات والفئران، وأكلت أنفه ومزقت بدنه، وركبت عليه، ثم بالت عليه؛ لأنه صورة لا يخاف منه. ويوم كانت الأسود حقائق كما في عهد النبوة والصحابة، فصيحة واحدة من أسد حي يفزع لها جميع من في الغابة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. ولا بدَّ للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض، وأهم ما تصنعه هذه القوة، أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدون عنها، ولا يفتنون بعد اعتناقها، وأن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكرون في الاعتداء على دار الإسلام، وأن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، وتظلم العباد، وتحكم الناس بغير ما أنزل الله وتصد عن سبيل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193]. أما الكفار الذين لم يقاتلوا المسلمين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يؤذوهم، فالله عزَّ وجلَّ لا ينهى عن برهم وصلتهم والإحسان إليهم من أقاربهم كما قال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ

وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 8، 9]. وبسبب ترك الدعوة والجهاد في سبيل الله تسلط الأعداء على المسلمين، وأهانوهم وأذلوهم في ديارهم، فإلى الله المشتكى من عَالَمٍ القوي فيه متحكم بهواه، والضعيف فيه لاهٍ عن خالقه، والمصلح غافل عن وظيفته. والمسلمون الذين لم يقوموا بالدعوة إلى الله ظالمون؛ لأنهم لم يؤدوا الحق الذي للبشرية عليهم، وهو دعوتهم إلى الله، والكفار ظالمون؛ لأنهم لم يقبلوا الحق الذي أرسل الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فكانت النتيجة انتشار الباطل مكان الحق، والظلم مكان العدل، فلا الدعاء يستجاب من ظالم، ولا الهداية تنزل، والظلم يزداد، والدماء تسفك، والديار تستباح، والعقوبات تنزل، وهذا كله من فعل البشر: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 44]. وما هو جزاء الظالمين؟ .. وما هي عقوبتهم؟. أما في الدنيا فجزاؤهم: عدم الهداية كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: 19]. عدم الفلاح كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} [الأنعام: 21]. الهلاك كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص: 59]. الأخذ بالعذاب كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. عدم محبة الله لهم كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران: 140]. لعنة الله لهم كما قال سبحانه: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]. وأما في الآخرة فلهم عذاب جهنم كما قال سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ

وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. والعالم الإنساني قسمان: أولياء الرحمن .. وأولياء الشيطان .. وأنصار الحق .. وأنصار الباطل. والجهاد في الإسلام رحمة من الله لعباده، فلم يشرع الله جهاداً ولا قتالاً إلا ضد أولياء الشيطان، وأنصار الباطل، أينما كانوا، ومن كانوا؟. فغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مصدر سعادة البشرية، ورحمة الإنسانية إلى يوم القيامة؛ لأنها إما في نشر حق، أو دفع صائل، أو قمع معتد، أو صد ظالم، أو حماية آمن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. غزوات معدودة، بنفقات محدودة، أعز الله بها الإسلام وأهله، ورد الله بها كيد الظالمين، وحصل بها من المنافع ما سعدت به البشرية إلى يوم القيامة. أما الحروب المدمرة التي يشنها الكفار المتسلطون، فهي حروب إبادة وإهانة، وظلم وإذلال، للضعفاء والفقراء، يأكل فيها القوي الضعيف ظلماً وعدواناً. ولذلك تأكل الأخضر واليابس، ووقودها دماء البشر وأموالهم، وعاقبتها الهلاك والدمار، والرعب والخوف، وهذه الحروب عقوبات للكفار، وابتلاء للمسلمين: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} [محمد: 4]. والعدو إنما يدال على المسلمين بسبب ذنوبهم، والشيطان يستزلهم ويهزمهم بها، وهي نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد. والنصر منوط بالطاعة، والتوكل على الله، وطلب النصر ممن يملكه وهو الله عزَّ وجلَّ، فلذلك بين الله صفة أوليائه بقوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 147، 148].

فبسبب الذنوب والمعاصي يحصل التولي، وتقع العقوبة، وترتفع النصرة، وتحصل الهزيمة، فالذنوب أشد على المسلمين من أعدائهم، فتكون تلك الذنوب جنداً على المسلمين يزداد بها عدوهم قوة عليهم كما قال سبحانه للمؤمنين في أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. فإن أعمال العبد جند له .. أو جند عليه. فالطاعة معها النصر، والمعصية معها الخذلان، ولا بدَّ للعبد في كل وقت من سَرِيَّة من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سَرِيَّة تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، ولو فهم الناس هذا ما أقدموا على المعاصي، فهي تهلكهم في الدنيا قبل الآخرة. فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى. ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155]. والله سبحانه سنته جارية بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، لكن الله أحياناً يبتلي المؤمنين بغلبة عدوهم عليهم، وقهره لهم، وفي ذلك منافع ومصالح وحكم وأسرار منها: استخراج عبوديتهم لله .. وذلهم له .. وانكسارهم له .. واستغاثتهم به .. وسؤالهم له النصر على عدوهم .. وعدم الالتفات إلى ما سواه.

ولو كان المسلمون منصورين دائماً، قاهرين غالبين، لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين، لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة. فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا عدوهم أقاموا دين ربهم وشعائره، وإذا غلبهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، واستغفروه وتابوا إليه. وكذلك لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس مقصده الدين، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد. فاقتضت حكمته سبحانه أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. وكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، فلا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان ولا تصح إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والجوع والعطش. وكذلك الله عزَّ وجلَّ يمحصهم بذلك، ويطهرهم من الذنوب كما قال سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141]. وجهاد النفس أعظم من جهاد الغير، وجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به وإن كانوا الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، وأعظم الجهاد كلمة الحق عند من تخاف سطوته وأذاه كالسلطان الجائر. ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له. فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويجاهدها في الله لتستقيم على أوامر الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ

كيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله، وهو نفسه الأمارة بالسوء. فلا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به وهو الشيطان، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوات اللذات والمشتهيات، حتى يقعده عن الجهاد في سبيل الله، ثم يشغله بالمباحات والشهوات، ثم يوقعه في الكبائر والمحرمات. والذين يخرجون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، هم عادة أكرم الناس قلوباً، وأزكاهم أرواحاً، وأطهرهم نفوساً، وأحسنهم طاعة واستقامة، وهم وإن ماتوا أو قتلوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} [آل عمران: 169 - 171]. والإسلام هو الدين الكامل العظيم الشامل الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه إلى كافة العالمين، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وقد شرع الله هذا الدين ليكون قاعدة للحياة الإنسانية في الأرض كلها، وليكون منهجاً عاماً للبشرية بأجمعها، ولتقوم الأمة المسلمة بدعوة البشرية وقيادتها إلى ربها وفق النهج الإلهي الذي فيه كل خير، ورفعها إلى هذا المستوى العالي من الحياة الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا الدين، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة. والتي تفقد البشرية كل فلاح ونجاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد

بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والسعادة في الدنيا والآخرة. ومن ثم كان من حق البشرية جمعاء أن تُبَلَّغ إليها الدعوة إلى هذا الدين الإلهي الشامل، وأن لا تقف عقبة أو سلطة في وجه تبليغ هذا الدين الشامل لكافة الناس إلا حطمت. وأيضاً من حق البشرية أن يُترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين، لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة. فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد الدعوة والبيان لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها. فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى، ولا بالإغراء، ولا بصد الناس عن الهدى. وعلى إمام المسلمين أن يدفع عنهم بالقوة كل من يتعرض لهم بالأذى والفتنة ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام. وعلى المسلمين تحطيم كل قوة تعترض سبيل الدعوة إلى الله وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة، وتفتن الناس عنها، وأن يستمروا في الجهاد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله، لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يدين به أو يبلغه، وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله، ويضلهم عن سبيل الله، ويفتنهم عنه بكل باطل كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].

والله عزَّ وجلَّ يريد لعباده أن يعيشوا في ظل الإسلام في أمن وسلام: فقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان .. وجعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان .. تصان فيها الدماء والحرمات والأموال .. ولا يمس فيها حي بسوء .. ومن أبى أن يستظل بهذه الخيمة، وينعم بتلك الواحة، وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها، ويكف شره عن البشرية. والجهاد في سبيل الله فريضة شاقة، ولكنها فريضة واجبة الأداء؛ لأن فيها خيراً كثيراً للمسلمين كافة، بل للبشرية كلها. والفرائض والأوامر منها ما هو سهل محبوب للنفس كالنكاح وأكل الطيبات والصيد، ومنها ما هو شاق مبغوض للنفس وكريه المذاق كالقتال في سبيل الله، ولكن وراءه حكم ومصالح تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير. فمن يدري فلعل وراء المكروه خيراً، ووراء المحبوب شراً، وهذا يفتح لقلب الإنسان عالماً آخر غير العالم المحدود المشهود الذي تبصره عيناه تترتب العواقب فيه على غير ما كان يظنه ويتمناه. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير الكثير. فالإنسان ضعيف محدود العلم والقدرة والرؤية، لا يدري أين يكون الخير، وأين يكون الشر؟. لقد كان المؤمنون الذين خرجوا في بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ولا يودون ذات الشوكة والقتال، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم بلا استعداد وجهاً لوجه بالمقاتلين من قريش، فكان النصر الذي دوى بالجزيرة العربية، ورفع راية الإسلام والمسلمين، وهشم رأس الباطل الذي حاد الله ورسوله،

وفرح المؤمنون بنصر الله، ونزول الملائكة، وهلاك أهل الباطل، وزاد إيمانهم بربهم الذي مكنهم من القتل والأسر والظفر بالغنائم: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} [الأنفال: 7]. فأين تكون القافلة من هذه الخيرات والبركات التي حققها الله في بدر وأكرم بها المسلمين؟. وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. والكافرون هم الظالمون حقاً: ظلموا الحق فأنكروه .. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك .. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى .. وفتنوهم عن الإيمان .. وموهوا عليهم الطريق .. وخدعوهم بالباطل .. وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير الإيمان والسلم والرحمة والطمأنينة. فما أشد ظلمهم .. وما أعظم كيدهم .. وماذا ينتظرهم من عذاب الله الأليم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب .. ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة .. ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع وتظهر على الجوارح، هؤلاء هم أعدى أعداء البشرية، وأظلم الظالمين لها، وأخطر المفسدين لحياتها، لسعيهم في غش الخلق، وإفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، وكفرهم بالله ورسوله. فهؤلاء من آمن منهم وتاب وأصلح فالله يتوب عليه، ومن استمر منهم على كفره ومات ولم يرجع إلى ربه ولم يؤمن به فهو جدير بلعنة الله ولعنة خلقه

وعذابه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162]. ومن واجب البشرية لو رشدت أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه، وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال ليستريح الناس من شرهم وطغيانهم. وهذا هو واجب الأمة المسلمة الذي يندبها إليه ربها، ويأمرها به لرفع ظلمهم للبشرية، وصد عدوانهم على المسلمين، والله ناصرهم عليهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123]. وإلى أن ترشد البشرية وتعقل يجب على أهل الإيمان الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان أن يطاردوا الباطل في كل مكان، ليحل الحق مكان الباطل، والإيمان مكان الكفر، والعدل مكان الظلم. فلا بدَّ من الجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، فلم يجن أحد على البشرية جناية أعظم ممن يحرمها من هذا الدين الذي فيه كل خير، ويحول بينها وبينه: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)} [التوبة: 12]. والجهاد في الإسلام شريعة لازمة، به يدفع الله عن المؤمنين الأذى والفتنة والظلم، وبه يتم تقرير حرية الدعوة. فقد جاء الإسلام بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وقلوبها، ويزين به حياتها وأخلاقها: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].

فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن، ومن شاء فليكفر ويدفع الجزية ولا إكراه في الدين كما قال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]. لكن يجب أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا ويقتنعوا، وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. وجاء الإسلام كذلك ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وفوق هذا يقوم نظام أخلاقي كريم تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد، حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل إنسان من مسلم وغيره، ولا يكره فيه أحد على الإسلام، إنما هو البلاغ والبيان. فهذا الدين العظيم الذي أكرم الله به خلقه، وأنزله عليهم، وبعث به رسوله إليهم، وارتضاه للبشرية جمعاء، من حقه أن يجاهد ليحطم قوة الباطل التي تناصبه العداء، وتكيد له بغير حق، وتحرم الناس منه، وتصد الناس عنه، وتنفرهم منه. فليسحقها الإسلام سحقاً، ويبيد هذه الحشرة السامة، ليعلن نظامه الإلهي الرفيع في الأرض، ويدعو الناس إليه، ثم يدع الناس في ظله أحراراً، لا يلزم أحداً إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية، والمالية والسياسية التي تتضمن العدل والإحسان لكل البشر. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار، فهو وإن كان يحب لهم الإيمان فهو لا يلزمهم به ولا يكرههم عليه، وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم، والإسلام يكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم. والمجاهدون في سبيل الله كثير، وليس كل مجاهد في سبيل الله يرزق الشهادة، فالشهداء مختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه.

فليست رزية ولا هوان أن يستشهد المسلم، إنما هو تكريم وانتقاء وتشريف، وتكريم من الرب لعبده: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141]. وهؤلاء شهداء يتخذهم الله، فيؤدون الشهادة بجهادهم حتى الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وتقريره في حياة البشرية بهؤلاء الذين تجردوا للحق .. وبذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله .. وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء من أجله .. لعلمهم أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق والنور. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون، وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. والمجاهدون في سبيل الله ليس لهم هَمّ إلا إعلاء كلمة الله في الأرض كلها، وهم يشعرون بمعية الله معهم، وهدايته لهم، ونصرهم على عدوهم. فلا تضعف نفوسهم حينما يصيبهم البلاء والكرب، والشدة والجراح، ولا تضعف قواهم عن الاستمرار في الكفاح. وهم حين يواجهون الأعداء، ويواجهون الهول الذي يذهل النفوس، يتوجهون إلى الله لا لطلب النصر أول ما تطلب، ولكن لتطلب العفو والمغفرة عن التقصير، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء. فيا لها من نفوس مطمئنة إلى وعد ربها واثقة بنصره، عارفة بحقه متوكلة عليه وحده، وذلك لكمال الإيمان والتقوى في قلوبهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ

أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 146، 147]. إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا جزاء ولا ثواباً، لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة. فما أجمل هذا الأدب مع ربهم، وما أزكى تلك النفوس والقلوب، بينما هم يقاتلون في سبيله لم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام، والنصر على الكفار. ولما لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله كل شيء يتمناه طلاب الدنيا وطلاب الآخرة، وشهد لهم بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب، وأحسنوا العمل، وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة، وأكبر من الثواب كما قال سبحانه: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 148]. فهل فوق هذا الأدب من المجاهدين في سبيل الله شيء؟. وهل فوق هذا الإكرام لهم من رب العالمين شيء؟. إن المسلم حين يخرج للجهاد في سبيل الله إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة البشرية، ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعرضه عليهم، وصد عدوان المعتدين، فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل. ليس في الإسلام قتال من أجل الغنيمة، ولا يعرف الإسلام القتال للمجد والفخر، ولا يعرف القتال للسيطرة والقهر. إن المسلم في الإسلام لا يقاتل للاستيلاء على الأرض .. ولا للاستيلاء على السكان .. ولا للاستيلاء على الثروات .. ولا يقاتل لمجد شخص .. ولا لمجد بيت .. ولا لمجد طبقة .. ولا لمجد جنس .. ولا لمجد دولة .. إنما يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين، وصد عدوان الظالمين، فمن قتل في هذا السبيل فهو شهيد في سبيل الله، ينال بذلك

مقام الشهداء عند الله. فليقاتل في سبيل الله من يريد أن يبيع الدنيا ويشتري بها الآخرة، ولهم على ذلك فضل وأجر من الله عظيم، سواء من يقتل في سبيل الله، ومن يغلب في سبيل الله كما قال سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. فأين الدنيا من الآخرة؟ .. وأين غنيمة المال من فضل الله، وهو يحوي المال وما سواه؟. إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته .. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام فيه شريعة الله .. وأرضه التي يدافع عنها هي دار الإسلام التي تتخذ الإسلام منهجاً للحياة .. وكل تصور آخر للوطن غير هذا هو تصور غير إسلامي .. تنضح به الجاهليات ولا يعرفه الإسلام. والمقاتلون في ساحات القتال فريقان يقاتلون تحت رايتين مختلفتين: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته في الأرض، وإقامة العدل بين الناس. والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى غير منهج الله، وإقرار شرائع شتى غير شريعة الله. {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76]. ويقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته. ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم وشتى مناهجهم. فعلينا مقاتلة أولياء الشيطان، متوكلين على الله الذي تكفل بنصر من ينصر دينه، ويقيم شرعه كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا

بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. فالجهاد في سبيل الله رحمة للبشرية كلها: فبه يتم إقرار منهج الله في الأرض .. وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم .. وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان .. تمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله .. وتمنع أن يحال بين الناس وبين الاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض .. وتمنع أن يفتن أحد عن دينه، والكف عن مطاردته في رزقه أو نشاطه حيث هو. وحرب الله ورسوله التي يقوم بها أعداء الدين متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله. والإسلام دين العدل والرحمة، لا يعاقب العاصي والمجرم بالسيف وحده، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف. فأما اعتماده الأول فعلى دعوة الناس إلى الخير، وتربية القلوب وتزكيتها، فإذا ردع بالعقوبة التي تزجر عن الفساد، أخذ طريقه إلى القلوب يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويحثها على الإيمان والجهاد في سبيله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35]. والإسلام لا بدَّ له أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لمنهج الله بالبيان والجهاد مجتمعين: جهاد باللسان لتقرير منهج الله في الأرض، وتنفيذ شرعه في عباده. وجهاد بالسيف لإزالة حكم الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شريعة الله، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق الدين الذي مَنَّ الله به على عباده، وإقامة منهج الله في الأرض كلها. وإذا كان البيان باللسان يواجه العقائد والتصورات والمذاهب الضالة، فإن

الجهاد بالسيف كذلك يواجه القوى المادية الشرسة، وهما معاً يواجهان الواقع البشري بجملته لرده إلى ربه، وانتزاعه من العبودية لغيره. والجهاد في الإسلام له بابان: الأول: باب يخرج منه ليدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجود الدين كمجتمع إسلامي مستقل، الحاكمية فيه لله وحده، لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله لسحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته، وهنا لا بد له أن يدافع عن نفسه، إذ لا يمكن التعايش بين الحق والباطل. الثاني: أن الإسلام ذاته لا بدَّ أن يتحرك إلى الأمام ابتداءً لنشر الدين في العالم، ولإنقاذ الإنسان في العالم من العبودية لغير الله، ولا يترك البشرية في الأرض للشر والفساد والعبودية لغير الله. إن الإسلام جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد، فمن حقه أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم، دون حواجز ولا موانع مصطنعة. إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء في كل اتجاه، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام للعالم كله يحقق لهم الأمن والسعادة والطمأنينة، ويقضي على منابع الشر والعدوان، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض، والاستغلال الممقوت، ويقوم بذلك رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وبالجهاد في سبيل الله يحق الله الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، ويقطع دابر الكافرين، ويخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام، وتعلو معها كلمة الله، وتظهر قوة الأمة، وتقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها، وتعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، إنما هو بقدر اتصال القلوب بالله، وبقوته التي لا تقف لها قوة العباد، وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي.

لتوقن كل عصبة مؤمنة أن الله معها، وأنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة، ومهما يكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن هي من ضعف العدة، ومهما يكن عدوها من كثرة العدة؛ لأن النصر من عند الله وحده، وهم مؤمنون يجاهدون في سبيل الله. ولا تستقر هذه الحقيقة في القلوب كما تستقر بالمعركة العملية المرئية الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان، كما تجلى ذلك كله في غزوة بدر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. إن غزوة بدر لتمضي مثلاً للأمة، تتمثل فيها أصول النصر والهزيمة، وتكشف عن أسباب النصر والهزيمة، الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرية المادية. ظهرت فيها قوة لا إله إلا الله كما ظهرت في أُحد قوة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بدر أظهر الله قدرته، وفي أحد أظهر الله سنته، فلما عصى الرماة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفع الله النصر، فالمعاصي سبب كل هزيمة. إن غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان، فهي آية من آيات الله، وسنةٌ من سننه الجارية في خلقه ما دامت السموات والأرض. وحسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية، وأن يمضوا في طاعة أمر الله واثقين بنصر الله في أي معركة مع الباطل، حسبهم هذا لينتهي دورهم، ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم وتملك الكون كله. وحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها، وتثبت في المعركة، ثم يجيء النصر كما يجيء المطر من الله وحده، حيث لا يملك النصر غيره: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10]. إن خروج العصبة المؤمنة لإعلاء كلمة الله أمر هائل عظيم، أمر يستحق معية الله

لملائكته والمؤمنين في المعركة، ليحق الحق ويبطل الباطل، وينصر أولياءه ويخذل أعداءه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} [الأنفال: 12، 13]. إنها سنة الله ليست فلتة عارضة ولا مصادفة عابرة أن ينصر الله المؤمنين، وأن يسلط على أعدائهم الرعب والملائكة وعباده المؤمنين. إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، يصدون عن سبيل الله، ويحولون دون منهج الله للحياة، فلهم في الدنيا الرعب والهزيمة، وفي الآخرة عذاب النار: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} [الأنفال: 14]. وقد وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم، ومن يكن الله معه فمن ذا يقف له؟. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 20، 21]. والذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك، واستقرت هذه العقيدة في الأرض، ودانت لها البشرية في كثير من أنحاء الأرض، بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد. وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الشرك والإلحاد في بعض بقاع الأرض، فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة، فضلاً على أن فترات الإلحاد إلى زوال مؤكد؛ لأنها غير صالحة للبقاء. ولله الأمر من قبل ومن بعد، فليست الغلبة والنصر بمجرد وجود الأسباب، بل لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر، فـ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].

والله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومالك كل شيء، ولكن من فضله وجوده وإحسانه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاستخلص سبحانه لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء. لم يعد لهم خيار أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيل الله. لم يعد لهم خيار أن يبذلوا أو يمسكوا، إنها صفقة مشتراة، ولمشتريها أن يتصرف بها كما يشاء، وليس للبائع فيها من شيء، سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يلتفت ولا يتخير ولا يجادل، فهو عبد مملوك، وليس للعبد إلا الطاعة والعمل والاستسلام والانقياد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. فالثمن هو الجنة .. والطريق هو الجهاد والقتل والقتال لإعلاء كلمة الله، وكف العدوان، وإزالة الفساد .. والنهاية هي النصر أو الشهادة التي بعدها الجنة. والمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا، فمن بايع هذه البيعة، ووفى بها فهو المؤمن الحق. ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال وكل ما في الكون. وهي بيعة رهيبة لازمة في عنق كل مؤمن، لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه، وقد جعل الله مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء بهذه البيعة، كما قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]. وقد تحولت هذه البيعة من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع مشهود، وقد قبلها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلقوها للعمل المباشر بها، وحولوها إلى صورة منظورة عجيبة، لا إلى صورة متأملة تحكي ولا ترى. فكم بذلوا من أجلها من نفس؟ .. وكم أنفقوا من مال؟ .. وكم هجروا من أجلها

من دار؟ .. وكم تركوا من شهوات؟ .. وكم تركوا من أهل وأولاد؟ .. وكم بذلوا من أوقات؟ .. وكم جاعوا وأوذوا؟. وكم قاتلوا وقتلوا؟ .. فلله درهم، لقد وفّوا وصدقوا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23]. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنصار يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قال: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»، فَقالوا: مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدَا. متفق عليه (¬1). فالجهاد في سبيل الله بيعة معقودة في عنق كل مؤمن، منذ كان دين الله، فهي سنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة: 251]. إن الحق الذي أرسل الله به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا بدَّ أن ينطلق في طريقه في جميع الأرض، لتحرير البشر من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده. والحق إذا سار في الأرض فلا بدَّ أن يقف له الباطل في الطريق، بل لا بدَّ أن يقطع عليه الطريق، بل لا بدَّ أن يهاجمه في عقر داره كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. فأهل الباطل يقاتلون أهل الحق حسداً وبغياً من عند أنفسهم ليردوهم إلى الكفر والضلال كما قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2834)، واللفظ له، ومسلم برقم (1805)

أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. فما دام في الأرض كفر .. وما دام في الأرض باطل .. وما دام في الأرض عبودية لغير الله .. تذل كرامة الإنسان .. وتصرفه عن ربه .. فالجهاد في سبيل الله ماض .. والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء .. وإلا فأين الإيمان والوفاء والبيعة؟. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُّحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق» أخرجه مسلم (¬1). فليستبشر من بذل نفسه وماله في سبيل الله، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً كما وعد الله في كتبه المنزلة. وما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله، ويستعيض الجنة؟. والله ما فاته شيء، بل ربح كل شيء، فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، والغبن يوم التغابن. ألا ما أعظم هذا الإنسان المؤمن وهو يعيش لله، حسب أمر الله، وفق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يجاهد في سبيل الله، وينتصر إذا انتصر لإعلاء كلمة الله، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية لسواه. ويستشهد إذا استشهد في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة وجميع ما فيها. فإذا أضيف إلى ذلك كله الدرجات العالية في الجنة، ورضوان ربه عليه، فهو بيع يدعو إلى الاستبشار، وفوز لا ريب فيه ولا جدال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، ولكن الجهاد في سبيل الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1910).

ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر، وأخلاق عالية، وأعمال صالحة. والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان، هم قوم يحملون أفضل الصفات الإيمانية وأحسنها وأعلاها، وهؤلاء المؤمنون هم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112]. إن أهل هذه البيعة عليهم أن يفوا بها ليدخلوا الجنة، وعليهم أن يتقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ولا يتخلفوا عن الجهاد مع المجاهدين الصادقين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. ولا يليق بأهل هذه الدعوة، وحماة هذا الدين، وهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - أهل المدينة الذين آووا ونصروا، وبايعوا واستعدوا، ومن حولهم من القبائل التي أسلمت. لا يليق بهؤلاء .. وهؤلاء أن يتخلفوا عن رسول الله، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه كما قال سبحانه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]. فالخروج في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ورد كيد الأعداء، في الحر أو البرد، وفي الشدة أو الرخاء، وفي العسر أو اليسر، أمر مطلوب من كل مسلم، ولا يحل لأحد التأخر عنه في كل زمان أو مكان لمن يريد التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو واجب يوجبه الحياء من رسول الله والمؤمنين المجاهدين، فضلاً عن الأمر الصادر من الله بقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]. ومع ذلك فالجزاء على هذا الخروج في سبيل الله ما أسخاه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا

يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120، 121]. إن الله عزَّ وجلَّ كريم يعطي المجاهدين على الظمأ جزاء .. وعلى النصب جزاء .. وعلى الجوع جزاء .. وعلى الخطى جزاء .. وعلى كل نيل من العدو جزاء .. يكتب به للمجاهد عمل صالح .. ويحسب به من المحسنين. وكذلك على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر .. وعلى الخطوات لقطع الوديان أجر .. أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة. ألا ما أجزل هذا العطاء من رب العالمين .. وما أوسع رحمته لعباده .. وما أعظم فضله عليهم. خلقنا .. ورزقنا .. وهدانا .. واشترانا .. ووفقنا للعمل الصالح .. ويسره لنا .. وأعاننا عليه .. وحببه إلينا .. وأكرمنا بالإسلام .. وشرفنا بالدعوة إليه .. وضاعف لنا الأجر .. ووعدنا على ذلك الجنة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. إن العبادة أمانة .. وإن دعوة الناس إلى الله أمانة .. وإن تعليم الناس أمانة، وإن الجهاد في سبيل الله أمانة .. ونحن فيها خلفاء .. وعليها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمناء .. ونحن مسئولون عنها. فعلينا جميعاً أن نقوم بأداء هذه الأمانات حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وإذا اتسعت رقعة الأرض الإسلامية، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد في سبيل الله، فقد آن أن توزع الجهود في الجهاد، وعمارة الأرض، والتجارة، وغيرها مما يحتاجه المجتمع المسلم، فهذه مرحلة أخرى، يصار إليها إذا صار الواقع كذلك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].

فالمؤمنون لا ينفرون كافة، ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة على التناوب، لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الخروج والجهاد من ثمرات الإيمان، كنصر الله لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ونزول الهداية على الخلق، وظهور الآيات، وتسخير المخلوقات كنزول الملائكة في بدر، وانفلاق البحر لموسى - صلى الله عليه وسلم -، وانبجاس الحجر بالماء لموسى، والتقاء ماء الأرض والسماء لنصرة نوح - صلى الله عليه وسلم - وإهلاك أعدائه، وغير ذلك من الآيات. فهذا الدين كله جهد وعمل، لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله هم أولى الناس بفقهه، بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلى لهم به من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس لها عمل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولها أخلاق تتزين بها بين الناس وهي أوامر الدين، وعليها مسئولية وهي الدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله في الأرض. لذلك وصف الله المؤمنين بأعمالهم، وأثنى عليهم بأفعالهم المطلوبة منهم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 74، 75]. فالمؤمنون صنفان: مهاجرون يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويدعون إلى الله في أرضه. وأنصار يؤوون ويناصرون المهاجرين والخارجين في سبيل الله. وبهذين الصنفين من المؤمنين أظهر الله دينه، وأعلى كلمته حتى دخل الناس في

دين الله أفواجاً. وهذا عمل الأمة إلى يوم القيامة لمن كان يرجو رحمة الله، دعوة وجهاد، وهجرة ونصرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]. وبالهجرة والنصرة من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه تنتشر الهداية في العالم، ويزول الباطل من الأرض، وتنزل رحمة الله على عباده، ويحصل لهم رضوانه، والفوز بجنته كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. أما الذين يقعدون عن الجهاد في سبيل الله فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن خرجوا؛ لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا، ولا فقهوا فقههم، ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه هؤلاء الخارجون من أجله. ولعله يتبادر إلى الذهن أن الذين يتخلفون عن الغزو والجهاد والدعوة والحركة هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين، ولكن هذا وهم، فإن الجهد والجهاد والمجاهدة قوام هذا الدين، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويضحون من أجله بكل شيء، ويجاهدون لتقريره في حياة الناس. والجهاد في سبيل الله ماض إلى يوم القيامة، وخطة الجهاد ومداه بينها الله ورسوله وخلفاؤه من بعده، وقد سارت عليها الفتوحات الإسلامية، بالدعوة إلى الله، وقتال الظالمين من المستكبربن والمعاندين والطغاة، بداية بمن يلون دار الإسلام ويجاورونها مرحلة مرحلة كما أمر الله المؤمنين بذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123]. فلما أسلمت الجزيرة العربية أو كادت، كانت غزوة تبوك على أطراف الروم، ثم

كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم، وفي بلاد الفرس، فاتسعت رقعة الإسلام، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف. ثم كان فتح مصر وشمال أفريقية، وبلاد ما وراء النهر، ثم فتح الأندلس وما جاورها. وهكذا صارت دولة الإسلام بهذا الحجم الكبير تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، تقول كلمة التوحيد، وتعمل بها، وتدعو إليها. فلما ضعف الإيمان .. ضعف الهم والعمل .. وأعرض كثير من الناس عن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله .. واشتغلوا بحاجات دنياهم عن حاجات دينهم .. وقدموا شهوات النفس على أوامر الرب، هانوا على الله وعلى خلقه، ونزلت بهم العقوبات جزاء مخالفتهم لأوامر الله. وعمل الأعداء بتدبير خبيث ماكر على تمزيق وحدتهم، وتقويض هذا البنيان الكبير وتمزيقه، ففرقوا أهل التوحيد، وأقاموا الحدود المصطنعة فيما بينهم على أساس تلك البيوت، أو على أساس القوميات، أو على أساس بيع الحكم مقابل ضرب الإسلام وأهله. وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام أمة واحدة في دار الإسلام وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان، ستظل ضعيفة مهينة مقهورة إلا أن تثوب إلى دينها، وتعمل بشرع خالقها، وتتبع خطى رسول الله في حياتها، وبذلك يحصل لها العز والنصر والتمكين. إن الأمر بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار هو الأمر الأخير الذي يجعل الإنطلاق بهذا الدين، ليشمل الأرض كلها هو الأصل الذي ينبثق منه الجهاد، وليس هو مجرد الدفاع كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد. فالجهاد في الإسلام جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله، جهاد لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن أن يدين بالتوحيد لله وحده، وجهاد لتغليب منهج الله الهادي على

مناهج العبيد الظالمة، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور بإذن ربهم كما قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير البشرية كلها من عبادة العبيد إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والجهاد في سبيل الله ليس لإكراه الناس على العقيدة، بل لضمان حرية الاعتقاد التي انتهكها أعداء هذا الدين، وفرضوا على الناس من العقائد والمذاهب ما لا يقبله عقل، وفتنوهم بشتى الوسائل عن سماع الحق، وعن العمل به، وعن تعليمه، وعن الدعوة إليه. ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة التي قهرت العباد، وأضلتهم وأفسدت حياتهم، ويدمر هذه القوى التي تحميها .. ثم ماذا؟. ثم يترك الناس بعد ذلك أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها إذا كانوا أهل كتاب، إن شاءوا دخلوا في الإسلام ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية مقابل حمايتهم، وكفالة عاجزهم ومريضهم في حضن الإسلام، ولا إكراه في الدين. إن المسلمين اليوم هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والأهواء، وتحكمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية، وإن المسلمين لن يستطيعوا أن يفقهوا أحكام هذا الدين وهم في مثل ما هم فيه من الهزال. إنه لا يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم من أجله، ليُعبد الله وحده لا شريك له في الأرض. وحفظ ما في بطون الكتب، والتعامل مع النصوص في غير حركة تغير طريقة الحياة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، والتضحية من أجله. وهذا ما خدع به الكفار كثيراً من المسلمين، فشغلوهم به عن الخروج إلى

ساحات الجهاد، وميادين الدعوة في العالم، فأثمر ذلك ذل المسلمين وهوانهم .. وزيادة الظلم والجهل والضلال في العالم .. وردة كثير من المسلمين عن دينهم. فلله كم خسر العالم؟ .. وكم ضل في العالم؟ .. وذلك بسبب ترك المسلمين للدعوة والجهاد في سبيل الله. فهل يكفي أن تسكب العبرات على هذه الجراحات الدامية الأليمة؟ .. أم لا بد من حركة قوية لإنقاذ البشرية من هذا الدمار الشامل الذي يأكل الأخضر واليابس في كل حين؟. والغلظة التي أمر الله بها المجاهدين في سبيله تكون على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم، وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين. إنه قتال يسبقه إعلان وتخيير بين قبول الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد في حالة الخوف من الخيانة، فمن أبى أن يجيب دعوة الله وينقاد لحكمه فهذا يجاهد ويغلظ له كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9]. عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا أمَّرَ أمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ، أوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغْدِرُوا وَلا تَمْثُلُوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ (أوْ خِلالٍ)، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، فَإِنْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ

فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ» أخرجه مسلم (¬1). وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن فأوصاه بقوله: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» متفق عليه (¬2). إن العبادات والشعائر والشرائع الإلهية التي تنظم حياة البشرية، لا بدَّ لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله، وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة، وحرية العبادة، وأماكن العبادة، وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائمة على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية كافة في الدنيا والآخرة. ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية الدعوة في ظل دين الله كما قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]. إن قوى الشر والباطل والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ خلق الله الإنسان. والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1731). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1395)، ومسلم برقم (19) واللفظ له.

ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت له قلوبهم. فلا بدَّ للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتن، وتحرسها من الأشرار والبغاة والطغاة، وقد أمرنا الله بذلك في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال: 60]. ولم يشأ الله عزَّ وجلّ أن يترك أهل الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والباطل والشر اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب. فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب، وتفتن النفوس، وتزيغ الفطر، وللصبر حد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم. ومن ثم لم يشأ الله أن يترك المؤمنين للفتنة إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان، والله سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38]. والله سبحانه يكره أعداء المؤمنين لكفرهم، فهم مخذولون حتماً، والمؤمنون مظلومون غير معتدين، فليطمئنوا على حماية الله لهم، ونصره إياهم كما قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]. فلا بدَّ للمسلمين من الجهاد في سبيل الله لحماية العقيدة، وأماكن العبادة، والدفع عنها؛ لئلا تنتهك حرماتها، فما أرحم الله بعباده إذ شرع لهم الجهاد في سبيل الله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ

وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]. والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان .. والبِيَع للنصارى عامة .. والصلوات أماكن العبادة لليهود .. والمساجد أماكن العبادة للمسلمين. وهذه الأماكن كلها معرضة للهدم، لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرماتها، ويعتدون على أهلها. فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان ما وجد حق، إلا أن يدفعه الحق بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بدَّ له من القوة تحميه، وتدافع عنه، وترهب أعداءه، وهي سنة شرعية مأمور بها كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال: 60]. إن هذا الدين لا يقوم بغير حراسة، ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد، ولا ينتشر بغير دعوة، ولا يبقى عزيزاً منيعاً بغير جهاد. جهاد لتأمين العقيدة .. وتأمين الدعوة .. وحماية أهله من الفتنة .. وحماية شريعته من الفساد. ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله مقامهم، وكان لهم قربهم من ربهم كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهداء في سبيل الله: «أرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمِ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا

رَأوْا أنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أنْ يُسْألُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أرْوَاحَنَا فِي أجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أخْرَى، فَلَمَّا رَأى أنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» أخرجه مسلم (¬1). وأصناف الخلق خمسة: المتصدقون .. والصديقون .. والشهداء .. والمقتصدون .. والكفار. فالمتصدقون هم المؤمنون الذين أكثروا من الصدقات الشرعية، وبذلوا أموالهم في طرق الخيرات، وجلّ عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم، خاصة بذل المال في سبيل الله، فهؤلاء يضاعف لهم الأجر، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولهم الجنة يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد: 18]. والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان، والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق، فمرتبتهم دون مرتبة الأنبياء، وفوق مرتبة عموم المؤمنين. والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فاستشهدوا في سبيل الله. والمقتصدون هم الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، إلا أنه حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله، وحقوق عباده، فهؤلاء مآلهم إلى الجنة، وإن حصل لهم عقوبة على التقصير. والكفار: هم الذين كفروا بالله، وكذبوا برسله وآياته، ومآلهم النار. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد: 19]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1887).

والجهاد في أول الإسلام كان للدعوة إلى الله حيث لا قتال، بل دعوة إلى الله كما قال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. ففي مكة قيل للمسلمين في أول الإسلام كفوا أيديكم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77]. وفي المدينة بعد الهجرة كان جهاد المنافقين باللسان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9]. ثم كان الجهاد بالسيف لما عز الإسلام وأوذي المسلمون كما قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]. وكان الإذن بالقتال أولاً لمن آذى المسلمين وقاتلهم كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. ثم أذن الله للمسلمين بقتال المشركين كافة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36]. وقال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. والسلام الذي يدعو إليه الإسلام يقوم على أمرين: الأول: أن تنقطع الفتن التي تلاحق المسلمين في كل أرض. الثاني: أن يكون الدين كله لله. وإذا قوي الإيمان سهل على العبد امتثال أوامر الله كلها، وتلذذ بمباشرتها. فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان مع قوة البدن فذلك الذي يحبه الله في ميدان الجهاد.

فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. والرجل الشجاع يفتك بالعدو ويمزق صفوفه، فإن جرح فإنه لا يقوم له شيء فتراه بعدها هائجاً مقداماً كالأسد إذا جرح فإنه لا يطاق، ولا يقف له شيء. أما الرجل الضعيف في إيمانه وبدنه فلا إقدام له، فإن جرح ولى هارباً والجراحات في أكتافه، فلا هو في الصف مستقيماً، ولا عند الجراحة صابراً، وذلك ما لا يحبه الله بل يبغضه ويسخطه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15، 16]. والمجاهد في سبيل الله له حالات: فإما أن يقصد دفع العدو .. وذلك إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالباً .. وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوباً .. وقد يقصد كلا الأمرين. والأقسام الثلاثة المؤمن مأمور فيها بالجهاد في سبيل الله. وجهاد الدفع أشد وأصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، لكن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على النفس والمال مباح ورخصة، فإن قتل فيه فهو شهيد. فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد فلا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً. وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وأما الجهاد الذي يكون فيه المسلم طالباً مطلوباً، فهذا يقصده خيار الناس لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أواسطهم للدفع ومحبة الظفر. وقد بعث الله عزَّ وجلَّ رسوله بالهدى ودين الحق فدعا إلى الله، وأمره الله

سبحانه بجدال الكفار بالتي هي أحسن، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة، وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة. وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جدال الكفار على اختلاف مللهم إلى أن توفي، وأصحابه قاموا بذلك من بعده، وكل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وقد أقام الله سبحانه سوق الجهاد في هذه الدار بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فيقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوراة والإنجيل والقرآن كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]. وقد وصف الله هؤلاء المجاهدين الذين اشتراهم بأحسن الصفات فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112]. ولم يسلط الله عزَّ وجلَّ هذا العدو وهو الشيطان على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجات، وأقربهم إليه وسيلة. والجهاد بذل الجهد في قتال الكفار، والدعوة إلى الدين الحق، ومجاهدة النفس والشيطان والفساق.

فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب. وحق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه، وألا يخاف في الله لومة لائم. وأقسام الجهاد أربعة: جهاد النفس .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الكفار .. وجهاد المنافقين. وعدو الإنسان الداخلي هو النفس، وعدو الإنسان الخارجي الكفار والمنافقون، ولا يمكن جهادهما إلا بجهاد الشيطان والتصدي له، وذلك بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وجهاد الكفار والمنافقين مراتبه أربع: بالقلب .. واللسان .. والمال .. والنفس. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان. وجهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات على ثلاث مراتب: جهاد باليد إذا قدر .. فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (¬1). ومن جاهد نفسه وشيطانه وعدوه الكافر والمنافق فإنما يجاهد نفسه؛ لأن نفعه راجع إليه، وثمرته عائدة إليه، والله غني عن العالمين كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (49).

وجميع الأوامر والنواهي يحتاج فيها العبد إلى جهاد؛ لأن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير، وشيطانه ينهاه عنه، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه كما ينبغي. فعلى المسلمين أن يتقوا الله، ويحذروا من سخطه وغضبه، ويبتغوا إليه الوسيلة بطاعته، وحسن عبادته، والتقرب إليه، ويجاهدوا في سبيله لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وابتغاء مرضاته لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35]. وللمجاهدين في سبيل الله أجر عظيم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» أخرجه البخاري (¬2). فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، وهم الأعلون في الدنيا والآخرة. وجهاد أعداء الله في الخارج فرع على جهاد العبد نفسه في ذات الله، فجهاد النفس مقدم على جهاد العدو في الخارج وأصل له. فما لم يجاهد العبد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج. إذ كيف يمكنه جهاد عدوه وكسره، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه. فالنفس والكفار عدوان امتحن الله العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790). (¬2) أخرجه البخاري برقم (2892).

جهادهما إلا بجهاده وهو الشيطان، فهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذل ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات. وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب .. وإما باللسان .. وإما بالمال .. وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، كل أحد بحسبه كما قال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. فهذا أعظم الجهاد، وهو جهاد الدعوة وتبليغ الدين إلى الناس. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأن نجاهد في الله حق جهاده كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]. وأمرنا كذلك أن نتقيه حق تقاته كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. وحق تقاته، وحق جهاده، هو ما يطيقه كل عبد في نفسه. وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز، والعلم والجهل، والغنى والفقر. فحق التقوى، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء آخر. فما جعل الله على أحد في الدين من حرج، بل جعله واسعاً يسع كل أحد، كما جعل رزقه يسع كل حي، فكلف العبد بما يسعه، ورزقه ما يحتاجه، وأغناه من فضله، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما. فاتقوا الله حق تقاته، وجاهدوا في الله حق جهاده: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله ابتلاهم الله بأن يوقع بينهم العداوة

حتى تقع بينهم الفتنة كما هو واقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم. وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض كما قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 38،39]. والعذاب قد يكون من عند الله مباشرة، وقد يكون بأيدي العباد كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [الأنعام: 65]. وأعظم ميادين الإصلاح والتوجيه ثلاثة: ميدان الدعوة .. وميدان التعليم .. وميدان الجهاد في سبيل الله. والكفار والشياطين والطغاة أشد ما تكون عليهم إذا كنت فيها، أو في واحد منها؛ لأنه بالدعوة تنزل الهداية، وبالعلم يزول الجهل، وبالجهاد يزول الباطل. وبهذه الثلاثة يكون الدين كله لله، ويُعبد الله الذي يستحق العبادة، ويزول حكم أهل الباطل من الأرض.

14 - فقه النصر

14 - فقه النصر قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. وقال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. الله تبارك وتعالى من سنته الجارية أن من آمن به، وامتثل أوامره، حسب ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه ينصره ويؤيده ويعزه في الدنيا، ويرزقه الجنة في الآخرة. ومن كفر به، ولم يستجب له، وكذب رسله، فإنه يخذله ويشقيه في الدنيا، وينساه كما نسيه، ويجعل معيشته ضنكاً، وله في الآخرة عذاب النار، كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} [آل عمران: 56، 57]. فإن قيل: إذا كان الحق يعلو .. فلم ينتصر الكفار على المسلمين، وتغلب القوة الحق؟. فيقال: إنه لا يلزم أن تكون كل وسيلة من وسائل كل حق حقاً، كما لا يلزم أن تكون كل وسيلة من وسائل كل باطل باطلاً، فكل حق مغلوب لباطل مغلوب بوسيلته الباطلة لا مغلوب بذاته. وثانياً: يجب أن تكون كل صفة من صفات المسلم مسلمة مثله، إلا أن هذا ليس أمراً واقعاً ولا دائماً، وكذا الكافر أو الفاسق لا يشترط أن تكون جميع صفاته كافرة أو فاسقة. وصفة مسلم يتصف بها كافر تتغلب على صفة غير مشروعة لدى المسلم، وبهذه الوسيلة يتغلب الكافر على المسلم الذي يحمل صفة غير مشروعة. وثالثاً: أن مطيع الأوامر الشرعية والعاصي لها يرى ثوابه وعقابه غالباً في الدار

الآخرة، ومطيع السنن الكونية والعاصي لها غالباً ما يرى ثوابه وعقابه في دار الدنيا. فكما أن ثواب الصبر النصر، فكذلك ثواب السعي الغنى، وكل حق أصبح وسيلة لباطل فسينتصر على باطل أصبح وسيلة لحق. ورابعاً: أن الحق إذا كان مشوباً بشيء آخر أو مغشوشاً، فإن الله يسلط عليه الباطل مؤقتاً، حتى يصفو الحق نتيجة التدافع، ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً. والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده المؤمنين أحياناً بغلبة عدوهم عليهم، وفي ذلك منافع وحكم عظيمة: منها استخراج عبوديتهم لله، وذلهم له، فلو كانوا منصورين دائماً لبطروا وأشروا، ولو كانوا مغلوبين دائماً لما قامت للدين قائمة. فاقتضت حكمة الله أن صرفهم بين الغلبة لهم وعليهم، فإذا غلب عليهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم واستغفروه، وإذا غلبوه أقاموا شعائره ودينه، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. ومنها: أنهم لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد. فاقتضت حكمة العليم الخبير أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة؛ ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن يريد الدنيا والجاه. ومنها: أن الله سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، ولكل حالة عبودية، فكما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، فكذلك لا تستقيم القلوب إلا بالسراء والضراء. والله بذلك يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، ويتخذ منهم شهداء، ويعلم المؤمنين من الكافرين، والصادقين من الكاذبين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 140 - 142]. وبمقدار التضحية للدين تكون نصرة الله، فلو كان لدينا ماء في مكان عال وفتحناه على الآخر، فإنه يملأ الخزان في ساعة، أما لو فتحناه قليلاً فيعبئ الخزان في يومين، فليس الخلل في حجم الخزان، إنما في مقدار الفتحة. وهكذا ولله المثل الأعلى نصرة الله تنزل بمقدار التضحية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ضحوا بخمسة أشياء: بأموالهم .. وأنفسهم .. وأوقاتهم .. وشهواتهم .. وديارهم. ومع ذلك لم تنزل عليهم نصرة الله إلا بعد خمس عشرة سنة، ونحن الآن نضحي قليلاً ونطلب النصرة كالصحابة، بل نطلبها فوراً. فإذا أردنا الخزان يمتلئ نزيد الفتحة قليلاً. وهكذا إذا أردنا الإسلام ينتشر نضحي قليلاً بالنفس والمال والوقت، وإذا أردنا أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - تظهر في العالم نضحي بكل ما نملك، وإذا أردنا الصفات والأخلاق العالية تنتشر نضحي كما ضحى الأنبياء والصحابة من أجل إعلاء كلمة الله: عبادة بإخلاص .. ودعوة باللسان .. وجهاد بالسنان .. ورحمة وشفقة على الخلق .. واستغفار وبكاء .. وتضحية بالأنفس والأموال .. والأوقات والشهوات، والمناصب والديار .. مع الاستقامة على أوامر الله، والدعاء والبكاء. وموسى - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أحوال فرعون، وشدة بطشه وإسرافه، وشدة أذاه لبني إسرائيل، أمره الله أن يصلح نفسه ومن معه بامتثال أوامر الله، والاستقامة عليها، ثم تأتي النصرة من الله بعد ذلك، كما قال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} [يونس: 87].

فلما رأى موسى القسوة والإعراض من فرعون وملئه دعا عليهم، وأمَّن هارون: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} [يونس: 88]. فأجاب الله دعوتهما، وأمرهما بالاستقامة على الدين، والاستمرار في الدعوة كما قال سبحانه: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)} [يونس: 89]. وإذا اجتمع في المؤمنين المجاهدين في سبيل الله سبع صفات، حصل لهم النصر، وإن قلوا وكثر عدوهم، وهذه الصفات هي: الثبات .. ذكر الله .. طاعة الله ورسوله .. عدم الاختلاف والتنازع .. الصبر .. التواضع .. الإخلاص .. دعوة الناس إلى سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} [الأنفال: 45 - 47]. فهذه سبع صفات يحصل بها النصر، ومتى فُقدت أو فُقد بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها. وإذا اجتمعت قَوَّى بعضها بعضاً، وصار لها أثر عظيم في النصر كما حصل في غزوة بدر وغيرها. ولما اجتمعت هذه الصفات في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم، وفتحوا الدنيا، ودانت لهم البلاد والعباد. ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت، وضعف الإيمان، آل الأمر إلى ما آل من الذلة والهوان، فنسأله المغفرة، والله المستعان، وعليه التكلان. فهذه عوامل النصر على الأعداء إلى يوم القيامة.

فأما الثبات عند لقاء العدو فهو بدء الطريق إلى النصر، فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه، وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار. فلا يليق بالمؤمنين أن يفروا وقد وعدهم الله إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: 52]. فالثبات في ميدان القتال أمام الكفار فيه نصرة لدين الله، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهاب للكافرين، والفرار من غير عذر من أكبر الكبائر يوجب غضب الله، ودخول النار، لما فيه من خذلان الدين، وتقوية قلوب الكافرين، وإحباط نفوس المؤمنين، ولهذا حذر الله منه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15، 16]. وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء، فهو التوجيه الدائم للمؤمن، وهو يؤدي وظائف شتى في ميدان الجهاد، إنه الاتصال بالقوي الذي لا يُغلب، والقدير الذي لا يعجزه شيء، والثقة بالناصر الذي ينصر أولياءه. وهو في الوقت ذاته استحضار لحقيقة المعركة وبواعثها، فهي معركة لله لتقرير ألوهية الله، وتحطيم الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية، فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا، لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي، وأما طاعة الله ورسوله فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء، فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى هو الذي يوجه الآراء والأفكار.

فإذا استسلم الناس لله ورسوله سلموا من أعداء الله ورسوله، وإذا عصى الناس الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نزلت بهم الهزيمة، وحلت بهم العقوبة. فالطاعة من أقوى أسلحة النصر على الأعداء، وهي طاعة قلبية عميقة سببها الإيمان بالله، والغيرة لدينه، لا مجرد الطاعة القسرية في الجيوش التي لا تجاهد لله. ولما كانت الطاعة لله ورسوله تامة في بدر نصر الله المؤمنين وخذل أعداءهم، ولما نقصت الطاعة في أُحد وعصى الرماة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت النصرة، ونزل بالمسلمين ما نزل، فالنصر نزل في أول القتال، ثم لما حصل من بعض المسلمين ما حصل ارتفعت النصرة كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. وأما الصبر فهو الصفة التي لا بدَّ منها لخوض المعركة مع العدو الداخلي والعدو الخارجي، في ميدان النفس وفي ميدان القتال، كما قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]. وهذه المعية من الله، هي الضمان للصابرين بالفوز والفلاح. أما الخروج للقتال بطراً ورئاء الناس فقد خرجت به قريش، بفخرها وكبريائها تحاد الله ورسوله في بدر، فعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة، والانكسار والهزيمة، فنهى الله المؤمنين أن يخرجوا كذلك بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} [الأنفال: 47]. أما المؤمنون فيخرجون للجهاد في سبيل الله متواضعين لله، مخلصين أعمالهم له وحده، متوكلين عليه وحده .. لتقرير ألوهية الله سبحانه في حياة البشر ..

وتقرير عبودية العباد لله وحده .. وتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله .. وتستعبد الناس .. وتحرير كل إنسان من العبودية لغير الله .. وحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم. فهذه مقاصد الإسلام من خروج المسلمين للجهاد في سبيل الله، لا يخرجون للاستعلاء على العباد واستعبادهم، والتبطر بنعمة القوة، باستخدامها هذا الاستخدام المنكر، والفخر والكبر والخيلاء. فليس للإسلام هدف من النصر إلا تحقيق طاعة الله ورسوله .. وإقامة منهج الله في الحياة .. وإعلاء كلمته في الأرض .. ورفع الظلم عن الخلق .. واقتلاع جذور الفساد في الأرض كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193]. إن بروز قوة الإسلام ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ. وإن الدعوة إلى الإسلام لتسير بقوة في الأرض حين تكون الأمة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب. على أن الله سبحانه وهو يرى الجماعة المسلمة لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة إلا وعداً واحداً وهو الجنة، ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً وهو الصبر. فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب آتاها الله النصر والعزة والغلب والتمكين في الدنيا مع الجنة في الآخرة كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. وقد وعد الله عباده المؤمنين أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوسهم، وتمثلت في واقع حياتهم عبادة لله في جميع أحوالهم، منهجاً للحياة، ونظاماً للحكم، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة، فسيجعل الله لهم العز والنصر والتمكين، ويدفع عنهم تسلط الكفار، فسنته سبحانه نصر أوليائه، وخذلان

أعدائه، ودفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ» متفق عليه (¬1). ولا تلحق الهزيمة بالمؤمنين إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان، إما في الشعور، وإما في العمل، ومن الإيمان أخذ العدة، وإعداد القوة في كل حين، بنية الجهاد في سبيل الله. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء، وألا نطلب العزة إلا من الله، فالإيمان صلة بالله القوي العزيز، والكفر انقطاع عن تلك القوة، وانعزال عنها. ولن تستطيع قوة محدودة مقطوعة أن تغلب قوة موصولة بمن يملك بقوته هذا الكون جميعاً. والفرق بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان: أن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ذات أثر في النفس، وفيما يصدر عنها من القول والعمل، وهي كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المقطوعة عن الله أن تقهرها، ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر، فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها، وعملت في مجالها؛ لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء. إن انتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى، حين يرون المسلمين ينصرون، ويرون أن قوةً غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً. وعندئذ ينال المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين بأيديهم، وينال ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).

الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته، بهؤلاء المهتدين التائبين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة: 14، 15]. والله جلَّ جلاله كتب النصر لأوليائه إذا توفرت فيهم شروط النصر، ولكن قد يبتلى أهل الحق، وينجو أهل الباطل، وقد تكون للباطل صولة تكون فتنة لقلوب المؤمنين، وهزة لمعرفة مقدار إيمانهم. وقد وقع بالفعل في غزوة أُحد، حتى قال المسلمون: أنى هذا؟ .. أي فما وجه هذا؟ فقال سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)} [آل عمران: 165، 166]. إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك .. وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان .. ليس معناه أن الله تاركه .. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب .. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً. وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك .. وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان .. ليس معناه أن الله مجافيه أو ناسيه .. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه .. كلا. إنما هي حكمة وتدبير من العزيز الحكيم، يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق. ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت .. وينقي الصف من المنافقين المندسين. وهؤلاء الكفار كان الإيمان في متناول أيديهم، وكان مبذولاً لهم فباعوه واشتروا به الكفر على علم وعن بينة.

ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظاً من ثواب الآخرة: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} [آل عمران: 176]. فالله ناصر دينه، ومؤيد أهله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبال بهم، ولا تحفل بهم، وهم إنما يضرون أنفسهم بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الآخرة، ومن هوانهم على الله وسقوطهم من عينه، لم يجعل لهم حظاً في الدنيا بالإيمان، ولا حظاً في الآخرة بالثواب، فخذلهم ولم يوفقهم لِمَا وفق إليه أولياءه؛ لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى، ولا قابلين للرشاد. والذين اختاروا الكفر على الإيمان لن يضروا الله شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، والله غني عنهم، وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم، وأعد له ممن ارتضاه لنصرته من الرجال الصادقين: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)} [آل عمران: 177]. والعيون قد ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة، والمال والجاه، مما يوقع الفتنة في قلوب هؤلاء .. وقلوب الناس من حولهم، مما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله سبحانه يرضى عن الشر والباطل فيملي له، ويرخي له العنان، أو يحسبون أن الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟. أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض بقوته، وليس هناك من قوة تغلبه. وهذا وَهْمٌ باطل، وظنٌّ بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك قطعاً، فإنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان الله يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه، إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة ..

وإنما هو الكيد المتين .. وإنما هو الاستدراج البعيد: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178]. ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً لخبث نفوسهم، فاشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه، وقدموا بأعمالهم السيئة إلى مساكنهم في النار. ولقد نصر الله رسله وأتباعهم وخذل أعداءهم، واستقرت جذور العقيدة في الأرض، وقام بناء الإيمان وظهر نوره في العالم على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمجاهدين: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. ولقد ذهبت عقائد الكفار والمشركين، وذهبت سطوتهم ودولتهم، وبقيت العقيدة التي جاء بها الرسل تسيطر على قلوب الناس وعقولهم. وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى، وأحسن وأنقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض. وكل المحاولات التي بذلت لمحو الإسلام الذي جاء به الرسل، وتغليب فكر غيره عليه، وكل كيد، وكل مكر، قد باء كل ذلك بالفشل، سواء في دار الإسلام، أو في الأرض التي نبع منها، وحقت كلمة الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين، ولدينه بالبقاء: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]. هذا بصفة عامة .. وهي كذلك متحققة في كل دعوة، يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة. إن هذه العقيدة غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، ومهما قامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية

والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة. وإنْ هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله رسله، والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. إنه الوعد بالنصر والغلبة والتمكين للمؤمنين، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة. وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان .. وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة التي ينزل عليها الماء، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء، وقد تبطئ ولكنها لا تخلَّف أبداً، وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر. وقد يُهزم جند الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة؛ لأن الله يعدهم لنصر في معركة أكبر، ليؤدي النصر ثماره في مجال أوسع، والله حكيم عليم. إن الإيمان كنز عظيم، وجوهر ثمين، إذا استقر في القلوب واستنارت به نشطت للعبادة، وهانت عليها التضحية. فإذا اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها، فإن الإيمان يستعلن في وجه الطغيان، لا يخشاه ولا يرجوه ولا يرهب وعيده، ولا يرغب في شيء مما في يده. فإذا قال الطغيان: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} [طه: 71]. قال الإيمان: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [طه: 72، 73]. والله مع المؤمنين ضد أعدائهم، فهو الناصر، وهو الحفيظ. فالكفار لما: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء: 68]. فماذا فعل الله به، وبهم، وبالنار؟. {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 69 - 71].

وما ذنب الرسل والدعاة إلى الله حتى يخرجهم الكفار من ديارهم؟. أو يكرهوهم على اتباع ملتهم؟. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]. فماذا قال الله لرسله؟، وماذا فعل بأعدائه؟. {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 13، 14]. وعندما بلغت المعركة بين الإيمان والطغيان في عالم القلب إلى هذا الحد العالي، تولت يد القدرة راية الحق لترفعها عالية، وتنكس راية الباطل بلا جهد من أهل الإيمان، فلم يتكلف أصحاب الإيمان سوى اتباع الحق، والسري ليلاً: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)} [طه: 77 - 79]. ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع، موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفرعون وجنوده يملكون القوة المادية كلها، فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلاً. هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة، فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده بأمر واحد، وبماء واحد، في آن واحد، ولكن تم ذلك بعد كمال الإيمان في القلب. وحين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، لم تنزل عليهم نصرة الله؛ لنقضهم عهد الله. ولكن لما استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى، واستعدوا لاحتمال التعذيب جهروا بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تحرج، ودون اتقاء للتعذيب، أيدهم الله بنصره، وأعلن النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح

والقلوب كما قال سبحانه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 61 - 68]. إنه بكمال الإيمان يكون كمال النصر، فليرتقب الدعاة النصر من الله بهذا الإيمان، ولو كانوا مجردين من عدة الأرض، والطغاة يملكون المال والجند والسلاح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]. والنصر قد يبطئ على المؤمنين أحياناً؛ لأن بُنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها المطلوب، ولم يتم بعدُ تمامها وكمالها، ولم تحشد بعدُ طاقتها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله. وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل إنما ينزل النصر بعد بذل كل الطاقة، وتفويض الأمر كله إلى الله. وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه .. أو حمية لذاتها .. أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها .. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده، وفي سبيله. وقد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً. وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيغه للناس

تماماً، ولم يقتنعوا بعدُ بفساده، وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى ينكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من أحد. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه. من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية، فهم أهل دينه، وحماة شريعته، والمجاهدون لإعلاء كلمته: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. وقد دعا نوح - صلى الله عليه وسلم - قومه إلى الإسلام، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكذبوه وما آمن معه إلا قليل، ولما لم يجد منفذاً إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة، وسخروا منه وآذوه، وأوحي إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، عندئذ توجه بالدعاء إلى ربه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} [القمر: 9 - 15]. إنه عندما يتجمد الأحياء على هذا النحو، وتقسوا قلوبهم إلى هذا الحد، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام في طريق الكمال المرسوم فتجدهم عقبة في الطريق،

عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات، وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي، والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح. ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية، وفي أول الطريق، فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من أول الطريق: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)} [المؤمنون: 27]. وهكذا شاءت إرادة الله، ومضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة، لتمضي الحياة في طريقها المرسوم، وأراد الله أن يكون العلاج هو الطوفان الذي يجتث كل شيء، ويجرف كل شيء، ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، وجعل الله الفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، وحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يصنع نوح الفلك بيده؛ لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه ليستحق المدد من ربه، فالمدد والنصر لا يأتي القاعدين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون على الانتظار والأماني. وجعل الله لنوح علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض من هؤلاء، وهي خروج الماء من التنور، ليسارع نوح فيحمل في السفينة بذور الحياة من كلٍ زوجين اثنين من أنواع الحيوان والطيور والنبات، وأهله إلا من سبق عليه القول منهم، وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله وسنته النافذة، وهي إهلاك المكذبين بآيات الله بالغرق الذي ابتلعهم. وأمر الله نوحاً ألا يجادل في أمر واحد، ولا يحاول إنقاذ أحد، فسنة الله ماضية لا تحابي أحداً، ولا تنحرف عن طريقها من أجل خاطر ولي ولا قريب. وتنفيذاً لما طلبه نوح - صلى الله عليه وسلم - من ربه جاء أمر الله بإغراق المكذبين ونصر المؤمنين: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ

الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 76، 77]. وإنها لنعمة كبرى أن ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه، فأمر الله نوحاً أن يشكر ربه على هذه النعمة، وأن يستهديه لسلوك الصراط المستقيم كما قال سبحانه: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)} [المؤمنون: 28]. وابتلاء الله لعباده أنواع وألوان: ابتلاء للصبر .. وابتلاء للشكر .. وابتلاء للأجر .. وابتلاء للتوجيه .. وابتلاء للتأديب .. وابتلاء للتمحيص .. وابتلاء للتقويم. وفي قصة نوح - صلى الله عليه وسلم - ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين. وسنة الله أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته، والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر. فحين بغى فرعون على بني إسرائيل، واستطال بجبروت الحكم والسلطان، وحين بغى قارون عليهم، واستطال بجبروت العلم والمال، فكانت النهاية واحدة. هذا خسف الله به وبداره الأرض، وذلك أخذه اليم هو وجنوده، فلما لم تكن هناك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة فحينذاك نصر الله أولياءه مباشرة فوضع حداً للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد. فدل هذا على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد، ويقف الخير عاجزاً حسيراً ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال، عندئذ تنزل نصرة الله صريحة متحدية بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حداً للشر والفساد، وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر، وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة، وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ

كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 38، 39]. إن هذا ما يجب أن يعلمه كل مجاهد في سبيل الله وكل داع إليه، وهو ما تجهله الكثرة المشركة الباغية الطاغية. ففرعون طغى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} [القصص: 39، 40]. أما قارون فقد جاء أمر الله مباشرة في إهلاكه، فخسف الله به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه، كما أغرق الله فرعون، فألقاه في اليم هو وجنوده: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81]. وهكذا انتهى سلطان العلم والمال مع البغي والبطر والاستكبار بالبوار، كما انتهى سلطان الحكم والجبروت والعلو في الأرض. هذا ابتلعه الماء، وذلك ابتلعته الأرض، وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين، فبعداً لقوم لا يؤمنون. فأخذ الله كل أمة من الأمم المكذبة بذنبها، وعاقبها على قدر جرمها كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. وما كان وما ينبغي وما يليق بالله تعالى أن يظلم أحداً؛ لكمال عدله، وغناه التام عن جميع الخلق، ولكن هؤلاء ظلموا أنفسهم فمنعوها حقها التي خلقها الله من أجله، فهي مخلوقة لعبادة الله وحده، وهؤلاء وضعوها في غير موضعها، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي عن الإيمان والطاعات، فضروها أعظم الضرر من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.

فهذه نصرة الله لأوليائه حين يتمحض الشر، ويقف الخير عاجزاً. أما حين يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي فإن الله جل جلاله ينصر أهل الإيمان، ويخذل أهل الطغيان، ويظهر قدرته، ولكن تحت ستار من الخلق كما قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: 14]. وقال سبحانه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: 17]. إن في هذا الكون إله واحد لا شريك له وهو الله وحده .. وفيه قوة واحدة هي قوة الله وحده .. وفيه قيمة واحدة للإنسان هي قيمة الإيمان بالله. فمن كان الله وحده هو إلهه ومعبوده فهو أسعد الناس في الدنيا والآخرة، ومن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو كان مجرداً من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى في الكون كله. فمن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلاً. ومن هنا تقعد قيمة الحكم والسلطان عن قيمة الإيمان والأعمال الصالحة، كما تقعد قيمة العلم والمال عن قيمة الإيمان والأعمال الصالحة: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20]. وقد جعل الله سبحانه انتصار الحق سنة كونية كخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، سنة لا تتخلف، قد تبطئ لحكمة يعلمها الله، وقد تأتي في موعدها حسب سنة الله.

والله تبارك وتعالى هو القوي العزيز وحده، وقوة الرب هي القوة، وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى به خذله الله به، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهنة واهية، فهي وما تحتمي به سواء كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} [العنكبوت: 41]. إنه لا بدَّ للبشر من معرفة حقيقة القوى في هذا الوجود، ليعرف الناس أين يتوجهون؟، وعلى من يتوكلون؟، ومن يعبدون؟. فلا تخدعهم قوة الحكم والسلطان، ويحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها. ولا تخدعهم قوة المال، فيحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس، وأقدار الحياة، فيسعون للحصول عليها، ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون، ولا تخدعهم قوة العلم الإنساني، فيحسبونها أصل القوة، وأصل سائر القوى التي يصول ويجول بها من يملكها. فلا تخدعهم هذه القوى الظاهرة، سواء كانت في أيدي الأفراد أو الجماعات أو الدول، فيدورون حولها ويتهافتون عليها كما يتهافت الفراش على النار. إن المؤمن لا بدَّ أن يعلم أن القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة والكبيرة، وتملكها وتوجهها، وتسخرها حيثما تريد كما تريد، إنما هي قوة الله وحده: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66]. ولا بدَّ كذلك أن يتيقن المؤمن أن الالتجاء إلى تلك القوى مهما كانت كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت. فالعنكبوت حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن، وليس هناك إلا حماية الله، وإلا ركنه القوي، فهو

سبحانه القوي، وكل قوة في العالم العلوي والعالم السفلي من قوته. وبهذه الحقيقة الإيمانية العظمى، والتي رسخت في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم كانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة والطغاة في الأرض، ودكت بها المعاقل والحصون. لقد استقرت هذه الحقيقة في كل نفس، وعمرت كل قلب مؤمن، قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل والإرهاب، إنها أضعف من العنكبوت وبيتها الواهن: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]. وإن المؤمنين عامة، والعلماء والدعاة والمجاهدين خاصة، الذين يتعرضون في كل وقت للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة وهم يواجهون القوى المختلفة من بين أيديهم ومن خلفهم: هذه تضربهم وتحاول أن تسحقهم .. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، والقوة كلها لله جميعاً: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]. والمؤمن دائماً يسأل ربه ألا يجعله فتنة للكفار، ويسأله مغفرة ذنوبه كما قال خليل الرحمن: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)} [الممتحنة: 5]. أي لا تسلط الكفار علينا فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم، وفتنة لنا بتسلطهم علينا. وهي شبهة كثيراً ما تحيك في الصدور حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات.

والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور. ثم يقول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: واغفر لنا، إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه، فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه، ولمن يأتي بعده: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]. والله سبحانه يطمئن رسله وأولياءه أنه سبحانه سيتولى حرب هؤلاء الكفار، ويحذر أعداءه وهم كالهباءة المنثورة التي لا تعني شيئاً أمام جبروت الجبار العظيم القهار قائلاً: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44، 45]. إن الجبار القهار يكشف عن خطة الحرب مع هذا المخلوق المعاند الهزيل، الضعيف الصغير. فالله سبحانه يملي لهؤلاء المغترين بالمال والبنين والجاه والسلطان، ويجعل هذه النعمة فخهم. فهذه سنة الله في الحرب بينه وبين أعدائه المخدوعين، فهو سبحانه يستدرجهم إلى العقوبة، ويمهلهم ويكيد لهم بما شاء. وبهذا وذلك يخلي الله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعه من المعركة بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، فهي معركته سبحانه، وهي حربه مع أعدائه التي يتولاها بذاته وتدبيره. والأمر كذلك في حقيقته مهما بدا أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين دوراً في هذه الحرب أصلاً، إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه. فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل، وهو في الحالين فعال لما يريد، وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد، فنعم المولى ونعم النصير.

وهذا النص نزل والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء، فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين، والفزع والخوف للمغترين بالقوة والجاه، والمال والبنين. ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة، وشاء الله أن يكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة. ولكنه سبحانه هنالك أكد لهم كذلك ذلك القول الذي قاله لهم، وهم في مكة قلة مستضعفون. فقال لهم وهم منتصرون في بدر: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: 17]. وقال بعد أن أمدهم بالملائكة في بدر: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 126]. وذلك كله ليقر في قلوب المؤمنين هذه الحقيقة، حقيقة أن المعركة معركته سبحانه، وأنه حين يجعل للمؤمنين فيها دوراً، فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسناً، وليكتب لهم بهذا البلاء أجراً. أما حقيقة الحرب فهو سبحانه الذي يتولاها، وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبه، وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم، وهم حين يخوضونها أداة لقدرته، ليست هي الأداة الوحيدة في يده. وهذه حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن في حالتي قوته وضعفه على السواء، ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله. فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الإيمان والكفر، والحق والباطل، إنما هو الله الذي يكفل له النصر بعد قيام العبد بأسبابه التي أمره الله بها. وضعف العبد لا يهزمه كذلك؛ لأن قوة الله من ورائه، وهي التي تتولى المعركة، وتكفل له النصر، ولكن الله يملي ويستدرج، ويقدر الأمور في مواقيتها وفق

مشيئته وحكمته، ووفق عدله ورحمته. كما أنها حقيقة تفزع قلب العبد الكافر وتخيفه سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة، فليس المؤمن هو الذي ينازله ويحاربه، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته. فما هذا البائس المتعوس، وما هذه الهباءة المنثورة أمام قدرة الله وجبروته؟. إن الله يملي له ويستدرجه من حيث لا يعلم، فهو في الفخ الرهيب المفزع المخيف، ولو كان في أوج قوته وعدته، فهذه القوة هي ذاتها الفخ، وهذه العدة هي ذاتها المصيدة: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44، 45]. أما متى يكون النصر؟ .. ومتى تتوفر أسبابه؟ .. فذلك في علم الله المكنون. فعلينا الدعاء، وعلى الله الإجابة .. وعلينا الجهاد، وعلى الله النصر .. وعلينا العمل، وعلى الله الأجر .. وعلينا الدعوة، وعلى الله الهداية. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. وأمام هذه الحقيقة يوجهنا الله إلى الصبر والتقوى، الصبر على الدعوة، والصبر على الجهاد، والصبر على أوامر الله، والصبر على أقدار الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على التواءات النفوس، والصبر على الأذى والتكذيب .. والصبر على السخرية والاستهزاء. الصبر في هذا كله حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد، فيحصل للمؤمنين الفوز والفلاح: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. وقد وعد الله المؤمنين إذا نصروا الله بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهاد أعدائه أن ينصرهم على عدوهم ويثبت أقدامهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 7 - 9].

فعلى المؤمنين بالله أن يقوموا بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، والدعوة إليه، وجهاد من عانده ونابذه بالأنفس والأموال كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} [الصف: 14]. فيا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كونوا أنصار الله، ودعاة دينه، ينصركم على عدوكم كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم كما أظهر من كان قبلكم. إن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى ثلاثة أشياء: التوحيد .. والإخلاص .. والنصيحة. وضحوا بكل ما يملكون من أجل الدين تضحية كاملة، فالاستقامة الكاملة والتضحية الكاملة معها نصرة كاملة من الله، وذلك خاص بالأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وهي سنة جارية لا تتبدل. فنصرة الله دائماً إلى يوم القيامة لأهل الإيمان والتقوى، سواء كان نبياً أو خليفة أو من سائر الناس، فرداً أو جماعة أو أمة. وبعد بذل كل شيء، وكمال الاستقامة، وكمال التضحية، الله يفصل بأمرين: نصر أوليائه المؤمنين .. وخذلان أعدائه الكافرين. فنوح - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ونصحهم بطاعة الله ورسوله، فلما لم يستجيبوا ولم يؤمنوا جاء أمر الله بنجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)} [هود: 40]. وهود - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه عاداً كذلك، ولما لم يستجيبوا له جاء أمر الله بإهلاكهم كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ

عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 58 - 60]. وصالح - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا له أهلكهم الله كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)} [هود: 66، 67]. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى الله فأبوا وأشعلوا النار لإحراقه فأنجاه الله من النار، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 68 - 71]. ولوط - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا رفع الله ديارهم إلى السماء وقلبها عليهم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83]. وشعيب - صلى الله عليه وسلم - قال لقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)} [هود: 84]. ولما لم يستجيبوا له وسخروا منه نزل بهم أمر الله كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} [هود: 94، 95]. وموسى - صلى الله عليه وسلم - دعا فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب أغرقه الله وقومه في البحر كما قال سبحانه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ

فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 61 - 66]. وعيسى - صلى الله عليه وسلم - دعا بني إسرائيل إلى الله والاستقامة على الدين، فلما لم يستجيبوا له أظهر الله من آمن به على من خالفه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} [الصف: 14]. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه قريشاً إلى الله فلم يؤمن منهم إلا القليل، ولما أعرضوا عنه وسبوه، ثم آذوه وأرادوا قتله حفظه الله وهاجر إلى المدينة فأعز الله دينه ورسوله والمؤمنين، ثم أظهره الله على جميع أعدائه ودخل مكة فاتحاً معه المهاجرون والأنصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وانشغل الناس بموته، ومن يكون خليفة بعده، وقف جهد الدعوة فنقص الدين، وحصلت في الإسلام خمس مصائب: اشرأب النفاق .. ومنع قوم الزكاة .. وترك قوم الصلاة .. وارتد كثير من قبائل العرب .. واجتمع الأعداء لغزو المدينة. ونزل بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها. ولكن لكمال إيمانه ويقينه على ربه وكمال تضحيته ثبته الله، فوقف لهذه الفتن العظام موقف المؤمن الواثق من نصر الله. فأمر الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - بإنفاذ جيش أسامة - رضي الله عنه -، على الرغم من مخالفته الأحوال الظاهرة. وأمر جميع الصحابة رضي الله عنهم أن يخرجوا لحرب المرتدين ومانعي الزكاة، وإقناعهم بالرجوع إلى دينهم، فخرجوا جميعاً ولم يبق في المدينة إلا

الأطفال، والنساء، وأمهات المؤمنين. إن حراسة أمهات المؤمنين مهمة، لكن حفظ الدين من النقصان أهم وأعظم. وشرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - لجهاد المرتدين فعقد الألوية، وجهز الجيوش إلى كل ناحية، وخرج الصحابة لإكمال ما نقص من الدين بسبب الردة، وبعد ثلاثة أشهر تم القضاء على هذه الفتن، ورجع الناس إلى الدين عابدين لله، ممتثلين لأوامره، مجاهدين في سبيل الله، وبعد توبتهم ورجوعهم إلى حظيرة الإسلام جاءت في نفوسهم الرغبة في الجهاد في سبيل الله؛ تكفيراً لما سلف منهم من المعاصي، فأرسلهم أبو بكر فوراً لفتح العراق والشام، فسارعوا لامتثال أمره، وكانت في صحائفهم مع بقية الصحابة جميع فتوحات العراق والشام وخراسان والسند وغيرها من بلاد ما وراء النهر. فبسبب تضحية أبي بكر - رضي الله عنه - وكمال إيمانه أكمل الله به ما نقص من الدين، ورد به المرتدين إلى المؤمنين، وجعلهم من المجاهدين في سبيل الله. وهكذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكمال إيمانه وتقواه، وكمال تضحيته فتح الله به الفتوح، ومَصَّر الأمصار، وجعله سبباً للهداية وإقامة العدل. وهكذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله بسبب استقامته، وصدق تضحيته، ورغبته في أن يطاع الله، أصلح الله به أحوال الأمة، فعم الأمن في البلاد، واستقام الناس، واستغنى الفقراء والأغنياء، وامتلأت الخزائن بالأموال من صدقة وزكاة حتى لم يجد من يأخذها. بل أصلح الله به ما بين السباع والبهائم، وتمت النصرة الكاملة مع التضحية الكاملة مع أن حكمه كان سنتين تقريباً، فلما مات تغيرت أحوال الأمة، وعدت السباع على البهائم. وكل رجل ذو همة يحيي الله به أمة. والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ضحى بنفسه من أجل الدين، وإحياء السنة، فحفظه الله، ونشر به السنة، وقمع البدعة.

وهكذا الغلام الذي تعلم الإيمان على يد الراهب، ثم ضحى بنفسه من أجل الدين تضحية كاملة، فجعله الله سبباً لهداية الناس، وترك دين الملك الضال، وبكمال تضحية من آمن به وأطاعه أزال الله الباطل وأحق الحق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ، فَأعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أعْلَمُ آلسَّاحِرُ أفْضَلُ أمِ الرَّاهِبُ أفْضَلُ؟ فَأخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ! إِنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأتَى الرَّاهِبَ فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أيْ بُنَيَّ، أنْتَ الْيَوْمَ أفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أمْرِكَ مَا أرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أجْمَعُ، إِنْ أنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لا أشْفِي أحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ، فَشَفَاهُ اللهُ، فَأتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلامِ، فَجِيءَ بِالْغُلامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أيْ بُنَيَّ! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لا أشْفِي أحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ،

فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَأتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أرَأيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ! نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ فَأمَرَ بِالأخْدُودِ فِي أفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأحْمُوهُ فِيهَا، أوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أمَّهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» أخرجه مسلم (¬1). فحتى تحصل الأمة على النصرة والعزة لا بدَّ من التضحية الكاملة لتحصل النصرة للأمة، والهداية للبشرية. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (3005).

والشيء الذي لا يكمل لا يثمر، والذي لا يثمر لا خير فيه، فالشجرة لا تثمر إلا بعد كمالها، والبنت لا تنكح وهي بنت سنتين. فإذا كمل إيمان العبد كانت معه نصرة الله. والعابد والقاعد قد يُقتل من قِبَل الكفار، ولكن الداعي لا يُقتل حتى يُجري الله على يديه شيئاً يبقى بعده كما آمن الناس بعد مقتل الغلام، فهو وإن مات فصحائفه تملأ بحسنات هؤلاء. ونصرة الله تكون لمن نصر الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]. والمؤمنون ينصرون الله بأمرين: الأول: أن تتجرد نفوسهم لله وحده، فلا تشرك به شيئاً ظاهراً أو خفياً، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها وشهواتها، وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها فهذا نصر الله في ذوات النفوس. الثاني: أن لله عزَّ وجلَّ شريعة ومنهاجاً للحياة، ونصر الله يتحقق بنصر شريعته ومنهاجه، وتحكيم أمره في كل شيء. فهذا نصر الله في واقع الحياة. وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده، وإنما كانت كذلك معركة في ميدان النفس البشرية. والمعارك الحربية في الإسلام ليست معركة أسلحة وخيل ورجال فحسب، فتلك معركة جزئية، إنما المعركة الكبرى في عالم القلب، عالم الإيمان، عالم السلوك، عالم الأخلاق، لتتعلق القلوب والنفوس بالله وحده، وتتلقى منه ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتُؤْثر طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل شيء مهما كان. والنفوس لا تنتصر في المعارك الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية

والأخلاقية، وتُؤْثر طاعة ربها على كل ما سواه. والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أُحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة مع الأنبياء هم الذين بدؤوا المعركة بالدعاء والاستغفار من الذنوب، وصدق اللجوء إلى الله وطاعته فتلك عُدَّة النصر. وقدر الله وراء أفعال البشر، ففي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في البداية، وما أن ضعف المسلمون وتنازعوا وعصوا وانصرفوا لجمع الغنائم إلا وصرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان فلاذوا بالفرار، ووقع كل هذا مرتباً على ما صدر منهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]. وما حدث لهم مدبَّر من الله ليبتليهم لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف فصرفهم عنهم ليبتليهم، ولقد عفا الله عن المؤمنين لضعفهم وعدم إصرارهم على الخطيئة، وحسن نيتهم، وثباتهم على دينهم، والله ذو فضل على المؤمنين. والصحابة رضي الله عنهم وإن كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا أنهم بشر فيهم الضعف والنقص، ولذلك حصل منهم ما حصل في أُُحد؛ لأنهم في دور التربية والتكوين، وفي أوائل الطريق، ولكنهم جادون في أخذ هذا الأمر، مسلمون أمرهم لله مولاهم. ومن ثم رحمهم الله وعفا عنهم ولم يطردهم، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر؛ تربية لهم. فعاد إليهم الإيمان في اليوم الثاني، وخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد

متعقبين كفار مكة فزادهم إيماناً كما قال سبحانه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران: 172 - 174]. ولما كبروا واكتملت تربيتهم تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار كما في مؤاخذة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للنفر الثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك، فالقوم في أُحد غير القوم في تبوك، حيث بلغت فيهم التربية شأواً بعيداً. وهم مع ذلك فيهم الضعف والنقص والخطأ والنسيان، ولكن كان فيهم دائماً الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله. والله عزَّ وجلَّ في مواطن التربية والابتلاء لا يعد المؤمنين بالنصر في الدنيا .. ولا يعدهم بقهر الأعداء .. ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم بشيء من الأشياء في هذه الحياة، إنما يعدهم شيئاً واحداً هو الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وهذا هو الأصل في الدعوة، التجرد المطلق من كل هدف، ومن كل غاية، ومن كل مطمع، فهذه العقيدة عطاء ووفاء وأداء فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض. ثم يقع النصر والتمكين والعزة والغنائم، ولكن كل هذا ليس داخلاً في البيعة، ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا، ليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء والابتلاء. على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة، وعلى هذا كان البيع والشراء، وعلى هذا يسير الدعاة إلى الله إلى يوم القيامة. فإذا كانت قلوب المؤمنين متوجهة إلى الله .. وأجسادهم مزينة بسنن رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - .. وفعلوا ما أمروا به من الأسباب .. جاءتهم نصرة الله الغيبية. فالصحابة رضي الله عنهم في بدر نصرهم الله مع أنهم قلة أذلة، لا أسباب معهم تذكر؛ لأن قلوبهم متوجهة إلى الله بكمال الإيمان والتقوى. وفي حنين مع كثرتهم هزمهم الله وسلط عليهم الأعداء؛ لأن قلوب بعضهم متوجهة إلى الأسباب حين أُعجبوا بكثرتهم .. ففي بدر اتباع كامل للدين، فجاء النصر كاملاً، وفي حنين اتباع ناقص، وبسببه ارتفعت النصرة، ثم جاء الاتباع، ثم جاء النصر كاملاً. كما قال سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25، 26]. والنصر له أسباب .. والهزيمة لها أسباب .. والعزة لها أسباب .. والذلة لها أسباب .. والنجاة لها أسباب .. والهلاك له أسباب. فالنصر الكامل .. والعزة الكاملة .. والنجاة الكاملة .. تكون بالإيمان الكامل .. والاتباع الكامل .. والتضحية الكاملة كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. ومدار ذلك كله على الصبر واليقين. والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة. وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه، بريئاً من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف

النصرة بحسب ما قام به من ذلك. فتجريد التوحيد، وصدق اليقين، وكمال الصبر، إذا مَنَّ الله بها على عبده فلا يقوم له شيء البتة، وهو مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء؛ لأن الله معه، وقد تكفل بنصره، والتمكين له، ومن قام لله حتى أوذي في الله فعليه الصبر ولا ينبغي له الانتقام كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]. اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين. اللهم .. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147].

15 - فقه الخلافة

15 - فقه الخلافة قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]. الله تبارك وتعالى هو الملك، والملك الحق هو الذي يملك الكون كله خلقاً وتدبيراً، فهو الذي يخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويعز ويذل. أنزل سبحانه الثقلين الإنس والجن إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، وأٌنزلوا كذلك إلى دار يكون إيمانهم فيها تاماً، فإن الإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك. وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في دار النعيم. والله سبحانه قضى بحكمته أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وله في ذلك حكم وغايات حميدة. فلم يكن بدٌّ من إخراجه من الجنة إلى دار قَدَّر سكناهم فيها قبل أن يخلقه، وكان ذلك التقدير والخروج بأسباب وحكم. فمن أسبابه النهي عن الأكل من تلك الشجرة، وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل، وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية. وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة ترتبت على خروجه من الجنة. ثم ترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر، ومن تلك

الغايات عَودهِ إليها على أكمل الوجوه. فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السموات والأرض، وأهل الدنيا والآخرة، فما خلق الله ذلك باطلاً، ولا دبره عبثاً كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. ثم أظهر الله عزَّ وجلَّ من علمه وحكمته ما خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعلمونه: فجعل سبحانه من نسل هذا الخليفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وأحبائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائماً وقاعداً وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء. يعبده سبحانه مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره والتقرب إليه، والجهاد في سبيله. فعبادة الملائكة بلا معارض ولا ممانع، وعبادة البشر مع المعارض والممانع. وأراد الله سبحانه كذلك أن يظهر للملائكة ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر وهو إبليس. فذلك الخير وذلك الشر كامن في النفوس لا يعلمونهما، فلا بد من إخراج ذلك وإبرازه، لكي تُعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به. والله عزَّ وجلَّ لما خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وذريته على كثير ممن خلق تفضيلاً، جعل عبوديتهم أفضل وأكمل من عبودية غيرهم، فكانت العبودية أفضل أحوالهم. ولما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا تحصل إلا بها، كان من أعظم الحكمة أن أُخرجوا إلى دار

تجري عليهم فيها أحكام العبودية وموجباتها. فكان إخراجهم من الجنة تكميلاً لهم، وإتماماً لنعمته عليهم، مع ما في ذلك من تحقيق محبوبات الرب تعالى: فإنه سبحانه يحب إجابة الدعوات .. وتفريج الكربات .. وإغاثة اللهفات .. ومغفرة الزلات .. وتكفير السيئات .. ودفع البليات .. وإعزاز من يستحق العز .. وإذلال من يستحق الذل .. ونصر المظلوم .. وجبر الكسير .. ورفع خلقه على بعض .. وجعلهم درجات .. ليُعرف قدر فضله وتخصيصه من شاء. فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار تحصل فيها تلك المحبوبات، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها كالذنب الذي يصلح بعده الاستغفار، والتوبة التي يحبها الله. لقد استخلف الله آدم وذريته في الأرض لعمارتها وإصلاحها، واستخدام الكنوز والطاقات المودعة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة فيها، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله. وقد وضع الله للبشر منهجاً متكاملاً يعملون على وفقه في هذه الأرض، منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصَّل الله هذا المنهج. وفي هذا المنهج ليست عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بقلب الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة .. وقد يغلب عليها همج وغزاة .. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً، ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي لعباد الله

الصالحين، الذين يجمعون في حياتهم بين الإيمان، والعمل الصالح، فلا يفترق في كيانهم ولا في حياتهم هذان العنصران، وهذه سنة الله في وراثة الأرض: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 105، 106]. وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أي أمة من الأمم، فهي الوارثة للأرض في أي مكان وفي أي زمان، ولكن حين يفترق هذان الأمران، فالميزان يتأرجح، والحياة تختل. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان. وجدير بمن كان شأنه أن ينتهي ويمضي، لا يخلد ولا يبقى، ومن سيصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وفعل، من كان هذا شأنه جدير به أن يحسن ثواءه القليل، ويترك وراءه الذكر الجميل، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير. فلن يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} [فاطر: 39]. والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة للعبد إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي كرمه الله، ونفخ فيه من روحه، فأودع في روحه الشوق إلى تحقيق كمال العبودية لربه في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض، لا لتلهيه عن ذكر الله، والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ

أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. فمن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه ذلك عن ذكر الله، فهو الخاسر حقاً، وأول ما يخسره هو هذه السمة، سمة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه في الأرض، فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنساناً. ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء مهما يملك من مال ومن أولاد. وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة، لكنها خلافة مقيدة محددة بالتلقي عن الله، وطاعته وإخلاص العبادة له. كما بشر الله تعالى داود بقوله: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]. وأمره بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. ونهاه بقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وأنذره بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. ثم هي خلافة مسئولة كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 6، 7]. والمسؤولية تشمل الصغير والكبير كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». قال: وَحَسِبْتُ أنْ قَدْ قال: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أبِيه وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه (¬1). وما أعظم عناية الله بالإنسان، وما أحسن احتفاءه به، وما أعظم إكرامه له، وإحسانه إليه، وتشريفه على ما سواه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (893)، واللفظ له، ومسلم برقم (1829).

فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وهي نعم لا تعد ولا تحصى، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وفضله على كثير من خلقه، وأسكنه الأرض: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. لم يخلق الله الإنسان عبثاً وسدى .. لا أمر ولا نهي .. يعيش كيف شاء .. ويفعل كل ما يشاء .. كلا بل عليه واجبات .. وله حقوق .. وأمامه حساب وعقاب وثواب: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. فما هي واجباته؟ .. وما هي وظيفته؟ .. وما المطلوب منه؟. لقد خلق الله الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وخلقه ليكون خليفة في الأرض ينفذ أوامر الله حسب مرضاته كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]. وقد جمع الله بين الغايتين الاستخلاف والعبادة في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. وشأن الخلفاء أن يعمروا الأرض لا أن يخربوها .. وأن يصلحوها لا أن يفسدوها .. وأن يجعلوها وسيلة للبناء وفعل الخير، لا سبباً للفساد والبغي كما قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ

الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 77]. وخلقه ليكون داعياً إلى الله كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. وخلقه ليكون معلماً للبشرية أوامر ربها، وبيان ما يحبه الله ويرضاه، وبيان ما يكرهه ويسخطه كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وخلقه ليكون صالحاً ومصلحاً لغيره كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وخلقه ليكون ملكاً يتحلى بأحسن الصفات، وأحسن الأقوال، وأحسن الأعمال، ويؤدي أعظم الوظائف، وأعطاه أحسن المناصب في الدنيا، وأفضل المنازل في الآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 30 - 33]. ولا بدَّ لهؤلاء الخلفاء في الأرض من خليفة يحكم بينهم، ويسعى في مصالح دينهم ودنياهم، ويرعى شئونهم، ويقضي حوائجهم. وللخليفة على الأمة حقوق، وللأمة على الخليفة حقوق، ولو أن الأمة إذا ابتليت من السلطان بشيء صبروا واستقاموا ودعوا الله ونصحوا لم يلبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فتحصل الفرقة والفتنة، وتسفك الدماء، ويأكل بعضهم بعضاً. فبالإيمان والصبر والتقوى تنزل نصرة الله، ويحصل للمستضعفين والمظلومين التمكين في الأرض وتدمير أعدائهم كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ

الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} [الأعراف: 137]. فشأن الخلفاء الراشدين أربعة أمور: إقامة الحق .. والعمل به .. والدعوة إليه .. والدفاع عنه. أما من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين، وأهل الشهوات، وأصحاب الرياسات، الذين لا غاية لهم وراءها. بل هو فهم إقامة رياستهم، وتحقيق شهواتهم بأي طريق كان، من حق أو باطل، أو عدل أو ظلم، أو رحمة أو قسوة. فهؤلاء إذا جاء الحق معارضاً في طريق شهواتهم ورياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، وحاربوه بأموالهم وألسنتهم، وذبحوه بأيديهم. فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل .. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق .. وحادوا عنه إلى طريق أخرى. وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة والخطبة، وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ. وإن جاء الحق ناصراً لهم وكان في مصلحتهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق، بل لموافقته أغراضهم وأهواءهم، وانتصارهم به. فما أظلم هؤلاء .. وما أجهلهم بربهم ودينه وشرعه، وما أولئك بالمؤمنين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 48 - 51]. وهؤلاء هم أعظم الناس ندامة وتحسراً إذا حق الحق وبطل الباطل، ويظهر هذا في الدنيا .. ثم يقوى عند رحيلهم منها والقدوم على الله .. ثم يشتد ظهوره وتحققه في البرزخ .. وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء إذا فاز المتقون،

وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين. فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذر، يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيراً وتصغيراً، كما صغروا أمر الله، وحقروا عباده في الدنيا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَال» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). والإمامة في الدين من الرتب العالية، بل هي أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين، ولذلك كان جزاؤه عليها الغرف العالية في الجنة، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)} [الفرقان: 74، 75]. فالناصح لله .. المعظم له .. المحب له .. يحب أن يطاع ربه فلا يعصى .. وأن تكون كلمته هي العليا .. وأن يكون الدين كله لله .. وأن يكون العباد ممتثلين أوامره .. مجتنبين نواهيه، مسلمين له. فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين الذين جعلهم الله أئمة في الدين، لصبرهم وكمال يقينهم كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. ويجب على ولي الأمر أن يتحلى بمكارم الأخلاق، فيعامل الخلق بحسن الخلق، ويتقي شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ويتقي شر الشياطين بالاستعاذة منهم. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (6677). وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2045).

ولولي الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال: فإنه لا بدَّ له من حق عليهم يلزمهم القيام به، ومن أمر يأمرهم به .. ولا بدَّ من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه. فأمر أن يأخذ من الحق الذي له عليهم ما سمحت به نفوسهم وسهل عليهم بذله، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة. وأمر أن يأمرهم بالعرف، وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة، وتقر بحسنه ونفعه من أمور الدين والدنيا. وأمر أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله، فبذلك يكتفى شرهم. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 199، 200]. والشياطين على نوعين: نوع يُرى عياناً وهو شيطان الإنس .. ونوع لا يُرى وهو شيطان الجن. ولهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يكتفى من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو والدفع بالتي هي أحسن، وأن يكتفى من شر شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه، كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 34، 36]. والله سبحانه يهب الإمامة لمن يستحقها بالإيمان والعمل الصالح، وليست وراثة أصلاب وأنساب، ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم. إنْ هي إلا دعوى الجاهلية إذا كانت عارية من الإيمان الذي يحقق الأمن والعدالة والرحمة في جميع الأمة.

وكل ظالم سواء ظلم نفسه بالشرك، أو ظلم الناس بالبغي فهو ممنوع من الإمامة، والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة .. وإمامة الخلافة .. وإمامة الصلاة .. وإمامة الاقتداء .. وإمامة الدعوة والتوجيه .. وإمامة العلم والعمل. وقد أبعد الله اليهود ونحاهم عن القيادة والإمامة لما ظلموا وفسقوا، وانحرفوا عن منهج الله. فلما نبذوا شريعة الله وأقصوها عن الحياة أقصاهم الله وطردهم ولعنهم، وأبعدهم عن الإمامة والقيادة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]. والمُلك يُطغي ويُبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام، ومن ثم يضعون الكفر موضع الشكر، ويضلون عن السبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]. فكان ينبغي لهذا الملك أن يعترف بالله، ويشكر نعمة الله، ويؤمن بربه الذي جعل في يده السلطان، ولكنه ركب هواه وتعنت وأنكر وطغى بسبب أن آتاه الله الملك، فبسبب النعمة والعطاء جاء الجدل والمراء، وادعى العبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب. والله عزَّ وجلَّ أكرم هذه الأمة بهذا الدين العظيم، ورفع حياة الجاهلية البهيمية إلى الحياة الإنسانية الكريمة، ونقلها من مواطن الذل والهوان إلى مدارج العز والعلياء. هذا التكريم جاءهم هدية ومنَّة من لدن ربهم الكريم، والذي هم أفاضوه على البشرية بعد ذلك: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو

عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. والله وحده والإسلام وحده هو الذي جعل للعرب رسالة قيمة يقدمونها للعالم، وهم الذين عَلَّموا البشرية كيف تحترم الإنسان؟. وهم الذين قدموا لها نظاماً للحياة الإنسانية الراقية. وكان هذا الإسلام بشعائره وشرائعه .. وآدابه وأخلاقه .. هو بطاقة الشخصية التي تَقدَّم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة والإمامة. وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة، ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها على العالم البشري. وهم إما أن يحملوها كما استلموها بجلالها وجمالها فتعرفهم البشرية وتكرمهم، وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً كما كانوا من قبل لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد، ولا يقدرهم أحد. إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة .. والمسلمون أكبر أمة تحمل أكبر رسالة .. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة .. وهي التي تقدم أكبر منهج .. وهي التي تنفرد في الأرض بأرفع مذهب في الحياة وأحسنه. وقد سعدت البشرية أيما سعادة حين قبلت هذه الرسالة في عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد التابعين لهم بإحسان. فما بال أكثر المسلمين اليوم لا يحسنون عرض الرسالة لا بالقول ولا بالفعل، ولا يرغبون في ذلك، ولعلهم زهدوا فيه فذلوا وهانوا على الله وعلى خلقه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. ومقصود جميع الولايات في الإسلام أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يحكم بشرع الله في كل أمر وحالة. ويحصل ذلك بطاعة الله ورسوله .. والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيله ..

والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر .. واستعمال أهل الخير والصدق والعدل في جميع الولايات، والحكم بما أنزل الله. وجميع الولايات الكبرى والصغرى في الإسلام هي ولايات شرعية ومناصب دينية لها أوامر من رب العالمين كالعبادات، من عمل فيها بعلم وعدل، مخلصاً عمله لله، مقتدياً فيه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الأبرار الصالحين. ومن عمل فيها بجهل وظلم، متبعاً لهواه ومعرضاً عن مولاه، فهو من الفجار الظالمين. فالأول مأجور والثاني مأزور كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. ويجب على كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين أن يستعمل في كل موضع أصلح من يقدر عليه من أهل التقى والقوة والأمانة. واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، والواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها: فيقدم في إمارة الجيش الرجل المسلم القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل العاجز الضعيف وإن كان أميناً. والخليفة أو الإمام أو المسئول أيا كان إذا كان خلقه يميل إلى اللين مثلاً، فينبغي أن يكون خُلق نائبه يميل إلى الشدة ليعتدل الأمر. وإذا كانت الحاجة إلى الأمانة أشد، قٌدم الأمين لحفظ الأموال، ويقدم في القضاء الأعلم الأكفأ ذو الورع .. وهكذا. ومعرفة الأصلح تتم بمعرفة مقصود الولاية ووسيلة ذلك. فالوالي الذي قصده الدين دون الدنيا يقدم في ولايته من يعينه على ذلك حتى يقوم الدين. ويصلح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم وهو نوعان: قَسْم المال بين مستحقيه .. وعقوبة المعتدين.

وليس لولاة الأمر أن يقسموا الأموال بحسب أهوائهم كما يقسم المالك، فإنما هم أمناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونوابه ووكلاؤه ليسوا ملاَّكاً، بل عليهم أن يضعوها ويقسموها حسب أمر الله ورسوله. وأعظم ما يستعين به ولاة الأمور في قضاء حوائجهم عدة أمور أهمها: الإخلاص لله، والتوكل عليه، والتوجه إليه في قضاء الحوائج .. والإحسان إلى الخلق بالمال كالهدية والصدقة وإغاثة الملهوف .. والصبر على الأذى .. وغيره من النوائب .. والعفو عن الناس .. وكظم الغيظ .. ومخالفة الهوى .. وترك الأشر والبطر. والناس في هذه الحياة أربعة أقسام: الأول: الذين يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض، وهؤلاء الرؤساء والملوك المفسدون في الأرض كفرعون وحزبه، فهؤلاء شرار الخلق كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4]. الثاني: الذين يريدون الفساد في الأرض بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس. الثالث: الذين يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين أو مال أو جاه يريدون أن يعلو به على الناس. الرابع: الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وهؤلاء هم خيار الخلق، وهم أهل الجنة، أعلى الله منزلتهم كما أعلوا أوامر الله ودينه في حياتهم، وأذل غيرهم ممن يريدون العلو والفساد كما قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83]. وكل خليفة أو إمام أو أمير أو مسئول فهو مسئول أمام الله عن أقواله وأفعاله، ومحاسب على تصرفاته. فكل من أخذ ما لا يستحقه شرعاً من الولاة والرؤساء، والأمراء والعمال،

والعامة والخاصة فهو غالّ، والغلول من المحرمات والكبائر التي حرمها الله ورسوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)} [آل عمران: 161]. ويجب على الخلفاء والأمراء من كانوا وحيث كانوا لزوم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين في جميع أعمالهم وأمورهم، والتمسك بها. والاقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة فيما فعلاه، ولزوم السنة التي سار عليها الخلفاء الأربعة كلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال. وعثمان - رضي الله عنه - غلَّب الرغبة، وتأول في الأموال، وعلي - رضي الله عنه - غلَّب الرهبة، وتأول في الدماء. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كمل زهدهما في الرياسة والأموال، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في الأموال. ومعاوية - رضي الله عنه - أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، وكان ملكه ملكاً ورحمة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1) والمسلم في جميع أحواله يسلم وجهه لله، لا لقومه ولا لهواه، ولا لماله، ولا لشهواته، ويقتدي برسوله في جميع أحواله، فالذي يسلم نفسه لربه يكون في راحة وطمأنينة كما قال الله لإبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 131، 132]. ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4646)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3882). وأخرجه الترمذي برقم (2226)، صحيح سنن الترمذي رقم (1813).

فلما أمره الله بذبح ابنه سلم وامتثل، فجاءت له حينذاك نصرة الله. وليست الخلافة كلها محمودة، بل الخلافة الراشدة ما كانت على منهاج النبوة، وليست الخلافة فقط امتثال أوامر الله في منطقة معينة، بل الخلافة مع ذلك أن يأمر الله الكائنات كلها أن تطيع من أطاعه، فيقول لها: عبدي كان لي فكوني له، عبدي أطاعني فأطيعوه، فتطيعه المياه والبحار، والجبال والرياح، والإنسان والحيوان، هذه هي الخلافة كما حصل للأنبياء والصحابة وسادة المتقين. وهذه الخلافة لا يسلمها الله لأي أحد، بل يسلمها للذي يسلم نفسه لله تعالى، فمن سلم نفسه لله حقاً سلم له ما شاء من الكائنات، فالله لا يسلم كائناته لغير المسلم، لكنه لا يحرمه الرزق بسبب كفره، بل يرزقه ما كتب له، ثم يحاسبه عليه يوم القيامة. فكل شيء بقدر، فلا عبث ولا ظلم ولا حسد: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 54 - 55]. والحاكم المسلم هو الذي يؤمن بالله، ويحكم بين الناس بما أنزل الله وبما شرعه رسول الله. ومن لم يحكم بما أنزل الله فتارة يكون كافراً .. وتارة يكون ظالماً .. وتارة يكون فاسقاً. والكافر ظالم؛ لأنه جحد حق الله .. وهو فاسق؛ لأنه خرج عن طاعة الله فيكون كافراً، إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، أو اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله، أو اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. ويكون ظالماً إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للبلاد والعباد، وأن الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض أو الحسد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهذا ظالم لنفسه وغيره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ

اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]. ويكون الحاكم فاسقاً إذا حكم لهوى في نفسه كأن يحكم لشخص لأنه أعطاه رشوة، أو لكونه قريباً أو صديقاً ونحو ذلك، مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47]. وقد جعل الله سبحانه ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صورة ملوكهم وولاتهم. فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم ملوكهم، وإن جاروا جارت عليهم ملوكهم، وإن ظهرت فيهم صفات المكر والخديعة والاحتيال فولاتهم كذلك. وإن منعوا حقوق الله لديهم من زكاة وصدقات وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم. وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه أخذت منهم ملوكهم ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والضرائب. وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صورة أعمالهم. وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم فحيثما تكونوا يولَّ عليكم. ولما كان الصدر الأول من هذه الأمة خير القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة. وحكمة الله جلَّ جلاله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب للحكمة، وإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله بنا وغير ما حولنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ

بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11]. ويجب على الأمة طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، وصلاح العالم وفساده بصلاحهما أو فسادهما، والناس كلهم تبع لهم، ولهذا أمرنا الله بطاعتهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. إن قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وشرائعه، وفي أمور الحياة كلها بأحوالها وأوضاعها، لذلك كله جهة واحدة فقط، إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم، وعلى أساس الاستجابة للرسل أو عدمها يكون الحساب والجزاء بالجنة أو النار كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} [الأعراف: 35]. هذا هو عهد الله وميثاقه لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس من الخلق، ومكنه فيها ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد، وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله الله، وفي الآخرة وزر جزاؤه جهنم. إن الملك والخلق والأمر في هذا الكون لله وحده لا شريك له، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة لمن يتقون الله، ولا يخشون أحداً سواه كما قال موسى لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 128]. إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى الله إلا ملاذ واحد وولي واحد، وهو الله الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يأذن الولي بالنصرة، في الوقت الذي يقدره بحكمته وعدله.

وعليهم ألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير. وإن الأرض كلها لله، وما فرعون وقومه وغيرهم إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده، وفق سنته وحكمته، كما قال الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. فلا يظن المؤمن أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم عنها. والعاقبة لا ريب للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيحسبون أنهم باقون: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196، 197]. والخلافة في الأرض عبادة كغيرها من الأعمال، ولها أحكام وأوامر، يبتلي الله بها من شاء من عباده، لينظر كيف يعملون؟. هل يؤدون حقها؟ .. ويقيمون أوامرها .. أم يتسلطون بها على العباد؟. كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129]. وسنة الله تبارك وتعالى تجري وفق وعده للصابرين وللجاحدين، فله سبحانه سنة في إهلاك الطاغوت وأهله .. وله سنة في استخلاف المؤمنين الصابرين المستعينين بالله وحده، ويدفع هذا إلى هذا لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد. ولا بدَّ من الابتلاء والاختبار قبل الاستخلاف في الأرض، وهو ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وُجِّه من قَبْل إلى آدم وزوجه فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان لهما بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم تابا وتاب الله عليهما.

ثم ظل هو الاختبار الذي لا بدَّ أن يجتازه كل مسلم، وتجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض. فقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ جند طالوت بعدم الشرب من النهر لتقوى إرادتهم على المغريات والأطماع والشهوات فتصمد للعدو. وابتلى سبحانه أهل التوبة من بني إسرائيل بظهور الحيتان يوم السبت الذي هو راحة لهم ليتفرغوا للعبادة، ولا يشتغلوا بشيء من شئون المعاش، فجاءتهم الحيتان يوم السبت قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فغلبت شهواتهم إرادتهم فاحتالوا عليها، وحبسوها يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فجعلهم الله قردة خاسئين كما قال سبحانه: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166]. وما أكثر الحيل عندما تلتوي القلوب، وتقل التقوى، ويراد التفلت من ظاهر النصوص. إن الحكم لا تحرسه نصوصه، إنما تحرسه القلوب النقية التي تستقر فيها تقوى الله وخشيته، ومراقبته في السِّر والعلن. وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض ويمكن لهم فيها، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده، وقد قال سبحانه وفعل ومكن للمؤمنين في الأرض في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعهد أصحابه رضي الله عنهم، وعهد من اقتفى أثرهم كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. إن حقيقة الإيمان الذي يتحقق به وعد الله للمؤمنين حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله.

فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط، وبناء وإنشاء كله موجه إلى الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله. وهي طاعة لله، واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة، إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، خواطر نفسه، وخلجات قلبه، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس، يتوجه بهذا كله إلى ربه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. والشرك مداخل وألوان، وأقوال وأفعال، فالتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله. ذلك أن الإيمان منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به، وتلك حقيقة الإيمان. أما حقيقة الاستخلاف في الأرض فليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي أنزل الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، وترضي الله بالاستقامة عليه. إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد .. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر .. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان. هذا هو الاستخلاف الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليحققوا مراد الله من عباده وفي عباده. أما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور والفجور،

وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها وفق منهج الله. وقد تحقق وعد الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين، فأظهر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على جزيرة العرب، فأمنوا بعد الخوف، ووضعوا السلاح، ثم قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا كذلك آمنين في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة، أو في تكليف من تكاليفه الضخمة. فمن أراد الوصول إلى حقيقة وعد الله بالاستخلاف فعليه بالاستقامة على أوامر الله، وإذا استقام فما عليه من قوة الكافرين، فما هم بمعجزين في الأرض: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} [النور: 56، 57]. إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون الذي يسير بأوامره سامعاً مطيعاً، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يجب أن يسير عليه البشر. وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض، والحكام بين الناس، إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف بالطاعة والاستقامة. وإن الانحراف عن شريعة الله إنما هو انحراف عن الحق الذي قامت عليه وبه السموات والأرض، وهو أمر عظيم وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة، ولا بدَّ أن يتحطم في النهاية ويزهق، وينال أهله عقوبة انحرافهم، وخيانتهم للأمانة، وتضييع أمر الخلافة: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. فيما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله أمام قوة الله، وكيف يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة التي خلقها الله سبحانه، وهي مستعدة لمن أمرها الله بتدميره من الكفار والظلمة: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. وسنة الله جارية في الظالمين: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؛ لأنه رفض ألوهية الله، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده، وادعائه حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس من دون الله. وهو ظالم يحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، وظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس للفساد، وهذه صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله. وهو فاسق لخروجه عن منهج الله الحق، إلى منهج غيره الباطل. فهذه صفة ثالثة لمن لم يحكم بما أنزل الله. والله سبحانه لما خلق آدم أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، فأهبط الله آدم إلى الأرض، وسلَّم إليه خلافة الأرض، وليس معنى الخلافة الملك بأن يطيعه البشر فقط، بل المقصود أنه خليفة في تنفيذ أوامر الله، وتطيعه المخلوقات إذا أطاع الله. فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يطيع الله، ويقيم أوامر الله في الأرض. فالجوع والعطش من أمر الله، ولهما أوامر من الله، فلا نأكل ونشرب بغية اللذة، ولا لإزالة الجوع والعطش، هذه خلافة حيوانية، والحيوان يفعلها، بل نأكل

ونشرب لأن الله أمر بالأكل والشرب، وننفذ أوامر الله في الأكل والشرب، هذه هي الخلافة. وكذلك اللباس، نلبس لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله في اللباس، هذه هي الخلافة. وكذلك النوم والكسب، نقوم بذلك لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله عند النوم والكسب، لا لأن النوم يأتي بالراحة، والكسب يأتي بالمال، بل الراحة والأموال والأرزاق تأتي من الله وحده. وهكذا في باقي أحكام الدين، وسائر أحوال الإنسان، لكل حالة أمر وحكم أمر الله بامتثاله. فالخلافة التي كلف الله بها آدم وبنيه هي امتثال أوامر الله في جميع الأحوال على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. والله عزَّ وجلَّ يريد منا أن نشتغل بأوامر الله كما فعل الأنبياء والرسل، والشيطان يريد أن يشغل الناس عن ذلك بشهواتهم وأهوائهم وقد فعل وأطاعه أكثرهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. فمن استقام على الدين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله فهو خليفة الله في أرضه .. وخليفة رسوله .. وخليفة كتابه. ومقصود جميع الولايات الإسلامية إصلاح دين الخلق، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]. والحكام صنفان: حاكم بما أنزل الله .. وحاكم بغير ما أنزل الله.

فالأول: حكم إسلامي، وهو الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: حكم جاهلي، وهو ما خالف ذلك. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. وليست الجاهلية فترة محددة من الزمان والمكان انتهت، إنما هي كل مجتمع يحكم فيه بغير ما أنزل الله فهو مجتمع جاهلي مهما أوتي من قوة مادية، ومن كشوفات علمية باهرة. ولا بدَّ للمسلمين من خليفة يقوم برعاية شئون المسلمين في الدين والدنيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولتولية الخلافة شرعاً طريقان: الأول: الاختيار، فالأمة مسؤولة عن اختيار من تنيبه عنها، وتسلِّم له زمام الإذعان والطاعة، وحيث أن الأمة متفرقة في الأصقاع والأمصار، مختلفة العقول والصفات، مما يصعب معه تمييز الصالح من الطالح، لذا تكون المسئولية في هذا المجال على عقلاء الأمة وعلمائها وفضلائها من أهل الحل والعقد، فهم الذين يختارون من يرونه أهلاً للقيام بهذا الواجب الشرعي الذي أوجبه الله عليهم، وهو إقامة شرع الله في أرضه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع المعمورة. وبهذه الطريقة تم اختيار الصحابة لأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهذا الطريق هو الأصل لاختيار الخليفة في الشريعة الإسلامية. وأهل الحل والعقد: هم فئة من الناس على درجة عالية من الدين والخلق والعلم بأحوال الناس، وحسن تدبير الأمور، ويسمَّون أهل الاختيار، وأهل الشورى، وأهل الرأي والتدبير. وهذه الفئة تقوم باختيار الإمام نيابة عن الأمة جميعاً، فمن رأوه صالحاً بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، ولزوم طاعته في غير معصية الله.

الثاني: طريق العهد والاستخلاف. فإذا أحس الخليفة بقرب أجله، وأراد أن يستخلف على الناس أحدهم شاور أهل الحل والعقد فيمن يختار، فإذا وقع رأيه على شخص معين يصلح للخلافة من بعده، ووافقه أهل الحل والعقد، فإنه يعهد إليه من بعده كما هَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعهد لأبي بكر - رضي الله عنه - ثم تركه؛ لعلمه أن الناس لن يختاروا غير أبي بكر - رضي الله عنه -. وكما عهد أبو بكر - رضي الله عنه - بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعهد عمر - رضي الله عنه - بالأمر من بعده للستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، فيختاروا واحداً منهم، وذلك كله بعد مشاورات مع كبار المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. ولا بدَّ في المعهود له أن يكون مستكملاً لشروط الإمامة، ولا تنعقد له الخلافة بمجرد العهد من الإمام السابق، بل لا بدَّ من البيعة للمعهود له من قِبَل أهل الحل والعقد كما فعل الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. والخلافة والإمامة للرجال دون النساء؛ لأن الولايات يحتاج فيها إلى الدخول في محافل الرجال وهذا محظور على النساء، ولأنه يحتاج فيها إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والنساء ناقصات عقل ودين، لذلك لما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كسرى خلفته ابنته قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً» أخرجه البخاري (¬1). ولذلك لم يول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه ولا من بعده من الخلفاء امرأة ولاية بلد ولا قضاء قط، صيانة للمرأة من السوء والفتن. ولا ينبغي للمسلم طلب الإمارة أو الحرص عليها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عبدَ الرّحمنِ بنَ سَمرةَ، لا تسْأل الإِمارةَ، فإنْ أُعطيتَها عَن مسْألةٍ وُكلتَ إليهَا، وإنْ أُعطيتَها عَنْ غيِر مسْألةٍ أُعنتَ علَيها» متفق عليه (¬2). وعلى خليفة المسلمين أن لا يولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (4425). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7147)، واللفظ له، ومسلم برقم (1652).

عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أمِّرْنَا يَا رَسُولَ الله، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَألَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» متفق عليه (¬1). ومن أخبر عن نفسه إظهاراً لنعمة الله عليه، وليس فخراً على من دونه، وطلب العمل ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير، فهو محمود كما طلب يوسف الصديق - صلى الله عليه وسلم - من عزيز مصر بقوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]. ومن أثنى على نفسه افتخاراً به على من دونه، ليتكثر به عند الناس ويتعظم، فهذا يجازيه الله بمقت الناس له، وصغره في عيونهم، والأول يكبره في عيونهم وقلوبهم، وإنما الأعمال بالنيات. ولا صلاح للكائنات والمخلوقات إلا بأن تكون حركاتها وفق أمر فاطرها وخالقها وحده لا شريك له. فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإن كل إله يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وقهره، وفي ذلك فساد أمر السموات والأرض ومن فيهما كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22]. وأصل فساد العالم إنما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء، وبغي بعضهم على بعض. ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام في المسلمين في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم، وانفراد كل واحد منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلو على بعض، وانتظام حركة الحياة لا تتم إلا إذا كان الآمر واحداً. فصلاح أمر السموات والأرض واستقامتهما، وانتظام أمر المخلوقات على أتم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7149)، واللفظ له، ومسلم برقم (1733).

نظام وأحسنه من أظهر الأدلة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الغني عن كل ما سواه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 91، 92]. اللهم وفق جميع المسلمين لما تحب وترضاه .. وأصلح حكامهم ورعاياهم .. واهد ضالهم .. واستعمل الجميع في طاعتك وحسن عبادتك ونشر دينك.

الباب الحادي عشر فقه الأخلاق

الباب الحادي عشر فقه الأخلاق ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الخلق 2 - درجات الأخلاق 3 - تغيير الأخلاق 4 - فقه حسن الخلق 5 - فقه الأدب 6 - فقه مكارم الأخلاق 7 - فقه المروءة 8 - فقه الإيثار 9 - فقه الحكمة 10 - فقه العزة 11 - فقه المحبة 12 - فقه الرحمة

1 - فقه الخلق

1 - فقه الخُلق قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ... [القلم: 4]. وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. والخلق: هو بذل المعروف، وكف الأذى، واحتمال الأذى. وإنما يدرك العبد ذلك بثلاثة أشياء: بالعلم .. والجود .. والصبر. فالعلم يرشد الإنسان إلى مواقع بذل المعروف، والفرق بينه وبين المنكر، ووضع الشيء في موضعه، فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا العكس، ولا يضع الإمساك موضع البذل ولا العكس. بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها، وموضع كل خلق أين يضعه؟، وأين يحسن استعماله؟. والجود يبعث الإنسان على المسامحة بحقوق نفسه، ودفع المزيد عند أداء حقوق غيره، فالجود قائد جيوش الخير كلها. والصبر يحفظ عليه استدامة ذلك، ويحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، وهو أكبر العون على كل مطلوب كما قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]. فبهذه الثلاثة تحصل تزكية النفوس وتهذيبها، لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحبه، فإن المرء مع من أحب. وحسن الخلق بذل الجميل، وكف القبيح، والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل. وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان: الصبر .. والعفة .. والشجاعة .. والعدل.

فالصبر يحمل الإنسان على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء والمنكر من البخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، وتحمله على كظم الغيظ والحلم. فبالشجاعة يمسك عنان نفسه، ويمسك بلجامها عن النزغ والبطش. والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه فلا إفراط ولا تفريط. فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو وسط بين الإمساك والإسراف والتبذير. ويحمله على خلق الحياء الذي هو وسط بين الذل والقِحَة. ويحمله على خلق الشجاعة الذي هو وسط بين الجبن والتهور. ويحمله على خلق الحلم الذي هو وسط بين الغضب والمهانة. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة. أما الأخلاق السافلة فمنشؤها وبناؤها يقوم على أربعة أركان: الجهل .. والظلم .. والشهوة .. والغضب. فالجهل يُري الإنسان الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والنقص كمالاً، والكمال نقصاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، نعوذ بالله من الجهل وأهله. والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع الإمساك، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام وهكذا.

ويلين في موضع الشدة، ويقسو في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع. والشهوة تحمله على الحرص والطمع، والبخل والشح، والنهمة والجشع، والذل وعدم العفة، والدناءات كلها. والغضب يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه. وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان كالجود الذي هو وسط بين خلق البخل والتبذير، والتواضع الذي هو وسط بين خلق الذل والمهانة، والكبر والعلو. والنفس إذا انحرفت عن التوسط انحرفت ولا بدَّ إلى أحد الخلقين الذميمين، فإن انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة. وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. وإذا انحرفت عن خلق الصبر انحرفت إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع. وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذلة والمهانة والعجز والحقارة. وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر وإما إلى ذل، والعزة المحمودة بينهما. وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم. وإذا انحرفت عن خلق القناعة انحرفت إما إلى حرص وطمع، وإما إلى خسة

ومهانة وإضاعة. وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت إما إلى قسوة وغلظة، وإما إلى ضعف القلب، وجبن النفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد، أو تأديب ولد. وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه، غزيرة منافعه. ولا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس .. والتجاوز عما يكون منهم. ومعاشرات النبي - صلى الله عليه وسلم - قامت على أصلين: البساطة، والحياء .. ومعاشرات الكفار قامت على الإسراف، والفحشاء. والخلق ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة ويسر من غير تقدم فكر أو رويَّة أو تكلف. والأخلاق نوعان: أخلاق حسنة ممدوحة .. وأخلاق سيئة مذمومة. فالخلق الحسن: هو الأدب والفضيلة، وينتج عنه أقوال وأفعال جميلة عقلاً وشرعاً كالصدق والصبر، والحلم والإحسان، والعفو والإيثار ونحوها. والخلق السيئ: هو سوء الأدب والرذيلة، وينتج عنه أقوال وأفعال قبيحة عقلاً وشرعاً كالكذب والعجلة، والجهل والبخل، والرياء والحسد، والظلم والحرص ونحوها. وعلم الأخلاق في الإسلام يدور حول تنظيم سلوك الإنسان، وتنبيهه إلى الخير ليسعى إليه، وإلى الشر ليجتنبه أو يتركه. فهو علم يبحث في الأحكام التي تعرف بها الفضائل ليتحلى بها الإنسان، والرذائل ليجتنبها، بهدف تزكية النفس على أساس من الوحي الإلهي.

2 - درجات الأخلاق

2 - درجات الأخلاق قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34 - 35]. الأخلاق في الإسلام ربانية المصدر، فكلها مستمدة من الشرع، وهي ربانية الهدف، فكلها يبتغي بها المسلم وجه الله ورضاه. منها ما هو مأمور به كالصدق والإحسان، ومنها ما هو منهي عنه كالكذب والبخل، والمأمور به درجات، والمنهي عنه درجات. ومهما تخلق الإنسان بالأخلاق الحسنة فإنها ستبقى صورة بلا روح طالما لم يُرِد بها صاحبها وجه الله ورضاه. فليس الغرض من الأخلاق وجود صورتها الخارجية، وإنما هذه آثارها، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن، تملك على المسلم قلبه، ويدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيماناً؛ لأنها عبادة. فالعدل عبادة مأمور بها، والإحسان عبادة، وترك الفحشاء عبادة، وترك المنكرات عبادة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. والعدل مع العدو أقرب إلى التقوى؛ لأنها مسألة عبادية كما قال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]. ومهما حسنت أخلاق الكافر فهي هباء منثور؛ لأنها لم تكن خالصة لوجه الله،

وإذا لم تكن خالصة لله، فإنها ستظهر نفاقاً أو لمصلحة ثم تزول، ويظهر ما وراءها من سوء الخلق كما قال سبحانه عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]. والإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، والسمو إلى أعلى الدرجات، ولكنه يراعي نفسية البشر وحاجاتهم كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. ولا يعتبر الخائف أو المكره ناقضاً للصدق إن كذب لينجو حين لا ينجيه من البطش إلا الكذب كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]. كما لا يعد الجائع المضطر خائناً للأمانة إن سرق ليأكل، ولا يعد طيشاً وخروجاً عن خلق الحلم إن غضب وثار من استُفِز واستُغْضِب. والأخلاق الإسلامية أصيلة في نفس صاحبها، لا تفارقه في جميع أحواله، فليست قميصاً يلبسه إذا شاء، وينزعه إذا شاء، بل هي لازمة له لزوم النور للشمس؛ لأنها تعبدية، يدور صاحبها مع الحق حيث دار، ويثبت عليها في كل حال. فلا يتغير خلقه مع الضعفاء والأقوياء .. ولا مع الفقراء والأغنياء .. ولا يتغير خلقه في حال رضاه وغضبه .. ولا في حال فقره وغناه .. ولا في حال خلوته وجلوته .. ولا في حال سفره وإقامته .. ولا فيما له ولا فيما عليه. ولا تختلف أخلاقه حين يكون أميراً أو مأموراً، أو مكرماً أو مظلوماً. فالمسلم ثابت على أخلاقه التي أمره الله بها، أما أخلاق الكفار فهي متقلبة تدور مع المصالح والأهواء، وتدير صاحبها على حسب تقلبها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. والأخلاق التي جاء بها الإسلام شاملة كاملة تغطي جميع جوانب حياة الإنسان، وتشمل كافة أحواله، وسائر علاقاته: مع ربه ومع الناس .. في بيته وفي عمله .. في بيعه وشرائه .. في أكله وشربه، وفي صحوه ونومه .. وفي صحته وسقمه .. وفي ظاهره وباطنه .. وفي قلبه وجوارحه. وكل الأخلاق الإسلامية مطلوبة، العدل والإحسان، والرحمة والشدة، فلا يغلب بعضها على بعض، ولكل خلق حالة ومكان. فإن غلبت على الإنسان صفات القوة والشجاعة والعزة فسيجأر الناس إلى الله من عدوانه وجبروته وتكبره .. وإن غلبت عليه صفات العفو والسماحة والسكينة ربما رأى فيه الناس الذلة والمسكنة .. وإن غلبت عليه صفات الجرأة والصراحة والنصيحة ربما شَكَوا من سوء أدبه، وقلة احترامه. فالأخلاق الإسلامية مع كمالها متوازنة تدعو إلى العزة والتواضع كما تدعو إلى الانتصار والعفو. والأخلاق نوعان: منها ما هو طبيعة وجبلة يتفضل الله بها على بعض خلقه، فيجبلهم عليها من غير كسب منهم ولا جهد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» أخرجه مسلم (¬1). فمثل هذا فضل من الله ومنة على من أوتيها، ومن لم يؤتها مكلف بمجاهدة نفسه حتى يحصل عليها، وتصبح له خلقاً مكتسباً بعد الترويض والمجاهدة، وتنقلب مع الزمن إلى طبع ثابت وخلق أصيل، فهذا هو النوع الثاني وهو المكتسب الذي يحصل بالتخلق والتكلف حتى يصير ملكة وسجية، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (18).

اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه (¬1). فبالتسامح يصبح سمحاً، وبالتورع يصبح ورعاً .. وهكذا في باقي الأخلاق اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. والأخلاق الإسلامية تؤخذ بالتأسي والاقتداء بأهل الأخلاق الفاضلة، وهكذا تتوارث الأجيال الأخلاق العالية بالنظر إلى أخلاق القرون الأولى، ويتوارث الأفراد مكارم الأخلاق بالاقتداء والتأسي بأحاسنهم أخلاقاً. ولذلك فإن الله لم ينزل كتبه إلا وأرسل معها العامل بها، القائم عليها من رسله، المتمثل لأوامرها، والمتخلق بأخلاقها، ليقتدي به الناس، ويتأسون به، خاصة أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خلقه القرآن، وأثنى عليه ربه بكمال خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وشرع لنا الاقتداء به، والتأسي به في جميع الأحوال كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والأخلاق الإسلامية لا تطلب من الناس بكمها الكبير، وكليتها الشاملة من أول يوم يلج فيه الإنسان باب الهداية، بل لا بدَّ من التدرج بتقديم الأهم والأوجب في الأوامر، واجتناب الأفحش الأخطر في باب المناهي. فيطالب ابتداء بالصدقة بما تجود به نفسه، ولا يطالب بالتنازل عن كل ماله كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه -. وكذلك لا ننتظر منه أكثر من العفو عمن أساء إليه، أما أن يحسن إلى المسيء فتلك مرتبة أعلى، ومقام أرفع، يمكن أن يرتقي إليها بالتربية تدريجياً. والقفز إلى معالي الأخلاق من العزيمة التي يوفق إليها أهل الهمم الكبيرة، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1469)، واللفظ له، ومسلم برقم (1053).

ولكن أغلب النفوس يربيها التدرج. والأخلاق درجات متفاوتة، وبحار واسعة، والناس فيها متفاوتون، وأحسن الأخلاق ما حسن به صاحبه، وشرف به حامله. والخُلق على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يعرف العبد مقام الناس، ومقاديرهم، وجريان الأحكام القدرية عليهم، وإنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه البتة، وأنهم محبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها، وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لا يتعدونه، فيحسن خلقه معهم. وبهذه المعرفة يستفيد العبد ثلاثة أشياء: أمن الخلق منه .. ومحبة الخلق له .. ونجاة الخلق به. فالعبد العارف إذا نظر إلى الخلق بعين الحقيقة لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه فيعفو عنهم، ويأمنوا من تكليفه إياهم بما لا يقدرون عليه، وأمنوا لائمته، فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم. لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقاتهم، فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس، وعذرهم بما يعذر به المحبوس. وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به، ولا تخاصمهم، بل اغفر لهم ذلك واعذرهم، نظراً إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة. وهذا ما يجلب محبتهم له، ويرشدهم إلى القبول منه، وتلقي ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه أحسن التلقي. الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق سبحانه. وتحسينه منك أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكراً، وأن لا ترى له من الوفاء بداً.

فتعلم أنك ناقص، وكل ما يأتي من الناقص ناقص يوجب اعتذار العبد منه لا محالة، فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر. أما الشر فظاهر، وأما الخير فيعتذر من نقصانه أو تأخيره، ولا يراه صالحا لربه، فهو مع إحسانه معتذر وَجِل. ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون: 60]. والحامل للعبد على هذا الاعتذار أمران: أحدهما: شهود تقصيره في العمل ونقصانه. الثاني: صدق محبته لربه، فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه، مستح منه، يرى أن قدره فوقه وأجل منه. ويعلم أن كل ما يصدر منه سبحانه إلى عبده نافع عظيم، وأنه يوجب عليه الشكر، وأنه عاجز عن شكره، ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة، فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله منه. ويعامل الحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منه، والشكر على كل ما من ربه، وهذا عقد لازم لك أبداً، لا ترى من الوفاء به بداً. الدرجة الثالثة: الاشتغال بالله عزَّ وجلَّ عن كل ما سواه، فيتقرب إليه بما يحب من الأقوال والأعمال، ويستأنس به، ويستوحش من غيره، ويتلذذ بعبادته ومناجاته، ويقف أمام ربه وقوف العبد العاجز المقصر المحتاج: معظماً لربه .. حامداً له .. مستعيناً به .. مستغفراً له .. سائلاً له .. معتذراً إليه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162،163]. وأصول الأخلاق: الإخلاص لله في السر والعلانية .. والعدل في الغضب والرضا .. والقصد في الفقر والغنى.

وأن يكون صمتي فكراً .. ونطقي ذكراً .. ونظري عِبراً. هذا بالنسبة للنفس أما بالنسبة للغير فأصول الأخلاق أربعة: أن أعفو عمن ظلمني .. وأعطي من حرمني .. وأصل من قطعني .. وأحسن إلى من أساء إلي. ومكانة المسلم عند الله عظيمة، وحقه كبير، فإن في قلبه لا إله إلا الله التي لو وضعت السموات والأرض ومن فيهن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن، ومن بدنه وجوارحه تصدر الأقوال والأعمال التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكم وزنه عند الله؟ .. وكم قيمته عند مولاه؟ فلهذا المسلم حقوق على أخيه المسلم لا بدَّ من معرفتها أولاً، وأدائها ثانياً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ. وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم (¬1). فيجب على كل مسلم إكرام كل مسلم، ولإكرام المسلم أربع درجات: الأولى: أداء الحقوق حسب ما أمر الله ورسوله به، وكيفية أدائها بإعطاء كل ذي حق حقه حسب مكانته: فمنها حقوق الوالدين والأقربين والجيران .. وحقوق الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، وحقوق الحكام على الرعية .. وحقوق الرعية على الحكام .. وحقوق الفقراء على الأغنياء .. وحقوق الأغنياء على الفقراء .. وحقوق العلماء على المؤمنين .. وحقوق المؤمنين على العلماء .. وحقوق الكبار على الصغار .. وحقوق الصغار على الكبار .. وهكذا. الثانية: حسن الخلق، فعلى المسلم أن يتخلق بالأخلاق التي تخلق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كانت لأداء الواجب نحو خالقه بالإيمان به وطاعته وعبادته، أو كانت ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2162).

تتعلق بالمخلوق نفسه، أو تتعلق بغيره؛ لتكون هذه الأخلاق سبباً لمحبة الله له، ومحبة الناس له. الثالثة: الإيثار، وهو درجة الكمال للأخلاق، وهو أن يفضل الإنسان غيره، ويقدم حاجة أخيه على حاجته، وأن يحسن إلى من لا يحسن إليه. فالله عزَّ وجلَّ مع كونه غنياً قادراً يغفر للعاصين، ويرزق المؤمنين والعاصين والكافرين على حد سواء؛ لأنه لا رازق غيره، ولا رب سواه، ولا أكرم منه. فعلى الإنسان أن يقضي حوائج الآخرين قبل أن يقضي حوائجه، ويخدم خلق الله قبل أن يخدم نفسه؛ لينال الأجر، ويكسب محبة الله ومحبة خلق الله، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحبون كل مؤمن: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. الرابعة: الإكرام، ودرجة الإكرام درجة خاصة لا يستحقها غير أهل التقوى من المسلمين. فالدرجات الثلاث الأُوَل لجميع الناس، أما الدرجة الرابعة فهي تخص المؤمنين فقط. فالمسلم مهما بلغ من الضعف والتقصير لا يمكن إهماله وتركه، بل نبذل الجهود في إرشاده وتعليمه بالرفق واللين، والترغيب والترهيب. فهو كالمريض تجب مداواته، والعناية به، حتى يعود إلى صحته. فالله قد اختاره وزينه بالإيمان، وأكرمه بالإسلام، وأدخله إلى بيته: فإذا تغيرت أحواله وساءت أخلاقه لزم إكرامه ونصحه، وترغيبه وإرشاده حتى يعود إلى ربه، وبالإكرام والتذكير تتغير القلوب، ثم يتغير عمل الجوارح كما يحي الله بالماء الأرض بعد موتها كما قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا

لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 16،17]. وقال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6)، واللفظ له، ومسلم برقم (2308).

3 - تغيير الأخلاق

3 - تغيير الأخلاق قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10]. التغيير سنة كونية جارية .. فيها آيات وعبر .. لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والله يغير في ملكه ما شاء متى شاء: ليلاً ونهاراً .. وصيفاً وشتاءً .. وحراًّ وبرداً .. وصحة ومرضاً .. وراحةً وتعباً .. وحركةً وسكوناً .. وأمناً وخوفاً. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 44]. وقد حمل الله الإنسان أمانة تغيير أخلاقه من بين سائر المخلوقات، ومكنه من اختيار ما يريد من إيمان وكفر، وعدل وظلم، وحق وباطل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. والإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، ويكتسب أخلاقه من خلالها، فإن كانت طيبة تذكر بالله واليوم الآخر طابت أخلاقه وأعماله، وإن كانت سيئة فيها الفواحش والفجور والشهوات ساءت أخلاقه، وفسدت أعماله. ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بلزوم البيئة الصالحة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وحذرنا من البيئة الفاسدة كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68]. وأصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها،

فهي كالنهر المنحدر الذي إن ترك أغرق الأرض والعمران، فسكره وحبسه لا يجدي؛ لأنه سيمتلئ فيكون إفساده وتخريبه أعظم. وقطعه من أصل الينبوع متعذر؛ لأنه كلما سدّ من موضع نبع من موضع آخر فلم يزل خطره. لكن الأجدى والأنفع صرفه عن مجراه المنتهي إلى العمران إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه، ولا يتضررون به، فصرفه إلى أرض قابلة للنبات وسقيها به أجدى وأنفع وأسلم. إذا تبين هذا فالله العليم الحكيم اقتضت حكمته أن ركب الإنسان والحيوان على طبيعة محمولة على قوتين: قوة غضبية .. وقوة شهوانية. وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان برحمة العزيز العليم. فبقوة الشهوة يجذب الإنسان المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار عن نفسه. فإذا استعمل الإنسان الشهوة في طلب ما يحتاج تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة. فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن عجز عن وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبداً به أورثه الحسد. فإن ظفر بما يحب ويحتاج أورثته شدة شهوته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه على الشيء، واشتدت شهوته له، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه، أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء. فالنهر مثال هاتين القوتين: الغضبية والشهوانية، وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه، يخربها ويتلفها ولا بدَّ.

فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان، وهدم عمران الإسلام، وقلع أشجاره، وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة. وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق: فأصحاب المجاهدات والخلوات والتمرينات راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم حكمة الله، وما طبع الله عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد له الطبيعة البشرية فاشتد القتال، وحمى الوطيس فانقطعوا ولم يصلوا. وفرقة أعرضوا عنه، وشغلوا أنفسهم بالأعمال، ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات، مع تخليتهم إياها على مجراها، واشتغلوا بتحصين العمران، وأحكام بنائه وأساسه. فهؤلاء صرفوا قوتهم وإرادتهم في العمارة والتحصين، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفاً من هدم البناء. والفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت عبثاً ولا سدىً، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك، وأن ما خاف منه أولئك هو سبب الفلاح والنجاة. فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر، والبطر والظلم، والشر والعدوان .. ويسقي به علو الهمة .. والأنفة والحمية، والمراغمة لأعداء الله وقهرهم، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس. فأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع، كالخيلاء فهي مبغوضة للرب، لكنها في الحرب أمام الأعداء، وعند الصدقة محبوبة للرب. وكذلك خلق الحسد مذموم، لكن صرفه إلى الحسد المحمود الذي يوصل إلى المنافسة في الخير الذي يحبه الله أمر محمود. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي

الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (¬1). وكذلك خلق الحرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأوصلها إلى كل خير، وشدة الطلب بحسب قوة الحرص، فلا نقطعها ولكن نوجهها إلى ما ينفع النفس في معادها، ويزكيها بالإيمان والعبادات والطاعات. فقوة الحرص لا تذم، وإنما يذم صرفها إلى ما يضر الحرص عليه من الشهوات والمعاصي، أو لا ينفع وغيره أنفع للعبد منه. وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأوصلها إلى كماله وسعادته، فإنها تثمر المحبة، وبحسب شهوة العبد للكمال والاستقامة يكون طلبه. وصدق الشهوة وقوتها وكمالها يحمل الإنسان على بيع مشتهى دنيء خسيس بمشتهى أعلى منه، وأجل، وأرفع من الطاعات والحسنات والجنات. وكذلك خلق الشح والبخل لهما مصرفان: مصرف محمود نافع للعبد، يحمله على بخله وشحه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يضيعها ويسمح بها لمن لا يساوي. ويشح غايه الشح بحظه ونصيبه من الله أن يبيعه أو يهبه لأحد من الخلق .. ويشح بماله ألا يكون في ميزانه .. وأن يتركه لغيره يتنعم به ويفوته هو أجره وثوابه. فالشحيح بماله المحب له هو الذي يقدمه بين يديه زاداً لمعاده، أما المصرف المذموم فهو من يشح ويبخل بماله ووقته أن يصرفه فيما يحب الله ورسوله. وهذه قاعدة مطردة في جميع الصفات والأخلاق. فالرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بصرفها عن مجاريها المذمومة، وإلى مجاريها المحمودة. فجاءوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسري بدلاً من الزنا والسفاح، فصرفوا قوة الشهوة ومجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبه الله عزَّ وجلَّ. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816). واللفظ له.

وجاءوا بصرف قوة الغضب من الظلم والبغي إلى جهاد أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والغلظة عليهم، والانتقام منهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9]. وجاءوا بصرف قوة اللهو والركوب، إلى اللهو والرمي والمسابقة على الخيل وركوبها في سبيل الله واللهو في العرس والعيد. وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا يذم بل يحمد، وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للقرآن، وأمر ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه وسمع وتأثر بما سمع وبكى. وهذا سماع خواص الأولياء، فلا بدَّ للروح من سماع طيب تتغذى به، ولذا قال سبحانه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 4]. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ»، قال فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قال: «إِنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]. رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيل. متفق عليه (¬1). والسماع المذموم سماع المكاء والتصدية، وألفاظ الخنا، وآلات المعازف. فهذا غذاء .. وهذا غذاء .. ولكن لا يستوي من غذاؤه الحلوى، والطيبات، والعسل .. ومن غذاؤه الرجيع، والميتة، والدم، وما أُهلَّ به لغير الله. وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ويترك الطبيب. فالأنبياء والرسل هم أطباء القلوب والأبدان، وتزكية النفوس مسلَّم إليهم، فلا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4582)، ومسلم برقم (800). واللفظ له.

سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم. والله عزَّ وجلَّ إنما بعثهم لهذه التزكية، وولاهم إياها كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (¬1). والنفس آية من آيات الله العظيمة، وهي موجودة في كل حيوان، وهي في غاية اللطف والخفة، موجودة في البدن ولكنها لا ترى، سريعة التنقل والحركة، سريعة التغير والتأثر والانفعالات النفسية من الهم والإرادة، والقصد والحب والبغض، ولولاها لكان البدن مجرد تمثال لا حركة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7،8]. وللإنسان مع نفسه حالتان: الأولى: إما أن يطهر نفسه من الذنوب، وينقيها من العيوب، ويرقيها بطاعة الله، ويعليها بالعلم النافع، ويرفعها بالعمل الصالح، فهذا قد زكى نفسه بما يحبه الله، فهو من المفلحين كما قال سبحانه: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 10]. والناس متفاوتون في الأعمال والأخلاق تفاوتاً كبيراً، وذلك بحسب تفاوت الإيمان والأعمال والأخلاق، ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هي خالصة لله فتقبل وتبقى وتنفع صاحبها؟ أم هي غير خالصة لله فترد وتبطل وتفني، وتضر صاحبها؟ فالناس مختلفون، وأعمالهم وأخلاقهم متفاوتة كما قال سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل: 4]. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).

ولهذا بين الله عزَّ وجلَّ أن العاملين قسمان، ولكل قسم عمل وحكم وجزاء في الدنيا والآخرة: فالقسم الأول: من قام بما أمره الله به من التوحيد والإيمان، وأدى ما أمر الله به من العبادات المالية كالزكوات والصدقات والنفقات والكفارات، والعبادات البدنية كالصلاة والصوم، والمركبة منهما كالعمرة والحج ونحوهما، واتقى ما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وصدق بلا إله إلا الله وما دلت عليه، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي. فهذا يسهل الله عليه أمره، ويجعله ميسراً له كل خير، ميسراً له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7]. وأما القسم الثاني: فهو من بخل بما أمره الله به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، واستغنى عن الله، فترك عبادته وطاعته، ولم ير نفسه محتاجة إلى ربه الذي لا نجاة له إلا بعبادته وطاعته. وكذب بما أوجب الله على العباد التصديق به من الإيمان، وما يترتب عليه من الأعمال والثواب والجزاء. فهذا ييسره الله للحالات العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان، مقيضاً له فعل المعاصي؛ لأنه أتى بأسباب التعسير والهلاك، نسأل الله العافية كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 8 - 10]. وأخلاق البشر يمكن تغييرها وجرها إلى أن تكون حسنة أو قبيحة، حسب التذكير والوعظ، وحسب الإيمان والكفر، إلا أن بعض النفوس والطباع سريعة القبول والتأثر والتأثير، وبعضها صعب يحتاج إلى معالجة، وبعضها غير قابل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ،

وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (¬1). ومن سنة الله عزَّ وجلَّ في عباده أن الناس إذا غيروا ما بأنفسهم فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن معصية الله إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء والذلة والشدة، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، وكذلك الله عزَّ وجلَّ لا يغير ما بقوم من النعمة والإحسان ورغد العيش حتى يغيروا ما بأنفسهم، فينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن شكر النعم إلى البطر بها، فيسلبهم الله عند ذلك إياها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11]. والإسلام كله تغيير العواطف من الأدنى إلى الأعلى: من المخلوق العاجز إلى الخالق القادر .. ومن الدنيا إلى الدين .. ومن الاشتغال بالأموال والأشياء إلى المسارعة للإيمان والأعمال الصالحة .. ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية .. ومن الدعوة إلى الأشياء إلى الدعوة إلى الله. وجزاء ذلك كله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).

4 - فقه حسن الخلق

4 - فقه حسن الخلق قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا» متفق عليه (¬1). خلق الله عزَّ وجلَّ هذا الإنسان في أحسن تقويم، وجعله مركباً من جسد وروح، فالجسد مدرك بالبصر، والروح مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيأه وصورة، إما جميلة أو قبيحة. وخَلْق الإنسان: صورته الظاهرة .. وخُلُق الإنسان: صورته الباطنة. والنفس المدركة بالبصيرة: أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله أمره فقال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71 - 72]. فنبه سبحانه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح منسوبة إليه سبحانه. فالخلق: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فإن كانت الأفعال جميلة سميت خلقاً حسناً .. وإن كانت الأفعال قبيحة سميت خلقاً سيئاً. والخلق الحسن صفة الأنبياء والصديقين .. والخلق السيء صفة الشياطين والمجرمين. والأخلاق السيئة سموم قاتلة، تهوي بصاحبها إلى القاع، وتنظم صاحبها في سلك الشياطين. وحسن الخلق هو الاعتدال، فإذا مال عنه العبد وقع في ضده من سوء الخلق، وهذا الاعتدال تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخالق عزَّ وجلَّ، وكرامة منه لمن شاء من عباده. فكم من صبي يخلقه الله صادقاً سخياً كريماً حليماً. وتارة يحصل حسن الخلق بالاكتساب، وذلك بحمل النفس على الأعمال ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3559)، واللفظ له، ومسلم برقم (232).

الجالبة للخلق المطلوب. فمن أراد تحصيل خلق الجود، فليفعل فعل الجواد من البذل، ليصير بذلك طبعاً له، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، إلا أن ذلك يحتاج إلى تكرار ومداومة، كما أن نمو القامة والبدن يحتاج إلى وقت. وكما أن تعاطي أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طباعها، فكذلك مساكنة الكسل والكسالى يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير. وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر خيراً، فكذلك لا يستهان بقليل الذنوب، فإن دوامها يؤثر شراً. وكذلك تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الإيمان والخير، وإنما المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. والاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم لها ومرض، والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية، وتهذيب الأخلاق بالعلم. وكما أن البدن إذا كان صحيحاً فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه. كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الأخلاق فينبغي للعبد أن يسعى لحفظها، وجلب مزيد القوة إليها. وإن كانت عديمة الكمال سعى في جلب الكمال إليها. وكما أن أمراض البدن تعالج بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق السيئة التي هي من مرض القلب علاجها بضدها من الأخلاق الحسنة. فيعالج مرض الكبر بالتواضع .. ومرض الجهل بالعلم .. ومرض البخل بالكرم .. ومرضى السفه بالحلم .. ومرض الظلم بالعدل والإحسان .. وهكذا.

وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عما يشتهي من أجل صلاح البدن، فكذلك لا بدَّ من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب، بل هو أولى، فإن ألم مرض البدن يخلص منه بالموت، وألم مرض القلب يؤلمه قبل الموت وبعد الموت. وكل عضو في الإنسان خلقه الله لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، فمرض العين تعذر الإبصار .. ومرض الأذن تعذر السماع، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلقه الله من أجله وهو الإيمان والعلم، والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وتعظيمه، وعبادته وشكره، وإيثار ذلك على كل شهوة. ولو أن الإنسان عرف كل شيء ولم يعرف الله سبحانه فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة: الحب، فمن عرف الله أحبه. وعلامة المحبة: أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز مريضة. وأمراض القلوب خفية لا يعلمها أكثر الناس فلذلك يغفلون عنها، وإذا عرف الإنسان مرض قلبه، صعب عليه الصبر على مرارة دوائه؛ لأن دواءه مخالفة الهوى. وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، والأطباء هم العلماء بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه وأكثرهم مرضى، والطبيب إذا كان مريضاً .. فلما يلتفت إلى علاجه وإلى غيره. فلما قل العلماء الربانيون صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر أكثر الناس طب القلوب، ومرضها بالكلية، وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات، وباطنها عادات، لا تزيد إيماناً، ولا تحجز عن محرم، فهذا علامة أصل المرض.

وأما عافية القلب، وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة: فإن كان المرض مثلاً داء البخل فعلاجه بذل المال، ولكن لا يسرف ويصير إلى حد التبذير، فيحصل به داء آخر، بل المطلوب الاعتدال. وإذا أراد الإنسان أن يعرف الوسط فلينظر إلى نفسه: فإن كان جمع المال وإمساكه ألذ عنده وأيسر عليه من بذله لمستحقه فليعلم أن الغالب عليه خلق البخل، وهو مرض فليعالجه بالبذل. وإن كان البذل ألذ عنده وأخف عليه من الإمساك فقد غلب عليه التبذير، وهو مرض، فليرجع إلى المواظبة على الإمساك .. وهكذا ولا يزال الإنسان يراقب نفسه حتى تنقطع علاقة قلبه عن المال، فلا يميل إلى بذله ولا إمساكه. بل يصير عنده كالماء، فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليماً في المقام .. وهكذا بقية الصفات. ويجب أن يكون القلب سليماً من سائر الأخلاق السافلة، مزيناً بالأخلاق العالية، حتى لا تكون له علاقة بشيء من الدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها، غير ملتفتة إليها، ولا متشوفة إلى أسبابها، فحينئذ ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض فلا جرم من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، حاز على مثل هذا الصراط في الآخرة. ولأجل عسر الاستقامة ودوامها أمر الله العبد أن يقول في كل يوم مرات عديدة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7]. ومن لم يقدر على الاستقامة فليجتهد على القرب منها، فإن النجاة بالعمل الصالح، فسددوا وقاربوا، واستقيموا ولن تحصوا .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ».

َقالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). والأعمال الصالحة كالأخلاق الحسنة يصيبها الخلل والنقص، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه وأعماله وأقواله، وليشتغل بعلاجها تدريجياً، وليصبر على ذلك وشدته ومرارته فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه. وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العبد عيوبه أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرون الصغائر في غيرهم، ولا يرون الكبائر في أنفسهم. ولا بدَّ لكل مسلم مع الإيمان والإخلاص والعمل الصالح من الأخلاق الحسنة، فهي التي تحفظ الأعمال الصالحة. فيأتي العبد يوم القيامة بأعمال صالحة كالجبال، وهي من الأعمال المقبولة، ولكن إذا كانت أخلاقه سيئة أكلت هذه الأعمال. يأتي وقد شتم هذا .. وسب هذا .. وقذف هذا .. وسرق هذا .. وظلم هذا، وغدر بهذا .. وقتل هذا .. فماذا يبقى له من الأجر والحسنات إذا أخذ هؤلاء حقوقهم منه؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم (¬2). فالإيمان فريضة، وتعلمه فريضة .. والإخلاص فريضة، وتعلمه فريضة .. والعمل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6467)، واللفظ له، ومسلم برقم (2818). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2581).

فريضة، وتعلمه فريضة .. والأخلاق فريضة، وتعلمها فريضة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 34 - 36]. وأكمل الناس إيماناً أكملهم خلقاً .. ولذلك وصف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وأحسن الناس أخلاقاً هم الأنبياء والرسل، ثم يليهم من آمن بهم، فقد فرق الله الأخلاق الحسنة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها في محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم فرقها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي هي خير أمة أخرجت للناس، والناس معادن فيجب الاستفادة من هذه المعادن النفيسة فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هم خير القرون؛ لأنهم أخذوا الدين والأخلاق عن النبي مباشرة، فكانت فيهم حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجهد محمد - صلى الله عليه وسلم -. فظهرت في حياتهم أحسن الأخلاق كالإيمان والتقوى، والصدق والإخلاص، واليقين والتوكل، والرحمة والشفقة، والجود والكرم، والحياء والتواضع، والعدل والإحسان، والمحبة والإيثار. وغير ذلك من الصفات والأخلاق التي كانت سبباً في هداية الناس للدين، وجذبهم إليه، ومحبتهم له. وكانت فيهم صفات مشتركة بينهم لا يخلو منها أحد منهم أهمها: الإيمان بالله .. وطاعة الله ورسوله .. والعبادات التي تزكي النفوس وأعظمها الصلاة .. وتعلم العلم الذي تصح به العبادات والمعاملات وتعليمه .. والدعوة التي بسببها تنتشر الهداية .. والكرم الذي بسببه تُقبل النفوس إلى الدين .. والرحمة التي بسببها تنزل الرحمة عليهم وعلى الناس .. والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله .. والإخلاص الذي يُقبل به العمل .. ثم مضى زمن فصار الجهاد من أجل الملك والمال فتركه الناس، واشتغلوا بطلب العلم وتعليمه، ثم

دخلت الدنيا على طلبة العلم، ودخل فيهم من يطلب العلم لا لله، بل لأمر يريده من جاه أو مال. ثم اشتغل أناس من أهل الإيمان بالتزكية فلازموا المساجد، وتركوا الساحة للشيطان، يعيث في الخلق فساداً. ثم دخل فيهم ونافسهم أهل البدع والأهواء، فاشتغلوا بالتزكية الإبليسية، وتبعهم أناس على ذلك، وبذلك انتشرت البدع، وصارت ديناً يعبد الله به، ويتقرب إليه به. ثم ذهبت حقيقة العبادة وروحها، وبقيت في أكثر الأمة صورة العبادة ثم خرجت الأخلاق من المعاملات والمعاشرات، وترك أكثرهم الدعوة إلى الإيمان والأعمال، وأقاموا مكانها الدعوة إلى الأموال والأشياء .. فقامت الدنيا .. وقعد الدين .. وزاد المال .. وقل الإيمان .. وكثرت الأشياء .. وقلت الأعمال .. وقعد أكثر الناس على موائد الدنيا .. وقاموا عن موائد الآخرة؟ .. وتسابق أكثر الناس إلى سنن اليهود والنصارى .. وتركوا سنن الأنبياء والمرسلين .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» متفق عليه (¬1). فخير القرون قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، الذين فيهم الإيمان، والعبادة، والدعوة، والتعليم، والجهاد، ومكارم الأخلاق، ثم يليهم من بعدهم .. ثم من بعدهم .. ثم خيرهم مِنْ بعدهم من اتصف بصفاتهم، وعمل كأعمالهم، وتخلق بأخلاقهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3456)، ومسلم برقم (2669). واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652)، واللفظ له، ومسلم برقم (2533).

ومن فوائد مكارم الأخلاق: محبة الله ورسوله للعبد .. وكثرة الأجر والثواب .. وحفظ الأعمال الصالحة .. ومعية الله للعبد .. ومحبة الناس له .. وجذب الناس إلى الدين .. ومحبتهم له .. ودخولهم فيه. وكما أن للمؤمنين علامات .. وللكفار علامات .. وللحي علامات .. وللميت علامات، فكذلك أهل الأخلاق الحسنة لهم علامات .. وأهل الأخلاق السيئة لهم علامات: أما علامات حسن الخلق، فقد يجاهد الإنسان نفسه حتى يترك الفواحش والمعاصي، ثم يظن أنه قد هذب نفسه، واستغنى عن المجاهدة، وليس كذلك. فإن حسن الخلق: هو مجموع صفات المؤمنين التي وصفهم الله بها حين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112]. وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11].

ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: محبة الله ورسوله .. ومحبة دينه .. ومحبة المؤمنين .. وإكرام الجار .. وإكرام الضيف .. والقول الحسن .. والعفو .. وكف الأذى .. والصبر .. واحتمال الأذى .. وصلة الرحم .. والحلم والأناة .. والرفق والسماحة .. والعدل والإحسان .. والرحمة والشفقة .. وحفظ اللسان والسمع والبصر. ومن لم يجد في نفسه هذه الصفات، أو بعض هذه العلامات، فليجاهد نفسه حتى تصير صفة له. وقد بعث الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - متمماً لمكارم الأخلاق، فكان خلقه القرآن، وكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، يأمر بكل خير، ويكون أسبق الناس إليه، وينهى عن كل شر ويكون أبعد الناس منه، جمع مع جمال الباطن جمال الظاهر، فكان قدوة للناس، وأسوة للبشرية إلى يوم القيامة: في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق. وأمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في سائر أحواله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها له أدب: مع الله .. ومع كتابه .. ومع رسوله .. ومع نفسه .. ومع غيره .. فأدبه مع الله: يكون بالإيمان بالله، وتوحيده، وتعظيمه، ومحبته، وطاعته، وعبادته وشكره، والتوكل عليه، والحياء منه. وأدبه مع كتاب الله: يكون بحسن تلاوته، وسماعه، والعمل بما فيه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره، وإبلاغه للناس، والإعراض عما سواه. وأدبه مع رسول الله: يكون بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

وأدبه مع نفسه: يكون بحملها على طاعة الله ورسوله، وامتثال جميع أوامر الله على طريقة رسول الله، وفعل الخيرات، واجتناب المنكرات. وأدبه مع غيره: يكون بالعدل والإحسان، وحسن الخلق، والتوقير والإكرام، والإحسان إلى إخوانه المسلمين، وجيرانه، ووالديه، وأقاربه، وسائر الناس، وسائر المخلوقات، فالمؤمن كالغيث أينما حل نفع، وكالشمس حيث سار أنار. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه (¬1). وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالََ: «الْفَمُ وَالْفَرْج» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2). فكل عبد عليه حقان: حق الله عزَّ وجلَّ .. وحق لعباده. فالحق الذي عليه لا بدَّ أن يخل ببعضه أحياناً إما جهلاً، أو نسياناً، أو تهاوناً، إما بترك مأمور، أو فعل محظور، فأمره بتقوى الله. والمسلم يعمل ويخطئ عمداً وسهواً، فأمره بفعل الحسنات التي تزيل السيئات وتمحوها. وبهذا وذاك يكون قد قضى حق الله من العمل الصالح، وإصلاح الفاسد. ثم قال: وخالق الناس بخلق حسن، فهذا حق الناس. وجماع ذلك: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له .. وتعطي من حرمك من العلم والمال .. وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض .. وتحسن إلى من أساء إليك. ومعية الله ونصرته ومحبته تكون لمن اتصف بالصفات الإيمانية كالتقوى ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (481)، ومسلم برقم (2585). واللفظ له. (¬2) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630). وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).

والتوكل، والصبر والإحسان، والإيمان وغيرها. فمن اتصف بهذه الصفات أحبه الله، وكانت معه نصرة الله ومعيته، واستفاد من قدرة الله كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. فهنا نوعان: الأول: الصفات الإيمانية، ومن اتصف بها حصلت له نصرة الله ومعيته ومحبته كالإيمان واليقين والتوكل ونحوها. الثاني: الأعمال الإيمانية كالصلاة والصوم والحج ونحوها، فهذه على قسمين: الأول: أعمال مقبولة، وهي المقرونة بالصفات الإيمانية كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1،2]. الثاني: أعمال غير مقبولة، وهي الخالية من الصفات الإيمانية كما قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4،5]. والأعمال التي فيها شرك أو رياء، والرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ومن يجاهد ليقال جريء، أو يقرأ ليقال قارئ، أو ينفق ليقال جواد، كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]. والصفات الإيمانية محلها القلب .. والأعمال محلها الجوارح .. وأعمال الجوارح مبنية على ما في القلوب من الإيمان أو عدمه. وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة. وأصل الأخلاق المذمومة كلها: الكبر .. والمهانة .. والدناءة. فالفخر والبطر والأشر، والظلم والبغي والتجبر، والعجب والخيلاء والحسد، وإباء قبول النصيحة، وطلب العلم، وحب الرئاسة والجاه، كلها أمراض قلبية ناشئة من الكبر.

والكذب والمكر، والخسة والخيانة، والرياء والحرص، والخديعة والطمع، والجبن والبخل، والعجز والكسل، والفزع والذل لغير الله، ونحوها، كلها أمراض قلبية ناشئة من المهانة والدناءة وصغر النفس. فما أجمل مكارم الأخلاق .. وما أحسن التحلي بها .. وما أعظم أجرها وثوابها .. وما أخفها على نفوس الكرام .. وما أثقلها على نفوس اللئام .. وهي بحار مختلفة لا يقدر عليها كل أحد: بحر الصبر .. وبحر التقوى .. وبحر الحلم .. وبحر العفو .. وبحر الإيثار .. وبحر الإحسان .. وبحر الصدق .. وبحر العلم .. وبحر العدل. فلهذا قل واردها، وندر من أبحر فيها، وهي تقسم كما تقسم الأرزاق والآجال، ولها أهل، ولضدها أهل، والله أعلم حيث يجعل رسالته. إن العاقل حقاً من أرضى ربه قبل أن يلقاه .. وبنى قبره قبل أن يدخله .. وترك الدنيا قبل أن تتركه. ومن استطاع أن يتحلى بمكارم الأخلاق، ويترقى فيها حتى يكون إماماً لحيه، وإماماً للناس، فليفعل، فإن له من عمل كل مقتد به نصيب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (¬1). وحسن الخلق قسمان: حسن الخلق مع الله .. وحسن الخلق مع الناس. حسن الخلق مع الله أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله تعالى ونواهيه، يفعل ما أمره الله به، راضياً به، فرحاً بأدائه، مستبشراً بطاعة ربه، مجتنباً ما نهى الله عنه، وأن يعلم أن كل ما يكون من نفسه يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

يوجب شكراً، فلا يزال شاكراً لربه، معتذراً إليه من تقصيره، سائراً إليه بين مطالعة منة الله، وشهود عيب نفسه. وحسن الخلق مع الناس جماعه أمران: بذل المعروف قولاً وفعلاً .. وكف الأذى قولاً وفعلاً. ففي المعاملات مع الناس يكون سمحاً لحقوقه، لا يطالب بها غيره، ويوفي ما يجب عليه لغيره منها: فإن مرض ولم يعد .. أو قدم من سفر فلم يزر .. أو ضاف فلم يكرم .. أو أحسن فلم يشكر .. أو تكلم فلم ينصت له .. أو استأذن فلم يؤذن له .. أو خطب فلم يزوج .. وما أشبه ذلك لم يغضب ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ولا يقابل ذلك بمثله. بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كلاً منه بما هو أحسن وأفضل، واقرب منه إلى البر والتقوى. ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه أفضل وأحسن وأجمل، فإذا مرض أخوه المسلم عاده .. وإن استمهله في قضاء دين أمهله .. وإن جاء في شفاعة شفعه .. وإن احتاج منه إلى معونة أعانه .. وإن استسمحه في بيع سمح .. ولا ينظر ولا يلتفت إلى سوء معاملته له فيما خلا. إنما يتخذ الأحسن إماماً لنفسه، ويسبق إلى كل فضيلة، ويأنف من كل رذيلة، ويتجاوز لإخوانه عن كل سيئة، ويعفو ويصفح، ويتبع السيئة الحسنة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34،35]. وبحسب قوة إيمان العبد، وكمال تصديقه بالجزاء، ومعرفة حسن موعود الله وثوابه، يسهل على العبد تحمل ذلك، والقيام به، ويلذ له الاتصاف به. وحسن السمت من أخلاق الأنبياء والصالحين، وهو دليل على كمال الإيمان

ورجاحة العقل، وهو حسن المظهر الخارجي للإنسان من طريقة الكلام والصمت، والحركة والسكون، والدخول والخروج، وحسن الهيئة، وحسن السيرة العملية بين الناس، وحسن المعاشرة مع الأهل. عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: كَانَ النَّبِيُّ (مَرْبُوعاً، وَقَدْ رَأيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأيْتُ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْهُ. متفق عليه (¬1). وحسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُّحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم (¬2). وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنَا، فَقال: «مَا ظَنُّكَ يَا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» متفق عليه (¬3). والأخلاق غرائز كامنة، وحسن الخلق ميل النفس نحو الأرفق الأحمد من الأقوال والأفعال، والتخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله التي ذكرها في كتابه. وإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر محبوه وقلّ معادوه، فسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب، ونبتت على جوارحه المحاب، وسال لسانه بكل ما لذ وطاب. فحسن الخلق ذهب بخيري الدنيا بالآخرة، وخيار الناس أحاسنهم أخلاقاً. وأحسن البشرية أخلاقاً على الإطلاق سيد الأولين والآخرين، وسيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. ولحسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وكمال أدبه، فهو محمود عند الله .. ومحمود عند ملائكته .. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5848)، واللفظ له، ومسلم برقم (2337). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2877). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3653)، واللفظ له، ومسلم برقم (2381).

ومحمود عند إخوانه المرسلين .. ومحمود عند أهل الأرض كلهم .. وما فيه من صفات الكمال محمود عند كل عاقل .. وهو أحمد الخلق لربه. وهو محمود بما يملأ به الأرض من الهدى والإيمان، والعلم النافع والعمل الصالح .. فتح الله به القلوب .. وكشف به الظلمة عن أهل الأرض .. واستنقذهم من أسر الشياطين .. ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به .. ونال أتباعه شرف الدنيا والآخرة. أغاث الله به البلاد والعباد .. وأحيا به الخليقة بعد الموت .. فهدى به من الضلالة .. وعلَّم به من الجهالة .. فعرف الناس ربهم ومعبودهم. عرَّفهم بربهم .. وعرَّفهم بالطريق الموصل إليه .. وعرَّفهم بمالهم بعد القدوم عليه. لم يدع حسناً إلا أمرهم به .. ولا قبيحاً إلا نهاهم عنه .. ولم يدع باباً من أبواب العلم النافع المقرب إلى الله إلا فتحه .. ولا مشكلاً إلا بيَّنه وشرحه .. ولا خيراً إلا رغَّب به .. ولا شراً إلا حذر منه. حتى هدى الله به القلوب من ضلالها .. أرسله الله رحمة للعالمين. فأي بشر أحق بأن يحمد منه - صلى الله عليه وسلم -؟. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم، وأسخاهم، وأصبرهم، وأعظمهم عفواً ومغفرة ورحمة، وأعظم الخلق نفعاً للعباد في دينهم ودنياهم، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه. ولما كانت هذه صفاته، وهذه أخلاقه، أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نقتدي به كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

5 - فقه الأدب

5 - فقه الأدب قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. الأدب: هو اجتماع خصال الخير في الإنسان. وأكمل الخلق أدباً هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم من سار على هديهم من المؤمنين والصديقين. والأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله .. وأدب مع رسوله .. وأدب مع خلقه. فالأدب مع الله يكون بصيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة، وصيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره، وصيانة إرادته أن تتعلق بما يمقته الله عليه. فالعبد يصل بطاعة الله إلى الجنة .. ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وترك الأدب يوجب الطرد. وأنفع الأدب: الفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك. وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن. والأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالس الملوك كما قال سبحانه عن الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. والناس في الأدب ثلاث طبقات: فأهل الدنيا: أكبر آدابهم في الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم.

وأهل الدين: أكثر آدابهم في مخالفة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ الحدود، وترك الشهوات. وأما أهل الخصوص: فأكبر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب. والكمال لزوم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً. ومن تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة. وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل، ومن الباطن إلى الظاهر. والأدب هو الدين كله. فإن ستر العورة من الأدب .. والوضوء والغسل من الأدب .. والتطهر من الخبث من الأدب .. حتى يقف العبد بين يدي الله طاهراً .. والتجمل والتزين بين يدي الله في الصلاة من الأدب .. وخفض العبد بصره في الصلاة من الأدب .. وعدم قراءة القرآن في حال الركوع والسجود من الأدب، فإن القرآن كلام الله، وكلامه أشرف الكلام، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين. ومن الأدب مع الله ألا يستقبل بيته ولا يستدبره حال قضاء الحاجة. ومن الأدب مع الله وضع اليد اليمنى على اليسرى عند الوقوف بين يديه في الصلاة. فالأدب مع الله عزَّ وجلَّ هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً. ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره .. ونفس مستعدة قابلة لينة .. متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً.

وأما الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن مملوء به: فرأس الأدب معه الإيمان به .. وكمال التسليم له .. والانقياد لأمره .. وتلقي خبره بالقبول والتصديق، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والقصد والخضوع والذل، والإنابة والتوكل. فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل .. وتوحيد متابعة الرسول .. فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]. والتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته. ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - ألا ترفع الأصوات فوق صوته، فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الرأي برفع الأراء على سنته وما جاء به كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. ومن الأدب معه ألا يجعل دعاءه كدعاء غيره، كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم. فلكل مرتبة أدب خاص.

فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهما أدب هو أخص به، وللأم أدب هي أخص به. وللعالم أدب آخر يليق به .. ومع السلطان أدب يليق به .. وله مع الأفراد أدب يليق بهم .. ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه .. ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته. ولكل حال من أحوال الإنسان آداب: فللأكل آداب .. وللشراب آداب .. وللركوب آداب .. وللسفر آداب .. وللدخول والخروج آداب .. وللكلام آداب .. وللنوم آداب .. وللصحة آداب .. وللمرض آداب .. وللمجالس آداب .. وللنكاح آداب .. وهكذا. وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره. والأدب حفظ الحد بين الغلو والجفا، فالانحراف إلى أحد طرفي الغلو، والجفا هو قلة الأدب. والأدب الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حداً له، فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين، والعدوان سوء الأدب. فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لا يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها، وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها. وفي حق الأنبياء: لا يغلو فيهم كما غلت النصارى .. ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود. فالنصارى عبدوهم، واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط المسلمون آمنوا بهم، وعزروهم، ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به، كما قال سبحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]. وأما الأدب في حق الخلق، فلا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها

بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكليمها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، ولا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وحقيقة الأدب العدل، وكمال الأدب وحسنه من أعلى درجات العبودية. والأدب على ثلاث درجات: الأولى: منع الخوف ألا يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة. فلا يدع العبد الخوف من الله يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله، فهذا خوف مذموم، فالخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه، والتي وسعت كل شيء كما قال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]. وحد الخوف ما حجز الإنسان عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه. ولا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون كما قال سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]. وحد الرجاء ما طيب لك العبادة، وحملك على السير. وأما ضبط السرور فلا يقدر عليه إلا الأقوياء الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم. الدرجة الثانية: الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض، والصعود من الرجاء إلى ميدان البسط، ومن السرور إلى المشاهدة، فيقبض نفسه عن كل ما يسبب له العقوبة، ويطمئن إلى رحمة ربه، ويأنس به ويناجيه كأنه يراه بجلاله وجماله وكماله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].

الدرجة الثالثة: معرفة الأدب، فإذا عرفه وصار له حالاً نسبه إلى ربه دون نفسه، ويغني عن نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه، وشهود منته، وهو الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53،54]. والانبساط: إرسال سجية النفس مع الغير، وإزالة الوحشة الواقعة بين العبد ومن يحب بالانبساط إليه. والانبساط إلى الخلق يكون بألا يعتزلهم ضناً على نفسه، أو شحاً على حظه، بل تحمله السماحة والجود على ترك العزلة، ومجالسة إخوانه، وانتفاعهم بمجالسته، ويؤثرهم على نفسه، فينالون من فضله. وليسعهم بخلقه باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة، ويوقرهم بلينه وتواضعه، ويخفض لهم جناحه، بحيث لا يترك لنفسه بينهم مرتبة يحترمونه من أجلها، مع حفظ حاله وقلبه مع الله. والانبساط مع الحق سبحانه هو ألا يمنعك عن الانبساط إليه خوف، والبسط يأتي من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان، والتودد والرحمة. والقبض يأتي من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام. ولا يحجبك رجاء، فإن الراجي يحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه إليه، فينبسط إلى ربه انبساط فرح وسرور، ويأنس به، ويتملقه ويبتهج به. اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غيرضالين ولا مضلين.

6 - فقه مكارم الأخلاق

6 - فقه مكارم الأخلاق قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 133 - 135]. الأدب: هو استعمال ما يحمد وما يحسن من الأقوال والأعمال ومكارم الأخلاق. ومكارم الأخلاق: هي مجموع الصفات الحسنة التي يتزين بها الإنسان ابتغاء وجه ربه، ويتميز بها عن غيره، فيحبه الله ويحبه الناس بسببها كالإيمان بالله، وكمال الطاعة لله ورسوله، والعمل بشرعه، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، واستعمال الأخلاق الكريمة معهم، والصفح عن عثراتهم، وحسن الخلق معهم، وبذل الندى، وترك ما تهوى لما تخشى. وأن لا يشهد العبد لنفسه فضلاً، ولا يرى له حقاً، يعم الناس بفضله ونصحه وبره كما تعم الشمس بنورها سائر الخلق، فهم يحبونها لنورها ونفعها، ومن لا نور فيه ولا نفع فمن ذا يحبه؟. ومكارم الأخلاق على ثلاث درجات: الأولى: ترك خصومة الخلق، والتغافل عن زلاتهم، ونسيان أذاهم، فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غير نفسه، فلا يخاصم بلسانه ولا بقلبه، ولا يخطر على باله، هذا في حق نفسه. وأما في حق ربه فيخاصم بالله وفي الله، ويحاكم إلى الله، وإذا رأى من أحد زلة

أظهر أنه لم يرها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة، ويريحه من تحمل العذر أمامه، ومن أحوج عدوه إلى الشفاعة، ولم يخجل من قيامه بين يديه معتذراً، لم يكن له في الفتوة نصيب. والتغافل عن الزلات: أكمل وأرفع من الكتمان مع الرؤية، وينسى أذية من ناله بأذى ليصفو قلبه له، ولا يستوحش منه من آذاه. ومن مكارم الأخلاق نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه، حتى كأنه لم يصدر منك، وهذا النسيان أكمل من الأول. الثانية: أن تكرم من يؤذيك، وتقرب من يقصيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، وتعطي من حرمك سماحة لا كظماً، ومودة لا مصابرة، فتحسن إلى من أساء إليك، وتعامله بضد ما عاملك به، فتنقلب عداوته لك صداقة، وبغضه محبة، وأذاه إحساناً كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34،35]. ومن أراد فهم هذه الدرجة فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس، يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للناس منها بحسب إيمانهم ومجاهدتهم. ومن مكارم الأخلاق أن ينزل العبد نفسه مع الناس منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر، والله سلطه عليك بذنبك. وإذا علمت أنك بدأت بالجناية، فانتقم الله منك على يده كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار، وتفعل هذا كله عن سماحة نفس، وانشراح صدر، لا عن كظم وضيق ومصابرة، فإن هذا دليل على أن هذا ليس في خلقك، وإنما هو تكلف يوشك أن يزول إذا فقد سببه. الدرجة الثالثة: أن يسير العبد إلى الله على قدم اليقين، وطريق البصيرة والمشاهدة، ولا يتعلق في سيره بدليل، فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود

المطلوب سبحانه. ولا يستغني طرفة عين عن الدليل الذي يوصله إلى المطلوب وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقتدي بسننه وآدابه في جميع أحواله، لتحصل له محبة الله له، ومغفرة ذنوبه كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. وأحسن أحوال العبد أن يكون ذاكراً لربه في كل حال، مقدماً لمحبته على كل محبوب، ويرجوه ويخافه وحده لا شريك له، ويتقيه ويخشاه والله عزَّ وجلَّ لا يدخل حبه في قلب العبد حتى يخرج العبد حب غيره من قلبه، ولا يدخل عظمته في قلبه حتى يخرج العبد عظمة غيره من قلبه. وخشية الله تحصل بأمرين: العبادة .. والدعوة. فالدعوة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} [الأحزاب: 39]. والعبادة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]. ومن مكارم الأخلاق حسن ظن العبد بربه، وحسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حَسَّن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والمعاصي والظلم، فإن وحشة ذلك تمنعه من حسن الظن بربه، فالمسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له. فالمؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، والفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل كما قال سبحانه: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 23].

7 - فقه المروءة

7 - فقه المروءة قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله». وَأحْسِبُهُ قَالَ: «كَالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ» متفق عليه (¬1). المروءة: استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح، واستعمال ما يجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه. وفي نفس كل إنسان ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد، والبطر والعلو، والبغي والشر، والظلم والفساد، والغش والأذى. وداع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان، وهو داعي الشهوة والحرص والطمع. وداع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة من الإحسان والنصح، والبر والعلم، وحسن الطاعة، وكمال الاستقامة. فحقيقة المروءة: بغض الداعيين الأولين، وإجابة الداعي الثالث. وقلة المروءة: إجابة ذينك الداعيين، وترك الثالث. والمروءة لها ثلاث مراتب: المروءة مع النفس .. والمروءة مع الخلق .. والمروءة مع الحق. فالمروءة مع النفس، تكون بحملها قسراً على ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن أراد شيئاً في سره وخلوته ملكه في جهره وعلانيته، فلا يفعل خالياً ما يستحي من فعله في الملأ إلا ما يحضره الشرع والعقل كالجماع والتخلي ونحو ذلك. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6007)، واللفظ له، ومسلم برقم (2982).

الثانية: المروءة مع الخلق، بأن يستعمل معهم الحياء والخلق الجميل، وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره. الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، بالاستحياء من نظره إليك، وإصلاح عيوب النفس قدر الإمكان، فإن الله قد اشتراها منك، وليس من المروءة تسليم المبيع على ما فيه من العيوب، وتقاضي الثمن كاملاً. وحقوق المروءة كثيرة، وشروطها في نفس الإنسان مع الاستقامة ثلاثة: الأول: العفة: وهي نوعان: العفة عن المحارم .. والعفة عن المآثم. الثاني: النزاهة: وهي نوعان: النزاهة عن المطامع الدنيوية .. والنزاهة عن مواقف الريبة. الثالث: الصيانة: وهي نوعان: صيانة النفس بالتزام كفايتها .. وصيانتها عن تحمل المنن من الناس؛ لأن المنَّة تحدث ذلة. أما شروط المروءة في الغير فهي ثلاثة: المؤازرة: وهي نوعان: الإسعاف بالجاه، ويكون من الأعلى قدراً، وربما كان أعظم من المال نفعاً، ومن بخل به فهو أسوأ من البخيل بماله، والإسعاف في النوائب. الثانية: المياسرة، وهي نوعان: العفو عن الهفوات .. والمسامحة في الحقوق. الثالثة: الإفضال، وهو نوعان: إفضال اصطناع، وهو ما أسداه إلى غيره جوداً وكرماً. وإفضال استكفاف، وهو الكف عن السفهاء؛ لأن ذا الفضل لا يعدم حاسد نعمة يبعثه اللؤم على البداء بسفهه. والفرق بين العقل والمروءة، أن العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.

والمروءة صدور الأفعال الجميلة الممدوحة شرعاً وعقلاً وعزماً من الإنسان لكافة المخلوقات. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3467)، واللفظ له، ومسلم برقم (2245).

8 - فقه الإيثار

8 - فقه الإيثار قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16،17]. الإيثار: أن يؤثر الإنسان غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه. وعكسه الأثرة: وهي استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. والفرق بين الإيثار والأثرة: إن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك، والأثرة اختصاصك به على الغير. والإيثار له حالتان: فهو إما أن يتعلق بالخلق .. وإما أن يتعلق بالخالق. فإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك، بما لا يضيع على الإنسان وقتاً، ولا يفسد عليه حالاً، ولا يهضم له ديناً، ولا يسد عليه طريقاً، ولا يمنع له وارداً. فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن المؤمن حقاً من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان. فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على أهله الإيثار بالدنيا من طعام ومال، ومسكن ومركب ونحو ذلك، لا بالوقت والدين، وما يعود بصلاح القلب كما وصف الله الأنصار بذلك ومدحهم به بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. والله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين بالمسابقة في أعمال البر والخير، والمسارعة إليها، والمنافسة فيها، والقرعة عند التزاحم عليها، وهذا ضد الإيثار بها.

فلم يجعل الله الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، فلا يستحب الإيثار بالقربات؛ لأن الإيثار بها قد يشعر بالزهد فيها، والاستغناء عنها، وعدم الحاجة إليها. كما أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه كالطعام والشراب، واللباس والمركب، والمجلس ونحو ذلك. أما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشتركت الألوف المؤلفة في الطاعة الواحدة كالصلاة والصوم لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووسعتهم كلهم، وأن قدر التزاحم في عمل واحد، فإن في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله. وأيضاً فالمقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، والمنافسة في محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وعدم المنافسة فيه، وهذا غير مناسب. وإيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة .. وإيثار حب وإرادة. فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه. والثاني: يؤثره إجابة لداعي محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه بكل ما يحب، فإيثاره هو أجل حظوظه، فحظه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار. وهذا مطلب عال لا تفهمه إلا النفس اللطيفة المشرقة الورعة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فلتدرج .. والدين كله .. والمعاملة كلها في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره. والنفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار، ولكن الذي يسهل على النفس هذا الإيثار أمور: أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق، ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق

الإنسان وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. الثاني: النفرة من خلق اللئام، ومقت الشح وكراهته له. الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله لبعض المسلمين على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف على حده، بل لا بدَّ من مجاوزته إلى الفضل، أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه من البركة، وفيضان الخير عليه. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار: وهو خلق الفضل. وخلق التسوية: وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد: وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه، ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها. وصاحب الاستئثار، النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حدوره، وهل أزال الممالك وقلعها من جذورها إلا الظلم والاستئثار والاستبداد، فإن أصعب شيء على النفوس هذه الصفات، فإنه لا صبر لها عليها. والإيثار ضد الشح، ومراتبه ثلاثة: أحدها: أن يعطي غيره الأكثر، ويبقى له شيئاً، فهو الجود. الثاني: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو سخاء. الثالث: أن يؤثر غيره بالشيء المحبوب مع حاجته إليه، فهو الإيثار وهو أعلى المراتب. فهذا الإيثار المتعلق بالخلق.

وأما الإيثار المتعلق بالخالق فهو أجلّ من هذا وأفضل، وهو إيثار حب الله على حب غيره، وإيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار خوفه على خوف غيره، وإيثار رجائه على رجاء غيره، وإيثار الذل له سبحانه، والخضوع له، والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره، وإيثار الطلب منه، والسؤال له، وإنزال الفاقات به وحده دون غيره. فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على نفسه وغيره من أعظم الأغيار، فآثر الله عليها، وترك محبوبها لمحبوب الله عزَّ وجلَّ. وعلامة هذا الإيثار شيئان: الأول: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه. الثاني: ترك ما يكرهه الله إذا كانت النفس تحبه وتهواه. فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار. ومؤنه هذا الإيثار شديدة؛ لغلبة الأغيار، وقوة داعي العادة والطبع، ولا تتم سعادة العبد وفلاحه إلا به، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، والذي يسهله على العبد أمور: أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة. الثاني: أن يكون إيمانه راسخاًَ، ويقينه قوياً، فإن الإيثار ثمرة الإيمان. الثالث: قوة صبره وثباته. والإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح به، وبخل بإخراجه. فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2578).

وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الأنصار بالإيثار، وأخبرهم أنهم سيلقون بعده أثرة فليصبروا كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ» متفق عليه (¬1). وقد وقع ما قال - صلى الله عليه وسلم - من استئثار الناس على الأنصار في الدنيا، وهم أهل الإيثار، ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته، ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار، فاعلم أنه لخير يراد بك. والإيثار على ثلاث درجات: الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك ديناً، ولا يقطع عليك طريقاً، ولا يفسد عليك وقتاً، كأن تطعمهم وتجوع، وتسقيهم وتظمأ، وتريحهم وتتعب، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب ما لا يجوز في الدين، ولا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك لربك، ومثل أن يؤثر بوقته غير ربه. فكل سبب يعود على الإنسان بصلاح قلبه ووقته وحاله مع الله فلا يؤثر به أحداً من الناس، فإن آثر به فإنما يؤثر الشيطان على الله، وهو لا يعلم. الثانية: إيثار رضا الله على رضا غيره، ولو غضب الخلق كلهم، وهي درجة الأنبياء والمرسلين، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة القريب والبعيد في الله. وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضا ربه لومة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3793)، واللفظ له، ومسلم برقم (1845).

لائم حتى أظهر الله دينه. وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل أن من آثر مرضاة الله على مرضاة الخلق، أن يرضى الله عنه، ويرضى عنه الخلق، فتنقلب مخاوفه أماناً، وتعبه راحة، وبليته نعمة. ومن آثر مرضاة الخلق على مرضاة ربه أن يسخط الله عليه، ويسخط عليه الناس، خاصة من آثر رضاه من الناس، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه. فيعود حامده ذاماً، ومن آثر مرضاته مساخطاً، وتلك سنة الله. ورضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل، فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحسن لك من أن يرضوا عنك، والله غير راض عنك، وكل من آثر رضا الله فلا بدَّ أن يعاديه أراذل العالم وجهالهم، وأهل البدع والفجور منهم، وأهل الرياسات الباطلة، وكل من يخالف هديُه هديَه. الثالثة: أن ينسب العبد إيثاره إلى الله دون نفسه، وأنه سبحانه هو الذي تفرد بالإيثار دون الإنسان، فهو المؤثر حقيقة، إذ هو المعطي حقيقة، والمالك لكل شيء، والمعين لكل أحد. والناس صنفان: منهم من يؤثر الدنيا على الآخرة، ويختار نعيمها المنغص المكدر على نعيم الآخرة، وهم الكفار. ومن يؤثر الآخرة على الدنيا، ويؤثر نعيمها وسرورها الدائم الكامل على نعيم الدنيا الناقص الزائل، وهم المؤمنون. والمؤمن العاقل يختار الآخرة؛ لأنها خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء. وحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، وذلك ثمرة فساد العقل والقلب: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16،17].

9 - فقه الحكمة

9 - فقه الحكمة قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. وقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. الحكمة: هي العلم النافع، والعمل الصالح. وكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية: فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق، ومعرفة المقصود به. وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير، وترك الشر. وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك. فالحكمة: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل. والحكمة نوعان: علمية، وعملية. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً وأمراً، وقدراً وشرعاً. والعملية: هي وضع الشيء في موضعه. والحكمة على ثلاث درجات: الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً. فإضاعتها تعطيل للحكمة، بمنزلة إضاعة البذر، وسقي الأرض، وتعدي الحق، كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد. وتعجيلها عن وقتها كحصاد الزرع قبل إدراكه وكماله، وترك الغذاء والشراب

واللباس إخلال بالحكمة، وتعدي الحد المحتاج إليه خروج عنها. وتعجيل الشيء قبل وقته إخلال بالحكمة، وتأخيره عن وقته إخلال بها كذلك. فالحكمة إذاً .. فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي. والله تبارك وتعالى أورث الحكمة آدم وبنيه، فالرجل الكامل من له إرث كامل من أبيه، والناس فيه درجات، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى. وأكمل الخلق في ذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم أولو العزم، وأكمل أولي العزم محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا امتن الله عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} [البقرة: 151]. فكل خلق، وكل أمر، وكل حركة، وكل سكون، وكل موجود، مرتبط بهذه الصفة، وكل نظام في الوجود قائم على هذه الصفة، وكل خلل في الوجود والتصرفات فسببه الإخلال بها. فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً .. وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً. والحكمة لها ثلاثة أركان: العلم .. والحلم .. والأناة. وآفاتها وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة، فلا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول. الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه، فتعرف عدله في وعيده، وإحسانه في وعده. وكل قائم بحكمته كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وكذلك تعرف عدل الله في أحكامه الشرعية، وأحكامه الكونية الجارية على

الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا حيف ولا جور، وإن أجراها على أيدي الظلمة فهو أعدل العادلين، ومن جرت على يديه فهو الظالم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. وكذلك تعرف بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، وما منع من منعه فضله إلا لحكمة كاملة في ذلك. فإنه الجواد الحكيم، وحكمته لا تناقض جوده. فهو سبحانه حكيم خبير، لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته، بقدر ما تقتضيه حكمته: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشورى: 27]. ولو علم الله في الكفار خيراً وقبولاً لنعمة الإيمان، وشكراً له عليها، ومحبة لها، واعترافاً بها، لهداهم إلى الإيمان. ولهذا لما قالوا للمؤمنين: أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟. فأجابهم الله بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. فالله سبحانه ما أعطى إلا بحكمته، ولا منع إلا بحكمته، ولا هدى إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته. الثالثة: أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم، وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر واضحاً جلياً. والفراسة: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، يفرق به بين الحق والباطل، والمؤمن والمنافق، والصادق والكاذب. والفراسة على حسب الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فراسة، ومن غضّ بصره عن الحرام، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السنة، ولسانه بدوام ذكر الله، وتعود أكل الحلال، واجتنب الحرام، لم تكد تخطئ له فراسة.

وللفراسة سببان: أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحدة قلبه، وحسن فطنته. الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه. فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر، كانت فراسته بين بين. والحكمة في القرآن وردت على عدة أوجه: الأول: صفة من صفات الله عزَّ وجلَّ، والمراد بها إيجاد الأشياء على غاية الأحكام والدقة كما قال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18]. الثاني: القرآن الكريم كما قال سبحانه: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1،2]. الثالث: السنة النبوية كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129]. الرابع: الموعظة كما قال سبحانه: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر: 5]. الخامس: العلم والفقه كما قال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. السادس: النبوة كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)} [الزخرف: 63]. السابع: الفهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} [لقمان: 12]. فسبحان الحكيم العليم الذي فتق الأرض بالنبات، وفتق الحبة عن الشجرة، وفلق ظلمة الليل عن ضوء النهار، وفلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة.

الذي كما اقتضت رحمته وحكمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمداً، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم، كذلك اقتضت رحمته وحكمته أن لا يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل هداهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم. فما أسعد النفوس التي تأخذ به، وما أشقى النفوس التي تعرض عنه إلى حكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. والله سبحانه جعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم بالدين، فياسعادة من عرف ربه، وعرف الطريق الموصل إليه، وعرف حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وعمل بموجب ذلك. فالله عزَّ وجلَّ حكيم عليم، كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الملك الحكيم العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته. وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته كما قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} [القلم: 35]. وقد فطر الله قلوب العباد على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام. فما بال بعض العقول والفطر لا تشهد حكمة الرب البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة، وهم الكفار الذين كفروا بالله ونعمه ودينه، والمشركون الذين أشركوا مع الله غيره من خلقه. فهذه المحال لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة.

فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعداء الله الصادين عن سبيله .. الساعين في خلاف مرضاته .. الذين يعطلون ما حكم به .. ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره .. والحكم لغيره .. والطاعة لغيره. والذين يحبون ما يبغض الله ويدعون إليه .. ويبغضون ما يحب الله، وينفِّرون الناس عنه .. ويوالون أعداءه وأبغض الخلق ويظاهرونهم على الله وعلى رسوله كما قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55].

10 - فقه العزة

10 - فقه العزة قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10]. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. العزة كلها لله تبارك وتعالى، فهو العزيز الذي لا يغلب، وليس شيء منها عند أحد سواه. فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره وهو الله جل جلاله. إن القبائل والعشائر، والجاه والسلطان، والأموال والعلوم، كل هذه ليست مصدراً للعزة، فإن العزة لله جميعاً، وإذا كانت لهؤلاء قوة، فمصدرها الأول هو الله. وإذا كانت لهم منعة فواهبها الله، فمن كان يريد العزة فليأخذها من المصدر الأول، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر. ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} [يونس: 65]. إن هذه الحقيقة إذا استقرت في القلب، استطاع هذا القلب أن يقف أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً شامخاً متكلاً على ربه: إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر .. ولا لعاصفة طاغية .. ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. والعزة لا تنال إلا بطاعة الله، وتكون بالقول الطيب والعمل الصالح.

القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه، والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه، ويكرمه بهذا الارتفاع، ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء كما قال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. والعزة العليا حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس، حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها المسلم على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله: حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي .. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة .. ومخاوفه ومطامعه من الناس. ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تُذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامعهم، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع، وعلى كل شيء، وعلى كل إنسان مهما كان وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان. إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل. وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار. وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة، ويذل للشهوة. وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح. كلا .. إنما العزة التي يتحلى بها المسلم هي: استعلاء على شهوات النفس .. واستعلاء على القيد والذل .. واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله .. ثم هي خضوع لله وخشوع .. وخشية لله وتقوى .. ومراقبة الله في السراء والضراء. ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية تصمد لكل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا تعني إلا برضاه. هذه هي العزة وذاك طريقها.

والذين يمكرون السيئات طلباً للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء، وأنهم أقوياء، ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إلى الله، وبهما تكون العزة حقاً. فأما المكر السيئ قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة، ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار، وإلى العذاب الشديد، وعد الله لا يخلف الله وعده، وإن أمهل الكافرين بالسوء، حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10]. والعزة كلها في عبادة الله وحده لا شريك له؛ لأنها تذكرني دائماً بأنني متساو أمام الله مع أكبر خلقه في الدنيا وأعلاهم شأناً. وأنني أنا وهو نصلي معاً، ونصوم معاً، ونحج معاً، ونذكر الله معاً، ونتلو القرآن معاً، ونؤدي الطاعات كلها لله معاً، سواء بسواء. هذا من جانب. ومن جانب آخر فأنا عبد الله الذي لا يتركني أبداً، إذا أردت أن أقف بين يديه تطهرت واتجهت إلى القبلة، وقلت: الله أكبر، فأعظمه وأحمده، وأسأله وأستغفره، ثم أقدم التحية له وأنصرف. وعظماء الدنيا إذا أردت من أحدهم شيئاً فدون ذلك عقبات وعقبات، فإذا تجاوزت تلك العقبات، وتمت المقابلة، وأردت أن تشرح ما جئت لأجله فقد لا يستمع إليك، ويقوم واقفاً لينهي المقابلة والمناقشة. انظر إلى هذا كله ترى حجم الذلة والإهانات التي تمر بها في مقابلة واحدة، لمخلوق واحد. ثم انظر إلى عبوديتك لله سبحانه، وأنت الذي تحدد الزمان والمكان، فالله موجود دائماً لتدعوه بما تريد، في أي وقت تريد، والله يستمع إليك، ويجيب

دعوتك كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. والله سبحانه الغني عن كل ما سواه، لا يمل حتى تمل أنت، فلو ظللت طول الليل تناجي مولاك وتدعوه فالله معك يستمع إليك حتى تمل أنت، وتتوقف عن الدعاء. إذاً فحسب نفسي عزاً أنني عبد الله يحتفي بي بلا مواعيد، ويضاعف لي أجور عملي، ويكرمني بالدخول عليه، والوقوف بين يديه كل وقت، وفي أي مكان، أطلب ما أريد، واستغفره من كل ذنب، وأسأله كل خير. فأي عزة للمؤمن فوق هذا في الدنيا؟ والعزة في الآخرة أعظم وأكبر، حيث النعيم المقيم في الجنات، ورضوان رب الأرض والسموات: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. والله تبارك وتعالى هو العزيز الكامل في عزته، له عزة القوة وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات. فهو العزيز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده. والعزيز من العباد من يحتاج إليه الناس في أهم أمورهم، وهي الحياة الأخروية والسيادة الأبدية، وهذه رتبة الأنبياء والرسل، ويشاركهم في العز من ينفرد بالقرب من درجتهم كالخلفاء والعلماء، وعزة كل واحد منهم بقدر علو مرتبته في الاستقامة، وبقدر عنائه في إرشاد الخلق. والعزة نوعان: عزة محمودة ... وعزة مذمومة. ووجه ذلك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية، وهي العزة الحقيقية كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ

لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8]. فالله سبحانه هو العزيز، وعزه سبحانه هو المصدر لكل عزة، وعز الرسل والمؤمنين مستمد من عِزِّ الله عزَّ وجلَّ، وعلى هذا فالعز كله لله، والعزة التي عند الإنسان لا تكون فضيلة محمودة إلا إذا استظلت بظل الله، واحتمت بحماه، أما عزة الكفار المذكورة في قوله سبحانه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص: 2]، فهذه العزة هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل؛ لأنه تَشَبُّعٌ من الإنسان بما لم يعطه؛ لأن كل عز ليس بالله فهو ذل، كما يتعزز الكفار بالآلهة كما قال سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81،82]. اللهم أنت العزيز الذي لا يغلب، القوي الذي لا يعجزه شيء، القاهر الذي قهر كل شيء، أعز الإسلام والمسلمين، وأخذل من خذل الدين، وانصر عبادك الموحدين، يا قوي يا عزيز نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تذلنا أو تضلنا.

11 - فقه المحبة

11 - فقه المحبة قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24]. المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيراً. وحقيقتها: ابتهاج القلب وسروره بربه لكماله وجلاله، وجماله وإحسانه. وحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فرض، والناس فيه متفاوتون، وتفاوتهم بحسب معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه وإحسانه. وأسعد الخلق في الدنيا والآخرة أقواهم وأشدهم حباً لله تعالى: أما في الدنيا: فأنسهم به، ولذتهم بمناجاته وعبادته. وأما في الآخرة: فبالقدوم عليه، والأنس برؤيته، ودوام رضاه، وسماع كلامه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، ودوام مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، ومن غير رقيب ولا مزاحم، ومن غير خوف انقطاع. إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب، فكلما ازدادت المحبة ازداد العمل، ثم ازدادت اللذة. وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، لكنه يختلف قوة وضعفاً بحسب المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله. وقوة الحب لله تحصل بأمرين: أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فإن القلب مثل

الإناء، إذا امتلأ بشيء لم يتسع لغيره: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. الثاني: معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه وإحسانه. والمحبة ضربان: أحدهما: محبة طبيعية، وذلك يكون من الإنسان والحيوان كحب الطعام والشراب. الثاني: محبة اختيارية، وذلك مختص بالإنسان. والمحبة الاختيارية ضروب كثيرة، وأفضلها حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودينه وشرعه، والمؤمنين والمتحابين في الله. والعبودية معقودة بالمحبة، بحيث متى انحلت المحبة لله انحلت العبودية. والمرء مع من أحب، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص والمتابعة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها. ولا يزال سعي المحب صاعداً إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10]. والأسباب الجالبة للمحبة: قراءة القرآن بالتدبر .. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .. دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل .. إيثار محاب الله على محاب العبد .. مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته وأفعاله، فمن عرف الله أحبه لا محالة .. مشاهدة بر الله وإحسانه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فكل ذلك داع إلى محبته .. انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى .. الخلوة بالله وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه وذكره، وتعظيمه وحمده واستغفاره .. مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطيب ثمرات كلامهم .. ومباعدة كل سبب يحول بين القلب

وبين الله عزَّ وجلَّ. وعلامة صحة محبة الله: الذل للمؤمنين .. الشدة على الكافرين .. الجهاد في سبيل الله .. عدم الخوف إلا من الله. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]. والناس قبيل واحد تجمعهم الإنسانية، وهم إما أن يكونوا فضلاء أو نقصاء. فالفضلاء تجب محبتهم لموضع فضلهم وحسن تقواهم، والنقصاء تجب رحمتهم لأجل نقصهم، فينبغي لمحب الكمال أن يكون رحيماً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً لهم، متودداً إليهم، خاصة الملك والراعي، فإن الملك لا يكون ملكاً ما لم يكن محباً لرعيته رؤوفاً بهم؛ لأنه بمنزلة رب الدار. والمحبة والعدل من أسباب نظام الناس، ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة؛ لأستغنوا بها عن العدل، فالعدل خليفة المحبة، يستعمل حيث لا توجد المحبة، ولهذا عظَّم الله المنة بإيقاع المحبة بين المسلمين كما قال سبحانه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: 62،63]. ومحبة العبد لله يدعيها كل أحد، لكن ينبغي ألا يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس مهما ادعت محبة الله، ما لم يمتحنها بعلامات تدل عليها. فالمحبة شجرة طيبة في القلب، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار عليها كدلالة الدخان على النار، ودلالة النور على الشمس.

ومن علامات محبة العبد لله: حب لقاء الله، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه. وأن يكون العبد مؤثراً ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فلا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً إليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه: وأن يكون مولعاً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره. فعلامة حب الله حب ذكره وحب كلامه، وحب رسله، وحب كل ما ينسب إليه، وكل ما يحبه. ومنها أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى، وتلاوة كتابه، والمواظبة على التهجد. ومنها ألا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عزَّ وجلَّ، ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته. ومنها أن يتلذذ بطاعة الله تعالى ويتنعم بها، ولا يستثقلها؛ بل يفرح بها. ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله، رحيماً بهم، شديداً على جميع أعداء الله، وعلى كل من يفارق شيئاً مما يكرهه الله كما وصف الله ورسوله والمؤمنين بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم. والمحبة نوعان: محبة نافعة .. ومحبة ضارة. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله .. ومحبة في الله .. ومحبة ما يعين على طاعة الله، واجتناب معصيته. والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله .. ومحبة ما يبغضه الله .. ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله

أو تنقصها. فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق: فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها. والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها، ولا عيب على الإنسان في محبة زوجته وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه حب الله ورسوله. فكل محبة زاحمت حب الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وطاعته، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة كالطعام الطيب، والشراب الحلو البارد، والحلواء والعسل، ونحو ذلك، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه. فإن نوى الإنسان به القوة على أمر الله تعالى، والاستعانة به على طاعته، كان ذلك قربة إلى الله. وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب، ولم يعاقب. فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم. والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والعذاب. وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته، ونهاية مطلبه هو الله وحده. والحركة الطبيعية سببها ما في المتحرك من الميل، والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار للعلو، وحركة النبات للنمو. والحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة والمحبة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله. فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يكمل بحصوله له:

فتحرك محب الرحمن .. ومحب القرآن .. ومحب العلم والإيمان .. وهي نفسها التي تحرك محب الأوثان .. ومحب الصلبان .. ومحب النسوان والمردان .. ومحب المتاع والأثمان .. ومحب الأوطان .. ومحب الإخوان. فالمحبة تثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء، فيتحرك عند ذكر محبوبه دون غيره. والنفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أحسن منه، ولا تتحمل مكروهاً إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه أشد منه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه، ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار من وقوعه فيما يكرهه ويخشاه. وخاصية العقل التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين. فأصل كل حركة في العالم من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات في العالم، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف. وقلوب البشر مفطورة على حب إلهها وفاطرها، وتأليهه وعبادته وطاعته، وصرف هذا التأله والمحبة والطاعة إلى غير الله تغيير للفطرة وكلما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها، وردها إلى حالتها التي خلقت عليها: فمن استجاب لهم وآمن بما جاءوا به رجع إلى أصل الفطرة. ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]. فنفس خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع، لا تبديل لنفس هذا الخلق، ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى

الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} متفق عليه (¬1). وخلو القلب مما خُلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، والوقوف مع أمره ونهيه، وما يحبه وما يسخطه، هذا أكبر خطر عليه، فإن ذلك يسبب له الشقاء في الدنيا والآخرة. وإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان، وذوق طعمه، أغناه ذلك عن محبة الأنداد، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه. والحب في الله من كمال الإيمان .. والحب مع الله هو عين الشرك. والدين كله يدور على أربع قواعد: حب وبغض .. وفعل وترك. فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، وما نقص من إضافة هذه الأربعة إلى الله نقص من إيمانه بحسبه. أما الحب مع الله فنوعان: أحدهما: ما يقدح في أصل التوحيد وهو شرك، كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]. وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذه المحبة محض الشرك الذي لا يغفره الله. الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1359)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).

المسومة، والأنعام والحرث، وهذه ثلاثة أنواع، ولها ثلاثة أحكام: فإن أحبها توصلاً إلى طاعة الله، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها. وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله. وإن كانت هي المقصودة، وقدمها على ما يحب الله، كان ظالماً لنفسه، متبعاً لهواه، فهذه تقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا تخرج من الإسلام. والمحبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من الانقياد إلى غيره، فالتعظيم إذا كان مجرداً عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظم، وكذلك إذا كان الحب خالياً من التعظيم لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه. فإذا اقترن الحب بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب. والمحبة نوعان: أحدهما: محبة خاصة، وهي المحبة المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، وهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، ولا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب بها غير الله كان شركاً لا يغفره الله. والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها. فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله، وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها، فهي روح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، وروح الإيمان والأعمال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع الله غيره.

ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم الله لها. والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها. الثاني: محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع: أحدهما: محبة طبيعية مشتركة كمحبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه المحبة لا تستلزم التعظيم. الثاني: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم. الثالث: محبة أنس وإلف، وهذه محبة المشتركين في صناعة أو علم أو تجارة أو سفر، بعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً. فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله سبحانه. ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها، وكان يحب أصحابه رضي الله عنهم، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه. وإذا استقرت محبة الله في القلب، استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها وصدقها. فإن آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإنما هو محب لحظه ممن يحبه. والمحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله .. وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته .. وأن الذي يوجب هذه المحبة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه .. فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه .. لا على مراده هو من محبوبه. وحب الله ورسوله يكون بالإيمان بالله، وإحياء سنة رسول الله في شعب الحياة كلها في العبادات والمعاملات، وفي المعاشرات والأخلاق.

فهذا الذي يحب الله ورسوله بقلبه، وتظهر آثار هذه المحبة على بدنه وجوارحه، وصدق اعتقاده وقوله بفعله. أما من يقول بلسانه أنا أحب الله ورسوله وهو يأكل الحرام، ويلبس لباس الكفار، ويتشبه باليهود والنصارى في لباسه وأكله، ومعاملاته ومعاشراته، فإنما يوبخ نفسه، ويشهد الله وخلقه على سوء فعله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31].

12 - فقه الرحمة

12 - فقه الرحمة قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. الله تبارك وتعالى أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، وقد منَّ الله على رسوله بالرحمة، فألان جانبه لأصحابه، وخفض لهم جناحه، ورقق لهم قلبه، وحسَّن لهم أخلاقه، فاجتمعوا عليه، وأحبوه، وامتثلوا أمره. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والمحبة، والثواب الخاص. والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص. فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره؟. أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به - صلى الله عليه وسلم - من اللين وحسن الخلق، وتأليف القلوب امتثالاً لأمر الله، واقتداءً برسول الله، وجذباً لعباد الله إلى دين الله. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فاقوا البشرية كلها بأحسن الصفات، وأجمل الأحوال والأقوال والأعمال. فهم أشداء على الكفار، جادون ومجتهدون في عداوتهم، ولذلك ذلوا لهم، وانكسروا أمامهم، وقهرهم المسلمون. وهم كذلك رحماء فيما بينهم، متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ: فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْواً، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه (¬2). هذه معاملتهم مع الخلق. وأما معاملتهم مع الخالق فإنك: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. فهذا دأبهم مع الخالق والمخلوق: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16،17]. قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم حتى استنارت، ولما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال ظواهرهم. والقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله، رق وصارت فيه الرأفة والرحمة. فتراه رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى، وبكل مسلم، وبكل مخلوق، يرحم الطير في وكره، والنملة في جحرها، فضلاً عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله. والله عزَّ وجلَّ إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، فَتَخَلَّق بالغلظة والقسوة، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي. فالدين كله رحمة للعالمين، والرسل إنما بعثوا بالرحمة، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إنما فضل الأمة بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادة على الصديقية. ولهذا أظهر أثرها في جميع مقاماته حتى في فداء الأسرى يوم بدر، واستقر ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6011)، واللفظ له، ومسلم برقم (2586). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (481)، ومسلم برقم (2585) واللفظ له.

الأمر على ما أشار به، وفي بذل ماله كله في سبيل الله، وفي هجرته مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي جهاده معه، ويوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأثناء خلافته، والله يجازي من هذه صفاته، وهذه رحمته، بالرضوان التام المؤكد يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 17 - 21]. والله عزَّ وجلَّ هو الرب الرؤوف الرحيم، وأقرب الخلق إليه أعظمهم رأفة ورحمة، وأبعدهم منه من اتصف بضد ذلك. ومن رحمته سبحانه أنه يفرح بتوبة العبد إذا تاب أعظم فرح وأكمله. ومن كمال رحمته أنه يدعو من كفر به، وفتن أولياءه، وأحرقهم بالنار إلى التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10]. فلا ييأس العبد من عفوه ومغفرته ورحمته، ولو كان فيه ما كان، فلا أكفر بمن حرق بالنار من آمن بالله وحده، ومع هذا لو تابوا لم يعذبهم، وألحقهم بأوليائه. والرحمة صفة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأً للانعطاف معه، والإحسان إليه، وهي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رحم. ورحمة البشر لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم. والرحمة التامة: إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم. والرحمة العامة: هي التي تتناول المستحق وغير المستحق. ورحمة الله عزَّ وجلَّ تامة وعامة. أما تمامها، فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها. وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، والدنيا والآخرة. فهو سبحانه الرحيم مطلقاً، ورحمته وسعت كل شيء كما قال سبحانه:

{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]. والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله .. وأنزل عليهم كتبه .. وبها هداهم .. وبها يسكنهم دار ثوابه .. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. والله تبارك وتعالى هو الرحمن وحده، العطوف على العباد بالإيجاد أولاً، وبالإمداد ثانياً، وبالهداية إلى الإيمان ثالثاً، وبالإسعاد في الآخرة رابعاً، وبالإنعام بالنظر إلى وجهه خامساً، وبسماع كلامه سادساً، وبرضوانه سابعاً. والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية. فأرحم الناس من شق عليك في إيصال المصالح إليك، ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، وحسن الخلق، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل الأب ذلك كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل. ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على الإنسان خاصة المؤمن، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فابتلاء الله له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من كمال رحمته به. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

ومن رحمته بعباده أن نغص عليهم الدنيا وكدرها عليهم لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان. ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به. وجميع المسلمين يرجون رحمة الله في جميع أعمالهم. فالعابد يرجو بعبادته رحمة الله كما قال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. والمجاهد والمهاجر في سبيل الله والداعي إلى الله كلهم يرجون رحمة الله كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]. والرحمة صفة الأنبياء والصالحين كما قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. والله تبارك وتعالى أرحم الراحمين، خلق مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، وجعل منها في الأرض واحدة، فيها يتراحم الخلق كلهم، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ» متفق عليه (¬1). والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم أهل الأرض رحمه الذي في السماء، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6000)، ومسلم برقم (2752) واللفظ له.

والرحمة حلية المؤمن، ولا تنزع الرحمة إلا من شقى، ومن رحم الناس رحمه الله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَرْحَمُ الله مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» متفق عليه (¬2). والدين عشرة أجزاء: جزء فيما بين العبد وربه وهو عبادته وحده لا شريك له، والانقياد لأوامره ونواهيه محبة وذلاً وإخلاصاً له في جميع العبادات الظاهرة والباطنة، فهذا حق الله على العبد. وتسعة أجزاء فيما بين العبد والخلق، وهي حقوق العباد الأقرب فالأقرب كما قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]. فمن رحم الخلق رحمه الله .. ومن أحسن إليهم أحسن الله إليه .. ومن عفا عنهم عفا الله عنه. فمن قام بهذه الحقوق فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباده، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل، وذلك هو المؤمن. ومن لم يقم بذلك فهو العبد المعرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع لخلقه، بل هو متكبر معجب بنفسه، فخور يثني على نفسه ويمدحها، والله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بحقوق الله وعباده، ولهذا ذمهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7376)، واللفظ له، ومسلم برقم (2319). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1284)، واللفظ له، ومسلم برقم (923).

آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)} [النساء: 37]. فجمعوا بين البخل بالمال، والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين. فكما كفروا بالله، ومنعوا حقوق عباده، وتكبروا على خلق الله أهانهم الله بالعذاب الأليم والخزي الدائم. ومن أصول هذا الدين الرحمة والشفقة على الخلق عموماً، فما تراحم قوم إلا اجتمع أمرهم، وارتفعت بين الأمم مكانتهم، ورضي الله عنهم. وما نزعت الرحمة من قوم، واستعملوا الغلظة والقسوة إلا دارت عليهم دائرة السوء. والرحمة عاطفة شريفة، وخليقة محمودة، مدح الله بها عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. فالرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية: تكون من الآباء للأبناء تقبيلاً، ومعانقة، وتأديباً، وإحساناً إليهم. وتكون الرحمة من الأبناء للآباء والأمهات قولاً كريماً، وصنعاً جميلاً، وطاعة في غير معصية الله، وخدمة صادقة، ودعاء لهم بالخير، واستغفاراً لهم، ووفاء لديونهم، وإكراماً لأصدقائهم. وتكون الرحمة بين الأقارب صلة ومواساة ومودة، وسعياً في مصلحة، ودفعاً لمضرة. وتكون بين الزوجين معاشرة بالمعروف، وإحساناً وعفواً متبادلاً. وتكون الرحمة بين أهل الدين الواحد إرشاداً إلى الخير، وتحذيراً من كل شر. وتكون بين جميع الأفراد بأن يحب أحدهم للآخر ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فيسعى إلى ما فيه منفعتهم، يواسي محتاجهم، ويداوي جريحهم، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ولا يكلف أحداً بأمر عسير، ولا يحمله من

الأمر ما لا يطيق. وتكون الرحمة بالكفار والضالين بدعوتهم إلى الله، والإحسان إليهم، والدعاء لهم بالهداية، وإعطائهم من المال ما يفتح قلوبهم لفهم هذا الدين، والدخول فيه ونحو ذلك مما يؤلف قلوبهم. والله تبارك وتعالى توَّج هذه الأمة بتاج الإيمان والأعمال الصالحة، والدعوة إلى الله، وكثير من الناس توَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، تاج الدنيا وجمع الحطام، والانهماك في الشهوات، وأعرض عن كثير من أوامر الله. فما أجدر هؤلاء بالعقوبة إن لم يتوبوا كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59،60]. ومن تمام رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسله بما يسعدهم في الدنيا والآخرة. فمن رسل الله من كلَّمه الله من وراء حجاب بلا واسطة كموسى - صلى الله عليه وسلم - .. ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي جبريل وهم الأنبياء .. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلَّغته رسله عنه إليهم، وقالوا هذا كلام الله الذي تكلم به إلى عباده، وأمرنا بتبليغه إليكم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 67،68]. وكلام الله هدى ورحمة للبشرية فهل قمنا بإبلاغه إليهم؟: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نثر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد، وأحيا به الموات، وأصلح به العباد. وإذا أريد بهم شراً أمسك عنهم أثر ذلك الاسم، فحل بهم من البلاء بحسب ما

أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن. ورحمة الله وسعت كل شيء، وقد خلق الله مائة رحمة، وأنزل على أهل الأرض رحمة واحدة منها، فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، فكل رحمة في كل مخلوق فهي من آثار رحمة الله هذه. والعالم كله مملوء بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما فيه من ضد ذلك فهو من مقتضى سبقت رحمتي غضبي، والمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة، فإذا كان يوم القيامة كمل الله بهذه الرحمة لتكون مائة رحمة، يرحم بها أهل الإيمان به وطاعته وتوحيده. وإذا كان الله قد ملأ هذا الكون برحمته .. فهلا نملؤه بدوام ذكره وحمده؟ فسبحان العزيز الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء.

الباب الثاني عشر فقه الشريعة

الباب الثاني عشر فقه الشريعة ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الحق والباطل 2 - فقه العدل والظلم 3 - فقه الأمر والنهي 4 - فقه النفع والضر 5 - فقه الحلال والحرام 6 - فقه السنن والبدع 7 - فقه العبادات 1 - فقه الصلاة 2 - فقه الزكاة 3 - فقه الصيام 4 - فقه الحج 8 - فقه الذكر والدعاء 9 - فقه المعاملات 10 - فقه الحسنات والسيئات

1 - فقه الحق والباطل

1 - فقه الحق والباطل قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. وقال الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. وقال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. العلم نوعان: العلم بالله .. والعلم بدينه. فأما العلم بالله فهو العلم بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وأما العلم بدينه فمرتبتان: الأولى: العلم بدينه الأمري الشرعي، المتضمن أمره ونهيه، وما أحله وما حرمه، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه. الثانية: العلم بدينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل فيه العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. والحق: هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وهو يتضمن: معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته، والانقياد له، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد أعدائه، وما سواه فهو صراط أهل الباطل، أهل الغضب والضلال، كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7]. فالطرق ثلاثة: الأول: طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، وهي طريق من عرف الحق وعمل به. الثاني: طريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده كاليهود.

الثالث: طريق أهل الضلال، وهي طريق من عرف الحق وضل عنه. وسنة الله عزَّ وجلَّ سير الحق تدريجياً شيئاً فشيئاً، يظهر ويرتفع مستواه كالنبات ينمو شيئاً فشيئاً. فلا نستعجل ظهوره، بل نصبر ونستمر حتى ينتشر الحق ويرتفع مستواه بما يشاء، كما أيد الأنبياء والرسل، وأظهر دينهم، وخذل أعداءهم. وإذا اشتدت الأمور والأحوال نثبت على الحق، ولا نخالف الأوامر ولا نغير الترتيب، فالله يسمع ويرى ويعلم ما يفعله أهل الحق، وما يفعله أهل الباطل. فأبو بكر - رضي الله عنه - لما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وارتدت العرب، لم يغير شيئاً أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنفذ جيش أسامة مع شدة الأحوال، وبعث الجيوش لحرب المرتدين مع شدة الأحوال، فكان نصر الله، وعاد الناس إلى الدين. والنصر والتأييد يأتي تدريجياً، وأحياناً يتأخر لحكمة حتى يقول الناس متى نصر الله؟. فلا نيأس ولا نمل، بل نستمر وندعو الله وننتظر الفرج، فتلك سنة الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. فلا بدَّ مع الدعوة والعمل من الدعاء. ولكن الأمة لما تركت الجهد والعمل لم تجد لذة الدعاء والمناجاة، وجاء الشك في الدعاء، وهذا مرض كبير، وإذا قمنا بجهد الدعوة فالله عزَّ وجلَّ يعطينا قوة الدعاء، ولذة المناجاة. وقد عرض الله عزَّ وجلَّ الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق، فإن قام بها أثابه الله، وإن فرط فيها عاقبه الله. فكل إنسان متحمل أمانة نفسه بأن يحملها على طاعة الله، واجتناب معصيته،

ومتحمل أمانة أهله، ومتحمل أمانة الأمة بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد انقسم الناس في تحمل الأمانة إلى ثلاثة أصناف: الأول: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون والمؤمنات، وهم درجات. الثاني: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً، وضيعوها باطناً، وهم المنافقون والمنافقات. الثالث: الذين فرطوا في الأمانة، فلم يتحملوها لا ظاهراً ولا باطناً، وهم المشركون والمشركات. فهؤلاء والمنافقون والمنافقات ضيعوا الأمانة؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به. وقد وعد الله الصنف الأول الذين تحملوا الأمانة بالتوبة والمغفرة، وتوعد الصنفين بعدهم، الذين ضيعوا الأمانة بالعذاب الأليم فقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب: 72،73]. ومن رحمة الله بالخلق وعنايته بهم أن بعث إليهم الرسل تبين الحق وتميزه من الباطل، بحيث يصير مشهوداً للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، والتي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115]. فهذا الإضلال عقوبة من الله لهم حين بين لهم الحق فلم يقبلوه، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله أحداً قط إلا بعد هذا البيان، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].

وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة .. وبيان بالآيات المشهودة المرئية. وكلاهما أدلة على توحيد الله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه. وهذا البيان الذي بعث الله به رسله، وجعله إليهم وإلى العلماء من بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} [إبراهيم: 4]. فالرسل تبين الحق .. والله يضل من يشاء .. ويهدي من يشاء. والكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب. والسماع له ثلاث مراتب: فسماع لفظه حظ الأذن .. وسماع حقيقة معناه حظ القلب .. وسماع القبول والإجابة حظ العقل. فالكفار يسمعون الألفاظ التي هي حظ الأذن فقط كما قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 16،17]. فهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه. وسماع الحق لفظه ومعناه وقبوله خاص بمن أراد الله هدايته كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17،18]. وسنة الله التي لا تتبدل أن الحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق كما قال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81].

وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن .. ليس معناه أن الله تاركه .. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب .. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً. وإن ذهاب الحق مبتلى .. وبقاءه ضعيف الحول والقوة فترة من الزمن .. ليس معناه أن الله جافيه أو ناسيه .. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه. كلا .. إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك. يملي سبحانه للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178]. فالله عزَّ وجلَّ يملي للظالم حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]. ويبتلي سبحانه الحق؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. والإيمان والكفر .. والهدى والضلال .. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق .. فالحق برهان ذاته .. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويخضع له، ويؤثره، ولكن المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق من الهوى والشهوات، والشبهات، وحب الدنيا، والعادات ونحو ذلك. وقد ركب الله سبحانه في كل إنسان نفسين: نفساً أمارة .. ونفساً مطمئنة. وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على الأخرى، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى.

فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله .. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله. والملك مع هذه عن يمنة القلب، والشيطان مع تلك يسرة القلب. فالباطل كله مع الشيطان والأمارة .. والحق كله مع الملك والمطمئنة، والحروب مستمرة دول وسجال، والنصر مع الصبر. والباطل ضد الحق، فكل ما سوى الحق باطل. وللباطل صور وألوان وشعب: فمنها باطل الكبر، فالكبر عادة يحول دون قبول الحق، وأخطر ما يواجه الداعي إلى الله من صنوف الناس المتكبرون، فهم شر من يدعي إلى الحق فيأباه. ودعوتهم ومعالجة كبريائهم تكون بالقول اللين، ومن ذلك دعوة موسى لفرعون، ودعوة نوح لقومه، ودعوة شعيب لقومه. ومنها باطل التقليد، تقليد الأبناء للآباء، والخلف للسلف فيما يعتقدون ويعملون، فهذا التقليد من أكبر الحوائل التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل كثيراً ما يدفع المقلد إلى مناهضة الحق وأهله. فالتقليد من أخطر ما يواجه الداعي إلى الحق. وعلاج هذا الداء: هو الدليل المنطقي .. والحجة الشرعية .. والبرهان العقلي، كما فعل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه وقومه، حتى كسر أغلال التقليد، وحطم أصنامه، ورفع راية التوحيد. ومنها باطل الحسد، فالحسد من الصوارف عن الحق، وهو أخطر من الكبر والتقليد؛ لأن الحاسد يحمله الحسد على الكيد للداعي والمكر به. وقد حسد اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من أولاد إسماعيل، وناصبوه العداوة، وحاولوا قتله، وسموه وسحروه، وحاربوه وألَّبوا عليه القبائل، كما قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. وظل الرسول واقفاً في وجوههم يدعوهم إلى الحق ويرغبهم فيه، وصبر على كيدهم ومكرهم حتى حكم الله بينه وبينهم، ونصره الله عليهم. وعلاج هذا الداء يكون بعرض الدعوة بصدق وصراحة وشجاعة، وما هم بضاريه شيئاً إلا بإذن الله. ومنها أهل المنافع والمصالح، وهم شخص أو أشخاص ينتفعون بوضعٍ ما من الأوضاع الفاسدة، فيعز عليهم تغيير ذلك الوضع كبائع صور، أو تاجر خمر، أو سادن قبر، أو حاكم مستبد، أو شريف مستغل. فكل واحد من هؤلاء المستفيدين لا يرضى بتغيير وضعه حفاظاً على الذي يحصل له منه من الكسب المحرم. ودعوة هؤلاء تكون بأمرين: أحدهما: وعدهم بالخير، وبشارتهم بحال أحسن. الثاني: أن يقدم لهم من النفع والخير ما يعوضهم عما فاتهم. ومن هؤلاء أحبار اليهود الذين كتموا صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لئلا يسلم قومهم فيفقدون رئاستهم بينهم. وكعبد الله بن أبي سلول، طمعه في الرئاسة جعله ينافق ويكيد للإسلام. ومن هؤلاء أهل الهوى، فاتباع الهوى أخطر ما يحول بين المرء وقبوله دعوة الحق والخير. وعلى الداعي أن يمضي في إبلاغ دعوته، معرضاً عن أصحاب الهوى، غير ملتفت إليهم، ولا مبال بهم. والحق حق لكل أحد، وهو يمشي بقوتين: قوة محركة وهي الإيمان .. وقوة ضابطة وهي الاتباع لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذين مدار سعادة العبد في الدنيا والآخرة.

والحق يغلب على الباطل بأربعة أشياء ذكرها الله في قصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مع فرعون: الأول: التضحية بالنفس، ففرعون يريد قتل موسى، وموسى ضحى بنفسه من أجل الدين فلم يبال به وبملكه. الثاني: التضحية بالزوجة والأولاد والأموال، فذهب موسى إلى فرعون وتركهم من أجل إعلاء كلمة الله. الثالث: أن يجعل العبد حياته لله كما قال سبحانه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه: 41]. فليس له همّ إلا الدعوة إلى الله سبحانه. الرابع: امتثال أوامر الله فوراً، كما قال سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} [طه: 24]. فذهب إلى فرعون مباشرة ودعاه إلى الله، فلما أبى واستكبر خذله الله بين حاشيته .. وأمام الناس يوم الزينة .. وفي البحر أمام المؤمنين غرقاً: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. والله تبارك وتعالى خلق مخلوقاته كلها بسبب الحق، ولأجل الحق كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان: 38،39]. والحق هو الحكم والغايات التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة: منها: أن يعرف الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآياته. ومنها: أن يُّحَب ويُعبد، ويُذكر ويُشكر، ويُطاع فلا يُعصى. ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويدبر الأمر، ويتصرف في ملكه بما يشاء. ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته،

فيظهر أثر عدله وفضله لعباده، فيُّحمد على ذلك ويُشكر. ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله لغيره، ولا رب سواه. ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها جلية في مخلوقاته. ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر، ويسامح ويصفح، ولا بد من لوازم ذلك عقلاً وشرعاً. ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه، ويُمدح ويُمجَّد، ويُسبَّح ويُعظَّم، وغير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق. وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أكمل ما جاءت به شريعة، وأمر أن يقبل من الناس ظواهرهم، ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم. بل تجري عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجري عليهم أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم. فأحكام الدنيا تجري على الإسلام .. وأحكام الآخرة على الإيمان. ولهذا قبل الله عزَّ وجلَّ إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 14،15]. وقَبِل إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبرهم أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنهم في الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. فأحكام الرب عزَّ وجلَّ في الدنيا جارية على ما يظهر للعباد، ويوم القيامة يجري الحساب على ما في البواطن والقلوب. وكل من عُرض عليه الحق فرده ولم يقبله عوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].

ومن كفر بالحق بعد أن عمله كان سبباً لطبع الله على قلبه كما قال سبحانه: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155]. وإن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في أي مجتمع بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل، وإن كانت الهداية تنزل على من شاء الله من عباده، ولكن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، والباطل لا يبطل ولا يذهب من واقع الناس إلا بالتضحية وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، وتحطيم سلطان الباطل حتى يعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [النساء: 74]. وإذا كان ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لا مرية فيه .. فما علة إصرار قوم على التكذيب؟. العلة هي: أن كلمة الله وسنته اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال مهما تكن الآيات والبينات، وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم بعدم الإيمان كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96،97]. والإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب؛ لأنه لم يجئ عن اختيار، ولم تعد هناك فرصة لتحقيق مدلوله، كما آمن فرعون حين أدركه الغرق كما قال الله عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس: 90]. لكن لو عاد المكذبون للحق عن تكذيبهم قبيل نزول العذاب كشفه الله عنهم كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا

كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98]. فأغلب القرى لم تؤمن، ولذلك نزل بها العذاب، أما قوم يونس فكان عذاب مخزٍ يتهددهم، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف الله عنهم العذاب، وتركهم يتمتعون بالحياة إلى أجل. ولو لم يؤمنوا لحل بهم العذاب وفقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19]. وفي هذا إيحاء للمكذبين من هذه الأمة أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فيتوبون إلى الله لعلهم ينجون كما نجى قوم يونس. إن الحق شأنه كبير، وما تقف له أي قوة مهما كانت إلا ويدفعها؛ لأن الله هو الحق، وهو الذي أنزل الحق، ولكن الحق لا يتحقق في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير. وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن. إن للحق والإيمان والتوحيد حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها، فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية. فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، وظل الحق شعاراً لا ينبع من القلب، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان؛ لأنهما يملكان قوة مادية حقيقة لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان. فإذا استقرت حقيقة الحق والإيمان في القلب أصبحتا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل، ويصول بها الطغيان. وبهذا وقف الأنبياء لكل قوة غاشمة تواجههم في الأرض، فنصر الله أولياءه، وخذل أعداءه. كما وقف نوح - صلى الله عليه وسلم - أمام الكثرة .. ووقف هود - صلى الله عليه وسلم - أمام أهل القوة .. ووقف صالح - صلى الله عليه وسلم - أمام أهل الصناعة .. ووقف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أمام عباد الأصنام .. ووقف موسى

- صلى الله عليه وسلم - أمام فرعون .. ووقف أمام السحرة .. ووقف محمد - صلى الله عليه وسلم - أمام كفار قريش .. وأمام يهود المدينة .. وأمام قبائل العرب، فنصره الله عليهم وخذلهم. وتحقق وعد الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم بالنصر على أعدائهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]. إن منطق الباطل هو الطغيان الغليظ كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق بما فيه من قوة وفصاحة، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب، كما آمن السحرة الذين جاء بهم فرعون ليغلبوا موسى - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار، فما موقف فرعون وملئه من الحق الذي جاء به موسى؟: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} [غافر: 25،26]. هكذا قال فرعون الطاغية الوثني الضال عن النبي المصطفى المؤمن الهادي، وهي الكلمة التي يقولها كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح. إنها كلمة الباطل الطالح في وجه الحق الجميل، وكلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه أهل الإيمان والهدى، وهي تتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، في كل زمان، وفي كل مكان: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} [غافر: 26]. فما أظلم هؤلاء الطغاة؟ .. وما أجهلهم بالحق؟ .. وما أضرهم على أنفسهم وعلى من تحت أيديهم؟. فلماذا قَتْلُ الدعاة المصلحين بغير حق؟ .. ولماذا ترويعهم ومطاردتهم؟ .. {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ

مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28]. هل الداعي إذا قال ربي الله الذي بيده كل شيء، هل هذه الكلمة البريئة تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق الروح؟. وهل من جاء بالحق الذي يصل المخلوق بخالقه ضال مفسد يستحق القتل والطرد؟. أليس من الإنصاف أن يترك، فإن كان هذا النبي أو الداعي كاذباً فعليه كذبه، وهو يتحمل تبعة عمله ويلقى جزاءه، وإن كان صادقاً فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال؛ لئلا يصيبهم ما يكرهون؟. هذه رسالة الأنبياء .. رحمة الخلق .. ودعوتهم إلى الله .. وتوجيههم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ليسعدوا في الدنيا والآخرة. ولكن هل يقبل الطغاة هذه الدعوة؟. إن فرعون يأخذه ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة، تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، واقتحاماً لمنزلته، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان. {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} [غافر: 29]. هذه مقالة فرعون، وهي مقالة كل طاغية يقف في وجه الحق، لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً، وأعتقده نافعاً، وإنه لهو الصواب بلا شك. وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟. وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟. وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً، وإلا لم كانوا طغاة؟. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]. وأكثر الناس للحق كارهون؛ لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون.

فكل ما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حق، لا يملك من يتدبره أن يظل معرضاً عنه، ففيه من الجمال والكمال وموافقة الفطرة ما يحرك الوجدان للإيمان والطاعة والعبادة، وكل ما سواه باطل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. وفيه من غذاء القلوب، ومظاهر الآلاء والنعماء، والرحمة والإحسان، وآثار القدرة والقوة، وقويم المناهج، ومحكم التشريع، ما يستجيش عناصر الفطرة ويغذيها، ويبهر العقول والأفهام. فأين أولو العقول والتدبر؟: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)} [المؤمنون: 68،69]. لقد أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} [المؤمنون: 70]. والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى، وبالحق قامت السموات والأرض، فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الله الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والحب، والرغبة والرهبة، وسائر ما يعرض من الأهواء بالانفعالات: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [المؤمنون: 71]. ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره بأمر الله جعل الله التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني تتولاه اليد التي تدبر الكون كله، والبشر جزء من هذا الكون، خاضع لناموسه الكبير.

فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، وبذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل، إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر في الكون كله. والله تبارك وتعالى فطر قلوب العباد على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفطرها كذلك على بغض الباطل والكذب، والنفور عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ومن تدبر القرآن أيقن أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأتقاهم، وأعلمهم. ولهذا ندب الله عباده إلى تدبر القرآن كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. فلو رفعت الأثقال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الهدى والإيمان، وعلمت أنه الحق، وما سواه باطل كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6]. فالقلوب السليمة لا تطمئن إلا به، ولا تسكن إلا إليه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. فهذه القلوب هي التي تنقاد لحكم الله، وتسلم لأمره. وقد نفى الله الإيمان عن كل من لم ينقد لحكم الله، ولم يسلم لأمره كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. والتسليم نوعان: تسليم لحكم الله الديني الأمري .. وتسليم لحكمه الكوني القدري. فالأول تسليم المؤمنين العارفين، وأما التسليم للحكم الكوني فيحمد إذا لم

يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها، وأما الأحكام التي أُمر بدفعها، فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أُخًر أحب إلى الله منها كما يدفع قَدَر الجوع بالأكل، وقَدَر المرض بالدواء. والقلوب عند ورود الحق عليها لها أربعة أحوال: قلب يفتتن به كفراً وجحوداً .. وقلب يزداد به إيماناً وتصديقاً .. وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة .. وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)} [المدثر: 31]. وهذه الأمة أولى الأمم باتباع الحق، ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها، وذكر كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10]. وما كان لها لولاه من ذكر في العالمين، وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام وصعد بها إلى القمة الساحقة. وقد ظل ذكرها ومجدها وعزها يدوي في آذان القرون حينما كانت مستمسكة به، إيمان وأمان، وعدل وإحسان، ورحمة وشفقة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، فوا أسفاه وقد تضاءل ذكرها الآن عندما تخلت عنه في كثير من ديار الإسلام، فأصبحت تؤمر ولا تأمر، وتنصت ولا تتكلم، وترقد في آخر مواطن الذل والهوان، فما لها لا تعود إلى ربها، وقد ملكها الله الدين الذي تصل به إلى مدارج العز والعلا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [المؤمنون: 71]. ومنهج البحث عن الحق سهل، ومعرفة الافتراء من الصدق لازم: {قُلْ إِنَّمَا

أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]. إنها دعوة إلى القيام لله بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، معتمداً على مراقبة الله وتقواه، متجرداً من الرواسب والمؤثرات. القيام لله وحده مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، بعيداً عن انفعالات العامة، فيأخذ الحجة والدليل من صاحبه في هدوء، وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق، ثم التفكر فيمن يحمل الحق؟ .. وما الحق الذي يحمل؟ .. ومن أين جاء به؟. ثم التفكر ثانياً فيمن جاء بهذا الحق؟ .. ما مصلحته؟ .. وما بواعثه؟ .. وماذا يعود عليه منه؟. إنه لا يريد عوضاً من أحد، بل يرجو ثوابه ممن كلفه، ولا يتطلع أبداً إلى أجر من أحد: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} [سبأ: 47]. ثم التفكر ثالثاً في هذا الحق، فهو الحق الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟. لا أحد، فالطريق أمامه مكشوف: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)} [سبأ: 48]. ورابعاً: إذا جاء الحق بقوته فقد انتهى أمر الباطل، وما عادت له حياة: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سبأ: 49]. وإنه لكذلك، فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح، ولم يعد للباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق، إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق، غلبة الناس لا غلبة المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول.

وأخيراً: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50]. وقد وعد الله عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء، حتى يتبين لهم أنه الحق، هذا الدين، وهذا الكتاب، وهذا المنهج. ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووَعْد الله ما يزال قائماً كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]. وإنها لرحمة من الله، فكلما ابتعد الناس عن زمن النبوة، وعن منهج النبوة، فتح الله لهم من أبواب العلم ما يردهم إلى الله، ويذكرهم به، ويسهل عليهم أمور معاشهم. فالبشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم أخذت عن طريق العلم تثوب إلى الدين، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق. ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون، فقد أطلع الله البشر على أسرار وخصائص في الجسم البشري، وعرفوا تركيبه وتكوينه ووظائفه وغذاءه، وأمراضه وعلاجه، وعرفوا من أسرار حركته ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله الباري. إن الله وحده الذي خلق هذا الكون، له الحق وحده أن يشرع لعباده ما يشاء، وليس لأحد من خلق الله أن يعتدي على خلقه، فيشرع لهم غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان. فالله مبدع هذا الكون، ومدبره بالأوامر الكلية التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع أوامر الكون الأخرى، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها محيط بالكون وما يجري فيه.

وكل ما سوى الله قاصر وعاجز عن تلك الإحاطة بلا جدال، فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور، وكيف يرضى الناس بمخلوق مثلهم أن يشرع لهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. لقد شرع الله عزَّ وجلَّ للبشرية من الدين ما يوافق طبيعتها وفطرتها، ووضع الأصول لذلك، وترك للبشر استنباط التشريعات الجزئية التي تتجدد مع تجدد الحياة في حدود المنهج الكلي للدين، فإذا اختلفوا في شيء، رجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها الله للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي، وكل تطبيق حادث على مدار الزمن. وبذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا المنهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام. ومع وضوح هذا إلا أن بعض الناس يجادلون في هذا، ويجرأون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون لشعوبهم ما يسعدهم، كأنما هم أعلم من الله، وأحكم من الله، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم. لقد قضى الله عزَّ وجلَّ بإمهالهم إلى يوم الفصل، ولولا ذلك لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه بالجزاء العاجل، ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء، وهناك ينتظرهم جزاء الظلم، وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟. إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، وكل ما في السموات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده، ذاكر له، مطيع له، وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة، والله محمود بذاته، ممجد في مخلوقاته: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [التغابن: 1]. فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب، جامد

الروح، متمرداً عاصياً، لا يسبح الله، ولا يمجد خالقه، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذاً بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود. والإنسان وحده هو الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد ربه مؤمناً تارة .. وكافراً تارة، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} ... [التغابن: 2]. فإيمان العباد وكفرهم كله بقضاء الله وقدره، وهو سبحانه الذي جعل لهم القدرة والإرادة على اختيار ما يريدون. فعن إرادة الله ومشيئته صدر هذا الإنسان، وأودع إمكان الاتجاه على الكفر، وإمكان الاتجاه إلى الإيمان، وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله، وأنيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد. وهي أمانة ضخمة، وتبعة هائلة. ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز، والقدرة على الاختيار، وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله، ويقيس به اتجاهه، وهو الدين الذي نزله على رسله، فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة، ولم يظلمه شيئاً، والله رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فيجازيه بما عمل من خير أو شر. فسبحان الذي لا يخرج مخلوق عن ملكه .. وله الحمد كله .. حمد على ماله من صفات الكمال .. وحمد على ما خلقه من الأشياء .. وحمد على ما شرعه من الأحكام .. وحمد على ما أسداه من النعم، وحمد على ما صرفه من النقم. والله تبارك وتعالى هو الحق الذي يحب الحق ويدعو إليه، ويكره الباطل ويحذر منه، وما ترك أحد الحق إلا جرته الشياطين إلى الباطل. فاليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم جرتهم الشياطين إلى الكفر والكذب كما قال سبحانه عنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا

يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 101،102]. والحق: هو ما أوصاه الله إلى رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، المتضمن للعلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الفاضل، فإذا جاء هذا الحق زهق الباطل كما قال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. فكما لا يجتمع النور مع الظلام، ولا الليل مع النهار، ولا الحر مع البرد، كذلك لا يجتمع الحق مع الباطل؛ لأن كل واحد منهما يطرد الآخر. والباطل زهوق، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمنة والأمكنة الخالية من العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بآياته وبيناته، والعلم بدينه وشرعه. ودين الله هو الحكم بما أنزل الله في كل حالة دون سواه، وليس معنى دين الله أن ما أنزل الله من خير ودين هو خير مما يختاره البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع فحسب، فهذا سبب، ولكن السبب الأصل أن الحكم بما أنزل الله والدينونة له إقرار بربوبية الله وألوهيته، ونفي لذلك عما سواه. وقد أكمل الله الدين وحفظه، فهو دين البشرية إلى يوم القيامة، ومن رحمة الله أنه أنزله وتكفل بحفظه كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

وقد يغلب الكفار على المسلمين في موقعة أو في فترة، ولكنهم لا يتغلبون على هذا الدين ولا على كتابه، فلن يبطلوه أو ينقصوه، أو يحرفوه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. لكن الله جلّ جلاله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة تحفظ الدين، وتقوم به ويبقى فيها كاملاً محفوظاً حتى تسلمه إلى من يليها من أهل العلم والإيمان والتقوى وصدق الله وعده، فما كان للكفار أن ينالوا من ذات الدين أبداً، وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه. والناس صنفان: عالم .. وأعمى. فما ثم إلا عالم أو أعمى، فأهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، وأهل الجهل صم بكم عمي، وكما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي العالم والجاهل كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد: 19]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. والله عزَّ وجلَّ خلق نورين في هذا العالم للتمييز بين الأشياء كالسماء والأرض وأشكال النبات والحيوان. وخلق هذين النورين لاستفادتنا، النور الخارجي كنور الشمس والقمر، والنور الداخلي وهو نور العين. ولكن بهذين النورين لا نستطيع أن نميز بين الكفر والإيمان، وبين الحق والباطل، فالإيمان والأعمال والصفات لا تظهر بهذين النورين. فجعل الله لمعرفة ذلك نورين آخرين وهما: نور أنزله الله من السماء، وهو القرآن هدى ونور، والنور الآخر أمرنا الله أن نجتهد حتى يأتي في قلوبنا وهو نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب من يعلم

أنه يزكو عليه، فمن ليس عنده نور الإيمان لا يستفيد من نور القرآن. ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، وقبوله، لا بدَّ من النور الخارجي وهو القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، والنور الداخلي وهو الإيمان ومحله القلب، وإذا امتلأ القلب بالإيمان وتزين به فرَّق بين الحق والباطل، وأحب الطاعات، وأبغض المعاصي. ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة رضي الله عنهم جاء أمران: الاستعداد لامتثال الأوامر .. وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، ثم جاء أمران: الرضا عن المؤمنين .. والنصرة من الله عزَّ وجلَّ. قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} [الفتح: 18،19]. فبجهد التجارة نحصل على المال .. وبجهد الزراعة نحصل على الثمار .. وبجهد الدعوة نحصل على مرضاة الله في الدنيا والآخرة .. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. والحق نوعان: حق موجود، فالواجب معرفته .. وحق مقصود، فالواجب إرادته والعمل به. وقد فطر الله النفوس على محبة الإيمان دون الكفر، ومحبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، ومتى حصل للعبد ضد ذلك فلمعارض من كبر أو هوى أو حسد ونحو ذلك. كما أن الله عز وجل لصالح الجسد خلق فيه محبة الطعام والشراب الملائم له دون الضار، فإذا اشتهى ما يضره، أو كره ما ينفعه فلمرض في الجسد، وكذلك إذا اندفع عن النفس المعارض من الكبر والهوى والحسد ونحو ذلك أحب القلب ما ينفعه من العلم النافع، والعمل الصالح. كما أن الجسد إذا اندفع عنه المرض أحب ما ينفعه من الطعام والشراب، وتلذذ به.

فإذا ضعف العلم غلب الهوى، وإن وجد العلم والهوى فالحكم للغالب منهما. وإذا كان كذلك فصلاح البشرية بأمرين: بالإيمان .. والعمل الصالح .. ولا يخرجهم عن ذلك إلا شيئان: الجهل المضاد للعلم، واتباع الهوى والشهوات، فبالأول يكونون ضلالاً، ويالثاني يكونون غواة، مغضوباً عليهم. فاللهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7].

2 - فقه العدل والظلم

2 - فقه العدل والظلم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)} [الصف: 7]. العدل أحد قواعد الدين والدنيا، الذي لا انتظام لهما إلا به، ولا صلاح لهما إلا معه، وهو الداعي إلى الإلفة، والباعث على الطاعة. وبالعدل تنمو الأموال، وتعمر البلاد، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والجور؛ لأنه لا يقف على حد، ولكل جزء من الظلم قسط من الفساد حتى يستكمل. والعدل باب واسع، ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه .. ثم عدله في غيره .. فأما عدله في نفسه: فيكون بحملها على المصالح والمحاسن .. وكفها عن المساوئ والقبائح .. والوقوف بها على أعدل الأمرين، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم .. ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم. وأما عدل الإنسان في غيره فهو أقسام: منها عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته، والرجل مع أهل بيته، والمعلم مع طلابه ونحو ذلك، والعدل هنا يكون بإعطاء كل ذي حق حقه، واتباع الأسهل الميسور، وترك الأشد المعسور، وعدم التسلط بالقوة. ومنها عدل الإنسان مع من فوقه كالرعية مع السلطان، والولد مع والده، وأهل الرجل معه ونحو ذلك، والعدل هنا يكون بإخلاص الطاعة، وحسن الأدب، وصدق الولاء، وبذل النصرة، ودوام المناصحة. ومنها عدل الإنسان مع أمثاله وأكفائه من الرجال والنساء، والعلماء والدعاة

ونحوهم، والعدل هنا يكون بالإكرام والتوقير، وعدم الاستطالة عليهم، وتجنب الإدلاء، وكف الأذى عنهم، وبذل النصح لهم. ولا يملك الإنسان الناس إلا بأمرين: العمل فيهم بالشرع .. والتحبب إليهم بالإحسان. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وكل ما في الكون من رحمة ونفع ونعمة ومصلحة فهو من فضله تعالى، وما في الوجود من غير لك فهو من عدله: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60]. فكل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. يد الله اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان، الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه (¬1). وهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. وأفعال الله عزَّ وجلَّ دائرة بين العدل والإحسان .. ولا يمكن أن يظلم أحداً مثقال ذرة ولا أقل من ذلك. فهو سبحانه إما أن يعامل عباده بالعدل .. وإما أن يعاملهم بالإحسان فالمسيء يعامل بالعدل كما قال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684)، واللفظ له، ومسلم برقم (993).

والمحسن يعامله بالفضل كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. ويضاعف إلى سبعمائة حسنة إلى أضعاف كثيرة لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ومن كان فعله دائراً بين العدل والإحسان فهو محمود على أفعاله كما هو محمود على صفاته: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36،37]. أما الظلم فهو وضع الشيء في غير موضعه، أو التصرف في ملك الغير بدون إذنه، ومجاوزة حد الشارع بالتعدي من الحق إلى الباطل. ومن عاقب ظالماً بسيئاته، وانتصف للمظلوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلماً منه، بل ذلك أمر محمود منه، وليس الظالم معذوراً من أجل القدر. ورب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض، وأخذ للمظلوم حقه من الظالم، لم يكن ذلك ظلماً منه لأجل القدر. والواحد من الناس إذا وضع كل شيء في موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في دار طيبة، وجعل الخبيث مع الخبيث في دار خبيثة، كان ذلك عدلاً منه وحكمة ورحمة. فكذلك الله عزَّ وجلَّ وهو الحكيم العليم لا يجعل المسلمين كالمجرمين، ولا المتقين كالفجار كما قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35،36]. ولا أحد من البشر أعظم ظلماً ولا أكبر جرماً من عبد ذُكِّر بآيات الله، وبُيِّن له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ورُهِّب ورُغِّب فظل على شركه، ولم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه من الشرك، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ

يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف: 57]. فهذا أعظم ظلماً من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، فهما وإن كان كل منهما ظالماً، إلا أن من عصى على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك. فهذا الظالم لما ذكر بآيات الله ثم أعرض عنها، عاقبه الله بأن سد عليه أبواب الهداية .. وجعل على قلبه أكنة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها .. وجعل في أذنه وقراً يمنعه من سماع الآيات على وجه الانتفاع كما قال سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 45،46]. فالحجاب يمنع رؤية الحق .. والأكنة تمنع من فهمه .. والوقر يمنع من سماعه. والظلم ثلاثة أنواع: الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]. وهو المقصود بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)} [هود: 18،19]. الثاني: ظلم بين الإنسان وبين الناس كما قال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. الثالث: ظلم بين الإنسان ونفسه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]. وجميع هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه.

والظلم عند الله عزَّ وجلَّ له ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً وهو الشرك بالله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوان لا يعبأ الله به وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ، فإن هذا الديوان أخف الدواوين، وأسرعها محواً، فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك، فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها، واستحلال أهلها. وظلم العباد يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير إذنه، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة في القلب، ولو استنار بنور الهدى لطلب العدل والإحسان. والظلم أنواع: فأظلم الظلم الشرك بالله: وهو وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، كما قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]. فالشرك أظلم الظلم واشده وأكبره؛ لأن فيه صرف العبادة لغير مستحقها، ووضعها في غير مكانها. وأكثر الناس لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه، فالله عزَّ وجلَّ أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وأكرم المحسنين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. وظلم الإنسان نفسه: ألا يعطيها حقها، كمنعها من الطعام والشراب، أو يحملها ما لا تطيق كأن يصوم فلا يفطر، أو يحملها على الكفر والمعاصي، ولا يمكنها

من الطاعات ونحو ذلك. وظلم الإنسان غيره: كأن يتعدى على غيره بالضرب أو القتل، أو أخذ ماله بغير حق، أو يمنعه حقه، أو يؤخره ونحو ذلك. والظالمون الذين كفروا بنعمة الله، وصدوا عن سبيله، لهم عذاب في الحياة الدنيا، وعذاب في الآخرة أشد وأبقى كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. والله عزيز ذو انتقام، لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو، ولا يدع الكافر يفر، إنهم حاضرون مكشوفون أمام الله، لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق، الله يسمع كلامهم، ويرى أفعالهم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} [إبراهيم: 42]. ووعد الله آت لا محالة، يكرم فيه المؤمنين، وينتقم الجبار من الظالمين: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)} [إبراهيم: 47]. إن الإسلام دين الله الذي ارتضاه للبشرية إلى يوم القيامة، وأرسل به أفضل رسله، وأنزل من أجله أحسن كتبه، وشرع فيه أحسن شرائعه، ودعا فيه إلى أحسن مكارم الأخلاق. وجاء بالمبادئ والقواعد التي تكفل تماسك وسعادة الأفراد والأمم والشعوب. جاء بالعدل الذي يكفل لكل فرد، ولكل جماعة، ولكل قوم، قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالحب والبغض، ولا تتبدل مجاراة للغنى والفقر، ولا تلوي من أجل الصهر والنسب، ولا تتغير من أجل القوة والضعف. إنما هي ثابتة تمضي في طريقها، تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وجاء إلى جوار العدل بالإحسان يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه، إيثاراً لود القلوب، وشفاء

لغل الصدور، وتهيئة الفرصة لمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه، ليداوي جرحاً، أو يكسب فضلاً. والإحسان شعب واسعة: فكل عمل طيب إحسان .. وكل كلمة طيبة إحسان .. وكل بذل وإكرام إحسان. والأمر بالإحسان يشمل كل عمل .. وكل تعامل .. فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه في العبادات .. وفي علاقات العبد بأسرته بحسن المعاشرات .. وفي علاقات العبد بغيره بحسن المعاملات .. وفي علاقات العبد بالبشرية جمعاء بحسن الأخلاق: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. وفي المقابل ينهى الله عزَّ وجلَّ عن الظلم بكل صوره وألوانه، فينهى عن الفحشاء: وهي كل أمر يفحش ويتجاوز الحد، خاصة فاحشة الاعتداء على العرض؛ لأنه فعلٌ فاحش فيه اعتداء، وفيه تجاوز للحد. وينهى عن المنكر: وهو كل فعل تنكره الفطرة السليمة، ومن ثم تنكره الشريعة، فهي شريعة الفطرة. وينهى عن البغي: وهو الظلم وتجاوز الحق والعدل في كل شيء. وكل أمة إنما تسعد بالعدل والإحسان، وتشقى بالظلم والفحشاء والمنكر والبغي، وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي. والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها. وتاريخ البشرية كله انتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه عناصر غريبة على جسم الحياة، تنتفض لها الفطرة السليمة كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه. إن قضاء الله لا يرد، ومشيئته لا معقب لها: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)} [الشورى: 44].

فالله عزَّ وجلَّ إذا علم من العبد أنه مستحق للضلال، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله، أو ينصره من جراء الضلال الذي قدره الله. والظالمون بغاة طغاة، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز يوم القيامة: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)} [الشورى: 45]. وعدل الله مطلق بين العباد في كل شيء، في العقول وسائر النعم، وفي البشر العاقل والمجنون، والغني والمحروم، والصحيح والكسير. فإن قال قائل: ما ذنب هؤلاء المجانين والفقراء وأهل الابتلاء أن يكونوا وسيلة إيضاح لغيرهم؟. قيل: لا شك أن الإنسان حين يرى الأعمى يتذكر فضل الله عليه في أنه أعطاه النظر، وإذا رأى إنساناً أعرج أحس بنعمة الله عليه في رجليه. إن الله عزَّ وجلَّ جعل هذه الأحوال الشاذة في قلة من البشر، لا تكاد تذكر بالنسبة لعدد البشرية الهائل، إلا أنه سبحانه عوض هؤلاء عما فقدوه، ولا بدَّ أن لكل واحد منهم ميزة عن غيره من الخلق تعوضه عما فقد. فهؤلاء ينالون من عطف الناس ومعاونتهم ورحمتهم بما لا يناله غيرهم، ولكل منهم نبوغاً لا يتوافر لغيره. فأكثر الناس حفظاً لما يسمعون هم الذين فقدوا أبصارهم، والدين يحتاج إلى هؤلاء في حفظ القرآن والسنة وأحكام الدين. والله سبحانه عندما وضع مثل هذا الشذوذ في الكون وضعه بنسبة ضئيلة جداً، ليلتفت الناس على نعمة الله عليهم، ثم بعد ذلك يأتي عون الله فيعوضه من الخير والنبوغ، والعطف الإنساني، ما ييسر له كثيراً من أمور حياته، ويمنحه فرصاً مميزة.

فعموم الناس كلهم في فضل الله ونعمته، ولكن أكثر الناس لا يدركه فيقطع الشكر، فَيُّحرم الطمأنينة والثواب: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 59، 60]. وإذا كان الله عزَّ وجلَّ أنعم على الإنسان بالعقل، ثم سلبه ذلك العقل، فله سبحانه حكمة في ذلك، كما أن لكل شيء في هذا الكون حكمة في الخروج عن المألوف. وإذا كان عدد قليل من الناس قد فقد عقله، فقد رفع الله سبحانه وتعالى عنه التكليف في الدنيا، والحساب في الآخرة. فهو يقول في الدنيا ما يشاء ولا يحاسبه المجتمع، وفي الآخرة كذلك لا يحاسبه الله، وفي هذا تعويض كبير عن نعمة العقل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). فعدل الله مطلق فيما أعطاه للإنسان، ولكل واحد من البشر ميزة يتميز بها عن غيره من البشر، تعوضه عما يعتقد أنه فقده، قد يعلمها وقد لا يعلمها، وقد يعلمها الناس وقد لا يرونها، لكن الله يعلمها، ولا يظلم ربك أحداً. فالذي لا يملك المال من الناس يملك البركة، فيبارك الله له في القليل. والذي لا يملك المنصب يملك الصحة التي تعوضه عن هذا كله، أو يملك البركة في أولاده، فيسر الله له سبل العلم والحياة والرزق لهم. والذي لا يملك هذا كله يملك الستر ونعمة القناعة، إلى آخر نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، والتي لا يعلم دقيقها وجليلها إلا اللطيف الخبير. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4398)، صحيح سنن أبي داود رقم (3698). وأخرجه النسائي برقم (3432)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (3210).

فالأحداث العظام كالخسوف والزلازل والبراكين إذا خرجت عن طبيعتها، فالله أراد تذكرة الخلق بالخالق الذي خلقهم وخلقها ليعبدوه ويطيعوه، ويتوبوا إليه ويخافوه كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء: 59]. فإذا خرج عن السنة العامة في الخلق قلة من البشر، فإنما يحصل ذلك ليذكر الناس أن هذا الكون هو من خلق الله، وأن كل شيء فيه يمضي بأمر الله، وكل شيء يمكن أن يخرج عن مهمته، ومن رحمة الله أنه يخرج بنسبة قليلة لا تذكر، تنبيهاً للغافل ليشكر، وتذكيراً للعباد بأن هذا الكون خاضع أبداً لخالقه وحده، فليتقوه لينالوا رضاه ورحمته. والله سبحانه أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، مكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول وهذا عدله. ووفق من شاء بمزيد عناية؛ لأنه أهل للهداية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه وهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان: أحدهما: ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، فهو أهل أن يخذله. الثاني: أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعرف عنه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية. والشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور .. وعن الرحمة إلى الشدة .. وعن المصلحة إلى المفسدة .. وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل. والإسلام دين العدل والإحسان، ومن المبادئ الكلية للعدل، والتي يعامل الله بها عباده، والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على

أساسها فلا يصيبهم السوء ما ذكر الله سبحانه قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 110 - 112]. فالآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته. والثانية تحمل كل فرد تبعة عمله، وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب، مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب. والثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء. وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على من سواه، وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه لمن أراد. وميزان الثواب والعقاب ليس موكولاً إلى الأماني، إنه يرجع إلى أصل ثابت وسنة لا تتخلف، تستوي أمامه الأمم والأفراد، ولا يخرق لأحد من الناس مهما كان شأنه، فصاحب الحسنة يجزى بالحسنة، وصاحب السوء يجزى بالسوء، ولا محاباة، في هذا ولا مماراة: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 123،124]. وجميع أوامر الله عزَّ وجلَّ كلها عدل وإحسان إلى الخلق، ولا بدَّ من تعليق قلوب الناس وأنظارهم بهذا العدل، وبذلك الجزاء، لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة. فلا بدَّ من جزاء للمؤمنين من الله على إيمانهم وأعمالهم يشجع ويقوي الإنسان على النهوض بأحكام الدين وأوامره، وعلى الوفاء بالميثاق. ولا بدَّ أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله، وهذا هو العدل الإلهي الذي يجازي كل إنسان بعمله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة: 9،10]. والله عزَّ وجلَّ يعلم من طبيعة الإنسان حاجته إلى الوعد بالمغفرة، والأجر العظيم، وحاجته كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين. إن هذا وذاك يرضي هذه الطبيعة، ويطمئنها على جزائها ومصيرها، ويحركها للطاعة، وينفرها من المعصية، وبذلك تتلذذ بالعبادة، وتعلم أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم، وفيها مذاق الرضا فوق مذاق النعيم. ودين الإسلام قائم على العدل المطلق؛ لأن الله الذي شرعه يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق؟، وكيف يتحقق؟. ولأنه سبحانه رب الجميع، فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرءاً من الهوى والميل والضعف والجور. كما أنه مبرأ من الجهل والقصور، ومن الغلو والتفريط. ومنهج الإسلام متوافق مع ناموس الكون كله؛ لأن الذي شرعه هو خالق هذا الكون كله وخالق الإنسان، فإذا شرع سبحانه للإنسان شرع له كمخلوق من مخلوقاته، لكن تطيعه مخلوقات مسخرة له بأمر خالقه، لكن بشرط السير على هداه. والله عزَّ وجلَّ أمر عباده بالعدل والإحسان، والعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، والعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما في حقه وحق عباده كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل مسلم وكل والٍ ما عليه تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، أو الولاية الصغرى.

ومن العدل في حق الله أداء ما أمر الله به من الإيمان والتوحيد، وطاعته وعبادته وحبه لا شريك له. ومن العدل في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان به وطاعته، وتوقيره، وتصديق ما جاء به من ربه، واجتناب ما نهى عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. ومن العدل في المعاملات مع الناس أن تعاملهم بما شرع الله ورسوله في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، وتوفي لهم حقوقهم فلا نبخس لهم حقاً، ولا نغشهم، ولا نخدعهم، ولا نظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والجاه والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع، خاصة أولي القربى، فكل من كان أقرب كان أحق بالبر.

3 - فقه الأمر والنهي

3 - فقه الأمر والنهي قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. كمال الإنسان بالإيمان والتقوى، وكمال التقوى بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه. وترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي؛ لأن الله نهى آدم عن الأكل من الشجرة فأكل منها فتاب، فتاب الله عليه. وإبليس أُمر أن يسجد لآدم مع الملائكة فلم يسجد واستكبر، فطرده الله ولعنه. وارتكاب النهي غالباً مصدره الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر في الغالب الكبر والعزة. والجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنى وسرق. وفعل المأمورات أحب إلى الله من ترك المنهيات كما قال - صلى الله عليه وسلم - حين سئل أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» أخرجه البخاري (¬1). وفعل ما يحبه الله من الطاعات والمأمورات مقصود بالذات، وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه أو ينقصه، كما نهى الله عزَّ وجلَّ عن الخمر والميسر لكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة. فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات التي يحبها الله. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (527).

إذا عُرف هذا .. ففعل ما يحبه الله مقصود بالذات، ولهذا يُقدِّر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب، كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه الله من لوازمها من الجهاد والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحصول التوبة من العبد، والتضرع إليه والاستكانة، واتخاذ الشهداء، وإظهار عدل الله وعفوه وانتقامه وعزته، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله. وفي فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه، وزينته وسروره، وقرة عينه، ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصِّل له شيئاً من ذلك. وللعباد أربع حالات: فمن فعل المأمورات وترك المنهيات فهذا ناج مطلقاً. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]. ومن فعل المأمورات، وفعل المنهيات، فهو إما ناجٍ مطلقاً إن غلبت حسناته على سيئاته، وإما ناج بعد عقوبته على سيئاته وتمحيصه. ومن ترك المأمورات وترك المنهيات، فهو هالك غير ناج، ولا ينجو إلا بفعل المأمور وهو التوحيد، فمتى خلا قلبه من التوحيد رأساً فهو هالك، وإن لم يعبد مع الله غيره. فإن عبد معه غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به، وفعل الشرك المنهي عنه. والطاعات والمعاصي إنما تتعلق بالأمر أصلاً، وبالنهي تبعاً. فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور، واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه. فلو أن العبد اجتنب المنهي عنه، ولم يفعل ما أمر به، لم يكن مطيعاً، وكان عاصياً، بخلاف ما لو أتى بالأمر، وارتكب النهي، فإنه وإن عد عاصياً مذنباً، فهو مطيع بامتثال الأمر، عاصٍ بارتكاب النهي.

وامتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة، وتلك العبادة التي خلق الله لأجلها الخلق، بخلاف النهي فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف الأمر فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول. والله عزَّ وجلَّ جعل جزاء المأمورات عشرة أمثالها، وجزاء المنهيات مثلاً واحداً كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وهذا يدل على أن فعل ما أمر الله به أحب إليه من ترك ما نهى عنه، وإن كان كلاً منهما مقصود ومطلوب. والله سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات؛ لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات، وهذا الفرح إنما كان بفعل المأمور به وهو التوبة. فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم، الذي وجوده أحب إليه من فواته، ووجوده بدون لازمه ممتنع، وليس ذلك مطلقاً، وإنما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك المنهيات، وكلاهما مطلوب، فالمأمورات تغذية .. والمنهيات وقاية. والمأمور به محبوب الله سبحانه، والمنهي عنه مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه. وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة .. وإما إلى تفريط وتقصير. وهاتان الآفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً وترك ما سواه. وهذان المرضان الخطيران قد استوليا على أكثر بني آدم، ودين الله بين الغالي فيه، والجافي عنه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي غير الدعوة، فالدعوة بيان وإرشاد، والأمر والنهي سلطان.

وكلاهما مما شرف الله به هذه الأمة بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وذنوب العباد قسمان: ترك مأمور به .. وفعل منهي عنه. فالمأمور به إذا تركه العبد متعمداً، فإما أن يكون مؤمناً بوجوبه أولا يكون: فإن كان مؤمناً بوجوبه، تاركاً لأدائه، فلم يترك الواجب كله، بل أدى بعضه وهو الإيمان به، وترك بعضه وهو العمل به. وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمناً بتحريمه أو لا يكون: فإن كان مؤمناً بتحريمه، فاعلاً له، فقد جمع بين أداء الواجب، وفعل المحرم، فصار له حسنة وسيئة. ومقصود الأمر تحصيل المصلحة، ومقصود النهي دفع المفسدة. وقوة فعل الأوامر، واجتناب النواهي، مبنية على ما في القلوب من قوة الإيمان وضعفه، وزيادته ونقصانه. فالإيمان هو المحرك، والأعمال منه ومن ثمراته، وهو يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والله سبحانه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فمن شاء سلك طريق الهدى ونال ثوابه، ومن شاء تركه وتحمل عقوبته: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)} [الأعراف: 35،36]. وإذا تبين الحق من الباطل، والنور من الظلام، والرشد من الغي، زال اللبس، وانكشف الأمر، وظهر ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42]. والله عزَّ وجلَّ أعطى هذه الأمة وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله،

والأنبياء لم يبعثوا بالعبادات فقط، بل بعثهم الله بالتوحيد والإيمان، وحل جميع المشاكل الإنسانية في الدنيا والآخرة: في العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق. فالصلاة أمر من أوامر الله، لا بدَّ أن تكون على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك المعاملات كلها لها أوامر من الله، فلا بدَّ أن تكون على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا المعاشرات والأخلاق، فالله أرسل الأنبياء بالدين الكامل، ومن ظن أن الدين عبادات فقط، أما باقي شعب الحياة فالناس أحرار يفعلون ما يشاءون فقد أخطأ وضل وأضل، وقال على الله ما لا يعلم. فلا يجوز أن تكون العبادات على طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. والتصرف في الأموال على طريقة قارون .. ومزاولة الملك على طريقة فرعون .. والتجارة على طريقة اليهود .. وتناول الشهوات على طريقة النصارى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 85، 86]. إن الله عزَّ وجلَّ له أوامر في كل شيء، من أطاع الله فيها فهو رابح، ومن عصى الله فيها فهو خاسر، والأنبياء بينوا هذه الأوامر في شعب الحياة كلها، وذلك لتدخل حياة الأنبياء في حياة الناس. فمقصدنا في التجارة ليس جمع المال، بل مقصدنا الاستعانة به على طاعة الله، وإفادة الناس منه، وامتثال أوامر الله فيه، والاستغناء به عن سؤال الناس. وإذا طلب التاجر الدنيا مرائياً مفاخراً غضب الله عليه، وعذبه بماله في الدنيا وفي الآخرة: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. والمسلمون في مكة في بداية الدعوة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على

مجتمعهم، ولذلك لم ينزل الله في تلك الفترة تنظيمات وشرائع وشعائر، وإنما أنزل لهم أوامر التوحيد والإيمان وحسن الأخلاق. ولما اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وسلموا أنفسهم لله، فلا يختارون إلا ما اختار الله وأمر به، حينذاك نزلت الشرائع والشعائر في المدينة متوالية كالمطر في جميع شعب الحياة، وفي جميع الأوقات والأحوال، فقبلوها وفرحوا بها وقالوا سمعنا وأطعنا. والله حكيم عليم، فحين يتعلق الأمر أو النهي بالتوحيد والشرك، أو بالإيمان والكفر، فإن الله يقضي فيه قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى، ويمضي أمره في ضربة حازمة جازمة صريحة لا غموض فيها، لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة ولا مساومة، ولا تأجيل فيها ولا تأخير، فمن أول يوم قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1، 2]. وعندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو سلوك، أو وضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ الأمر باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الفرصة والظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة عن قناعة كمسألة الرق، ومسألة تحريم الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج لقلعها من النفوس، والعلاج يحتاج إلى وقت. فبدأ الله عزَّ وجلَّ بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركه هو الأولى. ثم نهاهم عن أداء الصلاة وهم سكارى، وفي هذا تضييق لوقت شرب الخمر. فلما تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر، مقروناً بالتنفير عنه، فلما اطمأنت القلوب انقادت الجوارح وأطاعت، وكسرت دنان الخمر امتثالاً لأوامر الله عزَّ وجلَّ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ

مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91]. وإذا استقام القلب بالإيمان، استقامت الجوارح بالطاعة والانقياد، وإنما يستقيم القلب بأمرين: تقديم ما يحبه الله تعالى على ما تحبه النفس بكمال الإيمان .. وتعظيم الأمر والنهي وهو الشريعة، وذلك ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، وهو الله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. فالإنسان قد يفعل الأمر لنظر الخلق إليه، وقد يترك المناهي خشية سقوطه من أعين الناس، أو خوفاً من العقوبات الشرعية، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي. وأوامر الله عزَّ وجلَّ نوعان: أوامر كونية يدبر الله بها الكون .. وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن. والأوامر الشرعية قسمان: الأول: أوامر شرعية محبوبة للنفس كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك. الثاني: أوامر شرعية مكروهة للنفس وهي نوعان: الأول: أوامر خفيفة سهلة كالأدعية والأذكار، وتلاوة القرآن، والنوافل والصلوات ونحوها. الثاني: أوامر ثقيلة كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من عبادة بالدعوة والعبادة، وتحركت بذلك الجوارح. وعلامات تعظيم أوامر الله: أن يذكر العبد الآمر بها .. ويراعي أوقاتها وحدودها .. ويأتي بأركانها وواجباتها

وسننها وآدابها .. ويحرص على كمالها .. ويسارع إلى أدائها .. ويفرح بها .. ويحزن عند فواتها، كمن فاتته صلاة الجماعة ونحوها. وأن يفرح بالطاعات .. ويسر برؤية الطائعين، وأن يغضب لله إذا انتهكت محارمه .. ويحزن عند معصيته .. ولا يسترسل مع الرخص .. ولا يكون دأبه البحث عن علل الأحكام .. بل يفعل الطاعات، ويجتنب المعاصي؛ لأن الله أمره بذلك .. فإن ظهرت له الحكمة حمله ذلك على مزيد الانقياد والعمل. وكل ما أمر الله ورسوله به فيجب على المسلم القيام به حسب الاستطاعة كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه (¬1). وأما المنهيات فيجب اجتنابها مطلقاً كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. والله وحده هو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يقلب الليل والنهار، ويقلب القلوب والأبصار، ويحيي الأرض بعد موتها. وهو سبحانه الحاكم في حياة العباد، وليس لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، ولا خلق ولا تدبير. فهذا كله اختص به ملك الملوك وحده لا شريك له. وكل مسلم مأمور بفعل ما أمره الله ورسوله به، واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه، وإذا فعل المسلم المنهي عنه متعمداً فهو آثم، إلا إذا كان مضطراً فيباح له بقدر الضرورة كالأكل من الميتة أو الخنزير بقدر الحاجة ونحو ذلك وإذا فعل المنهي عنه ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه كما قال سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، واللفظ له، ومسلم برقم (1337).

نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. فقال الله: قد فعلت. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. أما ترك المأمور به فلا يعذر بجهله ولا نسيانه، فلا بدَّ من الإتيان به، لكن الله رفع عنه الإثم كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسيء في صلاته أن يعيدها، فمن نسي الوضوء وصلى فلا إثم عليه، لكن عليه إعادة الصلاة بعد الوضوء .. وهكذا. والحكمة في التشديد أول الأمر ثم التيسير في آخره توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران: الأجر على عزمه .. وتوطين نفسه على الامتثال .. والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه، ومثاله: فرض الله الصلاة خمسين ليلة الإسراء، ثم خففها وتصدق بجعلها خمساً في العمل وخمسين في الأجر. وقد يقع في الأمر والقضاء والقدر ضد هذا، فينقل الله عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه؛ لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة، فلا تتحمله النفوس ولا تنقاد إليه. ومثاله: تدريجهم في الشرائع شيئاً فشيئاً كالتدرج في تحريم الخمر مثلاً، ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة ركعتين، فلما ألفوها زيد فيها. ومن هذا الصيام كان على التخيير، فلما ألفوه فرض عليهم رمضان، ومنه الإذن بالجهاد، فلما ألفوه أمروا به. وذلك كله للتربية على قبول الأحكام والإذعان لها. والله عزَّ وجلَّ أنزل من السماء ماءً فأخرج بسببه الثمار اليانعة، والزروع والأزهار، وكذلك أنزل الوحي من السماء إلى عباده فأخرج بسببه الأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة، إلا أن من الأرض ما لا يقبل الماء كالحجارة، ومن البشر من لا يقبل الهدى كالقاسية قلوبهم.

لكن الله عزَّ وجلَّ أقام الحجة على جميع العباد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومنحهم السمع والبصر والعقل. والأوامر الشرعية تلزم من يعلمها، وتمكن من فعلها، ومن لا يعلمها أو لم يتمكن من فعلها فلا تلزمه؛ لأن الوجوب مشروط بالعلم والقدرة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور، أو فعل محظور بعد قيام الحجة كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. والله تبارك وتعالى له سنة في أمره وشرعه، وله سنة في خلقه، وله سنة في قضائه وقدره. وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار، وإلى جانبه حكم الله الشرعي الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار، وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي، وهو كذلك من الله ولله، شأنه شأن الحكم القدري. لكن القدري الناس فيه مقهورون، والثاني الناس فيه مختارون: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]. فسبحان الذي خلق السموات والأرض بالحق، ليأمر عباده وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم كما قال سبحانه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} [الجاثية: 22]. وأحكام الشريعة إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو، وبلوغها إليه، فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو، فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها، ففي العبادات لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسيء في صلاته بإعادة ما تقدم من الصلوات التي لم تكن صحيحة .. ولم يأمر معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - حين تكلم في الصلاة بالإعادة؛ لأنه لم يبلغه

الحكم .. ولم يأمر من أكل في نهار رمضان بالإعادة لما ربط الخيطين؛ لأجل التأويل .. ولم يأمر المستحاضة حين تركت الصلاة أن تعيد ما تركت .. ولم يأمر المتمعك في التراب لأجل التيمم بالإعادة مع أنه لم يصب فرض التيمم، وأهل قباء صلوا إلى القبلة المنسوخة بعد بطلانها ولم يعيدوا ما صلوا، بل استداروا في صلاتهم وأتموها؛ لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم. أما في المعاملات فإن الله تعالى أمر المؤمنين بترك ما بقي من الربا بعد الإسلام وهو ما لم يقبض، ولم يأمرهم برد المقبوض؛ لأنهم قبضوه قبل التحريم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]. وفي القصاص لم يضمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة قتيله بعد إسلامه بقصاص ولا دية ولا كفارة. ولله عزَّ وجلَّ على كل عبد نوعان من الحقوق: أحدها: أمره ونهيه الذي هو محض حقه عليه. الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه. فالله سبحانه يطالب العباد بشكر نعمه، وبالقيام بأمره، فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته. وكلما كان العبد أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم، فليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأقل الناس ديناً وأمقتهم عند الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا بأجمعها. والله سبحانه يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه، فهو سبحانه على صراط مستقيم: في قوله وفعله .. وشرعه وقدره .. وأمره ونهيه .. وعطائه ومنعه .. ونفعه وضره ..

وعافيته وبلائه .. وإغنائه وإفقاره .. وإعزازه وإذلاله .. وإنعامه وانتقامه .. وإحيائه وإماتته .. وتحليله وتحريمه .. وثوابه وعقابه وفي كل ما يخلق .. وفي كل ما يقدر .. وفي كل ما يأمر: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. وأوامر الله التي كلفنا بها نوعان: أحدها: ما نعرف وجه الحكمة فيه بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام وأكل الطيبات، وجلّ الشريعة من هذا النوع. الثاني: ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمار في الحج، والوضوء من أكل لحم الجزور، ونحو ذلك. وكما يحسن من الله أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذلك يحسن الأمر منه بالنوع الثاني؛ لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد؛ لأحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله وجه الحكمة والمصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم. وإذا كان هذا في الأفعال ففي الأقوال مثله، وهو أن يأمرنا الله أن نتكلم بما نقف على معناه كالآيات، وتارة بما لا نقف على معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور. والمقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، وظهور العبودية في هذا وهذا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]. وإذا ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمراً، فإن كان مطلقاً كان حكمنا كحكمه كترك الأكل متكئاً، وأنه لم ينتقم لنفسه، وأنه لا يصافح النساء في البيعة ونحو ذلك. وإن تركه لسبب كان حكمنا كحكمه - صلى الله عليه وسلم - حال وجود السبب، فإذا زال السبب زال الحكم ورجع إلى الأصل.

وأسباب الترك أنواع: منها تركه - صلى الله عليه وسلم - الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة، ومنه ترك قيام رمضان جماعة خشية أن يفرض عليهم، فلما زالت الخشية بوفاته وانقطاع الوحي أعاد الصحابة رضي الله عنهم فعلها في المسجد زمن عمر - رضي الله عنه -. ومنها ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب، ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة لبيان الجواز. ومنها الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف، فلم يمنعه من أن يرمل في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. ومنها ترك المطلوب خشية من حدوث مفسدة أعظم من بقائه، وهذا من السياسة الشرعية المقررة، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن قريشاً حديثو عهد بكفر. ومنها الترك على سبيل العقوبة كتركه الصلاة على المدين، فلما وسع الله عليه كان يصلي ولا يسأل عن الدين. ومنها الترك لمانع شرعي كقصة نومه عن صلاة الفجر في السفر، فلم يبادر للقضاء لكون الشمس في أول طلوعها، ويحتمل لأن بالوادي شيطان، ثم تحول بالناس وصلى بهم في مكان آخر. والله تعالى إذا أمر عبده بأمر وجب عليه أن يعرف حده، وما هو الذي أمر به، ليتمكن بذلك من امتثاله، فإذا عرف ذلك اجتهد واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره بحسب قدرته وإمكانه. وكذلك إذا نهى عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بالله على تركه. وينهى الله عزَّ وجلَّ عن الفحشاء، وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع

والفطر كالشرك بالله، والقتل بغير حق، والزنا والسرقة، والعجب والكبر، واحتقار الخلق، ونحو ذلك. وينهى كذلك عن المنكر، وهو كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى. وينهى عن البغي، وهو كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض ونحوها. فهذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ولم يبق شيء إلا دخل فيها، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي فهي مما نهى الله عنه. وما جاءت به الشريعة من المأمورات والكفارات والعقوبات ونحوها فإنه يُفعل منه حسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين فإنه يجاهد على من يقدر على جهادهم. فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله. وقد أمر الله المؤمنين باتباع ما أنزل إليهم من ربهم كما قال سبحانه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزمر: 55]. فالقرآن هو أحسن الحديث وأعظمه وأكمله بالنسبة لغيره. وأخباره وأوامره فيه الحَسًن والأحسن فالخبر عن الأبرار والمقربين يتضمن أن اتباع الصنفين حسن، واتباع المقربين أحسن. والأمر يتضمن الأمر بالواجبات والمستحبات، والاقتصار على فعل الواجبات حسن، وفعل المستحبات معها أحسن. والله سبحانه أمر بالعدل والإحسان، ولا ريب أن العدل حسن، والإحسان مع العدل أحسن.

ومن اتبع الأحسن فاقتدى بالمقربين، وتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وأحسن في عبادة ربه ومعاملة خلقه، فهو أحق بالبشرى كما قال سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17،18]. والأمر بالمعروف وفعل الخيرات والعبادة والتعليم كلها اعمال حسنة، وفي كل منها الحسن والأحسن كما قال سبحانه {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

4 - فقه النفع والضر

4 - فقه النفع والضر قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]. كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ مملوك لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله، فالأمر كله لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً. وهو سبحانه الذي يقلب الليل والنهار، ويقلب القلوب والأبصار، المتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وذلك كله يقتضي تعظيمه ومحبته سبحانه، وعبادته وطاعته؛ لإحسانه إلى عباده، وإسباغ نعمه عليهم. وكتاب الله عزَّ وجلَّ مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فعلى العبد التوكل على ربه وحده، والشكر له ومحبته على إحسانه، وفي تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة على عبودية الله وتفريغ قلبه له. والله سبحانه غني حميد، كريم رحيم، فهو المحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه سبحانه، ولا يدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.

فالله تبارك وتعالى كامل الذات والأسماء والصفات، محسن لذاته، رحيم لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته، كما أنه غني لذاته، قادر لذاته، حي لذاته. فإحسانه وجوده، وبره ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أن قدرته وغناه، وعلمه وحلمه من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك. وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لمصالحهم: فإنهم إذا أحبوا أحداً طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله أو شجاعته أو رياسته أو كرمه. وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة فهم يطلبون العوض، إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وأجراء المستأجر، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم. فكل واحد من الخلق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل، فإن دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه. وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك، لا لينتفع بك، فهي منفعة محضة لك لا ضرر فيها: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. فليتدبر العاقل ذلك حق التدبر، فملاحظته تمنعه أن يرجو المخلوق، أو يطلب منه منفعة له، فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك، لا نفعك بنفسه. وتأمل ذلك وتدبره فيه منفعة عظيمة وراحة، ويأس من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم، وفتحاً لباب عبودية الله وحده. لكن لا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، وعدم احتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لا لرجائهم، فكما لا تخافهم لا ترجوهم. فأغلب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن

صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك. فما أشد ضلال من تعلق بالخلق من دون الله، حيث أعرض عن عبادة الغني المغني، الذي يملك النفع والضر، وأقبل على عبادة مخلوق مثله ليس بيده من الأمر شيء: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12]. وماذا بيد المخلوق؟ .. وماذا يملك المخلوق؟ .. وهو فقير محتاج لا يملك إلا ما أعطاه الله إياه، فهو قاسم لا معطي، وضره أقرب من نفعه، فهل هناك أجهل وأضل ممن تعلق بمخلوق مثله، أو دونه، أو أكبر منه، وخافه ورجاه؟ وهل يليق بالمخلوق أن: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 13]. إن السعيد الرابح من أرضى الله بسخط الناس، ولم يرضهم بسخط الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب الله وخوفه ورجاءه فيه: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: 105، 106]. فالخلق كلهم لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة، ولا يجلب لك منفعة البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره، فهو سبحانه الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ

عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). فالمنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده، فإن المرء إذا كان غير عالم بمصلحته، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيره أولى ألا يكون عالماً بمصلحته، ولا قادراً عليها، ولا مريداً لها. والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا ليتكثر بك، ولا يتعزز بك. وهو سبحانه يحب الجود والبذل، والعطاء والإحسان، أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته. فإذا حبس الله عنك فضله ونعمته فلأمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، فإن الله قضى أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، ولا يزيد ويدوم بغير شكره، ولا منعت نعمة بغير معصيته. وكذلك إذا أنعم الله عليك بنعمة ثم سلبها منك، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما العبد هو المتسبب في سلبها عنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53]. فما أعجب حال الإنسان؟. يشكو المحسن البريء عن الشكاية، ويتهم أقداره ويلومها، والإنسان هو الذي ضيع وفرط، وقصر وعصى، وجهل وأساء، ثم قعد يعاتب ويحاسب القدر بلسان الحال أو المقال. وهذه حال أكثر الخلق، فإن الفطرة إذا فسدت، وأطفأ الهوى نور العلم والإيمان حل الظلام، فضل المرء عمن أصل بلائه ومصيبته فيه، وأقبل يشكو الذي كل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669). وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

إحسان دقيق أو جليل وصل إليه منه، فإذا شكوته فإنما تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. وإذا عرف العبد ذلك، وعرف سبب بلائه ومصيبته، استحى من نفسه إن لم يستح من الله أن يشكو أحداً من خلقه، أو يرى مصيبته وآفته من غيره كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وجميع المخلوقات كبيرها وصغيرها كالعرش والكرسي، والسموات والأرض، والطعام والشراب، والنملة والذرة، والهباءة والخردلة وغيرها. كل هذه المخلوقات لإظهار ذاتها محتاجة إلى أمر الله في وجودها .. ومحتاجة لأمر الله في بقائها .. فكذلك لإظهار صفاتها من النفع والضر محتاجة إلى أمر الله. فهي كالأواني الفارغة إن جاءها أمر الله بالنفع نفعت، وإن جاءها أمر الله بالضر ضرت بإذن الله، وكالعبيد ينتظرون أوامر سيدهم ليقوموا بالخدمة. فجميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي إنما تعمل وتتحرك بأوامر الله الكونية، وأوامره الشرعية، فالخلق خلقه، والأمر أمره وحده لا شريك له: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وجميع الأنبياء والرسل استعملوا الأشياء باليقين على الله عزَّ وجلَّ، وعلى أوامره، لا على ذات الأشياء كما قال هود - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. فالأمر كله بيد الله، وليس بأيدي الرسل وللأنبياء ولا لغيرهم من المخلوقات شيء من الأمر والنفع والضر، فكل مخلوق، وكل رسول، وكل عبد، فقير مدبر لا يأتيه خير إلا من الله، ولا يدفع عنه الشر إلا الله، ولا يحصل على شيء من العلم إلا ما علمه الله، ولا يأخذ شيئاً من الرزق إلا ما رزقه الله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا

مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. فيا جهالة من يقصد نبياً أو ولياً ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا يعلم الغيب، ولا يعلم إلا ما علمه الله. وإنما ينفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة وعمل بذلك، فقد أنذر - صلى الله عليه وسلم - بالعقوبات الدينية والدنيوية والأخروية، وبين الأعمال المفضية إلى ذلك وحذر منها، وبشر بالثواب العاجل والآجل، وبين الأعمال الموصلة إليه، ورغب فيها. فهذا نفعه - صلى الله عليه وسلم - الذي نفع به البشرية، والذي فاق به نفع الآباء والأمهات، والأخلاء والإخوان، بما حث العباد على كل خير، وبما حذرهم من كل شر، وبينه لهم غاية البيان: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. والله تبارك وتعالى هو الواحد لا شريك له في ذاته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الخلق والأمر بيده وحده .. والعطاء والمنع بيده وحده .. والنفع والضر بيده وحده .. والشفاء والمرض بيده وحده. وكتابه القرآن فيه الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، ولكن ما كل أحد يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان ويقين، لم يقاومه الداء أبداً. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وبيان سببه، وكيفية الحمية منه كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا

هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]. فالقرآن شفاء لجميع المؤمنين، وإنما ينتفع به من آمن به وتلقاه بالقبول، واعتقد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أسقامها، بل لا يزيد الكفار والمنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم. فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، وإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله. فالقرآن شفاء لجميع الخلق لكن المؤمنين انتفعوا به، والكفار أعرضوا عنه فزادت أسقامهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. وإذا علمنا هذا فعلينا التوجه إلى الهادي الكافي الشافي الرازق في جميع حوائجنا، وتقديم الشكوى فقط للغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وقد تكفل سبحانه بإجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والمغفرة للمستغفرين. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (¬1). اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).

5 - فقه الحلال والحرام

5 - فقه الحلال والحرام قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. الله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض، وله خزائن السموات والأرض، أحل لنا ما فيه مصلحة، وحرم علينا ما فيه مضرة. والله عزَّ وجلَّ يغار، ومن غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرم أشياء، وأباح أشياء؛ لأن الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيد على جواريه، ولله المثل الأعلى. ويغار على عبيده أن تكون محبتهم لغيره، بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور، وفعل الفاحشة. ويغار على خلقه جميعاً أن يتركوا ما ينفعهم، ويأكلوا ما يضرهم، أو يفعلوا السيئ والقبيح من الفواحش والآثام، ويتركوا الحسن والجميل من الأقوال والأعمال والأخلاق. والله سبحانه خلق الإنسان وأكرمه وهيأ له ما يحتاجه من الطعام والشراب وأحل له أشياء، وحرم عليه أشياء، وأمره بأشياء، ونهاه عن أشياء، رحمة به وإحساناً إليه وحماية له. فأمره الله بعبادته وطاعته وكل ما يصلحه وينفعه، ونهاه عن الشرك به ومعصيته وكل ما يضره ويفسده. والمحرمات في الشرع قسمان: الأول: محرم لعينه كالنجاسات من الخبائث، والنجاسات من الدم والميتة

والخنزير ونحوها. الثاني: محرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب والمساكن والأموال ونحوها. وهذه إنما تحرم لسببين: أحدهما: أخذها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع فيها، كمن يأخذها بطريق السرقة أو الغصب أو الخيانة، وهذا هو الظلم المحض. الثاني: أخذها بغير إذن الشارع وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحوهما. ومن حصلت بيده هذه الأموال فعليه التوبة، وردها إلى أهلها، فإن لم يعلم صاحبها فإتلافها إضاعة لها وهو محرم، وحبسها مع أنه لا يرجى معرفة صاحبها أشد حرمة من إتلافها، فتعين إنفاقها في جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله للتخلص منها، ونفع خلق الله بها، وأجرها يعود لمالكها الحقيقي، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على طاعة الله وعبادته، فتصرف في سبيل الله بهذه النية. والله سبحانه وتعالى أحل للمؤمنين الأكل من الطيبات؛ ليستعينوا بها على طاعة الله، وحرم عليهم الخبائث؛ لئلا تضرهم. وأما الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئاً من الطيبات، وإنما هي حلال للمؤمنين بالله فقط كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32]. والكفار معتدون على الطيبات التي أحلها الله للمؤمنين، ومحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، ولم يشكروا الله عليها. والله عزَّ وجلَّ لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به على المعصية، فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات.

فالله عزَّ وجلَّ أباح للمؤمنين الطيبات؛ لأنهم ينتفعون بها، ويشكرون الله عليها كما أمرهم ربهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. والله عزَّ وجلَّ إذا حرم شيئاً حرم كل شيء يوصل إليه، ويستحيل على الحكيم العليم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع الحيل. وقد حرم الله على اليهود الشحوم فجملوها وباعوها حيلة، وحرم عليهم صيد السمك يوم السبت فحبسوه يوم السبت وأخذوه يوم الأحد حيلة فعاقبهم الله وجعلهم قردة خاسئين كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: 65]. وحرم الله على اليهود طيبات أحلت لهم عقوبة لهم على بغيهم وظلمهم وصدهم عن سبيل الله كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160، 161]. فهذا كله تحريم عقوبة على اليهود البغاة الظالمين. أما ما حرمه الله على هذه الأمة من الأشياء فهو صيانة لهم وحماية. فهو سبحانه أمر عباده بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً وإنعاماً عليهم؛ لأن صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأرواحهم بفعل ما أمروا به، فهو بمنزلة الغذاء الذي لا قوام للبدن إلا به بل أعظم، وليس مجرد تكليف وابتلاء كما يظنه كثير من الناس، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية عما يضرهم. فلم يأمرهم حاجة منه إليهم وهو الغني الحميد، ولا حرم عليهم ما حرم بخلاً منه عليهم وهو الجواد الكريم. وما حرمه الله عزَّ وجلَّ نوعان: الأول: محرم لذاته لا يباح بحال كالمذكور في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. الثاني: محرم تحريماً عارضاً، فيباح في حال دون حال كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر، فهذه محرمات أبداً، لكنها تباح للمضطر بقدر الحاجة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} [النحل: 115]. والمحرمات بالنسبة للإنسان قسمان: أحدها: محرمات تعافها النفوس كالميتة والدم والنجاسات، فهذه اكتفى الشرع بتحريمها دون عقوبة. الثاني: محرمات تشتهيها النفوس كالزنا والسرقة والخمر، وهذه جعل الله لها عقوبات مقدرة، تطهر من ارتكبها، وتزجر من همّ بها. والمحرمات لها أربع مراتب: فأدناها الفواحش .. وأشد منها تحريماً الإثم والظلم .. وأشد منهما تحريماً الشرك بالله سبحانه .. وأشد تحريماً من كل ما سبق القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. فالقول على الله بلا علم أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً عند الله، فهو يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وإحقاق ما أبطله، وإبطال ما أحقه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه. ووصف الله بما لا يليق به في ذاته وأسمائه وصفاته، وأقواله وأفعاله، فليس في جنس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول

على الله بلا علم. فلا يجوز لأحد أن يقول على الله بلا علم، ويكذب على الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (¬1). وإذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم، فإما أن يكون عالماً بالحق فيها .. أو غالباً على ظنه .. أو لا يعلم. فإن لم يكن عالماً بالحق فيها، ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله. وإن كان عالماً بالحق فيها أو غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]. والحلال ما أحله الله ورسوله من الأقوال والأعمال والأشياء، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأمر العباد ونهيهم عين حظهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ومصدر أمره ونهيه رحمته الواسعة، وبره وجوده، وإحسانه وإنعامه، فله الحمد والشكر على ما شرعه وأمر به. وليس لأحد من الخلق أن يحل أو يحرم من عند نفسه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. والله تبارك وتعالى هو الخالق لعباده، وهو الرازق لهم، والجهة التي تخلق ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).

وترزق هي التي تشرع فتحل وتحرم، وتأمر وتنهى. وقد أباح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم الله في الأرض حلالاً طيباً إلا ما شرع لهم حرمته لمضرته، وحذرهم من عدوهم الشيطان الذي غرَّ أباهم آدم فأوقعه فيما حرم الله فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]. وينادي الله المؤمنين بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع، وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام، ويذكرهم بما رزقهم، فهو وحده الرازق، الذي أحل لهم الطيبات التي تنفعهم وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. والله عزَّ وجلَّ مالك الملك، ومالك كل موجود؛ لأنه موجده، وقد استخلف الإنسان في هذه الأرض، ومكنه مما ادخره له فيها من أرزاق وأقوات، وقوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه الإنسان ما يشاء، كيف شاء. إنما استخلفه على أن يقوم بالخلافة وفق منهج من استخلفه، وحسب شريعته. فما وقع منه من عقود وأعمال، وعبادات ومعاملات، ومعاشرات وأخلاق، وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفاً للعقد فهو باطل موقوف. فإن أنفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله، ولا يقره المؤمنون بالله. فالخلق والأمر والحكم في الكون كله لله وحده، والناس كلهم ليس لهم أن يخرجوا عن منهج الله وشريعته؛ لأنهم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، ولهم حقوق وعليهم واجبات، وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق، ولا مدبرين بملك غيرهم إلا حسب أمره. ومن بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم كإخوة.

فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده، فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الأمة وهو قادر على العمل. وجعل سبحانه الزكاة فريضة في المال محددة، والصدقة تطوعاً غير محدد، وأمرهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، وأن يتجنبوا الإسراف والتبذير فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم، وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم. وشرط عليهم في تنمية أموالهم أن يلتزموا وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد كالربا والغش والغصب والاحتكار، وغير ذلك ما يضر بحياة المسلمين، ويسبب العداوة والحروب، ويسحق البشرية سحقاً، ويشقيها أفراداً وشعوباً لمصلحة حفنة من المرابين، ويحطمها أخلاقياً، ويحدث الخلل في دورة المال بين الناس. فالربا كله ظلم .. والغش ظلم .. والغصب ظلم .. والاحتكار ظلم، وقد لعن الله كل ظالم، وتوعده بالعذاب الأليم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» أخرجه مسلم (¬1). وإخراج المال له وجهان: الأول: وجه طيب سمح جميل طاهر، وهو إخراج المال زكاة، أو هدية أو صدقة، والصدقة: نزول عن المال بلا عوض، ولا رد، ابتغاء وجه الله. والهدية بذل المال لكسب الإخوان، وتأليف القلوب، وإكرام أهل الفضل. والزكاة حق معلوم من المال بقدر معلوم، لطائفة مخصوصة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1598).

الثاني: وجه كالح طالح محرم، وهو إخراجه من أجل الحصول على الربا. والربا: إخراج المال ثم استرداده، ومعه زيادة محرمة مقتطعة من جهد المدين أو لحمه. فالزكاة والصدقات مقابل للنظام الربوي الذي يمحق الأموال. فالأول أمر به الرحمن الرحيم، والثاني أمر به الشيطان الرجيم. ولما قام سوق الربا اختفى سوق الزكاة إلا ما شاء الله، وبهتت صورة الزكاة حتى ظنها بعض الناس إحساناً فردياً هزيلاً، فمن شاء أخرجها ومن شاء منعها، وحظ البشرية التي حرمت نفسها الدين أنها خسرت الدنيا والآخرة، وحرمت نفسها الطمأنينة والرضا، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، وحرموا من الخير الذي يبشر الله به عباده وأولياءه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} [البقرة: 277]. إن الذي يملك حق التحليل والتحريم في هذا الكون هو الذي خلقه، وهو الله وحده لا شريك له، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد، ولا طبقة، ولا أمة. وكل جهة أخرى تحلل أو تحرم شيئاً في حياة البشر فإنما تصدر أحكاماً باطلة بطلاناً أصلياً، فليس لأحد غير الله أن يحلل أو يحرم في طعام أو شراب أو نكاح، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في عقد، إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله. وكل ما يشرعه البشر للبشر بغير سلطان من الله فهو من حكم الجاهلية، وهو اعتداء على حق الله في خلقه، ومن ثم فهو باطل بطلاناً أصلياً فما أعظم جرم هؤلاء الذين يشرعون للناس من دون الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. وكل ما أحله الله عزَّ وجلَّ فهو الطيب، وكل ما حرمه فهو الخبيث، وليس

للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له لأمرين: أحدهما: أن التحليل والتحريم من خصائص الله الرازق، فمن اختار لنفسه غير ما اختار الله فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان. الثاني: أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات التي بها صلاحه وصلاح الحياة، فإن بصره بنفسه، وبصره بالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات، وليس هذا من الإيمان: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. فالإسلام دين العدل والرحمة والعمل، لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية، ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان تعمل عملاً نافعاً سوياً، ومن ثم حارب الرهبانية؛ لأنها كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة، وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء. كما نهى عن تحريم الطيبات كلها؛ لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها، وتحقيق مراد الله في الحياة. وزوال الكفر والكبائر، والفواحش والمنكرات يبدأ من العقيدة، من شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد طالت فترة إنشاء لا إله إلا الله في القلوب في العهد المكي حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً، وكانت غايتها تعريف الناس بإلههم الحق، وتعبيدهم له، وتطويعهم لأمره. حتى إذا خلصت نفوسهم لله، وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله، عندئذ بدأت التكاليف بما فيها الشعائر التعبدية. وبدأت كذلك عملية تنقية رواسب الجاهلية الأخلاقية والمالية والاجتماعية، بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال، بدأت الأوامر والنواهي بعد الاستسلام لله، بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء، بعد أن لم يعد يفكر

في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار. فلما انحلت العقدة الكبرى عقدة الكفر والشرك انحلت العقد كلها. ولما انتصر الإسلام على الجاهلية من أول يوم، وذلك بدخول الإيمان في القلوب، لم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي، ودخل الناس في السلم كافة بقلوبهم وأرواحهم وجوارحهم. والعمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية لله، على الطاعة لله، إظهاراً لكمال العبودية لله سبحانه، وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يلتمس حكمة الله بقدر ما يستطيع فيما أمر الله به أو نهى عنه. فإن عرف الحكمة فذلك من فضل الله، وإن لم يعرف فمقتضى العبودية الطاعة والانقياد والتسليم لله. والحلال كله طيب .. والحرام كله خبيث .. فلا يستويان أبداً: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة: 100]. وإذا كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض، وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها، بل أحسن منها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والاخرة. والعقل كلما تخلص من الهوى بمخالطة التقوى له، ومراقبة القلب له، يختار الطيب على الخبيث، فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة والله سبحانه جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأكرمها بأفضل الكتب والرسل والشرائع، وأعدها لحمل منهج الله في الأرض، لتستقيم عليه، وتقيم الناس عليه. وحينئذ تكون ربانية حقاً، وترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم. وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث، فترفض الخبيث مع كثرته، وتأخذ الحق ولو جفاه الناس.

فحين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابياً، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته، ثم ينظر المؤمن الذي ينظر ويزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه، ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له، ولا عدة حوله ولا عدد، إنما هو الحق المجرد إلا من صفته وذاته، وإلا من ثقله في ميزان الله. والتحليل والتحريم بغير شرع الله هو والشرك سواء، فهو شرك مثله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - إنهم ما عبدوهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي (¬1). فمن أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية واحدة، فإنما هو مشرك، خرج من الإسلام لله إلى الشرك بالله، ما دام أنه يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله كما قال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]. إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الإسلام أو الشرك .. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة .. بل إن شريعته هي عقيدته .. إذ هي الترجمة الواقعية لها: تظهر في العبادات التي بين العبد وربه .. وفي المعاملات التي بين العبد وغيره. فكل ما جاء به الإسلام فنحن مأمورون باتباعه وعدم الخروج عنه كما قال ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).

سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. والإيمان بالله يقتضي فعل جميع أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن عمل ببعض أوامره، وترك البعض الآخر، فما أجدره بالخزي في الدنيا، والعذاب الشديد على جرمه في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. ولا يفعل ذلك إلا من زهد في الدين فأخذ ما يروق له، وترك ما لا تحب نفسه، واشترى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86]. إنه لمن المؤسف حقاً أن كثيراً من المتحمسين لهذا الدين ضلوا الطريق، فجعلوا قضية الحكم بغير ما أنزل الله في شئون الحياة قضية منفصلة عن قضية العقيدة، لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة، ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة. وهذا الدين هو مجموعة أوامر الله التي أنزلها في كتابه، وأمر بها جميع عباده، فلا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة، إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة قروناً طويلة، حتى انتهت مسألة الحكم بغير ما أنزل الله إلى هذه الصورة الباهتة، وانفصلت أوامر الساحة والسوق عن أوامر المسجد، وظل الدين محبوساً في النفس وداخل المسجد، وحكم الطاغوت في بلاد المسلمين بغير ما أنزل الله، وتركهم يصلون صلاة لا روح فيها، لا تذكر بالله، ولا تزجر عن منكر. وهذا بلاء عظيم .. وشر مستطير .. ومنكر أكبر .. ألا وهو قيام الحياة على غير التوحيد. إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى

الطاغوت بالشرك، ويتحرجون من هذه، ولا يتحرجون من تلك، إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن كما أنزل، ولا يفقهون نصوصه، ولا يدركون كلياته، فليقرؤوا القرآن فهو مملوء بتقرير ذلك كما قال سبحانه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]. وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. وكثير من المتحمسين لهذا الدين يشغلون بالهم وبال الناس، ويصرفون أوقاتاً طويلة وجهوداً كثيرة لبيان أن هذا القانون الصادر من الطاغوت منطبق على شريعة الله أو غير منطبق، وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك، كأن الإسلام كله قائم لا ينقصه إلا زوال هذه المخالفات. هؤلاء وأمثالهم يؤذون الدين من حيث لا يشعرون، بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذا التصرف. إنهم يغرفون الطاقة الإيمانية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجزئية، وإن كانت مطلوبة من كل أحد، لكنهم يتركون الأهم والأولى وهو التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به. إنهم يؤدون بهذا شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية، بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه إلا أن تصحح هذه المخالفات، بينما الدين كله متوقف عن الوجود أصلاً، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع الحكم فيها لله وحده لا لغيره من العباد والطواغيت الذين جعلوا لأنفسهم حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد. إن الله تبارك وتعالى يقرر في كتابه، بل غالباً في كل آية، أن الله وحده له الخلق والأمر، وله الحكم وحده لا شريك له، وأنه الذي يستحق الطاعة والعبادة وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ

الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس المسلمين في مكة، واطمأنت لها قلوبهم، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة بنزول أحكام العبادات والمعاملات، فهم داخل المسجد وخارج المسجد يمتثلون كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين الناس، وقدموا أوامر الله على كل ما سواه فرضي الله عنهم ورضوا عنه، وفازوا بدار كرامته: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. إن كل تصرف في الحياة بما لم يأذن به الله فهو شرك، وفاعله مشرك أشرك مع الله غيره في طاعته، كما أشرك عابد الوثن مع الله غيره في عبادته، هذا شرك في الطاعة، وهذا شرك في العبادة، والشرك كله وألوانه وأشكاله وأهله في النار كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. إن الخالق المالك الرازق هو الله وحده لا شريك له، وهو الحقيق بأن تكون له الربوبية والألوهية والعبودية بلا جدال، وأن يفرد سبحانه بتحكيم شرعه فيما خلق، وفيما رزق، وفيما أعطى، وفي كل شئون الحياة. فالله وحده هو الذي له الحكم، إذا حرم الشيء فهو حرام، وإذا أحله فهو حلال، وإذا أمر فيجب أن يطاع أمره، وإذا نهى فيجب الكف عما نهى عنه. وهو سبحانه وحده المشرع للناس، كما أنه وحده المشرع للكون: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35]. إن كفر مزاولة التشريع بالتحليل والتحريم ككفر الاعتقاد وإشراك أحد مع الله في العبادة كلاهما شرك، هذا شرك في العبادة، وذاك شرك في التشريع، وكلاهما

من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. فكل من شرع للناس ما لم يأذن به الله من الشرك والبدع، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله ونحو ذلك فهو مشرك، ومن أطاعه واتبعه فهو مشرك: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وقد أقام الله سبحانه الخلق بين الأمر والنهي .. والعطاء والمنع، فافترقوا فرقتين: فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه. وفرقة قالوا: إنما نحن عبيدك إن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا كففنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك. فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا ماتوا صاروا إلى النعيم المقيم. كما أنه ليس بين أولئك وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فلينظر الإنسان مع أي الفريقين هو؟ وإلى أي الدارين يسير؟. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20]. ومن ذات الله تبارك وتعالى تنزل في كل لحظة مليارات الأوامر الكونية التي لا يحصيها إلا الله على كافة المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي: أوامر بالإيجاد .. وأوامر بالبقاء .. وأوامر بالنفع والضر .. والحياة والموت .. والتحريك والتسكين .. والتصريف والتدبير. فسبحان العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء: {وَهُوَ

الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف: 84]. ومنه تبارك وتعالى تنزل الأوامر الشرعية على الناس بواسطة الرسل، فإذا تطابقت أفعال الناس مع أوامر الله الشرعية سعدوا في الدنيا والآخرة، وإذا عصى الناس أوامر الله الشرعية شقوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)} [طه: 123 - 125]. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته الحلال والحرام من الأقوال والأعمال والأشياء، فأحل لهم الطيبات وكل ما فيه منفعة، وحرم عليهم الخبائث وكل ما فيه مضرة. والمغالبات في الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: محبوب مرضي لله ورسوله، معين على تحصيل محاب الله، وذلك مثل السباق بالخيل والإبل، والرمي بالسهام ونحوهما مما فيه إعانة على الجهاد فهذا يشرع فيه بذل الرهن، وأكل المال به أكل بحق. الثاني: مبغوض مسخوط لله ورسوله، موصل إلى ما يكرهه الله ورسوله كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج ونحوهما. فهذا محرم وحده ومع الرهان، إذ مفسدته راجحة على مصلحته، وأكل المال به ميسر وقمار، وذلك رجس من عمل الشيطان، أمر الله باجتنابها وأخبر أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتهدد من لم ينته عنها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]. ومن لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، والشطرنج أشد تحريماً من النرد؛ لأنه أشد شغلاً للقلب، وصداً عن ذكر الله وعن الصلاة. فهذه المغالبات وأمثالها محرمة؛ لأنها تلهي بلا منفعة، وتصد عن ذكر الله وعن

الصلاة، لشدة التهاء النفوس بها، وإيقاعها للعداوة والبغضاء كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان: العداوة والبغضاء .. والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. الثالث: ما ليس بمحبوب لله ولا مسخوط له، بل هو مباح لعدم المضرة الراجحة كالسباق على الأقدام، والسباحة، والمصارعة، ورفع الأثقال ونحو ذلك، وهذا يكون بالنية الصالحة عملاً صالحاً. فهذا القسم رخص فيه الشارع بلا عوض؛ لما فيه من المصلحة الراجحة، ولما فيه من إجمام واستراحة للنفس، واقتضت حكمة الشارع تحريم العوض فيه؛ لئلا تتخذه النفوس صناعة ومكسباً، وتلتهي به عن مصالح دينها ودنياها. وأصول هذه المغالبات كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها يصد عن ما يحبه الله ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله.

6 - فقه السنن والبدع

6 - فقه السنن والبدع قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (¬1). السنة: هي ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بقوله أو فعله أو تقريره أو صفته. والبدعة: نقيض السنة، مشتقة من ابتدع الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق، وهي كل ما لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من معتقد أو قول أو فعل. وجميع العبادات لا تكون مقبولة ولا تصح إلا بثلاثة شروط: الأول: أن تكون مشروعة بالوحي الإلهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه (¬2). الثاني: أن تكون خالصة لله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. الثالث: المتابعة، وتحصل المتابعة بتحقيق ستة أمور: الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحيا ليلة المعراج، أو ليلة النصف من شعبان، معتقداً مشروعية ذلك فهو بدعة. الثاني: الجنس: فالأضحية مشروعة، لكن لو ضحى بفرس فهذا الجنس لا يجوز. الثالث: القدر: فلو زاد ركعة خامسة في صلاة العصر لم يقبل منه. الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع. الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1718). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).

السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح. والبدع ثلاثة أنواع: بدع اعتقادية .. وبدع قولية .. وبدع فعلية. فالبدع الاعتقادية: كاعتقاد أن الأولياء والأبدال يدبرون العالم، واعتقاد أن أرواح الأولياء على أفنية القبور تشفع لمن زارهم، وتقضي حاجته، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وأن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ أحياءً وأمواتاً، وغير ذلك مما يقوله أهل الباطل ويعتقدونه. والبدع القولية: كسؤال الله تعالى بجاه فلان، أو بحق فلان، والاستغاثة بالأولياء، ودعائهم، وسؤالهم الشفاء، والأذكار المخالفة، والأذكار الجماعية ونحوها. والبدع الفعلية: وهي قسمان: بدع عملية في العبادات .. وبدع عملية في المعاملات. فالبدع العملية في العبادات أنواع: أحدها: ما يكون في أصل العبادة، بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع أو أعياداً غير مشروعة ونحو ذلك. الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة كمن زاد ركعة رابعة في صلاة المغرب مثلاً، أو زاد على الأذان المشروع، أو زاد على الوضوء المشروع، أو زاد في الصيام المشروع ونحو ذلك. الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، أو الإسراع في الصلاة ونحو ذلك. الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع كتخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام، ويومها بالصيام، أو تخصيص ليلة المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج بصلاة وأذكار ونحو ذلك.

والبدع العملية في المعاملات كسجن الزاني بدل إقامة الحد عليه، وسجن السارق بدل إقامة الحد عليه، وسجن القاتل بدل إقامة الحد عليه ونحو ذلك. فهذا كله مردود على من عمله، وغير مقبول منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (¬1). وكل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، ومردودة على من أحدثها، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. والبدع لها أحكام: فمنها ما هو كفر صراح كالطواف بالقبور، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات. ومنها ما هو من وسائل الشرك كالبناء على القبور، ودعاء الله عندها، والصلاة عندها ونحو ذلك. ومنها ما هو معصية لله كبدعة التبتل والاختصار بقصد قطع شهوة الجماع، والصيام قائماً في الشمس ونحو ذلك. والمصلحة: هي ما جلبت خيراً أو دفعت شراً، ولم يوجد في الشريعة ما يدل على ثبوتها أو نفيها. والشريعة قائمة على أساس جلب المنافع ودفع المفاسد، فما حقق للمسلم خيراً، أو دفع عنه شراً جاز للمسلم استعماله والانتفاع به بشرط ألا يكون الشرع قد ألغاه. فليس للمرأة أن تزني لما يحصل لها من المنفعة المادية؛ لأن هذه الوسيلة كالمنفعة المتوسل إليها قد ألغاها الشارع وأبطلها، لمنافاتها مقاصد الشرع. والمصالح المرسلة تكون في ثلاثة أشياء: في الضروريات .. والحاجيات .. والتحسينات. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1718).

فالضروريات: كجمع المصحف وكتابته في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، فليس هذا من باب البدعة الحسنة، وإنما هو من باب المصالح المرسلة، لحفظ القرآن من الضياع. فهذا العمل مصلحة ظاهرة، لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء. والحاجيات والتحسينات: كالحاجة إلى اتخاذ المحاريب في القبلة في المساجد، وزيادة عثمان الأذان الثاني للجمعة، تذكيراً للناس بقرب الوقت، وتحقق مصلحة حضور الناس، ولم يشهد الشرع لهما باعتبار ولا إلغاء. فالأولى من قبيل الحاجة .. والثانية من قبيل التحسينات والكمالات، ومثلها اتخاذ المنارات ومكبرات الصوت لسماع الخطبة والأذان والتكبير والقراءة. فهذه كلها من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء. والمصالح المرسلة لا تراد لذاتها، وإنما تراد لحفظ واجب أو أدائه، أو درء مفسدة أو جلب منفعة. أما البدع المحدثة فهي تراد لذاتها، وهي تشريع يضاهى به شرع الله مقصود لذاته، لا وسيلة إلى غيره من جلب منفعة أو دفع مفسدة. والتشريع المقصود بذاته من حق الله تعالى وحده، وغير الله لا يقدر على وضع عبادة تؤثر في النفس البشرية بالتطهير والتزكية، والإنسان ليس أهلاً لذلك أبداً. وأسباب ظهور البدع في الأمة أمور: الأول: الجهل بأحكام الدين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُْمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬1). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4607)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3851). وأخرجه الترمذي برقم (2676)، صحيح سنن الترمذي رقم (2157).

الثاني: اتباع الهوى كما قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. الثالث: التشبه بالكفار كما قال بنو إسرائيل لموسى: {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138]. الرابع: التعصب للآراء والأقوام كما قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. وقد خلق الله الخلق لعبادته وحده لا شريك له بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومن أطاعه من الإنس والجن، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب من اليهود والنصارى كما قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21]. فذنوب المشركين نوعان: أحدها: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك والبدع والمعاصي. والثاني: نهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات. فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله، والثاني تحريم لما لم يحرمه. فابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة. وابتداع التحريمات الباطل هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة. فإخلاص الدين لله أصل العدل .. والشرك بالله أصل الظلم وأعظمه. وقد فطر الله عباده على التوحيد، فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحل

الله، وأمرتهم بالشرك بالله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (¬1). والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً أو مستحباً إلا بدليل شرعي يقتضي وجوبه أو استحبابه، وكل ما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة. وليس لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشرع أو يسن، وما سنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فإنما سنوه بأمره - صلى الله عليه وسلم - فهو من سنته. فلا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ولا حراماً إلا ما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ولا مستحباً إلا ما استحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ولا مكروهاً إلا ما كرهه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ولا مباحاً إلا ما أباحه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وكل ما سوى ذلك لا يكون سنة ولا قربة ولا طاعة. والله عزَّ وجلَّ يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وقدرته وعظمته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقين لا نقسم إلا بالله عزَّ وجلَّ، وليس لنا أن نقسم بشيء من المخلوقات، ولا نسأله بها؛ لأن ذلك يلزم منه سؤاله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر والمسيح والعزير، ومعلوم أن سؤال الله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في الإسلام. فالبدعة: هي الزيادة في الدين بعد كماله، وهي ما فعل الإنسان على سبيل القربة بما لم يكن له أصل في الشرع كالاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865).

الإسراء والمعراج .. والاحتفال بالنعم .. والاحتفال بعيد الميلاد، ونحو ذلك مما لم يكن له أصل في الشرع. ومن طبيعة البدعة التمدد والتفجر والانتشار، ثم تنتقل من شخص إلى شخص .. ومن بلد إلى بلد آخر على سبيل العدوى والتقليد. تبدأ بالأفراد على سبيل الاستحسان .. ثم تنتقل إلى الجماعات .. ثم تقود إلى ما هو شر منها. وأكثر من يشيدها وينشرها وينشطها هم العلماء القاصرة أفهامهم، والناقصة عقولهم وعلومهم، والقليل ورعهم، مما يجعل العامة يغترون بهم، وينبعثون على أثرهم. وباستمرار فعلهم يستقر في نفوس العامة فضلها أو فرضها حتى تصبح ديناً. والبدع بريد الشرك، وأول ما دخل الشرك على الناس هو بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثاناً يعبدونها من دون الله. وليس في الدين بدعة حسنة، بل البدع كلها سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. والبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا في العبادات، وحسن المقاصد لا يبيح فعل البدع، وما أحدث قوم بدعة إلا رفع مكانها سنة. وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي أول من ابتدعها هم الفاطميون في مصر لما رأوا النصارى يعظمون المسيح، ويجعلون لهم عيداً يعطلون فيه المتاجر والأعمال، أخذوا يقتدون بهم في تعظيم المولد النبوي، ثم اشتهر وانتشر في البلدان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى. وقد نشأ عن هذه البدعة ما هو شر منها من الغلو والإطراء، والنياحة والبكاء، والقيام والقعود، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، واختلاط الرجال بالنساء، وتقبيل الغلمان والمردان. وقد قام سببه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعله، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم،

ولو كان الاحتفال محموداً أو مسنوناً لكان الاحتفال ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزول الوحي بنبوته وبعثته أعلى وأجل، وأعظم وأفضل من مقام ولادته، فالله امتنَّ على المؤمنين بنبوته وبعثته، لا بمجرد ولادته فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - كراهيته الغلو والإطراء بقوله: «لا تُطْرُونِي، كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» أخرجه البخاري (¬1). فلا يحل لأحد أن يحتفل بمولده - صلى الله عليه وسلم - ولا ببعثته ولا بهجرته؛ لأن كل ذلك لم يرد عنه، ولا عن أصحابه أنهم فعلوه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. ومنشأ البدع كلها، وسبب انتشارها، أن البدع لو كانت باطلاً محضاً لما قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقاً محضاً لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة. ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل، فيغتر بها العامة، وينخدع بها الجهال؛ لأنهم يتأثرون بما فيها من الحق، ويغفلون عن كونها محدثة، وعن الضلال الذي تسببه، فكل مؤمن مثلاً يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوقره، لكن الاحتفال بذلك في يوم خاص، والغلو في الإطراء والمدح له مذموم نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - كما سبق. والذين عملوا على نشر البدع فريقان: الأول: فرقة روجت للبدع من غير علم، غلب عليهم الصلاح، ولم يعتنوا بدراسة الأحاديث والسنن، وغفلوا عن أصول العبادات، فاخترعوا رسوماً ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3445).

وهيئات ما أنزل الله بها من سلطان، وجعلوها ديناً يعملون به، ويدعون الناس إليه، وهذا اعتداء على حق الله في التشريع، وإدخال ما ليس من الدين فيه، وانتقاص لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي بيَّن كل شيء، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وفيها إضلال للعباد وظلم لها، بأمرهم بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} ... [الأنعام: 144]. الثاني: فرقة انطوت على الحقد على الإسلام وأهله، فأرادوا عن قصد خبيث ضرب هذا الدين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8]. فعمدوا إلى الابتداع في الدين، فكذبوا على الله ورسوله في القواعد والأصول، وفي العبادات والمعاملات، ومع كثرة الجهل، وموت العلماء، وتقصير الدعاة، والإعراض عن طلب العلم، والانشغال بالدنيا، اندرست معالم السنن في كثير من البلاد، وصارت السنة بدعة، والبدعة سنة، وعاد الإسلام في بعض البلاد غريباً كما بدأ. فأقام الله عزَّ وجلَّ الطائفة المنصورة تنطق بالحق، وتدفع الباطل، وتنشر السنن، وتطهر البلاد من المعاصي والمنكرات والبدع. فكم هدى الله بهم من ضال؟ .. وكم علم بهم من جاهل؟ .. وكم رد بهم من تائه؟ .. وكم تاب على عاصٍ؟ .. وكم أنقذ بهم من هالك؟. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» متفق عليه (¬1). وكل من دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه؛ لأن اتباعهم له تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم الأول القاتل لأخيه كفل من ذنب كل ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، ومسلم برقم (1037) واللفظ له.

قاتل إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24، 25]. والتوبة من هذه الذنوب المتولدة بالندم عليها، والاستغفار منها، وعدم إجابة دواعيها، وحبس النفس عن ذلك. فإن كان المتولد متعلقاً بالغير، فتوبته مع ذلك برفعه عن الغير بحسب الإمكان، ولهذا كان من تمام توبة الداعي إلى البدعة أن يبين أن ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى في ضده، وأن يصلح العمل في نفسه، وأن يبين للناس ما أخفاه عنهم ليضلهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160]. وقد أكمل الله عزَّ وجل لهذه الأمة دينها، وتركها رسولها على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ودلها على كل خير، وحذرها من كل شر. وبناء على ذلك فكل بدعة في الدين مردودة لأمور: أحدها: أن العقل الإنساني لا يستقل بمعرفة الحسن والقبح .. وما ينفع وما يضر .. ؛ لقصور فهمه من جهة .. وعدم قدرته من جهة .. ولما ينازعه من هوى وشهوات من جهة أخرى. ومن هنا كان لا بدَّ من الوحي الإلهي، المنزه عن القصور والغفلة، والجهل والنسيان، فالعقل بمنزلة العين المبصرة، إن كان هناك ضوء أو نور أبصرت الأشياء بحسب قوتها أو ضعفها. وكذلك العقل إن كان هناك وحي إلهي من كتاب أو سنة أدرك الأشياء على حقيقتها، وعرف مضارها ومنافعها. الثاني: أن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهذه الأمة المسلمة دينها، ولم يحوجها

إلى طلب زيادة فيه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. الثالث: أن الله تعالى وضع سنناً لا تتبدل، وهي منفعلة لكل أحد، فالطعام يشبع بإذن الله، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وهذه لا تختلف نتائجها التي وضعت من أجلها. وكذلك ما شرعه الله من عبادات قلبية أو قولية أو فعلية، إذا أداها المؤمن على الوجه المطلوب لأدائها، فإنها لا تختلف نتائجها من تزكية النفس، وتهذيب الخلق، وإصلاح الروح، بخلاف القوانين والبدع التي يضعها الإنسان. فالقوانين التي وضعها الإنسان لحفظ الأنفس والأموال والأعراض لم تحقق شيئاً يذكر، فالدماء مسفوكة، والأعراض منتهكة، والأموال مسروقة، والأنساب مختلطة. والبدع الدينية ما زادت أصحابها إلا خبثاً في أرواحهم، وظلمة في نفوسهم، وفساداً في أخلاقهم. ولا فرق بين المبتدع الذي يضع للمؤمنين أنواعاً من الطاعات، ويدعوهم إلى العمل بها لتزكو نفوسهم بها وتطهر، ويرضى عنهم ربهم ويقربهم كما يزعم، وبين المبتدع الذي يسمى الآن بالمشرع القانوني الذي يضع للناس قوانين تحفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وتنشر الرحمة، وتشيع الإخاء والمودة بينهم. فمثلاً يشرع السجن المؤبد بدل القتل .. والسجن المؤقت للزاني بدل الحد .. والسجن للسارق بدل القطع، ونحو ذلك. لا فرق بين المبتدع الذي يشرع للروح ما يزكيها ويطهرها بزعمه، وبين من شرع للجسم ما يحفظ به نامياً صالحاً، يؤدي وظائفه على الوجه المطلوب. الكل مبتدع، أدخل في دين الله ما ليس منه، وتكلف ما ليس له بحق، منازع لله في حق التشريع الذي هو من الرب وحده، إذ لا يعرف ما يصلح المخلوق إلا

خالقه. فالذي خلق مخلوقاً هو الذي يشرع له من العبادات ما يزكي به روحه، ومن السنن والحدود ما يربي به جسده، وليس ذلك إلا لله وحده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102]. وكل عمل بغير إخلاص ولا اقتداء غير مقبول، بل يضر صاحبه ولا ينفعه كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. والمراد من العبودية لله عزَّ وجلَّ تفريغ القلب من المحبوب المزاحم الدخيل الطارئ، ليبقى القلب عل الفطرة، وهي محبة الله بلا مشارك. فما أسعد من أشرق في قلبه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة أحكامها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات، وتعبد بذلك لربه.

7 - فقه العبادات

7 - فقه العبادات قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وقال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61]. حاجة العباد إلى الله أعظم من حاجة الجسد للطعام والشراب، ذلك أن الإيمان بالله وعبادته ومحبته هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه. فليست عبادة الله تكليفاً ومشقة لأجل الابتلاء فقط، أو لأجل التعويض بالأجرة، فليس ذلك المقصد الأول بالأوامر الشرعية، وإنما يقع ذلك إن وجد ضمناً، وإنما المقصود الأول بالعبادات إرادة وجه الله عزَّ وجلَّ، والتوجه إليه، والإنابة إليه وحده؛ لأنه الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب وحده. فأوامر الله عزَّ وجلَّ فيها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذة الأرواح، وكمال النعيم. فكل حي وكل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو فقير محتاج إلى الله في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، فيجب أن يكون الله مقصوده، فيعبده محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً. والله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم. أعطاهم في الدنيا أعظم شيء وهو معرفته والإيمان به، ويعطيهم في الآخرة أعظم شيء وهو النظر إليه عزَّ وجلَّ. وليس في الكائنات كلها ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله وحده، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة ولذة وسرور في الدنيا

فهو مفسدة لصاحبه، فضلاً عن أنه لا يدوم. وكل من أحب غير الله عذب به ولو اجتمع فيه الكمال والجمال. فكل مخلوق ليس بيده شيء، وليس عنده لنفسه ولا لغيره نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان. بل ذلك كله بيد الله الذي خلقه ورزقه وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فلا يليق بالإنسان أن يتوجه إلى غيره، بل يجب عليه أن يتوكل على الله الذي بيده كل شيء، ويستعين به، ويحبه ويعبده وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 65، 66]. وتعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، وإن أحب غير الله حباً تاماً فلا بدَّ أن يسأمه أو يفارقه، ومن أحب شيئاً لغير الله فلا بدَّ أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه في الدنيا والآخرة، والضرر حاصل له إن وجد أو إن فقد، فإن وجد حصل له من الألم أكثر من اللذة، وإن فقد تعذب بالفراق وتألم. وصلاح العبد في عبادة ربه والاستعانة به، ومضرته وهلاكه في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه. فكل من توكل على غير الله خاب، وخذل من جهته، وكل من استنصر بغير الله خذل: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]. والله تبارك وتعالى غني حميد، يحسن إلى عباده مع غناه عنهم، يريد بهم الخير، ويحسن إليهم، ويكشف الضر عنهم، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً. والعباد لا ينفعون إلا لحظوظهم، وكل عبد لا يقصد منفعتك دون نفسه، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان في هذا ضرر عليك. والرب عزَّ وجلَّ يريدك لك ولمنفعتك بك لا ينتفع بك، فلا ترجو المخلوق أو

تطلب منه منفعة لك، وتدعو وتسأل من ضره أقرب من نفعه، وليس له من الأمر شيء كمن: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} ... [الحج: 12، 13]. لكن أَحْسِن إلى الناس لله لا لرجائهم، وكما لا تخافهم فلا ترجوهم، وارجُ الله ولا ترجُ الناس. والخلق كلهم لو اجتهدوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، ولن ينفعوك أو يضروك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك. ولو أصابتك مضرة كالخوف والجوع والمرض لم يقدر جميع الخلق على دفعها إلا بإذن الله، وهم لا يدفعونها إلا لغرض لهم في ذلك. والإنسان كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه، وأعزَّ له، وأعظم لقدره، وأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله عزَّ وجلَّ. والرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، وأعظم ما يكون العبد قدراً عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه. فإن أحسن إليهم مع الاستغناء عنهم كان أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتاج إليهم ولو في شربة ماء نقص قدره عندهم بقدر حاجته إليهم. وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً. والعابد حقاً من جمع بين أمرين: الأمر الشرعي .. والأمر الكوني. وعلى هذين الأمرين مدار الدين. فإن العبد إذا شهد عبوديته لربه، ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته.

بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه، وينظر بالأخرى إلى أمر سيده ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه. والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه، وفائدتها وثمرتها تعود إليهم: فمن عبد الله وحده بما شرع فهو مؤمن، وثوابه الجنة، ورضوان الله. ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، وجزاؤه النار، وسخط الله عليه. ومن أبى أن يعبد الله، أو عبد غير الله فهو كافر مستكبر جزاؤه جهنم خالداً فيها، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. فلا بدَّ في العبادة من أصلين: إخلاص الدين لله .. وموافقة أمره الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وعبادة الله عزَّ وجلَّ مبنية على أصول عظيمة: أحدها: أن يشرعها الله عزَّ وجلّ كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. الثاني: أن تكون العبادة خالصة لله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. الثالث: أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفعل ما أمر به، ونجتنب ما نهى عنه كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]. الرابع: أن تكون العبادة قائمة على محبة الله وتعظيمه والذل له، وخوفه ورجائه وحده دون سواه كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].

الخامس: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز مخالفتها ومجاوزتها كما قال الله في الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]. وقال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. السادس: أن يقوم بالعبادة من البلوغ إلى الوفاة كما قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]. السابع: أن يقوم بالعبادات حسب استطاعته كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» متفق عليه (¬1). والإنسان عبد فقير إلى الله من جميع الوجوه: من جهة خلقه .. ومن جهة رزقه .. ومن جهة بقائه .. ومن جهة عبادته له .. ومن جهة استعانته به .. ومن جهة هدايته له. والعبادة لها معنيان: أحدهما: بمعنى الطاعة والاستسلام، ويشمل ذلك كل ما في الكون كما قال سبحانه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. الثاني: بمعنى العابد طوعاً، وهو المؤمن الذي يعبد الله، ويستعين به. وهذه العبودية قد يخلو منها الإنسان تارة، وأما الأولى فهي وصف لازم له، إذا أريد بها جريان القدر عليه، وتصريف الخالق له، والاستسلام له. والذل لازم لكل عبد، وإن كان أحياناً يعرض عن ربه ويستكبر، إلا أنه عند ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337) واللفظ له.

الاضطرار لا بدَّ من الخضوع له، والاستسلام لأمره. لكن المؤمن يسلم له طوعاً فيحبه ويطيع أمره، والكافر إنما يخضع لله عند رغبة أو رهبة، فإذا زال ذلك عنه أعرض عنه كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} [الإسراء: 67]. والأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب كغيرها من الأسباب، فالأعمال الصالحة كلها من توفيق الله ومَنِّه وفضله، وصدقته على عبده، فقد وفقه الله لها، وأقدره عليها، وأعانه عليها، وحببها إليه، وزينها في قلبه، وكره إليه أضدادها كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]. ومع هذا فالأعمال ليست ثمناً لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره سبحانه، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكراً لله على بعض نعمه عليه. فلو طالبه ربه بحقه لبقي عليه من الشكر على ما يعلمه وما لا يعلمه ما لم يخطر بباله. والعبد له في المأمور ثلاثة أحوال: الأول: حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال، والاستعانة بالله على ذلك. الثاني: حال أثناء الفعل، وهو أن يؤديه أداءً حسناً كما جاء في السنة يبتغي به وجه الله عزَّ وجلَّ. الثالث: حال بعد الفعل، وهو الاستغفار من التقصير، وشكر الله على ما أنعم به من الخير. والناس في العبادة والاستعانة أربعة أصناف: الأول: أهل العبادة لله والاستعانة به، وهؤلاء خيار الناس وأفضلهم، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، فإن أنفع الدعاء طلب العون على

مرضاة الله كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فإن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، وهؤلاء شر الناس. الثالث: من لهم نوع عبادة بلا استعانة. الرابع: من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه الله ويرضاه، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته فقضيت له ولكن لا عاقبة له. فهذه لا تستلزم الإسلام فضلاً عن الولاية والقرب من الله. فالأموال يعطيها الله المؤمن والكافر .. والبر والفاجر .. فلا تدل على محبة الله للعبد. والله سبحانه يسأله من في السموات والأرض .. يسأله أولياؤه وأعداؤه .. ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس سأله حاجة وهي طلب الإنظار إلى يوم البعث فأعطاه الله إياها، ولكن لما لم تكن عوناً له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته، وهكذا بنو آدم. وإجابة الله لسائليه ليست لكرامة كل سائل، بل يسأله العبد الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ويكون منعه لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة لا بخلاً. يفعل الله هذا بمن يحب فيظن بجهله أن الله لا يحبه، فعطاؤه ومنعه ابتلاءً واختباراً، أيشكرني إذا أعطيته فأعطيه فوق ذلك؟، أم يكفرني فأسلبه إياه؟. وإذا ضيقت عليه أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق؟، أم يتسخط فيكون حظه السخط؟. والله سبحانه إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا .. وعلى هذا .. وهو الغني الحميد.

وحب الله ورسوله وطاعة الله ورسوله لا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما. فكل من قدم طاعة أحد على طاعة الله ورسوله .. أو قدم قول أحد على قول الله ورسوله .. أو قدم مرضاة أحد على مرضاة الله ورسوله .. أو قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله .. فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. والعبودية تقوم على أصلين عظيمين: كمال الحب لله .. وكمال التعظيم لله والذل له. وذل العبودية له أربع مراتب: الأولى: ذل الفقر والحاجة إلى الله، ويدخل في هذه جميع الخلق، فجميع أهل السموات والأرض محتاجون إلى الله فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم. الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته، وهو سر العبودية. الثالثة: ذل المحبة، فالمحب ذليل لمحبوبه، وعلى قدر جماله وجلاله وكماله وإحسانه تكون محبته، وعلى قدر محبته له يكون ذله له. الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا وقع العبد في الجناية والمعصية أوجب له ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي ربه. فإذا اجتمعت هذه الأربع كان الذل لله والخضوع له أتم وأكمل، فيذل له خوفاً وخشية، ومحبة وإنابة، وطاعة وعبودية، وفقراً وفاقة .. وهذا لب العبودية وسرها. وحصولها للعبد أنفع شيء له، وأحب شيء إلى الله. والعبادات الواردة في الشرع أربعة أقسام: الأول: ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك، لكن اختلفوا في الأفضل كالدعاء في آخر التشهد، وأدعية الاستفتاح في الصلاة، فهذه ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها سائغة.

الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلاً من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه، لكن تنازعوا في الأفضل، وفيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله كالقنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها من المسائل. الثالث: ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن فيه الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه أو تأول الحديث. والصواب أن ما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مسنون لا ينهى عن شيء منه كأنواع التشهدات في الصلاة، وألفاظ الأذان والإقامة، وأنواع صلاة الخوف، والصوم والفطر في السفر. الرابع: ما تنازع فيه العلماء، فأوجبه أحدهم أو استحبه، وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين. فهذا أشكل الأقسام كالنزاع في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وتحية المسجد في أوقات النهي ونحوهما. والصواب عدم قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر، وأداء تحية المسجد وإن كان وقت نهي لثبوت الأدلة على ذلك. ودين الإسلام يقوم على خمسة أركان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه (¬1). وإذا كان الإسلام لا يقوم بلا أركان، فإن الإسلام وأركانه الأربعة لا يقوم بلا شهادتين، بل لا يكون موجوداً أصلاً. فالشهادتان بالنسبة للإسلام كله كالروح بالنسبة للجسد، فكما أن كل ذرة من ذرات الجسد لا تكون بها حياة إلا بالروح فكذلك (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) هي حياة كل جزء من أجزاء الإسلام. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (8) واللفظ له، ومسلم برقم (16).

فأي عمل يعمله الإنسان من الإسلام لا يكون نابعاً من هذا الأصل يعتبر ميتاً، وهو في ميزان الله معدوم، ولذلك فإن الكافرين لا قيمة لأعمالهم عند الله ولو كانت صالحة؛ لأنها ميتة لا روح فيها كما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]. وكذلك المسلم إذا عمل عملاً صالحاً ولم يكن في عمله روح الشهادتين فإنه يكون غير مقبول لفقده الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. وهاتان الشهادتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فشهادة أن لا إله إلا الله تتمها شهادة أن محمداً رسول الله. فإذا قال المسلم (لا إله إلا الله) فإنه يعتقد جازماً أنه لا معبود بحق إلا الله .. ولا مطمأن إليه، ولا مستجار به إلا الله .. ولا محبوب ولا معبود بحق إلا الله .. ولا ملك ولا مطاع إلا الله .. ولا معظم ولا معتصم به إلا الله .. ولا سيد ولا حاكم ولا خالق إلا الله. فالإيمان به واجب .. والتوكل عليه واجب .. ومحبته واجبة .. والاستجارة بغيره باطلة .. ومحبته فريضة .. ومعاني العبودية وأنواع العبادة لا تقدم إلا له .. وهو مالكي وحده فلا أطيع غيره إلا بإذنه .. وهو المستحق للتعظيم فبه أعتصم .. وهو الذي له حق السيادة المطلقة على البشر. فهو صاحب الحق في الأمر والنهي، وهو صاحب الحق في التحليل والتحريم، وهو صاحب الحق في التشريع. وشهادة أن لا إله إلا الله لا تنجي صاحبها من الكفر والإثم إلا إذا شهد أنه لا إله إلا الله بالعقل والقلب .. وشهد على هذا بلسانه .. وأن تكون شهادته جازمة لا شك فيها. ولا يقوم الإنسان بلوازم لا إله إلا الله إلا إذا عرف رسوله، وتعرف بواسطة رسوله على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليحقق مراد الله منه، باتباع ما جاء به

رسوله - صلى الله عليه وسلم -. لذلك كانت معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعدل معرفة الله سبحانه، إذ لا يقوم أحد بحق الله إلا إذا عرف رسوله الذي أرسل بدينه، وفوز الإنسان وفلاحه مرهون بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. والإيمان بالرسول يقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. ولذلك كان شعار الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا تغني واحدة منهما عن الأخرى. وقد أمر الله كل مسلم بعد إقراره بالشهادتين أن يقيد حياته بأربعة أشياء: الصلاة .. والزكاة .. والصيام .. والحج. وهذه هي أركان الإسلام مع الشهادتين، وهي تتعلق: بنفس الإنسان .. ومال الإنسان .. وشهوة الإنسان .. وطبيعة الإنسان. وفي كل منها تمرين لتنفيذ أوامر الله على نفس الإنسان، وماله، وشهوته، وطبيعته حسب ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. فلا يقضي الإنسان حياته حسب هوى نفسه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يتصرف في ماله حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي شهوته حسب هواه، بل حسب أمر الله ورسوله، ولا يقضي حياته حسب طبيعته ومزاجه كالحيوان، بل حسب أمر الله ورسوله .. وهكذا. والمطلوب من المسلم أن ينفذ أوامر الله ورسوله في جميع الأحوال، فكما ينفذ أوامر الله في الصلاة على كل عضو من أعضائه من القراءة والركوع والسجود ويصلي بقلبه ولسانه وجوارحه، ويصلي كما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا حسب مزاجه وهواه، بل حسب أمر الله ورسوله. فكذلك مطلوب من هذا المصلي أن يكون خارج الصلاة مطيعاً لربه في شئون

الحياة كلها كما هو مطيع لربه داخل الصلاة، فيكون كأنه في الصلاة مطيعاً لربه في جميع أحواله في نفسه، في بيته، في معاشرته، في أخلاقه. وفي الزكاة تطهير وتزكية لأصحاب الأموال من البخل والحرص، وتطهير لأموالهم مما يفسدها وإنقاذ للفئات المحتاجة من هوان الفقر والحاجة. وفي الصيام تمرين للعبد على تقديم أوامر الله على شهوات النفس، وكلما اصطدمت شهوات النفس مع أوامر الله قدم أوامر الله في الصيام، وهكذا في سائر شئون حياته المختلفة. وكما يلتزم في رمضان بكيفية الصيام كذلك يلتزم في غير رمضان بأوامر الله ورسوله في طعامه وشرابه، وحركته ونومه، وفي سائر أحواله طيلة العام. والحج يرمز لاستسلام الإنسان لله إذا بلغه أمر الله بواسطة رسوله، إذ ينفذ الأمر بصرف النظر عن المعنى العملي لهذا الأمر، وما الطواف والسعي والوقوف والحلق والرمي وغيرها من أعمال الحج إلا رمز لاستسلام المسلم لأمر الله دون نقاش. وهو رمز لوحدة الأمة الإسلامية، ومظهر عملي للأخوة الإسلامية، والمسابقة إلى الأعمال الصالحة، وخضوع المسلمين لربهم. والحج مدرسة يتعود فيها المسلم، ويرتفع بها إلى آفاق أعلى، يتعلم بها على بذل الجهد مع الصبر، وأن يعيش في عبادة دائمة، أن يكون لطيفاً مع المؤمنين ويتعلم بها دروس العبودية، وكيف ينفق في سبيل الله دون مقابل، وكيف يعظم ما عظمه الله، وكيف يحقِّر ما حقَّره الله، وكيف يوالي من والى الله، ويعادي من عادى الله. ويتعلم مشاعر الولاء لله والرسول والمؤمنين، ومشاعر التوجه الخالص لله، ومشاعر التجرد عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، ومشاعر العزم على فتح صفحة جديدة مع الله، وغير ذلك من العبر والمعاني والعظات.

والعبادات على أربعة أقسام: منها ما يتعلق بالمكان والزمان كالحج. ومنها ما يتعلق بالمكان دون الزمان كالعمرة. ومنها ما يتعلق بالزمان دون المكان كالصيام. وغالبها لا يتعلق بزمان ولا مكان كالصلاة والزكاة والصدقة والذكر وتلاوة القرآن ونحو ذلك. فما أعظم هذه الشريعة، وما أعدل أحكامها. وهذه إشارة مختصرة إلى فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج والذكر والدعاء.

1 - فقه الصلاة

1 - فقه الصلاة قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]. وقال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45]. الله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، وله العبادة، وبه الاستعانة، ومنه النعم والثواب والعقاب، وإليه المرجع والمآب. والمخلوقات بالنسبة للطاعة والعبادة قسمان: الأول: من خلقه الله للطاعة والعبادة، فهم مسخرون لذلك منقادون له، وقد أعلمهم الله وألهمهم كيف يعبدونه، ونحن لا نعلم كيفية ذلك، وهم درجات، وهؤلاء جميع الخلائق في العالم العلوي، وفي العالم السفلي سوى الثقلين كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]. وقال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. فهذه عبادة، وصلاة، وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون المكذبون. الثاني: الإنس والجن وهؤلاء قسمان: فمنهم الجاحد الكافر الذي لا يصلي، فهو شاذ ناشز عن جميع المخلوقات التي أسلمت لربها وأطاعته. ومنهم المؤمن المطيع، فهذا خير البرية، أكرمه الله بالإيمان، وعلمه كيف يتقرب إلى ربه ويناجيه، ويعظمه ويحمده، ويسأله ويستغفره، بما شرع له من الصلاة

التي يتصل فيها المخلوق بخالقه، ويقرب منه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم (¬1). وإقامة الصلاة معناها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ظاهراً وباطناً، جسماً وعقلاً وروحاً. والصلاة هي العبادة الكبرى في الإسلام، وهي مظهر لنشاط قوى الإنسان الثلاث، وتوجهها جميعاً إلى خالقها في آن واحد: فالقيام والركوع والسجود تحقيقاً لحركة الجسد. والقراءة والتدبر والتفكر تحقيقاً لنشاط العقل. والتوجه والاستسلام والخشوع تحقيقاً لنشاط الروح. كل ذلك في آن واحد، ومن أجل هذه المنافع فرضها الله خمس مرات يومياً على جميع المسلمين كما قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]. والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي صلة بين العبد وربه، وهي معراج المؤمن إلى ربه. والصلاة لها جسد وروح .. وأقوال وأفعال .. وسنن وأحكام .. وبدء وختام .. ولها أحكام على البدن .. وأحكام على العقل .. وأحكام على الروح. والصلاة تشتمل على أمور عظيمة من: تعظيم الله وتكبيره .. وحمده والثناء عليه .. وسؤاله .. واستغفاره .. والصلاة على أفضل من عبده ودعا إليه. فالتعظيم بقولنا: (الله أكبر) في مواضعها، والقيام والركوع والسجود، وقولنا: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، و (سبحان ربي الأعلى) في السجود. وقولنا في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك) ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (482).

وقولنا في الفاتحة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 1 - 4]. والحمد بقولنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]. وقولنا بعد الركوع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد). وقولنا في التشهد: (التحيات لله والصلوات والطيبات). والسؤال بقولنا في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. وقولنا بين السجدتين: (رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني وعافني). وقولنا في التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» أخرجه مسلم (¬1). والاستغفار بقولنا بين السجدتين: (اللهم اغفر لي). وفي التشهد الأخير: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ» أخرجه مسلم (¬2). وقولنا بعد السلام: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. وفي ختام الصلاة بعد التشهد الأخير ثناء ودعاء لمن بذل نفسه وماله ووقته في سبيل إعلاء كلمة الله، وأحسن عبادة ربه، وهما الخليلان محمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام، لنذكر عبادتهما وأعمالهما وأخلاقهما ونقتدي بهما: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (588). (¬2) أخرجه مسلم برقم (771).

كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ بحكمته جعل الدخول عليه في الصلاة موقوفاً على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفاً على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة القلب بالتوبة .. وطهارة البدن بالماء. فإذا اجتمع للعبد هذان الطهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته في الصلاة. فالجنة طيبة لا يدخلها من في قلبه نجاسة وخبث؛ لأنها دار الطيبين كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والتوحيد والتوبة والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق. ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر والمشرك لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر من النار من تلك النجاسة، أو يغفر الله له. والطاعات والحسنات تكسب القلب حياة ونوراً، والمعاصي والخطايا توجب للقلب حرارة وظلمة، ونجاسة وضعفاً، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة، فالخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها. ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه، والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار. فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم، فكان أذهب لأثر الذنوب والخطايا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3370) واللفظ له، ومسلم برقم (406).

«اللَّهُمَّ! نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ! اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (¬1). فالنجاسة تزول بالماء .. والخطايا تزول بالتوبة .. وصلاح القلب ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، يزول الأول بالتخلص منه، ويزول الثاني بالتوبة والاستغفار. ولله المنَّة والفضل في كل عمل صالح، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منَّة الله عليه أعظم، فهو المانُّ بفضله، ولو أتى الناس بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منَّته وفضله، وكانت له المنَّة عليهم. ولمنافع الصلاة العظيمة ولحاجة المسلم لهذه الصلاة كل وقت، شرعها الله خمسين صلاة على المسلم، ثم خففها إلى خمس في العمل، وخمسين في الأجر رحمة منه وفضلاً. والصلاة غذاء للمسلم لا يستغنى عنه كما لا يستغني عن الطعام والشراب؛ لما فيها من ذكر الله ومناجاته، والتلذذ بتلاوة كتابه، وتعظيمه وتكبيره، وحمده وشكره، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، والاستغفار من الذنوب التي يقع فيها المسلم كل يوم. وما أعظم افتتاح الصلاة باسم الله (الله أكبر)، وختامها باسم الله (السلام عليكم ورحمة الله). فإن المصلي لما تخلى عن الشواغل، وقطع جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيأ للدخول على ربه ومناجاته، شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598) واللفظ له.

وهو قول: (الله أكبر). فإذا استشعر المصلي بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره. فإذا حضر القلب في الصلاة انتقل إلى فهم المعنى، ثم ارتحل وأناخ بباب المناجاة فعظم ربه وحمده، وسأله واستغفره، ثم انصرف بأنواع التحف والخيرات. وما دام المصلي في صلاته بين يدي ربه، فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمىً من جميع الآفات والشرور. فإذا انصرف من بين يدي ربه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب، وجاء الشيطان بمصائده وجنده، فهو معرض لأنواع البلايا والمحن. فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى، فكان من تمام النعمة انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه. والصلاة تشتمل على عبودية القلب، وعبودية الجوارح والأعضاء، فلكل عضو منها نصيب من العبودية، فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله، وذلاً له وخضوعاً. فإذا أكمل المصلي هذه العبودية، وانتهت حركاته، ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمة الله عزَّ وجلَّ، كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده. ولما كان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس، وأعظمه خضوعاً وتذللاً لله، أذن الله تبارك وتعالى لعبده في هذه الحال بالثناء على الله أبلغ أنواع الثناء وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات، كعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم يما يليق بهم.

والله جل جلاله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد، فالثناء كله لله، والتحيات كلها لله، والصلوات كلها لله، والطيبات من الكلمات والأقوال والأفعال كلها لله. فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإليه يصعد الكلم الطيب، والصلاة مشتملة على عمل صالح، وكلم طيب، والسلام من أسماء الله الحسنى، فهو السلام الحق بكل اعتبار. وقبول الصلاة يتوقف على تحقيق ستة أشياء: الإيمان بالله .. وصفة الإحسان .. وصفة الإخلاص .. وصفة العلم .. واستحضار عظمة الله .. وأداء حقوق الناس. وإذا أقيمت الصلاة هكذا جاءت المعاملات طيبة، والمعاشرات طيبة والأخلاق طيبة. وهكذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتصفون بخمس صفات جذبت قلوب الكفار إلى الإسلام وهي: الإيمان .. والعبادات .. وحسن المعاملات .. وحسن المعاشرات .. وحسن الأخلاق. ففي الأسواق جذبهم إلى الإسلام حسن الأخلاق، وحسن المعاملات، وفي البيوت جذبتهم حسن المعاشرات. وفي المساجد جذبتهم صفات الإيمان، وحسن العبادات، فتأثروا بذلك ودخلوا في دين الله أفواجاً. والصلاة صلة بين العبد وربه، وهي تربية وتدريب للمسلم بأن لا يتحرك أي عضو من أعضائه إلا امتثالاً لأمر الله ورسوله، وذلك باستخدام الأعضاء في الحياة اليومية طبقاً للسنة المطهرة في مجال العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق. سواء كان الإنسان ذكراً أم أنثى، وسواء كان حاكماً أو محكوماً، وسواء كان

ولداً أو والداً، وسواء كان غنياً أو فقيراً. في حال الحضر أو السفر .. وفي حال اليسر أو العسر .. وفي حال الأمن أو الخوف .. وعلى أية حال فلا يخرج عن طاعة الله ورسوله، فيكون مطيعاً وممتثلاً لأوامر ربه داخل الصلاة وخارج الصلاة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. ولأهمية الصلاة فقد ذكرها الله في القرآن أكثر من مائة مرة، فهي تصل المخلوق بخالقه، وتثمر الأخلاق الكريمة، وتذكر بالله العظيم، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ويمحو الله بها الذنوب والخطايا. والصلاة عماد الدين، وإقامتها حرب للشيطان؛ لأن الشيطان يريد هدم الدين، فالذي لا يصلي كأنه رضي بهدم الدين؛ لأن الدين قائم بالصلاة، والدين كله معلق بالصلاة، وهي الركن الثاني بعد الشهادتين. ولا يحصل التفقه في الدين إلا بالصلاة، ولا يوفق الإنسان للعمل الصالح إلا بالصلاة، ولا يسلم من الشرور والمنكرات إلا بالصلاة. وتوفيق العبد يحصل له بقدر نوعية الصلاة التي يؤديها، وكلما ازداد العبد خشوعاً وخضوعاً في الصلاة اتجهت إليه الرحمة الإلهية: فيستجاب دعاؤه .. وتستقيم أحواله .. وينال مراده .. ويأنس بمولاه. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]. والناس في صلاتهم درجات، كما هم في إيمانهم درجات، وبحسب الإيمان تكون الرغبة في الصلاة وحضور القلب فيها. فمن الناس لجهله لا يبالي بالصلاة مطلقاً ولا يفكر فيها .. ومنهم من يعنى بالصلاة لكنه لا يهتم بالجماعة .. ومنهم من يصلي مع الجماعة ولكنه لا يهتم ولا يعتني بشروط وآداب الصلاة .. ومنهم من يصلي جماعة، ويهتم بشروط الصلاة وسننها وآدابها، وهذا أفضلهم.

والصلاة التي تؤدى دون شوق لها، وترقب لأوقاتها، لا تثمر ولا تأتي بحلاوتها، فالصلاة لها جسم وروح، ولكل منهما أوامر: فجسم الصلاة: القيام والقعود، والركوع والسجود. وروح الصلاة: الخشوع والخضوع، والحمد والتعظيم لله، ومحبته والأنس بمناجاته، والتضرع والانكسار بين يديه. فمن الناس من يصلي صلاة الجوارح ولا يصلي صلاة القلب، ومنهم من يصلي صلاة القلب ولكن يجهل في أحكام الصلاة. والنجاة والفلاح: أن يصلي المسلم كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقلبه وقالبه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أصَلِّي» أخرجه البخاري (¬1). والإيمان أكبر الأوامر، والصلاة أكبر الأعمال، فمن صلى صلاة كاملة تفتح له أبواب خزائن الله كاملة، ومن اجتهد على أوامر الله علماً وعملاً وتعليماً فتح الله له أبواب البركة في الدنيا كما سقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء اللبن جميع أهل الصفة، وكما أطعم أهل الخندق كلهم من عناق جابر - رضي الله عنه -، وكما سقى الله أهل الحديبية من الماء الذي خرج من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما أنزل الله البركة في أموال الزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. فالله عزَّ وجلَّ يعطي الرزق بدون الجهد مع كمال الإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. والآخرة خير من الدنيا، ومنازل الآخرة كلها إنما تنال بالإيمان والتقوى لا بالأسباب والأموال والأشياء. والمجاهد في سبيل الله حقاً هو الذي يحيي سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - الميتة في نفسه وفي الأمة، ويعلم الناس أمور دينهم، ويجتهد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا الذي تحصل له الهداية قبل الناس، وتكون معه معية الله كما قال سبحانه: ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (631).

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والصلاة المقبولة صلاة الخاشعين كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]. ولا بدَّ من ضبط الجوارح داخل الصلاة وخارجها. فخارج الصلاة نحفظ أربعة: السمع .. والبصر .. والفكر .. والكلام. فلا نسمع إلا ما أمر الله ورسوله به .. ولا ننظر إلى لما أمر الله بالنظر إليه من الآيات الكونية، والآيات القرآنية ونحوهما .. ولا نفكر إلا فيما ينفعنا .. ولا نتكلم إلا بما ينفعنا من الدعوة إلى الله وتعليم شرعه ونحو ذلك. وداخل الصلاة نحفظ أربعة: النظر إلى محل السجود حال القيام .. والنظر حال الجلوس إلى محل التشهد وهو الإصبع .. ونتفكر ونتدبر ما نتلوه من القرآن والأذكار .. ونسمع القرآن بالتوجه .. ولا نتكلم إلا بما أمرنا الله به كالتكبير والأذكار في مواضعها، وقراءة القرآن. وبذلك يتم ضبط هذه الجوارح داخل الصلاة وخارجها. ونصلي بخمس صفات: الأولى: أصلي وأنا أعتقد أن هذه الصلاة خير من الدنيا وما فيها، وفيها حل مشاكل العالم في الدنيا والآخرة، وبها تتم الاستفادة من خزائن الله. الثانية: أصلي على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قيامه وركوعه وسجوده، وإيقاع الألفاظ والأذكار في أماكنها. الثالثة: أصلي ابتغاء مرضاة الله لا رياء ولا سمعة. الرابعة: أصلي بصفة الإحسان والتوجه، كأني أرى الله وأسمعه، وكأنه يراني ويسمعني. الخامسة: أصلي بصفة المجاهدة، والمجاهدة ضبط الفكر والتوجه؛ لئلا يشرد

الذهن، ويفلت الفكر للدنيا، ويترك مناجاة الله. يتدرب المسلم على ذلك في النوافل، حتى يجد اللذة في الفرائض، وبهذا يكون للصلاة نور، وتحل بها المشاكل، وتغفر بها الذنوب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه (¬1). والقصد من امتثال أوامر الله تحقيق العبودية لله .. وطاعة الله .. والاستفادة من قدرة الله .. ومن خزائنه في الدنيا والآخرة. وأي نقص خارجي في العمل سببه النقص الداخلي في القلب، لذلك الذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة. وليست المصيبة فقط التفات الوجه في الصلاة، بل المصيبة الكبرى التفات القلب عن الله، وهو واقف بين يديه، وكل من أحب غير الله لا تكاد تصفو له صلاة عن الخواطر. وعلاقة المسلم مع الله بالإيمان والأعمال الصالحة، وعلاقته مع الخلق بالمعاملات والمعاشرات والأخلاق. وإذا جاءت المشاكل والأحوال نفزع إلى الأعمال كما قال سبحانه: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. وإذا لم ترتفع الأحوال والمصائب فهناك خلل في الأعمال، ولا ننظر إلى الأحوال، ولكن ننظر إلى أمر الله فيها. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينظر إلى الأحوال يوم بدر والخندق، ولكن نظر إلى أمر الله فحفظه الله ونصره وأيده بالملائكة. وكذلك أبو بكر - رضي الله عنه - لم ينظر إلى الأحوال يوم وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن نظر إلى ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.

أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فأنفذ جيش أسامة - رضي الله عنه -، وأرسل الجيوش لردِّ المرتدين إلى الدين، وقام لله فاستقامت له البلاد والعباد. وحقيقة الصلاة: هي الخشوع الكامل وقت الوقوف أمام الله جل علا في الصلاة. وبذلك يحصل الفلاح كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]. فمن صلى بدون خشوع فإنه ليس من مقيمي الصلاة .. ومن صلى بدون اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ليس من مقيمي الصلاة .. ومن صلى بدون إخلاص فليس من مقيمي الصلاة. ويحصل الخشوع في الصلاة بالاهتمام بستة أمور: الأول: حضور القلب، ومعناه التوجه إلى الله، وتفريغ القلب مما سواه. الثاني: الفهم والإدراك لما يقرأ أو يسمع. الثالث: التعظيم: ويتولد من أمرين: معرفة جلال الله وعظمته وكبريائه .. ومعرفة حقارة النفس وخستها وجهلها وفقرها، وحاجتها إلى فاطرها، فيتولد من المعرفتين الانكسار والخشوع لله. الرابع: الهيبة، وهي أسمى من التعظيم، فهي الخوف الذي منشؤه التعظيم وتتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته، وعظمته وجلاله، وتقصير العبد في حقه. الخامس: الرجاء، وهو أن يكون العبد راجياً بصلاته ربه وثوابه وإحسانه، كما أنه خائف بسبب تقصيره من عقاب ربه عزَّ وجلَّ. السادس: الحياء، ويتولد من شعور العبد بالتقصير في العبادة، مع رؤيته إحسان ربه إليه، وإنعامه عليه، وعلمه بعجزه عن أداء شكره وحقه. فبهذه الأمور يصل المؤمن إلى الخشوع الكامل الذي قال الله عنه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]. فما أعظم فضل الله على عباده بالصلاة الجامعة لكل خير.

فإن الله إذا من على عبد وفقه وهداه للوقوف في الصلاة بين يدي ربه العظيم جل جلاله، الكبير المتعال الذي عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، القاهر فوق عباده. ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكره، ثم أخذ في الثناء عليه وحمده وشكره على إحسانه لعباده ورحمته لهم، وتمجيده بالملك الأعظم يوم الدين، وإفراده بالتوحيد. ثم سؤاله أفضل سؤال على الإطلاق وهو: اهدنا الصراط المستقيم، الذي جعله الله موصلاً لمن سلكه إليه وإلى جنته. ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة كتابه، ربيع القلوب، وشفاء الصدور، وهو كلام رب العالمين. فهو يجتني من تلك الآيات والسور ثماراً ومنافع .. خيراً يؤمر به .. وشراً ينهى عنه .. وحكمة وموعظة .. وتبصرة وتذكرة .. وتقريراً لحق .. ودحضاً لباطل .. وإزالة لشبهة .. وجواباً عن مسألة .. وإيضاحاً لمشكل .. وترغيباً في أسباب الفلاح والسعادة .. وتحذيراً من أسباب الخسران والشقاوة .. ودعوة إلى هدى .. وتحذيراً من اتباع الهوى. فتنزل تلك على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويحل فيها محل الأرواح من أبدانها، فيا له من نعيم وقرة عين تحصل بهذه المناجاة في الصلاة. والرب عزَّ وجلَّ يسمع لكلامه جارياً على لسان عبده، ويقول: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي. ثم يعود إلى تكبير ربه عزَّ وجلَّ، فيجدد لربه عهد التذكرة بكونه أكبر من كل شيء، ثم يرجع حانياً ظهره لربه خضوعاً لعظمته، وذلاً لعزته، مسبحاً له بذكر اسمه العظيم، منزهاً لعظمته عن حال ذل العبد، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء، وربه فوقه يرى خضوعه وذله وخضوعه، ويسمع كلامه، فهو ركن

تعظيم وإجلال. ثم عاد إلى حاله من القيام، حامداً ربه، مثنياً عليه، بأكمل محامده وأحسنها. ثم يعود إلى تكبيره، ويخر له ساجداً على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيعفره في التراب ذلاً بين يدي ربه ومسكنة، وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع، ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلاً للخضوع والتذلل لمن له العز كله، والعظمة كلها. وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام العبد على ذلك من حين خلقه الله إلى أن يموت لما أدى بعض حق ربه عليه فضلاً عن كل حقه. ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى في سجوده، فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله هو، وينزهه عن مثل هذه الحال، فمن هو فوق كل شيء، وعال على كل شيء ينزه عن السفول، وكلما سجد العبد لربه سجدة رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها سيئة. ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال، فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب. وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه، وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه، يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد، وجعل بين خضوعه خضوع قبله، وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والتمجيد، كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك، والقيام أفضل بذكره، والسجود أفضل بهيئته. فما أعظم هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقل في مراتب العبودية؟. ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام في الصلاة في أحسن هيئة. ولما كان أفضل أركان الصلاة الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار، وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربه ومولاه أن يغفر له

ويرحمه، ويهديه ويرزقه، ويجبره ويعافيه، وهذه تجمع له خير دنياه وآخرته. ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع له تكرار الفاتحة والأذكار والدعوات مرة بعد مرة، ليجبر ما قبله بما بعده، وليشبع القلب من هذا الغذاء النافع، وليأخذ رواه ونصيبه وافراً من الدواء، فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء. ومن كرر الصلاة كان شفاؤه وسلامته أتم وأدوم، فما حصل الغذاء والشفاء للقلب بمثل الصلاة، وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه. ثم لما أكمل صلاته، شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه. ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين القائمين معه في هذه العبودية. ثم يتشهد شهادة الحق أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه، وهم محمد وآل محمد، وإبراهيم وآل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. ثم شرع له بعد ذلك أن يسأل حوائجه، ويدعو بما أحب، ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه، فإذا قضى ذلك أذن له بالخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة، والسامعين والحاضرين من عباد الله من الملائكة وغيرهم. ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهملاً جوارحه، قد أسامها في واقع الشهوات أمر بالعبودية بجميع جوارحه ليقبل على ربه، وتأخذ جوارحه بحظها من عبوديته داخل الصلاة وخارج الصلاة، وأمر بتكرار ذلك لئلا يطول الأمد عليه فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية. فالصلاة أعظم نعم الله على عباده، وأفضل هداياه التي ساقها إليهم. والله بصير بالعباد يرى مكانهم، ويسمع سرهم ونجواهم، ويعلم أحوالهم،

والإنسان يعمل المعاصي في الظاهر فيسقط من عين الله تعالى؛ لأنه عصى الله في ملكه، ولكن الله برحمته شرع لنا الصلاة التي يمحو الله بها الخطايا والذنوب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبقَى من دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قَالُوا: لا يَبْقَِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئٌ، قَال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا» متفق عليه (¬1). وعلمنا سبحانه تعظيم الله قبل الصلاة .. وأثناء الصلاة .. وبعد الصلاة .. وعلمنا الاستغفار عن التقصير فيها بعد الصلاة؛ لأن حق الله عظيم، والإنسان جمع مع الجهل الغفلة والنسيان والكسل. وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله في الصلاة .. والأجساد مزينة بالسنن، والألسنة ناطقة بالتكبير والحمد والاستغفار، فُتحت للإنسان أبواب السعادة في الدنيا والآخرة، وسمع الله دعاءه، وأجاب سؤاله. والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين: أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له. والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وكل ما يرضي ربه. وإقامة الصلاة تكون بأمرين: إقامتها ظاهراً: بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها. وإقامتها باطناً: بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وخشوعه لله، وتدبر ما يقوله ويفعله منها. والصلاة فرضها ونفلها صلة بين العبد وربه، يجد فيها العارفون لذة مناجاة ربهم بتعظيمه، والثناء عليه، وسؤاله، واستغفاره. يصلون مع الناس الفرائض والسنن، ولهم مع ربهم في الليل شأن آخر، يحنون ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667) واللفظ له.

إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب. فإذا جَنَّهم الليل .. واختلط الظلام .. وفرشت الفرش .. وخلا كل حبيب بحبيبه .. قاموا إجلالاً لمولاهم .. فتطهروا للوقوف بين يديه .. ونصبوا أقدامهم .. وافترشوا وجوههم .. وناجوا ربهم بكلامه .. وتملقوا إليه بإنعامه. فهم بين خاشع وباك .. وبين متأوه وشاك .. وبين معظم وحامد .. وبين قائم وقاعد .. وبين راكع وساجد .. وبين مسبح ومستغفر وتائب. والجبار الذي لا تأخذه سنة ولا نوم يراهم .. بعيني ما يتحملون من أجلي؟ .. وبسمعي ما يشكون من حبي؟. فلله ما أعظم هؤلاء .. وما أكبر عقولهم .. وما أحسن عملهم .. وما أفقههم .. وما أعلمهم: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. وما أعظم لذتهم بمناجاة مولاهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17]. وكثير من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة، أما حال القلب وعمله وحبه وشوقه وتعلقه بربه، فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وجهة؛ لقصور نهمه، ونقص علمه. فالتعبد هو غاية الحب لله، وغاية الذل له، فالمحب قد ذلَّله الحب لمولاه، وذلك لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة. وكلما كان قلب العبد في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال في علوٍّ ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال في هبوط ما دام كذلك، ولهذا شرع الله الصلوات والعبادات لاستدامة ذكره سبحانه.

وكل عبادة لها مقصد، فمقصد الصلاة استدامة ذكر الله، والاستفادة من خزائن الله، وقضاء الحاجات. وإذا كانت الصلاة التي لم تحل مشاكل الدنيا الفانية الصغيرة، فلا يمكن لها أن تحل مشاكل الإنسان في الدار الآخرة الدائمة الكبيرة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

2 - فقه الزكاة

2 - فقه الزكاة قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60]. الله تبارك وتعالى خلق الخلق، وقسم أرزاقهم، وفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والأموال والأرزاق والأعمال كما قال سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. والله عزَّ وجلَّ أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، وأعلم بمن لا يصلح للهداية فيضله، وكذلك هو أعلم بمن يصلح للغنى فيغنيه، ويهيء له أسبابه، وهو أعلم بمن لا يصلح للغنى فيمنعه، ويقطع عنه أسبابه. والمال أياً كان مال الله يؤتيه من شاء من خلقه، ويبتليه به لينظر هل ينفقه حسب أمر الله ورسوله، أم ينفقه حسب هواه وشهواته. والزكاة حظ الفقراء في أموال الأغنياء، فيها إعانة للضعيف، وإغاثة للملهوف، وإقدار للعاجز، وتقويته على أداء ما افترضه الله عليه من العبادات والحقوق. والزكاة تطهر مؤديها من أنجاس الذنوب، وتزكي أخلاقه بخلق الجود والكرم والبذل والإحسان، وترك الشح والبخل، فالأنفس مجبولة على الضن بالمال، والإنفاق -صدقة أو زكاة- يقطع هذا الخلق، ويعود المرء على التحلي بمكارم الأخلاق، ونفع السائلين والمحرومين والمحتاجين. كما قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103].

والله سبحانه أنعم على الأغنياء بصنوف النعم يأكلون منها، ويزكون منها، ويتصدقون منها، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة. والنفس ميالة إلى الحرص، ولما كانت النفس كذلك، وكان الجود مطلوباً جعلت الزكاة رياضة للنفس وتمريناً لها على الكرم شيئاً فشيئاً، حتى يصير الكرم لها عادة، وهذا أعظم جهاد للإنسان يزول به البخل عنه. والزكاة فرض من فرائض الإسلام، والمسلم إذا لم يؤد فرضاً من فرائض الصلاة على الوجه المطلوب يكون غير مقبول، ويكون آثماً، فكذلك الزكاة إذا لم يؤدها الإنسان من طيبات ما رزقه الله لم تكن مقبولة، ويكون آثماً، فالكريم حقاً يجود بأحسن ما لديه، وهو في الحقيقة يختار لنفسه قبل غيره، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالإنفاق من الطيبات وتجنب الخبائث كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]. والله عزَّ وجلَّ أوجب الزكاة مواساة للفقراء، وطهرة للمال، وعبودية للرب، وتقرباً إليه بإخراج محبوب العبد له؛ إيثاراً لمرضاته. وفرضها سبحانه على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين، وأرفقها بأرباب الأموال، ولم يفرضها في كل مال، بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة ويكثر فيها الربح والدر والنسل. ولم يفرضها العزيز الرحيم فيما يحتاج العبد إليه من ماله، ولا غنى له عنه كعبيده وداره وثيابه وسلاحه ومركوبه. بل فرضها في أربعة أجناس من المال: الذهب والفضة .. وعروض التجارة .. والزروع والثمار .. وبهيمة الأنعام. فهذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وقسم الشارع كل جنس من هذه الأجناس إلى ما فيه الزكاة، وإلى ما لا زكاة فيه.

فقسم الذهب والفضة إلى قسمين: ما هو معد للتجارة ففيه الزكاة ربع العشر. وما هو معد للانتفاع دون التجارة كحلي المرأة وحلية السلاح فلا زكاة فيه. وقسم العروض إلى قسمين: عروض معدة للتجارة ففيها الزكاة ربع العشر. وعروض معدة للقنية والاستعمال، فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه. وقسم الزروع والثمار إلى قسمين: قسم يسقى بلا كلفة ولا مشقة كالذي يسقى بماء السماء فأوجب فيه العشر. وقسم يسقى بكلفة ومشقة كالذي يسقى بالآلات، أو الحيوانات فأوجب فيه نصف العشر. وقسم البهائم إلى قسمين: سائمة ترعى بلا كلفة ولا مشقة ولا خسارة كالإبل والبقر والغنم، فهذه فيها الزكاة. ومعلوفة بالثمن، أو عاملة في مصالح أربابها بالحرث والنقل، فلا زكاة فيها لكلفة المعلوفة، وحاجة المالك إلى العوامل لخدمته. ولما كان حصول النماء والربح في التجارة أشق، خففها بأن جعل فيها ربع العشر .. ولما كان الربح والنماء في الزروع والثمار التي تسقى بالكلفة أقل كلفة جعله ضعفه وهو نصف العشر .. ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل جعله ضعف ذلك وهو العشر .. ولما كان الركاز والمعدن مالاً مجموعاً محصلاً بلا كلفة كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس .. ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر جعلها في كل عام مرة كالصيام .. ولما كانت الصلاة لا تشق كل يوم وظفها كل يوم وليلة .. ولما كان الحج يشق على المسلم جعله في العمر مرة. ومقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة لا يضر المخرج فقده، وينفع الفقير أخذه،

وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه كالذهب والفضة من المعادن. والنعم متى شُكرت قرّت، ومتى كُفرت فرّت، وشكر النعم يكون باللسان كأن تقول: الحمد لله .. الشكر لله .. ويكون بالجوارح كفعل الصلاة والصدقات والعبادات كلها على الإطلاق إنما هي شكر لله تعالى على نعمه التي لا تحصى، وإذا كان الأمر كذلك كان أداء الزكاة شكراً لله على نعمه العديدة التي أنعم بها عليك، والتي منها إنقاذك من مخالب الفقر والفاقة. ومدّ يد الغني لإعطاء الزكاة يزيد في ماله وينميه، فكأن المال شجرة، والسقيا له هو الزكاة كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [البقرة: 276]. والمال لا ينفع صاحبه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط هي: أن يكون حلالاً .. وأن لا يشغل صاحبه عن طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وأن يؤدي حق الله فيه. والله عزَّ وجلَّ شرع لعباده عبادات متنوعة منها ما يتعلق ببذل المحبوب إلى النفس كالزكاة والصدقة، ومنها ما يتعلق بكف النفس عن محبوباتها وما تشتهيه كالصيام، ونوّع الله العبادات ليختبر العباد ليرى من يقدم طاعة ربه على هوى نفسه، وليقوم كل واحد بما يسهل عليه ويناسبه منها. وليس الهدف من دفع الزكاة جمع المال وإنفاقه على الفقراء والمساكين فحسب، بل الهدف الأول أن يعلو بالإنسان عن المال ليكون سيداً له لا عبداً له، ومن هنا جاءت الزكاة لتزكي المعطي والآخذ وتطهرهما. والزكاة تكفر الخطايا، وهي سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، وهي تزيد في حسنات مؤديها، وتقي المال من الآفات، وتثمره وتنميه وتزيده، وتسد حاجة الفقراء والمساكين، وتمنع الجرائم المالية كالسرقات والنهب والسطو، وتولد المحبة بين المسلمين.

وكل قادر على الكسب مطلوب منه شرعاً أن يعمل ليكفي نفسه بنفسه. فمن كان عاجزاً عن الكسب لضعف ذاتي كالصغر والأنوثة، والعته والكبر، والعاهة والمرض، أو كان قادراً ولم يجد باباً حلالاً للكسب يليق بمثله، أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها، فقد حل له الأخذ من الزكاة، ولا حرج عليه في دين الله، الذي جمع بين العدل والإحسان، والعدل والرحمة، والعدل والشفقة. والفقراء والمساكين نوعان: نوع يستطيع أن يعمل ويكتسب ويكفي نفسه بنفسه، ولكن ينقصه أدوات الصنعة، أو رأس مال التجارة، أو آلات الحرث والسقي، فهذا يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر، وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى. والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالشيخ الكبير والأعمى والأرملة والطفل ونحوهم، فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية السنة، بل يصح أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف، وبعثرة المال في غير حاجة ماسة. والله بكل شيء عليم، يعلم كل ما ينفقه المنفق صدقة أم نذراً، سراً أو جهراً، لله أو لغير الله، قليلاً كان أو كثيراً كما قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} [البقرة: 270]. وشعور المؤمن بأن عين الله سبحانه على نيته، وعلى حركته، وعلى عمله، يثير في نفسه مشاعر حسية حية متنوعة، شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن، وشعور الإطمئنان على الجزاء، وشعور الرضا والراحة. وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعاً أولى وأحب إلى الله، وأجدر أن تبرأ من الرياء، فإن كان في إظهارها مصلحة الاقتداء به فهو أولى. فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو ذلك

وظهوره خير، وفيها تنبيه للغافل عن أدائها. فتحمد هذه في موضعها، وتحمد تلك في موضعها، ويعد الله المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات، وعليهم مراقبة الله في ذلك، فإن الله خبير بما يعملون: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} [البقرة: 271]. وحق الله على العبد أن يعبده ويطيعه، ويتقرب إليه بما أمر به، ويجتنب كل ما نهى عنه. أما الخلق فعليه الإحسان إليهم، والنصيحة لهم، ومواساة محتاجهم، وعيادة مريضهم، وشهود جنائزهم، ومحبتهم، وإجابة دعوتهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم (¬1). وهدى القلوب وضلالها بيد الله لا بيد غيره، فهذه القلوب من صنعه، وهو الذي يقلبها كيف يشاء. فعلى المسلم أن يحسن إلى الخلق، ويبذل لهم الخير والعون أياً كانوا مسلمين أو غيرهم ما لم يحاربوا الإسلام كما قال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. وثواب العطاء والإنفاق والإحسان إلى الخلق كله محفوظ عند الله، ومضاعف للمنفق أضعافاً كثيرة، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله، وهذا شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا غرض: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2162).

ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} [البقرة: 272]. فالمؤمن ينفق الطيب خالصاً لوجه الله، ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه، ويطمئن إلى حصول الخير والإحسان إليه من ربه، جزاء الخير والإحسان لعباد الله. ويزكو ويتطهر بما أعطى في حياته، وعطاء الآخرة، ودخول الجنة بعد ذلك كله فضل. والله تبارك وتعالى أمرنا بالإحسان إلى جميع الناس، فالخلق كلهم عيال الله فهو الذي يعولهم ويربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأرحمهم بهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]. وقد خص الله بالذكر مصرفاً من أهم مصارف الصدقة من المؤمنين ليحرك القلوب لإدراك نفوس وقفت نفسها لله، وفي سبيل الله، وهي نفوس أبية، تأنف السؤال، وتأبى الكلام. فلا بدَّ أن تدرك بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام. هؤلاء قوم كرام معوزون بذلوا أوقاتهم من أجل إعلاء كلمة الله، اكتنفتهم ظروف تمنعهم من الكسب قهراً، وأمسكت بهم كرامتهم أن يسألوا العون، إنهم يتحملون كي لا تظهر حاجتهم، وكثيراً ما يغفل الناس عنهم، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. فما أعظم الصدقة والإحسان إلى هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة تعففاً وحياءً. وما أجمل إعطاءهم سراً، وفي تلطف لا يخدش إباءهم، ولا يجرح كرامتهم، هؤلاء قوم كرام، وقد وصفهم الله بست صفات ليعرفهم من يريد الإحسان إليهم، والصدقة عليهم، فهناك الثواب العظيم، والأجر الجزيل على من أنفق

على من وقف نفسه في سبيل الله كما قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} [البقرة: 273]. أما المنفقون ابتغاء مرضاة الله فهم ينفقون كل وقت من كل مال، في كل حال، ولكل محتاج، فما هو جزاؤهم؟ .. وما هي صفاتهم؟. إنهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. إن الإٍسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء والصدقات. بل يقوم أولاً على تيسير العمل والرزق لكل قادر، لكن هناك حالات خاصة يعجز أهلها عن الكسب والعمل، فهذه هي التي يعالجها الإسلام بالصدقة مرة في صورة فريضة كالزكاة .. ومرة في صورة تطوع غير محدد كالصدقات التي يتكرم بها المحسنون القادرون، ويبذلونها للمحتاجين ابتغاء الأجر من الله، مع مراعاة الأدب في العطاء. فالزكاة يجبيها إمام المسلمين ويوزعها على المستحقين لها، وأما الصدقة فموكولة للغني يبذلها لمن شاء من المحتاجين بأي قدر شاء، والله يضاعف لمن يشاء حسب نيته وصدقه، ووقوع صدقته في محلها كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]. وعلى كل من يريد إخراج الزكاة أن يفهم المراد من الزكاة، وهو أربعة أشياء: ابتلاء مدعي محبة الله بإخراج محبوبه .. والتنزه عن صفة البخل المهلك .. وشكر نعمة المال وتطهيره .. وسد حاجة الفقراء. ومن آداب الزكاة الظاهرة والباطنة: الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة، وفيه إذلال للفقير.

وأن لا يفسدها بالمن والأذى، فإنه محسن إلى الفقير، والفقير محسن إليه بقبول حق الله الذي هو طهرة له. وأن يستصغر العطية؛ لئلا يدخله العجب، ولا يتم المعروف إلا بتصغيره وتعجيله وستره. وأن ينتقي من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ويلاحظ فيه أمرين: حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فإنه أحق من اختير له. وحق نفسه فإن الذي يخرجه هو الذي يلقاه غداً في القيامة، فينبغي أن يختار الأجود لنفسه. وأما أحبه إليه فلقوله سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} [آل عمران: 92]. ومن الآداب كذلك أن يطلب لصدقته من تزكو به من أهل الزكاة، ولهم صفات أهمها: التقوى؛ لتكون عوناً لهم على طاعة الله .. وأهل العلم؛ لتكون إعانة لهم على طلب العلم ونشره .. ومن يرى الإنعام من الله وحده، بأن يكون ساتراً لحاجته، صائناً لفقره .. أو يكون ذا عائلة فقيرة .. أو محبوساً لمرض أو دين، فهذا من المحصرين .. وأن يكون من الأقارب وذوي الأرحام المحتاجين، فالصدقة عليهم صدقة وصلة، وكل من جمع هذه الخلال أكثر فعطاؤه أفضل.

3 - فقه الصيام

3 - فقه الصيام قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]. وقال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. الصيام: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية الصيام لله تعالى. والصيام فريضة الله في كل دين أنزله الله، ودين الله في صيغته الأخيرة الخاتمة قد فرض فيه الصوم بصيغة نهائية وخاتمة، ولذلك كان صوماً ما شئت أن ترى من واقعيته إلا رأيت، ومن سهولته إلا رأيت، ومن نفعه إلا رأيت، ومن آثاره الطيبة على الحياة البشرية إلا رأيت. والصيام المفروض علينا هو صيام شهر رمضان، وفي شهر رمضان نزل القرآن، ففيه كان بدء الدعوة الإسلامية، وبدء نزول كتابها فيه. فصيام هذا الشهر تخليد لذكرى ينبغي أن تبقى حية في نفس المسلم كل وقت. وجعل الشهر القمري الذي له علامته الكونية الكبيرة، القمر بدءاً وانتهاءً يحمل في طياته عوامل الوضوح والثبات، فلا تستطيع سلطة أو جماعة أن تخفيه أو تحرف المسلمين عنه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» متفق عليه (¬1). واختيار السنة القمرية في التوقيت له فيها حكم عظيمة، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بحوالي عشرة أيام، فعلى هذا يتقدم شهر رمضان كل عام عنه في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1909)، واللفظ له، ومسلم برقم (1081).

السنة الماضية عشرة أيام، وعلى هذا ففي خلال ستة وثلاثين عاماً لا يبقى يوم من أيام السنة إلا وقد صامه المسلم، يشهد له بصومه لربه. اليوم القصير .. واليوم الطويل .. واليوم الحار .. واليوم البارد. وبذلك يتساوى المسلمون في كل أقطار الدنيا في مقدار الصيام وشدته، ولولا هذا لكان نصيب أهل المناطق الحارة أشد من نصيب أهل المناطق الباردة، وناس يصومون يوماً طويلاً أبد الدهر، وناس يصومون يوماً قصيراً، فلله الحمد والمنَّة أن أكرمنا بشهر المنافع والخير والبركات: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 185]. وفي تعيين شهر رمضان بالذات شهراً للصوم، دون ترك التعيين للإنسان ليختار شهراً معيناً لنفسه من السنة، فيه إشعار للمسلمين بوحدتهم، ومن تعويدهم النظام والانضباط والاستسلام لله عزَّ وجلَّ، وفيه فتح الباب لأعمال موحدة من الخير، ينال كل مسلم من المسلمين فيها نصيبه، وإعلان لدخول المسلمين جميعاً في يوم واحد مدرسة واحدة فيها الصيام والقيام، والبذل والإحسان، وتلاوة القرآن. وفي الصيام حبس النفس عن الإسراف في الشهوات، وكبح جماحها عن كل سوء، وتعويد لها على الانضباط في الأكل والكلام والأخلاق. وشهوتا البطن والفرج أعتى شهوات الإنسان، فمن استطاع أن يحفظ نفسه خلال فترة الصوم من هاتين الشهوتين كان على غيرها أقدر، فلا يخرج عن حدود الحلال.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه البخاري (¬1). وفي الصيام ضبط لجوارح الإنسان وشهواته، فلا ينضبط اللسان بشيء كانضباطه بالصيام، فالشبع الدائم للإنسان يجعل أعضاءه في كامل طاقتها ويجعل نفسه كذلك، واللسان ينطلق وقد لا يستطيع ضبطه. واللسان أداة التعبير عن النفس، فمهما كان في النفس من شرود عن طريق الله ظهر في اللسان، وفي اليد، وفي الرجل، وفي السلوك، وفي العمل. فحبس النفس عن شهوة الطعام إضعاف لها عن الانطلاق في أي طريق، وترويض لها على الانضباط على الطريق الشرعي الصحيح. ففي الصيام كف للنفس عما لا ينبغي لها، وعما يشينها من الأقوال والأعمال والأخلاق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» متفق عليه (¬2). وما لم يحقق الإنسان من صيامه هذا الجانب فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أخرجه البخاري (¬3). ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن علق الصوم والإمساك على علامتين سماويتين يسهل تمييزهما هما طلوع الفجر، وغروب الشمس، وفي ذلك ضبط للوقت يستطيعه أي إنسان في أكثر مناطق العالم كما قال سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. ¬

(¬1) اخرجه البخاري برقم (6474). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1904)، واللفظ له، ومسلم برقم (1151). (¬3) أخرجه البخاري برقم (1903).

وقد أعطى الله الإنسان في رمضان وقتاً يعوض فيه كل ما فقده في صيامه من حاجة الجسد، وذلك بإباحة الطعام والشراب والنكاح ليلاً، ومنعه منه نهاراً، وبذلك يتمحض الصيام نفعاً خالصاً للإنسان بدنياً ونفسياً. وليس هذا هو المقصود من الصيام فقط، بل المقصود الأعلى والأسمى طاعة الله وتقواه، فالتقوى هي الخلق الذي علق الله عليه فلاح المسلم في دنياه وآخرته، كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)} [الطور: 17]. والتقوى خلق عظيم، وحتى يستجمعها المسلم في قلبه فتكون له خلقاً، لا بدَّ أن يسلك لها طريقها. وأهم الطرق المؤدية إلى التقوى: الصيام .. والقيام .. والأذكار .. والدعاء .. وقراءة القرآن .. والإنفاق في سبيل الله .. والاعتكاف .. والصبر .. والاستغفار .. والتوبة. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]. وشهر رمضان هو الشهر الذي يسير به المسلم في كل طرق التقوى بشكل عفوي، ففيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وفيه تكثر الصدقات، وتزداد الأعمال الصالحة، وتكثر تلاوة القرآن، فما ينتهي شهر رمضان إلا وقلب المسلم قد امتلأ نوراً وإيماناً وتقوى، وتحلى بأحسن الأخلاق، وتلذذ بطاعة الله وعبادته. والصوم شكر لله تعالى من حيث كونه عبادة، والعبادات مطلقاً شكر من العبد لمولاه على النعم التي لا تحصى .. والله عزَّ وجلَّ يعلمنا بالصوم كيف نحافظ على أداء الأمانة ولا نضيعها أبداً، ولا نفرط فيها، وذلك بالأمر بالإمساك عن الطعام والشراب أثناء الصيام. وفي الصيام تصفو نفس العبد وتخلص روحه من صفة البهيمية، وترتقي إلى صفة الملكية التي مزاجها الطاعة ولزوم العبودية .. وفي الصوم صحة البدن وخلوصه من الأخلاط الرديئة .. وفي الصوم إضعاف

لشهوة الجماع التي تزداد مع الأكل والشرب وإطلاق النظر .. والإنسان إذا صام وذاق مرارة الجوع حصل عنده عطف ورحمة على الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم من القوت فتصدق عليهم وأحسن إليهم. والبدن مع العمل يكل، فيجب أن تستريح الأعضاء وقتاً من الأوقات لتستعيد نشاطها وقوتها مرة أخرى، فمن رحمة العزيز العليم أن جعل للمعدة وقتاً تستريح فيه كما يستريح غيرها. والصوم قمع للنفس عن شهواتها، ومن استطاع قمع نفسه ومنعها من الأكل استطاع منعها من الحرام والإجرام والإفساد، والانهماك في الطعام والشراب والملاذ يطغي النفوس، ويجعلها لا ترحم الضعفاء، ولا تعطف على البؤساء؛ لأنها لا تحس بما هم فيه من ألم المسغبة والفاقة. فيجب أن يشعر العبد أثناء الصوم أنه هبط إلى الفقير في حالته الغذائية، فيعرفها ليشفق عليه. وكثير من الناس يشكون من سوء التغذية، وسببها عند الأغنياء يرجع إلى زيادتها، وعند الفقراء إلى نقصها المعيب. والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده المؤمنين أن يكون شهر رمضان شهر زهد وتعبد، وبر بالفقراء والبائسين، وصون للمعدة واللسان والقلب، وتطهير للجسد من الأخلاط، وتطهير للروح من سوء الأخلاق. فما أعظم منافع شهر الصيام وما أكثر بركاته، وإن الناس لفي حاجة إلى العلم بحكمة العبادات قبل التعبد بها أكثر من حاجتهم إلى معرفة أحكامها. والله يقول: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184]. وإذا كان الربيع يكسو الأشجار أوراقها وأزهارها، ويبسم الوادي بعد أن كان خشناً يابساً، فكذلك رمضان في الشهور نال من إكرام الله ما لم ينله شهر سواه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

فهو وحي السماء إلى النفوس يهتف بها إلى داعي الله، ويحفزها إلى طريق الحياة، ويهديها إلى سبل البر والرشاد والنجاة، ويذكرها بما في دين الله من رحم وتواصل، وإخلاص وتنافس في الأعمال الصالحة، ويعظها أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وفي الصيام تشعر النفس الإنسانية أن هؤلاء البشر كلهم على تفاوت درجاتهم واختلاف أمزجتهم متساوون في الاحتياج إلى الطعام والشراب. والصوم الذي فرضه الله على المسلمين جميعاً الغني منهم والفقير، والأمير والحقير، والذكر والأنثى، يعظ بوجوب تغليب سلطان العقل على سلطان البطن، وسلطان البصر، وسلطان السمع، وسلطان الشهوات، وسلطان الغفلة. والمقصود من الصوم التقوى التي يحصل بها كف جميع الجوارح عن مباشرة كل ما يحرم فعله شرعاً، ويتم ذلك بأمور: أحدها: غض البصر عن الاسترسال في النظر إلى ما يشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وما ينسي الإنسان ذكر الآخرة. الثاني: حفظ اللسان عن النطق بالفحش والهذيان، والكذب والغيبة، ولزوم الصمت وعدم النطق إلا بما يحبه الله من ذكر الله، وتلاوة القرآن، والنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه من غيبة ونميمة، وفحش وقول الزور ونحوها. الرابع: كف بقية الجوارح عن المحرمات والمكاره، وحفظ البطن وقت الإفطار عن الشبهات والمحرمات، فلا يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو على طعام مكتسب بغير وجه حلال. الخامس: أن لا يكثر من الطعام وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه؛ لأن امتلاءه يهيج النفس البهيمية، ويبعث فيها الشهوة التي كانت راكدة خاملة طول النهار، وروح الصوم وسره إضعاف هذه القوى التي هي وسائل الشيطان في إفساد البشر.

ومتى ضعفت تلك الوسائل قوي القلب، وزالت عنه الحجب، ونظر بعين البصيرة إلى جلال الملكوت وجماله، ومواطن رحمته، وسوابغ نعمه، وآلائه وإحسانه، فانقاد لطاعته، وامتثال أوامره، وهذا لب العبودية وروحها. السادس: أن يكون قلب الصائم بعد فطره بين الرجاء والخوف؛ لأنه لا يدري هل قبل صيامه أم لم يقبل، وهكذا في كل عمل صالح يكون العبد راجياً ربه، وخائفاً من عدم قبول عمله. فروح الصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج وسائر المفطرات، وحبس القلب والفكر عما سوى الله تعالى، فلا يفكر في شيء من أمور الدنيا إلا فيما لا بدَّ منه من مصلحة أو منفعة واجب قضاؤها. وقد خص الله سبحانه الصوم بأنه له، وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البر كلها له، وهو يجزي بها؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل فتكتبه الملائكة الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم والمشرب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» متفق عليه (¬1). والصوم منه ما هو واجب كصيام رمضان، ومنه ما هو تطوع كصيام النفل. وكما أوجب الله صيام رمضان لمصلحة العباد، فقد رغب في صيام النفل؛ تكميلاً للفرض، وقياماً بما يحبه الله، وسداً لما عساه أن يقع من خلل في الصوم الواجب، وتزوداً من الطاعات. وصيام التطوع كصوم يوم الإثنين، وثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة لغير حاج، وصوم يوم عاشوراء، وصوم ستة أيام من شوال ونحوها. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1846)، ومسلم برقم (1151) واللفظ له.

وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون من صيام التطوع، فداود - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أحب الصيام إلى الله، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم. ولقد كان من رحمة الله أن فرض الصوم على هذه الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة على البشرية، وللشهادة على الناس، وجعله ركناً عظيماً من أركان الإسلام الخمسة. فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها؛ إيثاراً لما عند الله من الرضا والرضوان والجنان. فما أعظم صبر المسلم على الصيام، وإمساكه عن الطعام والشراب، والرغائب والشهوات تتناثر من حوله، وألوان المغريات تهتف به، إن ذلك تربية للمسلم على تقديم أوامر الله على محبوبات النفس، وإعداد له للثبات أمام الأعداء في الخارج كما ثبت وقمع نفسه عن شهواتها في الداخل. والصائم لصفاء روحه وقلبه أكثر الناس ذكراً، وأحسنهم توجهاً إلى ربه، وأقرب الدعاة استجابة، ولذلك جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام في القرآن كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وصلاح القلب واستقامته بإقباله بالكلية على ربه وأنسه به، ولما كان فضول الطعام والشراب، والكلام والمنام، وفضول مخالطة الأنام مما يقطعه عن ربه، ويزيده شعثاً، ويشتته في كل واد، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات التي تعوقه عن سيره إلى الله تعالى. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده عكوف القلب على الله، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن غيره.

وشرع للأمة حبس اللسان والجوارح عن كل ما لا ينفع في الآخرة، وشرع لهم قيام الليل، وتلاوة القرآن، الذين تحصل بهما منفعة القلب والبدن. فما أعظم فضل شهر الصيام، وما أعظم أجر من صامه وقامه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه (¬3). اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (38) واللفظ له، ومسلم برقم (760). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (37) واللفظ له، ومسلم برقم (759). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257) واللفظ له، ومسلم برقم (1152).

4 - فقه الحج

4 - فقه الحج قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 97]. وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]. الحج ركن من أركان الإسلام، وهو مؤتمر المسلمين الجامع على مستوى العالم، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس. لهم نسب واحد هو الإسلام .. ولهم صبغة واحدة هي شعائر الإسلام وشرائعه وأخلاقه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها الحُمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب، ومن ذلك أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يخرجون من الحرم، ولا يفيضون مع الناس. فجاءهم الأمر من الله ليردهم إلى المساواة التي أرادها الله، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس، والتوبة من تلك الذنوب كما قال سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 198، 199]. فالعامة والخاصة، والأغنياء والفقراء، والذكور والإناث، والسادة والعبيد،

كلهم جميعاً أمام أوامر الله سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، يصلون كلهم جميعاً بلا استثناء، ويصومون معاً، ويمتثلون أوامر الله معاً في جميع شئون الحياة، ويطيعون الله ورسوله في كل أمر. لقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخواناً مكرمين متساوين في الطاعة والعبودية: رب واحد .. ودين واحد .. وكتاب واحد .. ورسول واحد. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقد جعل الله الكعبة البيت الحرام أول بيت وضعه الله للناس، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم، وتقال عثارهم، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم، والفوز بثوابه، والنجاة من عقابه كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 96، 97]. ففي حج هذا البيت بركات ومنافع دينية ودنيوية .. وفيه هدى للعالمين. والهدى نوعان: هدى في المعرفة .. وهدى في العمل. فالهدى في العمل هو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق، ومعرفة عظمة الرب وجلاله، ومعرفة حكمته وسعة علمه ورحمته، وما مَنّ به على أوليائه وأنبيائه. وقد أوجب الله حج بيته الحرام على كل مسلم يستطيع الوصول إليه، وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت، وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها، فوصفه بخمس صفات: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض.

الثاني: أنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيراً منه، ولا أدوم ولا أنفع للخلائق منه. الثالث: أنه هدى للعالمين في كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. الرابع: ما فيه من الآيات البينات والعبر العظيمة التي تزيد على أربعين آية. الخامس: حصول الأمن لداخله، فالناس والوحوش والأشجار كلهم في أمان داخله. ثم أتبع سبحانه ذلك بصريح الوجوب المؤكد، وذلك يدل على عناية الله بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره وتعظيم من طاف به، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً كما قال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26]. وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وساقت نفوسهم حباً له، وشوقاً إلى رؤيته. فهذه المثابة للمحبين له يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازداد إيمانهم، وحسنت أخلاقهم، وازدادت أعمالهم الصالحة. وكلما تكرر ذلك ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]. هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروَّعوا المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره، لقد أراده الله مثابة يثوب إليه الناس جميعاً من أقطار الأرض كلها، فلا يروعهم أحد، بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام، ومن أَمَّهُ معظماً لربه فهو آمن، فليؤم

الناس هذا البيت الذي يذكر بالله وشرعه وأنبيائه ورسله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 3، 4]. وليقتدوا بأنبياء الله ورسله في عبادتهم لربهم، وإخلاصهم له، ويقينهم عليه، وفي دعوتهم إلى الله، وجهادهم في سبيله، وبذل ما يملكون في سبيل إعلاء كلمته، وإقامة شريعته، وفي حسن أخلاقهم، وكمال عبوديتهم. فهؤلاء الذين اختارهم الله رسلاً إلى خلقه هم قدوة البشر: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. فهم أئمة الدعوة والعبادة، السابقون لها، الموفون حقها، فلذلك اختارهم الله من بين خلقه يبلغون شرعه، ويقتدى بهم في سيرتهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء: 73]. وسعادة الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم بالله وعبادته وحده لا شريك له، واجتماع كلمتهم على الحق والهدى، وبعدهم عن الفرقة والخلاف، وهذه من أَجَلِّ نعم الله على العباد كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. وقد أرسل الله عزَّ وجلَّ نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - والعرب في خصام وتنافر، وتقاطع وتدابر، القلوب ملؤها الأضغان والأحقاد، والحروب بينهم متصلة، ونيرانها مشتعلة، يعبدون الأوثان، ويقترفون الآثام، ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق. فأمر الله رسوله أن يؤلف بين القلوب، ويسلك بهم طريق التآلف والوئام، ولما كانت هذه الطريق غير كافية لانتظام شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم،

وجعلهم كالرجل الواحد في الإلفة، إذ هم متفرقون في مشارق الأرض ومغاربها، كما أنهم مختلفون من جهة العناصر واللغات، لذا شرع الله لهم الحج ليجتمعوا في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأقطارهم كما قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27]. فإذا اجتمعوا من أماكنهم الشاسعة عند بيته العتيق حصل بينهم التعارف والتآلف تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، واجتمعت كلمتهم على الحق والهدى، وتبادلوا في هذا اللقاء العظيم ما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، وعرف بعضهم أحوال بعض. فنشأ من ذلك الزيارات النافعة في الدعوة والتعليم، والصدقات على الفقراء والمحتاجين، والتراحم والتناصر، والتعاون على البر والتقوى تحقيقاً لقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2]. وقد شرع الله العبادات إظهاراً لحق العبودية، ولحق شكر النعمة، وفي الحج إظهار العبودية وشكر النعمة وحسن الطاعة. أما إظهار العبودية فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه، وطوافه وسعيه، ووقوفه بعرفات والمزدلفة ومنى، وغير ذلك من مناسك الحج يظهر عبوديته لربه بشعث حاله، وتنقله من مكان إلى مكان تنفيذاً لأوامر مولاه. وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه، فوقف بين يديه متضرعاً منكسراً، حامداً له مثنياً عليه، مستغفراً لزلاته، مستقيلاً لعثراته. وفي الطواف بالبيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه، بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بجنابه. وأما شكر النعمة، فلأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا

تقوم إلا بالبدن والمال، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً. والحج مدرسة جامعة لكل خير، يتعود فيها المسلم على الصبر، ويتذكر فيها اليوم الآخر وأهواله، ويستشعر فيه لذة العبودية لله، ويعرف عظمة ربه وجلاله، وخضوع الخلائق بين يديه، وشدة حاجتهم إليه. والحج موسم كبير لكسب الأجور، تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، يقف فيه الحاج بين يدي ربه مقراً بتوحيده، معترفاً بذنوبه، مقراً بعجزه عن القيام بحق ربه، ممتثلاً لأمر ربه، فيرجع من الحج نقياً من الذنوب كيوم ولدته أمه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ اُمُّهُ» متفق عليه (¬1). اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم طهر قلوبنا من النفاق .. وألسنتنا من الكذب .. وأعيننا من الخيانة .. وجوارحنا من المعاصي .. إنك على كل شيء قدير. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1521) واللفظ له، ومسلم برقم (1350).

8 - فقه الذكر والدعاء

8 - فقه الذكر والدعاء قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. الذكر: هو أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها، فإنها ما شرعت إلا لتعين على ذكر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. وقوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45]. وأنواع الذكر ثلاثة: ذكر أسماء الله وصفاته، والثناء على الله بها، وتوحيده بها .. وذكر الأمر والنهي .. وذكر الآلاء والنعماء. وقد وعد الله عزَّ وجلَّ بذكر من ذكره، ونسيان من ينساه كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]. وقال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]. وبين الله صفة الذكر بقوله سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205]. وذكر الله عزَّ وجلَّ هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره، ونحبه ونعظمه. وطمأنينة القلب تحصل بذكر الله، فالذكر المستمر يملأ القلب إيماناً: {الَّذِينَ

آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وكل عبادة لها وقت معين كالصلوات والصيام والحج ونحوها، أما الذكر فهو العبادة المفتوحة المشروعة في جميع الأوقات. تسبيحاً لله، وتعظيماً له، وحمداً له، وتلاوة لكتابه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أحْيَانِهِ. أخرجه مسلم (¬1). فالمسلم يذكر الله بلسانه نطقاً، ثم بقلبه اعتقاداً، ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه. والهدف من ذكر الله عزَّ وجلَّ هو إحياء جميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان بالله، وتوحيده، وحسن عبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والذكر روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. والدعاء: هو العبادة. والله عزَّ وجلَّ هو الحي القيوم، الملك الذي يملك كل شيء، الغني وما سواه فقير، يعطي ويمنع، ويكرم ويهين، ويحيي ويميت، ويعز ويذل. وأعظم ما يسأل العبد ربه الهداية إلى الصراط المستقيم. ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، عَلّم الله عزَّ وجلَّ عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم الإقرار بعبوديتهم وتوحيدهم له كما قال ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (373).

سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 2 - 6]. فهاتان وسيلتان لحصول مطلوبهم لا يكاد يرد معهما الدعاء: توسل إلى الرب بأسمائه وصفاته .. وتوسل إليه بعبوديته. ثم جاء سؤال أهم المطالب وهو الهداية، فالداعي بذلك حقيق بالإجابة كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. والله تبارك وتعالى هو الملك العظيم الحي القيوم، الذي لا ينام ولا ينبغي أن ينام: يجيب السائلين .. ويسمع الذاكرين .. ويغفر للمستغفرين .. ويتوب على التائبين .. وسع سمعه جميع المسموعات، ووسع بصره جميع المخلوقات كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬1). وأنفع الدعاء طلب العون على مرضاة الله كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ وَاللهِ إِنِّي لأَُحِبُّكَ وَاللهِ إِنِّي لأَُحِبُّكَ فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ وَأَوْصَى بِذَلِكَ مُعَاذٌ الصُّنَابِحِيَّ وَأَوْصَى بِهِ الصُّنَابِحِيُّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (179). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (771)، صحيح الأدب المفرد رقم (533). وأخرجه أبو داود برقم (1522)، واللفظ له، صحيح سنن أبي داود رقم (1347).

والله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا سأله حاجة وهي الإنظار إلى يوم القيامة فأعطاه إياها ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاة الله وطاعته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله. وهكذا كل من سأل ربه أمراً ولم يكن عوناً على طاعته كان مبعداً له عن مرضاته قاطعاً له عنه ولا بدَّ. والعطاء والمنع ابتلاء من الله لعباده فلا يدل على الإكرام ولا الإهانة. وإذا أعطى الله عبده عطاءً بلا سؤال فليسأله أن يجعله عوناً له على طاعته ومرضاته، ولا يجعله قاطعاً عنه، ولا مبعداً عن مرضاته. والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء. وسع الخلق كلهم بخلقه وعلمه ورزقه، وفضله ورحمته وإحسانه كما قال سبحانه: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ

فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). وأفضل الدعاء ما جمع بين التضرع والخفية، وإخفاء الدعاء أكمل إخلاصاً، وأعظم إيماناً، وأبلغ في التضرع والخضوع والخشية، وأعظم في الأدب والتوقير والتعظيم لله عزَّ وجلَّ، وأبلغ في جمعية القلب، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب. وإخفاء الدعاء يدل على قرب صاحبه من ربه، والله سميع قريب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقد أمر الله عباده أن يسألوه كل شيء من خيري الدنيا والآخرة، فهو الغني الذي خزائنه مملوءة بكل شيء، ولا ينقص عطاؤه مما في خزائنه مثقال ذرة: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]. والاعتداء في الدعاء محرم لا يجوز كما قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]. والاعتداء في الدعاء له صور: كأن يسأل العبد ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات. أو يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء والمرسلين. أو يسأل ما أخبر الله أنه لا يفعله لمنافاته الحكمة كأن يسأل ربه تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يطلعه على الغيب، أو يهب له ولداً من غير ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

نكاح، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله. ومن الاعتداء رفع الصوت بالدعاء، وأن يعبد الله بما لم يشرعه، أو يثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، أو يدعوه غير متضرع إليه. ومن الاعتداء أن يدعو مع الله غيره، فهذا أعظم المعتدين عدواناً، فإن أعظم العدوان الظلم والشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها. فكل سؤال يناقض حكمة الله .. أو يتضمن مناقضة شرعه وقدره وأمره .. أو يتضمن خلاف ما أخبر به .. فذلك كله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. ومن دعا الله أجابه، وليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله. فالله سبحانه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي. وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه، أو يشترط في دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح مرضي لله، ويكون بمنزلة من أملي له، وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله يسارع له في الخيرات كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56]. فلا يغتر العبد بما يعطى من الأموال والبنين وهو معرض عن ربه، منهمك في معاصيه، فذلك استدراج، به هلاكه وخسارته: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. فالدعاء له حالتان: إما أن يكون عبادة يثاب عليه الداعي كسؤال الله الإعانة والمغفرة ونحوهما، أو يكون مسألة تقضى به حاجته، ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضي حاجته، ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه سبحانه، وتجاوز حدوده.

والشيطان له تلطف في الدعوة، فيدعو الناس إلى الدعاء عند قبور الصالحين، فيدعو العبد ربه عند القبر بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه، لا لأجل القبر. فإنه لو دعا الله في الخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً. فالشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، ثم ينقل الإنسان من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وأن هذا أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجح في قضاء حاجته. ثم ينقله إلى أعلى من ذلك، وهو دعاء الميت نفسه من دون الله، ثم ينقله إلى درجة أعلى فيتخذه وثناً يعكف عليه، ويتخذ عليه السرج، ويوقد عليه القناديل، ويبنى عليه المسجد، ويعلق عليه الستور، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله أو استلامه، والحج إليه، والذبح عنده. ثم ينقله إلى درجة أخرى أشد، وهي دعاء الناس إلى عبادة هذا الوثن من دون الله، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم ينقله إلى درجة أخرى، وهي محاربة ومعاداة من أنكر ذلك الشرك والكفر، وإثارة الناس والطغام عليه. ولشدة خطر الشيطان، وعظمة كيده ومكره، فقد حذر الله المؤمنين منه بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وخطوات الشيطان يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والبدن، فليحذر العبد هذا العدو المبين الماكر. وإذا دعا المسلم ربه استجاب له كما قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}

[غافر: 60]. ويمنع إجابة الدعاء أمور منها: أكل الحرام .. الاعتداء في الدعاء .. غفلة القلب .. وضعف اليقين .. واللبس الحرام .. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. والظلم. فإذا دعونا دعاء الأنبياء، وكانت حياتنا حياة أعداء الأنبياء، أو جهدنا جهد أعداء الأنبياء، فأنى يُستجاب لنا أو يُقبل دعاؤنا؟. وأفضل الدعاء وأعظمه وأحسنه طلب الهداية من الله، ولذلك شرع الله لنا تكرار طلبه في كل صلاة عدة مرات كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. وأفضل الدعاء دعاء الأنبياء والرسل، وكله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض، إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى، تحركه مشاعر أصفى، لطلب العلم النافع، والعمل الصالح، والفوز بالجنة والرضوان. إنه دعاء القلب الذي عرف الله وعرف ما عنده فأصبح يحتقر ما عداه كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 83 - 89]. وفي مقام آخر: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 127، 128]. والله تبارك وتعالى خلق الناس فقراء كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. فالخلق كلهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه: فقراء إلى الله في خلقهم، فلولا خلقه لهم لم يوجدوا.

فقراء إلى الله في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح. فقراء إلى الله في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة. فقراء إلى الله في جلب المنافع لهم، وصرف النقم والمكاره عنهم. فقراء إلى الله في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم. فقراء إلى الله في تألههم لله، وحبهم له، وعبادتهم إياه. فالخلق كلهم فقراء إلى الله بالذات، فلو لم يوفقهم لهلكوا، ولولا توفيقه لم يصلحوا، والله وحده له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بسؤاله تارة .. وبسؤال أهل الذكر تارة. فنسأل الله الهداية، وكل ما نحتاجه من خيري الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. ونسأل العلماء وأهل الذكر عما اختصهم الله به، وأئتمنهم عليه من أحكام الدين ومسائله في شعب الحياة كلها كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]. وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف نسأل الله، وبين كيفية السؤال. فتارة يكون بصيغة الطلب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وتارة يسأل بصيغة الخبر: إما بوصف حاله كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص: 16]. وإما بوصف حال المسؤول سبحانه، كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3513)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2789). وأخرجه ابن ماجه برقم (3850)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3105).

وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]. وتارة بوصف حال الداعي والمدعو سبحانه، كدعوة ذي النون: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. وأكمل أنواع الطلب: ما تضمن حال الداعي .. وحال المدعو .. والسؤال بالمطابقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا - (وَقَالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا) وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (¬1). وأمهات مطالب السائلين من رب العالمين أربع: إما خير موجود .. فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه كالإيمان والأعمال الصالحة. وإما خير معدوم .. فيطلب وجوده وحصوله كالوصول إلى الجنة. هذا ما يتعلق بالخير .. أما الشر فنوعان: شر موجود .. فيطلب من ربه رفعه كالذنوب والسيئات. وشر معدوم .. فيطلب بقاءه على العدم، وأن لا يوجد. وقد جاءت هذه المطالب كلها في قوله سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 193، 194]. فقوله سبحانه: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} لطلب دفع الشر الموجود، فإن الذنوب والسيئات شر. وقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} لطلب دوام الخير الموجود وهو الإيمان. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705) واللفظ له.

فهذان قسمان: ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} فهذا طلب الخير المعدوم أن يؤتيهم إياه. ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلب ألا يوقع بهم الشر المعدوم. وهذا غاية الحسن في الطلب، فقدم اللذين في الدنيا وهما المغفرة، ودوام الإسلام، ثم أتبعه بما في الآخرة أن يعطوا ما وعدوه، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بدخول النار. وما يحتاج العباد قسمان: أحدهما: ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا لا يطلب إلا منه سبحانه، فهو القادر عليه وحده دون سواه مثل: غفران الذنوب .. وهداية القلوب .. وإنزال المطر .. وإنبات النبات .. وشفاء المرض .. ونحو ذلك من جلب المنافع .. ودفع المضار. الثاني: ما يقدر عليه الناس، فيستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من النصر والعون، والبذل والعطاء، ونحو ذلك. فالأول لا يطلب إلا من الله وحده، ومن طلبه من غيره فقد أشرك، والثاني يطلب من الله ومن غيره ممن يقدر عليه. والمأمور به شرعاً سؤال الله تعالى، والرغبة إليه، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). وسؤال الخلق ما يستطيعونه من الحاجات في الأصل محرم، لكنه أبيح ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669). وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59]. وفي سؤال الخلق ثلاث مفاسد: الأولى: مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي نوع من الشرك. الثانية: مفسدة إيذاء المخلوق، وهي نوع من ظلم الخلق. الثالثة: مفسدة ذل العبد لغير خالقه، وهي ظلم للنفس. والأمر في القرآن قسمان: الأول: ما ورد بصيغة الأمر موجهاً من المخلوق إلى الخالق فهو دعاء؛ لأن المخلوق لا يأمر الخالق، بل يدعوه ويسأله كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]. وقوله سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 286]. الثاني: ما ورد بصيغة الأمر موجهاً من الخالق إلى المخلوق، فهذا أمر بطلب فعل أو طلب ترك كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]. والله سبحانه محمود على كل حال فكل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، والله أرحم بالعباد من الوالدة بولدها. فإذا دعاه العبد ولم يستجب له فذلك لتفريط العبد وعدوانه، بأن لا يكون العمل الذي عمله صالحاً، أو يكون له من السيئات ما يؤخر الإجابة. والعبد ظالم جاهل عجول، يعتقد أنه قد أتى بما يستوجب كمال التقريب، ولعل الذي أتى به إنما يستوجب اللعنة والغضب والحرمان، فهو بمنزلة من معه نقد

مغشوش فجاء ليشتري متاعاً فلم يبيعوه، فظن أنهم ظلموه وهو الظالم، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]. والناس في تحصيل مرادهم بالأسباب والدعاء أربعة أقسام: الأول: من فعل الأسباب التي نصبها الله مفضية إلى المطلوب، وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلاً، بل سؤال بائس ليس له حيلة ولا وسيلة، فهذا أعلم الخلق وأحزمهم وأفضلهم. الثاني: من لم يفعل السبب، ولم يسأل ربه، فهذا أعجز الخلق وأمهنهم. الثالث: من فعل الأسباب، وصرف همته إليها، وقصر نظره عليها، فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله عليها، لكنه منقوص، ولا يحصل له ما يريد إلا بجهد، فإذا حصل فهو سريع الزوال. الرابع: من نبذ الأسباب وراء ظهره، وأقبل على الطلب والدعاء، فهذا يحمد في موضع، ويذم في موضع، ويشينه الأمر في موضع. فيحمد إذا كانت الأسباب غير مأمور بها .. ويذم إذا كانت الأسباب مأموراً بها .. كمن جهده العطش وعنده الماء فيتركه ويقبل على الدعاء، ويسأل الله أن يرويه .. ويشينه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها. والدعاء بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح تاماً لا آفة به، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من الثلاثة تخلف الأثر. والدعاء سلاح المؤمن ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وبقدر قوة اليقين على الله وأسمائه وصفاته، والاستقامة على أوامر الله، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، تكون إجابة الدعاء، وحصول المطلوب. وأسباب إجابة الدعاء كثيرة أهمها: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ .. وأن يبدأ بحمد الله تعالى .. ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الدعاء وآخره .. وحضور القلب أثناء الدعاء .. وخفض الصوت بالدعاء ..

والاعتراف بالذنب .. والاستغفار منه .. والاعتراف بالنعمة وشكر الله عليها .. والإلحاح في الدعاء .. وتكريره ثلاثاً .. وعدم استبطاء الإجابة .. والجزم في الدعاء مع اليقين بالإجابة .. وعدم الاعتداء في الدعاء، وأن لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم. ومنها: أن يكون مطعمه ومشربه وملبسه حلال .. ولزوم التضرع والخشوع .. والطهارة من الحدث والخبث .. ورفع اليدين إلى المنكبين وبطونهما نحو السماء، وإن شاء قنع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة .. واستقبال القبلة أثناء الدعاء .. والدعاء في الرخاء والشدة .. والدعاء بالأدعية التي هي مظنة الإجابة كما ثبت. فهذه ثلاثون سبباً لا بدَّ من العلم بها، والعمل بمقتضاها؛ ليتم حصول المطلوب للعبد عند سؤاله لربه، وقد جعل الله لكل شيء سبباً. والدعاء من أقوى الأسباب في حصول المطلوب، ودفع المكروه، ولكن قد يتخلف عنه أثره لأسباب: إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله تعالى وقت الدعاء. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والاستعجال، وتراكم الذنوب على القلب، والغفلة ونحو ذلك. والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل أو يخففه. وللدعاء مع البلاء ثلاث حالات: الأولى: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه ويدمغه. الثانية: أن يكون الدعاء أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء. الثالثة: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وأفضل أحوال الدعاء حالة إقبال القلب على الله عزَّ وجلَّ. وإذا حصل الدعاء، فالله يعطي للعبد أحد خمسة أشياء:

إما أن يعطي السائل حالاً .. أو يؤخره ليكثر المسلم من البكاء والتضرع .. أو يعطيه شيئاً آخر أنفع له من سؤاله .. أو يدفع به عنه بلاء .. أو يؤخره إلى يوم القيامة أحوج ما يكون إليه العبد، فلا نستعجل: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3]. والله سبحانه هو الغني لذاته، الكريم لذاته، له الجود كله، يحب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه، فخلق من يسأله، وألهمه سؤاله، وخلق له ما يسأله إياه. فهو سبحانه خالق السائل وسؤاله ومسئوله، وذلك كله لمحبته سؤال عباده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه. فأحب خلقه إليه وأفضلهم عنده أكثرهم سؤالاً له، وهو سبحانه يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه، وأعطاه من خيري الدنيا والآخرة. فكم سائل لله في العالم العلوي والسفلي؟ .. وكم من سؤال سئل؟ .. وكم من دعوة أجابها؟ .. وكم عثرة أقالها؟ .. وكم من رحمة أنزلها؟ .. وكم من كربة كشفها؟ .. وكم من جبار قصمه؟ .. وكم من ذليل أعزه؟ .. وكم من مريض شفاه؟ .. وكم من جاهل علمه؟ .. وكم من فقير أغناه؟ .. وكم من سائل أعطاه؟ .. وكم من ضال هداه؟. فسبحانه ما أعظمه، وسبحانه ما أكرمه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. وسبحانه ما أوسع رزقه: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

فما أعظم جناية وعقوبة من كفر بالله، وأعرض عن دينه وشرعه، وحارب رسله وأولياءه، وما أشد ظلمهم، فماذا ينتظر هؤلاء من عذاب الله؟ وماذا أعد الله لهم من العذاب الأليم؟. {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. فهل ذلك خير أم جنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} [الفرقان: 15، 16]. لهم فيها ما يشاؤون من المطاعم المتنوعة .. والمشارب اللذيذة .. والملابس الفاخرة .. والنساء الجميلة .. والقصور العالية .. والحلي الجميلة .. والمساكن الواسعة .. واللحوم اللذيذة .. والفواكه التي تسر ناظريها وآكليها .. وسرر مرفوعة .. وأكواب موضوعة .. ونمارق مصفوفة .. وزرابي مبثوثة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. والأنهار تجري أمامهم في رياض الجنة، أنهار من ماء غير آسن .. وأنهار من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين .. وأنهار من عسل مصفى .. وروائح طيبة .. ومساكن مزخرفة .. وأصوات شجية تأخذ القلوب والألباب .. وأمن ونعيم وخلد. وفوق ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم، وسماع كلامه، والحظوة بقربه، والسعادة برضاه.

هذا كله كان على ربك وعداً مسئولاً: يسأله إياه عباده المؤمنون، ويسأله لهم ملائكته، والجنة تسأل ربها أهلها، وأهلها يسألونه إياها، والملائكة تسألها لهم، والرسل يسألونه إياها لهم ولأتباعهم. ويوم القيامة يقيمهم سبحانه بين يديه، يشفعون فيها لعباده المؤمنين، ويسألونه أن يدخلهم إياها، ويأذن لهم بالتمتع بما فيها من النعيم. وحينذاك يتفضل الرب بإجابة تلك السؤالات، ويأذن لهم بدخولها، ويقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 34، 35]. ويقال لهم كذلك: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 70 - 72]. وفي هذا من تمام ملكه، وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه، وإعطائه ما سئل، ما هو من لوازم أسمائه وصفاته، فهو الكريم المحسن إلى عباده، ذو الفضل العظيم والخير العميم. فلا إله إلا الله .. أي جناية جنت العقول الفاسدة على الناس؟ وأي جريمة أوقعتها بالبشرية حين منعتهم من الإيمان؟. وأي ظلم ظلمته البشرية حين حالت بين القلوب وبين معرفة ربها بأسمائه وصفاته وأفعاله، وحرفتهم عن عبادة الله، وحرمتهم من الوصول إلى الجنة دار رضاه. فلله ما أشد جرم هؤلاء، وما أعظم خطرهم على البشرية، وما أشد عقوبتهم يوم القيامة: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. فسبحان العليم الحليم الكريم .. وسبحان من له الملك والحمد كله، فهو

المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محموداً، فيهبه حمداً من عنده. وقد أنزل الله هذا القرآن العظيم لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشرع شريعة فحسب، ولكن كذلك ليربي أمة على أجمل الصفات وأحسنها. فالله هو الذي أنزل الشريعة، وهو الذي يعلم حاجة العباد، فمن الأدب أن يترك العبيد لربهم تفصيل الشريعة وبيانها، وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره، وأن يقفوا في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها الله ولا يشددوا على أنفسهم بتكلف ما لا يعينهم، ولا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله لهم منه وما هم ببالغيه. والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم، فيشرع لهم في حدود طاقتهم، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم. وقد نهى الله المؤمنين عن أن يسألوا أشياء يسوؤهم الكشف عنها فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ» متفق عليه (¬1). فالمعرفة في الإسلام تطلب لمواجهة حاجة واقعية في حياة البشرية، والأحكام الشرعية تطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام. وفي طوال العهد المكي لم ينزل حكم شرعي تنفيذي، وإنما تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال، ولكن الأحكام العملية كالعبادات والمعاملات لم تنزل إلا بعد أن امتلأت القلوب بالإيمان، وجاء عند المسلمين الاستعداد لقبولها والعمل بها بعد الهجرة إلى المدينة. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337) واللفظ له.

وكذلك الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تنزل إلا بعد قيام الخلافة في الأرض، التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام بعد الهجرة إلى المدينة. وجميع الأنبياء والرسل قدموا الشكوى إلى الله وحده، فنوح توجه إلى ربه يشكو إليه قومه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} [القمر: 10 - 13]. فأنجاه الله ومن آمن معه، وأغرق من كفر به. وقال يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} [يوسف: 86]. ويونس نادى ربه فأنجاه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ودعا ربه كما دعا في بدر فنزل النصر، وكما استسقى في المدينة فنزل الغيث .. وهكذا. فهل يليق بالعاقل إذا أصابته مصيبة وأراد حلها أن يذهب للمخلوق الصغير الفقير الذي ليس بيده شيء، ويترك الخالق الغني الكبير الذي بيده خزائن كل شيء، وهذا المخلوق المسؤول من حاكم أو وزير أو تاجر ذرة من خزائنه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. فسبحان الملك العزيز الجبار الغني الكريم، الذي فتح أبوابه للسائلين، وملأ خزائنه للعالمين، وهي مع جزيل العطاء لا تنقص إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ،

مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه» أخرجه مسلم (¬1). وسبحان الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وما في قعر البحر. ويعلم منبت كل شعرة وحبة وشجرة، وكل زرع ونبات وثمرة، ويعلم كل ذرة وخردلة وورقة، وعدد كل كلمة ونفس، ويعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار. ويعلم ما في القلوب وما في الصدور، والسر والجهر، ويعلم أعمال العباد وحاجاتهم وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الغني الحميد المجيد. فهل يليق بالإنسان فضلاً عن العاقل، فضلاً عن المسلم أن يسأل غير الله الغني الحميد، ويقف بباب المخلوق العاجز الهزيل الضعيف؟. فما أجهل وما أسفه من أعرض عن العلي العظيم، الغني الكريم، وتعلق وتضرع أمام العاجز الفقير: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

إن كل من سأل أو دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك ظالم ضال، والعيان يصدق هذا، فإن المخلوقين إذا اشتكى إليهم الإنسان فضررهم أقرب من نفعهم؛ لما فيهم من الظلم والجهل والحسد. فما أضل من يترك سؤال ربه ويدعو سواه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 12، 13]. والخالق جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره إذا اشتكى إليه أحد، أو أنزل حاجته به، أو استغفره من ذنوبه، أيده وقواه وهداه، وأعطاه وأغناه، ويسد فاقته وحاجته: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. فهو سبحانه وحده الذي يجيب المضطر الذي أقلقه الكرب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه. وهو سبحانه الذي يكشف السوء من شر وبلاء وفتنة ومصيبة، وهو الذي خلق الخلق، ومكنهم في الأرض، وأمرهم بالرزق: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]. أفلا يستحي الإنسان أن يسأل غير الله، والله قد أمره بسؤاله، وتكفل بإجابة دعائه كما قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله وازدراه، ثم أعرض عنه ونساه -وإن قضى له بعض حاجته- فخسر الدنيا والآخرة. فما أعجب حال هؤلاء، وما أضل عملهم وسعيهم، وما أشد خسارتهم: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} [الشعراء: 213]. فالله وحده هو الغني الحميد، وسؤال المخلوق للمخلوق هو سؤال الفقير

للفقير، وتعلق الغريق بالغريق، والرب سبحانه كلما سألته كرمت عليه، ورضي عنك وأحبك. والمخلوق كلما سألته هنت عليه، وأبغضك ومقتك وقلاك، وقبيح بالعبد الذي كفاه سيده أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كل ما يريد: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} [آل عمران: 189]. وسؤال الناس ما في أيديهم محظور في الأصل، ولا يباح إلا لضرورة كإباحة الميتة للمضطر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْمَسْألَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ). وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ (أوْ قال سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ) فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْألَةِ، يَا قَبِيصَةُ! سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» أخرجه مسلم (¬1). فإن سأل الناس تكثراً فإنما يسألهم جمراً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَألَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم (¬2). وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بسؤاله ودعائه والاستعانة به، والتوسل إليه. والتوسل إلى الله أنواع: أحدها: التوسل بنعم الله تعالى على العبد كما قال يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]. الثاني: التوسل إليه سبحانه بذكر أسمائه وصفاته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1044). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1041).

كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). الثالث: التوسل بإقرار العبد بظلمه وعصيانه لربه، فهذا توسل بأحسن وسيلة، ويرجى له إجابة دعائه كما قال آدم وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ... [الأعراف: 23]. الرابع: التوسل بعرض فقره، وحاجته إلى ربه كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 24]. والدعاء سلاح المؤمن يستخدم وقت الحاجة كالبطاقة. فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - دعا حين ألقي في النار فأنجاه الله. ويونس - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه في بطن الحوت فأنجاه الله. وأيوب - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه حين مسه الضر فكشف الله ضره. والله عزَّ وجلَّ أعطانا الإيمان نستفيد منه في الدنيا في قضاء الحاجات، والدعاء في الأصل ينبغي أن يكون لقضاء الحاجات الدنيوية والأخروية، وكل حاكم عنده سلاح مادي، ولكنه يتوقف أمام دعوة الأنبياء؛ لأنه مخلوق مع مخلوق عاجز، والداعي معه قدرة الله عزَّ وجلَّ، ومعيته التي تغنيه عما سواه. ومقصد المسلم العبادة والدعوة، وهي تزيد بالجهد والعمل كالتجارة تزيد بالجهد والعمل، وحاجات الإنسان لا تزيد الأكل هو الأكل، والشرب هو الشرب، وبجهد الدعوة والدعاء تحصل الهداية ومعية الله. وإذا كان عندنا ألفاظ الدعاء لا حقيقة الدعاء، وصورة العمل لا حقيقة العمل فالله لا يجيب دعاءنا، ونحن الآن بدل أن ندعو للكفار بالهداية ندعو عليهم بالهلاك، فتنزل العقوبة بنا؛ لأننا ظالمون بعدم إيصال الحق إليهم، الذي هو حق لهم، ولو بلغهم لأسلموا وعبدوا ربهم، وصاروا مسلمين بعد أن كانوا كافرين، وجزاء الظالم اللعنة والعقوبة في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (985)، صحيح سنن أبي داود رقم (869). وأخرجه النسائي برقم (1301)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (1231).

ودعاء المسلم ينقسم إلى قسمين: الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تعبد الله بما تقتضيه أسماؤه وصفاته، فالرحيم مثلاً يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها. والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله بالتوبة والاستغفار. والقريب يدل على القرب، وذلك يقتضي أن تتعرض للقرب منه في الصلاة وغيرها. والسميع يدل على السمع، وذلك يقتضي أن تعبد الله بمقتضى السمع، فلا تُسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك .. وهكذا في بقية الأسماء. الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدم أسماء الله عزَّ وجلَّ بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله عزَّ وجلَّ، كأن تقول: يا رحمن ارحمني .. ويا رزاق ارزقني، ويا غفار اغفر لي .. وهكذا. وفي هذا ثناء على الله، والتوسل بصفة المدعو سبب للإجابة. هذا كله فيما يسأله العبد، أما ما يسأل عنه العبد، فالله عزَّ وجلَّ جواد كريم، رحيم بالعباد، أنعم على العباد بنعم لا تعد ولا تحصى، وأعظم هذه النعم هذا الدين الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة، وسوف يسألهم الله عنه مَنْ قَبِله؟، ومن أعرض عنه؟. ومن رحمته سبحانه بعباده أنه لم يجعل هذه الأسئلة مبهمة غير معلومة، بل بينها لنا في الدنيا لنجتهد ونعمل حتى نستطيع الإجابة عليها في مواطنها. وهذه الأسئلة للعبد وردت في القرآن والسنة: فيسأل العبد عن جوارحه كما قال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. ويسأل عن النعيم الذي تنعم به كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]. ويسأل في قبره: من ربك؟ .. من نبيك؟ .. ما دينك؟.

ويسأل يوم القيامة عن أربع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاه» أخرجه الترمذي والدارمي (¬1). ويسأل العبد من كان يعبد كما قال سبحانه: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)} [الشعراء: 91 - 93]. ويسأل عن العبادة كما قال سبحانه: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65]. ويسأل الرسول والمرسل إليهم ماذا عملوا كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]. فيجب على المسلم أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يناقش الحساب في الآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. والمسلم إذا أراد من ربه شيئاً فلا بدَّ له من أمرين: الأول: فعل السبب المأمور به شرعاً، فمن أراد الولد تزوج، ومن أراد الحب زرع، ومن أراد الهداية فعل أسبابها. الثاني: التوجه إلى الخالق بالدعاء لحصول ما يريد، وعدم الالتفات إلى المخلوق. فإن حصل المطلوب وإلا أكثرنا من البكاء والدعاء والصلاة والصيام والصدقة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. والسؤال نوعان: سؤال محمود .. وسؤال مذموم. فالمحمود: هو سؤال الاسترشاد والتعليم، فهذا محمود قد أمر الله به كما قال ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2417)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1970). وأخرجه الدارمي برقم (543)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (946).

سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء: 7]. والمذموم: هو سؤال التعنت والاعتراض، فهذا مذموم قد نهى الله عنه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]. والأسئلة متفاوتة بحسب نية صاحبها، وقد تصل به إلى الكفر كما قال سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108]. وجميع الخلق يسألون الله مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف: فمنهم من يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب؛ لرغبته عنها، وقصر همته على الدنيا. ومنهم من يدعو الله ويسأله لمصلحة الدارين كما قال سبحانه: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة: 200 - 202]. وكل من هؤلاء وهؤلاء لهم نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم الله حسب نياتهم وأعمالهم جزاءً دائراً بين العدل والإحسان، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه. وإجابة الله عزَّ وجلَّ دعاء من دعاه ليست دليلاً على محبته له ورضاه عنه إلا في مهمات الدين، ومطالب الآخرة. والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وولد تقر به العين، وراحة، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المشروعة والمحبوبة والمباحة.

وحسنة الآخرة هي السلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار، وحصول رضا الله، والفوز بالجنة، والقرب من الرحمن ورؤيته. وهذا الدعاء أجمع الدعاء وأكمله، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء به والحث عليه بقوله: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» متفق عليه (¬1). وكل مطلوب للعبد يسأل بالمناسب له من أسماء الله وصفاته، فالعلم يسأل من العليم، والرزق من الرزاق، والعفو من العفو وهكذا. ومن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها، وسر ارتباطها بالخلق والأمر، وبمطالب العبد وحاجاته عرف ذلك: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180]. وذِكرُ الله عزَّ وجلَّ جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا اعتلت، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده، ما لم يغلقه العبد بغفلته. ودوام ذكر العبد لربه لما كان سبباً لدوام المحبة، وكان الله أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال كان كثرة ذكر الله من أنفع ما للعبد، وكان عدوه حقاً هو الصاد له عن ذكر ربه وعبادته، ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41،42]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق ذكراً لله عزَّ وجلَّ، فكان يذكر الله على كل أحيانه، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه ذكراً منه لله، وإخباره عن أسماء ربه وصفاته وأحكامه، وأفعاله، ووعده ووعيده ذكراً منه لربه، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكراً منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه، ورغبته ورهبته ذكراً منه له، وسكوته وصمته ذكراً منه له بقلبه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6389)، ومسلم برقم (2688).

وكان ذكر ربه يجري مع أنفاسه: قائماً وقاعداً .. وفي مشيه وركوبه .. وفي إقامته وسفره .. وعند نومه واستيقاظه .. وفي حال صحته ومرضه. ومن أفضل ذكره سبحانه ذكره بكلامه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. والله سبحانه رقيب على العباد، ناظر إليهم، سميع لأقوالهم، مطلع على أعمالهم في كل لحظة كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} [الأحزاب: 52]. ومن راقب الله في خواطره، عصمه الله في حركات جوارحه وعلامة المراقبة: إيثار ما أنزل الله .. وتعظيم ما عظم الله .. وتصغير ما صغر الله. ولا بدَّ لكل إنسان من معرفتين: أحدهما: معرفة العبد بربه .. والثانية معرفة العبد بنفسه. فمن حصلت له هاتان المعرفتان كان أعظم الناس ذكراً لربه، ومحبة له، وإجلالاً له، وحمداً له. والناس متفاوتون في هاتين المعرفتين: فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق .. ومن عرف ربه بالعلم التام عرف نفسه بالجهل .. ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام .. ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة. وحقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، في كل وقت، وفي كل حال. فالإيمان بالله ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره، هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، وحمده وشكره ومعرفته وتوحيده قرة عين الإنسان. والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى، والأدنى للأعلى. فالأول كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء ويطلبون منه

الدعاء، فدعا لهم وأنزل الله الغيث. والناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من الأنبياء لفصل القضاء. وقال نوح - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} [نوح: 28]. والثاني كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأرْجُو أنْ أكُونَ أنَا هُوَ، فَمَنْ سَألَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» أخرجه مسلم (¬1). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد طلب من أمته أن يدعوا له كما أمرهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها. فالدعاء للغير ينتفع به الداعي، والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو له، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له، وهو من التعاون على البر والتقوى، فيثاب المأمور على فعله، ويثاب الآمر مثل ثواب الداعي لكونه آمره به كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ، بِظَهْرِ الْغَيْبِ، مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَكَ بِمِثْلٍ» أخرجه مسلم (¬2). وقد أمر الله عزَّ وجلَّ عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء والاستغفار له ولأمته كما قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (384). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2733).

9 - فقه المعاملات

9 - فقه المعاملات قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة بالدين الكامل الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وأنزل الله عزَّ وجلَّ كتابه منهاجاً للبشرية كلها إلى يوم القيامة، ينظم حياة الإنسان من حين ولادته إلى أن يلقى ربه، وجاء الفقه الإسلامي بالسنن والآداب والأحكام التي تشمل حياة الإنسان في شعب الحياة كلها وفق منهج الله، يسعد بها الإنسان في حياته، وينال عليها الأجر بعد مماته. ويمكن حصر هذه السنن والأحكام في ثماني شعب: الشعبة الأولى: الأحكام المتعلقة بالتوحيد والإيمان، من معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه، ومعرفة وعده ووعيده، ويسمى هذا الفقه الأكبر. الشعبة الثانية: الأحكام المتعلقة بعبادة الله من وضوء وصلاة، وزكاة وصيام، وحج وتلاوة قرآن ونحوها، وتسمى هذه أحكام العبادات. الشعبة الثالثة: الأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة، والمحاسن والمساوئ ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الآداب والأخلاق. الشعبة الرابعة: الأحكام المتعلقة بأحوال الأسرة، من زواج وطلاق، وولادة ورضاع، ووصايا وأوقاف، ونفقة وإرث ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام الأسرة.

الشعبة الخامسة: الأحكام المتعلقة بأفعال الناس، ومعاملة بعضهم بعضاً، من بيع وشراء، ورهن وإجارة، وصلح ومشاركة، وقضاء دين، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام المعاملات. الشعبة السادسة: الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين، وحفظ الأمن، وحفظ الأنفس والأعراض والأموال ونحو ذلك، مثل عقوبة القاتل والسارق والزاني وشارب الخمر، وأحكام القصاص، ونحو ذلك، وتسمى هذه أحكام العقوبات والحدود. الشعبة السابعة: الأحكام المتعلقة بواجبات الحاكم من إقامة العدل، ودفع الظلم، وتنفيذ الأحكام والدعوة والجهاد، ونحو ذلك. وواجبات المحكوم من السمع والطاعة في غير معصية الله، ونحو ذلك، وتسمى هذه الأحكام الأحكام السلطانية. الشعبة الثامنة: الأحكام المتعلقة بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في حال الحرب والسلم كعقد الهدنة، وعقد الذمة، ونحو ذلك وتسمى السِّيَر. إن الإسلام هو الدين الكامل الذي أكرم الله به البشرية، وبالإسلام تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فالله عزَّ وجلَّ خلق هذا الكون، وجعل لكل مخلوق فيه سنة يسير عليها، وبها يتحقق مراد الله منه، ويؤدي العبودية المطلوبة منه وفق سنة الله ومشيئته. فالشمس لها سنة تسير عليها .. والقمر له سنة .. والليل له سنة .. والنهار له سنة .. والنبات له سنة .. والحيوان له سنة .. والرياح لها سنة .. والولادة لها سنة .. والبحار لها سنة .. والإنسان كذلك مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله ليسعد في الدنيا والآخرة. وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به، وشرعه له، ورضيه له، ولا يقبل منه غيره، وسعادته وشقاوته مرتبطة بمدى تمسكه به أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده، متحمل لمسئولية اختياره: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. إن الإسلام دين العبادات والمعاملات والأخلاق: ينظم علاقة الإنسان مع ربه بالإيمان به، وتوحيده، وعبادته، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، والتوجه إليه في جميع الأمور، ومحبته، والاستعانة به في جميع الأحوال. وينظم علاقة الإنسان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بمحبته وطاعة أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وتصديق ما جاء به، والاقتداء به في سائر أحواله. ويوجه الإنسان للاستفادة من كتاب ربه، بالتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، والاتعاظ بمواعظه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وينظم الإسلام علاقة الإنسان مع غيره على أسس من العدل والإحسان. كالأم والأب .. والزوجة والزوج .. والأولاد والبنات .. والأقارب والجيران .. والحاكم والمحكوم .. والمسلم والكافر وغيرهم. وينظم الإسلام كذلك معاملات الإنسان المالية بكسب الحلال .. والسماحة في البيع والشراء .. والإنفاق في وجوه البر .. وتحري الصدق .. وتجنب الغش .. وتجنب الربا .. وتجنب الكذب .. وكيفية توزيع الأموال بالصدقات .. وقسمه المواريث، ونحو ذلك. وينظم الإسلام كذلك حياة الإنسان الزوجية، وكيفية تربية الأولاد، وصيانة الأسرة من الفساد، وتربيتها على الفضائل. وينظم حياة الرجل والمرأة، ويقرر الحقوق اللازمة لكل منها في حال السراء والضراء، وحال الغنى والفقر، وحال الصحة والمرض، وحال الحضر والسفر. وينظم الإسلام سائر العلاقات على جسور متينة من الحب في الله، والبغض في الله، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وجميل الصفات كالكرم والجود، والحياء والعفة، والصدق والبر، والعدل والإحسان، والرحمة والشفقة، والحلم والعفو،

وغير ذلك من مكارم الأخلاق. وينهى الإسلام عن كل شر وفساد، وعن كل ظلم وطغيان: كالشرك، والقتل بغير حق، والكذب والكبر، والرياء والنفاق، والزنا والسرقة، والفواحش والآثام، والبغي والعدوان، والغش والخداع، والكيد والمكر، والنهب والاختلاس، والربا والخمر، والكهانة والسحر، وأكل أموال الناس بالباطل، والغيبة والنميمة والأذى والظلم، وقول الزور والبهتان، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وينظم الإسلام بعد ذلك كله حياة الإنسان في الآخرة، وأنها مبنية على حياته في الدنيا، فمن جاء بالإيمان والأعمال الصالحة دخل الجنة، وسعد برؤية ربه، ونال رضاه، وتمتع في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في نعيم كامل، وخلود دائم. ومن جاء بالكفر والمعاصي دخل النار، ونال أشد العذاب. فهذه شرائع الإسلام، وهذه سننه، وهذه آدابه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13،14]. وهذا هو الدين الكامل الذي أرسل الله به رسوله إلى البشرية في مشارق الأرض ومغاربها كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. والإسلام هو الدين الحق الذي يجب على كل مسلم ومسلمة اعتناقه، وألا يخسر دنياه وآخرته: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ» أخرجه مسلم (¬1). والله سبحانه خلق الإنسان، وكرمه على سائر المخلوقات، وجعل له علاقة مع ربه، وعلاقة مع خلقه: فعلاقته بربه تتم بواسطة العبادات، ولب العبادات توحيد الله، والإيمان به، وعبادته، وطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وذكره وحمده وشكره. أما علاقة الإنسان بالخلق، فهي بواسطة المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ويتم ذلك بثلاثة أشياء: أداء الحقوق .. والإحسان إلى الناس ورحمتهم .. وكف الأذى عنهم. فنمد أيدينا إلى الخالق وذلك هو العبادة، ونمد أيدينا الأخرى بالإحسان إلى الخلق وذلك هو الأخلاق. فبالأولى نأخذ، وبالأخرى نعطي، وبطاعة الله وعبادته يكون العبد محبوباً عند الله وملائكته وخلقه، وبرحمة الناس، والإحسان إليهم يكون الإنسان محبوباً عند الناس، وعند رب الناس. والأصل في جميع العقود والمعاملات إنما هو العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25]. فدين الله كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي، وفي المعاملات والأخلاق، وفي الحقوق والحدود. فالله أباح البيع لما فيه من العدل .. وحرم الربا لما فيه من الظلم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (153).

وأمر بالنكاح الشرعي لما فيه من المصالح .. ونهى عن الزنا لما فيه من المفاسد. وحث على الصدق لما فيه من الخير .. وحذر من الكذب لما فيه من الشر. ورغب في الصدقة لما فيها من المنافع .. وزجر عن السرقة لما فيها من المضار. {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)} [يونس: 105]. وأوامر الله عزَّ وجلَّ كلها عبادات، إذ لكل أمر سنة وثواب، فأحكام الطهارة والصلاة كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام العقود والبيوع، كأحكام السلم والحرب، كبقية الأحكام التي شرعها الله. كلها عبادة لله، وكلها دين الله، وكلها أوامر الله، وكلها شرع الله. فالدين يتألف من هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كتلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه. وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع والعمل، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر، والدين لا يستقيم إلا بهما معاً، كلها عقود أمر الله المؤمنين بالوفاء بها، وكلها عبادات يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله، وكلها إسلام وإقرار من المسلم بعبوديته لله. فجميع أوامر الله عزَّ وجلَّ شعائر وشرائع، كلها عبادات وفرائض وعقود مع الله، والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان كما قال سبحانه: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ چ چ چ چ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ژ ژ يُرَدُّونَ إِلَى ک ک وَمَا گ گ گ گ (85)) [البقرة: 85]. وقد وصف الله عزَّ وجلَّ أعمال الدين بالصالحات؛ لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين: الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه والإيمان به. وأصلح ألسنتهم بالثناء عليه وذكره.

وأصلح جوارحهم بعبادته وطاعته. وبذلك صلحوا لكرامته، وصلحوا لمجاورة الرحمن في جنته. ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجات كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12]. وكم لله من نعمة في بعثة رسوله الكريم بهذا القرآن العظيم الذي فيه تبيان كل شيء، فهو حجة الله على العباد كلهم، انقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. فصار هذا الكتاب المبارك هدى للمسلمين، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون بها كل خير في الدنيا والآخرة، وبشرى يبشرهم بكل خير ونعيم وسعادة في الدنيا والآخرة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} [الكهف: 1 - 3]. والله تبارك وتعالى جواد كريم رؤوف بالعباد: خلق الناس في أحسن تقويم .. وأسكنهم في الأرض .. ورزقهم من الطيبات .. وآتاهم من كل ما سألوه .. وجعل لهم العقول والأسماع والأبصار .. وأنزل عليهم كتبه .. وأرسل إليهم رسله .. وشرع لهم أفضل شرائع دينه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وهداهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة .. ودلهم على ما يحببهم إليه ويقربهم منه بعبادته وطاعته .. فأمرهم بكل خير .. وحذرهم من كل شر .. ووعدهم على ذلك الأمن والسعادة في الدنيا .. والجنة والرضوان في الآخرة

كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، وذكره لله أكثر، وصار الواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على غيره. ولهذا كان الواجب على الرسل أعظم من الواجب على أممهم .. والواجب على أولي العزم من الرسل أعظم من الواجب على غيرهم .. والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم .. فكل أحد بحسب مرتبته .. ودرجته بحسب عمله. والعبودية التامة امتثال أوامر الله في جميع أحوال الإنسان، وفي جميع شعب الحياة، على طريقة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: في الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162،163]. والطريق إلى الله واحد وهو الإسلام، والإسلام جامع لكل ما يرضي الله، وما يرضي الله متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، ومن رحمة الله أن جعلها متنوعة جداً؛ لأختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ليسلك كل امرئ إلى ربه بعد أداء الفرائض طريقاً يناسب استعداده وقوته وقبوله، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يسلكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك حتى يصل من تلك الطريق إلى الله. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى أدى ورده منها فهو في سرور وانشراح، ومتى قصر في ورده أظلم عليه وقته، وضاق صدره. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، فهو يتلذذ بذكر الله في كل وقت، وقد جعله زاداً لمعاده، فمتى فتر وقصر رأى أنه قد غبن وخسر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم يجد لذته به، ومتى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله له فيه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه تكرار الحج والعمرة. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق عن الخلائق، ودوام المراقبة لربه، وحفظ الأوقات. ومن الناس السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فأين كانت مرضاة ربه، وأين كانت العبودية وجدته هناك. إن كان علم وجدته مع أهله .. وإن كان جهاد وجدته مع المجاهدين .. أو صلاة وجدته مع المصلين .. أو ذكر وجدته في الذاكرين .. أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين .. أو محبة أو مراقبة لله وجدته في المراقبين .. تَدَيَّن بدين العبودية، بروحه وقلبه وبدنه، ليس له مراد إلا تنفيذها، فهذا بأرفع المنازل. وهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وكتابها أحسن الكتب وأعظمها وأحكمها وأبينها، وشريعتها أحسن الشرائع. فالشرائع ثلاث: شريعة عدل، وهي شريعة التوراة فيها الحكم والقصاص. وشريعة فضل، وهي شريعة الإنجيل المشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان. وشريعة عدل وإحسان، وهي شريعة القرآن التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه، وقد جمعت بين العدل والإحسان، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. والقرآن يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه كما قال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40]. وبنو إسرائيل هم أولو العلم الأول، وأمة موسى أوسع علوماً ومعرفة من أمة المسيح كما قال سبحانه عن التوراة التي أنزلها على نبيه موسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145]. ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها، فإن المسيح - صلى الله عليه وسلم - وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل كأنه مكمل لها متمم لمحاسنها، والقرآن جامع لمحاسن الكتابين كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نبي الكمال .. وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، حرم الله عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، كما كمل لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - بما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله، وكمل في شريعته من المحاسن بما فرقها في شرائع الأنبياء قبله، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].

10 - فقه الحسنات والسيئات

10 - فقه الحسنات والسيئات قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. الحسنة: هي ما يحسن لدى الإنسان مما يتلاءم مع مزاجه. والحسنات قسمان: أحدهما: حسنة سببها الإيمان والعمل الصالح، وتحصل بطاعة الله ورسوله. الثاني: حسنة سببها الإنعام الإلهي على العبد بما يؤتيه الله من مال وولد وسلامة بدن. والسيئة ضد الحسنة، وهي ما لا يحسن لدى الإنسان. والسيئات قسمان: أحدهما: سيئة سببها الشرك والمعاصي اللذان يورثان ظلمة وخبثا ً في النفس، وتحصل بمعصية الله ورسوله. الثاني: سيئة سببها الانتقام أو الابتلاء الإلهي كالمرض وضياع المال، والجوع والقحط ونحو ذلك. فالسيئة الأولى تنسب إلى العبد فاعلها؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل حذرهم منه كما قال سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31،32]. أما الحسنة بمعنى النعمة، والسيئة بمعنى النقمة، فكلاهما من عند الله؛ لأن الله يبلو عباده بما شاء ابتلاءً وانتقاماً ورفعة، تربية لعباده كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ

حَدِيثًا (78)} [النساء: 78]. والحسنة بمعنى الطاعة لله ورسوله لا تنسب إلا إلى الله، فهو الذي شرعها للعبد، وعلمه إياها، وأمره بفعلها، وأعانه عليها، وحببها إليه. والسيئة بمعنى المعصية لله ورسوله، إذا فعلها العبد بإرادته واختياره مؤثراً المعصية على الطاعة فهذه السيئة تنسب للعبد فاعلها، ولا تنسب إلى الله؛ لأن الله لم يشرعها، ولم يأمر بها، بل حرمها وتوعد عليها. وقد كشف الله ذلك وبينه بقوله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79]. وفي فعل الحسنات عدة فوائد: الأولى: الفوز والفلاح كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. الثانية: محبة الله ورسوله والمؤمنين له كما قال سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. الثالثة: دخول الجنة كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26]. الرابعة: معية الله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. الخامسة: القرب من رحمة الله كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]. السادسة: مضاعفة الأجر كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. السابعة: تكفير السيئات كما قال سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. الثامنة: جلب المحبة وإزالة العداوة كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا

السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34،35]. قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} [فصلت: 36 - 40] قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)} [فصلت: 41 - 45]. والحسنات تعلل بعلتين: أحدهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة. الثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة. كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 45]. فقوله: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) بيان لما تضمنته من دفع المفاسد والمضار، وقوله (ولذكر الله أكبر) بيان لما تضمنه من المنفعة والمصلحة .. وهكذا في جميع الحسنات.

والسيئات كذلك تعلل بعلتين: إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرة. الثانية: ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة. كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} بيان لما تتضمنه السيئات من حصول مفسدة العداوة والبغضاء، وقوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} بيان لما تتضمنه من المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة، وهي ذكر الله والصلاة. والله تبارك وتعالى مالك الملك، وله الخلق والأمر، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد .. فالحسنات من عطائه .. والسيئات من قضائه .. فهو سبحانه لا يطاع إلا بإذنه، ولا يعصى إلا بعلمه، الطاعات بإذنه والمنة لله، والمعاصي بتقديره والحجة له. والسيئات قسمان: صغائر .. وكبائر. فالكبائر والصغائر تكفرها التوبة كما قال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54]. وتكفير الصغائر بشيئين: الحسنات الماحية .. واجتناب الكبائر. فالأول: كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا

لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم (¬1). والثاني: كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]. وحبوط الحسنات والسيئات نوعان: حبوط عام .. وحبوط خاص. فالعام: حبوط الحسنات كلها بالردة كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. وحبوط السيئات كلها بالتوبة كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. والخاص: حبوط الحسنات والسيئات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. والكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه، وشعبة واحدة منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإذا عظمت الشعبة ذهب في مقابلها شعب كثيرة، والمعاصي كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله ومخالفة أمره كبيرة، لما فيها من التوثب على حق الرب، والاستهانة بأمره، وانتهاك حرماته. وإذا عمل المؤمن سيئة فسوف يجازى عليها كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. وتندفع عقوبة السيئة عن المؤمن بما يلي: إما أن يتوب فيتوب الله عليه .. أو يستغفر فيغفر الله له .. أو يعمل حسنات ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (233).

تمحوها .. أو يدعو له إخوانه المؤمنون .. أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به .. أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تكفر عنه .. أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه .. أو يبتليه في عرصات القيامة بما يكفر عنه .. أو يشفع فيه نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. أو يرحمه أرحم الراحمين .. والله غفور رحيم. والحسنات تزيد الإيمان، وتزيد نور القلب، والسيئات تنقص الإيمان، وتطفئ نور القلب، والمعاصي للإيمان كالأمراض للبدن سواء بسواء. وفي اجتناب المعاصي والسيئات عدة فوائد: الأولى: صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها، عند الله وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه. فمن كرمت عليه نفسه وكبرت صانها وحماها، ومن هانت عليه نفسه، وصغرت عنده ألقاها في الرذائل. الثانية: توفير الحسنات، ففي اجتناب السيئات توفير الحسنات، وذلك من وجهين: أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات، فإنه إذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها. الثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها، فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات قد تحبط الحسنات، وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها، فتجنبها يوفر ديوان الحسنات. الثالثة: كسب مودة الخلق، وذلك بملاطفتهم ومعاملتهم بما يجب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم بالشدة والغلظة والعنف، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه وحاله مع الله. فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فالناس إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته، وتستكفي شره.

الرابعة: مراقبة الله سبحانه، وهي الموجبة لكل صلاح وخير عاجل وآجل، ولا يصح ما قبلها إلا بهذه، وهي المقصود لذاته، فمراقبة الحق سبحانه توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق، ورحمتهم، والصبر على أذاهم. والناس متفاوتون في العلم والعمل، والسؤال والهمم: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 200،201]. والحسنة المطلوبة في الدنيا: هي كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وأولاد تقربهم العين، وراحة من الهم والكد، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة. وحسنة الآخرة: هي الفوز بالنعيم المقيم، وحصول رضا الله، والقرب من الرب الكريم، والسلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار. فقوله سبحانه: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201]. هذا أجمع دعاء وأكمله وأفضله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء به. والله غني كريم يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو. قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160]. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261].

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة: 245]. والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده بالعسر واليسر، والحسنات والسيئات، والرخاء والشدة، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى ربهم كما قال سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} [الأعراف: 168]. ولا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34،35]. والتي هي أحسن إذا أساء إليك مسيء من الخلق بالقول أو الفعل فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن أساء إليك فأحسن إليه، وإن حرمك فأعطه. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصلت لك ولغيرك فوائد عظيمة، فإن مقابلة المسيء بجنس عمله لا يفيده شيئاً، ولا يزيد العداوة إلا شدة، والإحسان للمسيء يقلب العداوة صداقة .. والبغض محبة، ويعطف القلوب على من عادَتْه، ويحركها للاعتذار والندم. والحسنة كما أنها تذهب السيئة فكذلك الحسنة تجلب الحسنة بعدها، فكل من يصلي تجده يقرأ القرآن، ويصلي النوافل، ويذكر الله، ويصوم ويتصدق ويحسن إلى الناس .. وهكذا .. وكما أن السيئة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فكذلك السيئة تجلب أخواتها من السيئات، فالشيطان ينقل العاصي من الصغيرة إلى الكبيرة ومن الغيبة، إلى قول الزور، إلى التهاون في الصلاة، إلى إضاعة الصلاة واتباع

الشهوات، إلى محبة المحرمات ثم فعلها، ثم دعوة الناس إلى فعلها وهكذا. فالشيطان صد كفار مكة عن الإيمان بالرسول، ثم زين لهم الاستهزاء به ومن معه، ثم زين لهم أذى من آمن به لعلهم يرجعون عنه، ثم زين لهم الصد عن الدين الذي جاء به، ثم زين لهم إخراج الرسول وقتله، ثم ساقهم إلى مصارعهم كفاراً يحاربون الله ورسوله فخسروا الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. فالله ورسله وأنبياؤه وأتباعهم يدعون إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وبذلك تحصل السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة. وشياطين الجن والإنس وأتباعهم يدعون إلى فعل السيئات وترك الحسنات، ويخدعون الناس بالشهوات لتحل بهم العقوبات {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221]. وقد وعد الله كل من أحسن وأتى بالحسنات في الدنيا أن يرزقه الحسنى يوم القيامة كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26]. ومن أساء اسود وجهه، وأصابه الذل، والعذاب في الدنيا والآخرة: كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} [يونس: 27]. وما خطا عبد خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة بحسب نيته. كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس: 12]. والحسنات تحصل للعبد من ثلاث جهات:

فعل الطاعة .. والفرح بها .. وتهيئة الفرصة لحصولها. كأن يصلي مثلاً، ويفرح بأداء الصلاة، ويهيئ الفرصة للمصلين. والسيئات كذلك تحصل للعبد من ثلاث جهات: فعل المعصية .. والفرح بها .. وتهيئة الفرصة لحصولها. كأن يشرب الخمر مثلاً، ويفرح بذلك، ويهييء الفرصة لمن يشرب الخمر. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة .. وفي الآخرة حسنة .. وقنا عذاب النار. ربنا اغفر لنا ذنوبنا .. وإسرافنا في أمرنا .. وكفر عنا سيئاتنا .. وتوفنا مع الأبرار.

الباب الثالث عشر فقه الطاعات والمعاصي

الباب الثالث عشر فقه الطاعات والمعاصي ويشتمل على ما يلي: 1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي 2 - فقه الطاعات والمعاصي 3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي 4 - فقه النعيم والعذاب 5 - فقه الصبر عن المعاصي 6 - فقه الثواب والعقاب 7 - فقه الجزاء من جنس العمل 8 - فقه التخلص من المعاصي 9 - فقه التوبة من المعاصي

1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17]. وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116]. الناس متفاوتون في أفكارهم وأعمالهم، مختلفون في مقاصدهم ونياتهم، والقلوب جوالة، منها ما يطوف حول العرش، ومنها ما يطوف حول الحش. فمن استنار بنور الوحي أضاء له في الدنيا والآخرة، فأبصر الطريق إلى الله، وعرف هداه، وسار إلى ربه على هدى رسوله. فهذا على صراط مستقيم، الله مولاه، وله الجنة يوم يلقاه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. ومن استكبر عن الحق أو ضل عنه فهو في الظلمات في الدنيا والآخرة، وأنى يبصر الطريق بلا هدى، فهو يتخبط في الظلمات، ويجمع من المعاصي والسيئات ما يعذب به في جهنم: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]. فهذا سائر إلى النار، وقادم على ما عمل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. فالناس متفاوتون أعظم تفاوت في إرادتهم وشهواتهم، وفي أعمالهم ومقاصدهم .. وفي ثوابهم وعقابهم، وذلك بحسب علمهم وجهلهم. وبحسب إيمانهم وكفرهم.

ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الحق والهدى، فإن مشيئته مطلقة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن خلقه لا يزالون مختلفين، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما يقوله ويفعله، والضلال في قول غيره إلا من رحم الله، فهداهم الله إلى العلم بالحق والعمل به، والإنفاق عليه، والدعوة إليه، فهؤلاء الناجون، وأولئك الهالكون. ولذلك خلقهم الله ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدل الله وحكمته .. وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر .. وليقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118،119]. فالناس في معرفة الحق، وفي قبوله ورده متفاوتون، وفي الطاعات والمعاصي التي يفعلونها بإرادتهم مختلفون، وفي شهود المعاصي التي تجري عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون أعظم تفاوت، وجماع ذلك في المشاهد الآتية: الأول: مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة. فهذا مشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، فهؤلاء نفوسهم حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها. فمنهم من نفسه كلبية، لو صادف جيفة تُشبع ألف كلب لوقع عليها، ونبح كل

مخلوق يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، همه شبع بطنه من أي طعام حصل له طيب أو خبيث، حلال أو حرام، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة. ومنهم من نفسه سبعية، همه العدوان على الناس، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته. ومنهم من نفسه فأرية، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره. ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه، فيدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر، فهذه النفوس الخبيثة سواء رأت أو علمت إذا تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وصادفت المعين على غرة وغفلة لدغته كالحية وأهلكته، نعوذ بالله من شرها: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 4،5]. ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثيراً من الناس يسمع ويرى المحاسن من أخيه فلا ينشرها، ويرى المساوئ فيجعلها فاكهته. ومن الناس من هو على طبيعة الطاووس، ليس له هم إلا التطوس والتزين بالريش لا غير، أما زينة قلبه بالإيمان، وجوارحه بالأعمال، ولسانه بذكر الله فهو غافل عنه، غره الشيطان فتزين للمخلوق، ولم يتزين لخالقه. ومنهم من هو على طبيعة الذرة، أجمع الخلق مالاً، وأقلهم أعمالاً. ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كيداً. ومنهم من هو على طبيعة الدب، أبكم خبيث. ومنهم من هو على طبيعة القرد، يفسد كل ما تصل إليه يده.

ومنهم من هو على طبيعة الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً. ومنهم من هو على طبيعة الديك، يؤذن بالخير في كل مكان، ويؤثر غيره بما تحبه نفسه. ومنهم من هو على طبيعة الثعلب، يروغ في معاملاته كما يروغ الثعلب.؟ ومنهم من هو على طبيعة الغنم، حيث السكينة والتواضع. ومنهم من هو على طبيعة البقر، مهتم بنفسه، غافل عن غيره، وعن مصيره. وهكذا .. وكل من ألف ضرباً من هذه الحيوانات، اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى وأظهر. الثاني: مشهد الحكم القدري. وهؤلاء يعصون الله، ويشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، وأن الفاعل غيرهم، والمحرك سواه، فلا ينسبون إلى أنفسهم فعلاً، ولا يرون لها إساءة، ويزعمون أن هذا هو التحقيق والتوحيد، وربما زادوا على ذلك، فيرى أحدهم نفسه مطيعاً من وجه، وإن كان عاصياً من وجه آخر لموافقته المشيئة والقدر. فيقول: كما أن موافقة الأمر طاعة، فكذلك موافقة المشيئة طاعة، وأنا مطيع لإرادة الله ومشيئته، وإن كنت عاصياً لأمره. وهؤلاء أعداء الله حقاً، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه، وشر خلق الله، وأصحاب المشهد الأول خير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده المشركون عباد الأصنام، ووقفوا عنده: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35].

وهو كذلك مشهد إبليس الذي انتهى إليه حين قال ربه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39،40]. الثالث: مشهد الطبيعة البشرية. وعند هؤلاء أن الإنسان العاقل متى كان له وازع من نفسه لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. الرابع: مشهد الفعل الكسببي القائم بالعبد فقط. فلا يشهد إلا صدوره عنه، وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدري به، ولا عزة الرب في قضائه ونفوذ أمره في خلقه. فهذا المشهد وإن كان صحيحاً نافعاً له، حيث يرى الذنب والعيب من نفسه وأنه مستحق للعقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه، وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب على نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول. فإنه لم يشهد عزة ربه في قضائه وقدره، ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا محفوظ إلا من حفظه. ولم يشهد أنه هو محل جريان أقضيته وأقداره سبحانه، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو سبحانه القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه. فهو لغيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطي التوحيد حقه، ولا الاستغاثة بربه، ولا الافتقار إليه حقه. فهو سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء، لا ملجأ منه إلا إليه .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ،

وَأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (¬1). الخامس: مشهد الحكمة. وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة، وهؤلاء يشهدون أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً ولا سدى، وأن له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه، من خير وشر، وطاعة ومعصية. وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئة الله وقدره، وأن لله في ظهور المعاصي والجرائم حكم وأسرار، يترتب عليها ما هو أحب إليه وآثر عنده من قوته بتقدير عدم المعصية. فصاحب هذا المشهد يرى حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، واقتداره عليه، وتهيئة أسبابه له، وأنه لو شاء عصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله. فهو سبحانه يحب التوابين، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة. وليعرف العبد عزة ربه في قضائه ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه. وليعرف حاجته إلى حفظ ربه، وأنه إن لم يحفظه فهو هالك. وليستجلب من عبده استعانته به، والتضرع إليه، والاستعاذة به من شر نفسه وشر عدوه. وإرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار له، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، وظن أنه وأنه، فإذا ابتلاه ربه بالذنب تصاغرت نفسه وذلت. وتعريف عبده بحقيقة نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله مَنَّ به عليه لا من نفسه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (486).

وليعلم العبد سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصف له معهم عيش. وليعلم أنه لا طريق إلى الجنة إلا بعفو ربه ومغفرته، وتعريفه كرمه في قبول توبته، ومغفرته له على ظلمه وإساءته، وإقامة الحجة عليه، فإن عذبه فَبِعَدْله، وإن أكرمه فبفضله. ولأجل أن يعامل الناس عند إساءتهم إليه بما يجب أن يعامله الله به. وأن يخلع سبحانه صولة الطاعة والإحسان من قلب عبده، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة، وأن يعرى عبده من داء العجب بعلمه وعمله، وأن يعريه من لباس الكبر، ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه. وأن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم. وأن يعرف العبد مقداره مع معافاته، وفضله سبحانه في توفيقه وعصمته، فمن تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية. وأن يستخرج من عبده محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه. والعبد إذا شهد إساءته وظلمه استكثر القليل من نعمة الله عليه، لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسييء مثله، فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان. والذنب يوجب للعبد اليقظة والحذر من مصايد عدوه ومكايده. وقد تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها، فيمنّ الله عليه، ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه، فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها. وبالذنب يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وأقامه في طاعته، فتكون لذته بذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، وأن لطف الرب وبره وإحسانه بعبده ليبلغ أكثر من هذا.

والمعاصي والذنوب فيها امتحان واختبار للعبد .. هل يصلح لعبودية الله وولايته أم لا؟. فإذا وقع في الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنت وأنت وتضرعت، واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه. وإن ركنت عنها، واستمر إعراضها، ولم تحن إلى مألوفها الأول، ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله عزَّ وجلَّ. وإذا أذنب العبد أنساه الله رؤية طاعته، وأشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه يستغفر الله منه، ويتوب إليه، ويتضرع بين يديه، ويزول عنه عجبه وكبره الذي قد يقتله ويهلكه. وشهود العبد معصيته وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقاً، فإذا شهد عيب نفسه بفاحشة، لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر. وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنه عنده أخس قدراً، وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوقاً يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يكرموه لأجله. فيرى أن من سلم عليه، أو لقيه بوجه منبسط، قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيش هذا، وما أقر عينه. والذنب كذلك يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. وكذلك الذنب يوجب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه الخاطئين

من المؤمنين، فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. فكأنه يشهد إخوانه الخاطئين مصابين بمثل ما أصيب به، فيستغفر لهم وإذا شهد نفسه مع ربه مسيئاً مخطئاً مذنباً مع فرط إحسان ربه إليه وبره به، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فإذا كانت هذه حاله مع ربه، فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق، ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه تلك المعاملة؟. وكيف يطمع أن يطيعه ولده ومملوكه وزوجه في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك؟. وهذا يوجب أن يغفر لهم ويعفو عنهم ويسامحهم، ويغض عن الاستقصاء في طلب حقه منهم. فكم في ظهور المعاصي والذنوب من الحكم والأسرار التي يترتب عليها ما هو أحب إلى الله وآثر عنده من عدمها. فإنه لولا المعصية من أبي البشر آدم بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى. من امتحان خلقه وتكليفهم .. وإرسال رسله .. وإنزال كتبه .. وإظهار آياته وعجائبه .. وتنويعها وتصريفها .. ومعرفة جلاله وجماله .. وإكرام أوليائه .. وإهانة أعدائه .. وظهور عدله وفضله .. وعزته وانتقامه .. وعفوه ومغفرته. وظهور من يعبده ويحبه .. ومن يقوم بمراضيه ومحبوباته بين أعدائه في الدنيا .. وظهور الطيب من الخبيث من خلقه. ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب .. وعقوبة وإهانة .. ودار سعادة وفضل .. ودار شقاوة وعدل. السادس: مشهد التوحيد. وهو أن يشهد العبد انفراد الرب تعالى بالخلق والأمر، وأن ما شاء الله كان وما

لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وعلمه، ولا تسكن إلا بإذنه وعلمه. ويشهد أن قلوب العباد كلهم بيده، وأنه يقلبها بين أصبعين من أصابعه، ويصرفها كيف شاء، وأنه الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وألهم نفوس الفجار فجورها، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه، وهذا عدله وقضاؤه. لا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فيشهد العبد هنا انفراد الرب بالخلق كله، ونفوذ مشيئته في ملكه، وتعلق الموجودات بأسرها به، وجريان حكمه على خلقه بما سبق به علمه، وجرى به قلمه. ويشهد مع ذلك أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاء بالأعمال، فشهود توحيد الرب، وانفراده بالخلق، ونفوذ مشيئته، وجريان قضائه وقدره، يفتح للعبد باب التوكل عليه، ودوام الالتجاء إليه، والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وشهوده أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع، والقيام بالأمر، والرجوع إلى نفسه باللوم، والاعتراف بالتقصير. فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة، والقدرة الكاملة، والعلم السابق، والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه، ومعرفة عيوب نفسه وأعماله. فهذا هو العبد الموفق المعان، الذي أقامه ربه مقام العبودية، وضمن له التوفيق، وحسن الثواب. وهذا هو مشهد الأنبياء والرسل: فهو مشهد أبيهم آدم - صلى الله عليه وسلم - حين قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. ومشهد أول الرسل نوح - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي

بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]. ومشهد إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35]. ومشهد موسى - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]. ومشهد ذي النون يونس - صلى الله عليه وسلم - إذ قال عنه ربه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. ومشهد سيد الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري (¬1). فالعارف يسير إلى ربه بين شهود المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل. فشهود المنَّة يوجب له المحبة لربه سبحانه، وحمده والثناء عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره، ودوام توبته، وتضرعه لربه. ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما: من يشهد تسليط عدوه عليه، وإفساده إياه، وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أسير معه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه ومولاه، عالم بأن نجاته بيده سبحانه، وناصيته بين يديه، وأنه لو شاء طرده عنه، وخلصه من يديه، ولم يعبأ به. فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الإلتفات إلى وليه وناصره وتضرع إليه، وتذلل بين يديه، وكلما أراد البعد عن بابه تذكر عطفه وبره سبحانه، وتذكر جوده ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6306).

وإحسانه، وكرمه وغناه، ورأفته ورحمته، وقدرته وعزته، وجلاله وجماله، فانجذبت دواعي قلبه هاربة إليه، مترامية على بابه، منطرحة بين يديه. وفوق هذا مشهد أجل منه وأعظم، ومثله كمثل عبد أخذه سيده بيده، وقدمه ليضرب عنقه، فأيقن العبد المسيء أنه قاتله، وقد علم العبد بره ولطفه ورحمته، ورأفته وكرمه، فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه بها، فانقطع تعلقه بشيء سواه. فهذا العبد معرض عن عدوه الذي كان سبباً في غضب سيده عليه، مقصور النظر إلى سيده، وهو في قبضته منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه. ومثل الأول كمثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد دنو عدوه له، ويستغيث بسيده، وسيده يغيثه ويرحمه. السابع: مشهد التوفيق والخذلان: فالتوفيق: هو أن يكلك الله إلى نفسك، والخذلان: هو أن يخلي بينك وبين نفسك، والعباد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا. فيطيع ربه ويرضيه، ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه، ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين توفيقه وخذلانه، فإن وفقه ربه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا. لم يمنع سبحانه عبده شيئاً هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه، وأين يجعله؟. فإذا علم العبد ذلك، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس، وكل لحظة، وكل طرفة عين، وشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف. ويلقي نفسه بين يديه مستسلماً له سبحانه، خاضعاً ذليلاً له، مستكيناً لا يملك

لنفسه نفعاً ولا ضراً. فالتوفيق: إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له، محباً له، مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه وما يكرهه، وهذا مجرد فعله سبحانه، والعبد محل له كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7،8]. فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل العظيم، ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. الثامن: مشهد الأسماء والصفات: وهو من أجل المشاهد، فإن كل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، وأسماؤه أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتض وفعل: فاسمه الحميد والحكيم والمجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقب. واسمه الملك والحي يوجب أن يكون مدبراً فاعلاً، ويقتضي مملكة وتصرفاً وتدبيراً، وعطاءً ومنعاً، وإحسانا وعدلاً، وثواباً وعقاباً. واسمه السميع والبصير والرقيب يوجب مسموعاً ومرئياً ومراقباً. واسمه الخالق والرازق يقتضي مخلوقاً ومرزوقاً .. وهكذا بقية الأسماء. إذا عُرف هذا فمن أسماء الله الحسنى الغفار والتواب والعفو، ولا بدَّ لهذه الأسماء من متعلقات، ولا بدَّ من جناية تُغفر، وتوبة تُقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بدَّ لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه. والله سبحانه يحب ذاته وأسمائه وصفاته، فهو عفو يحب العفو، غفور يحب المغفرة، تواب يحب التوبة، رحيم يحب الرحمة، محسن يحب الإحسان، حليم يحب الحلم.

وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومنها: مغفرة الزلات .. وإقالة العثرات .. والعفو عن السيئات .. والمسامحة على الجنايات .. هذا مع كمال القدرة على استيفاء الحق .. فحلمه سبحانه بعد علمه .. وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته .. ولله في كل ما قضاه وقدره حكمة بالغة. والله تبارك وتعالى يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها. وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته: فهو عليم يحب العلم والعلماء .. جواد يحب كل جواد .. بر يحب أهل البر شكور يحب الشاكرين .. حليم يحب أهل الحلم. ولمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح، خلق من يغفر له، ويتوب عليه، ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له، المرضي له، فسبحان أحكم الحاكمين. فالتوحيد والإيمان والطاعات أسباب محبوبة لله، موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضاً. والشرك والكفر والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل، واجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال القدرة. التاسع: مشهد زيادة الإيمان. فالله أرسل رسله ليأمروا العباد بما فيه صلاح الظاهر والباطن، وينهونهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم. وأخبروهم بما يحبه الله ويرضاه، وبما يثيب عليه من الجنة والرضوان، وأنه يبغض الشرك والمعاصي، ويجازي عليها بالسخط والنار.

وأنه إذا أطاعه العباد بما أمر به، شكر عليه بالإمداد والزيادة، وأنه إذا عصاه العباد، وخالفوا أمره، أصابهم النقص والفساد، والذل والهوان، وضيق العيش، وسوء الأحوال، فالذنوب مضرة بالقلوب مثل السموم مضرة بالأبدان. وهذا المشهد من ألطف المشاهد، فإن العبد إذا شهد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه، وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه، وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أُتي؟، ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه، ليباشر تغيير حاله، فإذا أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل .. والغنى بعد الفقر .. والسرور بعد الحزن .. والأمن بعد الخوف .. وقوة الإيمان بعد ضعفه .. ازداد إيماناً مع إيمانه. فكل ما نراه في الوجود من شر وفساد، وألم وعقوبة، وجدب ونقص، في أنفسنا وأموالنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم. فالمسلط له أعدل العادلين وأحكم الحاكمين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء: 4 - 6]. وكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها. وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم، يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

وشهود العبد هذا مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل من التوحيد والإيمان، والأوامر والنواهي، والثواب والعقاب. العاشر: مشهد الرحمة: فإذا وقع العبد في المعصية خرجت من قلبه تلك الغلظة والقسوة والغضب الذي كان عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا عليه غضباً لله، وحرصاً منه على أن لا يعصي ربه، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين. فإذا جرت عليه المقادير وأذنب استغاث بالله، والتجأ إليه، ودعاؤه عليهم بالدعاء لهم بالمغفرة. الحادي عشر: مشهد العجز والضعف. فالإنسان أعجز شيء عن حفظ نفسه، ولا حول له ولا قوة إلا بربه، تجري عليه أحكام القدر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء. وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين اغتاله وظفر به أحدهم. وفي هذا المشهد يعرف العبد نفسه حقاً، ويعرف فضل ربه حقاً، فمن عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف صفاته الممدوحة فيه كالقوة والكلام، والحياة والصدق، عرف أن الذي أعطاه ذلك أولى به منه، فمعطي الكمال أولى بالكمال، فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وإذا عرف العبد ذلك عرف أنه ليس بيده شيء، ولا بيد غيره شيء، وأن الأمر كله لله العلي الكبير كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ

الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. الثاني عشر: مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله. فيشهد العبد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته. فإذا انكسر قلب العبد وخضع لربه رأى أنه لا يستحق قليلاً ولا كثيراً، وأن كل خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه. واستقل طاعاته لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، ورآها سوء أدب مع ربه الذي أكرمه بوافر نعمه. فالانكسار والافتقار الذي حصل لقلبه أوجب هذا كله، فما أقرب الخير والجبر من هذا القلب المكسور، وذرة من هذا ونَفَسٍ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بعلومهم وأعمالهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله قلب تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، ينظر إلى ربه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، ونظر الفقير العاجز إلى الغني القادر. فلا يرى في جميع أحواله إلا متعلقاً بربه خاضعاً له، يسأله عطفه ورحمته، باكياً بين يديه، يقول: يا رب .. يا رب .. ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مغيث له سواك، ولا مؤوي له سواك. الثالث عشر: مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه، والابتهاج بذكره، والفرح والسرور به. فتقر عينه بربه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسانه، فتصير حركات اللسان والقلب والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، قد امتلأ قلبه من محبته، ولهج لسانه بذكره، وانقادت جوارحه لطاعته.

والدخول على الله من أبواب الطاعات كلها عليه زحام، لكن الدخول عليه من باب الذل والافتقار أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم عليه. فلا طريق أقرب إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل. والله سبحانه لا يأخذ أحداً ولا يعاقبه إلا بذنبه، وإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب علم أن الله سبحانه قدره سبباً مقتضياً لأثره من العقوبة، كما قدر الطاعة سبباً مقتضياً للثواب. وكلما طالع العبد منن ربه عليه قبل الذنب، وفي حال مواقعته، وبعد مواقعته، ولاحظ بره به، وحلمه عنه، وإحسانه إليه، هاجت من قلبه لواعج محبته، والشوق إلى لقائه، وشدة الحياء منه، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وتستحي من معصية أمره. وأهل المعاصي إن نظرنا إليهم بعين القدر نرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، ونشفق عليهم ونرحمهم. وإن نظرنا إليهم بعين الشرع فإننا يجب أن ننصحهم، ونأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم. ولا بدَّ لورثة الأنبياء أن ينظروا بهذا وهذا، وبذلك يقبل الله دعاءهم، ويبارك في جهدهم، وينزل الهداية ببركة جهدهم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .. ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .. واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك .. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

2 - فقه الطاعات والمعاصي

2 - فقه الطاعات والمعاصي قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32]. كل إنسان متحرك بطاعة أو معصية أو بهما معاً ولا بد. والطاعات كلها محبوبة لله مرضية له، وإن لم يشأها ممن لم يعطه، ومن وجدت منه فقد تعلقت بها مشيئة الله ومحبته. والمعاصي كلها مبغوضة لله مكروهة له وإن وقعت بمشيئة الله، فما لم يوجد من الطاعات المقدرة تعلقت بها محبة الله دون مشيئته، وما وجد منها تعلق بها محبته ومشيئته. وما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلق بها مشيئته ولا محبته، وما وجد منها تعلق به مشيئته دون محبته. وطاعات العباد كلها لا تكون مقابلة لنعم الله عليهم، ولا مساوية لها، بل ولا لواحدة منها، فكيف يستحقون بها النجاة؟. وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه، فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكراً، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته، وفضله وإحسانه. فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته. وما أطاع الله من أطاعه إلا بإذنه وعونه وفضله، وما عصاه من عصاه إلا بعلمه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). فأمور الخلائق كلها بيد الله وحده، والهداية بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً، كما جعل للنور أسباباً، وللحياة أسباباً، وللكسب أسباباً. وحتى تحصل الهداية لمن ندعوه لا بدَّ من العلم بأمور: الأول: أن نتيقن أن القلوب بيد الله، فندعو الله له بالهداية. الثاني: أن يكون في قلوبنا الحزن على العاصي، ورحمته، والسعي لإصلاحه. الثالث: أن نؤلف قلبه، ونتقرب إليه بما يحب كالهدية. الرابع: ثم نتفكر ما مرض هذا العاصي؟ .. وما دواء هذا المرض؟. الخامس: ثم ننظر ماذا نعطيه منه؟ .. وما هو الوقت المناسب لذلك؟. السادس: أن نعتقد ونجزم أن علاجه مسئوليتنا، فإن تركناه فأين يذهب. وبذلك يتأثر الناس، وتنزل الهداية على من شاء الله هدايته، ويجعلنا الله سبباً لهداية العالم. والمسلم إذا أطاع الله، وامتثل أوامره، جاءت عليه مشقة في البداية، ولكنها صغيرة، والسعادة التي تعقبها كالبحر بالنسبة إلى القطرة، والعاقل لا يترك البحر من أجل قطرة. والنفس تجد اللذة في المعاصي، ولكن هذه اللذة كالقطرة بالنسبة لعذاب يوم القيامة، والعاقل لا يتلذذ بلذة صغيرة عاجلة، ويترك بحر السعادة في الآخرة. وقد خلق الله الإنسان واستخلفه في هذه الحياة، وهو صائر إلى الله في نهاية المطاف. وعقد الاستخلاف لهذا الإنسان في الأرض قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد بمنهج الله في الحياة، والإنسان سامع مطيع: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) ومسلم برقم (2816) واللفظ له.

فإما أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله فيسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن يسمع ويطيع لما يمليه عليه الشيطان فيشقى في الدنيا والآخرة. وليس هناك طريق ثالث. إما أن يطيع الله ... أو يطيع الشيطان .. إما أن يتبع الحق .. أو يتبع الباطل .. وإما أن يسير إلى الجنة .. وإما أن يسير إلى النار. وبناء على ذلك إما أن يكون من المفلحين، وإما أن يكون من الخاسرين. كما قال سبحانه: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38،39]. والله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، يأمر الكائنات أن تطيع من أطاعه، وتهلك من عصاه، كما قال سبحانه: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48]. فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)} [هود: 44]. وقال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)} [سبأ: 10]. وأما الهلاك فكما قال سبحانه عن قوم عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} [القمر: 18 - 20]. وكما قال عن قوم لوط: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ

نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)} [القمر: 33،34]. وكما قال سبحانه عن فرعون وجنوده: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. فمن أطاع الله سخر له المخلوقات فتطيعه وتنفعه وتحفظه، وبحسب الطاعات تصلح وتحسن الأحوال، وتزيد الخيرات، وتكثر البركات. فنزول الغيث، وصلاح الأولاد، والأرباح، والطمأنينة، كلها مربوطة بطاعة الله كما قال نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12]. ومن يعص الله تكون المخلوقات ضده، فتسوء حاله، وتكثر مشاكله، ولو كان بين القناطير المقنطرة، والمساكن الواسعة، والمراكب الفاخرة والأولاد: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. وبحسب كثرة المعاصي تكثر المصائب، فإذا أخذ الإنسان الشيء بالكذب أو السرقة، زادت المصائب عليه بشكل جديد، طلبات متكررة، وحاجات غير لازمة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 124 - 126]. والطاعات شعبة من شعب الإيمان، والمعاصي شعبة من شعب الكفر، وبالدعوة يأتي الإيمان، وثمرة الإيمان عبادة الله وحده، وطاعة الله ورسوله، وثمرة العبادة والطاعة رضا الله عزَّ وجلَّ ودخول الجنة: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].

والطاعات نوعان: طاعات تتعلق بالعبد نفسه، وتكون بالاستقامة على أوامر الله، بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات .. وكلاهما مطلوب من العبد. وطاعات تتعلق بالغير، وتكون بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الناس، والجهاد في سبيل الله .. وكلاهما مطلوب من العبد. وكل الطاعات مشروعة ومطلوبة، لكن الطاعة المتعلقة بالنفس بالنسبة للطاعة المتعلقة بالغير كالذرة بالنسبة للجبل في الأجر والثواب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئا» أخرجه مسلم (¬1). والمسلم إذا وضع جهده وما له ووقته تحت شجرة الطاعة تكبر وتزيد، ويزيد الخير، وإذا وضعه تحت شجرة المعصية تكبر وتزيد، ويزيد الشر. وقد جعل الله للحصول على الأرزاق طريقين: طريق الأموال والأسباب .. وطريق الإيمان والأعمال. فالأول عام، والثاني خاص. والإنسان في هذه الحياة إما أن يمشي على طريق الشهوات، أو على طريق الأوامر الشرعية، فالأول خاسر، والثاني رابح. والله عزَّ وجلَّ يؤيد من يمشي على طريق الأوامر الشرعية بالعطاء الغيبي كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وبالمشي على طريق الشهوات البدن يقوى، وبالمشي على طريق الأحكام ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

الروح تقوى. ومن مشي على طريق الشهوات لا يزول قلقه ولا همه حتى يسير على أحكام الله، ولو كان عنده الملك والمال، وسائر الشهوات والملذات كما قال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126]. والذي يمشي في طريق الطاعات تفتح له أبواب السعادة في الدنيا، ثم تزداد سعادته وسروره كلما أحدث طاعة .. ثم تزداد سعادته عند الموت حين تبشره الملائكة بالجنة .. ثم تزداد سعادته في القبر، فقبر المؤمن روضة من رياض الجنة .. ثم تزداد سعادته عند البعث والحشر، حيث يبعث آمناً من غضب الله وعقابه .. ثم تزداد سعادته وتبلغ كمالها إذا دخل الجنة، ورأى ربه، وفاز برضاه، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياكم ممن يكرم بذلك. والذي يمشي في طريق المعاصي تفتح له أبواب الشقاء في الدنيا .. ثم يزداد شقاؤه وألمه كلما أحدث معصية .. ثم يزداد شقاؤه وعذابه عند الموت حين تبشره الملائكة بالنار .. ثم يزداد عذابه وشقاؤه في القبر، فقبر الكافر حفرة من حفر النار .. ثم يزداد شقاؤه عند البعث والحشر، حيث يبعث خائفاً من غضب الله وعقابه .. ثم يزداد شقاؤه وعذابه ويبلغ كماله إذا دخل النار وأعرض عنه ربه، وباء بسخطه وغضبه، نسأل الله السلامة والعافية. وخاصية النفس تريد المعاصي والشهوات، فهي أمارة بالسوء، وخاصية الروح تريد طاعة الله، فالنفس تحب الشهوات، والروح تحب طاعة الله. وإذا قويت النفس انقاد الإنسان لها فأوقعته في الشهوات والمحرمات، وإذا قويت الروح انقاد الإنسان لها فحركت جوارحه لطاعة الله ورسوله. وكل من مشى مستقيماً على طاعة الله فتحت له أبواب الرحمة والبركة، ووجد اللذة والراحة في كل شيء أمر الله به، حتى يجد الراحة الكاملة في الجنة.

وكل من مشى على طريق الشهوات فهذا في الظاهر كالحلوى، وفي الحقيقة هو عين السم، فتفتح له أبواب الشقاء والمصائب، ولا يزال في البلاء والشدة حتى ينال كمال العذاب في جهنم. والذي يستعمل جوارحه وأمواله وأوقاته حسب أمر الله، فلا يأكل إلا ما أمر الله بأكله، ولا يلبس إلا ما أمر الله بلبسه، ولا يعبد الله إلا بما شرع، يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، ويقيد نفسه بأوامر الله، فهذا إذا جاء يوم القيامة أطلق الله جوارحه في الشهوات والملذات الدائمة، ومَلَّكَه جوارحه، وخَلَّده في النعيم المقيم في الجنة. ومن استعمل جوارحه وأمواله وأوقاته كيف شاء، فالله يمهله ويتركه يتمتع ويأكل ويلعب، فإذا جاء يوم القيامة قيده الله وأذله وأهانه وخلده في النار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. والله سبحانه إنما يخلي بين العبد والذنب لأجل معنيين: أحدهما: أن يعرف العبد عزة ربه في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته. فهو سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء، وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بما شاء، وقلب قلبه، وصرف إرادته على ما يشاء. وبذلك يعرف العبد أنه مدبر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته. ويشهد أن الكمال والحمد، والغنى والعزة، والقوة والقدرة، كلها لله وحده، ويعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له وقدرته عليه، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه ومقتوه. وهذا من كمال بره بعبده مع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه. فإذا اشتغل العبد بمطالعة هذه المنَّة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم من ربه، أقبل على طاعته، وأقلع عن معصيته.

البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة حتى تزكو وتثمر، والبيئة هي الأرض والماء والضوء والهواء. فكذلك رضا الله عزَّ وجلَّ هو الغاية والمقصد من الدين، وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان بالله، والإيمان لا بدَّ له من بيئة صالحة حتى يثبت ويزكو وينمو ويثمر. والبيئة هي التي تتمثل فيها الأعمال الصالحة كالعبادة والدعوة، والتعليم والذكر، واتباع السنن النبوية، والأخلاق والآداب الشرعية، وكل ما يرضي الله ورسوله. فالدرجة الأولى الدعوة .. وبالدعوة يأتي الإيمان .. وبالإيمان تأتي طاعة الله ورسوله .. ثم يأتي رضا الله ورسوله .. ثم يأتي دخول الجنة. وإذا ترك المسلم الدعوة إلى الله .. ضعف الإيمان .. وإذا ضعف الإيمان قلَّت الطاعات، وكثرت المعاصي .. وإذا جاء الكفر والمعاصي جاء غضب الله .. ثم نزلت عقوبة الله بمن عصاه في الدنيا، وبالنار في الآخرة. كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34] والطاعات والمعاصي وكل ما يجري في هذا الكون كله واقع بمشيئة الله وقدره، لكن الطاعات مأمور بها، والمعاصي مكروهة للرب، لكنه لم يأمر بها، لكنه شاء وقوعها، ولو لم يشأ لم تقع. وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن قدرته على تبديل من عصاه: إما بخير منهم كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. وأما بأمثالهم كما قال سبحانه: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)} [الواقعة: 60،61]. وإما بغيرهم كما قال سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ

وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133]. وكل من انصرف من الناس عن الإيمان والأعمال الصالحة صرف الله قلبه عن القرآن وتدبره والانتفاع به كما قال سبحانه عن المنافقين: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)} [التوبة: 127]. فصرف الله قلوبهم عن القرآن وعن الحق؛ لأنهم ليسوا أهلاً له، والمحل غير صالح ولا قابل. وإبليس لما عصى ربه، ولم يستجب لأمره، وأبى واستكبر، وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية، وهكذا العبد إذا أعرض عن ربه سبحانه، وأصر ولم يتب، جازاه الله بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال عليه؛ لأنه استمر في طغيانه، وازداد في كفره، فطبع على قلبه، وسد عليه طرق الهداية كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169]. وأسباب وقوع الإنسان في المعاصي والذنوب: إما بالغفلة عن الله .. أو بالغفلة عن أوامر الله .. أو بالغفلة عن اليوم الآخر .. أو يعتقد أن الوعيد ليس على ظاهره .. أو يذهل عن التحريم .. أو لا يستحضر عظمة الرب وشدة بأسه .. أو لفرط الشهوة .. بحيث تقهر مقتضى الإيمان وتغمره .. أو يزين له الشيطان المعصية ويغويه .. أو يغلب عليه جانب الرجاء، ونحو ذلك. والطاعات والمعاصي متفاوتة في درجاتها، ومنافعها ومفاسدها، وثوابها وعقابها. وأصل المعاصي نوعان: ترك مأمور .. وفعل محظور.

وهما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أبوي الجن والإنس، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور. وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب. وينقسم كل منهما باعتبار متعلقه إلى حق الله، وحق لخلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقاً للخلق؛ لأنه يجب بمطالبتهم به، ويسقط بإسقاطهم. والذنوب والمعاصي تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية .. وشيطانية .. وسبعية .. وبهيمية. فالذنوب الملكية: أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة والكبرياء، والقهر والعلو، والجبروت واستعباد الخلق ونحو ذلك، ويدخل في هذا الشرك بالله. وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، وصاحبه قد نازع الله في ربوبيته وملكه، وجعل له نداً. وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل. وأما الذنوب الشيطانية: فبالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي، والغش والغل، والخداع والمكر، والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعة الله وتهجينها، والابتداع في الدين ونحو ذلك. وهذا القسم يلي النوع الأول في المفسدة لكنه دونه. وأما الذنوب السبعية: فذنوب العدوان والغصب، وسفك الدماء، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، وأذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان. وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد الزنا والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل والشح، والجبن والهلع والجزع ونحو ذلك. وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والشيطانية

والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى الملكية بمنازعة الرب، والشرك به في وحدانيته. وبهذا التفصيل يتبين أن الذنوب دهليز الشرك والكفر. وفعل المعصية ذنب .. والإصرار عليها ذنب آخر .. والعزم على المعاودة لفعل المعصية ذنب آخر، ولعله أعظم من الذنب الأول بكثير. وهذا من عقوبة الذنب، فإن الذنب يوجب ذنباً آخر أكبر منه، ويجر إليه، ثم الثاني كذلك، وهكذا حتى يستحكم الهلاك للمذنب. فالإصرار على المعصية معصية أخرى، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب، مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه. فإن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة، فذنب عظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه، واطلاعه عليه فكفر، فهو دائر بين الأمرين: بين قلة الحياء، ومجاهرة نظر الله إليه .. وبين الكفر والانسلاخ من الدين. أما الفرح بالمعصية فهو دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظيم خطرها، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضرراً عليه من مواقعتها. والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبداً، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته به، فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكاب الذنب، وهذا عين الهلاك والخسران إن لم يتدارك نفسه بالتوبة النصوح. وقلب الإنسان إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب بالإيمان جاءت التقوى والأعمال الصالحة، وإذا فسد القلب، جاءت المعاصي والسيئات.

فالقلب إذا فسد فسد السمع والبصر، وإذا فسد السمع والبصر فسد القلب فهما متلازمان. فإذا أعرض القلب عن سماع الحق وأبغض قائله بحيث لا يحب رؤيته، امتنع وصول الهدى إلى القلب ففسد، وإذا فسد السمع والعقل تبعهما فساد البصر. والإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيراً منه، لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الإنسان الجاهل. فإذا أتاح الله للعبد فرصة القربة والطاعة فعليه بانتهازها والمبادرة إليها، فالعزائم والهمم سريعة الانتقاض. والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكِّنه بعد من إرادته؛ عقوبة له كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وعشق الصور، وحب الفواحش، إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى، المعرضة عنه، المتعلقة بغيره. فإذا امتلأ قلب العبد من محبة الله تعالى، والشوق إلى لقائه، دفع ذلك عنه حب تلك الصور والفواحش كما قال سبحانه في حق يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فسلم من السوء والفحشاء. فالإخلاص هو سبيل الخلاص .. والإسلام مركب السلامة. والإيمان خاتم الأمان .. والطاعات مركب النجاة .. والمعاصي طرق الهلاك. والله سبحانه خالق الخير والشر، والشر ليس إليه، وإنما الشر في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه خير كله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه.

فالإنسان إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والله عزَّ وجلَّ هو الذي جعله فاعلاً، فجعله فاعل خير، والمفعول شر قبيح، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه؛ لما له من الحكمة التي يحمد عليها، فالشر ليس إليه سبحانه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك. فهو سبحانه القدوس المنزه عن كل شر ونقص وعيب، وهو السلام الذي سلم من العيوب والنقائص، فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص، وأسماء النقص. وهو الكبير الذي تكبر عن السوء، العزيز الذي برئ من كل سوء وشر وعيب، الحميد الذي له الحمد كله. والله عزَّ وجلَّ كما جعل الحبوب والثمار تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الإنسان، وهي إما أعمال صالحة أو أعمال سيئة، ولكل عمل ثواب أو عقاب. والخلق في ذلك أربعة أقسام: الأول: من خلقه الله لطاعته وجنته، وهم المرسلون وأتباعهم. الثاني: من خلقه الله لطاعته وناره، وهم المراءون والمنافقون. الثالث: من خلقه الله لجنته لا لعبادته، وهم من أسلم ثم مات فوراً. الرابع: من خلقه الله لناره لا لعبادته، وهؤلاء هم المستكبرون عن عبادة الله كإبليس وفرعون وأتباعهما من الكفار والمشركين. والناس بالنسبة للثواب والعقاب ثلاثة أقسام: فأهل الإيمان والطاعات في الجنة .. وأهل الكفر والمعاصي في النار .. ومن لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، فهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة .. ومنهم المجنون الذي لا يعقل .. ومنهم الأصم الذي لا يسمع .. ومنهم الخرف الذي لا يعقل .. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً. فهؤلاء وأمثالهم يكلفون يوم القيامة ويمتحنون، فمن أطاع دخل الجنة،

وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه. والخلق بالنسبة للطاعات والمعاصي أربعة أقسام: الأول: من لهم طاعات ومعاصٍ، وهم الثقلان: الجن والإنس. الثاني: من ليس لهم طاعات ولا معاصٍ، وهم غير العاقل من جماد ونبات وحيوان. الثالث: من لهم طاعات ولا معاصي لهم، وهم الملائكة. الرابع: من لهم معاصي ولا طاعات لهم، وهم إبليس وذريته. والله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وهو الغفور الرحيم، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وله خزائن السموات والأرض، وهو خالق كل شيء، وهو رب العالمين: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68]. وإن من اتصف بهذه الصفات لحقيق بأن يكون الحب كله له، والتعظيم كله له، والإجلال كله له، والطاعات كلها له. وأن يذكر فلا ينسى .. ويطاع فلا يعصى .. ويشكر فلا يكفر. وأهل الطاعة هم المنعم عليهم في الحقيقة، ويجب عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم، وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى، فهم أهل النعمة المطلقة. ومن خلى الله بينه وبين معاصيه .. فقط سقط من عينه، وهان عليه وإن وسع الله عليه في الدنيا، ومد له من أسبابها، فإنهم أهل الابتلاء في الحقيقة: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 54 - 56]. والطاعة بذاتها فوز عظيم، فهي استقامة على منهج الله، والاستقامة على منهج الله فيه الراحة والطمأنينة. والاهتداء إلى الصراط المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء

سواه، فليس الذي يسير في الطريق الممهد المنير، وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون، كالذي يسير في الطريق المظلم ذي الحفر والتعرجات، وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه. إن طاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها، وهي الفوز العظيم قبل يوم الحساب، وقبل الفوز بالنعيم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71]. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة، فضل من الكريم المنان، فضل من كرم الله وفضله بلا مقابل، والله يرزق من يشاء بغير حساب. ولعله فضلٌ نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه، والتي تعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف، وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان دون المعرفة الكاملة كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. والله جل جلاله واجب الطاعة، ومن خصائص ألوهيته سبحانه أن يسن الشريعة، وشريعته واجبة التنفيذ؛ لأنها في خلقه وملكه، فعلى الناس كافة أن يطيعوا الله كافة كما أطاعته المخلوقات كافة. وعلى المؤمنين أن يطيعوا الله ابتداء، وأن يطيعوا الرسول بما له من صفة الرسالة من الله، فطاعته من طاعة الله الذي أرسله بهذه الشريعة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. فأما أولو الأمر فهم من المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله. والله عزَّ وجلَّ يجعل طاعته أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك؛ لأنه مرسل منه، ويجعل طاعة أولي الأمر من المؤمنين تبعاً لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فطاعتهم

مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع الإيمان. وهي طاعة في حدود المعروف والمشروع من الله، والذي لم يرد نص بتحريمه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ» متفق عليه (¬1). والشريعة التي تطاع، والسنة التي تتبع، واحدة لا تتعدد، ولا يتوه فيها الفرد، وذلك فيما ورد فيه نص صريح. فأما الذي لم يرد فيه نص .. وأما الذي يعرض من المشكلات والأحوال على مدى الزمان ولا يكون فيه نص قاطع .. أو لا يكون فيه نص على الإطلاق .. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام .. فإن الله لم يتركه بلا حل، بل جعل له ميزاناً يوزن به .. وهو يرده إلى الله والرسول. فيرد الأمر والحال إلى النصوص الشرعية، فإن لم توجد النصوص التي تنطبق عليه، فيرده أولو الأمر إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشرعه. وطاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين القائمين على شريعة الله، ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، هذه وتلك شرط ومقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر. والمؤمنون حقاً لهم أدب مع الله ورسوله، ولهم قول حسن إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور كما قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51]. فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال، السمع والطاعة المبنيان على الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم، وما عداه الظلم والهوى النابعان من التسليم المطلق لله العليم بمصالح خلقه، الرحيم بهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7144) واللفظ له، ومسلم برقم (1839).

وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52]. إن المؤمنين عندهم الطاعة لله ورسوله: في كل أمر .. وفي كل نهي .. وفي كل حكم .. وفي كل شأن. وهي طاعة مصحوبة بخشية الله وتقواه، والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله، والشعور به عند الصغيرة والكبيرة، والتحرج من إتيان ما يكره، توقيراً لذاته سبحانه، وإجلالاً له، وحياءً منه، إلى جانب الخوف والخشية. وذلك أدب رفيع ينبئ عن مدى إشراق قلب المؤمن بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته، مما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه، فكل طاعة لا ترتكز على طاعة الله ورسوله ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن: فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 9].

3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. ضرر الذنوب والمعاصي والآثام في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وليس في الدنيا والآخرة من شر إلا وسببه الذنوب والمعاصي. ومن آثار وأضرار الذنوب والمعاصي: حرمان العلم .. وحرمان الرزق .. والوحشة بين العبد وربه، وبينه وبين الناس .. وظلمة يجدها العبد في قلبه .. وتعسر أموره عليه .. وحرمان الطاعة .. ووهن القلب والبدن. والمعاصي تقصر العمر .. وتمحق بركته .. وتنقص العقل .. ويجر بعضها إلى بعض .. فيألفها العاصي ولا يستطيع مفارقتها .. ولا يستقبح فعلها أمام غيره. والمعاصي سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وكما أن العز في طاعة الله .. فكذلك الذل في معصية الله. والمعاصي مفسدة للعقول، تورث الطبع على القلوب، وتدخل العبد تحت لعنة الله ورسوله، وحرمانه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة. ومن آثار الذنوب والمعاصي كذلك: أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الإنسان والحيوان، وفي المياه والهواء، وفي الزروع والثمار وغيرها. والمعاصي تذهب الغيرة من القلب، وتذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب،

وتضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في القلب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتركه وخذلانه له، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه. ومن عقوباتها أنها تسبب نسيان العبد لنفسه، وتخرجه من دائرة الإيمان والإحسان إلى ما دونها، وتمنعه ثواب المؤمنين. فالإيمان سبب جالب لكل خير، وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان والطاعات، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه الكفر والمعاصي. والطاعات تقوي سير القلب إلى الله والدار الآخرة، والمعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه، أو توقفه. فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته تدريجياً حتى ينقطع عن السير إلى الله. فإن نجاسة المعاصي والفواحش في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة. فكما أن بدن الإنسان إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة استراح فعمل بلا معوق ونما، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، وزكا ونما وقوي واشتد، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له الجوارح وأطاعت، ولا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30]. والله عزَّ وجلَّ لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا فيها، ثم في الآخرة يوفيه أجره بأعظم مما في الدنيا كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} [النحل: 30].

وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وكذلك الكفار يعاقبون بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم يصيرون في الآخرة إلى أشد العذاب كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. فما أجدر العاقل بطاعة ربه، واجتناب معصيته، ولو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى؛ لعظمته وجلاله، وجزيل نعمه وإحسانه. والله عزَّ وجلَّ لما خلق آدم - صلى الله عليه وسلم -، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى بسعادة من علمه مطيعاً، وشقاوة من علمه عاصياً، وطار لكل واحد ما هو صائر إليه كما قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} [الإسراء: 13]. والطاعات سبب لنزول النعم، وحصول البركات، والمعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم، وتسبب الوحشة والرعب والخوف في قلب العصاة، وكلما كثرت الذنوب زادت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين خلقه، فالغفلة توجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك. والطاعات غذاء للقلوب، والمعاصي تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه. والذنوب تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد أبواب العلم، وتحجب موارد الهداية، وتذل النفس وتصغرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره. والطاعات تجعل مع العبد معية الله ونصره وحفظه، والذنوب تجعل العاصي في أسر شيطانه، وسجن شهواته، وقيد هواه: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38]. وإذا قيد القلب طرقته الآفات بحسب قيوده، فلا يستطيع السير إلى الله والدار

الآخرة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24]. وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله عزَّ وجلَّ مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله .. وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة. وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية .. وبعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله، والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار، وشتان ما بين الأمرين: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20]. فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن، والتقي والمطيع والورع، والطيب والصالح والعابد، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي، والمفسد والمسيء، والمجرم والخبيث، والكاذب والخائن، والسارق والزاني، والظالم والفاسق ونحو ذلك من أسماء الفسوق. والطاعات صلة بين العبد وربه، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36،37]. والمعاصي والذنوب تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، بل تمحق بركة الدين والدنيا، وما محقت بركة الأرض إلا بمعاصي الخلق كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].

وإنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل وغيرها؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، وكل شيء اتصل به الشيطان فبركته ممحوقة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة. فإن الله هو الذي يبارك وحده، والبركة كلها منه، وكل ما نُسب إليه مبارك من الكلام، والأنبياء، والأزمنة، والأمكنة، والأعمال، والعبيد كما قال سبحانه عن كتابه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155]. وقال رسوله عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)} [مريم: 31]. وقال عن بيته الحرام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]. فـ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]. وضد البركة اللعنة، فأرض لعنها الله، أو أمة لعنها الله، أو شخص لعنه الله، أو عمل لعنه الله، هو أبعد شيء من الخير والبركة، وكل ما اتصل بذلك فلا بركة فيه البتة. وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه، واتصاله به. ولعن سبحانه الكافرين والظالمين، وكل من آذى الله ورسوله، ولعن الكاذبين والمفسدين، ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159،160]. وأهل طاعة الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، وهم أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وهم الأسفلون في الدنيا والآخرة. والذنوب والمعاصي تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئاً لأن يكون من

العلية البررة. وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، ثم في أسفل سافلين كحال العصاة والكفار والمنافقين كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وكلما عمل العبد طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، ثم في أعلى الأعلين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69،70]. والنزول أمر لازم للإنسان كالصعود، فقد هيأه الله ليصعد بالطاعات إلى أعلى، أو ينزل بالمعاصي إلى أسفل. فمن شاء أن يتقدم فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه إلى دار كرامته، أو يتأخر عما خلق له، وعما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، فكل ذلك ميسر وممكن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 37]. والنزول درجات: فهو يحصل للعبد بسبب الغفلة .. أو التوسع في المباحات .. أو إلى معصية صغيرة أو كبيرة .. فهذا علاجه الإقلاع والتوبة. فإن كان النزول إلى أمر يقدح في أصل الإيمان كالشك والريب والنفاق، فهذا لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه. ومن عقوبات المعاصي والآثام: أنها تجرئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات. فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة، والتخويف والتحزين والنسيان، وتؤزه إلى المعاصي أزاً.

ويجترئ عليه شياطين الإنس بما يقدرون عليه من أذاه. ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه، حتى الحيوان البهيم. ويجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه الحد. وتجترئ عليه نفسه فتستأسد عليه، وتصعب عليه، فلا تنقاد له، فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له، وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى. وذلك لأن الطاعة حصن الرب، فمن دخله كان آمناً، فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وبحسب اجترائه على معاصي الله تكون جرأتهم عليه، وانتقامهم منه. والقلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، والنفس المطمئنة تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف، وربما ماتت، والمعاصي تخوف العبد أحوج ما يكون إلى نفسه. فإذا وقع العبد في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكر ذكر بلسانه دون قلبه. ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وأدهى من ذلك وأمر أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، فربما لم ينطق بالشهادة عند الموت، بل ربما نطق بضدها أحياناً. والمعاصي تعمي القلب وتضعف بصيرته، فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الله، ومعرفة الهدى، وقدرته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته، فينعكس إدراكه كما ينعكس سيره، فيدرك الباطل حقاً، والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها، وغفلت عن الله وآياته، فماذا أعد الله لهؤلاء من العذاب؟.

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8]. ومن عقوبات الذنوب والمعاصي: أن المعاصي مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، وهو الشيطان الذي لا يفارق الإنسان طرفة عين، يراه الشيطان من حيث لا يراه. والنفس أول مداخل الشيطان على القلب، فإذا منَّاها وحقق لها مرادها اطمأنت إليه، فخامرت القلب، وصارت مع الشيطان عليه. وبذلك يملك الشيطان ثغور البلد وهي: العين .. واللسان .. والأذن .. والفم .. واليد .. والرجل. ويرابط على هذه الثغور كل المرابطة، ويدخل على القلب منها فيفسده، فيجعل نظر العين نظر تفرج ولهو لا نظر فكر واعتبار، وهذا أخطر شيء. ويرابط على ثغر الأذن، فلا يدخل منه إلا الباطل، الذي هو خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، ولا يسمح بدخول هذا الثغر من كلام الله ورسوله أو كلام النصحاء والوعاظ. فإن غلب ودخل شيء من ذلك، حال بينه وبين فهمه وتدبره والعظة به، إما بإدخال ضده عليه، أو بتهويل ذلك وتعظيمه، وأنه حمل ثقيل عليها لا تستطيعه، وإما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس، والذي زبائنه أكثر. وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرِّض نفسه للعداوة والشبهة، يدخل الشيطان عليه الباطل بالقالب الذي يحبه ويقبله ويخف عليه، ويخرج له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه، وينفره منه. ويجتهد الشيطان على ثغر اللسان، وهو الثغر الأعظم، فيجري عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، ويمنعه أن يتكلم بشيء مما ينفعه من ذكر الله واستغفاره، وتلاوة كتابه، والدعوة إليه، والنصح لعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويرابط الشيطان على اللسان، ويزين له التكلم بالباطل بكل طريق، ويخوفه عن التكلم بالحق بكل طريق، فلا تراه إلا متكلماً بباطل، أو ساكتاً عن حق. فالأول شيطان ناطق، والآخر شيطان أخرس، والشياطين وأتباعهم في جهنم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران: 77]. ويجتهد الشيطان كذلك على ثغر اليدين والرجلين، فيمنع اليد أن تبطش بما يضر أعداء الله ورسوله، ويمنع الرجل أن تمشي للخير وجهاد أعداء الله ورسوله، والدعوة إليه. يحرك الجوارح لكل معصية .. ويثبطها عن كل طاعة. فما أعظم عداوة الشياطين لبني آدم، وما أشد غفلة بني آدم عنهم؟. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62]. ومما يعين الشياطين على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة بالسوء، وإعانتها والاستعانة بها، والوقوف معها ضد النفس المطمئنة. فإن النفس الأمارة إذا قويت وأطاعت الشياطين، أنزلوا القلب من حصنه، وأخرجوه من مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة بالسوء، التي تأمر بما تهوى الشياطين وتحبه، ولا تخالفهم البتة، بل تبادر إلى فعل كل ما يشيرون به من الفواحش والآثام. والشياطين تغلب بني آدم بجندين: الأول: جند الغفلة التي تغفل قلوب بني آدم عن الله والدار الآخرة. الثاني: جند الشهوات التي يزينونها في قلوب بني آدم، ويحسنونها في أعينهم، ثم ينقلونهم منها إلى المحرمات، ثم إلى الكبائر، ثم الخروج من الدين.

يستعينون تارة بالشهوات على الغفلة، وتارة بالغفلة على الشهوات، يصطادون بني آدم عند الشهوة، وعند الغضب، وعند الغفلة. ويدعونهم إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من باب الشهوة، وأبلغ أسلحة الشياطين في بني آدم الغفلة واتباع الهوى، ولذلك حذرنا الله من ذلك بقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. ومن عقوبات الذنوب: أنها تنسي الإنسان نفسه، وإذا نسي العبد نفسه أهملها وتركها ففسدت، وإذا نسي العبد ربه نسيه، وأنساه نفسه. ونسيان الرب للعبد إهماله وتخليه عنه، وإضاعته، وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها، وما تكمل به، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها. وينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بباله مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، وكفى بذلك عقوبة، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 18،19]. وكيف تكون حال الإنسان إذا نسيه ربه؟ ونسي هو ربه؟ ونسي نفسه؟ وأنساه الله نفسه؟. وإنما يظهر أثر هذا عند الموت، ويزداد ظهوره في القبر، ويبلغ تمامه يوم التغابن. فالذنوب والمعاصي تنسي العبد حظه من التجارة الرابحة، وتشغله بالتجارة الخاسرة، وتجمع حوله الأشرار، وتنفره من الأتقياء الأبرار. والمعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فلكل شيء سبب وآفة،

فنعم الله ما حُفظ موجودها، ولا استُجلب مفقودها بمثل طاعة الله. وجعل آفاتها المانعة منها المعاصي: فإذا أراد الله سبحانه حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. ومن عقوبات المعاصي والذنوب: أنها تباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له، وهو الملك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وهو الشيطان. فالعبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، وقرب منه الشيطان، وإذا أطاع العبد ربه قرب منه الملك، وتباعد منه الشيطان. ولا يزال الملك يقرب من العبد بالطاعة، فتتولاه الملائكة في حياته، وعند موته، وعند بعثته، وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له، يبشره بالخير، ويعينه عليه، ويدفع عنه عدوه. وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه بالقول السديد، وإذا اشتد قرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه بالفحش والزور. والمعاصي والذنوب والآثام تستجلب مواد هلاك العبد في الدنيا والآخرة، وتلك أمراض متى استحكمت ولم تعالج قتلت ولا بدّ. وكما أن صحة البدن تكون بغذاء نافع يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة، وحمية يمتنع بها مما يؤذيه. فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة، تحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح تستخرج المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة منه، وحمية توجب له حفظ الصحة بترك النواهي والمحرمات. فهذه بعض العقوبات القدرية على المعاصي.

أما عقوبات المعاصي الشرعية: فالله عزَّ وجلَّ شرع عقوبات شرعية على الجرائم كقطع اليد في السرقة، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق، والجلد بالقذف وشرب الخمر، والقتل والجلد في الزنا، وغير ذلك من العقوبات التي شرعها الله ورتبها على الجرائم، وجعلها سبحانه على حسب الدواعي، وحسب الوازع عنها. فالذنوب والمعاصي تترتب عليها العقوبات الشرعية، أو القدرية، أو هما معاً، وقد يرفعهما الله عمن تاب وأحسن. وإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية، أو خففتها كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98]. وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنها تعم، والشرعية تخص كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80]. والعقوبات القدرية نوعان: نوع على القلوب والنفوس .. ونوع على الأبدان والأموال. وعقوبات القلوب أشد العقوبتين، وهي تسري من القلب إلى البدن، كما يسري ألم البدن إلى القلب. والعقوبات على الأبدان نوعان: نوع في الدنيا .. ونوع في الآخرة. وشدتها وآلامها بحسب تلك المعصية، وليس في الدنيا والآخرة شراً أصلاً إلا

الذنوب وعقوباتها. ومن عقوبات الذنوب: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين وعلامة الخسف بالقلب: أنه لا يزال جوالاً حول السفليات، والقاذورات، والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول العلويات، والطاعات، والطيبات. وأصول الخطايا كلها ثلاثة: الأول: الكبر .. وهو الذي صير إبليس إلى ما صار إليه. الثاني: الحرص .. وهو الذي أخرج آدم من الجنة. الثالث: الحسد .. وهو الذي جر أحد ابني آدم على قتل أخيه، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض. ومن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والظلم من الحسد. وقد دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله. وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على الهدى. وباب غضب أورث العدوان على خلق الله. فللسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة لا بد من طاعة الله ورسوله، وكلما ازداد المسلم من طاعة الله ورسوله ازداد خيره وكماله، وارتفعت درجته عند الله لزيادة إيمانه وأعماله كما قال سبحانه: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158]. والله شكور يقبل اليسير من العمل، ويجازي عليه بالأجر العظيم. فمن أطاعه أعانه على ذلك .. وأثنى عليه ومدحه .. وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة .. وفي بدنه قوة ونشاطاً وعافية.

وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء .. وفي أعماله زيادة توفيق. ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً، لم تنقصه هذه الأمور. ومع أنه سبحانه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك. وبالطاعات تصلح أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة .. وبالمعاصي تفسد أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة. فالبهائم إذا أكلت الحشائش، والسباع إذا أكلت اللحوم، صح مزاجهما، وإذا علفت البهائم اللحم، وعلفت السباع الحشائش، فسد مزاجهما. وكذلك الإنسان إذا باشر أعمالاً صالحة صلح مزاجه الملكي، وإذا باشر أعمالاً سيئة فسد مزاجه الملكي. فلصلاح الإنسان يجب عليه الإيمان بالله، وطاعة الله ورسوله في كل حال، وفعل الأوامر، واجتناب النواهي. والحيوان مجبول على أكل ما ينفعه، واجتناب ما يضره، أما الإنسان فقد أعطاه الله العقل، وأنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، وبين له ما ينفعه وما يضره، وترك له حرية الاختيار امتحاناً وابتلاءً. والطاعات كلها منافع، فالسموات والأرض، والشمس والقمر، والحيوان والنبات، كلها أطاعت فنفعت، وخرج منها من المنافع ما لا يعلمه إلا الله. وكذلك الإنسان كلما أطاع الله نفع نفسه وغيره، وخرج منه من المنافع ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، والإنفاق، وأعطاه الله من خزائنه ما يريد.

4 - فقه النعيم والعذاب

4 - فقه النعيم والعذاب قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14]. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرعد: 35]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وهو الحكيم العليم. يعز ويذل .. ويكرم ويهين .. ويرضى ويغضب .. ويعطي ويمنع .. ويحب ويكره .. ويرفع ويخفض .. ويرحم وينتقم: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. اقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، المطيعين لرسله، وهي الجنة دار النعيم. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب، ومشتهي ولذيذ، وجعل الخير كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات،

والأقوال والأعمال، كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. وخلق سبحانه داراً أخرى لطالبي أسباب سخطه، العاملين بمعصيته، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، المخالفين لأوامره، القائمين بما يكره من الأقوال والأعمال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله، وهي جهنم دار العذاب. وأودعها كل شيء مكروه، وسجنها مليء بكل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات، والأقوال والأعمال. فهاتان الداران هما دار القرار. وخلق سبحانه داراً ثالثة، هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا دار العمل. ثم أخرج سبحانه إليها من أثمار تلك الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالغيب وجه شهادة تستأنس به النفوس، وتستدل به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفس ومشتهياتها، ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال والدوام. فإذا رآه المؤمنون في الدنيا، ذكرهم بما هناك من الخير والسرور، والعيش الرضي في الآخرة، فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً، وجداً وتشميراً؛ لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه. فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى دار النعيم والخلود، فالنفس ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه، حتى تتوق وتصل إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم. وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسَين الشتاء والصيف، اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا،

فَقالتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» متفق عليه (¬1). فاقتضى ذلك النفسان آثاراً ظهرت في هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة، تذكرة تذكر بنار جهنم، ومنفعة للعباد كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة: 71 - 73]. فالله سبحانه وتعالى أشهد خلقه في هذه الدار ما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه في دار القرار. وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما في الآخرة من خير وشر ونعيم وعذاب. وجعل هذه العقوبات والآلام المحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر، واستدلوا بها على ما في نار جهنم من المكروهات والعقوبات. وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها، وامتحانهم باليسير منها، رحمة منه بهم، واحساناً إليهم، وتذكرة وتنبيهاً لهم. ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها، ونعيمها بعذابها، وراحتها بعذابها، اقتضت رحمة أرحم الراحمين، وحكمة أحكم الحاكمين أن خَلَّص خيرها من شرها، ونعيمها من عذابها، وخصه بدار أخرى، هي دار الخيرات المحضة، ودار النعيم والسرور المحض، وهي الجنة دار السلام. فكتب سبحانه على دار الدنيا حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3260) واللفظ له، ومسلم برقم (617).

بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه الله ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه. بل العبد الواحد جمع فيه سبحانه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه ويرضاه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه سبحانه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بخلق دارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها. وخلق سبحانه المؤمنين المتقين المخلِّطين لرحمته .. وخلق أعداءه المشركين والكافرين لنقمته .. وخلق المخلِّطين للأمرين. فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة، وخلق قسماً آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً. ورتب سبحانه على كل قسم من هذه الأقسام حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار من خلقه من يصلح للاختبار والابتلاء، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويضع عقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك. ولا يظلم سبحانه أحداً، ولا يبخسه شيئاً من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته. بل يجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ويعاقب على السيئة بمثلها ويعفو عن كثير. هذا مع ما في هذا الابتلاء والامتحان من الحكم النافعة للعبيد أنفسهم من استخراج شكرهم وصبرهم .. وتوكلهم وجهادهم .. وخوفهم ورجائهم .. واستخراج كمالاتهم الكامنة في أنفسهم من القوة إلى الفعل. ودفع سبحانه الأسباب بعضها ببعض .. وكسر كل شيء بمقابله لتظهر عليه آثار القهر .. وسمات الضعف والعجز .. ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً

وأنه يستحيل أن يكون له شريك في أسمائه وصفاته وفي خلقه وأمره. وأن الملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، وأن ما سواه مربوب مقهور له ضد ومناف ومشارك، والله حكيم عليم. فخلق سبحانه الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها. وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره. وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها. وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته. وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها. وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته. وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة، يشردونهم كل مشرد، ويطردونهم كل مطرد، ونجوم السماء والشهب التي ترجمهم عند استراق السمع. وخلق سبحانه الحر والبرد، والشتاء والصيف، والليل والنهار، والرطب واليابس، وسلط كل واحد منهما على الآخر يذهبه ويقهره. وخلق سبحانه النبات والحيوان والطير، في البر والبحر، وسلط بعضها على بعض، فلكل واحد منها مضاد ومغالب وقاهر. فسبحان الحكيم الخبير الذي خلق كل شيء، المالك لكل شيء، القاهر لكل شيء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73]. فاستبان للعقول والفطر أن الحكيم العليم سبحانه هو القاهر الغالب وحده لجميع المخلوقات، فهو خالقها ومالكها ومصرفها، وكلها تحت قهره وأمره. ومن تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه، وربط بعضه ببعض، وابتلاء بعضه ببعض، وامتزاج بعضه ببعض، وقهر بعضه ببعض، وإحواج بعضه إلى بعض، وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداء، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم

القيامة كافر، ويقال له هذا فداؤك من النار، ويرث مكانه في الجنة. وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله يوم القيامة، أو يكون فداءً له من شرور أكثر منها في هذا العالم أيضاً. فسبحان الحكيم العليم، اللطيف الخبير: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الملائكة والإنس والجن والشياطين، وجعل لكل منهم أعمالاً وأوامر، وهم يوم القيامة أربعة أصناف: خلق كلهم في الجنة وهم الملائكة .. وخلق كلهم في النار وهم إبليس وذريته من الشياطين .. وخلق بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار وهم الجن والإنس. فهؤلاء الإنس والجن هم الذين أرسل الله إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأمرهم بعبادته وطاعته. فمن قيد حريته منهم في الدنيا بمنهج الله، أطلق الله حريته في الآخرة، فيستدعي في الجنة من النعمة ما شاء، في أي وقت شاء، بأي قدر شاء .. ومن أطلق حريته في الدنيا بما شاء، وأعرض عن منهج الله، قيد الله حريته في الآخرة، ونال في سجن جهنم ألوان العذاب جزاءً وفاقاً. والإنس والجن من مات منهم على الكفر، فهذا مخلد في النار. والمؤمن المحسن منهم إذا مات على ذلك، فهذا في الجنة. والمؤمن المذنب إذا مات تائباً، فهذا في الجنة كذلك. أما المؤمن المذنب الذي مات قبل توبته: فآيات الوعد في القرآن والسنة لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في المؤمن المحسن، وفي التائب من الذنب، وفيمن سبق في علم الله العفو عنه. وآيات الوعيد لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في الكفار

والمشركين والمنافقين، وفيمن سبق في علم الله أنه يعذبه من العصاة. كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. وينشأ للعبد من أعماله الصالحة كل ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن واللذة والموافقة بحسب كمال عمل العبد وإخلاصه فيه، وتنوعه ومتابعته فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه. وينشأ له كذلك من أعماله السيئة كل ما تكرهه نفسه، وتستقبحه عينه من سائر المكروهات والمؤلمات، ويكون تنوع تلك الآلام وشدتها، وبلوغها مرتبة القبح والشدة بحسب أعمال العبد السيئة، وصده عن سبيل الله، وبحسب تنوع أعماله السيئة وخبثه وكبره وإعراضه. فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام والمصائب التي يتألم بها في تلك الدار، وكثرت بحسب كثرة أعماله. رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قنواً من حشف معلقاً في المسجد للصدقة فقال: «لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه أبو داود والنسائي (¬1). وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثراً وجزاء، ولذة وألماً يخصه ولا يشبه أثر الآخر وجزاءه. ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم، وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود برقم (1608)، صحيح سنن أبي داود رقم (1419). وأخرجه النسائي برقم (2493)، صحيح سنن النسائي رقم (2337).

أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172]. وليس ألم من ضرب في كل مسخوط لله بسهم وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. والحياة الطيبة تحصل للعبد بالإيمان والأعمال الصالحة من عبادة، ودعوة إلى الله، وتعليم للدين، وحسن خلق، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. والحياة الطيبة ليست في الدنيا فقط، بل هذه الحياة الطيبة تزداد طيباً وحسناً كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى. فيسعد المؤمن بذلك في الدنيا .. ثم تزداد سعادته عند سكرات الموت، حين تنزل عليه الملائكة تؤنسه وتبشره بالجنة .. ثم تزداد سعادته في القبر حيث يجعله الله روضة من رياض الجنة .. ثم تزداد سعادته في الحشر، حيث يزداد طيباً وحسناً وطمأنينة .. ثم تبلغ سعادته كمالها حين يدخل الجنة، ويفوز برؤية مولاه ورضاه. وهكذا الإنسان يفسد حياته بنفسه، فكلما أساء في عمله ساءت أحواله، وجاءت عليه المحن والمصائب .. ثم زادت عليه عند الموت. ثم تزداد في القبر .. ثم تزداد عند الحشر .. ثم تزداد وتبلغ كمالها حين يدخل نار جهنم، ويبوء بسخط الله وغضبه ولعنته. والحياة الطيبة لا تكون بالأموال والأشياء، ولو كانت تحصل بالأموال لكان قارون أسعد الناس، لكن الله خسف به وبداره الأرض؛ لأنه لم يكسبها ولم يصرفها حسب الإيمان فأهلكه الله وإياها: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81]. ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالزراعة لكان قوم سبأ أول من تصلح وتطيب

حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن دين الله دمر الله مزارعهم بسيل العرم، ومزقهم كل ممزق كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} [سبأ: 15 - 17]. ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالقوة والصحة لكان قوم عاد أول من تطيب حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن الدين لم تنفعهم قوتهم، وعاقبهم الله بأهون شيء عليهم وهي الريح: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41 - 42]. ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالتجارة لكان قوم شعيب أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله بعذاب الرجفة والصيحة كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)} [هود: 94]. ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالملك لكان نمرود وفرعون أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله وأذلهم بين خلقه كما قال سبحانه عن فرعون: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} ... [الذاريات: 38 - 40]. ولو كانت كثرة النسل وطول الأعمار تحصل بها السعادة والحياة الطيبة، لكان قوم نوح أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أغرقهم الله كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37]. ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالبناء والتعمير، وزراعة السهول، وبناء القصور لكانت ثمود أسعد الناس، ولكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم ودمرهم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ

خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} [هود: 66 - 68]. فلا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان والأعمال الصالحة: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} ... [طه: 74 - 76]. وثواب الله عزَّ وجلَّ على الطاعات، وجزاؤه على السيئات، حاصل لكل عبد، وذلك في الدنيا والآخرة. فثواب الله العاجل للعبد على الطاعات: الأنس بالله .. ومحبته .. والتلذذ بمعرفته وطاعته وعبادته .. والرضا بقضائه .. والطمأنينة بذكره .. وبسط الرزق .. والكفاية والهداية .. وغير ذلك مما عجله الله سبحانه من ثواب الطاعات في الدنيا. أما ثواب الطاعات الآجل فأنواع: أحدها: النعيم المادي كالمطاعم والمشارب، والحور والقصور والولدان المخلدون للخدمة ونحو ذلك. الثاني: النعيم الروحاني كالتعزز بجوار الله وقربه، وسماع كلامه وسلامه، وتبشيره بالرحمة والرضوان. الثالث: رضا الرحمن، ورؤية رب العالمين، وهما أعلى نعيم الجنان كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72]. وأما عقوبة الله العاجلة على المعاصي فهي: الوحشة من الله .. والإعراض عنه .. والاشتغال بما يبعده عنه .. ومحبة ما

يسخطه وما يبغضه من الأقوال والأعمال .. وعدم الرضا بقضائه .. وضيق المعيشة .. والضلالة .. ونسيان ذكره .. والقعود عن طاعته .. وبعد الملائكة عنه .. واقتران الشياطين به .. والدعوة إلى كل شر .. وأما عقوبة الله الآجلة على المعاصي يوم القيامة فأنواع: أحدها: العذاب الجسدي في نار جهنم بألوان العذاب من الإحراق بالنار، وأكل الزقوم، وشرب الماء الحميم، وضرب المقامع، وقيد السلاسل وغير ذلك من ألوان العذاب. الثاني: العذاب الروحاني بالطرد والإهانة، واللعن والإعراض عنه. الثالث: غضب الله عليه، ومنعه من رؤيته، وهما أشد أنواع العذاب كما قال سبحانه، عن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15 - 16]. وما أحسن محسن من مسلم وكافر إلا أثابه الله في الدنيا والآخرة. أما المسلم فله السعادة في الدنيا، وله الجنة في الآخرة. وأما الكافر فإن كان قد وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله تعالى في الدنيا المال والولد والصحة ونحو ذلك حتى يلقى الله وليس له حسنة واحدة؛ لأن ما فعله من خير جوزي به في الدنيا. وأما إثابة الكافر في الآخرة فعذاب دون عذاب، فعذاب من كفر ولم يؤذ المسلمين ليس كعذاب من كفر وصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. وقد أرسل الله عزَّ وجلَّ الرسل لهداية الناس، فمن آمن بهم وأطاعهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصاهم شقى في الدنيا والآخرة. وقد عرض الله عزَّ وجلَّ في كتابه صوراً من صور العذاب الذي وقع بالأمم السابقة الذين كذبوا رسله، فنصر سبحانه أولياءه، وأهلك أعداءه: فمنهم من

أهلكهم الله بالماء كقوم نوح وفرعون وقومه .. ومنهم من أهلكه الله بالريح الصرصر العاتية كقوم عاد .. ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كقوم ثمود .. ومنهم من أهلكه الله بالنار التي أمطرتهم كقوم مدين .. ومنهم من أهلكه الله بالحجارة المصنوعة في جهنم وقلب ديارهم عليهم كقوم لوط .. ومنهم من خسف الله به وبداره الأرض كقارون .. ومنهم من قتله الله بأضعف خلقه البعوض كنمرود: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. وقد جعل الله الجزاء على الأعمال في الآخرة لا في الدنيا؛ لأن العبد لو جوزي في الدنيا، وأعطى الله النعم والعافية لأهل الإيمان .. وأعطى الفقر والأمراض والمصائب والعذاب للكفار وأهل السيئات في الدنيا؛ لاهتدى الناس جميعاً بالطبع، وآمنوا جبراً وكرهاً. وهذا الإيمان والاهتداء لا يقبل عند الله، فالإيمان الجبري ليس مقصوداً عند الله كما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]. فالذين آمنوا بالله وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح لهم جنات النعيم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} [لقمان: 8 - 9]. ألا ما أعظم فضل الرب على عباده، لقد أوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه، وهو الغني عن الجميع كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. والنعيم الكامل بلا منغصات يكون للمؤمنين يوم القيامة، وهو غاية من غايات الخلق والإعادة، إنه قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية.

والبشرية لا يمكن أن تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة إلا لذة الإيمان بالله الخالصة، وهذه قلما تخلص لبشر. ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها، لكان هذا وحده ناقصاً منها، وحائلاً دون كمالها. فالبشرية لا يمكن أن تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت، ولا قلق من الانتهاء. بل هذا كله تبلغه في الجنة، وما فيها من النعيم الواسع الشامل الكامل، وهناك يبلغ المهتدون من البشرية الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة التي شرعها الله لعباده، هناك يبلغون في الجنة إلى أعلى مراتب البشرية: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فهؤلاء لم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه وأعرضوا عنه. وهذا يقتضي حسب السنة الإلهية التي لا تتخلف ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال؛ لأنهم جانبوا طريق الكمال، فلم يبق إلا أن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه وإعراضه عن أوامر وتعليمات الصحة الجسدية، هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ في نار جهنم. فإعادة الخلق ليبلغوا هناك كمال النعيم لمن أطاع ربه، وكمال العذاب لمن عصى ربه: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس: 4]. والذين يرون هذا الكون وما فيه من المخلوقات والأوامر وتقلب الأحوال، ثم

لا يتوقعون لقاء الله، ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية؛ لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود، والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر، ولا عقلاً يتفكر، هؤلاء لم يسلكوا طريق الكمال البشري، ولم يصلوا إلى الجنة التي وعد بها المتقون. فهذا النظام الكوني البديع، وهذا التصريف والتغيير، وهذا الخلق المتجدد، وهذه الأوامر التي تعقبها الحياة والموت، والسكون والحركة، هذا كله يوحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، وهؤلاء لا يدركونه، ولا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام وهذه السنن، يتم فيها تحقيق القسط والعدل، كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا من كمال ونعيم وخلود. ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا يقفون عند الحياة الدنيا بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصاً، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر، فهؤلاء جزاؤهم النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7 - 8]. أما المؤمنون فيدركون أن هناك آخرة، وأن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وهي الجنة الأبدية التي أعدها الله لهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]. وثواب الإيمان والطاعات الجنة .. وعقوبة الكفر والمعاصي النار. والله عزَّ وجلَّ لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].

وعذاب الله يستحقه المسيء بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله عنه التعذيب حتى تقوم الحجة بالعلم به. وقيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة دون أخرى. كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً. وأفعال الله عزَّ وجلَّ تابعة لحكمته فهو الفعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها. ليس في أفعاله سبحانه خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، فهو الفعال لما يريد، ولكنه لا يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة كما قال سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. والمؤمنون الأبرار تكون قلوبهم في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيم البتة، بل إن التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه وذاق حلاوته كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14]. فالنعيم والجحيم ليس في الآخرة فقط، بل في الدور الثلاث: دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار. وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ .. وهل العذاب إلا عذاب القلب؟. وأي عذاب أشد من إعراض العبد عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله؟. وكل شيء تعلق به الإنسان وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب، فكل

من أحب شيئاً غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار: يعذب به قبل حصوله حتى يحصل .. فإذا حصل عذب به بالخوف من سلبه وفواته .. فإذا سلبه اشتد عذابه عليه. فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار. وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده بحجاب عن الله .. وألم الحسرة التي تقطع الأكباد. فالهمّ والغمّ والحزن والحسرة تعمل في نفوسهم كما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر في نار جهنم. فقلوب أهل الكفر والبدع والمعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، لكن تمام وكمال النعيم والعذاب إنما هو في الدار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ. قال تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} ... [الرعد: 34]. وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} [الطور: 45 - 47]. وقد جعل الله تبارك وتعالى للطاعات والحسنات آثاراً محبوبة لذيذة طيبة، ولذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة. وجعل سبحانه للمعاصي والسيئات آلاماً وآثاراً مكروهة تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. وقد جرت سنة الله أن كل من خرج عن شيء منه لله، حفظه الله عليه، أو أعاضه الله ما هو أجل منه. فمن آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة،

وإن هلك فالفوز العظيم، والله سبحانه لا يضيع ما تحمَّل عبده لأجله، فيوسف - صلى الله عليه وسلم - لما ترك امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، عوضه الله أن مكَّنه في الأرض. والشهداء في سبيل الله لما خرجوا عن نفوسهم لله، جعلهم الله أحياء عنده يرزقون، وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها لله أبدان طير خضر، جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن. والمعين على الطاعات هو الله وحده .. والحافظ من المعاصي هو الله وحده .. والموفق لكل خير هو الله وحده .. والحافظ من كل شر هو الله وحده لا شريك له. فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره، وحاله وعفته، وعلمه وذكائه، ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله، وأحاط به الخذلان، بل يتوكل على ربه وحده كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وقال سبحانه لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74].

5 - فقه الصبر عن المعاصي

5 - فقه الصبر عن المعاصي قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. الصبر له ثلاثة أركان: صبر على طاعة الله .. وصبر عن معصية الله .. وصبر على أقدار الله المؤلمة. وصبر العبد عن المعاصي ينشأ من أسباب عديدة: منها الحياء من الله سبحانه عند المعصية، فهو يراه ويسمعه، فكيف يتعرض لمساخطه؟. ومنها علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، وهذا كاف في تركها، ولو لم يعلِّق عليها وعيد العذاب. ومنها مراعاة العاقل نعم الله عليه، وإحسانه إليه. فالذنوب تزيل النعم ولا بدّ، والمعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، وما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من نعم الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها أو أكثر منها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة بعد نعمة، حتى تسلب النعم كلها. وأعظم النعم الإيمان والطاعات، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر يزيلها ويسلبها العبد. ومن أسباب الصبر عن المعاصي محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع.

وفرق بين من يحمله على ترك المعصية خوفه من سوط سيده وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده. ومنها خوف الله وخشية عقابه الذي توعد به من عصاه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. وإذا امتلأ قلب المؤمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه منعه ذلك من معصيته حياء وطاعة لربه، وما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه. ومنها شرف النفس وفضلها وأنفتها أن تختار ما يحطها ويضع من قدرها، ويسوي بينها وبين السفلة. ومنها قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها من سواد الوجه، وظلمة القلب، وشدة قلقه واضطرابه، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريته من زينته، وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له. ومنها أن العبد بسبب المعصية يصير أسيراً بيد أعدائه، بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه. ومنها زوال أمنه، وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة. ومنها زوال الأنس، فكلما ازداد العبد إساءة ازداد وحشة. ومنها زوال الطمأنينة بالله، والسكون إليه، وزوال الرضا، واستبداله بالسخط ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة، كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها أو غيرها إن قضى وطره منها. وكلما اشتد نزوعه .. وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه. ومنها فقره بعد غناه، فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يَتَّجِرُ به ويربح الأرباح الكثيرة من الأعمال الصالحة. ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه. ومنها زوال المهابة التي لبسها بالطاعة.

ومنها حصول النفرة منه، والبغض له في قلوب الناس، فكما جعل الله المودة لكل مؤمن، وكل مطيع فكذلك جعل الكراهية لكل كافر وكل عاصٍ. ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه. ومنها الطبع والرَّين على قلبه، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان، والرغبة في الآخرة. ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعباده. ومنها أن الذنب يستدعي ذنباً آخر حتى تهلكه ذنوبه. ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه منها. ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعة الله أوصله ذلك إلى دار أهل طاعته وولايته. ومنها علمه أن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه. ومنها علمه أن أعمال البر والطاعات تنهض بالعبد وتقوم به، وتصعد إلى الله به، وأعمال الفجور تهوي به، وتجذبه إلى الهاوية، وتجره إلى أسفل سافلين. كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} [فاطر: 10]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} [الأعراف: 40]. فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم، بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند الموت، بل أغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى

وصلت إلى الله، فتحت كذلك لأرواحهم حتى وصلت إلى ربها وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين. ومن أسباب الصبر عن المعصية علم العبد أنه متى عصى الله فقد خرج من حصنه الذي لا ضيعة على من دخله، فإذا خرج بمعصيته منه صار نهباً للصوص وقطاع الطريق. ومنها علم العبد بقصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال تحت ظل شجرة ثم سار وتركها. ومنها تجنب الفضول في طعامه وشرابه، ولباسه ومنامه، واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات. فإنها تطلب مصرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام. ومنها ثبات شجرة الإيمان في القلب، وهو أعظمها، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فإن من باشر قلبه الإيمان بالله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب، والجنة والنار، حجزه ذلك عن المعاصي، ومنعه من أن لا يعمل بموجب هذا العلم. ومن ظن أنه يقوى على ترك المعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإن سراج الإيمان إذا قوي في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة، غير متثاقلة ولا كارهة. بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105]. وبالجملة فآثار المعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط العبد بها علماً. فخير الدنيا والآخرة كله بحذافيره في طاعة الله ورسوله، وشر الدنيا والآخرة

كله بحذافيره في معصية الله ورسوله. والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة تلك الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة، والآثار الجميلة. ومن أقوى أسبابها الإيمان ومحبة الله، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه. وصبر العبد على الطاعة، وصبره عن المعصية، أيهما أفضل؟. ذلك يختلف باختلاف الطاعة والمعصية. فالصبر على الطاعة المعظمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة. فصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الصبح، وصوم يوم تطوعاً ونحوه. فالطاعات يفعلها البَرُّ والفاجر، ولكن المعاصي لا يصبر عنها إلا صدِّيق. والنفس لها قوتان: قوة الإقدام .. وقوة الإحجام. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفع العبد، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره. ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينفعه أقوى من صبره عن ما يضره، ومنهم من تكون قوة صبره عن المعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا يصبر على هذا .. ولا على هذا. وأفضل الناس أصبرهم على النوعين مع الصبر على أقدار الله فهؤلاء هم الصابرون حقاً، ويأخذون أجرهم بغير حساب كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].

وكمال العقل في ثلاثة: حسن المعرفة بالله .. وحسن الطاعة لله .. وحسن الصبر لله. إن إكرام الضيف من الناس والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم وهم الملائكة. فإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش فقد أساء جواره، وبالغ في أذاه وطرده عنه، فهل يليق بالمسلم أن يؤذي جاره فضلاً عن أنصح الخلق له من الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12]. فمن ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القادر ولا يكرمه ولا يوقره؟. ألا يستحي العصاة من هؤلاء الملائكة الحافظين الكرام، ويكرمونهم ويجلونهم أن يروا منهم ما يستحون أن يراهم عليه من هو مثلهم؟. والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يَفْجُر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟. وهل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم أن يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ثم يبارز من خلقه وأسكنه ورزقه بالمعاصي؟. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. ومن لم يصبر عن المعاصي في الدنيا، فقارفها بلا حياء ولا خوف، فليوطن نفسه على تحمل عقوبتها في الآخرة حيث لا ينفع الصبر كما قال سبحانه عن النار: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 16]. ومن عقوبة المعصية المعصية بعدها، فإبليس لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية.

فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية وفروعها، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها. ونعم الله على العباد لا تعد ولا تحصى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فنسأله عزَّ وجلَّ أن يعفو عنا عن كل ما ضيعنا من شكر النعم، وعن كل ما ركبنا من الذنوب، وعن كل ما قصرنا فيه من حق الله وحق عباده: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

6 - فقه الثواب والعقاب

6 - فقه الثواب والعقاب قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} ... [النساء: 13 - 14]. وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} ... [البقرة: 25]. وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 33 - 34]. الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته سبحانه، وأرسل إليهم الرسل ليأمروهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. فمن آمن بالله وعبده وأطاعه أسعده الله في الدنيا، وأدخله الجنة يوم القيامة، ومن كفر بالله وعصاه شقي في الدنيا، وأدخله الله النار يوم القيامة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].

وأصل الذنوب نوعان: ترك مأمور به .. وفعل منهي عنه. وهذان هما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أَبَوي الإنس والجن، ولكل ذنب عقوبة تناسبه في القدر والعدد. والعقوبات نوعان: عقوبات قدرية .. وعقوبات شرعية. فالعقوبات الشرعية ثلاث أنواع: القتل .. والقطع .. والجلد. وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية، فإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد أو أخف، ولكنها تعم، والشرعية تخص، فالله لا يعاقب شرعاً إلا من باشر الجناية كما قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]. وعقوبات الله للمخالفين نوعان: عقوبات على عدم قبول الحق .. وعقوبات على مخالفة أوامر الرب. فالأول كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]. والثاني كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. وقد عذب الله الأمم المكذبة للرسل بعقوبات في الدنيا تناسب جرائمهم، وأما في الآخرة فمأواهم جهنم، فبسبب كفرهم وظلمهم، وتكذيبهم واستكبارهم، وصدهم عن سبيل الله جعل الله: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].

فقوم نوح ذنوبهم مع الشرك .. الاستكبار والاغترار بكثرة العدد، والسخرية بأهل الإيمان، فلما كذبوا رسولهم نوحاً أغرقهم الله ولم يُنج إلا المؤمنين كما قال سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} [يونس: 73]. وجعلهم عبرة لمن بعدهم كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37]. وعاد قوم هود ذنوبهم مع الشرك .. الاستكبار والتجبر في الأرض .. والظلم وشدة البطش .. فلما كذبوا رسولهم هوداً - صلى الله عليه وسلم - عاقبهم الله بريح صرصر عاتية تناسب عتوهم واستكبارهم عن الحق وقوتهم التي اغتروا بها كما قال سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15]. فلما اجتمعت فيهم هذه الجرائم عاقبهم الله وطهر الأرض من جرائمهم كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16]. أرسل الله عليهم ريحاً عقيماً شديدة القوة، مزعجة الصوت كالرعد القاصف: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: 7]. فدمرتهم وأهلكتهم، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. وقوم ثمود ذنوبهم مع الشرك .. انتهاك محارم الله .. وعقر الناقة التي حذرهم الله من مسها بسوء .. والاستكبار عن الحق والاستهزاء به. فلما كذبوا رسولهم صالحاً - صلى الله عليه وسلم - عاقبهم الله بكفرهم وظلمهم كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} [فصلت: 17 - 18]. وقوم لوط ذنوبهم مع الشرك .. إتيان الفاحشة التي لم يسبقوا إليها .. وهي إتيان

الذكران من الناس .. فلما حذرهم رسولهم لوط - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80 - 81]. فلما لم يستجيبوا له .. وأصروا على الاستمرار في فعل هذه الفاحشة المنكرة عاقبهم الله بأن أمر جبريل باقتلاع بلادهم ومن فيها، ثم رفعها إلى السماء ثم قلبها عليهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من جهنم متتابعة، عليها علامة الغضب والعذاب كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82 - 83]. وقوم مدين ذنوبهم مع الشرك .. الظلم في الأموال .. وبخس المكيال والميزان .. والفساد في الأرض .. فأرسل الله إليهم أخاهم شعيباً يأمرهم بعبادة الله وحده .. والعدل في الكيل والميزان كما قال سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: 84 - 85]. فلما كذبوا رسولهم عاقبهم الله بسحابة أمطرتهم ناراً، فأحرقتهم وأحرقت أموالهم التي أخذوها ظلماً، وظلوا تحتها خامدين كما قال سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} [الشعراء: 189]. وأنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الظالمين كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)} [هود: 94]. وفرعون وقومه ذنوبهم مع الشرك والكفر .. العلو والاستكبار .. والفساد في الأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا

يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4]. وادعى فرعون الربوبية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} [النازعات: 24 - 25]. وادعى الألوهية: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} [القصص: 38]. فما أعظم جرم هذا الطاغية، وما أشد ظلمه: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)} [يونس: 83]. فأرسل الله رسوله موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الله كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)} [الزخرف: 46 - 47]. ولكن فرعون كذب موسى وعصاه، واتهمه مرة بالجنون حيث: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)} [الشعراء: 27]. ومرة بالسحر حيث: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)} [الشعراء: 34 - 35]. ومرة بالكذب كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} [غافر: 23 - 34]. ولكن الطغاة والمفسدين والمستكبرين لا يعبأون بالحق، ولا بمن جاء به، بل يحاربونه بكل وسيلة؛ لأنه يردعهم عن قهر العباد وظلمهم واستعبادهم لهم، وهم لا يريدون ذلك، والله لا يتركهم على هذه الحال، بل يأمر رسله أن يذهبوا إليهم لدعوتهم إلى الله، ورفع الظلم عن العباد كما قال سبحانه لموسى - صلى الله عليه وسلم -: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ

الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} [النازعات: 17 - 26]. وقال سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} [المؤمنون: 45 - 48]. فلما كذبوا موسى، وردوا ما جاء به وأضلوا قومهم عن الهدى، وزاد طغيانهم وأذاهم، ساقهم الله إلى مصارعهم، وعاقبهم بسوء صنيعهم، وحاق بفرعون وآله سوء العذاب. فلما يئس موسى من إيمانهم بعد ما رأوا الآيات البينات، وحقت عليهم كلمة العذاب، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم الله من أسرهم، ويمكِّن لهم في الأرض كما وعدهم، أوحى الله إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج بهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)} [الشعراء: 52]. فماذا حصل من فرعون وقومه لما علموا بخروج موسى وبني إسرائيل؟. لقد حشر فرعون جيشاً عظيماً من مدائن مصر للقضاء على موسى ومن آمن معه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} [الشعراء: 53 - 56]. فأخرجهم الله بحسن تدبيره من بساتين مصر، وجنانها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروعهم وفواكههم المختلفة، وساقهم إلى مصارعهم كما قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)} [الشعراء: 57 - 58]. وأورث بني إسرائيل فيما بعد هذه الجنات والبساتين والزروع والعيون والمقام الكريم كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} ... [الشعراء: 59]. فتبع فرعون وقومه موسى وقومه وأدركوهم عند شروق الشمس كما قال سبحانه: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 60 - 62].

وحان وقت الهلاك للمجرمين ونصرة الله للمؤمنين، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه ليفتح به طريقاً آمناً لأوليائه، ويجعله مقبرة لأعدائه كما قال سبحانه: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 63 - 68]. فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته. ونزلت عقوبة الله بهؤلاء الطغاة: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} [الأعراف: 136]. وحق وعد الله لموسى ومن آمن معه بالنصر والتمكين في الأرض كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} ... [الأعراف: 137]. فكل أمة من الأمم المكذبة للرسل أخذه الله بذنبه على قدره، وبعقوبة مناسبة له، وما ظلمهم الله ولكن الناس أنفسهم يظلمون: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]. أما عقوبة هذه الأمم المكذبة يوم القيامة فهي بالنار، وهم في العذاب متفاوتون، وأشدهم عذاباً آل فرعون كما قال سبحانه: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45 - 46]. فجعل عليين مستقر العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة.

وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وجعل أهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة. كما جعل سبحانه أهل طاعته أكرم خلقه عليه كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وجعل أهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لأهل طاعته، والذلة والصغار لأهل معصيته. وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين. فيجب على المؤمن أن يقف بين يدي مولاه موقف المخطئ المذنب، مستحياً منه، خائفاً منه، راجياً له، محباً له. فأي نعمة وصلت إليه من الله استكثرها على نفسه، ورأى نفسه دونها، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه أهلاً لما هو أكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه إذ لم يعاقبه على قدر جرمه وإساءته. والشر الذي يصيب الإنسان لا يخلو من قسمين: أحدها: إما ذنوب وقعت منه فيعاقب عليها ويجازى بها؛ لأنه فعلها بنفسه وقصده كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. الثاني: شر واقع به من غيره: إما من مكلف كالإنس والجن .. أو غير مكلف مثل الهوام والحيات والعقارب ونحوها، فيصيبه ذلك لحكم يعلمها الله حسب حاله: إما عقوبة له على معصية، أو تطهيراً له من ذنب، أو رفعة لدرجاته ونحو ذلك والشر الأول هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين. وإن الذنب وإن صغر لقبيح، وإن مقابلة العظيم جل جلاله به، العظيم الذي لا

شيء أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، المنعم لجميع النعم، يعد من أقبح الأمور وأعظمها وأشنعها. فإن مقابلة العظماء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن أو كافر، وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل. فكيف بعظيم السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة؟. هل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم عصيانه ومخالفة أمره؟. {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 13 - 18]. ولولا أن رحمة الله سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، لتزلزلت الأرض بمن قابله بما لا تليق مقابلته به من الذنوب والمعاصي: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 90 - 95]. ولولا حلم الله ومغفرته وعفوه لزالت السموات والأرض من معاصي العباد وظلمهم: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. وكل من نسي الله عاقبه بعقوبتين: إحداهما: أن الله سبحانه ينساه، وإذا نسيه الله وأهمله وتركه وتخلى عنه فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم كما قال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]. الثانية: أن الله سبحانه ينسيه نفسه، فيهمل حظوظها وأسباب سعادتها وفلاحها،

وينسيه عيوب نفسه وآفاتها فلا يخطر بباله مداواتها، وإزالة عللها، وهذه أعظم خسارة للعبد، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. ومن نسي دين الله في الدنيا وأعرض عنه أشغله الشيطان بما يضره ويبعده عن ربه، ثم نزلت به عقوبة جنايته كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44 - 45]. ومن نسي الله في الدنيا نسيه الله في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه عن الكفار: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)} [الجاثية: 34 - 35]. والله عزَّ وجلَّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، والأوامر والنواهي الشرعية ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله سبحانه أمر العباد بما أمرهم به رحمة منه وإحساناً. ولما كان كل عامل سيجازي بعمله، والإنسان عرضة للنسيان والخطأ والتقصير، أخبر الله سبحانه أنه لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان كما قال سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. فقال الله عزَّ وجلَّ: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم (¬1). وقال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 5]. والنسيان قسمان: نسيان بمعنى ترك الشيء عمداً والإعراض عنه .. ونسيان بمعنى ذهول القلب ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (126).

عما أمره الله به فيتركه نسياناً، فالأول محاسب عليه ومعاقب عليه. والثاني معفو عنه. والخطأ: أن يقصد الإنسان شيئاً يجوز له فعله ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً خطأ، فهذا الخطأ والنسيان بمعنى ذهول القلب قد عفا الله عنهما عن هذه الأمة رحمة بهم وإحساناً. فمن أتلف مالاً أو إنساناً خطأ فليس عليه إثم، لكن الضمان مرتب على الإتلاف، فمن أتلف شيئاً خطأ فعليه ضمانه، الإنسان بالدية والكفارة، والمال أو الشيء بمثله أو قيمته. والله تبارك وتعالى أمرنا بأربعة أمور هي: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين. فكل سعادة وفلاح في العالم سببه القيام بهذه الأمور الأربعة. وكل شقاء وفساد في العالم سببه الإخلال بهذه الأربعة أو بعضها، فكل نقص فيها نقص من الدين. وإذا نقص الدين خرج من حياة الأمة تدريجياً ثم هلكت. فحارس البستان المملوء بالزورع والأشجار والثمار إذا ترك الحراسة دخلته الكلاب والبهائم والسراق فلعبت به، وأكلت ما فيه، وغيرت صورته حتى ينتهي. وكذلك الدين إذا تركنا الدعوة إلى الله جاءت شياطين الإنس والجن فلعبت بالأمة، وغيرت صورتها ومقصدها، وحياتها وأخلاقها. فجاءت البدع مكان السنن .. والمعاصي مكان الطاعات .. والباطل مكان الحق .. والكفر بدل الإيمان .. والجهد للدنيا بدل الجهد للدين. والله حكيم عليم أعلم عباده أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروه، وأنها بقضاء الله وقدره ليوحدوه، ويتوجهوا إليه وحده في كشفها، وأخبرهم بما له فيها من الحكم، ومالهم فيها من المصالح؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره،

وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته. وسلاهم بما أعطاهم بما هو أجل قدراً وأعظم مما فاتهم، فكل مصيبة وبلية تهون أمام منة الله على المؤمنين بالهداية إلى الإسلام كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. والله قوي عزيز، وهو على كل شيء قدير، والمخلوقات كلها بالنسبة لله أصغر من الخردلة فهو سبحانه وحده الكبير المتعال. والله عزَّ وجلَّ لا يستعمل قدرته أمام الطغاة والجبابرة، بل يهلكهم ويدمرهم بأضعف مخلوقاته وأصغرها وأهونها؛ ليعلم الناس أنهم ليسوا بشيء، وأن الله قادر على إهلاكهم بأهون شيء عليهم. كما أرسل الله البعوضة على النمرود فأهلكته .. وفتح ماء السماء والأرض على قوم نوح فأغرقهم .. وكما فتح البحر لفرعون وقومه فأغرقهم في جوفه .. وكما فتح السد على قوم سبأ فأهلك زروعهم وخرب ديارهم .. وكما أرسل الريح على قوم عاد فدمرتهم .. وكما أرسل النار على قوم شعيب فأحرقتهم .. وكما أرسل الصيحة على قوم ثمود فأهلكتهم .. وكما أهلك قوم لوط بطرف جناح جبريل .. وأهلك أصحاب الفيل بالطير الأبابيل .. وأرسل الجراد والقمل والضفادع على قوم فرعون. وقد شرع الله سبحانه الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصرة الدين، وقمع المعتدين، وإذا تركته الأمة هلكت كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. وإذا أقبلت الأمة على الدنيا وأعرضت عن الآخرة، سلط الله عليها الذل حتى تعود إلى ربها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ

وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» أخرجه أحمد وأبو داود (¬1). وما يبتلى به العبد من الذنوب والمعاصي وإن كان خلقاً لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله من أجله وهو عبادته سبحانه. فلما لم يفعل ما أمره الله به، زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، والإيمان يمنع من تسلط الشيطان عليه. ولا بدَّ لكل إنسان من إرادة وحركة، فمن تحرك بالمعاصي والذنوب إما بفعل محظور أو ترك مأمور، فهذا عقوبة له لعدم فعل الطاعات، والشيطان مسلط عليه، فلما لم يتحرك بالحسنات حركه الشيطان بالسيئات، عدل من الله. وتخصيصه سبحانه لمن هداه، بأن استعمله ابتداء فيما خُلق له وفيما يحبه الله فضل منه سبحانه، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل، وهو سبحانه أعلم بمن يستحقه ويشكره كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105]. فإن قيل معصية الكفر كانت في زمان قليل متناه، والجزاء في جهنم أبدى غير متناه، فكيف ينطبق هذا الجزاء على العدل الإلهي؟. قيل: من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه، فهذا القلب الفاسد استعد لجناية غير متناهية. وبذلك نعلم أن الجزاء الأبدي في مقابلة الجناية غير المتناهية، وذلك عين العدالة. وأيضاً فالكفر كفران لنعم غير متناهية، فجزاؤه غير متناهٍ. وحقيقة الإيمان: التوكل على الله وحده، والتأثر من الله وعدم التأثر من غيره مطلقاً. ¬

(¬1) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد برقم (4825)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (11). وأخرجه أبو داود برقم (3462) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود ر قم (2956).

فالأعداء يخوفون الناس بما صنعوه من المدمرات الإنسانية كالقنابل والطائرات والدبابات وغيرها. أما الأنبياء وأتباعهم فيدعون الناس إلى الإيمان والاستقامة على أوامر الله، فمن استجاب فله الجنة، ومن عصى خوفوه بطش ربه في الدنيا وعذابه في الآخرة كما قال سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)} ... [فصلت: 13 - 14]. فالأنبياء والمؤمنون معهم قوة الخالق .. والكفار والأعداء معهم قوة المخلوق .. وقوة الخالق أقوى من قوة المخلوق .. ومن كان الله معه فمعه كل شيء .. ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء. ولله جنود السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، والمياه والرياح والزلازل، والخوف والرعب، والحر والبرد: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)} [المدثر: 31]. والله عزَّ وجلَّ مع الأنبياء والمؤمنين بنصره وتأييده، سواء كان معهم شيء أو لم يكن معهم شيء. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - نجاه الله من الكفار حين أرادوا قتله، وأظهر دينه، وخذل أعداءه، ولم يكن له ملك ولا مال. وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - نجاه الله من النار، ونجاه من أعدائه، ولم يكن معه شيء إلا إيمانه بربه. وموسى - صلى الله عليه وسلم - نجاه الله من فرعون وملأه، ونجاه من الغرق، ولم يكن معه إلا إيمانه بربه. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. وقارون خسف الله به الأرض مع كثرة أمواله، فلما أعرض عن الله أعرض الله عنه فهلك .. وهلكت أمواله كما قال سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا

كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81]. وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك والمال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55]. ونمرود أهلكه الله لما أصرَّ على كفره مع أن معه الملك والمال. وهكذا القرى الظالمة، أهلكهم الله بذنوبهم ولم ينفعهم ما تعلقوا به من دون الله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59]. فهل يعتبر العاقل، ويتوب الظالم، ويطيع العاصي، قبل أن تحل بهم عقوبة الظالمين والعصاة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} ... [الفجر: 6 - 14]. إن الدعوة إلى الله كما هي وظيفة الأنبياء والرسل، هي كذلك وظيفة هذه الأمة، وبها تحصل الهداية للدعاة والمدعوين. ولما تركت الأمة الدعوة إلى الله عوقبت بضعف الإيمان، فعطلت أوامر الله في الدين، وأوامر الله في جهد الدين، حتى خرجت من الأمة أوامر الله، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس هذا فقط، بل لما خرجت السنن والفضائل، أخذت مكانها المحرمات والرذائل، فجاءت المصائب والمشاكل. وليس هذا فقط، بل قام في المسلمين من يحارب الله ورسوله، ويدعو إلى نبذ كتاب الله وراءه، وترك شرعه، ويدعو إلى المحرمات والكبائر والفواحش والرذائل، واتباع سنن اليهود والنصارى. وذلك كله عقوبة ترك الدعوة إلى الله، هذا ما حصل بين المسلمين، فكيف بأحوال الكافرين؟.

إن في الدعوة إلى الله إحياء دين الله في قلوب المؤمنين، ودخول الكفار في دين رب العالمين، وإنشاء الاستعداد في القلوب للأعمال الصالحة، وبها تعمر الحياة كما كانت حياة الصحابة رضي الله عنهم. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالحياة حسب أوامر الله بركة ورحمة، والحياة بدون أوامر الله شقاء وتعاسة. وجميع البشرية اليوم يعيشون في المصائب والمشاكل: كل خائف .. كل غير مطمئن في جميع شعب الحياة .. في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه .. كل يشكو أحواله .. ويشكو ربه الرحمن الرحيم إلى خلقه. والمسلمون خاصة في أعظم المصائب والمشاكل، لتعطيلهم كثير من أوامر الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. فكل مسلم إلا من رحم الله يشكو المصيبة، بل المصائب في كل مكان، ويدعو فلا يستجاب له. والسبب: أن المسلمين لم يفكروا في سبب البلاء والمرض، بل يفكرون في الخلاص من البلاء والمرض، فلا يرتفع البلاء، ولا يزول المرض. والنجاة والسلامة أن نعلم أن المصائب من الله عزَّ وجلَّ، والمصائب تكون بحسب أعمالنا كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. ونحن غافلون عن إصلاح إيماننا وأعمالنا، وبصلاح أعمالنا تصلح أحوالنا، وترفع عنا العقوبات: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. فعلينا تغيير الداخل بالإيمان والتقوى، ثم الله يغير الخارج ويصلحه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].

وعلينا أن نعيش كحياة الأنبياء والرسل لنسعد في الدنيا والآخرة، ونسلم من العقوبات، وننقل هذه الحياة الطيبة إلى جميع البشرية بالدعوة إلى الله، لتسعد البشرية، وتسلم من العقوبات في الدنيا والآخرة، فمن عاش كحياة الأنبياء حصل له الخير ثم دخل الجنة بعد الموت. وقد خلق الله الإنسان ليعيش في الدنيا كإنسان يعرف ربه ويعبده ويطيع أمره، ليس كالحيوان، وليس كالشيطان، وبذلك يسعد في الدنيا والآخرة. فإذا عاش الإنسان كالحيوان أو عاش كالشيطان جاءت المصائب والمشاكل في الدنيا، وعوقب بالنار في الآخرة. وكلما تشبه المسلم بالملائكة والأنبياء ارتفع مكانه، وعلت درجاته، واطمأنت نفسه، وكثر خيره في الدنيا والآخرة. وكلما تشبه الإنسان بالحيوانات والشياطين ضرَّ نفسه، وآذى غيره، ونزلت قيمته، وهبطت درجته، وشقي في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 123 - 127]. والعقوبات الشرعية نوعان: أحدها: عقوبة على ذنب ماض كجلد الشارب للخمر والقاذف، وقطع السارق والمحارب ونحو ذلك. الثاني: العقوبة لتأدية حق واجب، وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم، وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة، وآخذ حقوق الناس حتى يؤديها. وقد شرع الله العقوبات الشرعية على قدر مفسدة الذنب، وتقاضي الطبع له: فإن

كان الوازع عنه طبيعياً، وليس في الطباع داع إليه، اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير، ولم يرتب عليه حداً كأكل الرجيع، وأكل الميتة، وشرب الدم ونحو ذلك، وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته، وبقدر داعي الطبع إليه كالقتل والزنا والسرقة، وجعل عقوبتها: القصاص والرجم والجلد. ولما كان داعي الطبع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها وهي الرجم، وعقوبته الدنيا أعلى أنواع الجلد مع التغريب، فالجلد للبكر، والرجم للثيب. ولما كانت جريمة اللواط فيها الأمران، كان حده القتل بكل حال. وجعل سبحانه القتال بإزاء الكفر، وما يليه ويقرب منه وهو الزنا وعمل قوم لوط، فإن هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأنساب. وجعل سبحانه القطع بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه. وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول، وتمزيق الأعراض بالقذف. وكما جعل الله للطاعات ثواباً، فقد جعل للمعاصي عقاباً. والذنوب ثلاثة أقسام: الأول: قسم فيه الحد، فهذا لم يشرع فيه كفارة؛ اكتفاءً بالحد الشرعي كالقتل قصاصاً، وكسرقة المال فيها القطع، وشرب الخمر فيه الجلد ونحوهما. الثاني: قسم ليس فيه حد، لكن شرعت فيه الكفارة كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام، والظهار، وقتل الخطأ، والحنث في اليمين ونحو ذلك. الثالث: قسم لم يرتب عليه حد ولا كفارة، وهو نوعان: أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعياً كأكل العذرة والنجاسات، وشرب البول والدم ونحو ذلك. الثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد كالنظر، والقبلة ونحوهما.

وشرع الإسلام الكفارات في ثلاثة أنواع: أحدها: ما كان مباح الأصل ثم فرض تحريمه، فباشره الإنسان في الحال التي عرض فيها التحريم كالوطء في حال الإحرام والصيام، والوطء حال الحيض والنفاس ونحوهما. الثاني: ما عقده الإنسان لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرمه على نفسه ثم أراد حله، فشرع الله حله بالكفارة، فالكفارة حل لما عقده كما قال سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 2]. الثالث: ما تكون فيه الكفارة جابرة لما فات، مثل كفارة قتل الخطأ، وإن لم يكن هناك إثم، وكفارة قتل الصيد خطأ. فإن هذا من باب الجوابر، والأول من باب الزواجر، والأوسط من باب التحلة لما منعه العقد. ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حد اكتفى به، وإلا اكتفى بالتعزير. ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية، بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حد فيه. وعقوبات الذنوب والمعاصي نوعان: عقوبات قدرية .. وعقوبات شرعية. وهي إما في القلب .. وإما في البدن .. وإما فيهما معاً. عقوبات في دار الدنيا .. وعقوبات بعد الموت في القبر .. وعقوبات يوم البعث وحشر الأجساد .. وعقوبات في مستقر الكفار والعصاة في النار كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والغرق على الماء، وفساد البدن على السموم.

والعقوبة قد تقارن الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. أما أصل العقوبة فهو واقع على كل ذنب وما يعفو الله عنه أكثر كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وأعظم الذنوب ثلاثة: الشرك .. والقتل .. والزنا. وعقوباتها أعظم العقوبات كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70]. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه (¬1). فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله نداً. وأعظم أنواع القتل أن يقتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه. وأعظم أنواع الزنا أن يزني الإنسان بحليلة جاره. فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477) واللفظ له، ومسلم برقم (86).

فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وأشد عقوبة من التي لا زوج لها كالبكر؛ لما فيه من انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه. فإن كان زوجها جاراً له فذلك أشد وأعظم البوائق، فإن كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم له. فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف له الإثم، حتى إن الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة، ويقال له خذ من حسناته ما شئت. فإن اتفق أن كانت المرأة رحماً منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها، فإن كانت خالته أو عمته أو أخته أو بنته فذلك أشد وأعظم، وأقبح وأشنع، نسأل الله السلامة والعافية. فإن اتفق أن كان الزاني محصناً كان الإثم أعظم وأشد، فإن كان شيخاً كبيراً كان أعظم إثماً، فإن اقترن بذلك أن كان الزنا في شهر حرام، وبلد حرام، أو وقت حرام كالصيام، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة تضاعف الإثم، وتضاعفت العقوبة. وقد حرم الله عزَّ وجلَّ على اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم على ظلمهم وبغيهم وانتهاكهم حرمات الله كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} [النساء: 160]. وقال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146]. أما الإسلام فقد شرع الله فيه للمسلمين لتكفير الخطايا أموراً أخرى غير تحريم الطيبات: أحدها: التوبة النصوح التي تمحو الذنوب كما يمحو الماء الوسخ كما قال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39]. الثاني: الحسنات اللاتي يذهبن السيئات كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. الثالث: الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). الرابع: المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر إذا يبس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (¬2). وصار التحريم كله في الإسلام يتبع الضرر والخبث والفساد. والناس قسمان: الأول: حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به. الثاني: ميت القلب، لا يقبل الإنذار ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية ولا قابلة للخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب. وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، بل لأنه غير قابل ولا فاعل. وإنما يتبين كون الإنسان غير قابل بعد قيام الحجة عليه بالوحي والرسول، فإذا رد ما جاء به الرسول تبين أنه غير قابل للهدى، فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} [يونس: 33]. وإنما يؤمن هؤلاء إذا رأوا العذاب يوم القيامة، وذلك لا ينفعهم كما قال ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (22016). وأخرجه الترمذي برقم (2616) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2110). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) واللفظ له، ومسلم برقم (2573)

سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} ... [يونس: 96 - 97]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد كل أوقاته لدعوة الكفار إلى الإسلام، ويدعو ربه، ويبكي لأمته لعل الله أن يهديهم، والكفار كانوا يسبونه ويؤذونه ويشتمونه، فتحمل ذلك وصبر حتى أظهر الله دينه. وفي أيامنا هذه طرد كثير من المسلمين الدين من حياتهم .. من بيوتهم .. ومن أسواقهم .. ومن معاملاتهم .. ومن معاشراتهم .. وفي هذه المرحلة ينبغي أن نكون أشد جهداً، وأشد بكاءً، وأشد دعاء؛ لأن الكفار زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الذين يطردون الرسول والدين ويحاربونه. أما اليوم فإن كثيراً من المسلمين هم الذين يطردون الدين وأعمال الرسول، ويعملون بسنن اليهود والنصارى، ويرضون بالخبائث عن الطيبات، وبالباطل عن الحق، وبالمحرمات عما أحل الله، وبالدنيا عن الآخرة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100 - 101]. وأصبح المسلمون اليوم بسبب ضعف الإيمان، وترك العمل بأوامر الله، كحفرة صغيرة انفصلت من البحر، فصار الناس والبهائم والسباع يلعبون بها لصغرها وقلة مائها وانفصالها من البحر الأعظم. فبدأ الأعداء يلعبون بهذه الأمة التي صارت صغيرة بسبب تركها للدين وجهد الدين، يلعبون بها ولا يخافون منها: يلعبون بشبابها ورجالها .. ويلعبون ببناتها وأولادها .. ويلعبون برجالها ونسائها .. ويسخرون بدينها وأخلاقها .. ويلعبون بأموالها وأعراضها .. وعقولها وأفكارها .. وحكامها وتجارها. يلعبون بالمسلمين هكذا، وهم آمنون مطمئنون، فليس لهذه الأمة صلة متينة

بمصدر عزها ومجدها وهو القرآن الكريم. وأوامر القرآن الكريم لها قوة لا تقف أمامها أي قوة في الأرض كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} ... [الرعد: 31]. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. والجهاد موجود في العالم الإسلامي، ولكنه جهاد من أجل الدنيا وتكميل الشهوات، جهاد لرفاهية البدن، جهاد لجمع الحطام، جهاد لتكميل شهوات النفس من المطعم والمشرب، والمركب والمسكن، والملبس والمنكح. عبث في الأوقات .. وإضاعة للطاقات .. واقتراف للمحرمات. فلله ما أعظم هذه الجناية، وما أخطرها على أهلها: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59 - 60]. فسبحان الله كم حل بالمسلمين من العقوبات بسبب هذه الجنايات، والإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28 - 29]. ولا تزال هذه العقوبات من إغراق وإحراق، وإهلاك وتدمير، تحل بالأمم كلما أعرضت عند دين الله وخالفت رسله. وأما الجهاد لإعلاء كلمة الله وإصلاح النفس فهو موجود، ولكن القائمين به قليل. ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى التوحيد

والإيمان بالله، فإذا ظهر الشرك والكفر بعد ذلك بعث الله نبياً آخر يردهم إلى التوحيد والإيمان. وقد عاش بنو إسرائيل حياة شديدة مؤلمة في ظل حكم فرعون، الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية، وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن تحمل التبعات من ناحية، وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء، والحركة في الظلام مع الذعر الدائم، والتوقع الدائم للبلاء. ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً، وفرعون يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فإذا فتر هذا النوع من العذاب عاشوا حياة الذل والكد والسخر والمطاردة على كل حال، حتى جاء موسى - صلى الله عليه وسلم -، ورفع الله بسببه هذا البلاء. فدين الله يجعل الناس في أرض الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ لأنهم عبيد الله ملك الملوك، ويجب أن لا يضربهم الحكام فيذلوهم؛ لأنهم ليسوا عبيداً للحكام، بل عبيد الله وحده: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} ... [البقرة: 49]. وقد حقق الله وعده لبني إسرائيل فأنجاهم من عذاب فرعون، وأهلك أعداءهم، وأورثهم أرضهم وديارهم كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: 4 - 6].

وعقوبات الله واقعة بكل من كفر بالله وعصاه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. ونحن إذا تركنا الدعوة إلى الله عوقبنا بالدعوة إلى الأموال والأشياء، ثم بالدعوة إلى الشهوات والمحرمات والشبهات، فجاء في قلوبنا تعظيم المخلوق، والخوف من المخلوق، والتأثر منه، فيسلطه الله علينا، فنطيع أمره وإن خالف أمر خالقه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. والصحابة رضي الله عنهم لما قاموا بالدعوة إلى الله جاء في قلوبهم عظمة الخالق عزَّ وجلَّ، فزاد إيمانهم، وحسنت أعمالهم وتنوعت، وأطاعوا الله ورسوله، فرضي الله عنهم ورضوا عنه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. والناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب، وفي هذا تخويف وتحذير لمن سكت عن النهي عن المنكر .. فكيف بمن داهن؟ .. فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن أعان؟ فكيف بمن فعل؟. والعقوبة معناها: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك لأنها تَعْقُب الذنب. والعقوبة أنواع: منها ما يتعلق بالدين وهي أشدها كأن تخف المعصية في نظر العاصي، أو يتهاون بترك الواجب. ومنها العقوبة في النفس كالمرض .. والعقوبة بفقد الأهل والأولاد .. والعقوبة بفقد المال ونحو ذلك: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49]. وإذا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما،

وعدلوا إلى الأمراء وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم. وأعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم فلم يروها منكراً، وجاءتهم دولة أخرى تقوم فيها البدع مقام السنن .. والنفس مقام العقل .. والهوى مكان الهدى .. والضلال مقام الرشد .. والمنكر مقام المعروف .. والجهل مكان العلم .. والباطل مقام الحق .. والرياء مقام الإخلاص .. والظلم مقام العدل .. والظلام مقام النور. فحينذاك بطن الأرض خير من ظهرها، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وما ضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلي بتضييع السنن، وما ضيع أحد سنة من السنن إلا يوشك أن يبتلي بالبدع. والله عزيز حكيم عليم، إذا منع الناس الزكاة، وحرموا المساكين، حبس الله عنهم الغيث، وابتلاهم بالقحط. فلما منعوا الحق عاقبهم الله بمنع نزول الغيث. ومن صرف الناس عن الهدى والإيمان صرف الله قلبه عن الهدى والإيمان، فصدهم الله عنه كما صدوا عباده عنه، صداً بصد، ومنعاً بمنع: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. وإذا جار القوي على الضعيف، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، سلط الله العدو عليهم ففعل بهم كفعلهم بضعفائهم. فسبحان من بهرت حكمته العقول، وملكت القلوب. وكفر ساعة يوجب عقاب الأبد في النار؛ لأن الكافر كان على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً، فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد، والله عليم بذات الصدور. أما المسلم المذنب، فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة.

والعبد إذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه، وكلما زاد الإيمان زادت الطاعات، فاستأنس العبد بربه، واستوحش من غيره، وكلما نقص الإيمان قلت الطاعات، وزادت المعاصي، وانشغل الإنسان بالشهوات عن أوامر الله عزَّ وجلَّ. وإذا قامت الحياة على أساس الأموال والأشياء، لا على أساس الإيمان والتقوى، سلط الله على الأمة أربعة أشياء: قحط الدهر .. وخيانة الحكام .. وظلم الملوك .. وخوف الأعداء، فالأشياء موجودة لكن الحوائج لا تكمل، والأموال موجودة لكن القلوب غير مطمئنة: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)} [النحل: 33]. ومن سنة الله عزَّ وجلَّ أن كل من أعرض عن شيء من الحق وقع في باطل، مقابل ما أعرض عنه من الحق. فمن رغب عن العمل لله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فما أخسره حين رغب عن العمل لمن ضره ونفعه، وحياته وموته، وسعادته وشقاوته بيده، إلى العمل لمن لا يملك من ذلك شيئاً. ومن رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم. ومن رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب لخدمة أدنى الخلق. ومن رغب عن الهدى بالوحي ابتلي بكناسة الآراء، وزبالة الأذهان. والعقوبات نوعان: خاصة: كما عاقب الله قارون وحده، فخسف به وبداره الأرض. وعامة: كما دمر الله فرعون وقومه؛ لأن فرعون ادعى أنه رب وإله، واستخف قومه فأطاعوه واتبعوه، فدمر الله الجميع، وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55]. وكذا كل من عاند الرسل وكذبهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقريش عاقبهم الله بذنوبهم: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ

تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31]. والجرائم في الشريعة الإسلامية لها عقوبات تسمى الحدود كالقصاص، والقطع في السرقة، والرجم أو الجلد في الزنا، والجلد في القذف وشرب الخمر ونحوها. أما عقوبة ترك الدعوة فهي الاستبدال كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38]. وكما أن الله لم يستثن أحداً من الخيرية، كذلك لم يستثن أحداً من المسئولية، والدعوة ليست عملاً اكتسابياً، بل هي عمل اجتبائي من الخالق، وبعد الاجتباء تأتي المسئولية كما قال سبحانه لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 13]. وقد اجتبى الله هذه الأمة كما اجتبى الأنبياء كما قال سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} ... [الحج: 78]. والملوك إذا تعرضوا للدين سُلبوا ملكهم، وذلوا بعد عزهم، كما حصل لفرعون حين استكبر وعارض موسى أهلكه الله، وكما حصل لكسرى حين مزق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مزق الله ملكه. وقد أرسل الله الأنبياء السابقين إلى أممهم، وعاقب من خالفهم بعذاب الاستئصال كقوم نوح وهود، وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم. والسبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة، أن ذلك العذاب مشروط بشرطين: الأول: أن عند الله حداً من الكفر مَنْ بلغه عذبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه. الثاني: أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن. فإذا حصل الشرطان أمر الله الأنبياء أن يدعو على أممهم، فإذا دعوا وشكوا إليه

سوء أعمالهم استجاب الله دعاءهم، وعذب أممهم بعذاب الاستئصال إلا من آمن منهم فينجيه الله وإياهم. والمسلمون اليوم وإن آمنوا بالله رباً وإلهاً .. إلا أنهم لم يعظموه ولم يطيعوه كما يجب أن يعظم وأن يطاع .. ولم يسلموا وجوههم إلى الله .. ولم يتوكلوا عليه .. ولم يتيقنوا على ذاته وأوامره. فكانت النتيجة أن عوقبت الأمة بعقوبات: فارتابت الأمة في أخبار الله .. وشكت في عدالته فلم تحكم شرعه .. ولم تذعن لأمره ولا لنهيه .. فتركت كثيراً من الفرائض والواجبات .. وارتكبت كثيراً من الكبائر والمحرمات. فقست القلوب .. وضعف الإيمان .. وقلت الطاعات .. وكثرت المعاصي .. فأصبحت الأمة إلا من رحم الله تكره لقاء ربها .. وتخاف من فراق الحياة. وأمست لا همَّ لها إلا ما يعمر دنياها ويحقق شهواتها .. وانقطعت عن السير في طريق الكمال .. وأسرعت السير في طريق الضلال .. فضلَّت وتاهت إلا من رحم الله. وبسبب ترك الدعوة إلى الله ضاع الإسلام أو كاد، ومسئولية ضياع الإسلام مسئولية مشتركة بين أعدائه وأوليائه: فأعداؤه كادوا له بإثارة النعرات والنزاعات، وإيجاد الطرق والمذاهب المتعددة بين أمم الإسلام وشعوبه، وبذر بذور الفرقة والشقاق في صفوفهم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. وأولياؤه: هم الأمراء والعلماء، فالأمراء والرؤساء فرطوا في إقامة الشرع، وحماية حدوده بما أوتوا من قوة وما خُوِّلوا من سلطان. وأكثر العلماء فرطوا في تعليم الدين للناس، والعمل به، والدعوة إليه.

وبين كيد الأعداء وتفريط الأولياء ضاع الإسلام أو كاد، وصار كأمة لا يهاب ولا يحترم. لكنه باقٍ في الأرض كأفراد وجماعات تؤمن به، وتعمل بأحكامه وتؤدي فرائضه، وتقيم حدوده، وتدعو إليه في ساحة الأرض كلها، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها. فمن دعا إلى بدعة أو ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها؛ لأن فعلهم تولد من فعله، ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل بغير حق إلى يوم القيامة. ولكل من دل على خير فله مثل أجر فاعله. قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (¬2). والله جل جلاله إنما يسلط الشيطان على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، فلما تولوه من دون الله، وأشركوه معه، عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641) واللفظ له، ومسلم برقم (1037). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2674).

ولله عزَّ وجلَّ على أهل المعاصي عقوبتان: إحداهما: جعل الإنسان خاطئاً مذنباً لا يحس بألم المعصية ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات. لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لشهوته وإرادته فلا يشعر بها، والثانية مخالفة لما يحبه ويتلذذ به فيقاسي ألمها. وقد ذكر الله العقوبتين وقرن بينهما بقوله سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44 - 45]. وعلى المسلم أن يحذر من أمرين لهما عواقب سوء: الأول: رد الحق لمخالفته هواه، فمن فعل ذلك عوقب بتقليب قلبه، وَرَدِّ ما يَرِدُ عليه من الحق رأساً، فلا يقبله إلا إذا برز في قالب هواه. الثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فمن تهاون بذلك ثبطه الله وأقعده عن مراضيه وأوامره عقوبة له كما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110]. وكل كافر ومشرك إنما يستحق العقوبة بمجرد كفره وشركه، ولكن إرسال الرسل وترك طاعتهم شرط في وقوع العذاب. فالمقتضي قائم وهو عدم الإيمان، لكن وقوع العقوبة مشروط بشرط هو إرسال الرسول، ومعصية الرسول كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. وفساد الدين يحصل بأمرين: البدع .. واتباع الهوى. وهذان هما داء الأولين والآخرين، وأصل كل شر وفتنة، وكل بلاء وعقوبة، وبهما كُذبت الرسل، وعصي الرب، ودُخلت النار، وحلت العقوبات.

فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات كما قال سبحانه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} ... [التوبة: 69]. فالاستمتاع بالخلاق وهو النصيب من الدنيا متضمن لنيل الشهوات المانعة من متابعة الأمر، والخوض في الباطل شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، فهي لا تزال ساعية في نيل شهواتها. فإذا نالتها خاضت في الباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، ولكن من رحمة الله أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والنصب في تحصيل مرادها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً. ولو تفرغت لكانت هذه النفوس آثمة تدعو إلى النار. وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد في كل زمان ومكان. فالاستمتاع بالشهوات داء العصاة، والخوض في الباطل داء المبتدعة وأهل الأهواء. وما من قرية من القرى المكذبة للرسل إلا لا بدَّ أن يصيبهم هلاك قبل يوم القيامة، أو عذاب شديد، كتاب كتبه الله، وقضاء أبرمه لا بدَّ من وقوعه كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} ... [الإسراء: 58]. وقضى الله سبحانه قضاءً لا مرد له أن من اطمأن على شيء سواه، أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائناً من كان. بل لو اطمأن العبد إلى علمه وعمله وحاله سلب ذلك. وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء، ليعلم عبادُه وأولياؤه أن المتعلِّق بغيره مقطوع.

وكل ما نراه في الوجود من شر وألم، وعقوبة وجدب، ونقص فينا وفي غيرنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلِّط له أعدل العادلين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} [الإسراء: 5]. وقد عاقب الله جل جلاله الكفار بعقوبات حسب جرائمهم، ورتب بعض العقوبات على الذنوب. منها: الختم على القلوب والأسماع .. والغشاوة على الأبصار .. والأقفال على القلوب .. وجعل الأكنة والرين عليها .. والطبع على القلوب .. وتقليب الأفئدة والأبصار .. والحيلولة بين المرء وقلبه .. وإغفال القلب عن ذكر الرب .. وإنساء العبد نفسه .. وترك إرادة الله تطهير قلبه .. وجعل الصدر ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّد في السماء .. وصرف القلوب عن الحق .. وزيادتها مرضاً على مرضها .. وإركاسها وإنكاسها بحيث تبقى منكوسة. ومن عقوبات المعاصي أنها تثبط عن الطاعات، وتبعد عنها، وتجعل القلب أصم لا يسمع الحق، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه. ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر به. وعلامة الخسف بالقلب أنه لا يزال جوالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول البر والخير، والفضائل والطيبات، والعلويات والمحاسن من الأقوال والأعمال والصفات. وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن ما أوقع بالمشركين من العقوبات، ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد. فيذكر شرك هؤلاء الذي استحقوا به الهلاك، وتوحيد هؤلاء الذي استحقوا به

النجاة، ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهاناً للمؤمنين، ثم يذكر مصدر ذلك كله، وأنه صادر عن أسمائه وصفاته سبحانه. فصدور هذا الإهلاك عن عزته، وذلك الإنجاء عن رحمته كما قال سبحانه بعد عقوبات الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8 - 9]. والله عزَّ وجلَّ أحسن كل شيء خلقه .. وأتقن كل شيء صنعه .. فكل شيء عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل .. تام المنفعة لما خلق له وهيىء له: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 6 - 7]. وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة، أو امتزاج، أو أسباب أخر تقتضي فساده، فلو تُرِك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد. ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه، يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله، جاءت بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه. ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأسقام والأمراض، ومن القحط والجدب والطواعين، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها، ونقص أوزانها وأحجامها أموراً متتابعة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. ولا زالت تحدث الآفات والعلل كل وقت في الزروع، والثمار، والأشجار، والإنسان، والحيوان، ويحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، وبعضها آخذ برقاب بعض. وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات

والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. فظهر الفساد في البر والبحر وفي أنفسهم بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة، المفسدة بطبعها، ليعلم العباد أن الله هو المجازي على الأعمال، فعجل لهم شيئاً يسيراً من جزاء أعمالهم في الدنيا لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، وجلبت لهم من البلاء والمحن ما جلبت، فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم. فسبحان الحكيم العليم الذي أنعم ببلائه .. وتفضل بعقوبته .. وإلا فلو أذاقهم عقوبة جميع ما كسبوا من السيئات في الدنيا ما ترك على ظهرها من دابة .. كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45]. وأكثر هذه الآفات والأمراض بقية عذاب عذبت به الأمم السابقة، ثم أبقى الله منها بقية مرصدة لمن فعل مثل أفعالهم، حكماً قسطاً، وقضاء عدلاً. كما سلط الله الريح على قوم عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أوْ عَذَابٌ أرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأرْضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفق عليه (¬1). والحل الذي يرفع هذه الآفات والبلايا والأمراض الإيمان بالله، والاستقامة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3473)، ومسلم برقم (2218) واللفظ له.

على أوامره، بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بوظائف الدين الظاهرة والباطنة، وفي ذلك الأمن والسلامة والعافية في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وبذلك نعلم أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط، وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة أمر الله ورسوله، والدعوة إلى غير الله وما شرعه رسوله. فالله عزَّ وجلَّ أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بعبادته وتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله كما قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55 - 56]. والناس قسمان: ذاكر لربه .. وغافل عن ربه. فمن نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، وما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل هي خير منه لبقائها على هداها التام الذي أعطاها إياه خالقها. وأما هذا الغافل عن ربه فخرج عن فطرته التي خُلق عليها، فنسي ربه فأنساه نفسه، وما تكمل به، وما تزكو به، وما تسعد به في معاشها ومعادها كما قال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} ... [الكهف: 28].

فلما غفل عن ذكر ربه انفرط عليه أمره وقلبه. وأعظم العقوبات نسيان العبد نفسه وإهماله لها، وإضاعته حظها ونصيبها من الله، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. فهؤلاء عاقبهم الله على نسيانهم له، بأن أنساهم أنفسهم، فنسوا مصالحها أن يفعلوها، وعيوبها أن يصلحوها، ونقائصها أن يكملوها، وحظوظها أن يتناولوها. وهذا من أعظم العدل، فإنه سبحانه نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب سعادتها ولذتها؛ عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه ونعمائه. فلما قابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، عدل فيهم بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها، فوقعت فيما تفسد به وتتألم بفوته. ومن أعظم مصالح النفس وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها، وشكرها له، وطاعتها لأمره، فلا نعيم لها ولا سرور، ولا فلاح ولا صلاح، إلا بذكر الله وحبه وطاعته، والإقبال عليه والإعراض عما سواه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. فهؤلاء ذكروا الله فذكرهم، وذكرهم بمصالح نفوسهم ففعلوها، وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها، وعَرَّفهم حظوظها العالية فبادروا إليها. فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان، ومحبة الله وذكره وشكره، فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصاً. وهذا يبين لنا كمال عدل الله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها. وإذا كان قضاؤه على النفس بالكفر والذنوب عدلاً منه عليها، فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل. فهو سبحانه ماض في عبده حكمه، عدل فيه قضاؤه.

فله فيها قضاءان: قضاء السبب .. وقضاء المسبب، وكلاهما عدل فيه. فإن العبد لما ترك ذكر ربه، وترك فعل ما يحبه ويرضاه، عاقبه بنسيان نفسه، فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه الله ويسخطه بقضائه الذي هو عدل. فترتب لهذا العبد على هذا الفعل والشرك عقوبات وآلام لم يكن منها بدّ، بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها، فهو عدل محض من الرب سبحانه، فعدل في العبد أولاً وآخراً، فهو محسن في عدله، محبوب عليه. ودين الله تبارك وتعالى هو الحق، وكل ما سواه باطل، وإنما يكيد المكذبون الظالمون، ويحتالون ويخادعون، من أجل رده وصرف الناس عنه، والله جلَّ جلاله يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعباده المؤمنين عقوبة لهم على جرمهم كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} ... [الطارق: 15 - 17]. وكيده سبحانه لأعدائه استدراجهم لمصارعهم من حيث لا يعلمون، والإملاء لهم حتى يأخذهم على غرة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182 - 183]. فالإنسان إذا أراد أن يكيد غيره يظهر له إكرامه وإحسانه إليه حتى يطمئن إليه، فيأخذه على غرة كما يفعله أعداء الله ورسوله. فإذا فعل ذلك أعداء الله ورسوله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسناً لا قبح فيه، فيعطيهم ويعافيهم وهو يستدرجهم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. وكل من استقام على أوامر الله أسعده الله وأكرمه في الدنيا والآخرة، وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، واستقامتهم

على أوامر الله كما قال سبحانه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة: 47]. فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، وأفسدوا في الأرض، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب، والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد، وحق عليهم الوعيد كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} ... [المائدة: 78]. وقال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 13]. وقال سبحانه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61]. وقال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} ... [النساء: 160 - 161]. والربا من كبائر الذنوب، يدمر الأمم، ويحطم الأخلاق، ويوجب اللعنة والطرد من رحمة الله، وقد أعلن الله الحرب على أهله من الله ورسوله، وهي حرب شاملة داهمة غامرة أعم من القتال. حرب على الأعصاب والقلوب .. وحرب على البركة والرخاء .. وحرب على السعادة والطمأنينة .. حرب المطاردة والمشاكسة .. حرب الغبن والظلم .. حرب القلق والحزن .. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لدينه ومنهجه على بعض .. وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول.

إنها حرب تشتعل الآن في العالم كله من جراء النظام الربوي المقيت، وأيسر ما يقع إن لم يقع هذا كله هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطيم الكيان البشري كله من أساسه. وهي حرب مشبوبة دائماً، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا، وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة، وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم، بينما هي خاسرة قطعاً؛ لأن المرابين يحاربون الله ورسوله، ومن يحاربه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو هالك وخاسر قطعاً كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} ... [البقرة: 278 - 279]. وهذا الإنتاج العظيم والمال الوفير لو أنه نشأ من منبت زكي طاهر لأسعد البشرية، ولكنه نبت من أرض الربا الملوث فأشقى البشرية، وخنق أنفاسها، وحطم أخلاقها، وأثقل كواهلها بالديون، وأشعل الفتن والحروب، وتسبب لها بأعظم العقوبات. والحل واحد .. بالاستقامة على أوامر الله، وتجنب هذا المورد العفن النتن الآسن وهو الربا، واتباع وطاعة الله ورسوله فيما شرعه من أحكام عادلة، وإلا فهي العقوبة والهلاك بلا ريب. فيا لله .. كم يؤم أوكار الوحوش الربوية من المسلمين؟. وكم تسعى هذه الفرائس إلى الفخاخ بأقدامها؟. وإذا كانت الطاعات محسوبة .. والمعاصي محسوبة .. والمعاملات مكتوبة .. والسرائر مكشوفة، فهلا نسارع إلى الخيرات؟. وهلا نخاف الله؟ ونخاف يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]. والكفر بآيات الله سواء بإنكارها أصلاً .. أو عدم الاحتكام إليها في واقع

الحياة .. وقتل الأنبياء بغير حق .. وطرد سننهم من الحياة .. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس جسدياً أو معنوياً .. وعصيان الجبار سبحانه .. والاستعداء على حق الله، وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحق عباده .. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة يتقدم بها من يسمون أنفسهم مسلمين بغير حق إلى ربهم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة والغضب. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} [آل عمران: 112]. فاليهود لا يطمئنون ولا يستقرون، حيث عاقبهم الله بالذلة في بواطنهم، والمسكنة في ظواهرهم، فلا يطمئنون إلا بحبل من الله، وحبل من الناس فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية ويُستذلون، أو تحت أحكام النصارى، وباءوا مع ذلك بأعظم العقوبات وهي غضب الله عليهم، ولعنته لهم. وقد حذر الله المؤمنين من طاعة الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة، بل فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} ... [آل عمران: 149 - 150]. فالذي لا يكافح الكفر والشر، والضلال والباطل، والظلم والطغيان، لا بدَّ أن يتخاذل أو يتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والطغيان. فالإيمان والكفر ضدان .. فالذي لا يتحرك إلى الأمام بإيمانه، لا بدَّ أن يرتد إلى الوراء بكفره .. والذي لا يعلو بإيمانه وأعماله الصالحة، لا بدَّ أن ينزل إلى أسفل بكفره وأعماله السيئة.

ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ .. ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟. والله تبارك وتعالى لطيف بعباده رحيم بهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. وهو سبحانه غني عن عذاب العباد، فما به سبحانه من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب، وما به سبحانه من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق، وما به سبحانه من رغبة ذاتية في عذاب الناس، وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله عزَّ وجلَّ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. فعذاب الله جزاء على الجحود والكفران، وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان. إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل، فمتى اتقى الإنسان ربه بالشكر والإيمان فهنالك المغفرة والرضوان، وهناك شكر الله سبحانه لعبده: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. وإذا كان الخالق المنعم المتفضل، الغني عن العالمين، يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وهو غني عنهم وعن إيمانهم وشكرهم، فماذا ينبغي للمخلوقين المغمورين بنعم الله؟. وماذا يجب عليهم تجاه الخالق الرزاق المنعم المتفضل؟. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. وأعظم المنكرات والفواحش والكبائر ثلاثة: الشرك بالله .. والزنا .. وقتل النفس بغير حق، وكل هذه جرائم قتل في الحقيقة. الجريمة الأولى: جريمة قتل الفطرة.

والثانية: جريمة قتل الجماعة. والثالثة: جريمة قتل النفس المفردة. فالفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة، والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة منتهية قطعاً إلى الدمار، والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات مهدد بالدمار. ومن ثم جعل الله عقوبة هذه الجرائم الثلاث هي أقسى العقوبات؛ لأنه سبحانه يريد حماية خلقه من عوامل الدمار، ولذا وصف الله عباده المؤمنين بالبراءة منها كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]. وقد ذكر الله سبحانه سنته في عقوبة الذين يتكبرون في الأرض في الحق بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} ... [الأعراف: 146]. عاقبهم سبحانه بصرفهم عن آياته، فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها، آياته في كتابه المنظور وآياته في كتبه المنزلة على رسله. وذلك لأنهم تكبروا وكذبوا بآيات ربهم، فكانوا عنها غافلين. فالكبرياء صفة لله وحده؛ لا يقبل فيها شريكاً، وحيثما تكبر الإنسان في الأرض كان ذلك تكبراً في الأرض بغير حق. وشر التكبر: ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله، وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر، فهو أساس الشر كله، ومنه ينبعث ويتفجر. وهؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق جبلتهم مقلوبة ضالة، تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها. وهذا الصنف من الناس موجود مشهود، يتجنب الرشد، ويتبع الغي، دون جهد

منه، ودون تفكير ولا تدبر. فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه، إنه يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً ويعمل بذلك، ويدعو إلى ذلك، وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله الكونية والشرعية، لا يراها ولا يتدبرها، ولا تتأثر بها نفسه، فما أعظمها من عقوبة؟. وما يظلم الله هذا الصنف من الناس بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله، ويغفل عنها: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} [الأعراف: 147]. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المتلوّة التي يحملها الرسل، ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر، إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المسلم ونواميسه، لا تربطه بهذا الكون رابطة. وكل عمل يصدر عن هذا المسيخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح، كالدابة التي تأكل النبات السام فتنتفخ فيحسبه الناس عافية وسمنة، وإنما الهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط. وكلما تكررت جريمة الكذب والافتراء على الله تكررت العقوبة كما حصل من بني إسرائيل حين عبدوا العجل كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)} ... [الأعراف: 152]. فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، وقد كتب الله على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة، وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب. فإذا بدا في فترة من الفترات أن بني إسرائيل يطغون في الأرض ويستعلون،

وأنهم يملكون سلطان المال والإعلام، وأنهم يستذلون بعض عباد الله، ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية، والدول الضالة تساندهم، فليس هذا بناقض لوعيد الله ولا لما كتبه عليهم. فهم بظلمهم وأفعالهم وصفاتهم السيئة يختزنون النقمة في قلوب البشر، ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب. غير أن هذه حالة لا تدوم، إنها فترة غيبوبة المسلمين عن سلاحهم الوحيد، فإذا عادوا إلى ربهم ردوا هؤلاء إلى الذلة التي كتبها الله عليهم. أما الذين يعملون السيئات، ثم يتوبون إلى الله، فإن الله يتوب عليهم، ويغفر لهم، وهذه سنة الله في كل زمان ومكان: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)} ... [الأعراف: 153]. وما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به. وكم من عالم يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوي المطلوبة لسلطان الأرض الزائل. وما أكثر ما يتكرر هذا النوع من علماء البشر، يعطيه الله نعمة العلم ثم ينسلخ من آيات الله، ويخلد إلى الأرض، ويتبع الهوى، فيستند له الشيطان، ويلهث وراء الحطام الذي يملكه أصحاب الجاه والسلطان. فليحذر العبد أن يوقعه الشيطان في حبائله فيهلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)} [الأعراف: 175]. إنه مثل لكل من آتاه الله علماً فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان، يلهث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا مقبلاً ومدبراً. يلهث، سواء وعظته أم لم تعظه، يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا إلى نار جهنم.

إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة الدنيا إلى نار جهنم. إن الإسلام يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم النفس وعالم الحياة فور استقرارها في القلب والعقل. وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع .. وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول. فالعقيدة والعلم في صورة نظرية للدراسة، هذا مجرد علم لا ينشئ في عالم الإنسان وعالم الحياة شيئاً كما هو واقع الآن. إنه علم بارد لا يعصم من الهوى، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً، ولا يدفع الشيطان، بل ربما ذلل له الطريق وعبدها. وقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب الاستئصال من عند الله، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها، ثم يمضون في التكذيب. ذلك لأنها رسالات مؤقتة لأمة من الناس، ولجيل واحد من هذه الأمة. فأما رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهي خاتمة الرسالات، لجميع الأقوام، وجميع الأجيال إلى يوم القيامة، فكانت معجزتها القرآن الكريم باقية أبد الدهر، تتدبرها الأجيال بعد الأجيال، وتؤمن بها أجيال وأجيال، وأمم وشعوب، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهية ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأن يقع العذاب والعقوبات على أفراد منها في وقت معلوم. وكذلك كان الحال في الأمم قبلها من اليهود والنصارى، فلم ينزل بهم عذاب الاستئصال العام. إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة، ولا نفس جادة، وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة ليؤمن من يتهيأ للإيمان. ولم يحل عذاب الاستئصال بكفار أهل الكتاب، ولا بكفار هذه الأمة؛ لأن لهم

كتاباً، والذين لهم كتاب من أتباع الرسل وغيرهم كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة. لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره وتعمل به كالجيل الذي أنزل فيه، والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل من حضرها، فإما أن يؤمن بها فينجو ويسعد، وإما أن لا يؤمن بها فيأخذه العذاب. والتوراة والإنجيل كتابان كاملان معروضان للأجيال، حتى جاء الكتاب الأخير القرآن، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً. يدعى إليه الناس جميعاً .. ويعمل به الناس جميعاً .. ويحاسب على أساسه الناس جميعاً بما فيهم أهل التوراة والإنجيل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وإذا كان عذاب الاستئصال قد أُجِّل ورُفع عن كفار قوم موسى، وقوم عيسى، وقوم محمد، على السواء، فإنهم سيوفون ما يستحقون بعد الأجل، ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق، فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)} ... [هود: 109 - 110]. وإذا كان العذاب قد أجل، فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها، يوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)} [هود: 111]. والأمم السالفة التي أهلكها الله بعذاب الاستئصال، لو كان فيهم أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ الله تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بها،

فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} ... [هود: 116 - 117]. فتلك القرى فيها قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة فأنجاهم الله، وكان فيها كثرة من المترفين المكذبين، فأهلك القرى بأهلها الظالمين، وهذه سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في أي صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويُفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها إما بهلاك الاستئصال، وإما بهلاك الانحلال والاختلال. إن أصحاب الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له هم صمام الأمان للأمم والشعوب في كل زمان ومكان. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والعقوبة. وإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدفعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فساداً، فحقت عليهم سنة الله، وأصابها الهلاك والدمار. وهي المسئولة عما حل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق، فلم تسمح لهم بالظهور فيها، ما استحقت الهلاك، وما

سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد، فيقودها إلى الهلاك كما قال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} ... [الإسراء: 16]. والله عزَّ وجلَّ قد جعل للحياة البشرية سنناً لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله، وتحق كلمته: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} [الأحزاب: 38]. إن مسئولية الأمة عظيمة، وستتحمل تبعة ترك النظم الفاسدة تنشي آثارها السيئة التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها، فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً. هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرناً بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} [الإسراء: 17]. ولقد كان المشركون في مكة يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين، فيستعجلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب على سبيل التحدي كما قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)} [العنكبوت: 53]. وكثيراً ما يكون إمهال الله استدراجاً للظالمين؛ ليزدادوا عتواً وفساداً، أو امتحاناً للمؤمنين؛ ليزدادوا إيماناً وثباتاً، وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات، أو استبقاءً لمن يعلم الله سبحانه أن فيهم خيراً من أولئك المنحرفين .. حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى، أو استخراجاً لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه، ولو كان آباؤهم من الضالين، أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور. إن أحوال الحياة وأوضاعها مربوطة بأعمال الناس وكسبهم، وإن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا

الفساد كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه، لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة، وإنما حصل بإذن الله، ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشر والفساد حينما يكتوون بناره، لعلهم يرجعون، فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح، وإلى الصراط المستقيم. والذين كفروا ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس، وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع، وشاقوا الله ورسوله، وآذوا الرسول في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة لما جاء به، والوقوف في غير صفه، أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه، ومحاربة المتبعين لسنته، والقائمين على دعوته، وذلك من بعد ما تبين لهم الهدى، وعرفوا أنه الحق، ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد. فهؤلاء كلهم لن يضروا الله شيئاً، فهم أضعف وأضأل من أن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته، مهما بلغت قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت. فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها، وليست ضراً لدينه ومنهجه وعباده القائمين على شرعه ومنهجه. والعاقبة مقررة فسيحبط أعمالهم فتنتهي بهم إلى الخيبة والدمار، كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام فتهلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)} [محمد: 32]. والفرصة متاحة لهؤلاء الكفار والعصاة في الدنيا فقط بأن يتوبوا إلى ربهم، فباب التوبة لا زال مفتوحاً للكافر والعاصي حتى يغرغر، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)} [محمد: 34]. والعقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقيت آثاراً سارية في الأرض تطلب ما يشاكلها من الذنوب، فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات، كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم، وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية، والأخف للأخف: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)} [النمل: 69]. وكل من أعرض عن دين الله وشرعه قارنه الشيطان عقوبة له، والشيطان إذا قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره ورزقه، وقوله وعمله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} ... [الزخرف: 36 - 37]. ولما أثرت طاعة الشيطان في الأرض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته، وكذلك سكنه لما كان في الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة. فكم يحصل للعبد المعرض عن ربه من الشرور والآثام بسبب مقارنة الشيطان له: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} ... [النساء: 38]. وإذا اتصف قلب الإنسان بالمكر والخديعة، والفسق والبلادة، وانصبغ بذلك صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير، والكلاب والحمير، حتى يبدو على صفحات وجهه بدواً خفياً، ثم يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الصورة الباطنة، يرى ذلك من له فراسة تامة عقوبة من الله. فقلّ أن ترى مكاراً وخداعاً إلا على وجهه مسحة قرد .. وقل أن ترى رافضياً إلا على وجهه مسحة خنزير .. وقل أن ترى شرهاً نهماً إلا على وجهه مسحة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن. وإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الباطنة،

ولهذا خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار؛ لمشابهته الحمار في البلادة وعدم الفطنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يُّحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» متفق عليه (¬1). وأحق الناس بالمسخ أهل الباطل، وأهل الأهواء، وأهل الغناء، فهؤلاء أسرع الناس مسخاً قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن. وكل من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلاً وآجلاً، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنئوه، وعلى مخلفه وزره. وكذلك من رفَّه بدنه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الشيطان أضعاف ذلك في غير سبيل الله ومرضاته، وهذا أمر معلوم. وإبليس لما امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل، صيره الله أذل الأذلين، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وعباد الأصنام لما أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه، رضوا أن يعبدوا آلهة أخرى من الأحجار. فكل من امتنع أن يذل لله أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لا بدَّ أن يذل لما سواه من الخلق، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له. ومن امتنع أن يمشي خطوات في طاعة الرب ابتلي أن يمشي أكثر منها في غير طاعته: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن: 17]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427) واللفظ له.

والذنب لا يخلو من عقوبة البتة، وترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار. وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيراً وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. وأعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته. ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]. فلم يجمع الله على أحد من الوعيد والعقوبة مثل ما جمع على أهل الشرك، فإنهم ظنوا به ظن السوء. ولا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شؤونه في الأنفس والأموال والأعراض وإلا كان عابداً لغيره. فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} ... [النساء: 60]. وعبادة الله وحده والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. والحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، والإعراض عن حكم الله تعالى سبب في حلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين كما قال سبحانه: {وَأَنِ

احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 49 - 50]. والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالعقوبة وحدها، إنما يرفع سيف العقوبة ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف. فأما اعتماده الأول فعلى الدعوة إلى الله، وتقوية الإيمان، وتربية القلب، وهداية الروح، وتقويم الطبع، إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو، وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي، لذلك ما يكاد السياق القرآني ينتهي من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح، يستجيش فيها مشاعر التقوى، ويرغبها بالحسنى كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} ... [البروج: 10]. ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} ... [البروج: 11]. وقد بشر الله بالجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. فالمبشِّر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن قام مقامه من أمته. والمبشَّرون هم الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة التي تصلح بها أحوالهم، وأمور دينهم ودنياهم، وأحوالهم الدنيوية والأخروية. والمبشر به هي الجنات الجامعة للأشجار العجيبة، والثمار اليانعة، والظل الممدود، والأنهار الجارية بالماء واللبن والخمر والعسل، والعيون العذبة

الصافية يفجرونها تفجيراً، وسرر مرفوعة، وأزواج مطهرة من كل عيب ودنس، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، قاصرات الطرف على أزواجهن. والسبب الموصل لهذا النعيم كله الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما. فهذه أعظم بشارة للبشرية كلها .. وهي حاصلة على يد أفضل الخلق كلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .. بأفضل الأسباب وهي الإيمان والعمل الصالح .. الموصل لأفضل نعيم وهو الجنة ورضوان الله عزَّ وجلَّ. والمؤمنون الذين يستحقون الجنة لهم صفات، ولهم أعمال، ولهم وظائف، إذا قاموا بها رحمهم الله وأسكنهم الجنة، وقد وصفهم الله بقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]. فهؤلاء أعد الله لهم من الثواب العظيم، والنعيم المقيم، ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولا خطر على قلب بشر كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72]. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا وإياكم وجميع المسلمين منهم. فالإيمان والطاعات سبب للنجاة وحصول الحسنات، والكفر والمعاصي سبب للهلاك وحصول السيئات. والطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، والمعاصي كلها شعب من شعب الكفر. وشعب الإيمان أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة والزكاة والحج والصيام

من شعب الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخوف والتعظيم والمحبة والخشية كل ذلك من شعب الإيمان، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة. ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً. وشعب الإيمان قسمان: قولية .. وفعلية. وكذلك شعب الكفر: قولية .. وفعلية. فحقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، وهي الأعمال الظاهرة فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، وكما يكفر الإنسان بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم. والعقوبات الشرعية أدوية نافعة، يُصلح الله بها أمراض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، والدين كله شفاء ورحمة للعباد: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [الأعراف: 203]. فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذين أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير. فدين الله هو طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، المبني على محبته ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه مما سواهما، فإن الرأفة والرحة يحبهما الله

ما لم تكن مضيعة لدين الله وحدوده. والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين وصلة الرحم ما يأمر به الله وسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتعدى الحدود. وهذا كله من الإسراف والله لا يحب المسرفين.

7 - فقه الجزاء من جنس العمل

7 - فقه الجزاء من جنس العمل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} ... [البروج: 11]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وشرعه كما قال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ» متفق عليه (¬1). وهذا هو العدل الذي تقوم به السموات والأرض، وبه تصلح الدنيا والآخرة، ويصلح به الدين والدنيا. ولهذا أمر الله بقطع يد السارق، وشرع قطع يد المحارب ورجله، وشرع القصاص في الدماء والأموال والأبدان. والجزاء مماثل للعمل من جنسه في الخير والشر: فمن ستر مسلماً ستره الله .. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة. ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه. ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته .. ومن ضار مسلماً ضار الله به .. ومن شاق شاق الله عليه .. ومن خذل مسلماً في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يحب نصرته فيه. ومن أَنفق أُنفق عليه .. ومن أَوعى أُوعي عليه .. ومن يسر يسر الله عليه .. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5997)، ومسلم برقم (2318).

ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه .. ومن تجاوز عن غيره تجاوز الله عنه .. ومن استقصى استقصى الله عليه. ومن سمح سمح الله له .. ومن رحم خلق الله رحمه الله .. ومن عفا عنهم عفا الله عنه، ومن ظلمهم سلط الله عليه من يظلمه. والراحمون يرحمهم الرحمن .. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والله سبحانه أتقن كل شيء صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، فهو عند مبدأ خلقه برئ من الآفات والعلل، تام المنفعة لما هيء وخُلق له، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر تقتضي فساده، ولو تُرك على خلقته الأصلية لم يفسد. ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتصت حدوثه. ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحط والجدب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها ونحو ذلك من حصول الخوف والجوع وتسلط الأعداء كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وصورهم، وصفاتهم وأخلاقهم، من النقص والآفات، ما هو من موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم. وأكثر هذه الأمراض والآفات بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة، ثم بقيت منها بقية أُرصدت لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكماً قسطاً وقضاءً عدلاً. وقد جعل الله عزَّ وجلَّ أعمال البر والفاجر مقتضية لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بدَّ منه:

فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لحصول القحط والجدب، ومنع نزول الغيث .. وجعل ظلم المساكين، والبخس في الموازين، وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذي لا يرحمون إذا استرحموا. وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صورة ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته يظهر للناس أعمالهم في صور تناسبها. تارة بالقحط .. وتارة بالجدب .. وتارة بأمراض عامة .. وتارة بهموم وآلام .. وتارة بولاة جائرين .. وتارة بعدو .. وتارة بمنع بركات السماء والأرض .. وتارة بتسلط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم كلمة الله، وليصير كل منهم إلى ما خلق له كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. فكل صلاح في العالم سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر وبلاء في العالم فسببه الكفر ومخالفة الله ومن رحمة الله سبحانه أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة ونحوها. فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع الله في الكذب قطع اللسان ولا القتل .. ولا في الزنا الخصا .. ولا في السرقة قتل النفس .. ولا في القذف إزهاق الروح. وإنما شرع سبحانه ما هو موجب أسمائه وصفاته من رحمته وحكمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن العدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه خالقه ومالكه، فلا يطمع في استلاب حق غيره ظلماً وعدواناً. ولهذه الجنايات مراتب مختلفة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر، والقلة والكثرة. ومعلوم أن الضربة بالعود لا يصلح إلحاقها في العقوبة بالضربة بالسيف .. ولا

النظرة المحرمة بعقوبة مرتكب الفاحشة .. ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب .. ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الكثير .. فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، ومعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، ولعظم الاختلاف، واشتد الخطب، لقصور علمهم، وضعف رؤيتهم، واختلاف مداركهم وعقولهم. فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، فكانت عدلاً ورحمة. ثم بلغ من سعة رحمته وجوده سبحانه أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه لا سيما مع التوبة منها. فرحمهم الله سبحانه بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة. وجعل سبحانه هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: القتل .. والقطع .. والجلد .. والنفي .. وتغريم المال .. والتعزير. فالقتل جعله الله عقوبة على أعظم الجنايات كالجناية على النفس، وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، فهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاء هذا الجاني بين أظهر العباد مفسد لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة، فهو كالعضو الفاسد فناسب بتره وقطع دابره؛ صيانة للدين وأهله من شره. وجعله كذلك عقوبة على الجناية على الفروج المحرمة كالزاني المحصن؛ لما في جنايته من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب. وأما القطع فجعل عقوبة مثله عدلاً .. وعقوبة السارق الذي اقتطع مال غيره، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ

أموالهم. ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق، وعدوانه أعظم، ضم إلى قطع يده قطع رجله، ليكف عدوانه عن الناس، ورحمه بأن جعل القطع من خلاف فأبقى له يداً من شق، ورجلاً من شق. وأما الجلد فجعله سبحانه عقوبة على الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف. فسبحان الحكيم العليم بخلقه، جعل إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً، وأشدها فساداً في العالم وهي: الكفر الأصلي والطارئ .. والقتل .. والزنا من المحصن. وإذا تأمل العاقل فساد الحياة رآها من هذه الجهات الثلاث وقد سأل عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم؟ فقال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه (¬1). فأنزل الله تصديق ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]. ثم لما كانت سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع اليد، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد. ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها. ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف .. والقلة والكثرة، وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوباتها راجعة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477)، واللفظ له، ومسلم برقم (86).

إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بالتعزير بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم أنفسهم بمعاقبتهم بما يردعهم ويكف شرهم ويصلح أحوالهم وحال الأمة. والحسنات والسيئات يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل: فمن عمل خيراً وحسنات لقي خيراً وحسنات، ومن عمل شراً وسيئات لقي شراً وسيئات. وقصد الخير في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]. وقصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} ... [الصافات: 22 - 23]. والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم من في الأرض رحمه من في السماء، فالجزاء أبداً من جنس العمل، وكما تدين تدان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم (¬1). ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2699).

اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها كما قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]. والله عزَّ وجلَّ على صراط مستقيم في قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل. فهو سبحانه على صراط مستقيم، ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعاً إليه، فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطاً مستقيماً يوصلهم إلى الجنة، ثم صرف عنه من انصرف عنه في الدنيا، وأقام عليه من اتبع صراطه المستقيم في الدنيا. وجعل نور المؤمنين به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نوراً ظاهراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر والموقف، وحفظ عليهم نورهم حتى قطعوه كما حفظ عليهم الإيمان به حتى لقوه. وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد: 12]. فمن لم يقبل نور الإيمان في الدنيا فلا حظَّ له في النور يوم القيامة، فهو أعمى وفي الظلمات فأنى يهتدي وينجو: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد: 13]. وأقام سبحانه أعمال العصاة على جنبتي الصراط كلاليب وحسكاً تخطفهم إلى النار كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة على الصراط المستقيم.

وجعل سبحانه قوة سير الناس على الصراط على قدر قوة سيرهم في الدين وسرعتهم إليه في الدنيا. ونصب للمؤمنين حوضاً يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا، وحَرَمَ من الشرب منه هناك من حَرََمَ نفسه من الشرب من شرعه ودينه في الدنيا. فالدنيا مزرعة الآخرة: فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه. وعلى قدر سيره على هذا الصراط سيكون سيره على ذاك الصراط المنصوب على متن جهنم. فمن الناس من يمر كالبرق .. ومنهم من يمر كالطرف. وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجسر فقال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه (¬1). فلينظر العبد إلى الشبهات والشهوات والمظالم التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]. والله عليم خبير يجزي الإنسان بجنس عمله، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه، فإن قدح فيهم ونسب ما يقولون إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل ابتلي في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به. ومن قال عنهم إنهم تعمدوا الكذب أظهر الله كذبه، ومن قال أنهم جهال أظهر ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183)، واللفظ له.

الله جهله بين خلقه وخذله. ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر كذاب، أهلك الله فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على الله وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع فلم يبين حجة، وكذلك خسف الله بقارون وماله: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40]. وفرعون هذه الأمة أبو جهل أهلك بجهله نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة، والذين قالوا عن رسول الله إنه أبتر عوقبوا بانبتارهم، فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته كما قال سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3]. ومن احتال على إباحة ما حرمه الله بالحيل عاقبه بنقيض قصده كما احتال أصحاب السبت فلعنهم الله ومسخهم قردة وخنازير جزاء احتيالهم على فعل ما حرمه الله عليهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: 65]. فهؤلاء احتالوا على وقوع الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وفاقاً. وحياة القلب بالإيمان، فإذا أمد الله عبده بهذه الحياة أثمرت له محبة الله وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وحسن التوكل عليه، وحياة النفس وسعادتها بهذه الحياة. ومتى فقدت هذه الحياة عاش الإنسان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة التي خلق من أجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتاً عديم الإحساس كان في الآخرة كذلك. فحياة البدن بالطعام، وحياة القلب بالإيمان، وحياة الإنسان بدون الإيمان حياة

ضالة معذبة شقية، لم تسترح راحة الأموات، ولم تعش عيشة الأحياء السعداء وفي الآخرة كذلك كما قال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 9 - 10]. ومن أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته، أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: 97]. والإنسان الطَّيِّب يتفجر الطِّيْب من قلبه على لسانه وجوارحه، والخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، وقد يكون في الإنسان مادتان: طيْب وخبث، فأيهما غلب عليه كان من أهلها. فإذا أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموت، فيوافيه يوم القيامة مطهراً من الذنوب بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. ويمسك سبحانه عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمة الله تأبى أن يجاوره أحد في داره الطيبة بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفيه، فإذا خلص من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده. وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، وأكثر المسلمين لا بدَّ له من التطهير، فإن الجهل والغفلة والحرص يولد كثرة المعاصي والذنوب لا محالة. ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71 - 72].

ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حَرَّم الله على المشرك الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. ولما كان المؤمن الطيب مبرءاً من الخبائث كانت النار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فيحفظه ويوصله إيمانه إلى الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} ... [الكهف: 107 - 108]. فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، رب العالمين، وأحكم الحاكمين. والجزاء من جنس العمل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (¬1). ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ولا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وإذا تقرب العبد إلى ربه بالنوافل التي يحبها الله أحبه الرب، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يمشي. والله عزَّ وجلَّ وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير، وذلك لأن تعليم الناس الخير يخرجهم من الظلمات إلى النور، والجزاء من جنس العمل ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بكمال هذه الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).

فلما تسبب معلمو الخير للناس في دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي الله عليهم وملائكته صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]. وكذلك العالم كلما علّم الناس من جهالتهم جزاه الله بأن علمه من جهالته، وأمر الكائنات أن تستغفر له؛ لأن لها جميعاً حظ من علمه. ومن خزن العلم ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه، ومن كتم الحق أو كذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه، وسنة الله أن يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه، كما أن المتبايعين إذا صدقا بوركا في بيعهما، وإن كتما وكذبا محق الله بركة بيعهما. فالكتمان يعزل الحق عن سلطانه .. والكذب يقلبه عن وجهه. والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه أهل الحق والصدق والبيان، ويلبسه ثوب الذل والهوان ومن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن أثنى على الرسول أثنى الله عليه وزاد تشريفه وتكريمه، ومن سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة. ومن آثر الله ومحابه على غيره آثره على غيره، وأعطاه ما يحب جزاء وفاقاً. والإمام العادل أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظل يوم لا ظل إلا ظله، فكما كان الناس في ظل عدله في الدنيا كان في ظل الرحمن يوم القيامة، ظلاً بظل، جزاء وفاقاً .. وهكذا بقية السبعة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،

وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (¬1). وإذا استقام الناس استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم. فسبحان من جميع أقضيته وأقداره جارية على مقتضى الحكمة، بل على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة عنها وعن إدراك أسرارها. وإذا منع الناس الزكاة وحرموا المساكين حبس الله الغيث عنهم وابتلاهم بالقحط، فلما منعوا حق المساكين منع الله عنهم مادة القوت والرزق، وهو الماء. والله منعم على جميع العباد، ولا يغير سبحانه نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّر، غَيَّر الله عليه، جزاء وفاقاً: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53]. فإن غَيَّر المعصية بالطاعة غَيَّر الله العقوبة بالعافية والسلامة، والذل بالعز، والتعب بالراحة: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11]. ومن غض بصره عن المحرمات عوضه الله إطلاق بصيرته في العلم والإيمان والمعرفة، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله، فكما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته ولهذا وغيره قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031).

وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31]. وكلما أحسن الناس بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} ... [الأعراف: 56]. وأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله، فمن أحسن عبادة ربه أحسن ربه إليه ورحمه كما قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]. والله عزَّ وجلَّ يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل العبد الناس في ذنوبهم، فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو أنفع الأشياء له. والمتقون لما فعلوا ما يحب الله، وتركوا ما يكره أعطاهم ما يحبون، ووقاهم مما يكرهون جزاء وفاقاً كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)} [الطور: 17 - 18]. جمع الله لهم بين النعيمين، نعيم القلب بالتفكه، ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح، ووقاهم عذاب الجحيم، وعلى قدر ما يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الله منه أكثر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (¬1). وحقيقة هذا التقرب أن تفنى بمراد الله عن هواك، وبما منه عن حظك، فكما جاد المسلم لحبيبه بنفسه وروحه، وجميع قواه وإرادته، وأقواله وأعماله، فهو ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).

أهل أن يُجاد عليه، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضاً عن كل شيء جزاء وفاقاً. والشهيد في سبيل الله لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} ... [آل عمران: 169]. وإذا توكل العبد على الله حق توكله، ثم كادته السموات والأرض ومن فيهن جعل الله له مخرجاً من ذلك وكفاه ونصره: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2 - 3]. ومن بذل لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، فمن جاء بالحسنة أعطاه الله عشراً، ومن صلى صلاة واحدة كتبها الله عشراً، ومن أنفق درهماً أخلفه الله عليه، وكتب له به عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} ... [البقرة: 245]. فلا يزال العبد رابحاً على ربه في كل طاعة بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، سعادة في الدنيا، وجنة ورضوان في الآخرة. ومن كان مستوحشاً من الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ويعود عمله عليه بعينه، فيشقى به ظاهراً وباطناً. ومن قرت عينه بالله في هذه الدار قرت عينه به يوم القيامة، وعند الموت، ويوم البعث، ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهراً وباطناً: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}

[ص: 49 - 58]. وقابل الله ما أخفاه المتقون من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وقابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون لصلاة الليل بقرة الأعين في الجنة كما قال سبحانه عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16 - 17]. وجعل سبحانه الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده ولأفضل ذريته، اعتناءً وتشريفاً، وإظهاراً لفضل ما خلقه بيده وشرفه. ولما كان الكفار في الدنيا في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلما هموا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته رجعوا على حوافرهم كانت عقوبتهم في الآخرة كذلك كما قال سبحانه عن الكفار: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 20]. فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم، كلما أراد الإنسان أن يخرج منه أبت عليه نفسه وشيطانه، فلا يزال في غمّ ذلك حتى يموت، فإن لم يخرج من غم ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة. فما حبس العبد عن الله في هذه الدار حبسه عنه بعد الموت, وكان معذباً به هناك كما كان قلبه معذباً به في الدنيا. وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. والله حليم غفور، فلولا حلمه عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت السموات والأرض، فحلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].

وقد أخرج الله سبحانه آدم وزوجه من الجنة بذنب واحد ارتكباه، ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه، ونحن معاشر الحمقى نصل الذنوب إلى الذنوب، ونتبع الصغائر بالكبائر غير مقدرين لعظمة الرب، وغير مبالين بأمره، ونرجو مع ذلك أعلى الدرجات في الآخرة: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ... [الأعراف: 23]. وكل عمل له جزاء، والعبد ميسر بأعماله لغاياتها كما قال سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 4 - 10]. فهذا عمله الصالح ييسر لليسرى .. وهذا بعمله السييء ييسر للعسرى. وأسباب التيسير لليسرى ثلاثة: الأول: إعطاء العبد من نفسه الإيمان والطاعات، واعطاؤه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته، فتكون نفسه مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة. فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرة للعطاء .. الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]. وتارك التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، ولو اتقى الله لكان تيسرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله لغير التقوى من نعيم القلب ولذة الروح ما هو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات. الثالث: التصديق بالحسنى، وهي التصديق بالإيمان وشعبه وجزائه وهو الجنة. فهذا قد زكى نفسه، وأعدها لكل حالة يسرى، فصارت هذه النفس بذلك ميسرة

لكل يسرى، وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث قوة الإعطاء .. وقوة الكف .. وقوة الفهم. فهذا أهل أن ييسر لليسرى، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، مذللة له، منقادة لا تستعصي عليه؛ لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها، يسلك سبلها ذللاً، يتلذذ بفعلها حتى يلقى ربه فيدخل الجنة. أما من بخل فعطل قوة الإرادة والإعطاء عن فعل ما أمر الله به .. واستغنى بترك التقوى عن ربه، فعطل قوة الكف عن فعل ما نهى الله عنه .. وكذب بالحسنى، فعطل قوة العلم والإدراك عن التصديق بالإيمان وجزائه .. فهذا جزاؤه أن ييسر للعسرى، ويحال بين قلبه وبين الإيمان، فيعمل بأعمال أهل النار، وتصير خصال الشر ميسرة عليه، يعمل بها حتى يلقى الله فيدخله النار. والله سبحانه هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة، فَيَسَّرهم لليسرى .. وأهل شقاوة فيَسَّرهم للعسرى، واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها. وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما. والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإنابة إليه، وطلب مرضاته .. وأخلى لسانه من ذكره وحمده والثناء عليه .. وأخلى جوارحه من شكره وطاعته وعبادته .. ولم يرد من نفسه ذلك .. ونسي ربه .. نسيه الله كما نسيه .. وقطع عنه الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده كما قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37]. وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].

فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه، أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، ومن أعرض عن الله وعن دينه خلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]. فعدم إرادته تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه. فالذي إلى الرب وبيديه ومنه الخير .. والشر كان مصدره منهم .. وإليهم كان منتهاه .. فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة .. وبعقوبته لهم به تارة. فمن أحسن أحسن الله إليه بما يسره في الدنيا والآخرة .. ومن أساء عوقب بما يسوؤه في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].

8 - فقه التخلص من المعاصي

8 - فقه التخلص من المعاصي قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68]. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. العارف بالله من يعظم ربه أمام الناس ليعظموه، ويكبره أمامهم ليكبروه، فإذا عظموه عظموا كلامه، وعظموا أوامره، فأطاعوه وتجنبوا معاصيه. وكذلك يحبب الله لخلقه بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فالقلوب مفطورة على حب من أحسن إليها، فإذا ذكرت آلاء الله وإنعامه تعلقت بحبه، وهان عليها ترك الذنوب، وترك الإصرار عليها، ونشطت وتلذذت بطاعته. فالعارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها لأول وهلة، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم؛ لأن ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فلا يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة. وترك الدنيا التي تشغل العبد عن الله صعب على النفوس، فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه شديد. وليس المراد ترك أسباب الكسب، فإن الدنيا دار الأسباب الدنيوية والأخروية، وإنما المراد التقلل منها، والأخذ منها بقدر الحاجة، وإنفاق ما سوى ذلك في مرضاة الله. فمن قوي على مرارة الفطام فذلك خير، وإلا فليرتضع بقدر حتى يأذن الله له بمعرفة الباقي من الفاني فيؤثره. ويهون على العبد ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها مرضاة الرب .. ومحبة الرب .. ومحبة الخلق .. وصلاح المعاش .. وراحة البدن .. وقوة القلب ..

وانشراح الصدر .. ونعيم القلب .. وحصول المروءة .. وصون العرض .. وقلة الهمّ والغمّ والحزن .. وعز النفس عن احتمال الذل .. وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعاصي. ويسهل على الإنسان ترك المعاصي إذا عرف عظمة ربه وجلاله، وغزارة نعمه عليه وعلى غيره، ولاحظ عفوه وإحسانه، فلا يليق بمن هذه عظمته، وهذه نعمه أن يعصيه، بل الواجب طاعته، وشكر نعمه، والتسبيح بحمده سراً وجهراً ليلاً ونهاراً. ويسهل عليه كذلك ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها تيسير الرزق عليه .. ووصوله إليه من حيث لا يحتسب وحصول البركة فيه .. وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي .. وتسهيل الطاعات عليه .. وكثرة الدعاء له .. والحلاوة التي يكتسبها في وجهه .. والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس .. وانتصارهم له إذا أوذي أو ظلم .. وسرعة إجابة دعائه .. وزوال الوحشة التي بينه وبين الله .. وقرب الملائكة منه .. وبعد الشياطين عنه .. وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه .. ورغبتهم في صحبته .. وعدم خوفه من الموت .. وصغر الدنيا في قلبه .. وكبر الآخرة عنده .. وذوق حلاوة الطاعات .. ووجدان حلاوة الإيمان في قلبه .. ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له. هذه بعض آثار ومنافع ترك المعاصي في الدنيا. أما في الآخرة فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة .. وانتقل من سجن الدنيا إلى روضة من رياض الجنة .. ينعم فيها في قبره إلى أن تقوم الساعة. فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق .. وهو في ظل عرش الرحمن، فإذا انصرفوا بعد الحساب من بين يدي الله، أخذت به الملائكة ذات اليمين إلى جنات النعيم مع أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، حيث النعيم المقيم، يتجول بين القصور، ويتلذذ بالنساء والحور، ويتنعم بالأكل من ألوان الأطعمة

والفواكه، ويشرب من أنهار اللبن والماء والعسل والخمر .. وغير ذلك من النعيم الذي لم يخطر بباله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. وفوق ذلك كله تمتع برؤية ربه، وفوزه برضوانه كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. فهل يزهد في هذا النعيم من له أدنى مسكة من عقل؟. وهل يحرم نفسه منه بمعصية من يملكه إلا مارج العقل والدين؟. إنه ليس في الآخرة إلا نعيم أو عذاب .. وإكرام أو إهانة .. وسعادة أو شقاوة .. مع الخلود والتأبيد .. ولكل دار عمل وعمال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. والعاقل إنما يقدم طاعة الله على طاعة النفس .. ومحبوبات الله على محبوبات النفس .. وطاعة الرحمن على طاعة الشيطان .. والدار الباقية على الدار الفانية .. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} ... [الجمعة: 4]. والمعاصي والذنوب ضربان: كبائر .. وصغائر. فالكبائر تكفرها التوبة النصوح كما قال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39]. أما تكفير الصغائر فيقع بشيئين: أحدهما: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} ... [هود: 114].

الثاني: اجتناب الكبائر كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم (¬1). وقد خلق الله الإنسان ضعيفاً من جميع الوجوه: فهو ضعيف البنية .. ضعيف الإرادة .. ضعيف القوة .. ضعيف العلم .. ضعيف الصبر، فلا بدَّ له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره وإلا هلك، وخلقه على هذه الصفة من الأمور التي يحمد عليها الله سبحانه، وهو بالنسبة إلى الخالق خير وعدل وحكمة. وبالنسبة إلى العبد ينقسم إلى خير وشر، وطاعة ومعصية، فالإنسان ضعيف، تارة يتبع الشهوات، وتارة ينفذ أوامر الرب، حسب قوة الإيمان وضعفه. وشهوة الطعام والشراب، وشهوة الفرج من أعظم الشهوات، فلهذا أباح الله لنا جميع الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من النساء إلى أربع، وأن نتسرى من الإماء بما شئنا. والعبد له في باب الشهوات ثلاثة أحوال: حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه .. وحالة تقصير وتفريط .. وحالة ضعف وقلة صبر. فقابل سبحانه جهل العبد بالبيان والهدى، وقابل تقصيره وتفريطه بالتوبة، وضعفه وقلة صبره بالتخفيف كما قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26 - 28]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (233).

ويهوَّن على العاصي ترك الذنوب إذا علم أنه سوف يحاسب عليها، وأنه سوف يمكث في النار بحسب قلتها أو كثرتها، وأنه في الدنيا لا يطيق حرارة الشمس ولا شدة البرد، فكيف يطيق عذاب نار جهنم؟. وعذاب الدنيا الذي يحصل للعصاة بسبب معاصيهم شديد، وعذاب الآخرة أشد وأبقى وأخزى: وذلك بسبب قوته وشدته .. وبسبب دوامه وعدم انقطاعه .. وبسبب كثرة أنواعه .. وبسبب اليأس من زواله .. وبسبب أنه لا يختلط به شيء من موجبات الراحة كما قال سبحانه عن الكفار والعصاة: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]. وكل من كملت عظمة الخالق في قلبه عظمت عنده مخالفته. ومن عرف قدر نفسه، وفقرها الذاتي إلى مولاها، وشدة حاجتها إليه، عظمت عنده الجناية، ومخالفة من هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة. ومن عرف حقارة الجناية مع عظم قدر من خالفه، عظمت عنده الجناية، فشمر في التخلص منها. وبحسب تصديق الإنسان بالوعيد، ويقينه به، يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تسبب عقوبته وهلاكه كما قال سبحانه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 14]. والمعاصي والبدع ضربان: صغائر .. وكبائر. والكبائر: كل ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة، وكل ما لم يقترن بالنهي عنه شيء من ذلك فهو صغيرة. والمعصية والبدعة لا تكون صغيرة إلا بشروط: الأول: أن لا يداوم عليها، فإن داوم عليها فهو مصر عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة. الثاني: أن لا يدعو الناس إليها، فما كان بين العبد وربه ترجى معه التوبة

والمغفرة، فإن دعا إليها فعليها وزرها ووزر من عمل بها. الثالث: أن لا يفعلها في مجامع الناس كالمساجد والأسواق، وأماكن إقامة السنن، فهذا من أضر الأشياء على الناس، لكثرة من يقتدي به فيما يعمل في تلك الأماكن. الرابع: أن لا يستصغرها ولا يحتقرها، فالاستهانة بالذنب أعظم من الذنب. والذنوب كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله سبحانه معصية، ومخالفة أمره كبائر، وذلك بالنظر إلى من عصيت أمره، وانتهكت محارمه. والمعصية تتضمن الاستهانة بالآمر، والاستهانة بأمره، والتوثب على حق الرب عزَّ وجلَّ وذلك كله يحتاج من العبد إلى التوبة والاستغفار: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]. إن أول ما يفسد من الشجرة الجذور ثم ينتشر الفساد على باقي الشجرة، ثم تتعفن الثمرة، وكذلك الإنسان أول ما يفسد قلبه، ثم تفسد معاملاته ومعاشراته وأخلاقه، ثم تفسد عباداته، ثم يتحول من جند الرحمن إلى جند الشيطان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). وإذا تذكر العبد أن الذي خلقه هو الله .. وأن الذي يرزقه هو الله .. وأن الذي أعطاه العقل والسمع والبصر هو الله .. وأن الذي أسكنه في الأرض هو الله .. وأن الذي هداه هو الله .. إذا ذكر هذا علم أن من هذه صفاته وهذه أفعاله لا يليق به إلا الطاعة التامة، والمحبة التامة .. وأن معصيته لا تليق بالإنسان فكيف بالعاقل، فكيف بالمسلم؟. وهل يليق بالرب المحسن إلى العبد من جميع الوجوه أن يقابل ذلك بالمعاصي والسيئات التي أول ما تضر نفسه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599) واللفظ له.

والناس رجلان: منهم من يجمع الطيبات والحسنات والأعمال الصالحة التي ترضي الرب. ومنهم من يجمع الخبائث والسيئات والأعمال السيئة التي تسخط الرب. فإن غاب المذّكِّر رتعت الأمة في الشهوات والسيئات، وإن قام المذّكِّر تحولت الأمة من الشهوات والسيئات إلى الطاعات والحسنات، واكتفت من الشهوات بما أحل الله لها: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} ... [الأعلى: 9 - 13]. ولعافية الجسد لا بد من الأغسال المتكررة، وتناول الأغذية الطيبة، واستفراغ المواد الفاسدة. ولعافية القلب لا بدَّ من التوبة المتكررة، وفعل الأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال السيئة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. فما أحسن الاستغفار والتوبة من العبد الظالم الغافل الجاهل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]. والطهر طهران: طهر بالماء من الأحداث والأنجاس .. وطهر التوبة من الشرك والمعاصي. وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، ولهذا قدمه الله كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} ... [البقرة: 222]. اللهم طهر قلوبنا من النفاق .. وأعمالنا من الرياء .. وألسنتنا من الكذب .. وأعيننا من الخيانة .. وجوارحنا من البدع والمعاصي.

9 - فقه التوبة من المعاصي

9 - فقه التوبة من المعاصي قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. وقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} ... [المائدة: 39]. المعاصي جمع معصية، والذنوب جمع ذنب، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأوامر الله ورسوله في ترك، أو فعل. والذنوب قسمان: صغائر .. وكبائر. فالكبائر: ما توعد الله عليه بلعنة، أو غضب، أو طرد كالكفر والشرك، وقتل النفس المعصومة، والزنا والربا، والسرقة وقول الزور ونحو ذلك. والصغيرة: ما دون ذلك من الذنوب. وبعض الكبائر: قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وجميع الصغائر: قد تكون كبيرة بحسب نية فاعلها، وتكرارها، وسروره بها، وقد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وعدم الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى مراتبها. وأصل الذنوب تنبعث من أربع صفات في القلب: صفات ربوبية: كالكبر والعجب، وحب المدح والثناء، والعز والغنى وطلب البقاء والاستعلاء. وصفات شيطانية: كالحسد والبغي، والحيل والنفاق، والمكر والكيد، والأمر بالفساد والمنكر، والغش والخداع، والدعوة إلى البدع والضلال، ونحو ذلك. وصفات بهيمية: كالحرص والشهوة والشره، ومن ذلك يتشعب الزنا والسرقة،

وأكل الأموال بالباطل، وجمع الحطام لأجل الشهوات. وصفات سبعية: ومنها يتشعب الغضب والانتقام، والتهجم على الناس بالضرب، والشتم، والقتل، وأكل الأموال. والذنوب والمعاصي نوعان: أحدها: ذنوب بين العبد وربه كترك الصلاة والصوم، والواجبات الخاصة به من فعل محذور، وترك مأمور ونحو ذلك. الثاني: ذنوب بين العبد والخلق كمنع الزكاة، وقتل النفس المعصومة، وغصب الأموال، وشتم الأعراض، وكل متناول من حق الغير. وجميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها الإنسان تحتاج إلى توبة، والتوبة لازمة لكل أحد وإلا هلك كما قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} ... [الحجرات: 11]. ومن أضل غيره ثم تاب فإن الله يقبل توبته، ويمحو وزره، ووزر من أضله، لكن عليه أن يدعو إلى الهدى كما دعا إلى الضلالة، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. وعلامة التوبة: الإقلاع عن الذنب، ورقة القلب، وغزارة الدمع، وأن يشعر بمرارة تلك الذنوب في قلبه بدلاً من حلاوتها. فيستبدل بالميل كراهة، وبالرغبة نفرة، وبالمعصية طاعة. وشرط صحتها: فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ، ويفتش عما مضى من عمره، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها .. فيكمله. وينظر إلى المعاصي ما الذي قارفه منها .. فيتوب منه. وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره، وعن بطنه وفرجه، وعن لسانه ويده ورجله، وسائر جوارحه.

ثم ينظر في جميع أيامه ولياليه، ويفصل ويعرض ديوان معاصيه أمام نفسه، حتى يطلع على جميعها، صغائرها وكبائرها. ثم ينظر فيها: فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى كالتقصير في العبادات ونحوها مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر والعدد، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها. فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالََ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى، فإن الله عزَّ وجلَّ نهى عن ظلم العباد، فما يتعلق بحق الله تعالى منه تداركه بالندم والتوبة، وترك مثله في المستقبل، والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها. فيقابل مثلاً إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم إن لم يجدهم بالصدقة بها عنهم، ويكفر عن غيبتهم بالثناء عليهم ونحو ذلك. وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يبيعهم في الغيبة، فيطلب كل من تعرض له بلسانه، أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، ويستحلهم واحداً واحداً. ومن مات منهم أو غاب فقد فات أمره، فيتدارك ذلك بتكثير الحسنات، والدعاء له، والتضرع إلى ربه، ليكف عقوبتها عنه بما شاء. وأما العزم المرتبط بالمستقبل، فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً، ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب وأمثالها. ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630). وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).

وشفاء التوبة لا يحصل للعبد إلا بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده. وسبب الإصرار على الذنوب هو الغفلة والشهوة، ولا يضاد الغفلة إلا العلم، ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة. ولا يحمل الإنسان على ترك المعاصي والذنوب إلا قوة الإيمان التي يحب بسببها الطاعات والحسنات، ويبغض المعاصي والسيئات، ومعرفة الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين، والآيات والأحاديث في مدح التائبين، وذم العاصين، ومعرفة أحوال الأنبياء والصالحين، وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم، مثل أحوال آدم - صلى الله عليه وسلم - وخروجه من الجنة بسبب معصيته كما قال سبحانه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]. ويعرف أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جنايته. والذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} ... [النساء: 123]. ويذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالجلد على شرب الخمر، والرجم والجلد على الزنا، وقطع اليد في السرقة، والقصاص على القاتل عمداً وكذا الكبر والنفاق والحسد والغيبة، وغير ذلك مما لا يمكن حصره. والتوبة إلى الله من الذنب مركبة من ثلاثة أمور: علم .. وحال .. وفعل. أما العلم فهو معرفة ضرر الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، ومعرفة عظمة من عصيته. فإذا عرف العبد ذلك بيقين غالب على قلبه، ثار من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب.

فإن كان حصل فواته تأسف على الفعل المفوت، وأعقب الندم. فإذا غلب هذا الألم على القلب، انبعث من القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل: أما تعلقه بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له. وأما في المستقبل فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر. وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر والقضاء، والإكثار من الاستغفار. والناس قسمان: تائب .. وظالم كما قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. والتوبة معناها الرجوع، فالتائب هو الراجع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة .. ومما نهى الله عنه إلى ما أمر الله به. فمن رجع عن المعاصي خوفاً من عذاب الله فهو تائب .. ومن رجع عنها حياءً من الله فهو منيب .. ومن رجع عنها تعظيماً لجلال الله سبحانه فهو أواب، كما وصف الله خليله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75]. فعلينا أن نطهر ظواهرنا وبواطننا من الذنوب والمعاصي، فإن ذنوبنا من أكبر عيوبنا، وهي أوساخ تدنس قلوبنا وجوارحنا. فنبدأ بتطهير قلوبنا من الشك والشرك والشبهات .. ثم التطهر من المحرمات كما قال سبحانه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: 120]. ثم التطهر من المكروهات، ثم من المشتبهات، ثم من فضول المباحات، ثم من كل شاغل يشغل عن رب الأرض والسموات. والعبد في الذنب ينظر إلى أربعة أمور: الأول: نظر إلى الأمر والنهي، فهو لم يخلق إلا لعبادة الله وطاعته. الثاني: نظر إلى الحكم والقضاء، فالله له الخلق والأمر وحده، يفعل ما

يشاء بحكمته. الثالث: نظر إلى محل الجناية، وهي النفس الأمارة بالسوء، فيعرف أنها جاهلة ظالمة، وعنها يصدر كل عمل قبيح، فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها من الظلم. الرابع: نظره إلى الآمر له بالمعصية، المزين له فعلها، وهو الشيطان الموكل به، فيفيده ذلك ملاحظته، واتخاذه عدواً، وكمال الاحتراز منه، وعدم طاعته. وعلى المسلم أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، ويهجر ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والمعاصي والسيئات. والهجرة ثلاثة أقسام: هجرة المكان .. وهجرة العمل .. وهجرة العامل. فهجرة المكان: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام رغبة فيما عند الله. وهجرة العمل: هو أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفواحش والفسوق، وسائر الذنوب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» متفق عليه (¬1). وهجرة العامل: معناها هجر الرجل المجاهر بالمعصية، الذي لا يبالي بها، كمن عُرف بالغش في البيع والشراء، فيُهجر لعله يتوب ويعود إلى الصواب. والتوبة أحب الأشياء إلى الله، ولذلك ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه، وهو آدم - صلى الله عليه وسلم - وذريته. فالتوبة هي غاية كمال الآدمي، فكمال الآدمي في هذه الدنيا بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة. والله عزَّ وجلَّ يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده، ولفرحه بها يقضي على عبده بالذنب، فإن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (10) واللفظ له، ومسلم برقم (40).

عليه شقاوته، أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه (¬1). والله جل جلاله له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر. فالخالق يقتضي مخلوقاً .. والرازق يقتضي مرزوقاً .. والغفار يقتضي مغفوراً له .. والتواب يقتضي مذنباً يتوب عليه .. والحليم يقتضي سفيهاً يحلم عليه .. وهكذا. وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح. وعلامة سعادة العبد أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، والله يتولى حفظه ونصرته والدفع عنه. وما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب منه. ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي، فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ¬

(¬1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.

ذَلِكَ عِنْدِي» متفق عليه (¬1). والتوبة من الذنوب واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب لا في القبر ولا في الآخرة. وأما في الدنيا فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى من حد سرقة أو زنا أو شرب مسكر بعد ثبوتها. وكذا ما وجب لحق آدمي من قصاص أو مال أو حد قذف، أو تعزير. كما لا تسقط بها الكفارات وسائر الواجبات التي أثم بسبب تركها من صلاة أو صيام أو زكاة أو غيرها فلا بدَّ من الإتيان بها؛ لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب في تأخيرها، فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر من صلاة وزكاة ونحوها. وكل إنسان على خطر عظيم، فهو مع كونه ظلوماً جهولاً، كفوراً قتوراً، ضعيفاً عجولاً، تصيبه آفات أخرى كالعجز والكسل، والغفلة والنسيان، والإسراف والتبذير، والحرص والشره. فعليه أن يستدرك ما فرط فيه بالعلم والعمل .. وما سلف منه من الإساءة بالإحسان .. وأن يتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم .. ويخلص إيمانه وأعماله من خبث الجناية، فالجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب القلب والبدن والعمل. فلا يمكن للعبد من دخول الجنة إلا بعد هذا التمحيص، ولهذا تقول الملائكة لأهل الجنة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. وتمحيص العبد من الذنوب في الدنيا بأربعة أشياء: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6398)، ومسلم برقم (2719) واللفظ له.

بالتوبة النصوح .. والاستغفار .. والحسنات الماحية .. والمصائب المكفرة. فإن محصته هذه الأربعة كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ومن الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه محص في البرزخ بثلاثة أشياء: أحدها: صلاة المؤمنين الجنازة عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم فيه. الثاني: تمحيصه بفتنة القبر، وروعة الفتًّان، والعصرة والانتهار. الثالث: ما يهدي إليه إخوانه المسلمون من هدايا الأعمال من الصدقة عنه، والدعاء له، والصيام عنه، والحج عنه، وجعل ثواب ذلك له. فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء: أهوال القيامة .. وشدة الموقف .. وشفاعة الشفعاء .. وعفو الله عزَّ وجلَّ. فإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه، فلا بدَّ له من دخول الكير رحمة في حقه، ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته، وشدته وضعفه وتراكمه. فإذا خرج خبثه، وصفا ذهبه، وصار طيباً خالصاً، أخرج من النار وأدخل الجنة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71، 72]. وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد .. ومقرون بالتوبة. فالمفرد كقوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].

والمقرون بالتوبة كقوله سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} [هود: 3]. فالاستغفار يتضمن التوبة .. والتوبة تتضمن الاستغفار .. وكل منهما يتضمن الآخر عند الإطلاق. وأما عند الاقتران: فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى .. والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه العبد في المستقبل من سيئات أعماله. فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، والله سبحانه لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5]. وكذلك لم يجعل الله شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. وإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج إلى أحب الأشياء إليه، وعن الغاية التي خلقت من أجلها الخليقة، وصار كأنه خلق عبثاً لغير شيء. فإذا رجع إلى ما خلق له وأوجد من أجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها، وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل. فاشتدت محبة الله له، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأوجبت هذه المحبة فرحاً عظيماً كأعظم ما يقدر من الفرح كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ

مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه (¬1). والتوحيد يكفر الذنوب، فلو لقي العبد المسلم ربه بقراب الأرض خطايا للقيه بقرابها مغفرة. فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد، إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا نقوا من ذنوبهم. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، فَبَشَّرَنِي أنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ» متفق عليه (¬2). وأما الكفار والمشركون فإن كفرهم وشركهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. وقال سبحانه في أعمال الكفار والمشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]. فالذنوب والمعاصي تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والاستغفار، والمصائب المكفرة لها وشفاعة الشافعين في الموحدين، ورحمة أرحم الراحمين. والتوبة لها مبدأ ومنتهى: فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلاً إلى رضوانه، وأمرهم بسلوكه بقوله سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]. ونهاية التوبة: الرجوع إلى الله في المعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً ¬

(¬1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (1237)، ومسلم برقم (94) واللفظ له.

إلى جنته. فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة، رجع إليه في المعاد بالثواب كما قال سبحانه: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71]. وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من الله عليه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه، فإنه سبحانه تاب عليه أولاً إذناً وتوفيقاً، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانياً فقبلها منه وأثابه عليها. فالله تواب، والعبد تواب، وتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق. وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق .. وقبول وإمداد. وتوبة العبد: هي رجوعه مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً. وسمى العبد تائباً لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته. {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. والتوبة إلى الله واجبة من كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها خمسة شروط: أحدها: أن تكون خالصة لله تعالى. الثاني: أن تكون التوبة في وقتها. الثالث: أن يقلع عن المعصية. الرابع: أن يندم على فعلها. الخامس: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الخمسة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها ستة، هذه الخمسة، والسادس أن يبرأ

من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها. والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من جميع الذنوب كما قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. فإن تاب من بعض الذنوب دون بعض صحت توبته من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي. والتوبة النصوح تتضمن ثلاثة أشياء: أحدها: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي. الثاني: إجماع العزم على التوبة بحيث لا يكون عنده تردد فيها. الثالث: إخلاص التوبة لله. فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثاني يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)} [التحريم: 8]. والأنبياء والرسل أعظم الخلق معرفة بالله، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؛ لما أعطاهم الله من فضله، وحباهم به من نعمه، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، لكمال معرفتهم به، وبما يجب له سبحانه، فهم أكثر الناس استغفاراً، وأحسنهم عملاً، وأكثرهم توبة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2702).

والتوبة التي تكرَّم الله بقبولها من عبده هي ما كان قبل معاينة الموت والعذاب المهلك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17]. وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من الكفار رجوع، ولا من العاصين توبة، كما قال سبحانه: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} النساء: 18]. فالتوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار قبل معاينة الهلاك. وهذه الأمة خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه. وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله، وجهادهم على ذلك، وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم. فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} ... [آل عمران: 110]. ومن قصر في تكميل نفسه .. أو قصر في تكميل غيره .. أو قصر فيهما معاً، فلا بدَّ له من التوبة: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. والنقص والتقصير من لوازم البشر، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فالتقصير والنقص حاصل في كل عمل قطعاً. تقصير في الاستقامة على الحق .. وتقصير في الدعوة إلى الحق.

فليس للعبد إلا الاستغفار المستمر على ما سلف من الذنوب والمعاصي، ولهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بكثرة الاستغفار في ختام دعوته كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، وأعرفهم به، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه رضي الله عنهم يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). فكيف بحالنا نحن المقصرين المفرطين؟ كم نحتاج إلى الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي كل يوم، بل كل لحظة؟. ألا ما أجهل البشر بربهم حين يقصرون في طاعته، ويقترفون معصيته، وينتهكون محارمه، ويخالفون أوامره: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. فما أجهل الإنسان بربه، وما أظلمه لنفسه حين يتأخر عن طاعة ربه، ويقدم على معصيته، مع تواتر إحسان ربه إليه على مدى الأنفاس. فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم .. وأزاح علله .. وبعث إليه رسله .. وأنزل عليه كتبه .. وساق إليه رزقه .. ومكنه من التزود إلى جنته .. وأعطاه السمع والبصر والفؤاد .. وعرَّفه الخير والشر .. وحبب إليه الطاعات .. وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وأعانه الله بجند من الملائكة يحرسونه، ويحاربون عدوه، ويريدون منه أن لا يميل إليه، ولا يصالحه، وهم يكفونه مؤنته، ويأبى إلا مظاهرته عليهم، وموالاته دونهم: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4726)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (556). وأخرجه الترمذي برقم (3434)، صحيح سنن الترمذي رقم (2731).

فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119]. والله عزَّ وجلَّ عادى هذا الشيطان ولعنه، وأبعده وطرده، وهذا الإنسان يواليه، ويميل إليه، ويطيع أوامره. فما أعجب حال الإنسان حين يطيع عدوه ويعصي ربه ومولاه. فأي حرمان فوق هذا؟ .. وأي ضلال بعد هذا؟. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} ... [يس: 60، 61]. وقد أمر الله الإنسان بشكره لا لحاجته إليه، ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. أمره الله بذكره ليذكِّره بإحسانه إليه، وجعل نسيانه سبباً لنسيان الله له كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. أمر الله الإنسان بسؤاله ليعطيه فلم يسأله، بل أعطاه أجلّ العطايا بلا سؤال، فلم يقبل هدى الله. فمتى يفيق هذا الإنسان ويؤوب إلى ربه؟. إنه يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه. إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بها على معاصيه، وإن سُلب ذلك سخط على ربه وشكاه إلى خلقه، وهو الظالم لنفسه. لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء، العافية تلقيه إلى مساخطه .. والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه. وهذه حال أكثر الخلق الذين لم يهتدوا بهدى النبوة، ولم يعرفوا ربهم ودينه وشرعه.

ألم يعلموا أن الله أرحم الراحمين، الغني عن العالمين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 44]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} ... [النساء: 40]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. فمتى يصحو مثل هذا الإنسان؟ .. ومتى يبصر الطريق السوي؟. لقد دعاه ربه إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه، ثم فتحه له فما عرج عليه، ولا ولجه، وأرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته، فعصى الرسول وسفهه، وسخر منه وقاتله، إن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضى مرسله، لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه، وأغلق الباب في وجهه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86]. فماذا ينتظر هذا من العقاب جزاء ظلمه وكفره ومعاصيه؟. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. ومع هذا كله فالله غفور رحيم، دعا عباده إلى التوبة والاستغفار من جميع الذنوب، ووعدهم على ذلك القبول والمغفرة كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. فلا يأس من رحمة الله، فالله يقبل توبة كل مذنب كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ

خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» أخرجه الترمذي (¬1). ولا يستحق العبد اسم التائب حتى يتخلص من أجناس المحرمات المذكورة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهي: الكفر والشرك .. والرياء والنفاق .. والفسوق والعصيان .. والإثم والعدوان .. والفحشاء والمنكر .. والظلم والبغي .. والقول على الله بلا علم .. واتباع غير سبيل المؤمنين .. ونحو ذلك. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: 151]. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. ومن رحمة الله بعباده أن أنزل عليهم هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وصرَّف فيه سبحانه من الوعد والوعيد ما يُرغِّب في كل طاعة، ويزجر عن كل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3540)، صحيح سنن الترمذي رقم (2805).

معصية، لعل العباد يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم، أو يُّحْدِث لهم الوعيد ذكراً، فيعملون من الطاعات والخير ما ينفعهم كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} [طه: 113]. وقد نوع الله الوعيد في كتابه أنواعاً كثيرة: تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام كالعزيز الجبار، والقوي والقهار. وتارة بذكر المَثُلات والعقوبات التي أحلها بالأمم السابقة، وأمرنا أن نعتبر بها. وتارة بذكر آثار الذنوب، وما تُكسبه من العيوب. وتارة بذكر أهوال القيامة، وما فيها من المزعجات والحسرة والندامة. وتارة بذكر جهنم، وما فيها من أنواع العقاب، وأصناف العذاب. كل هذا رحمة بالعباد لعلهم يتقون الله، فيمتثلون أوامره، ويحتنبون معاصيه، ويذكرونه ولا ينسونه، ويشكرونه ولا يكفرونه. والتوبة ثلاثة أنواع: أحدها: التوبة الصحيحة، وهي أن يقترف العبد ذنباً ويتوب عنه بصدق في الحال. الثاني: التوبة الأصح، وهي التوبة النصوح، وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال، ولا ترد في خاطره أصلاً. وهي من أعمال القلب، وهي تعني تنزيه القلب عن الذنوب. الثالث: التوبة الفاسدة، وهي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر. وتوبة الإنابة أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك. وتوبة الاستجابة أن تستحي من الله لقربه منك. ومن تاب من الناس توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضر أعيان الذنوب. وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المعاصي المتعلقة بالفاحشة

أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد. وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضرراً عليه مما فعله من بعض الفواحش. فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقاً، أعظم نفعاً من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتعليم شرعه، والدعوة إليه. فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية، والناس في الغالب لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك. فالتوبة واجبة على كل مسلم في كل حال؛ لأنه دائماً يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور، أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب إلى الله دائماً. والله يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وقد أخبر سبحانه أنه يريد أن يتوب على كل من تاب كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27، 28]. والله رؤوف بالعباد، واسع الرحمة لهم، يقبل التوبة من عباده التائبين من أي ذنب، بل يفرح تعالى بتوبة عبده إذا تاب أعظم فرح يقدر، فمن تاب إليه تاب عليه ولو تكررت منه المعصية مراراً؛ لأنه سبحانه التواب الرحيم. فليعلم العصاة ذلك ليقبلوا عليه وينيبوا إليه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104]. والله تبارك وتعالى يقبل التوبة الصادرة من عباده، وقد دعا سبحانه عباده إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير فانقسموا إلى قسمين: المستجيبون الذين استجابوا لربهم لِمَا دعاهم إليه لمِمَا معهم من الإيمان والعمل الصالح، فإذا استجابوا له شكر الله لهم. وأما غير المستجيبين لله وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فهؤلاء لهم

عذاب شديد في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)} [الشورى: 25، 26]. والتوبة هي حقيقة دين الإسلام، وغاية كل مؤمن، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق، والأمر والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها. ولهذا أمر الله بها رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. ودعا جميع الأنبياء أممهم إليها كما قال هود - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} [هود: 52]. ودعا صالح - صلى الله عليه وسلم - قومه إليها كما قال سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} [هود: 61]. ودعا شعيب - صلى الله عليه وسلم - قومه إليها كما قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والله إِنِّي لأسْتَغْفِرُ الله وَأتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» أخرجه البخاري (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (¬2). وتوبة الإنسان من عمله على قسمين: 1 - توبة العبد من حسناته، وهي على ثلاثة أضرب: ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6307). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2702).

أحدها: أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها. الثاني: أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع. الثالث: أن يتوب من إعجابه بعمله، ورؤيته أنه فعله بقوته. 2 - توبة العبد من فعل السيئات وهي على ضربين: توبة من ترك مأمور .. أو فعل محظور. والتوبة لا بد منها لجميع الخلق، فهي مقام لا بد أن يستصحبه العبد من أول ما يعقل إلى آخر عمره. والتوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان .. والندم بالقلب .. والترك بالجوارح .. وإضمار ألا يعود. وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصلاة والصوم والحج والجهاد، ويختم المجلس بالاستغفار. وأمره ربه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. ولما أكمل مراتب العبودية ظاهراً وباطناً أمره ربه بالتسبيح والاستغفار كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى، وغفر الله له بتوبته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 33، 34]. وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْ فِيَّ كتاب الله، قَالَ: «ألَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟». قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أوْ

قَالَ: حَدَّكَ» متفق عليه (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنِ امْرَأةٍ قُبْلَةً، فَأتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ فَأنْزَلَ اللهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}» [هود: 114]. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألِي هَذَا؟ قال: «لِجَمِيعِ أمَّتِي كُلِّهِمْ» متفق عليه (¬2). فالتوبة إلى الله من الذنوب والتقصير من أفضل مقامات أهل الإيمان، ولا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات، فكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون. وتوبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة .. وقبول لها بعد وجودها من العبد. والتوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه كرماً منه وجوداً لمن عمل المعاصي بجهالة منه بعاقبتها .. وإيجابها لسخط الله وعقابه .. وجهل منه بنظر الله ومراقبته له .. وجهل منه بما تؤول إليه من نقص أو زواله. فهذا إذا تاب من قريب قبل معاينة الموت أو العذاب فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت أو العذاب قطعاً كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17]. وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من العاصين توبة، ولا من الكفار رجوع، وذلك لأن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها كما قال سبحانه: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 18]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6823)، واللفظ له، ومسلم برقم (2764). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (526)، واللفظ له، ومسلم برقم (2763).

ووقت التوبة مفتوح للعباد حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» أخرجه مسلم (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم (¬2). {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} [آل عمران: 193]. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} [نوح: 28]. «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (¬3). وقد شرع الله التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة: فشرعها في خاتمة الحج .. وفي آخر قيام الليل في السحر .. وبعد السلام من الصلوات الخمس .. وبعد كمال الوضوء. فالتوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله بالاستغفار بعد قيامه بما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. فكأن التبليغ لدين الله عبادة قد أكملها وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2759). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2703). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له.

وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. فمن أذنب سراً فليتب سراً، وليس عليه أن يظهر ذنبه، ويكشف ما ستره الله عليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ» متفق عليه (¬1). ومن أذنب جهراً فليتب جهراً، فمن أظهر بدعة أو فجوراً فلا بد من توبته علناً، ليفرح به المؤمن الصادق، ويقتدي به من كان على مثل بدعته أو فجوره. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) واللفظ له، ومسلم برقم (2990).

الباب الرابع عشر فقه أعداء الإنسان

الباب الرابع عشر فقه أعداء الإنسان ويشتمل على ما يلي: 1 - العدو الأول: النفس 1 - فقه النفوس 2 - آفات النفوس 1 - آفة الغفلة 2 - آفة الهوى 3 - آفة الكبر 4 - آفة العُجْب 5 - آفة الغرور 6 - آفة الكذب 7 - آفة اللسان 8 - آفة الرياء 9 - آفة الحسد 10 - آفة الغضب 2 - العدو الثاني: الشيطان 1 - فقه عداوة الشيطان 2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان 3 - فقه خطوات الشيطان 4 - فقه كيد الشيطان للإنسان 5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان 3 - العدو الثالث: الدنيا 1 - فقه حقيقة الدنيا 2 - فقه الفتن 3 - فتنة الأموال والشهوات 4 - فتنة الأهل والأولاد 4 - العدو الرابع: المنافقون 1 - علامات المنافقين 2 - فقه عداوة المنافقين 5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون فقه عداوة الكفار والمشركين 6 - العدو السادس: أهل الكتاب فقه عداوة أهل الكتاب فقه جهاد الأعداء

فقه أعداء الإنسان قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]. وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [التغابن: 14]. خلق الله تبارك وتعالى خلقه من حيث العمل أربعة أقسام: الأول: من يعملون بالطاعات دون المعاصي .. وهم الملائكة. الثاني: من يعملون بالمعاصي دون الطاعات .. وهم الشياطين. الثالث: من لهم طاعات ومعاصي .. وهم الإنس والجن. الرابع: من ليس لهم طاعات ولا معاصي .. وهم الحيوانات. فالملائكة عقول بلا شهوات .. والحيوانات شهوات بلا عقول .. والإنس والجن لهم شهوات وعقول .. والشياطين شرور وفتن. ولما اصطفى الله الإنسان من بين سائر المخلوقات، وكرمه على غيره، وتحمل الأمانة، واستعد لفعل الأوامر، واجتناب النواهي، ابتلاه الله عزَّ وجلَّ بما يبين صدقه من كذبه، ويثبت إيمانه من كفره فأهبطه إلى الأرض، وأنزل عليه الوحي، وأرسل إليه الرسل، فأمره بالطاعات، ونهاه عن المعاصي، وسلط عليه الأعداء، وابتلاه بالسراء والضراء، وأمره بجهاد أعدائه، والصبر على أذاهم. وأعداء الإنسان كثيرون، وقد كشفهم الله له، ليتقي شرهم، وليأخذ حذره منهم، ولا يغتر بخداعهم، وَلَبْسِهم الحق بالباطل، وأعظم هؤلاء الأعداء، وأشدهم خطراً ستة، وهم:

النفس .. والشيطان .. والدنيا .. والمنافقون .. والكفار .. وأهل الكتاب. ولكل عدو من هؤلاء علامات .. ولهم أعمال .. ولهم ضحايا من البشر، وهم يعملون ليل نهار .. ويستخدمون كل وسيلة لصد الناس عن عبادة ربهم .. وإشغالهم بما يبعدهم عنه .. ويوجب سخطه وغضبه .. ويحرمهم من الوصول إلى جنته. فلا بدَّ للإنسان أن يعبد ربه، ويعمل بشرعه، ولا يغفل عن جهاد أعدائه الذين يصدونه عن طاعة ربه ومولاه، ويحرمونه من الوصول إلى جنته والفوز برضاه. وقبل جهاد الأعداء لا بد من معرفتهم، ومعرفة أسلحتهم أولاً، ثم الشروع في جهادهم وإبطال كيدهم، وكسر شوكتهم، ودفع شرورهم. وأعظم هؤلاء الأعداء، وأشدهم ملازمة للإنسان نفسه التي بين جنبيه.

1 - العدو الأول: النفس

1 - العدو الأول: النفس 1 - فقه النفوس قال الله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8]. وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. النفس البشرية فيها خير أصيل، والشر والسوء دخيل، فإذا صادفت هذه النفس من يذكِّرها، فإن فيها استعداداً للاستقامة على طريق الهدى، وإن لم تجد من يذكرها مالت إلى طريق الفجور. وكل إنسان له نفس واحدة، ولكن لهذه النفس صفات وأحوال تختلف من شخص لآخر، ومن وقت لآخر. وصفات النفس ثلاث: إحداها: النفس الأمارة بالسوء التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي كما قال سبحانه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} ... [يوسف: 53]. الثانية: النفس اللوامة، وهي التي تذنب وتتوب، تفعل الخير والشر، لكنها إذا فعلت الشر تابت وأنابت، سميت لوامة لأنها تلوم صاحبها على فعل الذنوب كما قال سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1، 2]. الثالثة: النفس المطمئنة، وهي التي تحب الخير والحسنات، وتريدها وتفعلها وتبغض الشر والسيئات وتكرهها، قد اطمأنت إلى مولاها، وإلى قضائه وقدره، وإلى دينه وشرعه، وإلى جزائه وثوابه، وصار لها ذلك خلقاً وعادة وملكة،

فصارت بذلك راضية مرضية، كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. وينبغي للعبد أن لا يطمئن إلى نفسه فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بلوم الناس، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه، وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، ويحول بينه وبين معصيته، وبذلك يحصل له الخير، ويندفع عنه الشر. والذنوب من لوازم النفس، وأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة لله سبحانه، أو إلهاً من دونه، وكل هذين وقع: فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يُعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا .. وهذا. والله عزَّ وجلَّ إن لم يعن العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان. وإذا هداه الله أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر في الدنيا ولا في الآخرة، والعبد محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب. وأحوال النفوس متفاوتة متعددة، والنفوس مشحونة بحب العلو والرياسة، وكل نفس تريد أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، فتجد الإنسان يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده. فمن وافق هواه كان ولياً وإن كان كافراً، وإن لم يوافقه كان عدواً وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون. وهؤلاء خاصة الأشراف وذوي المكانة والرياسة يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه كفرعون، وهم وإن أقروا بالله، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه كما عادى فرعون رسول الله موسى - صلى الله عليه وسلم -.

وإن كان مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه وما يهوى، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون، وسائر المكذبين للرسل. وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض غيره حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود مع محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولهذا أخبر الله عنهم بمثل ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم منهم. والأنبياء والرسل دينهم واحد وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة، وهؤلاء الرسل يؤمن بعضهم ببعض، ويصدِّق بعضهم بعضاً. ومن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء تبعاً للأنبياء والرسل أَمَر بما أَمَروا به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك الشخص، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون. ومن طلب أن يطاع مع الله، فهذا يريد من الناس أن يتخذوه من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له، وتعظيمه إياه، أو نفع آخر. فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل، ليكون الدين كله لله لا له، فإذا أمر غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه وسر به. وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد منَّ عليه بأن جعله مؤمناً محسناً. والناس ثلاثة أقسام: عبد محض .. وحر محض .. ومكاتب قد أدى بعض كتابته. فالعبد المحض: هو عبد المال والطين، الذي قد استعبدته نفسه وشهوته، وملكته وقهرته، فانقاد لها انقياد العبد لسيده الحاكم عليه. والحر المحض: هو الذي قهر شهوته، وملك نفسه، فانقادت معه، وذلت له،

ودخلت تحت رقه وحكمه، فهي مملوكة عنده، يأمرها بما شاء مما يرضي ربه، ويمنعها مما يسخط ربه. والمكاتب: من قد عقد له سبب الحرية، وهو يسعى في كمالها، فهو عبد من وجه، حر من وجه آخر، فهو عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المسلم عبد لنفسه ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه. فالحر مَنْ تَخلَّص من رق المال والطين، وفاز بعبودية رب العالمين، فاجتمعت له العبودية والحرية. ويتم إصلاح النفوس بأمرين: تكوين القلب .. وتكوين الجسم. وتكوين القلب: هو بذل الجهد لترسيخ الإيمان واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فيه. أما تكوين الجسم: فهو استغلاله في السبل التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن والأحكام والآداب، ويتم ذلك بالتعلم ... والتذكير .. وتزكية النفس بالأخلاق الحميدة، وإخلاص العمل لله .. وإبلاغ الناس دين الله ليكون الدين كله لله. والنفوس وما تحب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأولى: نفس سماوية علوية، ومحبتها منصرفة إلى معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وفعل الفضائل والطاعات، واجتناب الرذائل والمعاصي، وهذه النفس مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوتُها وغذاؤها وشفاؤها ودواؤها. الثانية: نفس سبعية غضبية، ومحبتها منصرفة إلى القهر والبغي، والعلو في الأرض، والكبر والرئاسة على الناس بالباطل، فلذاتها في ذلك وشغفها به. الثالثة: نفس حيوانية شهوانية، فهذه النفس محبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب، والمنكح والملبس، ونحو ذلك من الشهوات والملاذ. وربما جمعت بين الأمرين العلو والفساد كما قال سبحانه عن فرعون: {إِنَّ

فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} ... [القصص: 4]. والحب في هذا العالم دائر بين هذه النفوس الثلاث. وكل واحدة من هذه النفوس ترى أن ما هي فيه أولى بالإيثار، وأن ما سواه غبن وفوات حظ. فالنفس السماوية العلوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم، فالملائكة أولياء هذا النوع في الدنيا والآخرة. فالمَلَك يتولى من يناسبه بالنصح والإرشاد، والتثبيت والتعليم، وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوه عنه، والاستغفار له إذا زل، وتذكيره إذا نسي، وتسليته إذا حزن، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وتحذيره من الدنيا إذا ركن إليها .. وهكذا. والشياطين أولياء النوع الثاني، يخرجونهم من النور إلى الظلمات كما قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. فهؤلاء بينهم وبين الشياطين مناسبة طبيعية، بها مالت إلى أوصافهم وأخلاقهم وأعمالهم. فالشياطين تتولاهم فتؤزهم إلى المعاصي أزاً، وتزين لهم القبائح والمعاصي، وتسهلها عليهم، وتثقل عليهم الطاعات، وتثبطهم عنها، وتلقي على ألسنتهم ألوان القبيح من الكلام، ويبيتون معهم حيث باتوا. ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، ويأكلون ويشربون معهم، ويجلسون معهم، وينامون معهم. فهؤلاء حياتهم مطابقة لحياة الشياطين: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ

شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37]. وأما النوع الثالث فهم أشباه الحيوان، ونفوسهم أرضية سفلية، لا تبالي بغير شهواتها، ولا تريد سواها، فهي مشغوفة بها، مشغولة بها عن مراد ربها، ملازمة لها إلى حين أجلها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. وعلامات المحبة قائمة بكل نوع بحسب محبوبه ومراده. وكمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. فكل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق، والصبر عليه. وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب، فإن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق، والعملية في العمل به، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه ويشتهيه من الباطل. والإنسان من حيث هو إنسان خاسر إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به. فالإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، كفور كنود، عجول قتور، عارٍ عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك ويعطيه إياه، فكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه، ولا فلاح له إلا بتزكية الله له بالإيمان والعمل الصالح. فالكمال التام أن يكون الشخص كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية.

فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، وهذا نهاية الكمال، وهو ما توج الله به هذه الأمة، ودرجة أهله أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه: 75 - 76]. والإنسان قد يقوم بما يجب عليه في نفسه، ولا يأمر غيره به، فهذا قد ربح الإيمان والعمل الصالح في حق نفسه، وخسر ربح التواصي بالحق والتواصي بالصبر في حق غيره، فصار في خسر. ولكنه لا يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء آخر، ومن ربح في سلعة وخسر في أخرى فهو ذو ربح، وذو خسر، فهذا نوع خسر بالنسبة لمن حصل ربح ذلك، فهو ناج كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 4 - 6]. وقد استثنى الله عزَّ وجلَّ من الإنسان الذي هو في خسر كل من كمل مراتب الكمال الإنساني بإصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والإحسان إلى نفسه، والإحسان إلى غيره: بالإيمان .. والعمل الصالح .. والتواصي بالحق .. والتواصي بالصبر. فهؤلاء الكُمَّل في درجة السابقين .. ومن دونهم في درجة أصحاب اليمين. ولكل درجات مما عملوا .. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 4]. والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة. فهي لجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، يوضع لها الداء موضع الدواء فتقبله، ويوضع لها الدواء موضع الداء

فترده، فيتولد لها من إيثارها للداء، واجتنابها للدواء، أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء. وقد سميت النفس نفساً إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج، فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً. وفي النفس ثلاثة دواع متجاذبة: أحدها: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد والعلو والبغي والغش والكذب. الثاني: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الحيوان من الحرص والبخل والشهوة. الثالث: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الملائكة من الطاعة والعبادة، والإحسان والنصح، والعلم والبر، والتسبيح والاستغفار. والنفس فيها استعداد للخير والشر، وهي بحسب المذكر، ولمن سبق وغلب منقادة مطاوعة: فترى من الناس من هو شيطان يركض بكل شر وفساد. ومنهم كالحيوان ليس له هم إلا قضاء شهواته. ومنهم كالملائكة عبادة لله، وطاعة له، وتسبيح واستغفار، في ليله ونهاره. والنفس الإنسانية لها قوتان: إحداهما: القوة النظرية، وكمالها في معرفة الأشياء، وأعلى المعارف معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله. الثانية: القوة العملية، وكمالها في معرفة الخيرات والطاعات، وأعلاها عبادة الله بالأعمال الصالحة على طريقة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله. وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إشارة إلى كمال القوة العملية بعبادة الله وإنما تكمل

الثانية بكمال الأولى. والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يُخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصة قابلة للكمال. وإنما تكمل النفس بالتزكية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم. وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة. فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع .. وهكذا. وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، والصبر عن المشتهيات لصلاح البدن، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداواة مرضى القلب حتى يزكو. والقلوب جوالة، منها ما يطوف مع البهائم حول الحش، ومنها ما يطوف مع الملائكة حول العرش: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} ... [فاطر: 19 - 22]. والله عزَّ وجلَّ جعل في النفس حباً لما ينفعها، وبغضاً لما يضرها. فلا تفعل النفس مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً. والبلاء مركب من شيئين: من تزيين الشيطان .. ومن جهل النفس. فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويريها إياها في صور المنافع واللذات والطيبات، ويُغفلها عن مطالعتها لمضرتها. فيتولد من هذا التزيين، وهذا الإغفال، وهذا الإنساء، إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى حتى يصير عزماً جازماً يقترن به الفعل، كما زين للأبوين الأكل من الشجرة كما قال سبحانه في تزيين الشيطان للشر: {فَلَوْلَا إِذْ

2 - آفات النفوس

جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 43]. وقال سبحانه في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8]. وقال سبحانه في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]. وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والرسل والمؤمنين، وتزيين الشر والضلال بواسطة شياطين الإنس والجن. وتزيين الشر والضلال إنما يغتر به الجاهل؛ لأنه يُلَبَّسُ له الباطل والضار والمؤذي بصورة الحق النافع. وكما أن للأبدان آفات، فكذلك للنفوس آفات، وترك مداواة ذلك مؤذن بالهلاك. 2 - آفات النفوس قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)} ... [التغابن: 10]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. النفوس تصيبها الآفات والأمراض كما تصيب الأبدان، بل آفات الأبدان سببها آفات النفوس، وكل علة في الخارج سببها علة في الداخل، وكل حُسْن في الجوارح سببه حُسْن في القلوب، وكل فساد في الجوارح سببه فساد في القلوب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (¬1). وآفات النفوس كثيرة جداً، وكل داء له دواء، وعلاج آفات النفوس وأمراضها وأسقامها إلى الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله بالعلم الإلهي والوحي الرباني الذي فيه شفاء من كل داء من أدواء النفوس. ومن أهم الآفات التي تصيب النفوس: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، واللفظ له، ومسلم برقم (1599).

آفة الكفر .. وآفة الشرك .. وآفة الجهل .. آفة الكبر .. وآفة الابتداع .. وآفة البغي .. وآفة الجفاء .. وآفة البخل .. وآفة الشح .. وآفة الطمع .. وآفة الجبن .. وآفة الجزع .. وآفة الجحود .. وآفة الإسراف .. وآفة النفاق .. وآفة الخداع .. وآفة الخيانة .. وآفة الطغيان .. وآفة العجلة .. وآفة الغش .. وآفة الغدر .. وآفة الغل .. وآفة القسوة .. وآفة القنوط .. وآفة الفسوق .. وآفة المكر .. وآفة الكيد .. وآفة المن .. وآفة الغيبة .. وآفة النميمة .. وآفة الظلم .. وآفة الكذب. وغير ذلك من الصفات والآفات التي تصيب النفوس.

والله سبحانه فطر الناس على التوحيد والإيمان بالله، وكلما انحرف الناس عن الفطرة أرسل الله إليهم رسولاً يردهم إلى التوحيد والإيمان بالله والعمل بشرعه، وعلاج ما أصابهم من الآفات بسبب الكفر والشرك والإعراض عن دين الله كما قال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213]. فأعظم الأمراض التي تصيب البشرية هو مرض الكفر والشرك بالله، وشفاؤهم منه بالإيمان والتوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل كتبه. ومن مات على الكفر فلا حظَّ له في الآخرة كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. والشرك جَعْلُ شريك لله تعالى، وهو من أعظم الأدواء، وصاحبه مخلد في النار إذا مات ولم يتب منه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. والجهل آفة تزول بالعلم الإلهي الذي جاءت به الرسل، وبه يعرف الإنسان ربه، والطريق الموصل إليه، وما للإنسان بعد القدوم عليه. والبدع آفة تزول بمعرفة السنن والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة .. وهكذا باقي الآفات. وهذه الآفات تصيب الناس بسبب كفرهم وشركهم، وعدوانهم، وضعف إيمانهم؛ عقوبة لهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ

تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 66 - 70]. والآفات درجات، والناس فيها متفاوتون فسالم ومستقل ومستكثر، ومبتلى ومعافى. وهذه إشارة إلى أهم آفات النفوس .. وبيان أسبابها وآثارها .. وكيفية التخلص منها:

1 - آفة الغفلة

1 - آفة الغفلة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} ... [الأعراف: 179]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} [يونس: 7]. الغفلة أشد ما يفسد القلوب، فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته، معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة، تمر به دلائل الإيمان والهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها. ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة، وتذكير الغافلين بما ينفعهم ليفعلوه، ونهيهم عما يضرهم ليجتنبوه. والإنذار قد ينفع ويوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة كما قال سبحانه: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} [يس: 6]. والإنذار لا ينفع قلباً غير مهيأ للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود والأغلال والأغشية، فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلوب الحية المستعدة للتلقي: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} [يس: 11]. فهذا الصنف من الناس هو الذي يستحق التبشير بعد انتفاعه بالإنذار، فبشره بمغفرة وأجر كريم، المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر، والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر، وهما متلازمان في القلب، فما تحل خشية الله في قلب، إلا ويتبعها العمل بما أنزل الله، والاستقامة على النهج الذي أراد. فعلينا أن نعيش في بيئة الذاكرين لربهم، المستقيمين على منهجه، ونصبر على

ذلك؛ لننال الأجر والثواب من الله، ونحذر من أهل الأهواء والغفلة كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. فهؤلاء إنما يتبعون أهواءهم، ويحكمون بها بين العباد، فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله وتقواه. فلا تطع أيها المسلم من أغفلنا قلبه عن ذكرنا حين أعرض عن ربه ودينه واتجه إلى ذاته، إلى ماله، إلى أبنائه، إلى متاعه، إلى لذائذه وشهواته، فلم يعد قلبه متسعاً للإيمان بالله، وذكر الله، والعمل بطاعة الله. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الغافلين، الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم. والإنسان كلما غفل قلبه عن ذكر الله، وجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه ويصبح له قرين سوء يوسوس له ويزين له السوء: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} ... [الزخرف: 36]. ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون، وهذا أسوأ ما يصنعه قرين السوء بقرينه: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 37]. إن حياة المسلم ثمينة كبيرة؛ لأنها منوطة بوظيفة ضخمة، ذات ارتباط بهذا الوجود، وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير، وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو، وخوض ولعب، في غفلة عن ربه، وعن وظيفته. وكثير من اهتمامات الناس في هذه الأرض تبدو عبثاً ولهواً ولعباً حين تقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة، ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفته

الكبرى التي كلفه بها من خلقه واستخلفه. ألا ما أخطر الغفلة على البشرية! إن الذي يعيش بلا إيمان بالله، إنما يعيش في بحر الأماني والخوف والاضطراب في كل حين. وما أشد غرور الكفار حين يعرضون عن ربهم، إنهم يرون أنهم في أمن وفي حماية وفي طمأنينة، وهم يتعرضون لغضب الرحمن، وبأس الرحمن، بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)} ... [الملك: 20]. من الذي ينصرهم من الله غير الله؟ .. ومن الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن؟. وهذا الرزق الذي يستمتعون به، ويغفلون عن واهبه، وينسون مصدره وخالقه، ثم لا يخشون ذهابه، ثم يلجون في التبجح والإعراض: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)} ... [الملك: 21]. إن رزق البشر وسائر الخلائق كله معقود بإرادة الله في أول أسبابه: في خلق هذا الكون .. وفي عناصر الجو والأرض .. وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقاً، فهي أسبق منهم في الوجود، وهي أكبر منهم في الطاقة، وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله. فمن يرزق البشر إن أمسك الله الماء؟ .. أو أمسك الهواء؟ .. أو أمسك العناصر الأولية التي ينشأ منها وجود الأشياء بإذن الله؟. وآه للعقول التي لا تفقه، والعيون التي لا تبصر .. والآذان التي لا تسمع. إنه إذا كان خالق الخلق هو الله، وخالق أرزاقهم هو الله، والحافظ لهم هو الله، وهم عيال على الله في كل ذلك، فما أقبح العتو والإعراض والنفور من العيال في مواجهة المطعم الكاسي، الرازق العائل، وهم خِلْو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم ربهم، وهم بعد ذلك عاتون معرضون نافرون وقحاء: {فَإِنَّهَا لَا

تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. فما أبعد هذه النفوس عن ربها، وهي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات، وفي إعراض نافر، وتنسى أنها من صنع الله، وأنها تعيش على فضله، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئاً على الإطلاق. وبعد هذه الغفلة والشرود والاستكبار: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. وإذا استكبر هؤلاء عن الحق، واعتقدوا فوق ذلك أنهم أهدى سبيلاً، وأن ما سواهم ضال، فهي الطامة الكبرى، تلك التي ترى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والرشد ضلالاً، والضلال رشداً: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} ... [الملك: 22]. إن الذي يمشي مكباً على وجهه حاله بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا فلاح، إنها حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله المحروم من هداه، الذي يصطدم مع المخلوقات؛ لأنه شذ عنها في طاعة الله، فهي مطيعة لربها وهو مخالف لها، يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها. فهو أبداً في تعثر .. وأبداً في عناء .. وأبداً في ضلال .. فأنى يهتدي؟. وفي المقابل حال السعيد المهتدي إلى الله، المتمتع بهداه، الذي يسير في موكب الإيمان والتوحيد، والحمد والتمجيد، وهو موكب الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. والله سبحانه هو الذي خلق البشر، ووهبهم وسائل الهدى، وأدوات الإدراك، ولكن أكثرهم غافلون، ومن ثم لم ينتفعوا بها، ولم يكونوا من الشاكرين: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23]. فالله بلا ريب هو الذي خلق هذا الكون، بل خلق كل شيء، وخلق الإنسان، هذه

حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده. فالإنسان قد وُجِد، وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق، وهو لم يُوجِد نفسه، فلا بدَّ أن يكون هناك ما هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده. فلا مفر من الاعتراف بخالق عظيم كبير غني قوي، خلق هذا الكون الهائل العظيم بما فيه الإنسان، والمماراة في ذلك نوع من المماحكة لا تستحق الاحترام: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 81، 82]. فبماذا قابل الإنسان هذه النعم .. نعمة الإنشاء .. ونعمة السمع والبصر والفؤاد، ونعمة الهداية .. ونعمة الحياة .. ونعمة التكريم .. ونعمة الأرزاق؟. إن الإنسان مع هذه الهبات الضخمة التي أعطاه إياها ربه لينهض بتلك الأمانة الكبرى، لم يشكر ولم يقم بما أوجب الله عليه، وهو أمر يثير الخجل والحياء من الله عند التذكير به. فكم من إنسان؟ .. وكم من جاحد؟ .. وكم من كافر؟ .. لا يشكر نعمة الله عليه، ولا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه، قليلاً مما تشكرون. إن الله سبحانه وتعالى لم ينشئ البشر، ولم يمنحهم هذه الخصائص عبثاً ولا جزافاً لغير قصد ولا غاية، إنما هي فرصة الحياة للابتلاء والعمل، ثم الجزاء في يوم الجزاء: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الملك: 24]. إن الدين وأعمال الدين دائماً تتبعها الغفلة لماذا؟. لأن المنهج الإلهي العدل يقف دائماً أمام شهوات النفس الجامحة، والتي تريد أن تمتلك كل شيء، وتستمتع بكل شيء، من حلال أو حرام، من نافع أو ضار، من طيب أو خبيث: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} ... [يونس: 92]. أما الدنيا وأعمال الدنيا فالإنسان لا يغفل عنها ولا ينساها أبداً، فإذا تعلم صنع الخبز، وعمل الطعام ونحوهما، فإنه لا ينساهما أبداً، وهما عمليتان منقولتان لنا

عن الآباء والأمهات جيلاً بعد جيل فلم ننسهما، ونسينا أوامر الله عزَّ وجلَّ في إصلاح أنفسنا، وإصلاح غيرنا. والإنسان إنما يقع في المعاصي بسبب الغفلة عن الله .. والغفلة عن أوامر الله .. والغفلة عن عقوبة المعصية في الدنيا والآخرة، وعلاج الغفلة بذكر الله كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 205، 206]. والغفلة عدم إدراك الشيء مع وجود ما يقتضيه. وعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه، وخوفه منه، وحياؤه منه، ومحبته له، وأنسه به، وعلى قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله ووحشته منه، وبين الغافل وبين الله عزَّ وجلَّ وحشة لا تزول إلا بالذكر. والذين غفلوا عن الله وعن لقائه، ورضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة وغفلوا عن آيات الله الكونية، وآياته القرآنية، هؤلاء مأواهم جهنم، لكفرهم وغفلتهم عن آيات ربهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8].

2 - آفة الهوى

2 - آفة الهوى قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 43، 44]. قسَّم الله تبارك وتعالى أمر الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وإما اتباع الهوى. فكل ما لم يأت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو من الهوى، ومن اتبع أحدهما لم يمكنه اتباع الآخر، فهما ضدان لا يجتمعان. والشيطان يطيف بالعبد من أين يدخل عليه، فلا يجد عليه مدخلاً ولا إليه طريقاً إلا من هواه، والذي يخالف هواه يَفْرَقُ الشيطان من ظله. وإنما تطاق مخالفة الهوى بالرغبة في الله، والرغبة في ثوابه، والخوف من عقابه، والخشية من حجابه، ووجود حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى. والهوى شارع النار الأكبر، ولذلك حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من اتباع الهوى كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. وما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاً، ولا يغتر أحد بصولة أهل الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين رذيلتي الكبر والذل. وكل عاقل يأنف أن يكون تحت قهر عدوه، فالشيطان إذا رأى من الإنسان ضعف عزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه، طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد على موارد الهلكة. والهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة

والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء، ومخالفة السنة. وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم، وصده عن الحق. وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى الجور. وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة. وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه. فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده، وهو يسري في القلب والأعضاء سريان السم في القلب والأعضاء. فإبليس حمله هواه على التكبر عن طاعة الله عزَّ وجلَّ لما أمره بالسجود لآدم، فطرده الله ولعنه، فهو أشقى الخلق في الدنيا والآخرة. وآدم حمله الحرص وهوى نفسه على الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها طمعاً في الخلود، فكان عاقبة ذلك الهوى والشهوة إخراجه منها إلى دار التعب والنصب. وفتنة الكفار حين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه، وحرموا زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وتعبدوا له بالفواحش، وزعموا أن الله أمرهم بها، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. والحامل لهم على ذلك كله الهوى والحب الفاسد، وعليه حاربوا رسله، وكذبوا كتبه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله حتى خسروا الدنيا والآخرة. وقوم نوح اتبعوا أهواءهم وكذبوا رسله، واستكبروا عن الحق، فأغرقهم الله في الدنيا، ولهم النار يوم القيامة. وقوم عاد لما دعاهم هود إلى عبادة الله وحده سفهوه وكذبوه، فعاقبهم الله بالعذاب الفظيع المستمر، بريح صرصر عاتية، تدمر كل شيء بإذن ربها، فخسروا الدنيا والآخرة.

وقوم ثمود لما كذبوا رسولهم صالحاً، واستكبروا عن الحق الذي جاء به، عاقبهم الله بالهلاك في الدنيا والآخرة: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78]. ولوط دعا قومه إلى الله، وحذرهم من فعل الفاحشة، وهي إتيان الذكران من العالمين، فكذبوه وسخروا منه، فعاقبهم الله بأن أمر جبريل فرفع بلادهم وقلبها عليهم، ثم أُتبعوا بحجارة من سجيل كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83]. وقوم شعيب حملهم على بخس المكيال والميزان فرط محبتهم للمال، وغلبهم الهوى على طاعة نبيهم شعيباً حتى أصابهم العذاب. وفرعون وقومه حملهم الهوى والشهوة وعشق الرئاسة على تكذيب موسى، فعاقبهم الله بالغرق في الدنيا، والإحراق بالنار في الآخرة. وأهل السبت مسخوا قردة لما خالفوا أمر الله، واتبعوا أهواءهم. والذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، واتبع هواه، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وقد ذكر الله في سورة الأعراف حال أهل الأهواء والشهوات وما آل إليه أمرهم مفصلاً، فالكفر والهوى أصل كل بلية: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} ... [الأعراف: 177، 178]. وكل من بلغته الحجة ثم اتبع هواه فإن الله يرفع عنه ولايته ونصرته كما قال سبحانه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120]. وقد شبه الله عزَّ وجلَّ أتباع الهوى بأخس الحيوانات. فشبههم بالكلب تارة كما قال سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا

وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176]. وشبههم بالحمر تارة كما قال سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 - 51]. ومن اتبع هواه طبع الله على قلبه كما قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} [محمد: 16]. وملاك الأمر كله الرغبة في الله .. وإرادة وجهه، والتقرب إليه .. والشوق إلى الوصول إليه .. وتحقيق مراده .. والفوز برضاه .. واتباع هداه. فإن لم يكن للعبد همة إلى ذلك فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعد الله فيها لأوليائه، فإن لم يكن له همة عالية تدفعه إلى ذلك فخشية النار، وما أعد الله فيها لمن عصاه، فإن لم تطاوعه نفسه على شيء من ذلك فليعلم أنه خُلق للجحيم والسعير لا للجنة والنعيم، ولا يًقْدِر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه. ولم يجعل الله للجنة طريقاً إلا باتباع هداه، ومخالفة العبد هواه، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباع العبد هواه، والإعراض عن هدى مولاه كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات: 37 - 39]. واتباع الهوى يضل العبد عن سبيل الله، ومن ضل عن سبيل الله لم يصل إلى نعيم مولاه، وكانت النار مأواه كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. ومن نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه، وعاش في هذه الدنيا في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيم البتة. بل التفاوت الذي بين النعيمين، كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا

لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا. وقلوب أهل البدع، والمعرضين عن القرآن، وأهل الغفلة عن الله، وأهل المعاصي في جحيم من العذاب قبل الجحيم الأكبر في النار. وقلوب الأبرار في نعيم في الدنيا قبل النعيم الأكبر في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. وليس النعيم والجحيم في الآخرة فقط. بل النعيم والجحيم في دورهم الثلاث كلها: دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار في الآخرة. فهؤلاء الأبرار في نعيم .. وهؤلاء الفجار في جحيم. وهل النعيم إلا نعيم القلب .. وهل العذاب إلا عذاب القلب. وأي عذاب أشد من الهم والحزن، والخوف والوجل، وضيق الصدر، وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله، وانقطاعه عن الله. وكل شيء تعلق به العبد وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب. فكل من أحب شيئاً غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار. فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سَلبه وفواته أو خرابه، فإذا سُلبه اشتد عذابه عليه. فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار. وأما عذابه في البرزخ في قبره فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده، وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحجاب عن الله عزَّ وجلَّ، وألم الحسرة التي تقطع الأكباد. فالهم والغم والحسرة والحزن كل هذه تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر، وأشد وأبقى. إن العبد الذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية ربه، فإذا أقدم عليها بحكم

ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة. والخوف من الله عزَّ وجلَّ هو الحاجز الصلب أمام عواصف الهوى العنيفة، ونهي النفس عن الهوى هو الذي يكبح جماح النفس إلى المعصية، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قِبَل الهوى. فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. ولم يكلف الله سبحانه الإنسان أن ينزع من نفسه الهوى، فإن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف من مقام ربه الجليل، وكتب له بهذا الجهاد الشاق الجنة مثابة ومأوى. ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة هذا الجهاد، وقيمته في تهذيب النفس البشرية، ورفعها إلى مقامها الأسنى. إن الإنسان يعلو ويسمو بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع، وليس إنساناً بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها. إن الذي أودع في نفس الإنسان الاستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه، ونهي النفس عنه، ورفعها من جاذبيته، وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر على هواه ويرقى. والحرية نوعان: الأولى: حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان، وهي حرية الانتصار على هوى النفس، والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية اختيار الأحسن شرعاً. الثانية: حرية حيوانية، وهي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته،

وانفلات الزمام من إرادته، وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية، فهؤلاء وإن حملوا صورة الآدمي في الظاهر فهم هابطون إلى درك الحيوان في الباطن: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. ولكل إنسان مهما كان له هوى شخصي حتى ولو كان طفيفاً، فتلك هي الطبيعة البشرية، ولكن الذي لا هوى له هو الله سبحانه، فهو سبحانه الغني الذي يملك كل شيء، ولا يحتاج إلى أحد، بل كل أحد محتاج إليه في وجوده وبقائه وحركته، فتشريعه سبحانه لا يتم عن هوى، وإنما يتم عن حق وعدل ورحمة وعلم. وهوى النفس حينما يسيطر على الإنسان يتخذ من العلم والتطور والحرية سبيلاً ومبرراً للخروج عن منهج الله إلى هوى النفس البشرية. وهل العلم والترقي، والحرية والطمأنينة، والعزة والسعادة إلا في اتباع منهج الله لو كانوا يعلمون؟. فكما خلق الله كل شيء، وبين للإنسان كل شيء، وسخر له كل شيء في السموات والأرض، كذلك وضع له منهجاً يسير عليه في الحياة فيه تبيان كل شيء يحتاجه، وكما وضع للنبات أوامر، وللكواكب أوامر، كذلك وضع للإنسان أوامر يسير عليها في هذا العالم، ليكون على صلة بخالقه ومولاه. ولكن لغلبة الهوى تشذ النفس بشهواتها عما سواها من المخلوقات المطيعة. أفلا يستحي البشر من هذا، يتركون هدى ربهم الذي فيه فلاحهم، ويتبعون هوى أنفسهم الذي فيه هلاكهم، ويشذون بمعاصيهم عن ركب المطيعين؟ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83]. أيبتغون غير الله رباً وهو رب كل شيء؟. {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ

أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} ... [الأنعام: 164]. أيقبلون حكم المخلوق، ويعافون حكم ربهم العدل، الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر وحده، وإليه يرجعون؟. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} ... [الأنعام: 114]. واعجباً لهذا الإنسان الغافل عن ربه، الجاهل بدينه وشرعه. أو لما أعطاه الله من العلم ما يساعده على تسهيل أمور حياته من وسائل النقل والبناء والصناعة والزراعة يجعل هذا سبباً للبعد عن ربه ورفض منهجه؟ {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. أفلا يخجل من ربه كلما أردف عليه النعم زادته كفراً وجحوداً وإعراضاً؟. إن العلم مع الإيمان يسوق الإنسان إلى كل خير، وإن العلم بلا إيمان يهوي بالإنسان إلى كل شر كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83]. إن النفس البشرية لها شهوات، وهي تريد أن تنطلق بهذه الشهوات إلى ما تهواه، دون أن يكون لها قيود تحدها. والله عزَّ وجلَّ قد خلقنا جميعاً، وجعل لنا ديناً واحداً، وهذا الدين يجعل عبادتنا واحدة، وشريعتنا واحدة، وقبلتنا واحدة، وحقوقنا متساوية، فإذا جاء هوى النفس يطلب ما هو حق للغير، جاء عدل الله ومنعه من ذلك. فإن اعتدى على حق غيره عاقبه، وحينئذ يبحث هوى النفس عمن يبيح له ذلك، فيخترع آلهة من دون الله، أو يتصور أو يصور آلهة تبيح له شهوات نفسه بلا قيود. ومن هنا فإنه يريد أن يشكل إلهه على هواه، فيتخذ أحجاراً، أو أصناماً، أو أشياء يسميها هو ولا وجود لها، ويضع لها المنهج الذي تمليه عليه نفسه، مما يحقق رغبته وشهواته، وينسبه إليها وهي غافلة عنه.

وفي هذه الحالة يكون الإنسان قد ألغى عقله، واتبع هواه، وضل عن الحق: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 43، 44]. وهذا هو الضلال البعيد الذي ليس بعده ضلال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. وهو الخسران المبين في الدنيا والآخرة إنه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} ... [الحج: 12، 13]. فأصل كل شر ومصيبة تقديم الهوى على الوحي .. وتقديم شهوات النفس على أوامر الرب كما قال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} ... [النور: 63]. وقد رد الله على الملائكة الرأي كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]. وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105]. وما أُخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص، والشهوة على الأمر .. وما لُعن إبليس إلا بتقديم الرأي على النص .. ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي .. ولا تفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً وفرقاً إلا بتقديم آرائهم على النصوص. وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن التقديم بين يدي الله ورسوله بأي قول يخالف الكتاب والسنة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1].

ومجامع الهوى خمسة أمور جمعها الله في قوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. ومن اتبع هواه وسد على نفسه أبواب الهداية، ولج في دروب الغواية، فإن الله لا يهديه، وما ظلمه الله، ولكن هو ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه باتباع هواه فمن يهديه من بعد الله؟. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23]. والله تبارك وتعالى هو الهادي لكل خير، المانع من كل شر، أنزل الهدى وأمرنا باتباعه، وحذرنا من مخالفته والتعلق بغيره كما قال سبحانه: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]. فالقرآن العظيم هو الهدى المشتمل على المطالب العالية في الدنيا والآخرة: فهو الهادي إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله. الذي يهدي إلى معرفة جلال الله وجماله، وإنعامه وإحسانه. ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه، وأوصافهم وأعمالهم. ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها. ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال الحسنة والسيئة في الدنيا والآخرة. فالمؤمنون اهتدوا به فأفلحوا وسعدوا، والذين كفروا أعرضوا عنه فشقوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 88]. وفي اتباع الهوى السعادة الأبدية والصلاح والفلاح، فما أجدر العاقل باتباع

الشريعة الكاملة التي تأمر بكل خير، وتنهى عن كل شر، ومخالفة الهوى الذي يوقع في كل شر، ويمنع كل خير كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. واتباع الهوى يضل العبد عن سبيل الله، ويخرجه عن الصراط المستقيم فيقع في العذاب الشديد؛ لأنه ترك الهدى واتبع الهوى كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]. واتباع الهوى هو إيثار ميل النفس إلى الشهوة والانقياد لها فيما تدعو إليه من معاص الله عزَّ وجلَّ. وانقياد الإنسان واتباعه للشهوات يجعله في مصاف الحيوانات، ويجلب له الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، والهوى شر داء خالط القلوب، وشر إله عُبد في الأرض. وخير الناس من أخرج الشهوات من قلبه، وعصى هواه في طاعة ربه، ومن أطاع هواه أعطى عدوه مناه. والإنسان إذا كان كلما هوى شيئاً رَكِبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه. وإذا تمكنت الشهوة من الإنسان وملكته وانقاد لها كان كالبهائم أشبه منه بالناس. وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في الأمر ولا يطلبه أصلاً، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل يرضى إذا حصل له ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه؛ لأن قصده الحمية لنفسه، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، وليس قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.

وعلاج اتباع الهوى بسبعة أمور: أحدها: التفكر في أن الإنسان لم يخلق للهوى، وإنما خلق لعبادة الله والنظر في العواقب، والعمل للآجل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس الإنسان منه وزاد عن حظ البهائم. وفي توفير حظ الإنسان من العقل، وبخس حظه من الهوى دليل على فضل هذا وذاك. الثاني: التفكر في فائدة مخالفة الهوى من اكتساب الذكر الجميل في الدنيا، وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة. الثالث: التفكر في حقيقة ما يناله باتباعه هواه من اللذات والشهوات، فإن العقل سيخبره أنه ليس بشيء، ولكن عين الهوى عمياء. الرابع: التدبر لما يحصل له من عز الغلبة إن ملك نفسه، وذل القهر إن غلبته، فمن غلب هواه عز، ومن غلبه هواه ذل. الخامس: التفكر في عواقب الهوى، فكم فوت من فضيلة، وكم أوقع في رذيلة مع الإثم. السادس: تصور العاقل لانقضاء غرضه من هواه، فسيرى أن ما حصل له من الأذى يربو على اتباع الهوى أضعافاً مضاعفة. السابع: تصور عاقبة ذلك في حق غيره، فعندئذ سيرى ما يعلم به عيب نفسه إن هو وقف في ذلك المقام وارتكس في هذه الآثام. {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [الأنعام: 119]. فما أسفه عقول البشر حين يتبعون أهواءهم بعد بلوغهم رسالة ربهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]. فليتبع العبد هدى ربه، ويحذر من هوى نفسه وهوى غيره، وفي طاعة ربه سعادته ونجاته: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120].

3 - آفة الكبر

3 - آفة الكبر قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} [الأعراف: 40، 41]. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. الله تبارك وتعالى وحده هو الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال، وله الملك كله، وله العزة كلها: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37]. ومن استكبر من الخلق فليس له ذلك؛ لأن الكبرياء لله وحده لا شريك له، والعبد مخلوق ضعيف عاجز فقير، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً إلا ما مَلَّكه الله إياه. والكبر بطر الحق، وغَمْطُ الناس بازدرائهم واحتقارهم. وآفة الكبر في الناس على ثلاث درجات: الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً منهم إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها بإخفائه الكبر. الثانية: أن يظهر ذلك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، فتراه يصعر خده للناس ويحتقرهم. الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدعاوى والمفاخرة وتزكية النفس، والتكبر بالنسب، والمال، والعلم، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك من الحالات.

فالتكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجار .. والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء .. والتكبر بالعلم أكثر ما يجري بين المرائين .. والتكبر بالنسب أكثر ما يجري بين الناقصين الجاهلين .. والتكبر بكثرة الأتباع أكثر ما يجري بين الملوك بكثرة الجنود .. وبين العلماء بكثرة الطلاب والمستفيدين. ومن صفات المتكبر: استكباره عن الحق .. واحتقار الناس .. وحبه قيام الناس له .. وجلوسه في صدور المجالس .. ومشيه متبختراً .. وأنه لا يمشي غالباً إلا ومعه أحد يمشي خلفه .. ولا يزور أحداً تكبراً على الناس .. ويستنكف جلوس أحد إلى جانبه، ولا يتعاطى في بيته شغلاً .. ونحو ذلك. والكبر من المهلكات، ويعالج بأمرين: الأول: استئصال شجرته من القلب، ووسيلة ذلك أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه. الثاني: من تكبر بالنسب فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره .. ومن اعتراه الكبر بالجمال فلينظر إلى باطنه وأقذاره نظر العقلاء .. ومن اعتراه الكبر بالقوة فليعلم أنه لو آلمه عِرْق عاد أعجز من كل عاجز .. ومن تكبر بسبب المال فليعلم أن اليهود أغنى منه وهم شر خلق الله، وقد غضب الله عليهم ولعنهم .. ومن تكبر بسبب العلم فليعلم أن حجة الله على العالم أكثر من الجاهل. وأول ذنب عصى الله به أبوا الثقلين: الكبر والحرص. فالكبر ذنب إبليس اللعين، فآل أمره إلى ما آل إليه، وذنب آدم - صلى الله عليه وسلم - الحرص والشهوة، فكان عاقبته التوبة والهداية. فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس، وأهل الشهوة المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب مع أبيهم آدم في الجنة. والتكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد

مع الله غيره، ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال سبحانه: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} [الزمر: 72]. والذين طبع الله على قلوبهم هم أهل الكبر والتجبر كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35]. والكبر قليله وكثيره في النار، وهو موجب للحرمان من الجنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» أخرجه مسلم (¬1). ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغَّره وحقَّره، ومن تكبر عن الانقياد للحق فإنما تكبر على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله، فإنما رد على الله وتكبر عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. والفرق بين المهابة والكبر: أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} ... [النحل: 49، 50]. وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي، من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، يستأثر صاحبه بالأشياء ولا يؤثر أحداً، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه. والإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان بالله، والشعور بالخالق القاهر فوق عباده، تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو قوة أو جمال. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (91).

ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً، وهذا هو الأدب مع الله ومع الناس. وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب، والكبر الفارغ، والخيلاء الكاذبة إلا فارغ صغير القلب، صغير الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه، فتواضع لله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)} ... [الإسراء: 37]. والكبر ينقسم إلى قسمين: كبر باطن .. وكبر ظاهر. فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر على الجوارح قيل تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر. والكبر يظهر بثلاثة أشياء: متكبر .. ومتكبر عليه .. ومتكبر به. فالمتكبر بما يملك من مال أو سلطان أو علم ونحوها يتكبر على غيره، فيرى لنفسه مرتبة، ولغيره مرتبة دونه، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، وبهذه الثلاثة يحصل له خلق الكبر. والأعمال السيئة الصادرة عن خلق الكبر كثيرة من احتقار الناس وازدرائهم والترفع عنهم، والاستهانة بهم، وآفاته أكثر من أن تحصى. وآفات الكبر عظيمة، وبه يهلك خواص الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والعلماء والزهاد فضلاً عن عوام الخلق. وكيف لا تعظم آفته وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر» قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ

حَسَنَاً، قال: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (¬1). وإنما صار الكبر حجاباً دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فالمتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، ولا يقدر على التواضع والنصح لهم وفيه الكبر. والكبر درجات، وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له، ويقال لهؤلاء يوم القيامة: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} [النحل: 29]. والتكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام: الأول: التكبر على الله: وهو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان، وهو يصدر من كل من ادعى الربوبية كفرعون وغيره، وقد توعد الله هؤلاء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. الثاني: التكبر على رسل الله: من حيث تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره، فيمتنع عن الانقياد، وهو ظان أنه محق فيه، وتارة يمتنع مع المعرفة، ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل. كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21]. الثالث: التكبر على الخلق: وذلك بأن يستعظم نفسه ويحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم، ويأنف من ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (91).

مساواتهم. وهذا وإن كان دون الأول والثاني، لكنه عظيم من وجهين: أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلا لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟. فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله كما قال سبحانه: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (¬1). وإذا كان الكبر على عباد الله لا يليق إلا بالله، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، فالذي يسترذل خواص الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم، ويستأثر بما حق الملك وحده أن يستأثر به منهم فهو منازع لله في بعض أمره. الثاني: أن ذلك يدعو العبد إلى مخالفة الله في أوامره؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله، وتشمر لجحده، كما تكبر إبليس على آدم فقال أنا خير منه، فحمله هذا الكبر على الامتناع عن السجود الذي أمره الله تعالى به. وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له، فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى، فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد كما قال سبحانه: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 77، 78]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4090)، صحيح سنن أبي داود رقم (3446). وأخرجه ابن ماجه برقم (4175)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3366).

ولذلك شرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبر بآفتين في قوله: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (¬1). فكل من رد الحق وهو يعرفه، وأنف أن يخضع لله ويتواضع له بطاعته واتباع رسله فقد تكبر عن الحق فيما بينه وبين الله تعالى ورسله. وكل من رأى أنه خير من أخيه، واحتقره وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار، ورد ما قاله من الحق فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق. وأما ما يتكبر به الناس، فإنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال. وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي. فالديني هو العلم والعمل. والدنيوي هو الرئاسة، والنسب، والجمال، والمال، والقوة. فهذه سبعة أسباب. فأما العلم فما أسرع الكبر إلى العلماء إذا قل عملهم، فلا يلبث العالم أن يتعزز بعلمه، فيستعظم نفسه، ويستحقر الناس، وينظر إليهم نَظَرَه إلى البهائم، ويستجهلهم، ويتوقع منهم أن يخدموه، ويستخدمهم وكأنهم عبيده وأجراؤه. ويرى نفسه عند الله أفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وهل هذا إلا عين الجهل والسفه في صورة العلم. والعلم الحقيقي: هو الذي يعرف به الإنسان نفسه وربه، ويزيده خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً لربه، ويرى أن الناس خير منه، لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره عن القيام بشكر نعمة العلم. فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (147).

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]. وأما العبادة والعمل: فليس يخلو عن رذيلة الكبر أحد، فكثير من الزهاد والعباد يرون الناس هالكين، ويرون أنفسهم ناجين، ويرون غيرهم أولى بزيارتهم لهم، ويرون أن على غيرهم توقيرهم وذكرهم لهم بالورع والتقوى، والتوسيع لهم في المجالس، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ، وقضاء حوائجهم. فما أجدر العالم والعابد إذا أحبه الناس لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل، وما أجدره إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى أدناهم في الإهمال. وأسباب الكبر وبواعثه المهيجة له أربعة: العجب .. والحقد .. والحسد .. والرياء. فالكبر خلق باطن، وما يظهر على الجوارح من الأخلاق والأفعال التي تدل على الكبر فهي ثمرة ونتيجة للكبر الباطني الذي هو عبارة عن استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير. وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من الأسباب استعظم واستكبر. أما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة: سبب في المتكبر وهو العجب. وسبب في المتكبر عليه وهو الحقد والحسد. وسبب في غيرهما وهو الرياء. فالعجب يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال، والحقد يحمل على التكبر من غير عُجب، كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه، ولكنه غضب عليه لسبب، فأورثه الغضب حقداً عليه، فهو لذلك لا يتواضع له بل يتكبر عليه، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويأنف منه إن نصحه. والحسد يوجب بغض المحسود، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويمنع من قبول

النصيحة وتعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم فبقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده حسداً وبغياً عليه؟. فهو يتكبر عليه ويعرض عنه مع علمه بأنه يستحق التواضع بفضل علمه، ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه. وأما الرياء فهو كذلك يدعو إلى أخلاق المتكبرين، حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه، ويمتنع من قبول الحق منه، ولا يتواضع له خوفاً من أن يقول الناس إنه أفضل منه، فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد. وعلامات التكبر: تكون في شمائل الرجل كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراقه رأسه ونحو ذلك، وتكون في أقواله في صوته ونغمته. ويظهر في مشيته وتبختره، وقيامه وجلوسه، وحركاته وسكناته، كما قال سبحانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 18 - 19]. فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض. والكبر من الكبائر المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولكنه لا يزول بالتمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له، ويتم ذلك بأمرين: الأول: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب. الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره. فاستئصال أصله يتم بأمرين: علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما: أما العلمي: فهو أن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في

إزالة الكبر، فالإنسان مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة. وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله العلي العظيم. فأما معرفة العبد نفسه فأولاً لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء وأقذرها وهو التراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة ثم جعله عظماً، ثم كسى العظام لحماً كما قال سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 17 - 22]. فما صار الإنسان شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت، فكان في بداية خلقه جماداً ميتاً، لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم. فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وبضلالته قبل هداه، وبفقره قبل غناه، وبعجزه قبل قدرته. ثم مَنَّ الله عليه ويسر له السبيل فأحياه بعد أن كان ميتاً .. وأسمعه بعد ما كان أصم .. وبصَّره بعد ما كان فاقداً للبصر .. وقواه بعد الضعف .. وعلَّمه بعد الجهل .. وأغناه بعد الفقر .. وأشبعه بعد الجوع .. وكساه بعد العري .. وهداه بعد الضلال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 1 - 3]. فانظر كيف دبر الله الإنسان وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره؟. ثم انظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة، والخسة والقذارة والعجز والضعف إلى هذه الرفعة والكرامة، فصار موجوداً بعد العدم، وحياً بعد الموت، وناطقاً بعد البكم، وبصيراً بعد العمى، وقوياً بعد الضعف، ومهدياً بعد

الضلال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23]. وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جلَّ جلاله. ثم بعد ذلك يسلب الله هذا الإنسان روحه وسمعه وبصره، وعلمه وقدرته وماله وحسه وإدراكه وحركته فيعود جماداً كما كان أول مرة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة، كما كان أول نطفة مذرة، ثم يصير رميماً ورفاتاً يأكله الدود، ثم يصير روثاً في أجواف الديدان، وجيفة يهرب من نتنه الحيوان ويستقذره كل إنسان. وأحسن أحواله أن يعود تراباً يعمل منه البنيان، وتصنع منه الكيزان، فيصير مفقوداً بعد أن كان موجوداً. وليته بقي كذلك فما أحسن الحال لو كان تراباً، بل يحييه الله بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه، ويخرج إلى أهوال يوم القيامة فينظر إلى سماء مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، ونار مسعرة، وجنة عالية، وصحائف منشورة فيها عمله، فينقطع قلبه، ويتمزق فؤاده من هول ما رأى في صحيفته من المخازي والكبائر فيقول: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]. فمن كان هذا بدؤه .. وهذه أحواله .. وهذا آخر أمره .. فمن أين له البطر والكبرياء، والفخر والخيلاء، وهو على التحقيق أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء؟. وما لمن هذه حاله والتكبر والتعظم؟. بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر والكبر؟. ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم كما قال سبحانه:

{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. ولو فوض الله إليه أمره، وأدام له الوجود باختياره وأكمله، لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكن الله سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، شاء أم أبى، لا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يُسلب سمعه أو بصره أو عقله أو ماله، أو تُختطف روحه، ويُسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطرب مضطر ذليل، عاجز فقير، لا يقدر على شيء من نفسه، ولا شيء من غيره. فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟. وأنى يليق به الكبر لولا جهله؟ فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر. وأما العلاج العملي فيكون بالتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال المذمومة فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً. والكبر بالعلم أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إذا كان معهما علم وعمل، فللعلم طغيان كطغيان المال. ولذا يعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل، لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم. ولا يقدر العالم على دفع الكبر إلا بأمرين: أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يُّحتمل من الجاهل ما لا يُّحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله عن معرفة وعلم فجنايته أفحش، إذا لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم.

ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « .. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (¬1). فكما أن قدر العالم أعظم من قدر غيره، فكذلك خطره أعظم من خطر غيره، فهذا بذاك، فهذا الخطر يمنع من التكبر، والعالم إذا فكر فيما ضيعه من أوامر ربه بذنوب في باطنه، وجنايات على جوارحه، وعلم ما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة. الثاني: أن يعرف العالم أن الكبر لا يليق إلا بالله عزَّ وجلَّ وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع، فمن تواضع لله رفعه في الدنيا والآخرة، فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه، وهذا يزيل التكبر عن قلبه. وبهذا زال التكبر عن الأنبياء إذ علموا أن من نازع الله تعالى الكبرياء والعظمة قصمه، وقد أمرهم سبحانه أن يُصغِّروا أنفسهم، حتى يَعْظُمَ عند الله محلهم، فهذا مما يبعثه على التواضع لا محالة. فالواجب على العبد أن لا يتكبر على أحد من خلق الله، فإن رأى جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، فهو أعذر مني، وإن نظر إلى كبير قال: هذا أطاع الله قبلي، فكيف أكون مثله؟، وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله، فكيف أكون مثله؟. والله عزَّ وجلَّ خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وخلق الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، وخلق كل ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1905).

شيء، وجميع هذه المخلوقات مطيعة لربها، منقادة لأوامره، عابدة له. والبشر إن استكبروا عن عبادة الله بعد معرفتهم لهذه الآيات الكبرى، والمخلوقات العظمى، فهذا لن يقدم أو يؤخر، فغيرهم من جميع الكائنات يعبد الله غير مستكبر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} ... [النحل: 49، 50]. وقال سبحانه: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} ... [فصلت: 38]. هؤلاء الملائكة الذين عند ربك، وهم أرفع وأعلى، وهم أكرم وأمثل، لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض، ولا يغترون بقرب مكانهم من الله، ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً كما قال سبحانه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]. وماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف عن عبادة الله؟. وهذه الأرض التي تقوتهم، والتي منها خرجوا وإليها يعودون، الأرض التي هم على سطحها أنمال تدب. هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة، فاهتزت وربت لتشارك العابدين المتحركين: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]. وكم في الأرض من أَفَّاك؟ .. وكم في الأرض من مستكبر؟. وماذا ينتظر هؤلاء من العذاب الأليم؟. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} ... [الجاثية: 7، 8]. ألا ما أخطر هؤلاء المستكبرون .. وما أعظم جهلهم بالله. إنهم إذا علموا من آيات الله شيئاً استهزؤوا بها، واتخذوها مادة للسخرية منها،

وممن يؤمنون بها، وممن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} [الجاثية: 9 - 11]. فما أخسر هؤلاء في الدنيا والآخرة .. وأي خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا؟ .. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة؟ .. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟. وكل أحد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق، فالكبرياء لله وحده، وليست لأحد من خلقه في قليل أو كثير. وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض، وجزاء على الفسوق عن منهج الله كما قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20]. والكفار بمالهم وجاههم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله، فهم يكفرون ويستكبرون، ويؤذون الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويسمعون القرآن، ويتناجون بالكيد والرد على ما يسمعون، ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله؛ لأنهم يزعمون أنهم في ميزان الله شيئاً عظيماً: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35]. فما أعجب حالهم؟ وما أعوج تقديرهم: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)} [المعارج: 36 - 38]. فهل يستحقون بكفرهم وكيدهم أن يدخلوا الجنة؟ {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} [المعارج: 39]. فهم لا ريب يعلمون مم خلقوا؟. من ذلك الماء المهين الذي يعرفون، إنها لمسة خفية عميقة تمسح كبرياءهم مسحاً، وتنكس كبرياءهم تنكيساً. كيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟.

إن هذا خرق لسنة الله في الجزاء العادل، للمؤمن بالنعيم .. وللكافر بالجحيم. ألا ما أسفه العقول التي تستكبر بكثرة الأموال والأولاد، وتظن أن ذلك سوف ينجيها من العذاب الأليم، وأنهم خيار الناس: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35]. إن الكبر آفة من آفات النفس ينشأ من الاغترار بالجاه أو السلطان أو المال، فينشأ من ذلك الكبر على الحق برده، والكبر على الناس باحتقارهم. والطغيان كذلك آفة من آفات النفس ينشأ مما سبق، وهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى. ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت، حيث يشمل كل متجاوز للهدى، وكل من آثر الحياة الدنيا واختارها على الآخرة، فعمل لها وحدها غير حاسب للآخرة حساباً. واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره، فإذا أهمل حساب الآخرة، أو آثر عليها الدنيا، اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره، واختلت كل قواعد السلوك والشعور في حياته، وعُدَّ طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للهدى. فهذا مصيره إلى الجحيم كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات: 37 - 39]. والله تبارك وتعالى رحيم ودود، ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه وهي إنسانيته التي تميز بها عن سائر الأحياء، وارتفع بها إلى أكرم مكان، وتجلى فيها إكرام الله له فيقول له: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. إن هذا النص يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر، فإذا هو غافل لاهٍ سادر، ويلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضى، وفيها وعيد خفي، وفيها تذكير بنعمة الله

الأولى عليه، نعمة خلقه في هذه الصورة السوية، على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة شاء، ولكنه سبحانه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة وهو لا يشكر ولا يقدر، بل يغتر ويستكبر. يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك، ما الذي غرك بربك الكريم فجعلك تستكبر عن الإيمان به، وتعرض عن طاعته، وتقصر في حقه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره، ومن هذا إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه. أغرك علمه وحلمه؟ .. أم غرتك نعمه وآلاؤه؟ .. أم غرك جهلك بربك؟ .. إنه نداء وخطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان، وربه يعاتبه هذا العتاب الجميل، ويذكره هذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيء الأدب في حق مولاه، الذي خلقه فسواه. إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة تفضلاً منه ورعاية منه. وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوين الإنسان الجسدي، وفي تكوينه الروحي، وفي تكوينه العقلي. فسبحان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 7، 8]. وإنه ما من خلق حادث مهما كان إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله الكبير المتعال. {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} ... [الجاثية: 36، 37].

ومراد الله من العباد إيمانهم وصلاح قلوبهم، فإذا طلب العبد العلم ليعمل به صلح قلبه وزاده تواضعاً، وإذا طلبه لغير العمل به فسد قلبه وزاده فخراً وكبراً. والسيئة التي لا تنفع معها حسنة هي الكبر، والسجود يذهب الكبر، والتوحيد يذهب الرياء. والتواضع في الخلق كلهم حسن .. وفي الأمراء والعلماء والأغنياء أحسن .. والتكبر في الخلق كلهم قبيح .. وفي الفقراء أقبح.

4 - آفة العجب

4 - آفة العُجْب قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)} [النساء: 49]. آفات العجب كثيرة: فإن العجب يدعو إلى الكبر؛ لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى كما سبق، هذا مع العباد. وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه، فلا يجتهد في تداركه وتلافيه، بل يظن أنه يُغفر له. وأما العبادات والأعمال فالمعجب يستعظمها ويتبجح بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً. والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منَّة وحقاً بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها. وإن أعجب برأيه وعقله وعمله منع ذلك من الاستفادة والاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف مِنْ سؤال مَنْ هو أعلم منه. ومن أعظم آفات العجب أن يفتر العبد عن السعي لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. فهذا وأمثاله من آفات العجب، فلهذا صار من المهلكات. والعجب: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسبتها إلى نفسه ونسيان إضافتها إلى المنعم.

وعلة العجب: الجهل المحض. وعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل، فما يدخل تحت اختيار العبد إذا حصله من مال أو علم أو عبادة أو إحسان فهذا له حالتان: إن كان إنما يعجب به من حيث أنه فيه فهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره، فهذا جهل، إذ كيف يعجب بما ليس إليه ولا منه؟. وإن كان يعجب به من حيث أنه هو منه وإليه، وباختياره حصل، وبقدرته تم، فهذا ينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وسائر الأسباب التي يتم بها عمله، من أين هي؟ ومن أين كانت له؟. فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يدلي بها، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله، إذ أفاض عليه ما لا يستحقه، وآثره به على غيره من غير سابقة. فكل خير وفضل حصل للعبد فهو من الله وحده، والواجب شكره عليه، ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها. وما يحصل به العجب أمور: الأول: أن يعجب الإنسان ببدنه في جماله وصحته وقوته وحسن صورته وحسن صوته، ونحو ذلك، فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى، وهو بعرضة الزوال في كل حال. الثاني: البطش والقوة كما حكى الله عن قوم عاد بقوله سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15]. الثالث: العجب بالعقل والفطنة، وذلك يولد الاستبداد بالرأي، وترك المشورة، واستجهال الناس المخالفين له، ويخرجه إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم، إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل، واستحقاراً لهم وإهانة. وعلاجه: أن يشكر الله تعالى على ما رزقه من نعمة العقل، وأنه قادر على سلبه منه.

الرابع: العجب بالنسب الشريف، حتى يظن بعضهم أنه ينجو بسبب شرف نسبه، ونجاة آبائه، وأنه مغفور له، ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد. وعلاجه: أن يعلم أن شرف الإنسان بطاعة ربه وتقواه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. الخامس: العجب بكثرة الأتباع من الأولاد والأنصار والعشيرة ونحو ذلك. وعلاجه: أن يعلم أن الكل ضعيف عاجز لا يملك واحد منهم لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، وأنهم يموتون ويتركونه، ويهربون منه يوم القيامة فكيف يعجب بهم. السادس: العجب بالمال، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)} [الكهف: 34]. وعلاجه: أن يتفكر في آفات المال وغوائله، وكثرة حقوقه، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويتذكر أن المال غاد ورائح لا أصل له. السابع: العجب بالرأي الخطأ كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]. وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعُجْبهم بآرائهم. والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقاً. وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره؛ لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يُعرف، فتعسر مداواته جداً؛ لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه، إلا إذا كان معجباً برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه. فمن سلط الله عليه بلية تهلكه وهو يظنها نعمة .. فكيف يمكن علاجه؟. وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده؟. وعلاجه: أن يكون متهماً لرأيه أبداً لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب، أو سنة، أو دليل عقلي صحيح.

5 - آفة الغرور

5 - آفة الغرور قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8]. الغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان. فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور. وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، واختلفت درجات غرورهم، وأظهرها وأشدها غرور الكفار والعصاة والفساق: فالكفار: منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور. فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذن خير فلا بدَّ من إيثارها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86]. وعلاج هذا الغرور بأمرين: أحدهما: الإيمان بالله وتصديقه فيما قال عن الدنيا والآخرة: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36]. وقوله سبحانه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} ... [الضحى: 4]. الثاني: البرهان، فالدنيا نقد، والآخرة نسيئة، هذا صحيح، واللبس جاء من كون النقد خير من النسيئة، فليس الأمر كذلك، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير، والكافر المغرور

لا يعلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم. لذا يركن إلى شهوات الدنيا ولذاتها مع أنها مشوبة بالأمراض والآفات والأكدار. والمسلمون إذا ضيعوا أوامر الله تعالى، وهجروا الأعمال الصالحة، ولابسوا الشهوات والمعاصي، فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، لكن أمرهم أخف؛ لأن أصل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد، فيخرجون من النار بعد تطهيرهم من المعاصي. ولكنهم من المغرورين، فإنهم اعترفوا أن الآخرة خير من الدنيا، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها، ومجرد الإيمان بلا عمل لا يكفي للفوز بالجنة، فوعد الله للمؤمنين بالمغفرة ودخول الجنة كله منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، فهو مركب منهما لا بالإيمان وحده كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. وغرور الكفار والعصاة بالله ألوان وأشكال. ومنه قول بعضهم في أنفسهم وألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظاً فيه، وأسعد حالاً كما قال سبحانه عن الكافر الذي يحاور صاحبه المؤمن قائلاً: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} [الكهف: 34 - 36]. وسبب هذا الغرور، أن الكفار والعصاة ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعيم الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة، وأنه لا يصيبهم كما قال سبحانه: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35]. وقال عنهم: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ

الْمَصِيرُ (8)} [المجادلة: 8]. ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم شعث فقراء فيزدرونهم ويحتقرونهم فيقولون: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. ويقولون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} [الأحقاف: 11]. وقد نشأ هذا الغرور من ظن الإنسان أنه كريم عند الله ومحبوب له، وإلا لما أحسن إليه، فيقول قد أحسن الله إلينا في الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن في الحاضر والمستقبل. واللبس حصل تحت ظنه أن كل محسن محب، بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل ما أعطاه من الأموال والشهوات، وما علم أن الذي يبغضه الله يهمله ليعيش كيفما يريد، والذي يحبه يشغله بطاعته وعبادته. فيظن هذا العبد المهمل حين يتركه ربه يتمتع بشهواته ولذاته أنه عند سيده محبوب كريم، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات ومبعدات عن الله، ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم، والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} [الفجر: 15، 16]. فأجاب الله عن ذلك بقوله: {كَلَّا} [الفجر: 17]. أي ليس كما قال، إنما هو ابتلاء من الله، فليس الإعطاء دليل كرامة من الله، ولا المنع دليل إهانة، ولكن الكريم من أكرمه الله بطاعته غنياً كان أو فقيراً، والمهان من أهانه الله بمعصيته غنياً كان أو فقيراً. ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

وعلاجه بمعرفة دلائل الكرامة والإهانة في كتاب الله كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} ... [المؤمنون: 55، 56]. وقوله سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فمن آمن بالله تخلص من هذا الغرور. ومن غرور العصاة من المؤمنين قولهم: إن الله كريم، وإنا لنرجو عفوه، واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال والتوبة، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين فلا يعملون، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم، وأين معاصي العباد في بحار رحمته، وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو مرتبتهم. فيتركون الطاعات ويخوضون في الفسق والفجور اعتماداً على ذلك، وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى، فإن الإسلام إيمان وأعمال، ولا تزر وازرة وزر أخرى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} ... [النجم: 39 - 41]. فمن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه، ويصير عالماً بتعلم أبيه، وهذا يجمع مع الغرور الجهل والسفه، فالتقوى فرض عين على كل مسلم، فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئاً. والله كريم، وإنا لنرجو مغفرته ورحمته، هذا كله كلام صحيح مقبول، ولكن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر، مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، واغترت به النفوس. وقد حول الشيطان الأماني وسماها رجاءً بلا عمل حتى خدع بها كثيراً من الجهال، وقد شرح الله الرجاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218].

فلا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح، فسنة الله في عباده كل نفس بما كسبت رهينة، فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} ... [الملك: 10، 11]. وموضع الرجاء المحمود في أمرين: أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة، فقنطه الشيطان من رحمة الله، فيجب هنا أن يقمع القنوط بالرجاء بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه كريم يقبل التوبة من كل مذنب. فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار على المعصية فهو مغرور. الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجِّي نفسه نعيم الله تعالى، وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل. فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر. فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرور. فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل .. فما لا يبعث على العمل فهو تمنٍّ وغرور .. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم .. وسبب إقبالهم على الدنيا .. وسبب إعراضهم عن الله تعالى .. وإهمالهم السعي للآخرة. وقد كان المسلمون في القرن الأول يواظبون على العبادات، ويبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 60، 61].

وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه. فهؤلاء يضعون الطمع موضع الخوف، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر الله لي فهو الكريم المنَّان، فما أجهل هؤلاء بتخويفات القرآن. وأهل الغرور أربعة أصناف: الأول: أهل العلم. ومن هؤلاء من أحكم العلوم الشرعية وتعمق فيها، وأهمل تفقد الجوارح، وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم. ومنهم من أحكم العلم والعمل فواظبوا على الطاعات، وتركوا المعاصي، لكنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد، والرياء، وطلب الرياسة، والعلو، وطلب الشهرة في البلاد والعباد. فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم، ونسوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم (¬1). ومنهم من علم أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعُجْبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها، وإنما يبتلى بها العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم والعمل. ومنهم من أحكم العلم والعمل، وطهر النفس من الأخلاق الذميمة، ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان ما بقي مما لم يفطن له. فترى العالم يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها، وهو ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2564).

يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته، ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء والمدح بالزهد والورع والعلم، والرحلة إليه من الأطراف، والاجتماع حوله للاستفادة ونحو ذلك، ومنهم من اشتغل بالكلام ومجادلة أهل الأهواء وهم فرقتان: ضالة، ومحقة، فالضالة تدعو إلى غير السنة .. والمحقة هي التي تدعو إلى السنة. والغرور شامل لجميعهم. أما الضالة: فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة. وأما المحقة: فاغترارها من حيث أنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث ويجادل. فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة، وقلدهم غيرهم ممن تعلم على أيديهم. ومنهم من اشتغل بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والمحبة واليقين والإخلاص، والصبر والشكر ونحوها، وأكثرهم مغرور؛ لأنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بها فقد صاروا موصوفين بها، وهم عند الله منفكون عنها. وغرور هؤلاء أشد الغرور؛ لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب. ومنهم من عدل عن المنهاج الواجب في الوعظ، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب. ومنهم من اشتغل بطيارات النكت والمضحكات، وسجع الألفاظ وتلفيقها وغرضهم أن تكثر في مجالسهم الزعقات والضحكات. فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا.

ومنهم من حفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، فيؤدونها للناس من غير إحاطة بمعانيها، ومن غير أن يحفظ الواحد منهم ظاهره وباطنه عن الآثام ظناً منه أن كلام أهل الدين يكفيه، فما أشد غرور هؤلاء؟. ومنهم من استغرق أوقاته في سماع الحديث، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية، فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول أنا أروي عن فلان، وما أكثر ما يحمل من الأحاديث ولا يعمل به، وينشغل بجمع الروايات ويغفل عن معرفة علاج القلب والعمل بما جمع. ومنهم من اشتغل بعلم اللغة والنحو واغتروا به، وزعموا أنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو واللغة، وكان يكفيهم أن يتعلموا أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ والباقي زيادة. الصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل، والمغرورون منهم أصناف: فمنهم من غروره في الصلاة .. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن .. ومنهم في الحج .. ومنهم في الغزو .. ومنهم في الزهد، وكل مشغول بمنهج من مناهج العمل، وليس خالياً من الغرور إلا الأكياس، وقليل ما هم. فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل. ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في نية الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة، ويخرج الصلاة عن وقتها. ومنهم من يصوم ولا يحفظ لسانه عن الغيبة، وخاطره عن الرياء، وبطنه عن الحرام عند الفطر والسحور. ومنهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينسى نفسه. ومنهم من زهد في المال، وقنع من اللباس بالدون، ومن المسكن بالمسجد، وظن أنه أدرك رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ ونحوهما.

ومنهم من حرص على النوافل وأهمل الفرائض، فترى أحدهم يحرص على صلاة الليل، ويفرح بصلاة الضحى ونحوهما، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت. الصنف الثالث: من وقع في الإباحة وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام، فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عمله فَلِمَ يُتعب نفسه؟، وبعضهم يقول قد كُلِّف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وحب الدنيا وذلك محال، فقد كلفوا ما لا يمكن فقعد عن العمل. ومنهم من ضيق على نفسه في طلب الحلال الخالص من القوت، وأهمل تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة. الصنف الرابع: أرباب الأموال، والمغترون منهم فرق: فمنهم من يحرص على بناء المساجد والمدارس، ويكتبون أسماءهم عليها ليخلد ذكرهم بعد موتهم، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، فهؤلاء إن بنوها من أموال كسبوها من ظلم ونهب ورشوة ونحوها فقد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها. ومنهم من كسب المال من الحلال وأنفقه على بناء المساجد، ولكنه يريد الرياء وطلب الثناء، ويصرف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش ما يشغل المصلين، ويخطف أبصارهم، ويحسب أن ذلك من الخيرات، وهو من الإسراف الذي لا يحب الله صاحبه. ومنهم من ينفقون الأموال على الفقراء والمساكين في المحافل الجامعة، ويكرهون الصدقة في السر، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذه منهم جناية عليهم وكفراناً لإحسانهم. ومنهم من يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل، ويشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن، وهم مغرورون؛ لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم.

ومنهم من غلبه البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ليعطوه إياه، والله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} ... [البقرة: 267]. وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجراً، وهم مغرورون؛ لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه. فليحذر الأمراء والعلماء، والدعاة والفقهاء، والأغنياء والوجهاء، من خداع الشياطين، والغرور بالدنيا وشهواتها، وتمتع الكفار بنعيمها، فمتاع الدنيا قليل، يتمتع به المرء قليلاً، ويعذب عليه طويلاً كما قال سبحانه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 196 - 198]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6]. ومن أعظم الغرور أن ترى الله عزَّ وجلَّ يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معصيته، فاحذر ذلك فإنما هو استدراج يستدرجك به كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. والشياطين غروا كثيراً من الخلق، وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط الله ويغضبه في عفوه وتجاوزه، وحدثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم، ثم دافعوهم

بالتسويف حتى هجم الأجل، فأخذوا على أسوأ أحوالهم، والشيطان موكل بالغرور، وقد حذرنا الله منه بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]. وأعظم الناس غروراً من إذا مسه الله برحمة ونعمة وفضل قال أنا جدير به ومستحق له، وظن أنه أهل لتلك النعم مع كفره بالله، فاستكبر بها، وصد بها عن سبيل الله، ويزعم أنه لو رجع إلى ربه بعد الموت سينال من الكرامة مثل ما نال في الدنيا مع كفره. وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم، فلكفره وكذبه هذا توعده الله بالعذاب الشديد يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} [فصلت: 50].

6 - آفة الكذب

6 - آفة الكذب قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)} [الزمر: 32]. وقال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)} [يونس: 17]. لا أظلم ولا أشد ظلماً ممن كَذَب على الله، إما بنسبته إلى ما لا يليق بجلاله، أو بادعاء النبوة، أو الإخبار بأن الله قال كذا، أو أخبر بكذا، أو حكم بكذا، وهو كاذب، أو جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه، ومن كان جامعاً بين الكذب على الله، والتكذيب بالحق كان ظلماً على ظلم. وليس هناك أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له بناتاً، أو له شركاء، أو قال إنه فقير، أو قال يد الله مغلولة، أو قال إن الله ثالث ثلاثة، أو قال إن الله هو المسيح بن مريم، أو كذب الرسل ونحو ذلك. والكذب من أعظم آفات النفس، ويوم القيامة تكون وجوه المكذبين مسودة من الخزي، ومن الكمد، ومن لفح النار كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60]. وليس هناك أعظم ظلماً وعناداً ممن كَذَب على الله أو كذب بآياته التي جاءت بها الرسل، فهذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبداً كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} ... [الأنعام: 21]. والكذب من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ

الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا» متفق عليه (¬1). والكلام وسيلة إلى المقاصد: فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن. لأنه إذا فَتَح باب الكذب على نفسه فيُخشى أن يَتَداعى إلى ما يُستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أوْ يَقُولُ خَيْرًا» متفق عليه (¬2). والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر التي لا يقاومها شيء، ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (¬3). والكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وهو من سيء الأخلاق، والكذب من صفات المنافقين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094) ومسلم برقم (2607). واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2692) واللفظ له، ومسلم برقم (2605). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (59).

والكذب ضربان: كذب في الأقوال .. وكذب في الأفعال. فكما يكون الصدق والكذب في الأقوال يكونان في الأفعال، فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل المخادعة. والكذب في الأقوال أكثر من الأفعال؛ لسهولته، والكذب كله شر، والكذب في الأقوال خطير، وربما كان الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال كما حكى الله من أقوال وأفعال إخوة يوسف حين ألقوه في الجب: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 16 - 18]. فجمعوا بين كذب القول .. وكذب الفعل. ورخَّص الشرع في الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل مع امرأته، وحديث المرأة مع زوجها، وذلك على طريق التورية والتعريض دون التصريح به، كما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن أنت؟ فقال: «من ماء». فورى عن الإخبار بنسبه بأمر محتمل. وكما سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في طريق الهجرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: هاد يهديني السبيل، فظنوا أنه يعني هداية الطريق، وهو إنما يعني هداية سبيل الخير. وأسباب الكذب ودواعيه كثيرة، ومنها: جلب النفع، ودفع الضر، فيرى الكذاب أن الكذب أسلم وأغنم فيرخِّص فيه لنفسه؛ طمعاً في حصول ما يريد به. ومنها أن يُؤْثِر أن يكون حديثه مستعذباً، وكلامه مستظرفاً، فلا يجد صدقاً يعذب، فيستحلي الكذب الذي يسهل اجتراره، وتطرب الآذان عند سماعه.

ومنها حب الترأس، وذلك أن الكاذب يرى له فضلاً على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبه بالعالم الفاضل في ذلك. ومنها أن يكون الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة، فهو يألف دواعي الكذب ويستملحه. ومنها أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه. وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ثم يهلك. والكذب داء لا يصلح منه جد ولا هزل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك الحرمات، ويهدي إلى الفجور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ» .. ثَلاثًا، قالوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقال: «ألا وَقَوْلُ الزُّورِ». قال: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6094)، ومسلم برقم (2607) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2654)، واللفظ له، ومسلم برقم (87).

7 - آفة اللسان

7 - آفة اللسان قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} ... [الحجرات: 11]. الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلَّمه البيان، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه قلبه وعقله. واللسان من نعم الله العظيمة، فهو صغير جرمه، عظيم نفعه، وعظيم جُرمه، رحب الميدان: له في الخير مجال رحب .. وله في الشر مجال رحب. فمن أطلق عذبة اللسان، وأهمله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم. ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة. وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، فإنه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤنة في تحريكه، وأكثر الأخطار والشرور من طريقه. فخطر اللسان عظيم، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ». قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ

صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه البخاري (¬2). وسبب فضيلة الصمت أمران: أحدهما: ما في الصمت من جمع الهمم، ودوام الوقار، والفراغ للفكر والذكر والعبادة، والسلامة من تبعات القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخرة. كما قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]. الثاني: ما في نطق اللسان من كثرة الآفات من الخطأ والكذب، والغيبة والنميمة، والرياء والنفاق، والفحش والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، والخصومة والجدال، والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق، وهتك العورات. فهذه آفات كثيرة، وهي لا تَثْقل على اللسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك لسانه فيطلقه بما يحب، ويكفه عما لا يحب. ففي الخوض خطر .. وفي الصمت سلامة، فلذلك عظمت فضيلته. وآفات اللسان كثيرة، ولها في القلب حلاوة، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت. وهذه أهم آفات اللسان: الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني، فمن عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، حبس لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه، واشتغل بذكر ربه والطاعات وأعمال البر المختلفة، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي كذكر مجالس اللهو والخمر، وأحوال الفساق، ونحو ذلك من الجدال والمراء الذي ينتهي غالباً ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6019)، ومسلم برقم (48). (¬2) أخرجه البخاري برقم (6474).

بالسب والفرقة. الآفة الثالثة: التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع، ليُظهر الإنسان نفسه، ويُعجب الناس بحلاوة كلامه، فيفقد الإخلاص. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالَ «الْمُتَكَبِّرُونَ» أخرجه الترمذي (¬1). الآفة الرابعة: الفحش في الكلام والسب والبذاء ونحو ذلك مما هو مذموم. والفحش: هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به. وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء. الآفة الخامسة: المزاح. أما اليسير منه فلا بأس به إذا كان حقاً وصدقاً، وكان مع الصبيان والنساء الكبار، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال. وكثرة المزاح تسقط الوقار، وتوجب الضغائن والأحقاد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقاً. الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء: والسخرية الاحتقار والاستهانة بالناس، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضْحَك منه بالقول، أو الفعل، أوالإشارة، أو الإيماء. والضحك على الناس والسخرية بهم من جملة الذنوب والكبائر التي حرمها الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2018)، صحيح سنن الترمذي (1642).

الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد، والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه إلا ما رُخص فيه من الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وعلى الزوجة ليراضيها لمصلحة راجحة، وتباح المعاريض عند الحاجة إليها. الآفة الثامنة: الغيبة. والغيبة: ذكرك أخاك الغائب بما يكره. والغيبة محرمة، والمستمع للغيبة شريك فيها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك. وعلاج الغيبة: أن يعلم المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى ومقته، وأن حسناته تُنقل إلى من اغتابه، وإن لم تكن له حسنات نُقل إليه من سيئات خصمه، وإذا عَرضت له الغيبة تفكر في عيوب نفسه، واشتغل بإصلاحها، فيستحي أن يَعيب وهو مَعيب. وإن ظن أنه سليم من العيوب فليشكر ربه، ولا يلوث نفسه بأقبح العيوب وهو الغيبة، وكما لا يرضي نفسه بغيبة غيره له فينبغي أن لا يرضاها لغيره من نفسه. وقد تحصل الغيبة بالقلب، وذلك سوء الظن بالمسلمين، ومن آفات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن فيشتغل بالتجسس، وذلك منهي عنه؛ لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم، وهو محرم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} ... [الحجرات: 12]. أما كفارة الغيبة: فالمغتاب قد جنى جنايتين: إحداهما: جناية على حق الله تعالى حيث فعل ما نهاه الله عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم. الثانية: جناية على عِرض المخلوق، فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه

واستحله، وأظهر له الندم على فعله. وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، أو مات، جعل مكان استحلاله الاستغفار له، والدعاء له، والثناء عليه، ولا يخبره بما لا يعلمه إن كان حياً؛ لئلا يوغر صدره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأحد مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» أخرجه البخاري (¬1). الآفة التاسعة: النميمة. والنميمة: هي كشف ما يُكره كشفه من الأقوال والأعمال. وتطلق غالباً على قول إنسان في آخر، مثل أن يقول: قال فيك فلان كذا وكذا. والقتات: هو النمام وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» متفق عليه (¬2). الآفة العاشرة: كلام ذي الوجهين. وهو الذي يثني على الواحد في وجهه، ويذمه عند الآخر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ» متفق عليه (¬3). الآفة الحادية عشرة: المدح، وله آفات، منها ما يتعلق بالمادح، فقد يقول ما لا يتحققه، وقد يبالغ في المدح فينتهي إلى الكذب، وقد يمدح من ينبغي أن يُذم. وأما الممدوح، فإنّ مَدْحه يسبب له الكبر والإعجاب وهما مهلكان، ولأن الإنسان إذا أثني عليه رضي عن نفسه، وظن أنه بلغ المقصود، فيفتر عن العمل. فإذا سلم المدح من هذه الآفات لم يكن به بأس، فقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخلفاء الراشدين، والعشرة المفضلين، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. الآفة الثانية عشرة: الخطأ في فحوى الكلام عن الدين: ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2449). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6056)، ومسلم برقم (105) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7179)، واللفظ له، ومسلم برقم (2526).

فالشيطان يخيل للعاصي أنه بخوضه في العلم، ومجالسة العلماء، يكون من أهل العلم والفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وهو لا يدري. وسؤال العوام عن غوامض العلوم من أعظم الآفات، فالأولى بهم الإيمان بما ورد في القرآن، والتسليم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاشتغال بالأعمال الصالحة، وعدم التوسع فيما لا يقدرون على فهمه. الآفة الثالثة عشرة: الغناء وهو ما يفسد القلوب، وقد غَرَّ به الشيطان خلقاً كثيراً من العوام والعلماء والزهاد حتى ظنوه قربة إلى الله. الآفة الرابعة عشرة: اللعن: إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم، والمؤمن ليس بالطعان ولا اللعان. واللعن: عبارة عن الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الله عزَّ وجلَّ مثل الكفر والظلم ونحوهما، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً؛ لأنه قد حكم على الله عزَّ وجلَّ بأنه قد أبعد الملعون، وذلك غيب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر .. والبدعة .. والفسق. وللعن في كل واحدة ثلاث مراتب: الأولى: اللعن بالوصف الأعم كقوله: لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة. الثانية: اللعن بوصف أخص منه كقوله: لعنة الله على اليهود والنصارى أو لعنة الله على الزناة والظلمة، وآكلي الربا، وكل ذلك جائز. الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر كقوله: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع. والتفصيل فيه: أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولنا: فرعون لعنه

الله، وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعاً. وإما شخص بعينه كقول: زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً، فهذا فيه خطر؛ لأنه ربما يُسلم فيموت مقرباً عند الله، فكيف يحكم بكونه ملعوناً؟. فعلى المسلم أن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور وغير ذلك مما نهى الله ورسوله عنه. واللسان من نعم الله تبارك وتعالى العظيمة اللطيفة، فهو صغير جِرمه، عظيم طاعته ونفعه، وعظيم خطره وجُرمه. فلا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والمعصية. والكلام ترجمان يعبر عما في الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر. وللكلام شروط لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها، وهي: الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه إما في جلب نفع، أو دفع ضرر، ذلك أن ما لا داعي له هذيان، وما لا سبب له هُجْر. الثاني: أن يقتصر من الكلام على قدر حاجته منه، فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة لم يكن لحده غاية، ولا لقدره نهاية، ومن كَثُر كلامه كثر سقطه. الثالث: اختيار الألفاظ التي يتكلم بها؛ لأن اللسان عنوان الإنسان، فلا يتجاوز في مدح، ويسرف في ذم .. ولا تبعثه الرغبة والرهبة في وعد أو وعيد يعجز عنهما .. وإذا قال قولاً حققه بفعله .. وإذا تكلم بكلام صدقه بعمله .. ويراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده .. فإن كان ترغيباً قرنه باللين واللطف .. وإن كان ترهيباً خلطه بالخشونة والخوف .. ولا يرفع صوته بكلام مكروه .. ولا ينزعج له انزعاجاً مستهجناً .. ويكف عن حركة تكون طيشاً .. ويتجافى هجر القول ومستقبح الكلام .. وليعدل إلى الكناية عما يُستقبح صريحه ويُستهجن فصيحه .. ؛ ليبلغ الغرض ولسانه نزيه، وأدبه مصون .. ولا يسمع الخنا ولا يصغي إلى فحش ولا يقوله .. ويتجنب أمثال العامة الساقطة .. ولا يذكر في

كلامه إلا أمثال القرآن والسنة، وأمثال العلماء والأدباء، فلهذه الأمثال موقع في السمع وتأثير في القلب لا يكاد الكلام المرسَل يبلغ مبلغها ولا يؤثر تأثيرها. الرابع: أن يأتي بالكلام في موضعه؛ لأن الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به، فإن قدم ما يقتضي التأخير كان عجلة وخرقاً، وإن أخر ما يقتضي التقديم كان توانياً وعجزاً، فلكل مقام قول. فما عقل دينه من لم يحفظ لسانه، وحفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم، ومن عد كلامه من عمله لم يتكلم إلا فيما يعنيه، وكثرة الكلام تذهب الوقار، ومن فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع. ولا خير في الكلام إلا في عشر: تهليل وتكبير وتسبيح وتحميد .. والسؤال عن الخير .. والتعوذ من الشر .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وقراءة القرآن .. وما لا بدَّ منه في قضاء حاجته.

8 - آفة الرياء

8 - آفة الرياء قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. الله عزَّ وجلَّ أغنى الأغنياء عن الشرك، فلا يقبل من الأعمال إلا ما كمل وخلص من شوائب الشرك والرياء. والرياء حرام، والمرائي عند الله ممقوت. والرياء من أعظم آفات النفس وأشد غوائلها. وأكثر ما يبتلى بالرياء العلماء والعباد والأغنياء والمجاهدون، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة. فإن هؤلاء مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها، وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، وحملوها على أصناف العبادات إلا عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل، فسارعت إلى إظهار الطاعة، وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده. وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات، وتوقيه الشبهات، وتحمله مشاق العبادات، أطلقو ألسنتهم بالمدح والثناء، ونظروا إليه بعين الوقار والتعظيم، وبالغوا في إطرائه، وتبركوا بمشاهدته، ورغبوا في بركة دعائه، وحرصوا على اتباع رأيه، وفاتحوه بالخدمة والسلام، وأكرموه في المحافل غاية الإكرام، وقدموه في المجالس، وسامحوه في البيع والمعاملات، وتصاغروا له متواضعين. فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات، وشهوة هي أغلب الشهوات،

فاستحقرت فيه ترك المعاصي، واستلانت خشونة المواظبة على العبادات؛ لإدراكها في الباطن لذة الشهوات، فهو يرى أنه مخلص في طاعة الله، مجتنب لمحارم الله، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزيناً للعباد، وتصنعاً للخلق، وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات، وأجور الأعمال، وقد أثبت اسمه في صحيفة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون. فالرياء هو الداء الدفين، وهو أعظم شبكة للشياطين في إفساد أعمال المؤمنين. وحد الرياء: ترك الإخلاص في العمل بإرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وعمله فيحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء. وللمرائي أربع علامات: يكسل إذا كان وحده .. وينشط إذا كان في الناس .. ويزيد في العمل إذا أثني عليه .. ويُنقص العمل إذا ذُم. والرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، والرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، إلا أن الجاه والمنزلة تُطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها. فحد الرياء: هو إرادة العباد بطاعة الله. فالمرائي هو العابد .. والمراءى هو الناس المطلوب رؤيتهم للظفر بالمنزلة في قلوبهم .. والمراءى به هو الخصال والأعمال التي قصد المرائي إظهارها .. والرياء هو قصده إظهار ذلك. والمراءى به كثير، وتجمعه ستة أشياء، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهي: البدن .. والزي .. والقول .. والعمل .. والأتباع .. والأشياء الخارجة.

فالأول: الرياء في الدين بالبدن بإظهار النحول والتقشف والصفار، ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل، وبشعث الرأس على استغراق الهم بالدين، وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب إذا ظهرت استدل بها الناس على هذه الأمور، فارتاحت النفس لمعرفتهم، ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم. الثاني: الرياء بالهيئة والزي. أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس، وحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وغلظ الثياب، ولبس المرقعات وتشميرها إلى أعلى الساق، وترك نظافة الثياب، كل ذلك يرائي به ليُظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه. الثالث: الرياء بالقول. ويكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار، إظهاراً لغزارة العلم، والانتصار في المحاورات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ونحو ذلك. الرابع: الرياء بالعمل. كمراءاة المصلي بطول القيام، ومد الظهر، وطول السجود والركوع، وإطراق الرأس، ليراه الناس. وكذلك بالصوم والصدقة والحج والغزو، وإطعام الطعام، والإخبات في المشي عند اللقاء ونحو ذلك. الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال أن أهل الدين يتبركون بزيارته، وكالذي يكثر من ذكر الشيوخ ليرى الناس أنه لقي شيوخاً

كثيرة، فيباهي بشيوخه، ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. فهذه بعض ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، وتنجز الحوائج على يده، فيقوم له بذلك جاه عند العامة. ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع الحطام وكسب المال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام. وهؤلاء شر طبقات المرائين. وأركان الرياء ثلاثة: المراءى به .. والمراءى لأجله .. ونفس قصد الرياء. أما نفس قصد الرياء. فإن كان مراده الرياء لا الثواب فهذا ممقوت عند الله تعالى كمن يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة على الناس، ومثله من يتصدق خوفاً من مذمة الناس لا رغبة في الثواب، ولو خلا بنفسه لما أداها، فهذه الدرجة أغلظ درجات الرياء وأعلاها وأخطرها. وإن قصد الثواب لكن قصده ضعيف، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، فهذا قريب مما قبله، وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم. وإن قصد الثواب وقصد الرياء سواء، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب. وإن كان اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لا يترك العبادة فهذا قد لا يحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.

فهذه أربع درجات في نفس قصد الرياء. وأما المراءى به: وهو الطاعات فينقسم إلى الرياء بأصول العبادات، وإلى الرياء بأوصافها. فالرياء بالأصول على ثلاث درجات: الأولى: الرياء بأصل الإيمان، وهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمة الشهادة، وباطنه مشحون بالتكذيب، ولكنه يرائي بظاهر الإسلام. وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام رياء ويبطنون الكفر، وهم مخلدون في أسفل النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر. الثانية: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا عظيم عند الله لكنه دون الأول بكثير كأن يدخل وقت الصلاة وهو في جمع من الناس، وعادته ترك الصلاة في الخلوة فيصلي معهم، ولو كان وحده لم يصل، أو يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة ليفطر، أو يخرج الزكاة أمام الناس خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لا يحب إخراجها. فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله، يعتقد أنه لا معبود سواه، ولكنه يترك العبادات والفرائض للكسل، وينشط عند اطلاع الناس عليه، فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت. الثالثة: أن لا يرائي بالإيمان، ولا بأصل الفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها في الخلوة، لفتور رغبته في ثوابها، ولإيثار الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كالتهجد بالليل، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وصيام يوم عرفة وعاشوراء

ونحو ذلك. فقد يفعل المرائي جملة من ذلك خوفاً من المذمة، أو طلباً للمحمدة، والله يعلم منه أنه لو كان وحده لما زاد على أداء الفرائض. فهذا كذلك عظيم، ولكنه دون ما قبله، فالذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا اتقى ذم الخلق دون ذم الخالق. أما الرياء بأوصاف العبادات فهو على ثلاث درجات: الأولى: أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي من عادته تخفيف الركوع والسجود والقيام والقراءة في الصلاة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود، وأتم القيام، وحَسَّن القراءة. فهذا من الرياء المحظور؛ لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات. وهذه مكيدة للشيطان بالإنسان، فإن ضرره من نقصان صلاته لمولاه أعظم من ضرره بغيبة غيره إذا رآه مقصراً في عبادته، فالواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة، وليس له أن يدفع ذم الناس له بالمراءاة بطاعة الله تعالى، فإن ذلك استهزاء. الثانية: أن يرائي بفعلِ ما لا نقصان في تركه، ولكنْ فَعَله في حكم التكملة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود، وتحسين الهيئة، والزيادة في القراءة، وطول الصمت، وإخراج الجيد في الزكاة، ونحو ذلك مما لو كان وحده لم يقدم عليه. الثالثة: أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل كحضور الجماعة قبل القوم، وقصده الصف الأول، وتوجهه إلى يمين الإمام، ونحو ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف؟ ومتى يُّحرم بالصلاة؟. فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به، وبعضها أشد من بعض، والكل

مذموم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ» متفق عليه (¬1). أما الركن الثالث: فهو المراءَى لأجله. فالمرائي له مقصود من الرياء لا محالة، فهو إنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وهو على ثلاث درجات: الأولى: أن يكون مقصوده بالرياء التمكن من معصية. كالذي يرائي بعبادته وتقواه، ويظهر الورع بكثرة النوافل، والامتناع عن أكل الشبهات، وغرضه أن يُعرف بالأمانة والزهد فيولى القضاء، أو الأوقاف، أو الوصايا فيأخذها. أو يُسلَّم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو تودع عنده الودائع فيأخذها ويجحدها. وقد يظهر بعضهم الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن، يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن، وغرضهم ملاحظة النساء والغلمان، نسأل الله السلامة والعافية. وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته. الثانية: أن يكون غرضه نيل مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة، كالذي يظهر الحزن والبكاء، أو يشتغل بالوعظ والتذكير، لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء. فهذا رياء محظور؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا، ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه، لكن عمله باطل لا ثواب عليه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6499)، ومسلم برقم (2986).

«قال الله عزَّ وجلَّ: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (¬1). الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ أو إدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته ويحسنها خوفاً من أن يُنظر إليه بعين النقص، ولا يُعد من الخاصة والزهاد كالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الإثنين، أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن يُنسب إلى الكسل والبخل، ويُلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لا يفعل شيئاً من ذلك. وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء وهو غير صائم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم. فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء، ولولا رسوخ عرق الرياء في الباطن لما ظهر في الخارج قولاً أو فعلاً. فهذه درجات الرياء، ومراتب أصناف المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات، ومن شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل، يزل فيها فحول العلماء فضلاً عن عامة الجهلاء بآفات النفوس وعللها. والرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، ومن كبائر الذنوب، وإذا كان هذا وصفه فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته، ولا شفاء منه إلا بشرب الأدوية القامعة له، ومجاهدة شديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، والعباد كلهم مضطرون لهذه المجاهدة. وإنما يحصل علاج الرياء بأمرين: أحدهما: قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه. الثاني: دفع ما يخطر منه في الحال. فأما قلع عروقه وأصوله: فأصل الرياء حب المنزلة والجاه، وهو يرجع إلى ثلاثة ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2985).

أصول وهي: لذة المحمدة .. والفرار من ألم الذم .. والطمع فيما في أيدي الناس. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه (¬1). فالحمية: أن يأنف أن يُقهر .. وليُرى مكانه: هذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب .. ويقاتل للذكر: هذا هو طلب حمد الناس له باللسان. فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء. فإذا علم العبد أن الرياء ضار في الدنيا والآخرة سهل عليه قطع الرغبة عنه، فإنه إذا علم مضرة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يُّحرم منه من التوفيق في الحال، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم، والمقت الشديد، والخزي الظاهر، فعلمه بذلك يُسهل عليه تركه، ويبعث فيه الرغبة في الإخلاص. هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، ومن طلب رضاهم في سَخَط الله سَخِط الله عليه، وأسخطهم عليه. وأي فائدة للمرائي إذا مدحه الناس وذمه الله، وحمدهم لا يزيد له رزقاً ولا يدفع أجلاً؟. وأما الطمع بما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إلى الله فلا رزاق إلا هو، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنَّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب؟. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7458) واللفظ له، ومسلم برقم (1904).

وأما ذم الناس فلم يحذر منه، وذمهم لا يزيده ولا يضره شيئاً لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة، والناس لا كمال في مدحهم، ولا نقصان في ذمهم. وأي خير للإنسان في مدح الناس له وهو عند الله مذموم ومن أهل النار؟. وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟. ومن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد ورضوان الله أعرض عن الخلق، وأقبل على ربه، وأخلص له العمل، وتخلص من مذلة الرياء للخلق، فهذه أهم الأدوية القالعة لأصول الرياء من القلب. وأما الدواء العملي: فهو أن يعوِّد نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عباداته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله به. وأما دفع العارض من الرياء أثناء العبادة، فالشيطان لا يترك الإنسان ولو قلع مغارس الرياء من قلبه حتى يشغله أثناء العبادات، ويعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته، وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية. فلا بدَّ وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء. وخواطر الرياء ثلاثة: الأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم. الثاني: ثم يتلوه هيجان الرغبة في النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم. الثالث: ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له، والركون إليه، والقيام به، والحزم في دفع الخاطر الأول ورده حتى لا يتلوه الثاني، فيقول لنفسه: الله عالم بحالك، ومَالَكِ وللخلق، علموا أو لم يعلموا، فإن هاجت الرغبة إلى لذة حمد الناس ذكرها ما في الرياء من التعرض لمقت الله يوم القيامة. وكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء، فمعرفة آفة الرياء تثير

كراهة له تقابل تلك الشهوة. والرياء فعل الخير لإرادة الخير بطلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، وإرادة العباد بطاعة الله. والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء يكون في الفعل؛ لأن المرائي يري الناس أنه يفعل ولا يفعل بالنية، والسمعة تكون في القول. والفرق بين الرياء والنفاق: أن الأصل في الرياء الإظهار، والأصل في النفاق الإخفاء. وقد يلتقي الأمران الرياء والنفاق الأصغر في عمل المنافق بإظهار مجرد الطاعة كما قال سبحانه في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. وقد يختلفان كما في قيام المنافقين إلى الصلاة كسالى، وعدم ذكرهم لله إلا قليلاً، فالمرائي يظهر النشاط، ويكثر الذكر لينال مكانة عند الناس بخلاف المنافق. والرياء من الكبائر، بل هو الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله؛ لما فيه من الاستهزاء بالحق تعالى، وتقديم المخلوق عليه، ولما فيه من التلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله وهو بخلاف ذلك. ولهذا أطلق على الرياء الشرك الأصغر، فهو كل عبادة يراد بها غير وجه الله تعالى، فهو من أكبر الكبائر المهلكة. والرياء درجات: فالرياء بما عمله الإنسان كبيرة .. والرياء بما لم يعمله أكبر: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

9 - آفة الحسد

9 - آفة الحسد قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1 - 5]. أصل الحسد العداوة، وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، بل لا يجمع إلا متناسبين كالتجار والصناع والزراع، والعلماء والأمراء ونحوهم. وأهم أسباب الحسد: إما العداوة والبغضاء، فإن آذاه إنسان أبغضه، وغضب عليه، وأحب ضرره. وإما التعزز، فإذا نال الإنسان منصباً ترفع على غيره، فيحسده ذلك الغير، ويتمنى زوال ذلك المنصب عنه. أو يكون في طبيعته أن يستخدم غيره، فيريد زوال النعمة عنه ليستخدمه. وقد يكون سببه الخوف من فوت المقاصد، وذلك يحصل بين المتزاحمين على مقصود واحد، ومنه تحاسد الضرات على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأولاد في كسب ود الآباء، وتحاسد أصحاب المهن عليها. أو يكون سببه حب الرياسة وطلب الجاه كأن يسمع عن شجاع أو عالم أو والٍ فيتمنى زوال النعمة عنه، ويحسده ليظفر بتلك النعمة. أو يكون سببه شح النفس بالخير على عباد الله من علم أو مال أو غيرهما، فإن ذكر له شر فرح به، وإن ذكر خير ساءه. وهذا من خبث النفس، وقد تجتمع هذه الأسباب أو بعضها في شخص واحد فيعظم ضرره.

وزوال الحسد بأمرين: بالعلم .. والعمل. أما العلم فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وليس على المحسود ضرر، بل ينتفع به في الدين والدنيا. أما ضرره عليك في الدين، فإنك بالحسد كرهت حكم الله، ونازعته في قسمة رزقه بين عباده، وشاركت إبليس وسائر الكفرة في محبتهم للبلايا للمؤمنين، وستنال العقاب العظيم عليه يوم القيامة. وضرره عليك في الدنيا: أنك بالحسد تتعذب، وتكون في الغم والكدر كلما رأيت نعمة على من تحسد، وهذا يمرض بدنك، وينغص عليك لذة المطعم والمشرب. والمحسود لا ضرر عليه في دينه ودنياه، فما قدر الله كائن لا محالة، وهو مأجور في حال السراء والضراء. وأما أن المحسود ينتفع به في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول أو الفعل بالغيبة وذكر مساوئه. فهذه هدايا يهديها الله إليه من حسناتك. وحسد الحاسد يدل على اختصاص المحسود بفضل الله ونعمه، فهو مذكر له بفضل الله فليحمد الله. أما العمل النافع الذي يزول به الحسد فهو أن يأتي بالأعمال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن حمله الحسد على ذمه مَدَحَه، وإن حمله على التكبر عليه تواضع له، وإن حمله على إيذائه أحسن إليه، وإن حمله على الدعاء عليه دعا له .. وهكذا. وللحسد ثلاث مراتب: أحدها: أن يحسد غيره على ما أعطاه الله من النعم، ويتمنى زوال ذلك عنه، ويرتب على ذلك الحسد مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، وهذا أعظم أنواع الحسد.

الثانية: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، ويحب أن يبقى على حاله من جهل، أو فقر، أو ضعف، أو شتات قلبه عن الله، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب. فهذا كله حسد على شيء غير مقدر، والأول حسد على شيء مقدر، وكلاهما حاسد عدو نعم الله وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند الناس، لا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم. الثالثة: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير تمني أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، وهو محمود إن تمنى ما فيه خير من نعم يستعين بها على طاعة الله، وينفع بها الناس، وأعمال صالحة يكسب بها الأجر وينال عليها الثواب في الآخرة، وهذا قريب من المنافسة في الخيرات. وقد قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (¬1). فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه شرف نفسه، وحبها خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقهم وعليتهم، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسارعة والمسابقة في هذا العمل الصالح، مع محبته لمن يغبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه. والحسد المذموم من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ويسبب العداوة والبغضاء، وقطع صلة الأرحام، والفرقة بين الناس. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا، وَلا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816) واللفظ له.

تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَاناً» متفق عليه (¬1). ألا ما أجهل الحاسد بربه وقضائه ودينه، إن كان ما أعطاه الله لأخيك لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وماذا يضره حسدك له؟ وإن كان ما أعطاه الله لهوانه عليه فلم تحسد من مصيره إلى النار؟. وقد حسد إبليس آدم (على رتبته وكرامته على الله، وحمله الحسد على معصية الله بعدم السجود، فاستحق الطرد من رحمة الله، واللعن إلى يوم الدين، والقرار في نار الجحيم هو وذريته ومن تبعهم أجمعين. كما قال سبحانه: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 75 - 78]. وكم فوت الحاسد على نفسه ثواب الحب في الله، وثواب الجنة، وأصل الإيمان، ولعله يسوقه حسده إلى غضب الله وإلى النار. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم (¬2). وشر الحاسد إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل كما قال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} ... [الفلق: 5]. فعين الحاسد لا تؤثر بمجردها، لكن تؤثر إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسمت واحتدت، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة، فإذا نظر بهذا إلى المحسود أثر فيه تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، فربما أعطبه وأهلكه، بمنزلة من وجه سهماً نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً. وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6064) واللفظ له، ومسلم برقم (2563). (¬2) أخرجه مسلم برقم (54).

إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتُحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما تؤثر بمجرد نظرة. وإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس البشرية الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، وانسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها، فلله كم لها من قتيل وعليل وسقيم؟. ومن له أدنى فطنة، ولطفت روحه، شاهد أحوال الأرواح وتأثيرها وتحريكها للأجسام، ورأى الأجسام كالخشب الملقى. فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب. فالهيكل الإنساني إذا فارقته الروح صار بمنزلة الخشب أو القطعة من اللحم. فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل والكلام والسمع والبصر، وتلك الأفعال العجيبة، والأفكار والتدبيرات؟. كلها ذهبت مع الروح، وبقي الهيكل هو والتراب سواء. وهل يخاطبك في الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يبغضك، أو يواليك أو يعاديك، أو يؤنسك أو يوحشك، إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر. والعاين والحاسد يفترقان في شيء، ويشتركان في شيء: فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه. فالعاين: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته. والحاسد: يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضاً. ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو نبات أو حيوان أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ

لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]. والنظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون سببه شدة العداوة والحسد، فيؤثر نظره فيه، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة. وقد يكون سببه الإعجاب، وهو ما يسمى بإصابة العين، وهو أن الناظر يرى الإنسان أو غيره رؤية إعجاب به واستعظام، فتتكيف روحه بكيفية خبيثة تؤثر في المعين أو تهلكه. فالعائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، فكل عائن حاسد ولا بدَّ، وليس كل حاسد عائناً. وأصل الحسد: هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها. فالحاسد عدو النعم، وهذا الشر من خبث نفسه وشرها، بخلاف السحر فإنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية. فلهذا والله أعلم قرن الله بين شر الحاسد وشر الساحر؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن كما قال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1 - 5]. فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين، لكن شياطين الجن ينفردون بالوسوسة في القلب، فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه. والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له وقبوله منه. واليهود أسحر الناس وأحسدهم كما قال الله عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ

إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54]. والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال النعم عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسداً، فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فإنه يطلب من الشيطان أن يعينه، ويستعين به، وربما يعبده من دون الله حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له. وكلما كان الساحر أكفر وأخبث، وأشد معاداة لله ورسوله وعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ وأشد. ولهذا سِحْر عباد الأصنام أقوى من سِحْر أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام، واليهود هم الذين سحروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} ... [الفلق: 5]. يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم، وهو عدو لذريته. ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس. فنعوذ بالله العظيم الذي لا أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ونعوذ بالله من غضبه وعقابه وشر عباده. والفرق بين الحسد والمنافسة: أن الحسد شدة الأسى على الخيرات تكون للناس الأفاضل، وتمني زوالها عنهم، والمنافسة طلب التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم. فالحسد رذيلة مذمومة، والمنافسة في الخيرات فضيلة محمودة؛ لأنها داعية إلى اكتساب الفضائل، والاقتداء بالأفاضل.

وبحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حساده، وإن قل قلوا؛ لأن ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد. والفرق بين البخل والحسد: أن البخل والحسد مشتركان في أن صاحبهما يريد منع النعمة عن الغير، ثم يتميز البخيل بالبخل بما في يده، والحاسد يتمنى ألا يعطي أحد سواه شيئاً. والفرق بين الغبطة والحسد: أن الغبطة تمني المرء أن يكون له مثل الذي لغيره من غير إرادة إذهاب ما لغيره، وهي من صفات المؤمنين، أما الحسد فهو إرادة زوال النعمة عن الغير، وهي من صفات المنافقين والكفار. وشر الحاسد مؤلم ومؤذ وموجع، ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب: الأول: التعوذ بالله من شر الحاسد، والتحصن به، واللجوء إليه. الثاني: تقوى الله عزَّ وجلَّ، فمن اتقى الله تولى حفظه ولم يكله إلى غيره. الثالث: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة. الرابع: التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، فلا يلتفت إليه ولا يخافه، وبذلك يندفع عنه شره. السادس: الإقبال على الله بكليته، والإخلاص له، وجعل محبة الله ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه حتى تقهرها وتذيبها بالكلية. السابع: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

الثامن: الصدقة والإحسان إليه ما أمكنه، فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع شر الحاسد، فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها. التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة، وهذا من أعظم الأسباب وأصعبها على النفس، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. العاشر: تجريد التوحيد والترحل عن الفكر بالأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107]. وهذا السبب جامع لما سبق كله، وعليه مدار كل شيء.

10 - آفة الغضب

10 - آفة الغضب قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى: 36، 37]. الغضب: هو غليان دم القلب طلباَ للانتقام. وقوة الغضب محلها القلب، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. والغضب شعلة نار من نار الله الموقدة، وهي مستكنَّة في الفؤاد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، والشيطان أقدر ما يكن على ابن آدم حين يغضب. ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك، وفسد من فسد. والحلم مفتاح كل خير، والغضب مفتاح كل شر، يصير صاحبه إلى ذلة الاعتذار. وقد خلق الله سبحانه طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فمهما صد عن غرض من أغراضه وحوائجه اشتعلت نار الغضب، وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب، ثم ينتشر في العروق، ثم يرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم. وإنما ينبسط الدم وينتشر إذا غضب الإنسان على من دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون. وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر

ويصفر ويضطرب. والناس في الغضب على ثلاث درجات: تفريط .. وإفراط .. واعتدال. أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله رسوله والمؤمنين معه بالشدة والحمية كما قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وأما الإفراط: فهو أن تغلب صفة الغضب حتى تخرج عن سياسة الدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر. وإذا اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أَعْمَت صاحبها، وأَصَمَّته عن كل موعظة، فإذا وعظه أحد لم يسمع له، بل زاده ذلك غضباً، فينطفئ نور العقل من دخان الغضب. فمعدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر: تغير اللون .. وشدة الرعدة في الأطراف .. واضطراب الحركة والكلام .. وخروج الأفعال والحركات عن المعتاد .. حتى يظهر الزبد على الأشداق .. وتحمر الأحداق. وقبح باطن الغضبان أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً، ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً. وأما أثره في اللسان، فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل الرشيد. وأما أثر الغضب على الأعضاء فالضرب والتهجم، والتمزيق والقتل والجرح

عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه، أو عجز عن التشفي منه، رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوبه، ولطم نفسه، أو سقط على الأرض، أو كسر ما بيده، ونحو ذلك مما هو واقع. وأما أثره في القلب على المغضوب عليه فالحقد عليه، والحسد له، وإضمار السوء، والشماتة بالمساءات، والحزن بالسرور، والعزم على إفشاء السر، وهتك الستر، وغير ذلك من القبائح. فهذه مضار الغضب المفرط. وأما مضار الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للمحارم والزوجة، واحتمال الذل من الأخساء، وعدم الغيرة على الحرام. وأما الاعتدال: فالمحمود من الغضب هو الغضب الذي ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده، وهو الوسط بين الطرفين. فمن مال غضبه إلى الفتور، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن رقا غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور، واقتحام الفواحش، فينبغي أن يعالج نفسه ليُنْقِص من سَوْرة الغضب، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين، فهو الصراط المستقيم، وهو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، فإن عجز عنه فليطلب القرب منه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» متفق عليه (¬1). فليس مَنْ عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله، ولكن بعض الشر أهون من بعض، وبعض الخير أرفع من بعض. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6114)، ومسلم برقم (2609) واللفظ له.

والإنسان إذا أُخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قُصد بمكروه غضب لا محالة، فمن قُصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أُخذ منه ثوبه أو ماله أو طعامه فلا بد أن يغضب. فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها، ومن غضبٍ على من يتعرض لها. والطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا من القلب، وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها. والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهو .. والعُجب .. والمزاح .. والهزل .. والهزء .. والتعيير .. والمماراة .. والغدر .. وشدة الحرص على فضول المال والجاه، ونحو ذلك من الأخلاق الرديئة المذمومة شرعاً، ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب، وتزال هذه الأسباب بأضدادها: فيميت الإنسان الزهو بالتواضع .. والعجب بمعرفة ما في النفس من النقص .. والفخر بأنك من جنس عبدك .. وتزيل المزاح بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر. وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بك .. والتعيير يزال بالحذر من القول القبيح، وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء، وترفعاً عن ذل الحاجة. وإذا عرف الإنسان غوائل هذه الأخلاق الرديئة رغبت النفس عنها، ونفرت عن قبحها، فإذا واظب على مباشرة أضدادها مدة مديدة صارت بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت من هذه الرذائل،

وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها. فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع الأسباب حتى لا يهيج، فإذا هاج الغضب فعلاجه بأمرين: العلم .. والعمل. أما العلم فيكون بمعرفة ستة أمور: الأول: أن يعلم ما في كظم الغيظ والعفو والحلم والصبر من الأجر والثواب، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم والعفو عن التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه كما قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. الثاني: أن يخوف العبد نفسه بعقاب الله، فيقول قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو. الثالث: أن يحذِّر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وَتَشمُّر العدو لمقابلته والسعي في أذاه، فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا، وما يجر إليه من المصائب والعداوة. الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه، ومشابهة صاحبه للكلب الضاري، ومشابهة الحليم الهادي للأنبياء والعلماء والحكماء والحلماء. فيختار لنفسه ما يحمده الله والناس به. الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ فيرده ولا يبالي به، كأن يقول له الشيطان: إن عدم الانتقام يُّحمل منك على العجز، وتصير حقيراً في أعين الناس، فيقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين.

السادس: أن يعلم أن غضب الله عليه يوشك أن يكون أعظم من غضبه؛ لأنه خالف مراد الله منه. وأما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اسْتَبَّ رَجُلاًنِ عِنْدَ النَّبِيِّ (، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (فَقَالَ: «إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ، أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» متفق عليه (¬1). فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً، واضطجع إن كنت جالساً، فإن سبب الغضب الحرارة، وسبب الحرارة الحركة، والقائم والقاعد متهيئ للانتقام. فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد، أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء. والسكوت حال الغضب مما يزيل أثر الشر عنه، وكظم الغيظ كذلك. والغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، والحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغض له، والنفار عنه، وأن يدوم على ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب. والحقد يحمل على الحسد الذي يتمنى به الحاسد زوال النعمة عن الغير، ويشمت بما أصابه من بلاء، ويؤدي إلى هجره والانقطاع عنه، وأن يعرض عنه استصغاراً له، وأن يتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر، والاستهزاء به، وإيذائه أحياناً بالضرب، ومنعه حقه من قضاء دين أو رد مظلمة، أو صلة رحم، وكل ذلك حرام. وعلاج الحقد: أن يحسن المحقود عليه إلى الحاقد بالعفو والصلة والدعاء له، والبر به: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري يرقم (6115)، ومسلم برقم (2610)، واللفظ له

وهذه الآفات إنما نشأت في النفوس، وانتشرت بين الأمة وتخلق بها الناس، حصل ذلك كله بسبب ترك الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، وعدم الاستقامة على أوامر الله. فضعف الإيمان، ثم زهدت النفوس في أحسن الأعمال، ورغبت عن معالي الأخلاق، وتخلقت بأخلاق الشياطين والبهائم، ثم صارت تدعو إليها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. ويتخلص المسلم من آفة الحقد والغل ونحوهما بما يلي: 1 - أن يذكر ما في بقاء هاتين من العداوة والمأثم وفوات الخير. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله (قال: «تُفْتَحُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَ» أخرجه مسلم (¬1). 2 - أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، ولا يزيد العفو العبد إلا عزاً. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله (قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم (¬2). 3 - أن يعلم أن هذا مما يفرح به الشيطان، وهو تمزق الأمة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} ... [المائدة: 91]. اللهم آت نفوسنا تقواها .. وزكها أنت خير من زكاها .. أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة .. تؤمن بلقائك .. وترضى بقضائك .. وتصبر على بلائك. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2565). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2588).

2 - العدو الثاني: الشيطان

2 - العدو الثاني: الشيطان 1 - فقه عداوة الشيطان قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} ... [فاطر: 6]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. لقد لعن الله الشيطان وطرده بسبب أنه عصى أمر ربه حين أمره بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فحقت عليه لعنة الله إلى يوم الدين كما قال سبحانه: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 34، 35]. ووعد الله الشيطان وذريته وأتباعه بنار جهنم يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 43، 44]. ولما علم الشيطان أن ما حصل له من الطرد واللعن والإغواء والعذاب في جهنم، كله بسبب آدم، أعلنها حرباً صريحة على آدم وذريته من جميع الجهات، وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وبشتى الوسائل، مصراً على ملاحقة الإنسان ذكراً كان أو أنثى في كل لحظة: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} ... [الأعراف: 16، 17]. واختار هذا اللعين أن يزاول هذا الكيد للإنسان على المدى الطويل، واختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عياناً، وقد سمع أمره مواجهة: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ

جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 18]. فما أعظم عداوة الشيطان للإنسان وأصالتها وضراوتها واستمرارها. إنه سيقعد للبشرية على صراط الله المستقيم لا يمكنهم من سلوكه، وسيأتيهم من كل جهة ليصرفهم عن هداه، وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم، ومداخل الشهوة الجاذبة كما قال لآدم (من قبل: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 120، 121]. فالشيطان عدو للإنسان، أما وقد نزل الإنسان والشيطان إلى الأرض، فالحرب بينهما قائمة، والمعركة مع الشيطان هي المعركة الكبرى: إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى .. والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة .. والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض ومن فيها، والمعركة في النفس والحياة الواقعية، فالشيطان وراءهما جميعاً. والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها ونظمها، وتستبعد حاكمية الله وشرعه، إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن، والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} ... [الأنعام: 112]. فالمعركة الكبرى الطويلة الضارية تتركز مع الشيطان ذاته .. ومع ذريته .. ومع أوليائه .. وهي حرب طويلة المدى .. لا بدَّ أن يخوضها الإنسان مع الشيطان .. وقد استعد لها الشيطان بخيله ورجله كما قال سبحانه له: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)} [الإسراء: 64]. والله حافظ عباده وأولياءه من كيده كما قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ

عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65]. ويشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك مع هواه وشهواته .. وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم .. وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم .. يشعر وهو يخوض هذه المعارك كلها أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية؛ لأن عدوه فيها مصر ماض في طريقه، وأن الجهاد من ثَمَّ ماض إلى يوم القيامة في كل صوره ومجالاته: جهاد النفس .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الكفار .. فمُكْرَم ومهان .. ورابح وخاسر .. ومنتصر ومهزوم. فلا يقعد المسلم عن جهاد عدوه الشيطان، فهو ماض في إغوائه وإضلاله، وساع في جر الناس إلى جهنم بكل ما يغضب الله من كفر وشرك، وبدعة ومعصية: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} ... [النساء: 118 - 119]. فالمشركون إنما يعبدون صورة الأوثان والأصنام، وفي الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم وغرهم بها، وهو عدوهم الذي يريد إهلاكهم بكل ما يقدر عليه. وكما أبعده الله من رحمته ولعنه فهو يسعى في إبعاد العباد من رحمة الله، وجرهم إلى عقوبة الله كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. وقد وقع ما ظنه الشيطان بالناس فَتَبِعوه كلهم إلا القليل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. فأضلهم عن العلم الإلهي .. والعمل الصالح .. وزين لهم ما هم فيه من

الضلال .. ومنَّاهم أن ينالوا ما ناله المهتدون .. وهذا هو الغرور بعينه. وهذه زيادة شر إلى شر، حيث زين لهم ماهم فيه من الضلال، فعملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة كما غرَّ اليهود والنصارى حين أعرضوا عن دينهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]. وكما غرَّ الكفار فكفروا: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35]. فما أخسر هؤلاء وهؤلاء حين أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} ... [الكهف: 103، 104]. ومن الإضلال ما زينه الشيطان لبعض الناس حتى حرَّموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرَّم الله من الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلال. ومن ذلك ما أغواهم به الشيطان من تغيير خلقة الرحمن بالوشم والوشر والنمص ونحو ذلك، وذلك يتضمن التسخط من خلقته، والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره. وكذلك أمرتهم الشياطين بتغيير الخُلُق الباطن، فالله تعالى خلق عباده حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشرك والكفر، والشر والإثم، والفسوق والعصيان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169]. فالشيطان يَعِد أولياءه الفقر إذا أنفقوا في سبيل الله، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، ويخوفهم من طاعة الله بحصول الأذى لهم، ليكسلوا عن فعل الخير، ويمنيهم الأماني الباطلة: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120].

وما أكثر من غرهم الشيطان فصاروا من أتباع إبليس وحزبه: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 121]. وقد حذر الله عزَّ وجلَّ بني آدم عامة أن يستسلموا للشيطان فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع، فَيُسْلِمَهم إلى الفتنة والبلاء كما فعل مع أبويهم من قبل، إذ نزع عنهما لباسهما وأخرجهما من الجنة. فالعري والتكشف عمل من أعمال الشيطان في بني آدم، وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه الشيطان. فلا يدع بنو آدم لعدوهم الشيطان أن يفتنهم، وأن ينتصر عليهم، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]. وزيادة في التحذير منه ينبههم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية، فعليهم الحذر حتى لا يأخذهم على غِرَّة، ومعرفة الثغور التي يدخل منها، وسدها في وجهه. وقد قدَّر الله أن يكون هو ولي الذين آمنوا، وقدر كذلك أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، ويا ويل ويا خسارة من كان عدوه وليه، إنه يسيطر عليه ويقوده حيث يشاء. وقد طلب الشيطان من ربه الإنظار إلى يوم القيامة، لا ليندم على معصيته وخطيئته في حضرة الخالق العظيم، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم، ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده من هداه، إنه يربط لعنة الله له بآدم، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} ... [الحجر: 36 - 38]. فلما أنظره الله أعلن خليقة الحقد، وخليقة الشر، وخليقة العداوة على البشرية في الأرض، وحدد عدته فيها وهي تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته

المصطنعة على ارتكابه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39، 40]. وهكذا لا يقترف الإنسان الشر إلا وعليه مسحة من الشيطان تزينه وتجمله، وتظهره في غير حقيقته وردائه، وتغري بارتكابه. فليفطن المسلمون إلى عدة الشيطان، وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزييناً، وكلما وجدوا في نفوسهم اشتهاءً. وشرط الشيطان أن يغوي الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين. وقد شرط هذا الشرط؛ لأنه يدرك أن لا سبيل إلى سواه. لأن سنة الله أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه ومن ثَمَّ كان الجواب: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 41، 42]. هذه سنة الله: المؤمنون لا سبيل لك عليهم، ولا تملك أن تزين لهم؛ لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ومداخلك إلى نفوسهم مغلقة. إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين، فالشيطان لا يتلقف إلا الشاردين، كما يتلقف الذئب الشاردة من الغنم. وأما عاقبة الغاوين فهي معلنة في الساحة منذ البدء: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 43، 44]. إن حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين، ويغفل نفخة الله في هذا الطين كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)} [الإسراء: 61]. ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق، واستعداده لإغوائه بلا حياء فيقول: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)} [الإسراء: 62].

ويغفل الشيطان عن استعداد الإنسان للخير والهداية، واستعداده للشر والغواية، وعن حالته التي يكون فيها متصلاً بالله، فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية. ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة، التي لا تعرف إلا طريقاً واحداً تسلكه بلا إرادة كالملائكة. ويشاء الله عزَّ وجلَّ أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني آدم: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} [الإسراء: 63]. اذهب فحاول محاولتك، اذهب مأذوناً لك في إغوائهم، فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك .. ويملكون أن يعرضوا عنك. فمن تبعك منهم مغلِّباً جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضاً عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلاً عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، فإن جهنم جزاؤكم أنت وتابعوك. واستخدم في إضلالهم جميع وسائل الغواية والإضلال للاستيلاء على القلوب والعقول والمشاعر، وعِدْهم بما يغريهم بما تريد من المعاصي، كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص، والوعد بالغنى من الأسباب الحرام، والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والخسيسة، والوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة. فالشيطان يزين للإنسان المعصية، وهو يلوح له بسعة الرحمة الإلهية، وشمول العفو والمغفرة، ولكن هناك من لا سلطان لك عليهم؛ لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورَجِلك كما قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} ... [الحجر: 42]. فمتى اتصل القلب بالله .. واتجه إليه بالعبادة .. وارتبط بالعروة الوثقى .. فلا سلطن حينئذ للشيطان عليه .. وكفى بربك وكيلاً يعصم وينصر، ويبطل كيد الشيطان.

وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. حقاً إن وعد الله حق، وإنه لآت لا ريب فيه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6]. إن الحياة تغر وتخدع .. فلا تغرنكم الحياة الدنيا .. وإن الشيطان يغر ويخدع .. فلا تمكنوه من أنفسكم. والشيطان قد أعلن عن عداوته للبشرية، فليتخذوه عدواً، ولا يركنوا إليه، ولا يقبلوا منه نصيحة، ولا يتبعوا خطاه. فالعاقل لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل، والشيطان لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. فهل يليق بالعاقل أن يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟. إن الإنسان حين يستحضر المعركة الخالدة مع الشيطان فإنه يتحفز بكل قواه .. وبكل يقظته .. دفاعاً عن النفس .. وحماية للذات: يتحفز لدفع الغواية والإضلال والإغراء .. ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه .. ويتوجس من كل هاجسة .. ويسرع ليعرضها على ميزان الله وشرعه. إن القرآن ينشئ في القلب حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة، ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً. وهاهي عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان، وحالة المؤمنين الذين طاردوه: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} ... [فاطر: 7]. أما طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيئ منه الشر

كله، فهو أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8]. هذا هو مفتاح الشر كله، أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، أن يُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، أن لا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ، متأكد دائماً أنه على صواب. فيُعجب بكل ما يصدر عنه، مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، ولا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله، أو في رأي يراه. هذا هو البلاء العظيم الذي يصبه الشيطان على الإنسان، ويغرقه به، وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال ثم إلى البوار. إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر، فلا يأمن مكر الله .. ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل .. ولا يأمن النقص والعجز: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]. فالمؤمن دائم التفتيش في عمله .. دائم الحساب لنفسه .. دائم الحذر من الشيطان .. دائم التطلع لعون الله وتوفيقه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. إن كل من زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً مثال للإنسان الضال الهالك البائر، الصائر إلى شر مصير. ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين .. هو هذا الغرور .. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق .. ولا يحسن عملاً؛ لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء .. ولا يصلح خطأ؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ. أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟.

أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب ربه؟. أفهذا يستوي مع المؤمنين الأتقياء؟. والله سبحانه له الخلق والأمر وحده، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة، وهو مستحق لها بما زين له الشيطان من سوء عمله، وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال، وبمطاوعته للشيطان، وتسليم نفسه له: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 37]. إن طبيعة الضلال برؤية العمل حسناً وهو سوء، وطبيعة الهدى بالحذر والمحاسبة والتقوى، وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فالهدى والضلال ليس من أمر البشر، إنما هو من أمر الله وحده، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهو مقلب القلوب والأبصار، يعلم من يستحق الكرامة فيكرمه، ومن يستحق الإهانة فيذله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8]. وهذه حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من خير .. ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون .. ولا يرون ما فيها من الخير والجمال .. ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال والآداب. وما أجمل أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى الله بها رسوله، فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى جهدهم، ثم لا يَأْسَوا ولا يحزنوا بعد ذلك على من لم يقدِّر الله له الصلاح والفلاح. إن الله عليم بما يصنعون، يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه، والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم، ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].

والشيطان لا يبذل جهده لمن باع نفسه للمعصية، وانطلق يخالف كل ما أمر الله به، ويتمرغ في الكفر والظلم والمحرمات. فالنفس الأمارة بالسوء ليست محتاجة إلى إغواء؛ لأنها تأمر صاحبها بالسوء: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. ولذلك فإن إبليس لا يذهب إلى الحانات، وأماكن اللهو والفجور، ومستنقعات الزنا والرذيلة والفساد. فهذه الأماكن كل من يذهب إليها ذاهب إلى معصية، وليس في حاجة إلى إغواء؛ لأنه قد اختار هذا الطريق العفن. ولكن إبليس يذهب إلى بيوت الإيمان، وبيئات الطاعة، وأماكن العبادة، وساحات الفضيلة، ومن سار على الصراط المستقيم عابداً وداعياً، ومعلماً ومربياً، ومحسناً ومتصدقاً، وناصحاً ومرشداً. هؤلاء الذين يبذل معهم إبليس كل جهده، وكل حِيَله، وكل مَكْره، وكل كيده، وكل إغوائه، ليصرفهم عن عبادة الله كما قال الله عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِْبنِِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ («فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ

الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه أحمد والنسائي (¬1). فالشيطان لا يقعد لبني آدم على الطريق المعوج؛ لأن الطريق المعوج لا يحتاج إلى جهد؛ لأنه بطبيعته يتبع الشيطان. ومن هنا فإن إبليس يغوي أهل الطاعة، لا أهل الشر والفساد، بأن يزين للمسلمين المعاصي والفواحش، ويغريهم بمد أيديهم إلى المال الحرام، أو بترك واجب، أو فعل محرم، ونحو ذلك مما حرمه الله. والله سبحانه اختار للإنسان طريق الخير والحياة الكريمة في الأرض، ورسمه له وبينه، ولكن الشيطان يأتي ويزين له طريق الباطل، ويحاول أن يصور له أن فيه خيراً. فإذا سقط الإنسان في الشر هرب إبليس ونال الإنسان العقوبة، فجميع الجرائم يزين الشيطان للإنسان أنه سيفلت منها. ويظل يوسوس له، ويقنعه حتى يقتنع، ثم بعد ذلك ينكشف أمره، فيهرب الشيطان ويترك الإنسان يواجه مصيره كما غرَّ الكفار في غزوة بدر كما قال سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: 48]. وكما دخل إبليس من ناحية الغفلة لآدم، دخل كذلك من ناحية الغفلة لأبناء آدم يريد أن يغويهم ويضلهم. فهناك عداوة سابقة بين إبليس وآدم، وإبليس طُرد من الجنة بسبب آدم (، وطرد من رحمة الله بسبب معصية عدم السجود لآدم، فهو عدو لآدم وذريته إلى يوم القيامة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16054)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2979). وأخرجه النسائي يرقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2937).

وطلب إبليس من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم البعث؛ لينتقم من آدم وذريته بإبعادهم عن الصراط المستقيم، وإغرائهم بكل معصية تكون سبباً لدخولهم النار. والشيطان يشم ابن آدم، ويأتيه من الباب الذي يسهل دخوله منه عليه، فإذا وجد الإنسان متشدداً في جهة، أتاه من الجهة التي هو فيها ضعيف. فإذا كان الإنسان متشدداً في الصلاة يحافظ عليها، ويؤديها في أوقاتها، ويواظب على فرائضها ونوافلها، جاءه إبليس من ناحية المال، فيوسوس له حتى لا يخرج الزكاة، ويقتر ويأكل حقوق الناس، مدخلاً السرور على نفسه بأن هذه الطريقة تزيد ما عنده، وتجعله غنياً آمناً مطمئناً. والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وتضع البركة فيه، وتجعله يزداد وينمو، والمال مال الله، ينتقل من يد إلى يد، وحينما يحين الأجل يتركه الإنسان ويمضي. وللشيطان خطوات في هذا: فيمنعه من الصدقات أولاً، ثم يمنعه من الزكاة، ثم يغريه بأكل الأموال المتشابهة، ثم يغريه بأكل المال الحرام، ونهب أموال الناس، ثم يغريه بالتوسع في الشهوات، ثم يدخله المحرمات، ثم يهوِّن عليه ارتكاب الكبائر، ثم تبدأ المعاصي تزيد شيئاً فشيئاً، حتى تغطي القلب كله، وتمنعه من ذكر الله، وامتثال أوامره، ولا يتركه الشيطان حتى يخرجه من الإسلام: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38]. وإن وجد الشيطان في المؤمن تشدداً من ناحية الصلاة والزكاة، ووجد ضعفاً من ناحية النساء، أتاه من ناحية هذا الضعف، فيظل يزين له امرأة خليعة أو صالحة، ويزينها في نظره، ويغريه بسماع صوتها، ورؤية جمالها، ويوسوس له ولها، حتى يسقط في الحرام، ومتى سقط في الزنا سقط في الكبائر. فإن كان قوياً في هذه النواحي كلها جاء إبليس وزين له مجالس الخمر، ومجالس السوء والغيبة والنميمة .. وهكذا حتى يظفر به.

وهناك فرق بين معصية يوحي بها الشيطان .. ومعصية تصر عليها النفس. فإذا حدثتك نفسك بمعصية، وأصررت عليها، فاعلم أن النفس هي التي قادتك إلى هذا اللون من المعصية؛ لأن النفس تريد من صاحبها أن يحقق لها رغباتها وشهواتها. أما إبليس فليس على هذا المنوال، فإبليس يريد من المؤمن أن يكون عاصياً بأي شكل من أشكال المعصية، ولا يهمه نوع معين من العصيان في ذاته. فإذا طرق الشيطان لك باباً، ووجدك فيه متشدداً متمسكاً لا تصغي إليه، انطلق يطرق باباً آخر يجدك فيه مصغياً إليه، قابلاً منه .. وهكذا ينتقل من باب إلى باب حتى تسقط في قبضته، وتستمع إليه، وتستجيب لأمره. وكل عبادة للأصنام والأوثان والقبور، وكل معصية تقع من الإنسان، فإنما هي عبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بها الإنسان وزينها له، وغره بها، فأطاعه وعصى ربه الذي حذره منه كما قال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].

2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} ... [النحل: 98 - 100]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. الناس فريقان: أولياء الرحمن .. وأولياء الشيطان. والله عزَّ وجلَّ إنما يسلط الشيطان على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، فلما تولوه من دون الله، وأشركوا معه، عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم. وهذه عقوبة خلو القلب وفراغه من الإيمان والإخلاص، والإنابة العاصمة من ضدها، وإخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان، وإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده، وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص، وإلهام الفجور عقوبة خلوه من الإخلاص. ولله سبحانه عقوبتان: إحداهما: جعله العبد خاطئاً مذنباً لا يحس بألم العقوبة ومضرتها، لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. فالعقوبة الأولى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]. والعقوبة الثانية: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

فالعقوبة الثانية ترتبت على الأًوْلى، لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لهواه وإرادته فلهذا لا يشعر بها، والثانية مخالفة لما يحبه ويلتذ به، ولذلك يتألم بها. والله سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها، الذي لا يليق بها غيره، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ومن يستحق الكرامة، ومن يستحق الإهانة. والإخلاص لله والمحبة له والإنابة إليه محض منَّته وفضله على عبده، وهو من أعظم الخير الذي هو في يده، فالخير كله في يديه، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه الله، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه الله. فإن قيل: فمن لم يخلق الله ذلك في قلبه، ولم يوفقه له، ولا سبيل له إليه بنفسه، ألا يكون منعه منه ظلماً؟. قيل: لا يكون منه سبحانه ذلك ظلماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه. وأما إذا منع غيره ما ليس حقاً له، بل هو محض فضله ومنَّته عليه لم يكن ظالماً بمنعه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. والشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، ويحرمه من ثوابه. وكلما كان الفعل أنفع للعبد، وأحب إلى الله تعالى، كان اعتراض الشيطان له أكثر، فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير، ولا سيما عند قراءة القرآن، ومناجاة الله، والقيام بين يديه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ

اغْفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي» متفق عليه (¬1). وقد أمر الله سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه، ويواصل سيره في طاعة ربه كما قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]. فليس للشيطان طريق ولا سلطان يتسلط به على الذين آمنوا، لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة. إنما سلطان الشيطان على أهل الشرك، وعلى من تولاه، بالإغواء والإضلال، وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك، ويزعجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} ... [مريم: 83]. ولكن ليس للشيطان عليهم سلطان حجة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت دعوته أهواءهم وأغراضهم. فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا بأيديهم، واستأسروا له، سلط عليهم عقوبة لهم. وسنة الله تبارك وتعالى أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً كما قال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]. فهذا هو الأصل، ولكن المؤمنين يصدر منهم من المعاصي والمخالفات التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته فأصابهم ما أصابهم واستزلهم الشيطان بما كسبوا. والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطاناً، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به وموالاته، فجعل الله حينئذ له على الإنسان تسلطاً وقهراً. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (461) واللفظ له، ومسلم برقم (541).

فالتوحيد وفروعه، والإيمان وشعبه من التوكل، والإخلاص، واليقين يمنع سلطان الشيطان على الإنسان. والشرك وفروعه من البدع، والمعاصي، والمنكرات يوجب سلطانه كما قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} ... [النحل: 98 - 100]. والجميع بقضاء مَنْ أَزِمَّة الأمور بيده، ومردها إليه، وله الحجة البالغة سبحانه فيما قضى وقدر، وفيما حكم وشرع. والإرسال في القرآن نوعان: إرسال كوني .. وإرسال شرعي. فالإرسال الكوني كما يرسل الله الرياح، ويرسل المياه على الأرض، وإرسال الشياطين على الكافرين كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} ... [مريم: 83]. فهذا الإرسال كوني قدري كإرسال الرياح، فهو إرسال تسليط، فلما كفروا عاقبهم الله بتسليط الشياطين عليهم، فأُرسلوا عليهم وقُيضوا لهم بكفرهم كما قال سبحانه: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} [فصلت: 25]. فقيض الله لهؤلاء الكفار بسبب كفرهم وجحدهم الحق قرناء من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. فالدنيا زخرفوها بأعينهم، ودعوهم إلى لذاتها، وأغروهم بشهواتها المحرمة، حتى افتتنوا فأقدموا على معاصي الله، وسلكوا ما شاءوا من محاربة الله ورسله وأوليائه. والآخرة بعَّدوها عليهم، وأنسوهم ذكرها، ووسوسوا لهم بعدم وقوعها، فترحَّل

خوفها من قلوبهم، فقادتهم الشياطين إلى شهوات الدنيا، وشغلتهم بها حتى غفلوا عن الآخرة، ووقعوا في الكفر والشرك والبدع والمعاصي وجروا غيرهم إليها، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} ... [مريم: 83]. وهذا التسليط والتقييض من الله للشياطين على الكافرين والمكذبين والعصاة بسبب جحودهم الحق، وإعراضهم عن ذكر الله وآياته كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} ... [الزخرف: 36، 37]. أما الإرسال الشرعي فكما أرسل الله رسله إلى البشر بالدين الحق يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما سواه كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9]. فالإرسال نوعان: إرسال دين يحبه الله ويرضاه كإرسال رسله وأنبيائه إلى عباده .. وإرسال كون وهو نوعان: نوع يحبه ويرضاه كإرسال ملائكته وتدبير أمر خلقه، ونوع لا يحبه بل يسخطه كإرسال الشياطين على الكفار. وكل عبد عاجز عن جلب المنافع الدينية والدنيوية، ولذلك شُرع له أن يذكر الله على كل أحيانه، ويستعين به في جميع أحواله، فيذكر اسم الله في كل عمل خاصة عند تلاوة القرآن الذي فيه منافع الدنيا والآخرة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية كل سورة. وكذلك العبد عاجز عن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأعظم ما يسبب هذه المضار الشيطان لحسده الإنسان، ولهذا شرع للعبد أن يستعيذ بالله منه، فإنه منبع الشرور والآثام خاصة عند تلاوة القرآن الذي فيه كل خير ونعمة للإنسان كما قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98].

فلا قادر على جلب المنافع الدينية والدنيوية وإيجادها إلا الله وحده، ولا قادر على دفع المضار الدينية والدنيوية إلا الله وحده. فليستعن العبد بربه، وليستعذ به من كل شر وشيطان. والجن والإنس كل منهما يستمتع بالآخر، فاستمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به من الكفر، والفسوق والعصيان، فهذا أكثر أغراض الجن من الإنس. واستمتاع الإنس بالجن أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه من التحسين والتزيين، وقضاء الحوائج، واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها. فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم من الشرك والفواحش والفجور، وأطاعهم الجن فيما يرضيهم من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات، فتمتع كل من الفريقين بالآخر، شياطين الجن، وشياطين الإنس. فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته على أسباب فسوقه، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له فيُسَرّ بذلك. والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه، وإعانته له. فكل من الثقلين ممتَحَن بالآخر، ومبتلى به. فما أعظم إضلال الشياطين لبني آدم؟ وما أكثر ما أفسدوه منهم؟. وسوف يسأل الله جميع الثقلين من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل، عما عملوا وما اقترفوا من الآثام والفواحش كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} ... [الأنعام: 128]. فلما بلغوا الأجل، وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث قال الله لهم: النار

مثواكم خالدين فيها، فقد انقطع زمن التمتع، وانقضى أجله، وبقي زمن العقوبة، وانقضى زمن الشرك والكفر، وبقي زمن العذاب والعقوبة: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63]. والشيطان عدو للإنسان، واقف له بالرصد على طريق كل خير، وأحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، خاصة عند قراءة القرآن الذي هو نور وشفاء وهدى للناس. ولهذا أمر الله بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن كما قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} ... [النحل: 98]. وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى، كان اعتراض الشيطان له أكثر، وكيده له أعظم.

3 - فقه خطوات الشيطان

3 - فقه خطوات الشيطان قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. خطوات الشيطان وطرقه يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح، فالشيطان يأمر بكل ما تستفحشه العقول والشرائع من الذنوب العظيمة، والكبائر المهلكة، وكل ما تنكره العقول ولا تعرفه من المعاصي والفواحش، ولولا فضل الله ورحمته على العباد ما تطهر أحد من اتباع خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يسعى هو وجنده في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميّالة إلى السوء، أمّارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، فلو خُلِّى وهذه الدواعي ما زكا أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات، والنماء بفعل الحسنات. ولكن الله بفضله ورحمته يزكي من يعلم منه أنه يتزكى بالتزكية كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21]. وقد أمر الله المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة، ويعملوا بجميع شرائع الإسلام، ولا يتركوا منها شيئاً، فيفعل المسلم كل ما يقدر عليه من الأعمال الصالحة، وما يعجز عنه ينويه فيدركه بنيته. ولا يمكن الدخول في السلم كافة إلا باتباع شريعة الرحمن، ومخالفة طرق الشيطان في العمل بمعاصي الله، فالشيطان يأمر بكل سوء وفاحشة، وبكل منكر وضرر، وبكل محرم وقبيح.

فالسبل التي يسلكها الإنسان أربعة: اليمين .. والشمال .. والأمام .. والخلف. وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصداً له. فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها ويبطِّئه ويعوقه، وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له، وخادماً، ومعيناً ومزيناً كما قال سبحانه عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} ... [الأعراف: 16، 17]. فالشيطان يضل الناس ويغويهم، ويستعمل لتحقيق مراده منهم هذه الجهات الأربع، فبقى للإنسان جهتان: الفوق .. والتحت، لا يقدر عليهما الشيطان، فإذا رفع الإنسان يديه إلى الله في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته ساجداً لله على الأرض على سبيل الخشوع والخضوع، غفرت ذنوبه؛ لأن الباب مفتوح، والدعاء مسموع، والتوجه إلى الله حاصل. وخطوات الشيطان في إفساد الدين والأخلاق والعباد كثيرة جداً، وأشدها وأخطرها ما كان مزيناً للناس بصورة الحق ومن ذلك: أن الله عزَّ وجلَّ أمر بإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، ونهى عن الشرك بالله، ثم أظهر الشيطان للمسلمين الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم. ومنها أن الله سبحانه أمر بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، ثم أظهر الشيطان للأمة أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وتحول العلم الشرعي إلى خلاف وجدل فرَّق الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب متناحرة، وصار الأمر بالاجتماع في الدين مستحيل لا يقوله إلا أحمق أو مجنون. ومنها أن الله سبحانه أمر بالسمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً إلا

في معصية الله، ثم صار هذا الأصل بسبب كيد الشيطان لا يعرف عند كثير ممن يدعي العلم فكيف العمل به؟. ومنها أن العلم الشرعي هو ما جاء عن الله ورسوله (، ثم أظهر الشيطان للأمة أن العلم والفقه في الدين هو البدع، ومعرفة الخلاف وأصول الجدل. وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا منافق أو جاهل بزعمهم، وصار من أنكره وعاداه وجَدَّ في التحذير منه هو الفقيه العالم. ومنها ترك القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المختلفة، بحجة أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا العالم المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا مما يتعذر وجوده. ومنها أن الله عزَّ وجلَّ ذكر أنه أنزل القرآن ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فزين لهم الشيطان أن الأمر ضد ذلك، وأنهم ما تأخروا إلا بسبب التمسك بالقرآن. وذكر سبحانه أن الإيمان سبب للعلو والعز في الدنيا والآخرة، فأظهر الشيطان للناس أن العلو والرفعة والشرف بتعلم علم اليهود والنصارى، فأقبلوا على ذلك، وجفا أكثرهم كتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وأنزل الله القرآن عربياً لعلهم يفقهونه، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، فأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وصعوبة فهم القرآن. ومنها أن الله ذكر أن الأمة لو عملت بالدين الحق لصلحت دنياها وأخراها، فزين لهم الشيطان ضد ذلك، وذكر سبحانه أنه الله أنزل القرآن تفصيلاً لكل شيء، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأنه من يتوكل على الله فهو حسبه، فأظهر لهم الشيطان أن الأمر بخلاف ذلك. وذكر الله أن تزوج الفقير سبب لغناه، وأن صلة الرحم، وإخراج الزكاة سبب لزيادة المال وكثرته، فظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك، وتُركت الزكاة خوفاً من نقصه، وغير ذلك مما زينه الشيطان وأضل به العباد مما عم وطم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ

عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. وكيد الشيطان خفي ماكر، فكم اصطاد به من الرجال والنساء، ومن العلماء والخاصة والعامة. والمداخل التي يأتي الشيطان من قِبَلها إلى الإنسان ثلاثة: الشهوة .. والغضب .. والهوى. فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالماً لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل. والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأشد خطراً، وبالغضب يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره، ومن نتائجه العجب والكبر. والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وأعظم من الغضب، وبالهوى يكون الإنسان ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره من المخلوقات، ويتعدى ظلمه إلى خالقه بجحد حقه بالكفر والشرك والمعاصي، ومن نتائجه الكفر والبدعة. وأكثر ذنوب الخلق بهيمية؛ لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]. وجميع الشرور في العالم إنما سببها الشيطان، فهو يجتهد على بني آدم بكل ما يستطيع من وسائل ليخرجهم من الحق إلى الباطل، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن السنة إلى البدعة، ومن الطاعات إلى المعاصي. وللشيطان خطوات وطرق ووسائل يسلكها لإضلال الناس عن الهدى. وللشيطان شرور كثيرة، ولكن ينحصر شره في سبع خطوات، ولا يزال بابن آدم حتى يوقعه في واحدة أو أكثر، وهي كما يلي: الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخرجه من الإيمان إلى الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك، وهذه أعظم شروره وأكبرها وأخطرها، فإن عجز عنه نقله إلى ما بعده وهو:

الشر الثاني: وهو شر البدعة التي هي باب الكفر والشرك، فإن يئس منه نقله إلى ما بعده وهو: الشر الثالث: شر الكبائر على اختلاف أنواعها، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو: الشر الرابع: شر الصغائر من الذنوب التي ربما اجتمعت عليه فأهلكته، فإن عجز عنه نقله إلى ما دونها وهو: الشر الخامس: وهو إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب عن الطاعات والواجبات، فإن عجز عنه نقله إلى ما دون ذلك وهو. الشر السادس: وهو إشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، كإشغاله بالنوافل حتى تفوت الفرائض، وبتوزيع المال حتى تفوت صلاة الجماعة. فإن أعجزه العبد في كل ما سبق نقله إلى آخر ما يقدر عليه وهو: الشر السابع: بأن يسلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن بأنواع الأذى، والتكفير، والتضليل، والتبديع، والتفسيق، والتحذير منه، وقصد إخماله. ليشوش عليه قلبه .. ويشغل بحربه فكره .. وليمنع الناس من الانتفاع به .. فحينئذ يلزم المسلم أن يلبس لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله بثواب المجاهدين: و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. والشيطان للإنسان عدو مبين، وهو الآن يُسيِّر الأمة ويخطو بها للتوسع في الحلال والمباحات والشهوات .. والحرام حد المباحات .. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المباحات إلى المحرمات لتكميل شهواته .. والكفر حد المحرمات .. فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى ينقله من المحرمات إلى الكفر لتكميل شهواته وإضاعة أوامر الله. فهذه خطوات الشيطان: التوسع في المباحات، ثم الدخول في المحرمات، ثم الكفر وترك أوامر الله من

أجل الشهوات، ثم الدعوة إلى الكفر والمعاصي كما يفعل الشيطان، فليحذر العبد من كيد الشيطان ومكره: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169]. وقلب الإنسان كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه، ويقيم فيه، ويطرد من فيه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها. وأبواب الشيطان ومداخله التي يدخل منها إلى القلب صفات العبد. ومن أبوابه العظيمة التي يهلك بها الناس باب الحسد والحرص، فإن الشيطان يحسِّن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان فاحشاً أو منكراً أو حراماً. ومنها باب الغضب والشهوة والحدة، فالغضب غول العقل، والشهوة بحر يركض فيه الشيطان، وإذا ضعف جند العقل هجم الشيطان، فلعب بالإنسان، وزجه فيما حرم الله. ومنها حب التزين في الثياب والأثاث، والمساكن والمراكب، فلا يزال الشيطان بالإنسان حتى يخسر عمره وأوقاته في التشييد والتزيين. ومنها باب الشبع، فالشبع يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة. ومنها باب الطمع، فإن من طمع في شخص بالغ في الثناء عليه بما ليس فيه، وداهنه فلم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر. ومنها باب العجلة وترك التثبت، ليقع المسلم في الأخطاء والآثام والمحرمات. ومنها حب المال، وحب المال إذا تمكن من القلب أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه، وأخرجه إلى البخل وخوف الفقر، فمنع الحقوق اللازمة ومنها سوء الظن بالمسلمين، فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه احتقره وأطلق فيه لسانه، ورأى نفسه خيراً منه.

وسوء الظن يدل على خبث الظان؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه، وعلى المسلم أن يحترس من مواقع التهم؛ لئلا يُساء به الظن. وعلاج هذه الآفات يكون بسد المداخل التي يدخل منها دخان الشيطان، وتطهير القلب عن الصفات المذمومة بالتوبة والاستغفار كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208]. وقال سبحانه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268]. وإذا غلب على الإنسان هواه استسلم للشيطان وجنوده، فقادوه حيث شاؤوا، وله معهم حالتان: إحداهما: أن يكون من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف. الثانية: أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط الداعية المتبوع المبتدع. فيصير إبليس وجنده من أعوانه وأتباعه، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة. وهذه الحالة هي حالة جَهْد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعَمَل أصحابها المكر والكذب، والخداع والغرور، والتسويف بالعمل، وطول الأمل، وإيثار العاجل على الآجل. وهؤلاء أئمة جنود الشيطان، وهم أنواع شتى: فمنهم المحارب لله ورسوله .. الساعي في إبطال ما جاء به الرسول .. يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً .. ومنهم المقبل على دنياه وشهواته فقط .. ومنهم المنافق الذي يأكل بالكفر والإسلام .. ومنهم الماجن الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب .. إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين اتبعوا

شهواتهم، فسلط الله عليهم من كان حقهم أن يتسلطوا عليه وهو الشيطان، وجعلهم تحت قهره وتصرفه وسلطانه، يسخرهم حيث شاء، ويَسْخر منهم ويزعجهم إلى كل معصية وفاحشة وشر. وشياطين الإنس والجن منهم من يختار الكفر والشرك والمعاصي، وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر، ويلتذون به، ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم، وإن كان موجباً لعذابهم، وعذاب من يغوونه. والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله. والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب إليه السحرة والكهان بما يحبه من الكفر والشرك صار ذلك كله كالرشوة له، فيقضي بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة أو سرقة.

4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

4 - فقه كيد الشيطان للإنسان قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} ... [النساء: 76]. وقال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63]. الشيطان عدو للإنسان، فأيما سبيل سلكه الإنسان يمين أو شمال، أمام أو خلف، إلا وجد الشيطان عليه رصداً له. فإن سلكه في طاعة قطعه أو عاقه .. وإن سلكه في معصية حمله وزينها له: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120]. فالشيطان كما أخرج آدم وزوجه من الجنة، يريد أن يفتن ذريته كذلك، ويخرجهم من التوحيد إلى الشرك، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن السنن إلى البدع، وبذلك ينقلهم من أعمال الجنة إلى أعمال النار، ويخرجهم من الجنة إلى النار كما أخرج أبويهم وأغراهم بمعصية الله، فليحذر الناس من فتنته كما أمرهم ربهم بقوله: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]. فالشيطان للإنسان عدو مبين، وقد كشف الله لنا عن هذه العداوة، فهو يريد إضلال بني آدم وإهلاكهم، وقد غرَّ أكثرهم فزين لهم عبادة الأصنام والأوثان والكواكب والأحجار والأشجار وغيرها، وهم في الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم، وأمرهم بعبادتها: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ

وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} ... [النساء: 117 - 119]. وكما أن الشيطان عدو للإنسان، فيجب على الإنسان أن يتخذه عدواً، يجاهده ويخالفه، ولا يطيعه أو يغتر به كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6]. وقد وعد الله عباده المؤمنين على طاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، بالمغفرة والرضوان. أما الشيطان فَوَعْده للناس أن يأمرهم بالشر، ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان، فإنه إذا خوف الإنسان من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268]. والشيطان بمكره وكيده وتلبيسه يتلطف في دعوة الناس إلى الباطل، ويأتيهم بصورة ناصح لهم، مشفق عليهم، فيشم قلب ابن آدم لينظر ماذا يحب؟ وماذا يكره؟ .. وماذا يريد؟ .. وماذا يشتهي؟. فإن رأى في قلبه كسلاً سعى في رده عن الدين بالكلية. وإن رأى فيه قوة سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، ليقع في الظلم والعدوان. وإن رأى فيه حب الشهوات شغله بالشهوات والزينات عن السنن والواجبات. والشيطان في كل يوم، بل في كل لحظة، يستفز كثيراً من بني آدم، ويرغبهم ويوقعهم في ألوان الفساد واللهو .. والزنا والسرقة .. والسكر والفواحش .. والظلم وسفك الدماء .. وذلك بالوسوسة والتزيين، والغرور والإغواء .. ولا يزال حتى تم له ما أراد .. واتبعه أكثر الناس كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ

عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. ونية الشيطان في الفساد والإضلال عالمية لجميع الناس في كل زمان وفي كل مكان، فلا زال هو وذريته يعد الناس ويمنيهم، ويشاركهم في الأموال والأولاد، ويجتهد عليهم جميعاً ليفسدهم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]. ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفكره لجميع البشرية كيف يؤمنون بالله، ويعملون بالحق في الدنيا، ويدخلون الجنة في الآخرة. وفكر الشيطان وجهده على جميع البشرية كيف يكفرون بالله، ويعملون بالباطل في الدنيا، ويدخلون النار في الآخرة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6]. وقد كاد الشيطان نفسه قبل كيده للأبوين، وكاد ذرية نفسه، وذرية آدم، فكان مشئوماً على نفسه، وعلى ذريته، وعلى أوليائه من الجن والإنس. أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم - صلى الله عليه وسلم -، كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه، وعزه ونجاته. فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم غضاضة عليه وهضماً لنفسه. فلما قام بنفسه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما خصه الله به من أنواع الكرامة دونه، فإن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته. فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجدوا كلهم إلا إبليس أبى وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} ... [الأعراف: 12]. فعصى الشيطان الرب المعبود، وجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد، والكفر والمعصية، فطرده الله ولعنه.

فأهان نفسه من حيث أراد تعظيمها .. ووضعها من حيث أراد رفعتها .. وأذلها من حيث أراد عزها .. وآلمها من حيث أراد لذتها .. وفعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ ذلك منه. ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع منه العاقل ويقبل منه ويواليه؟. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]. وأما كيده للأبوين (آدم وحواء) فلم يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما أنه ناصح لهما، فاطمأنا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ما جرى، وذلك بمكره وكيده الذي جرى به القلم، وسبق به القدر. ورد الله سبحانه كيد الشيطان عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة أمره عليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} ... [البقرة: 37]. وأما كيد الشيطان لذرية آدم، فلا يزال الشيطان بمكره وكيده يسوق الناس إلى المعاصي والمنكرات والفواحش والآثام: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 118 - 119]. ومن كيد الشيطان للإنسان أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} ... [آل عمران: 175]. ومن كيده أنه يورد الإنسان الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ومسرته، ثم

يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه كما فعل بالمشركين يوم بدر كما قال سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} ... [الأنفال: 48]. ومن كيده أنه يأمر الإنسان ويزين له السرقة والزنا، والقتل والكفر، ثم يتبرأ منه ويسلمه ويشمت به: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)} [الحشر: 16]. ثم يتبرأ الشيطان من جميع أوليائه في النار، ويقول لهم: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22]. فأوردهم كل الموارد، وتبرأ منهم كل البراءة، في وقت لا ينفع فيه الندم. ومن مكايد الشيطان العظيمة أنه يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله. فيزين للعقل الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره. فسبحان الله كم فتن الشيطان بهذا السحر من إنسان؟. وكم حال به بين القلب والإسلام والإحسان؟. وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة حسنة؟، وكم شنَّع على الحق وأخرجه في صورة مستهجنة؟. فهو الذي سحر العقول وألقى أربابها في الأهواء والبدع، وسلك بهم سبل الضلال، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ونكاح الأمهات، ووأد البنات، وهو الذي حسَّن الشرك والفسوق والعصيان لآدم وذريته. فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة .. وصاحب قابيل حين قتل أخاه هابيل .. وصاحب قوم نوح حين أغرقوا .. وصاحب قوم عاد حين أهلكوا بالريح

العقيم .. وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة .. وصاحب قوم لوط حين قلبت عليهم ديارهم ثم رجموا بالحجارة .. وصاحب فرعون وقومه حين أغرقوا .. وصاحب قريش حين هزموا وهلكوا يوم بدر. وهو صاحب كل هالك ومفتون إلى يوم القيامة. ومن كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها، قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الإحجام والمهانة. فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في إضعاف همته وتثبيطه عن فعل المأمور به، وثقله عليه، ثم يهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به. وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة: فيقصر بالأول .. ويتجاوز بالثاني .. ليبعد العبد عن سلوك الصراط المستقيم، ويسلك به صراط الجحيم. فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير .. وإما إلى مجاوزة وغلو. ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر، وقد هلك أكثر الناس في هذين الواديين: وادي التقصير .. ووادي المجاوزة. وقليل منهم من يثبت على الصراط المستقيم الذي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعه. فقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم .. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم. وقصر بقوم حتى منعهم من طلب العلم الذي ينفعهم .. وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به. وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة

والجماعات، والعلم والجهاد .. وتجاوز بآخرين حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام. وقصر بقوم عن الإتيان بواجبات الطهارة .. وتجاوز بآخرين إلى حد الوسواس، وقصر بقوم عن إخراج الزكاة .. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا جميع ما يملكون، وصاروا كلاً على الناس. وقصر بقوم عن تناول ما يحتاجون من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم .. وتجاوز بآخرين حتى أخذوا فوق حاجتهم فأضروا بقلوبهم وأبدانهم. وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح شاة ليأكلوها .. وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على سفك دماء الأنفس المعصومة. وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم .. وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص. وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النكاح فرغبوا عنه بالكلية .. وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الزنا والفواحش وما قدروا عليه من الحرام. وقصر بقوم حتى جفوا العلماء والشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم .. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى. وقصر بقوم حتى منعهم من قبول أقوال أهل العلم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه. وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل .. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا الناس من الإسلام بالكبيرة الواحدة. وقصر بقوم حتى عادَوْا أهل بيت رسول الله وقاتلوهم واستحلوا دماءهم .. وتجاوز بآخرين حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة، وربما ادعوا فيهم الإلهية. وقصر باليهود حتى كذبوا المسيح، ورموه وأمه بما برأهما الله منه .. وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهاً يعبد مع الله.

وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدوها فضلاً .. وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعلمهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح. فلا إله إلا الله كم فتن الشيطان بهذا الكيد والمكر من خلق الله؟. ومن مكائد الشيطان أنه يأمر الغني وصاحب الجاه أن يلقوا المساكين والضعفاء وذوي الحاجات بوجه عبوس؛ لئلا يطمعوا فيهم، ويتجرؤوا عليهم، وتسقط هيبتهم من قلوبهم، فيحرمهم بذلك من محبتهم وصالح أدعيتهم. ومن كيده أنه يغري الناس بتقبيل يد العالم أو الزاهد، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، حتى يرى نفسه ويعجبه شأنها، فيفرح بذلك ويقع في قلبه حتى يظنه حقاً، وذلك الهلاك كله، وهو شر من أرباب الكبائر. ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم من السنة إلى البدعة، وخيل لبعضهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره. فجمع لهم بكيده العظيم ومكره الخبيث بين هذا الظن الفاسد .. والتعب الحاضر .. وبطلان الأجر أو نقصه. ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت الصور أجساماً لها ظل، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى. يطاف عليها .. ويسجد لها .. ويصلى عندها .. وتسكب عندها العبرات .. وتشكى إليها الحاجات .. وتحلق عندها الرؤوس .. وتذبح القرابين .. ويسأل الميت فيها قضاء الحاجات .. وتفريج الكربات .. وإقالة العثرات .. وتشد إليها الرحال من جميع الجهات.

فلله كم اغتال الشيطان من بني آدم، وزين لهم ما كانوا يعملون؟. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]. ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس ليعبدوه من دون الله من شجر أو حجر أو عين أو قبر أو غير ذلك، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله بعلمه، فالأزلام للعلم، والأنصاب للعمل. فلا إله إلا الله كم خدع الشيطان بهذا العمل من البشر، وأنساهم العهد والميثاق؟. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62]. ومن أعظم كيد الشيطان ومكره أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته وتكفيره. فسبحان الله كم شيد الشيطان من القبور التي تعبد من دون الله في العالم؟. وكم غرَّ الشيطان بها كثيراً من الناس حتى عبدوه من دون الله من خلالها؟. فوا أسفاه على النفوس والعقول التي انقادت لعدوها، وعبدته من دون الله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} ... [الأنعام: 71]. ومن مكايد عدو الله ومصايده ما كاد به من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد به قلوب الجاهلين والمبطلين من سماع المكاء والتصدية، والغناء والعزف على الآلات المحرمة، الذي يصد به القلوب عن القرآن، ويجعلها

عاكفة على الفسوق والعصيان. وسماع الغناء والعزف من الرجال محرم، أما سماعه من المرأة الأجنبية فهو أشد حرمة، وأعظم فتنة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} ... [لقمان: 6، 7]. ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله. الحيل .. والمكر .. والخداع .. الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، وإسقاط ما فرضه الله، ومضادته في أمره ونهيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 8 - 10]. ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، تلك البلية العظمى التي استعبدت القلوب لغير خالقها، وملكت القلوب لمن يسومها سوء العذاب من عشاقها، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها ومولاها، ومحبة الصور المحرمة من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته بعشق الصور أشد. فما أعظم تلاعب الشيطان بأكثر الخلق؟. وما أشد فتنته حيث أخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب. ومن أعظم مكايده ومصائده ما كاد به المشركين في عبادة الأصنام، وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم. فطائفة دعاهم إلى عبادة الأصنام من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما فعل بقوم نوح، فأطاعوه وعبدوها إما جهلاً، وإما عناداً لأهل التوحيد.

فمنهم عباد الشمس .. وعباد القمر .. وعباد البقر .. وعباد الحجر .. وعباد الماء .. وعباد النبات .. وعباد النار .. وعباد النور .. وعباد الظلام. اتخذوا لها أصناماً يصلون عندها، ويطوفون بها، ويسألونها الحاجات .. ويقرِّبون لها القرابين، ويقضون عندها الأوقات، ويشدون إليها الرحال. وزين لهم الشيطان وأوقع في نفوسهم أن هذه الأصنام تدبر أمر العالم العلوي والسفلي، تدخل فيها الشياطين وتكلمهم وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يرون الشياطين، فيظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم. فإذا سمع العابد الخطاب والكلام من الصنم اتخذه إلهاً من دون الله. وأضل الشيطان بمكره وكيده وتلاعبه ببني آدم أكثر أهل الأرض، فهم مفتونون بعبادة الشيطان عن طريق الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منهم إلا الحنفاء الموحدون، كما قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]. والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان. وأصل عبادة الأوثان والأصنام تشبيه المخلوق بالخالق في الإلهية حتى عبدوه من دون الله، وجعلوه نداً وعدلاً لله، يعبدونه ويسألونه كما يسألون الله جل جلاله، وزين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم من دون الله، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين الذين أمروهم وزينوا لهم. فعبدوا أقبح خلق الله، وأحقهم باللعنة والطرد والذم وهم الشياطين: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41]. فسبحان الله ما أعظم غفلة العباد، وما أشد مكر الشيطان وكيده حتى جعل طوائف من بني آدم تعبد الأحياء والأموات .. والأنبياء والملائكة .. والإنس والجن .. والنبات والحيوان .. والنور والنار .. والجبال والتراب .. والكواكب

والنجوم .. والمياه والفروج: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37]. فما أخطر كيد الشيطان للإنسان .. فكم أضل من العباد؟ وكم أفسد من الأفراد والأمم والشعوب؟. {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63]. واه لعبدة الأصنام والأوثان .. ماذا تعبدون من دون الله؟ .. وماذا تملك لكم هذه الأصنام والأوثان: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} ... [العنكبوت: 17]. وعبّاد الأصنام والأوثان وإن تآلفوا وتحابوا عليها في الدنيا، فهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ كل من العابد والمعبود من الآخر كما قال سبحانه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25]. ومن كيد الشيطان للإنسان دفعه إلى إظهار كماله، وعدم الاعتراف بتقصيره، كي يسد عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع عن ذاتها، فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به، فتكون أضحوكة للشيطان. ومن اتهم نفسه رأى عيوبها وتقصيرها .. ومن اعترف بتقصير نفسه استغفر ربه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} ... [يوسف: 53]. ومن مكايده أنه يحجب بسيئة واحدة للمؤمن جميع حسناته، وبذلك تفسد الحياة، فإن الإنسان ينسى بتلقين الشيطان، وبما يكمن في جبلته من الظلم مئات من حسنات أخيه المؤمن؛ لأجل سيئة واحدة بدرت منه جهلاً أو نسياناً، فيبدأ

بمعاداته، ويدخل في الآثام. ومن مكايد الشيطان للناس أنه في أعمال الشر والفساد يزين للناس الصبر ويجعله حلواً، وفي أعمال الخير والإصلاح والدعوة والعبادة يجعل الصبر صعباً مراً. ومن مكايده لابن آدم الحزن؛ لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 10]. فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، وثواب الصبر عليه كثواب المصائب التي يُبتلى بها العبد بغير اختياره كالمرض، والألم ونحوهما. ومن مكايده أنه يريد من الإنسان الإسراف والتبذير في أموره كلها. فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر، واللين والرحمة، ما يأمره به الله ورسوله. ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله. وبالإسراف والتبذير تحصل للعبد عقوبتان: الأولى: أن الله لا يحبه؛ لأنه مسرف كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]. الثانية: أنه يصير أخاً للشيطان كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27]. هذه أعظم مكايد الشيطان وشروره في الدنيا، وفساده الذي أوقعه وما يزال يوقعه ببني آدم في الدنيا. أما في الآخرة فالأمر أعظم وأشد، فإن الشيطان إذا قضي الأمر، ودخل أهل

الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، وقف خطيباً في أهل النار، متبرئاً منهم، قائلاً لهم: إن الله وعدكم وعد الحق على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، ووعدتكم الخير كذباً، فلن يحصل لكم ما مَنَّيتكم به من الأماني الباطلة. وما كان لي عليكم من سلطان وحجة حين دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم فاستجبتم لي اتباعاً لأهوائكم وشهواتكم. فإذا كان الأمر بهذه الصورة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب الذي وصلتم إليه. وما أنا بمصرخكم ومغيثكم من العذاب والشدة التي أنتم فيها، وما أنتم بمصرخيّ ولا نافعيّ، فكل له قسط من العذاب. وأنا الآن كفرت بما أشركتموني من قبل، وتبرأت من جعلكم لي شريكاً مع الله، فلست شريكاً لله، ولا تجب طاعتي. وقد وصلت وإياكم إلى ما يعاقب به كل ظالم في نار الجحيم، والظالمون لأنفسهم بطاعة الشيطان لهم عذاب أليم، وهم فيه خالدون أبداً .. فيا لها من عقوبة .. وما أشدها من حسرة .. إذا سمعها أولياء الشيطان منه في سواء الجحيم كما قال سبحانه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22]. والمؤمن الذي نوَّر الله بصيرته بنور الإيمان والتوحيد لا يسلَّط عليه الشيطان، وكلما قرب منه أحرقه نور الإيمان والتوحيد. أما أصحاب الأحوال الشيطانية فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن، وإنما هم من أولياء الشيطان الذين أطاعوه في الشرك، ومعصية الله، والخروج عما بعث به

رسله، وأنزل به كتبه، فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم ببعض المغيبات، واغتر بهم مَنْ قَلَّ حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحَسَّن الظن بمن خرج عن سبيل الله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به. فما أعظم تلاعب الشيطان بالمشركين حتى عبدوه وأطاعوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله، وسيجزي الله الشيطان وأتباعه بنار جهنم كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام: 128]. فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه من الشهوات المحرمة، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له، فيسره ذلك، ويفرح به منه. والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له. وجزاء هذا الاستمتاع المحرم الخلود في نار جهنم، فإنه وإن انقضى زمن التمتع، فقد بقي زمن العقوبة على ذلك.

5 - إفساد الشيطان لأهل الأديان قال الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]. وقال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النحل: 63، 64]. الشيطان عدو مبين لجميع بني آدم، فهو يغريهم ويزين لهم كل ما يضرهم ويشقيهم في دنياهم وأخراهم، ولحسده وبغضه لهم فهو يريد أن يجرهم جميعاً معه إلى النار على مستوى: الأفراد .. والأسر .. والمجتمعات .. والشعوب .. والأمم .. والقرون. وقد حذر الله بني آدم من اتباعه وطاعته، ولكن أكثرهم اتبعوه وأطاعوه بما زين لهم من سبل الباطل، ومراكب الشهوات والشبهات، وأضل منهم جِبلاً كثيراً، وأرداهم إلى النار كفاراً فجاراً. فما أعظم خسارة البشرية بمعصية الرحمن، وطاعة الشيطان؟ وما أعظم غفلتهم حيث لا يتعظ اللاحق بالسابق، ولا الحاضر بالماضي؟. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62]. فلا بدَّ للإنسان من معرفة كيد الشيطان ومكره ليتقي شره، ويسلم من مكره وكيده، ويحذر من طاعته وتزيينه. فمن مكر الشيطان وكيده ما زينه للمشركين من عبادة الأنوار والنيران التي يوقدونها ويعبدونها من دون الله وهم المجوس. ومن مكره وكيده تلاعبه بالصابئة، وهم أمة كبيرة من الأمم الكبار، وهؤلاء كانوا

قوم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - وأهل دعوته، وهم بِحَرَّان، وهم قسمان: صابئة حنفاء .. وصابئة مشركون. والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، زين لهم الشيطان فبنوا لها هياكل مخصوصة، وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى، والبيع لليهود. فلهم هيكل للشمس .. وهيكل للقمر .. وهيكل للزهرة .. إلخ. صوروها واتخذوا لها أصناماً تخصها يعبدونها، ويقرِّبون لها القرابين. وأصل مذهب الصابئة: أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام، وسوف يجزي الله الجميع ويسألهم عما عملوا كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} [الحج: 17]. والصابئة مُقِرُّون بأن للعالم خالقاً حكيماً مقدساً عن العيوب والنقائص، فالموحدون منهم عبدوه، والمشركون قالوا لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، وهي الكواكب التي جعلوا لها هياكل في الأرض. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62]. ومن مكر الشيطان وكيده تلاعبه بالدهرية الذين زين لهم الشيطان فقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وقالوا هذا العالم هو الممسك للأجزاء التي فيه، وجحدوا النبوات. فداء التعطيل .. وداء الشرك .. وداء جحد النبوات .. وداء مخالفة الرسل .. أصل كل بلاء في العالم .. ومنبع كل شر .. وأساس كل باطل .. وقد سَرَت هذه الأدواء

في قرون البشرية إلا من رحم الله. ومن مكر الشيطان وكيده: تلاعبه باليهود حيث دعاهم إلى الشرك في حياة نبيهم موسى - صلى الله عليه وسلم - حيث قالوا: {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138]. فأي جهل فوق هذا؟ لذا قال لهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)} ... [الأعراف: 139 - 140]. لقد طلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهاً مخلوقاً فما أسفه عقولهم؟ وكيف يكون الإله مجعولاً؟. فإن الإله الحق هو الجاعل والخالق لكل ما سواه، والمجعول مربوب مخلوق فيستحيل أن يكون إلهاً. ومن تلاعبه بهم أن زين لهم عبادة العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين والكفار من العقوبة، وشاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه بالنار، ويدقه بالمطرقة، فأي سفه للعقول فوق هذا؟. ومن عجيب أمرهم أنهم لم يكتفوا بجعله إلههم، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى رسول الله إلى الشرك وعبادة غير الله، بل عبادة أبلد الحيوانات وهو العجل، وجعلوه إله كليم الرحمن. بل حتى جعلوا موسى - صلى الله عليه وسلم - ضالاً مخطئاً إلهه، ذهب يطلبه وإلهه هاهنا، وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم كما قالوا لموسى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 87 - 89]. فتعلقوا به، وأحبوه أشد الحب، وأشربوا في قلوبهم العجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا

لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)} [طه: 90، 91]. ومن تلاعب الشيطان باليهود أن زين لهم حتى قالوا لنبيهم موسى (: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} [البقرة: 55]. وزين لهم أن واجهوا نبيهم لما دعاهم إلى القتال بأشنع الكلام حيث: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24]. ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} ... [البقرة: 63، 64]. ومرة يقال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)} ... [الأعراف: 161]. فأزلهم الشيطان لأشنع القول والعمل فقالوا مستهزئين بأمر الله: حنطة في شعيرة، ودخلوا من قِبَل أستاهم، فبدلوا القول والفعل، فماذا فعل الله بهم: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)} ... [الأعراف: 162]. ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البرية قد ظلَّل الله عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وزهدوا في أحسن الأطعمة وأشرفها، واستهانوا بأوامر الله ونعمه، فجازاهم الله من جنس عملهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].

ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَرَقَ بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ثم أمرهم بدخول القرية التي كتب الله لهم، وبشرهم بها، فأبوا طاعته، وامتثال أمره. وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24]. فسبحان من عَظُم حلمه .. حيث يُقابل أمره بمثل هذه المقابلة .. ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب .. وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة .. بل وَسِعهم حلمه وكرمه فظللهم بالغمام .. وأنزل عليهم المن والسلوى من السماء. ومن تلاعب الشيطان بهم أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، فتعنتوا وأكثروا الأسئلة عن البقرة، فشددوا فشدد الله عليهم، وقالوا لموسى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)} [البقرة: 67]. وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنها لما تعينت لهم توقفوا في الامتثال وما كادوا يفعلون. ومن أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]. ومن تلاعب الشيطان بهم أن زين لهم استحلال محارم الله بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه، ومسخوا دينه بالاحتيال، فمسخهم الله قردة وخنازير على استحلالهم محارم الله كما قال سبحانه: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} ... [الأعراف: 166]. ومن تلاعب الشيطان بهم، أنهم لما حُرمت عليهم الشحوم بسبب عدوانهم ومعاصيهم جَمَلُوها وأذابوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها. ومن تلاعبه بهم أن أمرهم وزين لهم اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومن أعظم مكر الشيطان بهم وكيده لهم أن زين لهم قتل الأنبياء الذين لا تنال

الهداية إلا على أيديهم، وزين لهم المعاصي التي توجب غضب الله ولعنته: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61]. ومن تلاعبه بهم أن زين لهم قتل الأنبياء والاستهزاء بهم، ورد ما جاءوا به، وأمرهم باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. فحرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم وتلك عبادتهم إياهم. وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان أن يقتل أو يقاتل من هداه الله على يديه، ويتخذ من لم تُضمن له عصمته نداً لله، يُّحرم عليه ويحلل له حسب هواه، كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} [آل عمران: 112]. ومن تلاعب الشيطان باليهود ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام حتى قتلوهما، ثم سلط الله عليهم من يعاقبهم. ومن مكر الشيطان وكيده وتلاعبه باليهود ما كان منهم في شأن المسيح (، ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله، فكفروا به بغياً وعناداً، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم، فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه هو. فبئس القوم الذين يقتلون أنبياء الله، ويفتخرون بقتل رسله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 157، 158].

ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص وذلة، إلى أن قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم مُلك بعد ذلك، إلى أن بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - فكفروا به وكذبوه وحاربوه وقاتلوه. فأتم الله عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلاً وصغاراً لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح بن مريم من السماء فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} ... [البقرة: 90]. فالغضب الأول من الله بسبب كفرهم بالمسيح (، والغضب الثاني بسبب كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الأحبار والرهبان إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه. وحجروا على الرب سبحانه أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه، ثم رضي أن يكون قواداً لكل عاص وفاسق. وكما أبى عباد الأصنام أن يكون المرسل إليهم بشراً، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً. وكما نزهت النصارى بطارقتهم وأساقفتهم عن الصاحبة والولد، ولم يتحاشوا أن ينسبوا إلى الله الصاحبة والولد، وهو سبحانه الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} ... [الجن: 3]. ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي شاقاً عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل. فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان الملك والرياسة.

ولما سلب الله اليهود ملكهم وعزهم، وأذلهم بسبب كفرهم ومعاصيهم، وقطعهم في الأرض أمماً، انتقلوا من التدبير والإفساد بالقدرة والسلطان، إلى التدبير والإفساد بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع. ومن تلاعب الشيطان بهم أن جعلهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي يزعمون أنه إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به. وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - يقتلهم ولا يبقي منهم أحداً. والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء، الذي يكسر الصليب .. ويقتل الخنزير .. ويقتل أعداءه من اليهود .. وعُبّاده من النصارى .. ويضع الجزية .. ويدعو إلى الإسلام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه (¬1). ومن تلاعب الشيطان بهم أن نسبوا إلى الله ما لا يليق به فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. وقالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم تعب فاستراح في اليوم السابع فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3448)، واللفظ له، ومسلم برقم (155).

أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38]. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يرمون أنبياء الله ورسله بالقبائح، ويقدحون في نبوتهم، ويؤذونهم ويقتلونهم، وقد آذوا نبيهم موسى إلى ما برأه الله منه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69]. ومن قدحهم في الأنبياء، وكذبهم على الله، ما تقشعر له الأبدان، فقد اتهموا عيسى بن مريم بأنه ساحر .. وأنه ولد بغية .. ونسبوا أمه إلى الفجور .. ونسبوا لوطاً إلى أنه وطئ ابنتيه وأولادهما وهو سكران من الخمر .. ونسبوا يوسف - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه حل تكة سراويله .. وتكة سراويل سيدته .. وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته. ومنهم من يزعم أن عيسى كان من العلماء يداوي المرضى بالأدوية. ويزعمون أن المسلمين أولاد زنا .. وأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - متلقاة من أحبار اليهود. وهذا وأمثاله ليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها، ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم والسوءات، أن ينسبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك. وعدواتهم له، ومحاربتهم إياه، وتكذيبهم له، وكيدهم له، كل ذلك أشهر من أن يذكر، وذلك لما تحمله قلوبهم من الكفر والحسد. وقد خلق الله لكل باطل وبُهت حملة .. كما خلق للحق حملة .. وليس وراء بُهت اليهود بُهت: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} ... [المائدة: 13].

ثم استمر الأمر على عهد موسى كليم الرحمن على التوحيد، إلى أن توفي موسى - صلى الله عليه وسلم -، ودخل الداخل على بني إسرائيل، وأقبلوا على علوم الكفار، وقدموها على نصوص التوراة. فسلط الله عليهم من أزال ملكهم، وشردهم من أوطانهم، ومزقهم كل ممزق، وتلك سنة الله في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام الكفار والملاحدة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]. وكذلك النصارى لما أعرضوا عن دين الله سلط الله بعضهم على بعض، كما قال سبحانه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]. وكما سلط الله النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغل المسلمون بذلك، وهجروا كتاب ربهم، فاستولت النصارى على بلادهم، وأصاروهم رعية لهم. وكذلك لما ظهر هذا الأمر ببلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر أهلها، واستولوا عليها، وأهانوا أهلها. وكذلك في المائة الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الباطل والإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على حجاج بيت الله، واستعرضوهم قتلاً وأسراً، واشتدت شوكتهم، واستقر ملكهم في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها. فهذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبباً في دمارهم، وزوال ملكهم. فلنحذر من هذا الشر لئلا يصيبنا ما أصابهم، ويحل بنا ما حل بهم. ثم بعث الله سبحانه بعد موسى (عبده ورسوله وكلمته المسيح عيسى بن مريم (فجدد لهم الدين، وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده لا

شريك له، والبراءة من تلك الأحداث والآراء الباطلة. فعادوه .. وكذبوه .. ورموه وأمه بالعظائم .. وراموا قتله .. فطهره الله منهم .. ورفعه إليه. وأقام الله للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة. ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركّبوا ديناً بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام. هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنصها. ولما أخذ دين المسيح في التغيير والتحريف والتبديل، وظهر الفساد، وعم البلاء، اجتمعت النصارى عدة اجتماعات في أزمنة مختلفة، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن، وقول الزور والباطل. فمرة قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم .. ومرة قالوا: إن الله ثالث ثلاثة .. ومرة قالوا المسيح ابن الله، إله حق من إله حق .. ومرة قالوا: الإله واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد. وهم في ذلك حيارى، تائهون، ضالون، مضلون. لا يثبت لهم قدم .. ولا يستقر لهم قول في إلههم .. بل كل منهم قد اتخذ ألهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ (73)} ... [المائدة: 73]. وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} ... [المائدة: 77]. فانظر كيف أوصل الشيطان هذه الأمة الضالة إلى الكفر والشرك والضلال والكذب: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة: 74، 75]. ولقد ارتكبت النصارى محذورين عظيمين: أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق، وجزءاً منه، وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له. الثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، وأنه نزل من كرسيه ودخل في فرج امرأة، ثم خرج من حيث دخل، رضيعاً يمص الثدي، ويبكي ويجوع، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط. ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصلبوه جهراً، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرَّعوه أعظم الآلام، وهو الإله الحق المعبود المسجود له. فسبحان الله .. ما أعظم هذا البهتان والكذب والافتراء على الله ورسله؟. ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، وبهتان عظيم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 90 - 95].

فما أشنع هذا الكلام الذي نسبوا فيه الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس أن يفعله بعبده؟. وكذبوا على الله عزَّ وجلَّ في كونه تاب على آدم وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في نار الجحيم بسبب خطيئة أبيهم آدم. ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز، حيث عجز أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة. ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا. فسبحان الله كم أضل الشيطان من الأمم عن دينها بمثل هذا؟. وهل يقول بهذا عاقل سوي؟. إنه لا يُعلم أمة من الأمم سَبَّت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة، فهم عار على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. وأما شريعة النصارى ودينهم فقد تلاعب بهم الشيطان، فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح - صلى الله عليه وسلم - ولا دينه البتة: فابتدعوا .. وحرفوا .. وبدلوا .. وكتموا .. وضلوا .. وأضلوا .. وضلوا عن سواء السبيل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} ... [النحل: 63]. فابتدعوا الصلاة إلى المشرق مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلاً، بل كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله. ومن كيد الشيطان ومكره بهم أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة.

فيستقبل المشرق، ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذباً كان أو فجوراً، ويخبره بسعر الخمر والخنزير ونحو ذلك، ولا يضر ذلك صلاته ولا يبطلها. ومواجهة رب العالمين بهذه العبادة قبيح جداً، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى رضاه وثوابه. ومن تلاعب الشيطان بهم ما ابتدعوه من تعظيم الصليب بعد المسيح بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل، وإنما ذُكِر في التوراة باللعن لمن تعلق به. فزين الشيطان لهذه الأمة الضالة، فاتخذته معبوداً يسجدون له، ويحلفون به. ولو كان لهم أدنى مسكة من عقل، لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه، وأن يحرقوه حيث وجدوه، ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة، فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح، هذا لو صح زعمهم أن المسيح صلب وأنى يصح وقد أعلن الله نجاته وسلامته ورفعه إليه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 157، 158]. فبأي وجه يستحق الصليب هذا التعظيم منهم، لولا أن القوم أضل من الأنعام؟. وإن كانوا يقصدون بتعظيمه التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءهم بهم فقد حصل لهم ما هو أعظم من ذلك، فقد نفروا به الأمم عن النصرانية، وعن المسيح ودينه أعظم تنفير. وكأنهم إنما عظموه لأنه ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم ينكسر من هيبته لما حمل عليه. ألا ما أقبح الجهل والسفه، وما أشد ضلال وجرم أولئك؟. {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا

كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]. فأي إله هذا الذي يصلب ويبصق في وجهه؟. وأي صليب يُعظَّم ويُذْكَر، وهو مكان الخزي والعار الذي صلب عليه الإله؟. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. ومن مكر الشيطان وتلاعبه بهم أن زين لهم صياماً لم يأت به المسيح كالصوم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام الحواريين، وصيام لمريم، وصيام للميلاد، وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فالمسيح يعلمون أنه كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه في صوم ولا فطر. وأكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع. فسبحان الله .. كم تلاعب الشيطان بهذه الأمة الضالة كل التلاعب؟. وكم دعاهم فأجابوه؟ .. وكم استخفهم فأطاعوه؟. فتلاعب بهم في شأن المعبود جل جلاله حتى قالوا فيه ما لم يقله أحد من العالمين. وتلاعب بهم الشيطان في أمر المسيح .. وتلاعب بهم في أمه مريم .. وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته .. وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها .. فلا تكاد تجد كنيسة من كنائس النصارى إلا وفيها صورة مريم، وصورة المسيح مصلوباً، وصورة جرجس وبطرس وغيرهم .. وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى. ومن تلاعب الشيطان بهم في أعيادهم أنهم ابتدعوا أعياداً موضوعة مختلقة كعيد ميكائيل، وعيد الصليب، وعيد الفصح، وعيد الميلاد وغيرها. وأما تلاعب الشيطان بهم في صلاتهم: فصلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة، والمسيح بريء من هذه الصلاة، والله سبحانه أجل وأعلى من أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة. ومنها صلاتهم إلى المشرق، وتصليبهم على وجوههم في الصلاة، والمسيح

بريء من كل ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة .. وتحريمها التصليب على الوجه .. وقبلتها المشرق .. وشعارها الشرك .. كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة؟. ولما علمت الرهبان والأساقفة أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شيدوه بالحيل والصور في الحيطان، وطلاء جدران الكنائس بالذهب وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر. وساعدهم على ذلك ما عليه اليهود من القسوة والغلظة، والكيد والمكر، والكذب والبهتان، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش، والفجور والبدع، والغلو في المخلوق، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء خواص المسلمين وصالحيهم. فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم عليه، ورؤيتهم له أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والشرك، والفجور والفواحش. فانظر كيف تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول الدين وفروعه؟. فجمعت بين الشرك، وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه، ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم، ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، ولا في سائر عباداتهم. بل هم في ذلك أتباع كل ناعق ومبطل، أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما جاءت به. وقالوا أساس الدين: واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، أو الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد. فواعجباً لأمة تضيع أوقاتها في مثل هذا الهراء والضلال والمحال؟. وكيف يرضى عاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه، وأساس دينه؟. وكيف ضحك الشيطان والقساوسة والرهبان على أشباه الأنعام فقرروا لهم ما هو محال، وإن ضربوا له الأمثال فقالوا: الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة؟.

ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلاً مقهوراً، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، ثم دفنوه، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام من قبره إلى السماء. فأين عقول هؤلاء؟. كيف كان حال هذا العالم العلوي والسفلي في هذه الأيام الثلاثة؟. ومن كان يدبر أمر السموات والأرض وما فيهما في تلك الأيام؟. ومن الذي خلف الرب سبحانه في تلك المدة؟. ومن الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض والإله مدفون في قبره؟. وكيف تمكن المخلوق من قتل الإله وصلبه ودفنه؟. ثم أي قبر يسع إله السموات والأرض، وهو الملك القدوس الكبير المتعال؟. وكيف تحمَّل هذا الإله الذنوب والخطايا عن البشر فليفعلوا ما شاءوا؟. وكيف تستقر حياة الناس بلا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب؟. سبحانك هذا بهتان عظيم: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 89 - 93]. فهل يليق بعاقل أن يسمع لهؤلاء؟. وهل يليق بأمة حرفت دينها، وافترت على الله الكذب أن يقتدي العاقل بها، أو يدخل في دينها؟. وكيف يقتدي الإنسان ويهتدي بأمة حرفت وبدلت كتاب الله وشرعه، ولعنها الله وغضب عليها؟. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ

فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80]. فلما حصل من أهل الكتاب: اليهود والنصارى ما حصل من التحريف .. والتبديل .. والنسيان .. والكذب .. والابتداع .. والظلم .. والكتمان .. والحكم بغير ما أنزل الله .. والبهتان .. والكبر .. والإضلال .. والغلو .. والكفر .. والاستهزاء .. وقتل الأنبياء .. وسفك الدماء بغير حق .. وأكل أموال الناس بالباطل .. وتنقص الرب .. وتعطيل شرعه .. وقول الزور والبهتان في الأنبياء .. والصد عن سبيل الله. لما حصل ذلك وغيره من أهل الكتاب ضل الناس عن طريق الهدى، وعاشوا في شقاء وعناء، فبعث الله العزيز الرحيم محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً للعالمين، ورحمة للبشرية أجمعين: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} ... [الأعراف: 157]. وأكمل الله به للبشرية دينها، وأتم نعمته عليها كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فدينه أفضل الأديان .. وكتابه أعظم الكتب .. وشريعته أيسر الشرائع .. وأمته أفضل الأمم .. وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين. والذين كملت نعم الله عليهم هم المؤمنون به، الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به وهم المرادون بقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة والمغضوب عليهم، ممن أخطأ في الأعمال

الظاهرة كاليهود والفساق. وإن اختل قيد العلم فهم الضالون، ممن أخطأ في الاعتقاد من النصارى وأهل البدع. ومن أنعم الله عليه امتنع أن يكون من المغضوب عليهم والضالين كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} ... [الفاتحة: 6، 7]. وأهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، وهو عبادة الله عزَّ وجلَّ، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والعمل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].

5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} ... [الأعراف: 201]. الشيطان عدو للإنسان، وقد أشهر سلاحه، وأعلن عداوته للإنسان من أول يوم، وقعد على جميع الجهات التي يمر بها الإنسان، ليضل الناس عن الصراط المستقيم، ويغريهم بالكبائر والمنكرات، والفواحش والمعاصي، ليحرمهم من الجنة، ويوبقهم في النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} ... [فاطر: 6]. وإذا علم العبد بعدوه فعليه أن يستعد له، ويواجهه ويقف له، ويتحصن منه لئلا يضره أو يهلكه. وقد أخبرنا الذي علمنا بعداوة الشيطان، وهو الله تعالى، كيف نتحصن من الشيطان ونتقيه، ونحترز من شره؟. وشرع لنا من الأدعية والأذكار ما فيه الشفاء والرحمة، والهدى والعصمة من جميع شرور شياطين الجن والإنس ومن ذلك: الاستعاذة بالله العظيم: كما قال سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200]. ومنها التسمية: فالتسمية حرز من الشيطان، وعصمة من مخالطته للإنسان في طعامه وشرابه، وجماعه، ودخوله بيته، وسائر أحواله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيطَانُ: لا مَبيتَ لَكُمْ ولا عَشَاءَ، وإِذا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبيتَ، وَإذَا لمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ المَبيتَ

وَالعَشَاءَ» أخرجه مسلم (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إِذَا أرَادَ أنْ يَأْتِيَ أهْلَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أبَداً» متفق عليه (¬2). ومنها قراءة المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1 - 5] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 1 - 6]. وذلك عند النوم، وعند المرض، وعند شدة الرياح، وشدة الظلمة، وأدبار الصلوات الخمس ونحو ذلك. ومنها قراءة آية الكرسي عند النوم، وأدبار الصلوات الخمس: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]. ومنها قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: فمن قرأهما في ليلة كفتاه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2018). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7396)، واللفظ له، ومسلم برقم (1434).

فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 285، 286]. ومنها قراءة سورة البقرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» أخرجه مسلم (¬1). ومنها كثرة ذكر الله تعالى بتلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل ونحوها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ» متفق عليه (¬2). ومنها الدعاء عند الخروج من المنزل: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ قَالَ يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬3). ومنها الدعاء إذا نزل منزلاً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» أخرجه مسلم (¬4). ومنها كظم التثاؤب ووضع اليد على الفم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَثَاوَبَ أحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (780). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، واللفظ له ومسلم برقم (2691). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5095)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4249). وأخرجه الترمذي برقم (3426)، صحيح سنن الترمذي رقم (2724). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2708).

أخرجه مسلم (¬1). ومنها الأذان، ودعاء دخول المسجد، والخروج منه. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد قال: «أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ أَقَطْ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ» أخرجه أبو داود (¬2). ومنها الوضوء والصلاة، ولا سيما عند الغضب والشهوة، وتجنب فضول النظر والكلام، واجتناب مساكن الجن والشياطين كالأماكن الخربة والنجسة كالحشوش والمزابل، والأماكن الخالية من الإنس كالصحاري، وشواطئ البحار البعيدة، ومرابض الإبل ونحوها. ومنها تطهير البيوت من الصور والتماثيل والكلاب والأجراس. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير» أخرجه مسلم (¬3). وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، ومن أي نوع كان من أنواع البلاء فقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1، 2]. فالاستعاذة من شر ما خلق تعم شر كل مخلوق فيه شر، وكل شر في الدنيا والآخرة، وشر شياطين الإنس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار والهواء والماء وغير ذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «منْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2995). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (466)، صحيح سنن أبي داود رقم (441). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2112). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2708).

وأمر سبحانه كذلك بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر، والقمر هو آية الليل وسلطانه، والليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، ودخل في كل شيء وأظلم فهو غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، والليل غاسق إذا أقبل بظلمته: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)} [الفلق: 1 - 3]. والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب، أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين، وحركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار، وضررهم للصبيان أكثر، لفقدهم الذكر الذي يحرزهم من الشياطين ولأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة مع الصبيان غالباً، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ، أوْ: جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ» متفق عليه (¬1). وفي لفظ: «لا تُرسِلُوا فَواشيكُمْ وَصبيانَكُمْ إذَا غَابَتِ الشَّمْسُ» أخرجه مسلم (¬2). والليل هو محل الظلام، وفيه تنتشر وتتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار، فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات، والمواضع المظلمة على أهل الظلمة، ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه، وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن. ومن هنا حسن الاستعاذة من رب الفلق في هذا الموضع، ولهذا استعاذ من شر الغاسق الذي هو الظلمة ومحل الشرور والظلام، بعد الاستعاذة برب الفلق الذي هو الصبح والنور، الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3280) واللفظ له، ومسلم برقم (2013). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2013).

الأرض بالليل من جن أو إنس أو حيوان. فيأوي كل خبيث، وكل مفسد، وكل لص، وكل قاطع طريق، إلى سرب أو كِنٍّ أو غار، وتأوي الهوام إلى جحورها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها. فأمر الله عزَّ وجلَّ عباده أن يستعيذوا برب النور والصبح الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويكشف ويقهر عسكرها وجيشها الظالم. والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى الظلمات، ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة. والإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلوب المستنيرة، والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة وهم الملائكة. والله عزَّ وجلَّ بعث رسله ليخرج عباده من الظلمات إلى النور كما قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257]. واللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه، وإذا أنار الله قلب العبد بالإيمان، وأوقد سراج المعرفة في قلبه، فلا يمكن أن يقرب منه الشيطان: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 98 - 100].

3 - العدو الثالث: الدنيا

3 - العدو الثالث: الدنيا 1 - فقه حقيقة الدنيا قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الدنيا والآخرة، وجعل الأولى دار الإيمان والعمل، وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب. والدنيا المذمومة: هي كل ما أشغل عن طاعة الله ورسوله (. وقد عرّف الله عزَّ وجلَّ أولياءه بغوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها ليحذروها، ولا يركنوا إليها، ولا يغتروا بزينتها. وقد خلقها الله في صورة جميلة مليحة، تستميل الناس بجمالها، وتغرهم بزينتها، وتخدعهم بشهواتها، امتحاناً وابتلاء، ليعلم الله من يقدم أوامر الله على شهوات نفسه كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. والدنيا شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، وآفاتها على التوالي راشقة، وكل مغرور بها إلى الذل مصيره، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدر، ولا ينفك سرورها عن المنغصات. سلامتها تُعقب السقم، ونعيمها لا يثمر غالباً إلا الحسرة والندم، فهي خداعة

مكَّارة، بينما أصحابها منها في نعيم وسرور، إذ ولت عنهم صاروا كأنهم أضغاث أحلام: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]. فالدنيا عدوة لله .. وعدوة لأولياء الله .. وعدوة لأعداء الله. أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله، ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء. وأما عداوتها لأولياء الله سبحانه فإنها تزينت لهم بزينتها، وغرتهم بزهرتها ونضارتها، وملكت قلوبهم بجمالها وشهواتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها، وصادتهم بشبكتها حتى وثقوا بها، فاجتنوا منها حسرة تقطع الأكباد، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون، ومن مكايدها يستغيثون: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86]. ومن هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها. وكما يأكل المريض الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يتلذذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها ما دام حب الدنيا في قلبه. والدنيا المذمومة المأمور باجتنابها هي القاطعة للعبد عن سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وإلى رضاه، وإلى الجنة. وما في هذه الحياة الدنيا ثلاثة أقسام: الأول: ما يصحب العبد في الآخرة، وتبقى معه ثمرته بعد الموت، وهو شيئان: العلم .. والعمل. فالعلم: هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بشريعته.

والعمل: هو امتثال أوامر الله في جميع الأحوال، وعبادة الله وحده لا شريك له. الثاني: كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجة. والتنعم والترفه بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، والغلمان والجواري، والقصور والدور، ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة ونحوها من ألوان المتاع الذي تحبه النفوس كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة، باستثناء ما يحتاجه من المباح. الثالث: كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، والحاجة من اللباس والسكن، وكل ما لا بدَّ منه؛ ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي يتوصل بها إلى العلم والعمل الصالح. فهذا ليس من الدنيا، فهو كالقسم الأول؛ لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه، فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل، لم يكن به متناولاً للدنيا، ولم يصر به من أبناء الدنيا. وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة به على العلم والعمل التحق بالقسم الثاني، وصار من جملة الدنيا. فالأول محمود .. والثاني مذموم .. والثالث حسب نية صاحبه. وكل شيء في الدنيا يزول، ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا أربع صفات: إيمان القلب .. وأنسه بذكر الله .. وحبه لربه .. وعمله الصالح. وهذه الصفات هي المنجيات المسعدات بعد الموت. فقوة الإيمان تفطم العبد عن شهوات الدنيا، وتنشطه للعمل الصالح الذي ينال به شهوات الآخرة، وتملأ قلبه بالأنس بالله، ولذة مناجاته ومحبته ونسيان ما سواه.

وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا، وقدوم على الله تعالى. فالقدر الذي لا بدَّ منه للحياة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذه لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا، والراغبين في حظوظها. والرغبة في حظوظ الدنيا قسمان: الأول: ما يُعرِّض صاحبه لعذاب الآخرة، ويسمى ذلك حراماً. الثاني: ما يحول بين العبد وبين الدرجات العلا، ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً، فالدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ومن نوقش الحساب هلك. عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». قالتْ: قُلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق:8]. قَالَ: «ذَلِكِ الْعَرْضُ» متفق عليه (¬1). والدنيا قليلها وكثيرها .. وحلالها وحرامها .. كل ذلك مذموم إلا ما أعان على تقوى الله وطاعته مما أمر الله ورسوله به. وكل من كانت معرفته أقوى كان حذره من نعيم الدنيا أشد، ولهذا زوى الله كل ما يشغل عن الآخرة من اللذات والشهوات عن الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين؛ ليتفرغوا للأعمال الصالحة. وسلط عليهم البلاء والمحن، كل ذلك امتناناً عليهم؛ ليتوفر من الآخرة حظهم، ويعظم أجرهم، كما يمنع الوالد ولده من لذة الفواكه، ويلزمه الدواء الكريه المذاق شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه. سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً، فقَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6536) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).

ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). فالدنيا مركب الآخرة، وبها تقطع المسافة إلى الآخرة، والبدن مركب النفس، وبه تقطع مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا، فهذه حقيقة الدنيا في حق الإنسان. وأما حقيقة الدنيا في نفسها، فالدنيا عبارة عن أعيان موجودة، وللإنسان فيها حظ، وله في إصلاحها شغل، وقد جمع الله الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا في قوله سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. فهذه هي أعيان الدنيا السبعة، ولها مع العبد علاقتان: الأولى: علاقة الأعيان مع القلب، وهو حبه لها، وحظه منها، وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا، ويدخل في هذا جميع صفات القلب الباطنة كالكبر والرياء والعجب، وحب الثناء، وحب التكاثر، وحب التفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة، وأما الدنيا الظاهرة فهي الأعيان المذكورة. الثانية: علاقة الأعيان مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان، لتصلح حظوظه، وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي يشتغل بها الخلق. والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بحب الدنيا .. وعلاقة البدن بالشغل فيها. ولو عرف العبد نفسه وعرف ربه، وعرف حكمة الدنيا وسرها، علم أن هذه الأعيان التي تسمى دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956). وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249). انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

والدابة البدن، فإنه لا يبقى ليعمل إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، كما لا يبقى ولا يسير الجمل إلا بعلف وماء، والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده، وقلبه معلق بالكعبة والحج، فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن، بل يشتغل بالعمل الموصل إلى الله مع العناية بالبدن الذي لا يتم العمل إلا بسلامته. وقد اختلف الناس اختلافاً كبيراً في الإقبال على الدنيا والتجافي عنها، وأوسط الأمور، وأحبها إلى الله ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنه - وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية .. ولا يقمع الشهوات بالكلية .. فيأخذ من الدنيا قدر الزاد .. ويقمع من الشهوات ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل .. ولا يتبع كل شهوة .. ولا يترك كل شهوة .. بل يتبع العدل. ولا يترك كل شيء من الدنيا .. ولا يطلب كل شيء من الدنيا. بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة .. ومن السكن ما يحفظ من اللصوص، ويُكِنُّ من الحر والبرد .. ومن الكسوة ما يستر العورة، ويحفظ الإنسان من الحر والبرد، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن وحاجاته أقبل على طاعة مولاه بكل همته، واشتغل بالذكر والفكر والعمل الصالح طول العمر، وتلك سيرة أهل القرن الأول، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل الوسط بين الطرفين، وأحب الأمور إلى الله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. وطلب الدنيا كظل الإنسان لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله. فالعاقل إنما يأخذ منها بقدر الحاجة، فإن ابتلي بسعة المال أنفقه فيما يرضي الله، وأخذ منه بقدر حاجته، واستعان به على طاعة ربه.

والدنيا وما فيها ليست داراً للعباد، وإنما أسكنهم الله فيها واستخلفهم فيها إلى أجل مسمى لينظر كيف يعملون، وابتلاهم بما فيها من الشهوات ليعلم من يقدم أوامر ربه على شهوات نفسه .. ومن يطيع الرحمن ممن يطيع الشيطان .. ومن يشتغل بجمع الحسنات ممن يشتغل بالاستكثار من الأموال .. ومن يعمر أخراه ممن يعمر دنياه .. ومن يتبع الهدى ممن يتبع الهوى كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. وقال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]. والجمع بين تحصيل الأسباب التي تحصل بها لذات الدنيا، والأسباب التي تحصل بها لذات الآخرة ممتنع غير ممكن. والله عزَّ وجلَّ مكّن الإنسان من تحصيل أيهما شاء أو أراد، فمن اشتغل بتحصيل أحدهما فلا بد أن يفوت الآخر، والعاقل يقدم العمل للآخرة على العمل للدنيا، ويؤثر الباقية على الفانية. والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة، والفانية على الباقية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويعلم من يستحق الكرامة ممن يستحق الإهانة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 18 - 20]. فالحياة الدنيا جبلت على الكد والنكد، والبلاء والكبد، وقد أقسم الله عز وجل الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، بالبلد الأمين، ورسوله الذي حل فيه، وبكل ما خلق، أن هذه الحياة الدنيا لا تصفو لأحد، وأنها في الغالب شقاء وتعب ومجاهدة، كما قال سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 1 - 4].

2 - فقه الفتن

2 - فقه الفتن قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]. وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. الفتنة في كتاب الله عزَّ وجلَّ تطلق ويراد بها الامتحان والابتلاء، سواء خَلُص صاحبه من الافتتان أو حصل له افتتان كما قال سبحانه: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]. وتطلق الفتنة على ما هو أعم من ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15]. ففي الأموال والأولاد شغل عن الآخرة، فلا نطيعهم في معصية الله، فالإنسان مفتون بولده؛ لأنه ربما عصى الله بسببه، وربما تناول الحرام لأجله إلا من عصمه الله. والقصد من الفتنة امتحان العباد، هل يصبرون فيقومون بما أمرهم الله به فيثيبهم مولاهم، أم لا يصبرون فيستحقون العقوبة. وقد فتن الله العباد فتنة عامة، وامتحن بعضهم ببعض كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20]. فامتحن الله الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم. وامتحن المرسل إليهم بالرسل .. هل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم، أم يكفرون بهم ويقاتلونهم؟. وامتحن العلماء بالجهال .. هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم

وإرشادهم، أم يضجرون منهم ويتركونهم في غيهم وضلالهم؟. وامتحن الجهال بالعلماء .. هل يطيعونهم ويهتدون بعلمهم، أم يعرضون عنهم ويتركون مجالسهم؟. وامتحن الملوك بالرعية .. وامتحن الرعية بالملوك. وامتحن الأغنياء بالفقراء .. وامتحن الفقراء بالأغنياء. وامتحن الأقوياء بالضعفاء .. وامتحن الضعفاء بالأقوياء. وامتحن الرجل بزوجته .. وامتحن الزوجة بزوجها. وامتحن الرجل بأولاده .. وامتحن الأولاد بأبيهم. وامتحن الرجال بالنساء .. وامتحن النساء بالرجال. وامتحن المؤمنين بالكفار .. وامتحن الكفار بالمؤمنين. وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم .. وامتحن المأمورين بهم. ولذلك كان فقراء المسلمين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنياء الكفار ورؤسائهم، امتنعوا عن الإيمان بسببهم مع معرفتهم بصدق الرسل فتنة كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]. فالفتنة كير القلوب .. ومحك الإيمان .. وبها يتبين الصادق من الكاذب .. والمؤمن من المنافق .. والطيب من الخبيث. فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 3]. فالفتنة لا بدَّ منها في الدنيا؛ ليعلم الله الصادق من الكاذب، وكذلك لا بدَّ منها في الآخرة لكل من سقط في الفتنة في الدنيا كما قال سبحانه عن الكفار والعصاة: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات: 13، 14].

والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون بالكافر، ولذلك سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال سبحانه عن المؤمنين: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)} [الممتحنة: 4، 5]. وقال أصحاب موسى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)} [يونس: 85، 86]. أي لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم بهذا، ولا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، فيفتنوا بذلك فيهلكوا، ولا تقتِّر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم. والإنسان في هذه الحياة الدنيا محل الفتنة، فهو مفتون لا محالة: إما بالخير وإما بالشر، فهو مفتون بشهواته، ونفسه الأمارة بالسوء، وشيطانه المغوي المزين، وقرناء السوء، وما يراه وما يشاهده وما يسمعه، وغير ذلك مما يعجز صبره عنه من الأموال والأولاد والشهوات كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. والفتنة نوعان: فتنة الشهوات .. وفتنة الشبهات. وقد تجتمعان للعبد، وقد ينفرد بأحدهما. ففتنة الشبهات: من ضعف البصيرة، وقلة العلم، لا سيما مع وجود فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، فهذا من الذين قال الله فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]. وهذه الفتنة أعظم الفتنتين، ومآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع على حسب مراتبهم. وهذه الفتنة تنشأ من عدة أسباب: تارة تنشأ من فهم فاسد .. وتارة من نقل كاذب .. وتارة من حق خفي على الرجل

فلم يظفر به .. وتارة من غرض فاسد .. وتارة من هوى متبع. ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتحكيمه في كل شيء، في دق الدين وجلِّه، وظاهره وباطنه، وعقائده وأعماله. فيتلقى العبد عنه حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، ومقادير الزكاة وغيرها من أحكام الدين. فلا يجعله رسولاً في شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه. فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال كما قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. والشبهات تأتي من أحد شخصين: إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين .. وإما إنسان جاهل قذف الشيطان في قلبه ما جعل الحق يلتبس عليه. فالأول أخطر النوعين وأخبثهما، وكلاهما خبيث يؤثر على ضعاف النفوس والهمج الرعاع، ويحدث بلبلة في أفكارهم وتصرفاتهم. ولهذا يجب كشف هذه الشبهات الباطلة؛ لئلا تصد الناس عن دين الله. لكن يجب في فقه الشبهات أمران: الأول: أن لا يتصدى لرد الشبهات، وكشف زيفها إلا عالم متمكن من معرفة الحق والباطل بالأدلة الشرعية، حتى يحسن ويحكم إغلاق هذه الثغرات، ويسد هذه الشبهات، وهذا لا يستطيعه إلا العلماء الراسخون. الثاني: ينبغي على طالب العلم ألا يشغل كل وقته بهذه الشبهات وردها؛ لأن الأعداء يريدون إشغال العلماء وأهل الإسلام عن الإسلام، والعمل به، وتعليمه، والدعوة إليه.

فيقذفون اليوم بشبهة وغداً بشبهة، فتكثر الردود، وتتنوع الإجابات، وتختلف الفتاوى، فيحصل الشك، ويقع الجدل، وإذا بالعلماء بعد مدة لا يستطيعون ولا يتفرغون لنشر الإسلام، ولا يجدون الفرصة لتعليم الناس أحكام دينهم. وقد جاء البلاء من عدم الفقه بدين الله من صنفين من الناس: من أناس يتصدرون لرد الشبهات بلا علم .. أو أناس يتصدون للشبهات حتى تضيع أوقاتهم فيها. وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون بإقحام العامة ليقولوا ما شاؤوا بلا علم .. وإشغال العلماء عن الواجبات والأصول، وضبط العلم وفقهه وتعليمه الناس. فالاشتغال بالشبهات ودراستها له قيمة في الدين، وهو من الحق الذي يزال به الباطل، لكن الاشتغال به أكثر من اللازم تضيع به حقوق وواجبات كبرى، أكد عليها الشرع وألزم بها عباده. وليس المراد قفل باب الرد على الشبهات، فإنه من الدين، وإنما عدم المبالغة فيه، وعدم فتح الباب لكل أحد أن يقول ما شاء، وإنما ذلك للعلماء الراسخين الذين يعلمون على وجه الإجمال والتفصيل أن دين الله هو الحق، وأن ما سواه هو الباطل، وأن الباطل مهما كان لا يقف أمام الحق، كما قال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. ولا يحسب الناس أن دين الله عبث، فالحق يستمد قوته من ذاته، والجبار عز وجل يسمع ويرى، ويغار على دينه وحرماته، وهو العزيز الجبار، القوي الذي يدافع عن دينه وعباده المؤمنين، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38]. فكل ما نرى من الكذب والافتراء، والصخب واللغط، والشبهات والتلبيسات، كلها منتهية مقطوع دابرها، ودابر أهلها، ودابر من دافع عنها، عاجلاً أو آجلاً. أما الحق فهو باق ما بقي الزمان، وتعاقب الليل والنهار؛ لأن الله تكفل بحفظه،

وحيث ما حل الحق، وقضاء الشرع، كان هناك الأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة. فالشريعة ليس فيها خلط ولا شبه، ولا أهواء، ولا ظلم، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)} ... [الأنعام: 57]. فالحق والعدل في أبهى صوره، وأجمل حلله، في الإسلام لا في غيره، كما قال سبحانه: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)} ... [الإسراء: 105]. وكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكاً بالحق، وزهداً بالباطل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} [الزخرف: 43]. وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات. وقد جمع الله بين الفتنتين في قوله سبحانه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة: 69]. وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهات، والثاني: أصل فتنة الشهوات. وفتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. وجمع الله بينهما في قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. أي تواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات. فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوات، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهات.

وإذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصلت له الإمامة في الدين، وحصلت له أعظم غايتين مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما: الهدى .. والرحمة، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. والشيطان في كل يوم، بل في كل لحظة، يبعث ويوجه ويحرك آلاف الأفراد والجماعات لعمارة الدنيا، والإفساد في الأرض، والاستمتاع بالشهوات والمحرمات، وغشيان الفواحش والآثام، ومزاولة السرقات والزنا وشرب الخمور، وأكل أموال الناس بالباطل، وظلم الناس، وإيذاء المسلمين، ولا يفتر عن ذلك ليلاً ونهاراً، ووقع في فتنة الشهوات ما لا يحصى من البشر من مسلم وكافر، فأعرضوا عن أوامر الله، واشتغلوا بتكميل شهواتهم من المطاعم والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب والمناكح: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. وكذلك الشيطان يوجه ويحرك آلافاً من العلماء والدعاة، وطلبة العلم ويزين لهم الانتصار للنفس لا للدين، ويستعملهم في الجدل والمراء، ويغمسهم في السمعة والرياء، ويزين لهم الفتاوى الشاذة، ويحسِّن لهم أكل الدنيا بالدين، والازدحام على أبواب المناصب، وبذل الجهود من أجلها لنفع الدين من خلالها، وهيهات أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، بالهدى والرحمة، والشفقة والتواضع، والعدل والإحسان، والبر والتقوى وغير ذلك من شعب الإيمان ومحاسن الأخلاق. وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً. ولا تقع الفتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فالله سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر. فالفتنة إما من ترك الحق .. وإما من ترك الصبر. فالمظلوم إذا صبر واتقى كانت العاقبة له كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120].

وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالصبر على البلاء، والصبر على أذى أهل الكتاب والمشركين، تنبيهاً على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالعدل مع الكفار مع بغضهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان، فاتقوا الله أيها المؤمنون: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]. والكفر والفسوق والعصيان سبب لكل شر وعدوان. فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم. فيحصل بسبب ذلك التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن قديماً وحديثاً، إذ الإنسان ظلوم جهول كفار، ومن تدبر الفتن الواقعة رأى أسبابها ذلك. ورأى أن ما وقع بين علماء الأمة وأمرائها، ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشائخها، ومن تبعهم من العامة هذا أصلها، ومنه تفجر براكينها. والفتن أقسام: الأولى: فتنة الرجل في نفسه بأن يقسو قلبه، فلا يجد حلاوة الطاعة، ولا لذة المناجاة. الثانية: فتنة الرجل في أهله، وهي فساد تدبير المنزل، وقد تولى ذلك الشيطان وذريته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ

وَبَيْنَ امْرَأتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أنْتَ» أخرجه مسلم (¬1). الثالثة: فتنة تموج كموج البحر، وهي فساد تدبير المدينة، وطمع الناس في الخلافة والولايات من غير حق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» أخرجه مسلم (¬2). الرابعة: فتنة ملية، بأن يموت الصالحون، ويسند الأمر إلى غير أهله، ونحو ذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» متفق عليه (¬3). والفتن إذا جاءت كان ضررها على أهل الإيمان أكثر من غيرهم، كاللصوص إذا دخلوا بلداً، فأول من يخاف منهم أصحاب الأموال، فيتسلحون للدفاع عن أموالهم، أما غيرهم فلا يهتمون؛ لأنه ليس عندهم ما يخافون عليه. وكذلك أهل الإيمان والأعمال الصالحة، إذا جاءت الفتن تسلحوا وتحصنوا بالإيمان والأذكار، والدعاء والعبادة، فذلك حصنهم من أعدائهم. أما من ليس عنده إيمان وأعمال فلا يبالي؛ لأن حياته لم تقم على الإيمان والأعمال الصالحة، فليس عنده ما يخاف عليه، كالفقير الذي ليس عنده مال يخاف عليه من اللصوص. والفتنة تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمى الله الكفر فتنة كما قال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. فالكفار فُتنوا أولاً بأسباب الدنيا وزينتها .. ثم فُتنوا بإرسال الرسل إليهم .. ثم ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2813). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2812). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3601) واللفظ له، ومسلم برقم (2886).

فُتنوا بمخالفتهم وتكذيبهم .. ثم فُتنوا بعذاب الدنيا .. ثم فُتنوا بعذاب القبر .. ثم يفتنون في موقف القيامة .. ثم إذا حشروا إلى النار، ووقفوا عليها، وعرضوا عليها، وذلك من أعظم فتنتهم: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} [الأحقاف: 34]. ثم تحصل لهم في النهاية الفتنة الكبرى التي أنستهم جميع الفتن قبلها، وهي دخول النار وتعذيبهم بها وخلودهم فيها: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات: 13، 14]. وقد حذر الله عباده المؤمنين من فتنة الأموال والأزواج والأولاد التي تشغلهم عن طاعة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. وأظلم الظلم: الشرك بالله، ونبذ شريعة الله في الحياة، واتباع شرع غيره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. فالأمة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره، ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين، هي أمة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]. فالإسلام منهج كامل لا بدَّ من إقامته في حياة الناس، ولا بدَّ من حراسته والدفاع عنه، ولا بدَّ من إبلاغه للبشرية كلها. فهو لا يسمح أن يقعد القاعدون، والظلم والفساد والمنكر يشيع في الأرض، فضلاً عن أن يروا دين الله لا يُتَّبع، بل أن يروا ألوهية الله تُنْكَر، وتقوم ألوهية

العبيد مكانها وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة؛ لأنهم في ذاتهم صالحون طيبون. إن هذا خلاف سنة الله الجارية، فليستجيبوا لله في كل ما أمرهم الله به، ويستعينوا به وحده، ويتوكلوا عليه وحده، وإلا أصابتهم فتنة تدع الحليم حيراناً: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 24، 25]. ولما كانت مقاومة الظلم والفساد تكلف الناس أنفسهم وأموالهم، فإن الله يذكر العصبة المسلمة ويطمئنهم بتأييده ونصره ورزقه لمن استجاب لله والرسول فيقول: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} ... [الأنفال: 26]. فالعصبة المؤمنة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها، وكيف آواها الله بدينه، وأيدها بنصره، وأعزها ورزقها من الطيبات، فكما تحقق موعود الله لهذه العصبة التي استجابت، فهو كذلك وعد لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه كما قال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} [يونس: 103]. إن جوهرة الإيمان وقاعدته أزكى من كل شيء، وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرُّخْص، بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقاً على الكافرين به، لولا أن تكون فتنة للناس تصدهم عن الإيمان بالله. ولولا خوف الفتنة على المؤمنين لبذلت الدنيا للكفار هكذا رخيصة بلا تعب؛

لهوانها على الله كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 33 - 35]. إن عَرَض الدنيا من مال وزينة ومتاع لَيَفْتِن أكثر الناس، وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيدي الأبرار منه خالية، أو يرون هؤلاء في عسر ومشقة، وأولئك في قوة وثروة وسطوة، والله عزَّ وجلَّ َيعلم وقع هذه الفتنة في قلوب الناس، ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه. ويكشف لهم عن نفاسة ما يدخره للمؤمنين في الآخرة، والمؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار والفجار، وما في الدنيا كله متاع، وما في الآخرة أفضل وأعظم وأبقى. وهؤلاء المكرمون عند الله بتقواهم، فهو سبحانه يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى، ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. وهذه الأموال، وهذا المتاع، كل ذلك رخيص عند الله، ومن هوانه أنه مبذول لشر خلق الله، وأبغض خلق الله. ألا ما أعظم الفتن؟ .. وما أشد خطرها على الأمة؟. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أيُّماَ هُوَ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ الْقَتْلُ» متفق عليه (¬1). ومكان ظهور الفتن من المشرق. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7061) واللفظ له، ومسلم برقم (157). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7093) واللفظ له، ومسلم برقم (2905).

وجماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار. والفتنة هي ما يبيَّن به حال الإنسان من الخير والشر. والفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار: أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، وتكون في الخير والشر. أما الفرق بين الابتلاء والاختبار: أن الابتلاء لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بالخير والشر، والسراء والضراء. وقد يكون الابتلاء باستخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار وقوع الخبر بحاله في ذلك. والفتنة نوعان: فتنة من الله .. وفتنة من العبد. فالفتنة من الله كالبلية والمصائب التي تصيب الناس، وغير ذلك من الأفعال المؤلمة، فهذا كله يقع من الله على عباده على وجه الحكمة. ومتى كان هذا من الإنسان بغير أمر الله كالقتل والتعذيب فهو بضد ذلك، ولهذا يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} ... [البروج: 10]. وهذه الدنيا مملوءة بالفتن المضلة. فتنة الأموال .. وفتنة الشهوات .. وفتنة النساء .. وفتنة الأولاد .. وفتنة الشبهات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» أخرجه مسلم (¬1). وهذه الفتن تهجم على العبد، وتغريه بحسنها وجمالها، وتخدعه بعاجل لذتها، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2742).

فيقع في شراكها فيهلك. فعليه بالمبادرة إلى الإيمان والأعمال الصالحة ليحفظ نفسه منها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعرضٍ مِنَ الدٌُّنْيَا» أخرجه مسلم (¬1). والفتنة تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمى الله الكفر فتنة كما قال سبحانه عن الكفار: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات: 14]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (118).

3 - فتنة الأموال والشهوات

3 - فتنة الأموال والشهوات قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28]. وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. خلق الله الإنسان مركباً من ثلاثة أشياء: جسداً مادياً .. ونفساً حيوانياً .. وروحاً ملكياً. فجسد الإنسان يخلقه الله في بطن الأم ثم يخرج إلى الدنيا. وفي نفس الإنسان بحار من الشهوات، وفي روح الإنسان بحار الطاعات، والجسد للغالب منها. والشهوات والطاعات ليس لها حد، والنفس تريد تكميل الشهوات كلها في الدنيا، والله عز وجل جعل الدنيا محل تكميل الأوامر والطاعات، وجعل الآخرة محل تكميل الشهوات فمن أكمل طاعة الله في الدنيا أكمل الله شهواته في الآخرة. فالذي يريد تكميل الشهوات في الدنيا إنما يطلب المحال؛ لأن الله جعل الدنيا ليست محلاً لتكميل الشهوات. وفي الدنيا طريقان: طريق إلى الجنة .. وطريق إلى النار. فالإيمان والأعمال الصالحة الطريق الوحيد إلى الجنة .. والكفر والمعاصي الطريق الوحيد إلى النار؛ فالذي يريد تكميل الشهوات عليه أن يبحث عن طريق الجنة وهو الدين، ولا يضع قدمه في طريق النار. وأوامر الله عز وجل كلها في مقابل شهوات النفس، فالإنسان إما أن يترك

الشهوات بسبب الطاعات، أو يترك الطاعات بسبب الشهوات، ولا يمكن الجمع بينها، كما لا يمكن الجمع بين الماء والنار، لكن بفعل الأوامر، ويأخذ من الشهوات بقدر الحاجة. فالطاعات من الرب، والشهوات من النفس، فالإنسان إما أن يكون عبداً للرب، أو عبداً للنفس، والشيطان زين للناس أن الشهوات ضرورة فاتبع أكثر الناس الشهوات وتركوا أوامر الله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. الله تبارك وتعالى خالق الخلق، واسع الرزق، أنعم على العالمين بأنواع الأرزاق، وأصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، فهم بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والقناعة والحرص، والبخل والجود، والتبذير والتقتير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر من يؤثر الإيمان والأعمال على الأموال والشهوات، ويرى من يؤثر الآخرة على الدنيا كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} ... [الكهف: 7]. وفتن الدنيا كثيرة الأنواع، واسعة الأرجاء، ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل أشغل عن طاعة الله ورسوله. والأموال أعظمها فتنة، وأطمها محنة، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، وإذا وجدت فلا سلامة منها، وإذا فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإذا وجد حصل فيه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]. والأموال بوجه عام لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها من شرها لا يدركه إلا ذو البصائر في الدين من العلماء الأبرار. فالدنيا فتنها كثيرة، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة

البطن والفرج بعضها، وأكل الحرام بعضها ونحو ذلك. والغنى والفقر حالتان يبتلى بهما العباد في الدنيا. فللفقير حالتان: القناعة والحرص، فالقناعة محمودة، والحرص مذموم، وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للعمل، والطمع شر الحالين. وللغني حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق بحكم الجود والكرم، فالأولى مذمومة، والأخرى محمودة. وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. وقد خلق الله سبحانه الأموال لمصالح العباد، والمال لا يذم لذاته، بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى: إما شدة حرصه .. أو أخذه من غير حله .. أو حبسه عن حقه .. أو إخراجه في غير وجهه .. أو المفاخرة به .. والتكبر على الخلق بسببه. فالمال لا يذم لذاته، بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي، لكن الواجب فيه: أخذه من حله، ووضعه في حقه. ولا بدَّ من معرفة فوائده وغوائله ليحترز العبد من شره، ويستدر من خيره: أما فوائد المال فتنقسم إلى قسمين: فوائد دنيوية .. وفوائد دينية. فالفوائد الدنيوية: الخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها. وأما الفوائد الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع: أحدها: أن ينفق المال على نفسه وأهله إما في عبادة كالحج والجهاد في سبيل الله، وإما في الاستعانة به على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن ونحوها

من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب للدين والتوجه في العبادة. وما لا يتوصل إلى حسن العبادة وكمالها إلا به فهو عبادة، فأخذه الكفاية من الدنيا للاستعانة به على الدين من الفوائد الدينية. الثاني: ما يصرفه الغني للناس من الأموال كالصدقات والزكوات للفقراء والمساكين ونحوهم، والمروءة ببذل الأموال للأغنياء والأشراف، وإلى العلماء والدعاة في ضيافة أو هدية أو إعانة ونحو ذلك مما يكتسب به العبد الإخوان والأصدقاء. ووقاية عرضه كبذل المال لقطع ألسنة السفهاء وكف شرهم. وما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمصالحه كثيرة، ولو تولاها بنفسه لضاعت أوقاته. الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معيَّن، لكن يحصل به خيراً عاماً كبناء المساجد والأوقاف والوصايا ونحوها كالإنفاق في سبيل الله على الدعاة والمجاهدين في سبيل الله، ويضاف إلى ذلك الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والاستغناء عما في أيدي الخلق. وأما غوائل المال وآفاته فهي قسمان كذلك: آفات دينية .. وآفات دنيوية. أما الآفات الدينية فثلاث: الأولى: أن المال يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن من استشعر القدرة على المعصية انبعثت دواعيه إليها. والمال نوع من القدرة يحرك داعية الإنسان إلى المعاصي، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهي هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد. الثانية: أن المال يحرك الإنسان إلى التنعم في المباحات حتى تصير له عادة

وإلفاً فلا يصبر عنها، وربما لا يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى الكذب والنفاق، ثم يدخل في المحرمات لتكميل شهواته، ثم يترقى إلى الكبائر كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. الثالثة: أن يلهيه ماله عن ذكر الله عزَّ وجلَّ وعبادته، وهذا هو الداء العضال الذي لا ينفك عنه أحد، فإن أصل العبادات ذكر الله عزَّ وجلَّ، والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً فارغاً يناجي ربه لا يشغله شيء عنه، وصاحب الضيعة يصبح ويمسي متفكراً في أحوال ضيعته، وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في أحوال تجارته، وفي الخوف على ماله. هذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والهم والغم، والعناء والتعب، في متاع يفنى، وخير من ذلك لو كان الجهد في أرباح تبقى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» أخرجه مسلم (¬1). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ! اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» متفق عليه (¬2). والسنة فيمن وجد المال أن يستعمله في السخاء والإيثار، واصطناع المعروف، ومن فقد المال أن يستعمل القناعة والاقتصاد في المعيشة. وإذا تيسر للإنسان في الحال ما يكفيه فلا يضطرب لأجل المستقبل، وإذا انسد عنه باب كان ينتظر منه الرزق فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فلن ينقص رزقه الذي قدره الله له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1054). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055) واللفظ له.

عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (¬1). والمال لا ينفع صاحبه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: الأول: أن يكون حلالاً. الثاني: أن لا يشغل عن ذكر الله وطاعة الله ورسوله. الثالث: أن يؤدي حق الله فيه. والمربي هو الله سبحانه، والرازق هو الله وحده، فالتاجر يجلس في متجره لينفذ أوامر الله في التجارة، لا بنية أن المتجر يربني أو يرزقني؛ لأن الرازق هو الله وحده، والمتجر سبب للربح أو الخسارة، وقد أمرنا الله بالكسب. فالتاجر في امتحان في تجارته: هل يلتزم بأوامر الله ورسوله في تجارته؟. هل ينفذ أوامر الله في أمواله كسباً وإنفاقاً؟. هل يميز بين الحلال والحرام في تجارته؟. هل يغش في تجارته؟، هل يأكل الحرام؟، هل يقينه على ربه أم على جهده؟، وهكذا. فهو يجرب إيمانه .. هل ينفذ أوامر الله أم يتبع الهوى؟. فمن كانت تجارته وفق أوامر الله بارك الله في تجارته، وصارت تجارته عبادة، فبعد الإيمان تأتي حركات المسلم وأعماله كلها لله على طريقة رسول الله: عبادة .. ودعوة .. ومعاملة .. وتجارة .. وجهاد .. وغير ذلك: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743). انظر السلسلة الصحيحة (2607).

لكن المسلم يعمل في الكسب ببدنه وقلبه معلق بالله والدار الآخرة. والمقصود من التجارة الإفادة لجميع الإنسانية، بتوفير ما يحتاجه الناس من الحلال الطيب، وتنفيذ أوامر الله في التجارة بأخذها من الحلال، وإنفاقها في وجوه الخير. ولكسب المعاش طريقان: الأول: طريق لعامة الناس مؤمنهم وكافرهم، وهو طلب الرزق بالأسباب المشروعة في سائر البلاد كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]. الثاني: طريق الخاصة، وهم المؤمنون المتقون الذين يجتهدون في دين الله، وليس عندهم وقت أن يشتغلوا بالأسباب الكسبية فهؤلاء عليهم أن يختاروا طريق الإيمان والتقوى فيحصلوا على خمسة أشياء: الأول: حصول البركات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} ... [الأعراف: 96]. الثاني: سهولة الحصول على الرزق كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. الثالث: تيسير الأمور كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]. الرابع: تكفير السيئات كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [الطلاق: 5]. الخامس: دخول الجنة كما قال الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. والمال له أربع مراحل: الأولى: مرحلة جمعه والحصول عليه، إما عن طريق الكسب والعمل، وإما عن

طريق الهدية، أو الوصية، أو الميراث ونحو ذلك. الثانية: مرحلة حفظه بعد حصوله. الثالثة: مرحلة الاستفادة منه في الأكل، والشرب، واللباس، والسكن ونحو ذلك .. وهذه لازمة. الرابعة: مرحلة الإنفاق منه في سبيل الله .. وهي أعلاها. وأهل الأموال ثلاثة أصناف: محسنون .. وظالمون .. وأهل العدل. فالمحسنون هم المتصدقون، والظالمون هم أهل الربا .. وأهل العدل هم المتبايعون حسب السنة. وقد ذكر الله أحكام الناس في الأموال وبين أنها ثلاثة: عدل .. وإحسان .. وظلم. فالعدل البيع .. والإحسان الصدقة .. والظلم الربا. فمدح الله سبحانه المتصدقين وذكر ثوابهم وهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. وذم المرابين وذكر عقابهم فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران: 130، 131]. وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى كما قال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275]. وكما أن للصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها أحكاماً وأصولاً، فكذلك لكسب المال أصول، ولإنفاقه أصول، وكان إنفاق المال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على النحو التالي:

الأول: الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما أنفق الرسول (وأبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. الثاني: الإنفاق لإكمال أركان الإسلام كالزكاة والحج ونحوها. الثالث: الإنفاق لقضاء حاجات الناس ومواساة الفقراء والمساكين كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60]. الرابع: الإنفاق على حاجات النفس والأهل. وبسبب تغير الترتيب للجهد والمال، صار الجهد للدنيا لا للدين، وصار إنفاق المال للشهوات، فقلت الطاعات، وزادت المعاصي والمنكرات، وقل دخول الناس في الإسلام، بل بدأ الناس يخرجون من الدين. وبقي من الدين صورة الأعمال، فهان على الكفار استباحة ديار المسلمين، والتحكم في حياتهم، ونهب ثرواتهم، وإشغالهم بالألعاب والشهوات عن الإيمان والعبادات. وقد جعل الله سبحانه الدنيا دار كسب .. تارة للمعاش .. وتارة للمعاد. والتجارة لا تراد لذاتها، بل للاستغناء عن الناس، وإعفاف الأهل، ومواساة المحتاجين، وإفاضة الفضل على الإخوان، والإنفاق في سبيل الله. أما إن كان المقصود نفس المال وجمعه والتفاخر به فهو مذموم. والكسب المحمود ما جمع أموراً أربعة وهي: الصحة .. والعدل .. والإحسان .. والشفقة على الدين. أما الصحة في البيع: فمنها ما يتعلق بالسلعة وصاحبها، فلا يشتري من مجنون ولا صغير، ولا يشتري ولا يبيع ما لا يقدر على تسليمه حساً كالطير في الهواء، ولا شرعاً كالمرهون ونحو ذلك، وأن يكون البيع بإيجاب وقبول أو معاطاة، ونحو ذلك.

وأما العدل: فيجتنب البائع والمشتري ما يتضرر به أحدهما كالاحتكار والغش والنجش، ولا يثني البائع على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها، ويرجح الوزن، وتحقيقه أن يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ. أما الإحسان في المعاملة: فقد أمر الله بالعدل والإحسان، ومن الإحسان المسامحة في البيع، وأن لا يغبنه في الربح بما لا يتغابن به عادة. وإذا أراد البائع استيفاء الثمن أو الدين فيحسن تارة بالمسامحة، وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، ومن الإحسان إقالة المستقيل. أما شفقة التاجر على دينه: فلا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده بل يراعي دينه، ويتم ذلك بأمور: الأول: حسن النية في التجارة، فينوي بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، وكفاية العيال، والإفاضة على الإخوان، والإحسان إلى الفقراء بالصدقات، وامتثال أوامر الله في التجارة ليحصل له الأجر، ويكون من جملة المجاهدين. الثاني: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، وطلب العلم، والدعوة، والعبادة، وأعمال البر المختلفة، فيقسم الأوقات حسب حاله، ويرجح سوق الآخرة. الثالث: أن يلازم ذكر الله تعالى في السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل، وغض البصر، وحفظ اللسان، والذكر والفكر والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الرابع: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منه. الخامس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام، بل يتوقى مواقع الشبهات، ومواضع الريب. السادس: أن يقصد بتجارته وصناعته مع إعفاف نفسه القيام بفرض من فروض

الكفايات التي يحتاجها المسلمون ليؤجر على ذلك. وشركاء الإنسان في المال ثلاثة: الأول: القدر فهو لا يستأمرك أو يستأذنك أن يذهب به عنك بهلاك أو موت. الثاني: الوارث ينتظر أن تضع رأسك وتدفن، ثم يستاقه وأنت ذميم. الثالث: أنت، فقدمه لما ينفعك، فستسأل عن مدخله ومخرجه. والله عزَّ وجلَّ خلق الخلائق من طير وحيوان، وإنس وجان، وكتب أرزاقهم وآجالهم وآثارهم، وهم جميعاً يأكلون من رزق الله. والله عزَّ وجلَّ يرزق أحياناً بالأسباب .. وأحياناً بدون الأسباب .. وأحياناً بضد الأسباب كما رزق مريم طعاماً بلا شجر، وولداً بلا ذكر، وفجر الماء لموسى وقومه من الحجر. وكل مخلوق كتب الله له مقدار رزقه .. ونوعية رزقه .. وزمان رزقه .. ومكان رزقه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6]. ولكل مخلوق رزقه ينتظره، فلا يمكن أن يأخذ أحد منه شيئاً، وهو يطلبه وإن لم يطلبه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. وبنو آدم يحصلون على أرزاقهم من خمسة أبواب: الباب الأول: باب المجاهدة والكد والتعب، وذلك بالبيع والشراء والتجارة والصناعة والزراعة، ونحو ذلك، وهذا الباب لعموم الناس. الباب الثاني: باب الحقوق والواجبات: كالوصية والميراث، والزكاة والصدقات، والهبة والهدية، والأوقاف ونحو ذلك. الباب الثالث: باب الذل والهوان: كمن يسأل الناس ويتذلل لهم ليعطوه. الباب الرابع: باب المعاصي والمحرمات: كمن يأكل الربا، ويسرق الأموال،

ويقطع الطريق، ويغصب الأموال، أو يغش في المعاملات، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يأخذها بطريق الميسر أو القمار، أو يحتكر المال، أو يأخذ الرشوة ونحو ذلك من الوسائل المحرمة. فهذا وما قبله قد كتب الله له رزقه ولكنه لم يصبر، واستعجل وأخذها بطريق الذل أو الحرام. الخامس: باب التقوى والصلاح: وهذا يحصل على رزقه بالإيمان والأعمال الصالحة كالاستغفار، وصلة الرحم، وحسن الخلق، والتقوى، والتوكل على الله، والإنفاق في سبيل الله، والإحسان إلى الخلق، والهجرة في سبيل الله ونحو ذلك كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وهذا الباب خاص بالمؤمنين. فالأول: مباح مأمور به .. والثاني: من الإحسان والحقوق فهو مشروع ومأمور به .. والثالث: أخس الأبواب وأدناها .. والرابع: أخطرها وأعظمها وأشدها جرماً .. والخامس: مأمور به، وهو طريق الأنبياء وأتباعهم، وهو أعلاها وأشرفها وأزكاها وأعظمها بركة. وكسب المال مباح، بل مأمور به، وإنما المذموم كسبه من غير وجهه، وصرفه في غير وجهه، ومنع الحق الواجب فيه. والوسائل لها أحكام المقاصد، فالذي يجعل الدين مقصد حياته، ثم يستخدم الوسائل المشروعة لهذا المقصد، فهذا كله خير. فالأموال والتجارة خير؛ لأنها من الوسائل التي جعلها الله نصرة للدين، فأبو بكر وعمر وعثمان، وابن عوف وطلحة والزبير رضي الله عنهم، كل هؤلاء تجار، وقد استخدموا تجارتهم للدين، فيؤجرون في الكسب الحلال، ويؤجرون في الإنفاق في سبيل الله، ويؤجرون في امتثال أوامر الله في تجارتهم، ويؤجرون في حسن الأخلاق في معاملاتهم، فتكون معاملاتهم سبباً لدخول الناس في

الإسلام، لما يرونه من عدل الإسلام وسماحته. والصحابة رضي الله عنهم كلهم أهل عمل وتجارة، وأقلهم ليس لديه عمل كأهل الصفة ونحوهم. وإذا جاء المال للإنسان بغير سؤال فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور: نفس المال .. وغرض المعطي .. وغرضه في الأخذ. أما نفس المال: فينبغي أن يكون خالياً من المحرمات والشبهات كلها. وأما غرض المعطي، فإن كان طلباً للمحبة بالهدية فلا بأس من قبولها إن لم تكن رشوة، وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق أم لا؟. وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياء والسمعة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد بردها. وأما غرضه في الأخذ، فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة. فالأفضل له الأخذ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -: «خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» متفق عليه (¬1). والله عزَّ وجلَّ جعل في المال حقوقاً، وهي نوعان: حقوق واجبة .. وحقوق مستحبة. فالحقوق الواجبة كالزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة على من تلزمه. والحقوق المستحبة، كمكافأة المهدي، والصدقات، والهدايا، وما وقى به عرضه ونحو ذلك. فالجواد حكيم يضع العطاء مواضعه، ويتوخى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طيبة بذلك نفسه، راضية مؤملة للخلف في الدنيا، والثواب في العقبى. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7164)، ومسلم برقم (1045)، واللفظ له.

أما المسرف المبذر فقد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيراً لا يصادفه، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافاً لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له. فالأول بمنزلة من بذر حباً في أرض خصبة فأنبتت من كل زوج بهيج. والثاني بمنزلة من بذر حبه في أرض سبخة. والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق، بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده. ومع هذا فالله إنما ينزل بقدر ما يشاء، وجوده لا يناقض حكمته، ويضع عطاءه مواضعه، وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه. فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يضع فضله، وأعلم حيث يضع هداه وتوفيقه وأي المحال أولى به: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]. والله سبحانه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء من عباده، ويحثه على الإنفاق في سبيل الله، فيبدأ عبده بالحض والتأليف، لا بالفرض والتكليف، ويشعره بأن الله يضاعف له أجر ما أنفق، يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده، ويضاعف من رحمته التي لا يعلم أحد مداها. ويطمئنه أنه في إنفاقه لا يعطي بل يأخذ، وأن ماله لا ينقص بل يزيد كلما أنفق، كما تعطي الحبة إذا أودعها في الأرض سبعمائة حبة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 262 - 263]. فالمن والأذى يحيل الإنفاق سماً وناراً، يمحق الإنفاق، ويمزق الشمل، ويثير السخائم والأحقاد، والمن عنصر كريه لئيم، فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس،

فالمن يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ على حد سواء، أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء، ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له، كسيراً لديه، ربما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام، ومن هنا يبطل الثواب والأجر بالمن والأذى كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة: 264]. وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد خلة الفقير، وملء بطن الجائع، وتلافي حاجة المعوز فقط؛ بل أراد فوق ذلك تهذيب نفس المعطي وتزكيتها، وتطهيرها من الشح والحرص والبخل، واستجاشة مشاعر الإنسان تجاه أخيه الفقير المحتاج، وتذكيراً له بنعمة الله عليه. وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا منّ. والمال مال الله، والرزق الذي في خزائن الأغنياء هو رزق الله، وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق القريبة والبعيدة. فالذي خلق الإنسان خلقه وساق رزقه إليه، فإذا أعطى الواجد شيئاً، فإنما يعطي من مال الله، وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وليس الفقير الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله. والصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله، والله غني عن الصدقة المؤذية، والصدقة التي يتبعها أذى لا ضرورة لها، وأحسن منها كلمة طيبة تضمد الجراح، ومغفرة تغسل أحقاد النفوس، وتحل محلها الإخاء والمحبة.

فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة من تهذيب النفوس وتأليف القلوب: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]. والله حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعاجلهم بالعقوبة وهو معطيهم كل شيء، فعلى الناس أن لا يعجلوا بالغضب والأذى على من يعطونهم من مال الله، حين لا يروقهم منهم أمر، ولا ينالهم منهم شكر. والصدقة حركة إحسان محسوسة، وهي ثمرة لما في القلب من الإيمان والكفر، والإخلاص والرياء. والمنفقون قسمان: الأول: من أنفق ماله رياء، فهذا لا يثمر خيراً، ولا يعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه التعب في كسبه، والحسرة على فوته، والعذاب على فعله وإنفاقه. الثاني: من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله، فهذا يثمر خيراً، ويعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه الأجر في كسبه، ومضاعفة أجره وماله، وتطهير نفسه وماله، والفوز بالجنة. والله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن يكون الجود بأفضل الموجود، فلا يكون بالدون والرديء الذي تعافه النفوس. والله غني عن الخبيث الذي يخرجه ضعيف الإيمان واليقين. حميد يحمد الطيب الذي يخرجه الإنسان، ويجزي به عليه جزاء الراضي الشاكر، وهو الذي أعطاه إياه. بل الله غني عن عطاء الناس إطلاقاً، فإذا بذلوا مالاً فإنما يبذلونه لأنفسهم، فليبذلونه طيباً طيبة به نفوسهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]. والأموال فيها خير من وجه، وفيها شر من وجه، وهي كالحية يأخذها الراقي

فيستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري. ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف: الأولى: أن يعرف الإنسان مقصود المال، وأنه لماذا خلق؟، فلا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه. الثانية: أن يراعي جهة دخل المال، فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة، وهتك المروءة ونحو ذلك. الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه، فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب، ومعياره الحاجة، والحاجة مطعم وملبس ومسكن، يميل فيها إلى جانب القلة، وإن جاوز ذلك وقع تدريجياً في هاوية لا آخر لعمقها. الرابعة: أن يراعي العبد جهة المخرج، ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه، ولا يضعه في غير حقه، فالإثم في الأخذ من غير حقه وصرفه في غير حقه سواء. الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك، والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له، فإذا فعل ذلك لم يضره وجود المال. وكذلك ينبغي أن تكون نيته في كل ما يحفظه من قميص وفراش وآنية، ينوي به الاستعانة على العبادة؛ لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين. وما فضل عن الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله، ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها، واتقى سمها، فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه، وعظم فيه علمه. ومن أخذ حية المال مستحسناً صورتها وشكلها، ومستليناً جلدها، قتلته في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف أنه قتيل،

وتلك الفتنة التي قلما يصحو منها أحد: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55 - 56]. وقال الله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فالأصل في المال إنفاقه في الواجبات والمستحبات، وفي كا ما يرضي الله طلباً للأجر وتخلصاً من كل شاغل عن الله، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 9 - 11].

4 - فتنة الأهل والأولاد

4 - فتنة الأهل والأولاد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. النفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، وقد نصح الله عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد التي فيها محذور شرعي، ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته؛ لما عنده من الأجر العظيم، والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية. ورغبهم في العفو والصفح والمغفرة، وتجنب الغلظة والقسوة في معاملتهم، ففي ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له. وإن من الأزواج والأولاد ما يكون صديقاً معيناً على الطاعة، ومنهم من يكون عدواً معيناً على المعصية. فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان، اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم. فلو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله، والمجاهد في سبيل الله يتعرض لآلام كثيرة، كما يتعرض هو وأهله للعنت، وقد يحتمل العنت في نفسه، ولا يحتمله في زوجته وأولاده، فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار، والمتاع والمال، فيكونون عدواً له؛ لأنهم صدّوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا، كما أنهم قد يقفون له في الطريق ليمنعوه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله فيفتنوه، ونحو ذلك من

صور العداوة المتفاوتة. فالله يريد من عبده أن يكون له، والأزواج والأولاد يريدونه لهم، فالله عزَّ وجلَّ يوقظ قلوب المؤمنين، ويحذرهم من تسلسل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات. فالأموال والأولاد فتنة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15]. والفتنة هنا لها معنيان: الأول: أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد ويختبركم كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب. الثاني: أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله. ثم يبشر الله عباده المؤمنين بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد بالأجر العظيم، ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة، وبالسمع والطاعة بقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16]. فالطاعة في الأمر ليس لها حدود، ومن ثم يقبل الله فيها ما يُستطاع، أما النهي فلا تجزئة فيه، فيُّحذر منه، ويُترك جملة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» أخرجه مسلم (¬1). إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة والإصلاح بها في الأرض، وبذلها في سبيل الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1337).

ومرضاته والإحسان بها إلى خلقه، فكلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً .. وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب .. فإذا السكينة تغمره .. والأمل في الله يُسرِّي عنه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. وقد تكون الأموال والأولاد نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده؛ لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه. فإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى والشر، وإذا هو يشقى كذلك بأبنائه إذا مرضوا، ويشقى بهم إذا صحُّوا، وكم من الناس يعذبون بأولادهم لسبب من الأسباب: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. فعلى المسلمين أن لا يقيموا وزناً لأموال وأولاد المنافقين؛ لأن الإعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم، وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور، إنما هو الاحتقار لهم ولما يملكون. وكثرة الأموال والأولاد لا تقرب من الله زلفى، ولا تدني إليه، وإنما الذي يقرب منه زلفى الإيمان بما جاءت به الرسل، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37]. والكفار يستحقون النار بكفرهم، ولا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} [آل عمران: 10]. وقد ابتلى الله عزَّ وجلَّ بني آدم بالشهوات، وزين لهم حب الشهوات الدنيوية، فتعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا إلى قسمين: قسم جعلوها مقصد الحياة، فصارت أفكارهم وأعمالهم لها، فشغلتهم عما

خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتمرغون بشهواتها، ولا يبالون بأي وجه حصولها، ولا فيما أنفقوها، فهؤلاء كانت لهم زاداً إلى دار الشقاء والعناء والعذاب. قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحاناً لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة إلى الدار الآخرة، يستعينون بها على مرضاة الله وطاعته، قد صحبوها بأبدانهم، وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها متاع. فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى ربهم، ووسيلة إلى رضوانه والفوز بجنته: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]. والإنسان إذا تبع هواه، وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا كان كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب كالكوز، فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأيُّ قَلْبٍ أنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أسْوَدُ مُرْبَادّاً، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» أخرجه مسلم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (144).

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات .. وترك المنكرات .. وحب المساكين .. وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. وأعوذ بك من عذاب جهنم .. وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال .. وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات.

4 - العدو الرابع: المنافقون

4 - العدو الرابع: المنافقون 1 - علامات المنافقين قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]. وقال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101]. النفاق: هو إظهار الخير وإبطان الشر. والنفاق قسمان: الأول: النفاق الأكبر: وهو النفاق الاعتقادي، بأن يظهر صاحبه الإسلام .. ويبطن الكفر .. وجميع ما ذكر في القرآن فالمقصود به النفاق الأكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. الثاني: النفاق الأصغر: وهو النفاق في الأعمال ونحوها، وصاحبه لا يخرج من ملة الإسلام لكنه عاص، وله علامات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه (¬1). والنفاق لم يكن موجوداً قبل هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة وبعد أن هاجر، فلما كانت غزوة بدر، ونصر الله المؤمنين على الكفار، وأظهرهم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (34) واللفظ له، ومسلم برقم (58).

وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر بعضهم الإسلام خوفاً ومخادعة، ولتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، وتحفظ مكانتهم، وليسهل عليهم كيد المسلمين، وتمزيق وحدتهم، والمكر بهم وخداعهم. فكانوا بين أظهر المسلمين، في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة أنهم ليسوا منهم، فنال المسلمين منهم شر عظيم وبلاء مستطير. ومن لطف الله تعالى بالمؤمنين أن كشف أحوالهم، وجلا صفاتهم، لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا عن كثير من فجورهم. ومن أعظم صفات المنافقين: الأولى: الكذب أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كما قال الله عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8]. الثانية: الخداع: فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر مخادعة لله ولعباده المؤمنين، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم، فما يعملون من المكر والكيد لإهلاك أنفسهم؛ لأن الله لا يتضرر بخداعهم، وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئاً: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} [البقرة: 9]. فسلمت أموالهم، وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر حين يرون ما يحصل للمسلمين من القوة والنصرة، ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع. الثالثة: الشك والتردد، ففي قلوبهم مرض الشك والشبهات والنفاق كما قال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} ... [البقرة: 10]. الرابعة: الإفساد في الأرض: فلا أعظم فساداً ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وعمل بالكفر والمعاصي، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، وأي فساد فوق هذا الفساد؟،

وأعظم منه شدة إنكارهم على من نهاهم عنه؟. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} ... [البقرة: 11 - 12]. فجمعوا بين فعل الباطل واعتقاده حقاً، وهذا أعظم جناية ممن عمل بالمعصية مع اعتقاد أنها معصية، فهذا أقرب إلى السلامة، وأرجى لرجوعه. وصلاح الأرض أن تعمر بالإيمان بالله وعبادته، وطاعة الله ورسوله. ولهذا خلق الله الخلق وأسكنهم في الأرض، وأدر لهم الأرزاق ليستعينوا بها على طاعة الله وعبادته، فإذا عمل الناس فيها بضده، كان سعياً بالفساد فيها، وإخراباً لها عما خلقت من أجله. الخامسة: تسفيه الناس، فهم يزعمون أن الصحابة والمؤمنين سفهاء، وأن سفههم أوجب لهم الإيمان، وترك الأوطان، ومعاداة الكفار، والتعرض للقتل والفقر، والحرمان من الشهوات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} ... [البقرة: 13]. فنسبوا المؤمنين إلى السفه، وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجج والنهي، وفي الحقيقة أنهم هم السفهاء؛ لأن السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة صادقة عليهم، فكم ينالهم بسبب نفاقهم من الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة. السادسة: الاستهزاء بالمؤمنين: فهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم معهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم وكبرائهم قالوا: إنا معكم في الحقيقة، وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين، فهذه حالهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 14 - 15]. فهذه أهم صفاتهم القبيحة، وعلاماتهم المميزة لهم، فلله ما أخسرهم، وما أعظم ضلالهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا

مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]. فالمنافقون رغبوا في الضلالة رغبة المشتري بالسلعة التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة، فالهدى غاية الصلاح، والضلالة غاية الشر، وهؤلاء المنافقون بذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة، فهذه تجارتهم، فبئس التجارة، وبئس الصفقة صفقتهم. فما أسفه وما أضل من بذل الهدى في مقابلة الضلالة .. واختار الشقاء على السعادة .. ورغب في سافل الأمور عن أعاليها. فهل مثل هذا رابح في تجارته؟. كلا .. بل هو خاسر فيها أعظم خسارة، حيث لا أمل في الربح هناك: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر: 15]. فهؤلاء المنافقون عاشوا بين المؤمنين وهم غير مؤمنين، لكنهم انتفعوا بنور الإيمان، وحقنت بذلك دماؤهم، وسلمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت، فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب. وحصل لهم ظلمة القبر .. وظلمة الكفر .. وظلمة النفاق .. وظُلَم المعاصي على اختلاف أنواعها .. وبعد ذلك ظلمة النار. {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 17 - 18]. فهم صم عن سماع الحق والخير .. وبكم عن النطق به .. وعمي عن رؤية الحق .. فهم لا يرجعون؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه. والمنافقون إذا سمعوا القرآن، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فيروِّعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها

كراهة صاحب الصَّيِّب الذي يسمع الرعد، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت كما قال سبحانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} [البقرة: 19]. هكذا حال المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره ونواهيه. ومن صفات المنافقين أنهم يحبون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهو كل من حكم بغير شرع الله، ولا يرغبون في الانقياد لشرع الله وتحكيمه في أي أمر من الأمور: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء: 60]. وإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله صدوا وأعرضوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61]. ومن صفاتهم محبتهم لكفر المؤمنين وحسدهم لهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء: 89]. ومن صفاتهم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين كما قال سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 138 - 139]. ومن صفاتهم المخادعة لله وأوليائه، والمراءاة في الأعمال كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} ... [النساء: 142]. ومن صفاتهم عدم الرغبة في الخروج للجهاد في سبيل الله طما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} ... [التوبة: 46]. ومن صفاتهم الكيد للإسلام وأهله، وإعمال الحيل في إبطال الدعوة إلى الله،

وخذلان المؤمنين وفتنتهم عن دينهم كما قال سبحانه: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} [التوبة: 48]. ومن صفاتهم أنهم مبغضون للدين وأهله، إن أصاب المسلمين حسنة وخير ساءهم ذلك، وإن أصاب المسلمين بلاء ومصيبة كنصر عدو عليهم فرحوا قبحهم الله كما قال سبحانه: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)} ... [التوبة: 50]. ومن صفاتهم كراهيتهم للإنفاق في سبيل الله، وإذا أنفقوا أنفقوا من غير انشراح صدر؛ لعدم إيمانهم، فهم ينفقونها حسرة، ولا يرجون عليها ثواباً فلذلك يكرهون الإنفاق كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]. ومن صفاتهم الجبن والخوف من الدوائر ومن المسلمين، فيخافون إن أظهروا حالهم من المؤمنين، ويخافون أن يتبرأ المؤمنون منهم، فيتخطفهم الأعداء من كل جانب، ولذلك يقسمون للمؤمنين كما قال سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: 56 - 57]. ومن صفاتهم عيب المسلمين وانتقادهم حسب مصلحتهم منهم كما قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} ... [التوبة: 58]. ومن صفاتهم كثرة الحلف والاعتذار للمؤمنين ليرضوا عنهم كما قال سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [التوبة: 62].

ومن صفاتهم عدم الرغبة في القرآن وحلق العلم؛ لأن ذلك يكشف ما في قلوبهم كما قال سبحانه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)} [التوبة: 64]. وقد فضح الله في القرآن مخازي المنافقين، وهتك أستارهم؛ لينكشف أمرهم، ويحتاط المسلمون لكيدهم ومكرهم، إلا أن الله لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن الله ستِّير يحب الستر على عباده. الثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين في ذلك الوقت إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب وأخوف، فلكل منافق في أي مكان وفي أي زمان الخوف والخزي والخذلان واللعن في الدنيا كما قال سبحانه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 60 - 61]. ولهم أشد العذاب يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. ومن صفات المنافقين تولي بعضهم بعضاً؛ لأنهم اشتركوا في النفاق فاشتركوا في تولي بعضهم بعضاً. وقد وصفهم الله بوصف عام، لا يخرج منه صغير منهم ولا كبير فقال سبحانه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]. ففسق المنافقين أعظم فسق، ولذلك صار عذابهم أشد عذاب، وقد جمع الله الكفار والمنافقين والمنافقات في النار، وألحق بهم اللعنة وأوجب لهم الخلود في النار؛ لأجتماعهم في الدنيا على الكفر، والمعاداة لله ورسوله وعباده المؤمنين، والكفر بآيات الله، وصدهم عن سبيله كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ

الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. ويجب على المسلمين جهاد الكفار والمنافقين بالسيف والسنان، واللسان والبيان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} [التوبة: 73]. فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد باليد واللسان والسيف والبيان. ومن كان مذعناً للإسلام بذمة، أو عهد فإنه يجاهد بالحجة والبرهان، ويبين له محاسن الإسلام، ومساوئ الشرك والكفر. ومن صفاتهم إخلاف الوعد، فمن المنافقين من يعطي الله عهده وميثاقه لئن أعطاه من فضله، وبسط له الرزق في الدنيا ليصَّدَّقن، ويعمل الأعمال الصالحة كما قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [التوبة: 75]. فلما أعطاهم الله بخلوا، وتولوا عن الطاعة والانقياد، وأعرضوا عن الله كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)} [التوبة: 76]. فلما لم يَفُوا بما عاهدوا الله عليه عاقبهم الله بالنفاق إلى يوم يلقونه كما قال سبحانه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77]. فليحذر العبد من هذا الوصف الشنيع أن يعاهد ربه على عمل صالح ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه الله بالنفاق كما عاقب هؤلاء. فهذا المنافق الذي عاهد الله لئن أعطاه الله من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين عاهد فغدر، ووعد فأخلف، وحدث فكذب، وتلك علامات المنافق. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا

اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه (¬1). وقد توعد الله من صدر منهم هذا الصنيع بقوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)} [التوبة: 78]. ومن صفات المنافقين ومخازيهم السخرية بالمؤمنين ولمزهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} [التوبة: 79]. فهل يطمع المنافقون برحمة الله ومغفرته بعد كفرهم بالله ورسوله؟. هيهات .. فالكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام مات كافراً: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} [التوبة: 80]. ومن صفاتهم تبجحهم بتخلفهم عن الجهاد، وعدم مبالاتهم بذلك، وفرحهم بذلك التخلف الدال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان كما قال سبحانه: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 81 - 82]. فليتمتع المنافقون في هذه الدار الفانية، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيراً في نار جهنم، جزاء كفرهم ونفاقهم، وعدم الانقياد لأوامر ربهم: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 82]. وليتقلب الكفار في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز والغلبة، في بعض الأوقات، فذلك كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلاً، ويعذبون عليه طويلاً: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (590).

فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196 - 197]. وإذا كان الكفار والمنافقون يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بهم، ويضحكون منهم، ويحتقرونهم ويزدرونهم فيوم القيامة: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 - 36].

2 - فقه عداوة المنافقين

2 - فقه عداوة المنافقين قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} ... [المنافقون: 4]. وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11 - 12]. المنافقون هم أعداء الدين حقاً، فصدوا عن سبيل الله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، فقد أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك، وأوهموا صدقهم: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)} ... [المنافقون: 2]. وهؤلاء المنافقون إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم من روائها ونضارتها، ومن حسن منطقهم تستلذ لسماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة، والهدى الصالح شيء، بل هم كأنهم خشب مسندة لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} ... [المنافقون: 4]. فلجبنهم وخوفهم وضعف قلوبهم وريبهم يخافون من أي صيحة؟. فهؤلاء هم العدو في الحقيقة؛ لأن العدو البارز أهون من العدو الذي لا يشعر به الإنسان، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي فيأخذ الأسرار وهو العدو المبين. وما أعظم فساد المنافقين، فإنهم يكفرون بآيات الله، ويصدون عن سبيل الله، ويخادعون الله وأولياءه، ويوالون المحاربين لله ورسوله، ويفسدون في الأرض، ويزعمون أنهم مصلحون: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 12].

والمنافقون والمنافقات في كل زمان، وفي كل مكان، تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد، فهم من طينة واحدة، وطبيعة واحدة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67]. قلوبهم مشتملة على سوء الطوية .. ولؤم السريرة .. والغمز والدس .. والضعف عن المواجهة .. والجبن عند المصارحة. أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر .. والنهي عن المعروف .. والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس .. نسوا الله .. فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة .. فنسيهم الله فلا وزن لهم، ولا اعتبار في الدنيا والآخرة، فهم فاسقون خارجون عن ملة الإسلام، فما هو جزاؤهم؟. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. والصلاة على الميت المنافق، والقيام على قبره تكريم، والمؤمنون يجب أن لا يبذلوا هذا التكريم لهذه الفئة الضالة الماكرة كما قال الله سبحانه لنبيه (: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84]. فهذا التكريم لا يستحقه من يتخلف عن الصف في ساحة الجهاد، لتبقى للتكريم قيمته، ولتظل قيمة الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله، لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة. وكما لا يُقبل هؤلاء المنافقون للعودة في صفوف الجهاد، كذلك لا يستحقون أي تكريم؟ {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 83 - 84]. وعلى المؤمنين أن لا يقيموا كذلك وزناً لأموال المنافقين وأولادهم؛ لأن الإعجاب بهما نوع من التكريم المعنوي لهم، وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الباطن، إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون من أموال وبنين: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} [التوبة: 85]. وقد قرر الله الأحكام النهائية بين المسلمين والمشركين .. ثم بين المسلمين وأهل الكتاب .. ثم بين المسلمين والمنافقين. فالمنافقون فسقوا عن دين الله، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، إنهم رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر، وهم كالجثة المنتنة وسط الأحياء تؤذي وتعدي: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)} [التوبة: 95]. فلهذا استحقوا بكفرهم وفسقهم، وجرمهم وكيدهم الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وليس للمنافقين عمل بين المسلمين إلا نشر الباطل، ومحاربة الحق، والتشكيك في الإسلام، وهم متحركون بباطلهم، ولا بدَّ لهم من مكان يجتمعون فيه لِيُّحْكموا خطط الدس والتشكيك في الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، والكيد لهم، والإضرار بهم، والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 119 - 120].

وقد أنشأ المنافقون أول معقل لهم في المدينة جوار مسجد قباء وهو مسجد الضرار لتنفيذ كيدهم ومكرهم، فكشف الله هذا المكان الذي سموه باسم الدين، ليخدعوا المغفلين، وليضربوا من خلاله الإسلام والمسلمين كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)} ... [التوبة: 107]. وقد نهى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحراقه وهدمه، فأُحرق وهُدم، وبطل كيد المنافقين، وقال الله لرسوله (: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108]. والعمل وإن كان ظاهره الصلاح فإن مداره على النية الخالصة لله، فالمساجد التي أسست على التقوى خير من المساجد التي بنيت على النفاق والإضرار بالمسلمين: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} [التوبة: 109]. وهذا المسجد الذي بناه المنافقون .. واتخذوه ليكون مكيدة للإسلام والمسلمين .. والإضرار بالمسلمين .. والكفر بالله .. وستر المتآمرين على المؤمنين .. والكافرين لهم في الظلام .. والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين .. وباسم الدين .. هذا المسجد ما يزال يُتخذ في كل زمان ومكان في صور شتى، تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين: تُتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه وخنقه، وتُتخذ كذلك في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين وتذبحه بالخفاء بالسكين.

وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات، وكتب وبحوث، تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين على الإسلام، الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق فتخدرهم تلك، وتطمئنهم أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق، فالمساجد مفتوحة، والشعائر قائمة، ولو كانت الأسواق ملعونة، والأخلاق منحوتة. وتتخذ في صور شتى كثيرة، وتكشف خمارها، وتكشر عن أنيابها كلما سنحت لها فرصة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} ... [الصف: 8]. وقد انتشرت مساجد الضرار الكثيرة في بلاد المسلمين، وفي بلاد الكفار، ولا يزال الإسلام يحارب من خلالها، وقد جلبت على المسلمين كل شر وفتنة وبلاء، وعم بلاؤها المدن والقرى، والرجال والنساء. ولخطر مساجد الضرار الكثيرة، فالواجب على علماء الأمة ودعاتها كشفها، وانزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس، وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي اتخذه المنافقون لضرب الإسلام وأهله، ومركزاً يجتمع فيه دعاة الباطل والضلال للكيد للإسلام وأهله. فلا بدَّ لتماسك المجتمع المسلم ووحدته من هدم كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار، وأن تكشف كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة. وبين مسجد التقوى وأعماله .. ومسجد الضرار وأعماله .. فرق كبير. هذا يؤدي إلى النار، وذلك يؤدي إلى الجنة. فمسجد التقوى مبني بأمر الله، موصل إلى رضوانه .. ومسجد الضرار مبني بأمر الشيطان، موصل إلى النار: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} [التوبة: 109].

والمنافقون يعتمدون على إتقانهم مهارة النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب، وعلى ستر عداوتهم وحسدهم في الغالب، ولكن الله لهم بالمرصاد يكشف أستارهم، ويفضح كيدهم ومكرهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} [محمد: 29 - 30]. والله سبحانه يعلم حقائق النفوس ومعادنها، ويطلع على خفاياها، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلاً. والابتلاء بالسراء والضراء .. وبالنعماء والبأساء .. وبالسعة والضيق .. وبالفرج والكرب .. كل ذلك يكشف ما هو مخبوء من معادن النفوس .. وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]. هكذا تتم حكمة الله في الابتلاء. ومع هذا فإن المؤمن يرجو أن لا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته، فإن أصابه بلاء بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة، مستسلم لمشيئة ربه، متطلع إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء. والقرآن يصور القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)} [الحشر: 11]. والله الخبير بقلوب العباد يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)} [الحشر: 11 - 12]. والمنافقون لجهلهم بالله، وقلة فقههم، يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من خلقه: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)} [الحشر: 13]. والمنافقون أجبن الناس وأخوفهم، ولرهبتهم من المؤمنين قال الله تعالى عنهم: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر: 14]. فهم متفرقون .. متنازعون .. مختلفون .. بأسهم بينهم شديد .. بخلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم .. وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء تواصل الزمان والمكان والجنس والعشيرة والوطن. والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن أهل الكتاب فيما بينهم، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، ولكن هذا كله مظهر خارجي خادع: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر: 14]. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخادع، وينكشف الحال عن نزاع داخل المعسكر الواحد. وما صَدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف العدو أمامهم عن هذه الاختلافات، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل ينفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد والدس في القلوب المتنافرة. وما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين إلا عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين. والله سبحانه يعرض أحوال هؤلاء المنافقين ليهوِّن من شأنهم أمام المؤمنين، ويرفع من نفوس المؤمنين هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم. ومتى أخذ المؤمنون بكتاب ربهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، صف الإيمان الذي لا تقف له قوة في الأرض. والمنافقون فيهم خبث الطبع، وخسة المشاعر: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى

مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} ... [المنافقون: 7]. إنها خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها في كل زمان ومكان على حرب العقيدة، ومناهضة الدين. ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة، كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين. إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب في مكة، لينفضوا عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسلموه للمشركين. وهي خطة المنافقين وهم يقاطعون مَنْ عند رسول الله، لينفضنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه تحت وطأة الضيق والجوع. وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعاة إلى الله في بلاد المسلمين بالحصار والتجويع، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق. وهكذا يتوافى ويتوافق على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان من قديم الزمان إلى هذا الزمان، ناسين أن الله غني: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7]. ومن خزائن السموات والأرض .. يرتزق هؤلاء الذين يريدون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أجهلهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين؟. فالله جل جلاله يثبت المؤمنين، ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة، والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ إليها أعداء الله في حربهم للمسلمين، ويطمئنهم أن خزائن الله في السموات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع، فكل سيصل إليه رزقه. والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه، فقد شاء العزيز الرحيم أن لا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ

رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]. وقد علم الله سبحانه أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يرزقون أنفسهم قليلاً ولا كثيراً لو قطع عنهم الأرزاق، وهو أكرم أن يكل عباده ولو كانوا أعداءه إلى ما يعجزون عنه البتة: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45]. فالتجويع خطة لا يفكر فيها، ولا يدعو إليها، ولا يقوم بها، إلا أخس الأخساء، وألأم اللؤماء. ولعظيم خطر المنافقين على المسلمين كشف الله في القرآن صفاتهم، وبين عوراتهم، وفضحهم حتى لا يخفى أمرهم على أحد. فبين سبحانه أنهم هم السفهاء .. المفسدون في الأرض .. المخادعون لله ورسوله والمؤمنين .. المستهزئون .. المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى .. وأنهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون .. وأنهم مرضى القلوب .. وأنهم أهل الحيرة والكسل عند العبادة .. وأهل التردد والتذبذب بين المؤمنين والكفار. وأنهم أهل الرياء مع قلة ذكر الله .. وكثرة الحلف باسم الله تعالى كذباً وباطلاً. وأنهم أهل الجبن والبخل .. لا يفقهون ما ينفعهم .. ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر .. وأنهم يكيدون للإسلام والمسلمين .. ويكرهون ظهور أمر الله .. وأنهم يحزنون إذا حصل للمسلمين خير ونصر .. ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء .. وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين .. ويكرهون الإنفاق في سبيل الله ومرضاته .. وأنهم يعيبون المؤمنين .. ويرمونهم بما ليس فيهم .. فيرمون الأغنياء عند الصدقة بالرياء .. ويلمزون المتصدقين الفقراء .. وهم عبيد الدنيا .. إن أُعطوا منها رضوا .. وإن لم يُعطوا سخطوا .. يؤذون الله ورسوله .. ويسخرون من المؤمنين. وأنهم يكرهون الجهاد في سبيل الله .. ويفرحون إذا تخلفوا عن نصرة الدين ..

ويتحايلون على تعطيل فرائض الله .. وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه. وأنهم أحلف الناس بالله .. قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم .. وأنهم رجس .. فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم .. وبأنهم فاسقون .. وأنهم مضرة على المؤمنين .. يقصدون التفريق بينهم .. ويوارون من حارب الله ورسوله. وأنهم يتشبهون بالمؤمنين ويضاهونهم في أعمالهم؛ ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم. وأنهم أحسن الناس أجساماً .. تعجب الرائي أجسامهم .. والسامع منطقهم .. فإذا جاوزت أجسامهم ومنطقهم رأيت خشباً مسندة .. لا إيمان ولا فقه .. ولا علم ولا صدق. وإذا عرضت عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنه لا حاجة بهم إليها .. يأمرون بالمنكر .. وينهون عن المعروف .. ويتولون الكفار، ويَدَعُون المؤمنين. قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله .. فهم حزب الشيطان الذين يوادون من حاد الله ورسوله .. وأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .. قد بدت البغضاء من أفواههم .. وما تخفي صدورهم أكبر. إذا حدث أحدهم كذب .. وإذا عاهد غدر .. وإذا خاصم فجر .. وإذا أؤتمن خان .. وإذا وعد أخلف. يؤخرون الصلاة عن وقتها .. فإذا أدوها نقروها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة. أشحة على المؤمنين بالخير .. أجبن الناس عند الخوف .. فإذا ذهب الخوف وجاء الامن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد وهم أشد الناس تقلباً .. لا يثبتون على حال .. بينما تراه صالحاً تعجبك حاله إذ انقلب إلى ضد ذلك .. معرضون عن الدين .. معارضون له .. يكتمون الحق .. ويُلَبِّسون على أهله.

يرمون المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله .. وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأنهم أهل فتن، مفسدون في الأرض، أهل بدع وضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله (رموهم بما ينفر الناس عنهم. وإن رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق ليقبل منهم. حالهم تروج على أكثر الناس، لعدم بصيرتهم بالنقد. وليس أضر على الأديان من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم توجب غضب الجبار، ودخول النار، فحذار حذار منهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} [المنافقون: 4]. فهذه النبتة الخبيثة، والحشرة السامة، والبذرة الشاذة، التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية، لا بدَّ من اجتثاثها، وقطع عروقها، قبل أن تكبر وتنتشر بذورها وسمومها في أرض الله، وتهلك الحرث والنسل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} [التوبة: 73]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، واستعمل جوارحنا في عبادتك، وأشغل ألسنتنا بذكرك.

5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون فقه عداوة الكفار والمشركين قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101]. وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} ... [المائدة: 82]. كشف الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أباطيل الكفار، وبيَّن بطلانها بالأدلة الحسية، والبراهين العقلية، حتى ظهر الحق وزهق الباطل. وأباطيل الكفار ثلاثة أنواع: الأول: ذكر الله بما لا يليق به من أن الملائكة بناته، وأن له ولداً وشريكاً، وأنه ثالث ثلاثة، ووصفه بما لا يليق به ونحو ذلك. الثاني: ذكر رسول الله (بأنه ساحر وكاهن، وشاعر ومجنون، وإنكار لنبوته ونحو ذلك. الثالث: إنكار البعث، واليوم الآخر، والجنة والنار، وإنكار الثواب والعقاب. واليهود والكفار والمشركون أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً، وعناداً وكفراً. وهؤلاء الكفار لا يؤمنون، فلا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]. وبسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق طبع الله على قلوبهم بطابع لا يدخلها الإيمان، ولا ينفذ فيها، فلا يَعُون ما ينفعهم، ولا

يسمعون ما يفيدهم، وجعل على أبصارهم غشاوة تمنعها من النظر الذي ينفعهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 7]. فهذا لهم عقاب عاجل في الدنيا، أما العقاب الآجل فهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} ... [الرعد: 34]. وطبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجتهم كذلك مكرورة على مر الأجيال والقرون: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23]. فليس قصد هؤلاء المشركين الضالين بتقليد آبائهم اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض يراد به نصرة ما معهم من الباطل، ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف: 24]. فتغلق قلوب هؤلاء على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم، دون التدبر لأي جديد، ولو كان أهدى، ولو كان أجدى، ولو كان يصدع بالدليل والبرهان، فعلم بهذا أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما أرادوا اتباع الباطل والهوى. فإذا تمسكوا بما عليه آباؤهم من الضلال، ولم يستجيبوا للرسول، فلا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينها لترى، أو تفتح قلبها لتحس، أو تفتح عقلها لتستبين: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} ... [الزخرف: 24 - 25]. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الحق كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6 - 7]. وواجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة التوحيد الكفار والمشركين من أول يوم، وأمره ربه

سبحانه أن يقول لهم: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6]. فالإيمان ضد الكفر .. والتوحيد ضد الشرك، فلا يجتمعان أبداً في قلب عبد كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} [التغابن: 2]. ولما كان الكفار والمشركون في مكة وغيرها يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، جاء القرآن في عامة نصوصه ينكر على الكفار كفرهم بالله، وينكر على المشركين شركهم بالله، ويسخر من عقول عباد الأصنام والأوثان، ويسفه أحلامهم، ويكشف لهم عن حقارة هذه الأصنام وعجزها، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، فكيف يعبدونها من دون الله؟. فقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} ... [الأحقاف: 5 - 6]. وقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء: 98 - 100]. وقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73 - 74]. فواجه الكفار والمشركون هذه الدعوة بإثارة الشبه حول حامل رايتها وهو القرآن، ليشككوا الناس فيه، وفي صحته وخيريته، وسلكوا في سبيل تحقيق ذلك مسالك متعددة:

فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)} ... [الأحقاف: 17]. وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 24 - 25]. وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 4 - 5]. والله تبارك وتعالى يؤكد لهم ويقسم بما يُرى وما لا يُرى، أن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، جاء به رسول كريم كما قال سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 38 - 43]. وظل هؤلاء الكفار والمشركون يسخرون من هذا الدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويواجهون رسول الله بما يكره لعله أن يرجع عما جاء به. فقالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)} [الحجر: 6 - 7]. وقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)} [الأنعام: 8]. ثم زادوا في التهكم والسخرية: فقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32]. وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} [سبأ: 7 - 8]. وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124]. واستمروا على كفرهم وعنادهم وكبريائهم كما قال الله عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} [الأنفال: 31]. فما أعظم جحود هؤلاء الكفار، وما أشد إثمهم: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)} [الجاثية: 7 - 10]. ويل لكل أفاك أثيم .. أهذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، وفيه الهدى والشفاء، يمكن أن يكون قول ساحر، أو شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو كذاب؟. ولما بلغ الكفار هذا الحد من الاستهتار والاستخفاف والاستكبار، تعين كسر شوكتهم، ورد باطلهم في أفواههم، ودمغهم بالحق المبين، الذي لا يبقي بعده أي شبهة كما قال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. فتحداهم الله أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} ... [الإسراء: 88]. ثم تحداهم الله عزَّ وجلَّ أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13]. ثم تحداهم لا بالقرآن كله، ولا بعشر سور مثله، بل بسورة مثله، فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 38]. ولما يئس الكفار والمشركون عن معارضة القرآن بأي وجه غيروا خطتهم في محاربة الحق، ودفاعهم عن الباطل، فراحوا يطالبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزات

المادية الحسية كالتي كانت للأنبياء قبله، كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)} [طه: 133]. وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء: 90 - 93]. ولما ألحوا في المطالبة، والله سبحانه لم يجبهم رحمة بهم، إذ لو جاءتهم الآيات فلم يؤمنوا هلكوا، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ولو رأوا الآيات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111]. وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} [الحجر: 14 - 15]. وليس معنى هذا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معه آيات ومعجزات، فقد كان له معجزات، ولكنها ما كانت مقرونة بالتحدي، كراهية أن لا يؤمن بعدها من طلبها فيهلك. ولما ألح المشركون في طلب الآيات: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: 109]. والكفار لكفرهم والمشركون لشركهم في غفلة عن آيات الله الكبرى، في السموات والأرض والجبال والبحار والنبات والحيوان. فبين الله لهم أن أكبر آية ومعجزة جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن، وهي آية عقلية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فتكفيهم كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أوْحَاهُ الله إِلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). ثم زادوا في التهكم والسخرية من البعث بعد الموت. {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء: 49 - 51]. {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} ... [السجدة: 10 - 11]. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. ثم أقروا بالقرآن إلا أن الذي منعهم من اتباعه أن يأتي به بشر كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 94 - 95]. ثم صدهم عنه أنه لم يأت به رجل شريف عظيم ذو جاه وسلطان، بل جاء به رجل بسيط فقير: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 31 - 32]. وسخروا من الرسول ومن طريقة حياته: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4981) واللفظ له، ومسلم برقم (152).

وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 7 - 8]. ثم تورطوا تورطاً آخر يدل على حمقهم وسفههم، فأقروا بأن القرآن هدى، لكنهم خافوا إن اتبعوه أن يُتخطفوا من أرضهم كما قال سبحانه: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57]. فإذا أَمَّنكم ورزقكم وأنت كافرون، فهل يتخلى عنكم وأنتم مؤمنون؟. ثم حأولوا بعد عجزهم عما سبق أن يخنقوا دعوة التوحيد لا إله إلا الله بصرف الناس عنها وتنفيرهم منها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24 - 25]. والإعراض عن القرآن، وصد الناس عنه، واللغو عند سماعه كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)} ... [فصلت: 26 - 27]. وبعد حرب ضروس ذاق فيها المشركون مرارة الهمّ والغمّ والحزن، ومرارة القتل والأسر والهزيمة على أيدي من استضعفوهم بالأمس ناداهم الله بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} ... [البقرة: 21 - 24]. إن الكفار والمشركين لا يدينون لله وحده بالعبادة .. وهم كذلك لا يعترفون

برسالة رسوله .. ويواجهون بالجحود والكفر خالقهم ورازقهم. والإسلام وإن كان له مع هؤلاء عهود أمر الله بالوفاء بها فهي عهود مرحلية لمواجهة الواقع، والذي يقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداءً من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه، وأن يوادَع من يريدون موادعته في فترة من الفترات، وأن يعاهَد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل، فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي، الذي يستهدف ابتداءً أن لا يكون في الأرض شرك بالله، وأن تكون العبودية لله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} ... [البقرة: 193]. كما أنه لا يغفل أن هذه العهود مع المشركين موقوتة من جانب أنفسهم، وأنهم لا بدَّ مهاجموه ومحاربوه ذات يوم. وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه، ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له، ويستديرون لمواجهته كما قال الله عنهم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. والله عزَّ وجلَّ يريد من عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له، وهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وآذوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} [الفتح: 25]. فكيف يكون لهؤلاء المشركين عهد عند الله وعند رسوله؟. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} ... [التوبة: 7].

وكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، وهم أيها المسلمون لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم؟ ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينكم وبينهم، وفي غير ذمة يرعونها لكم. وهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، ولو أنهم قدروا عليكم مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة، فليس الذي يمنعهم من التنكيل بكم أن بينكم وبينهم عهود، إنما الذي يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم. فإذا تمكن هؤلاء الكفار منكم، أنزلوا بكم أقسى العقوبات؛ لما في قلوبهم من الحقد عليكم. وإذا كانوا اليوم وأنتم أقوياء يُرضونكم بأفواههم بالقول اللين، والتظاهر بالوفاء بالعهد، فإن قلوبهم تنغل وتغلي عليكم بالحقد، وتأبى أن تقيم على العهد، فما بهم من وفاء لكم ولا ود، فاحذروهم فقلوبهم مملوءة بالحقد عليكم: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} ... [التوبة: 8]. وبسبب فسقهم عن دين الله، وخروجهم عن هداه، آثروا على آيات الله ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يخافون فوته. وقد كانوا يخافون أن يفوت عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم، أو يكلفهم شيئاً من أموالهم، فصدوا عن سبيل الله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)} [التوبة: 9]. وجميع الكفار والمشركين لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم، وإنما يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها، لكل مسلم، لكل مؤمن، للإيمان ذاته كما قال سبحانه: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} ... [البروج: 8 - 9].

فالإيمان هو سبب النقمة، فهم يحقدون على المسلمين ويحسدونهم، ولا يرعون في مؤمن عهداً، ولا يتذممون من منكر: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)} ... [التوبة: 10]. إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم، ولا يقعد هؤلاء الأعداء من الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك. لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة. هذا منهج الكفار مع المسلمين، وهو معلوم وواقع مشهود' لا ينحرفون عنه إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. وهؤلاء الكفار إن آمنوا بالله وعملوا بأحكام دينه فهم إخواننا، وإن نكثوا لما بايعوا عليه من الإيمان، وطعنوا في دين المسلمين فهم إذن أئمة الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود، وعندئذ يكون القتال لهم لعلهم أن يتوبوا إلى الهدى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)} ... [التوبة: 12]. إن قوة الجيش الإسلامي ومظهره وغلبته في الجهاد قد تَرُدّ قلوباً كثيرة إلى الصواب، وتريهم الحق الغالب فيعرفونه، ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق، ولأن وراءه قوة الله، فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى، لا كرهاً وقهراً، ولكن اقتناعاً بالقلب، بعد رؤية واضحة للحق الغالب، وقد وقع ذلك وما زال يقع: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4]. فالمعركة طويلة الأمد، ولم تكن بين المسلمين والمشركين بقدر ما كانت بين

الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. وإذا كان الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ختم بهذه الرسالة، فما هو موقف الكفار والمشركين من كل رسول ومن كل رسالة؟. وماذا فعل الله بهم جزاء كفرهم وعدوانهم للرسل؟ وماذا صنع المشركون مع نوح وهود وصالح، ومع إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم؟. وماذا فعلوا بالمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع الكفار والمشركون مع محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. وماذا فعلوا مع المؤمنين به كذلك إلى يومنا هذا؟. إنهم لم يَرْقُبوا فيهم إلاً ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم. وماذا صنع المشركون التتار بالمسلمين في بغداد؟. إنها مأساة دامية اقترفها الوثنيون التتار في حق المسلمين، فقد سفكوا دماء المسلمين حتى صارت الجثث كالتلول، وأنتنت البلد من جيفهم، وتلوث الهواء، فحصل بسببه الوباء، وسرى في الهواء إلى الشام، ومات خلق كثير من تغير الجو، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء، والطعن والطاعون والمذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وما حصل من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان في الوقت الحاضر، لا يقلّ شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد. وأهل الكفر والشرك في كل زمان ومكان يرثون العداوة للمسلمين ممن سبقهم، ويحاربون المسلمين بكل ما يقدرون عليه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.

لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن بضعة وعشرين مليوناً من المسلمين والمسلمات، وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق، وذلك عبر وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن في كثير من بلاد الإسلام، وبلاد الكفار، ولولا أن الله تكفل بحفظ دينه وكتابه، والعصبة المؤمنة التي تحمله وتحكمه وتعمل بموجبه، لم تجد أثراً لمسلم ولا مسلمة. كذلك فعلت يوغوسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها ما تقشعر له الأبدان فقد قتلت وأبادت منهم أكثر من مليون مسلم، ومن أعظم صور الإبادة والتعذيب الوحشي إلقاء المسلمين رجالاً ونساءً أحياء في مفارم اللحوم، ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء، قاتلهم الله أنى يؤفكون. وكلما ابتعد المسلمون عن دينهم سلط الله عليهم من يذلهم ويؤدبهم حيث كانوا ومن كانوا، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19]. فهل فوق هذا من عقوبة، وهل رأيت وحشية فوق هذه الوحشية؟. إنه ليس عند الكفار للمسلمين إلا هذه العداوة، وهذه القسوة، وهذه الإبادة متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد بين الله جل جلاله الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين فقال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} ... [النساء: 89]. وقال سبحانه: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]. وقال سبحانه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} ... [الممتحنة: 2].

وقال سبحانه: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)} [التوبة: 10]. فهذا وصف الله لهم: عداوة مستمرة .. وإبادة بلا رحمة .. وطبيعة دائمة في حرب الإسلام والمسلمين بلا هوادة .. لا حالة مؤقتة عارضة .. إنه العداء العنيد .. والكيد الناصب .. والحرب الدائمة التي لم تفتر على مدار التاريخ .. وإنفاق الأموال .. وبذل الطاقات .. لضرب الإسلام في أي مكان وفي أي زمان. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. إن الجاهلية بكل ما فيها من أحزاب الكفر لا ترضى عن الإسلام أن يكون له كيان مستقل ... ولا تطيق أن يكون له وجود تراه .. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها .. فكما لا يجتمع النور والظلام كذلك لا يجتمع الحق والباطل في مكان، لأن الإسلام إذا تميز بدولة ورجال ونظام أخافها، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية، لذلك لا يطلب الكفار من الرسل مجرد أن يكفوا عن دعوتهم فحسب، بل يطالبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في المجتمع الجاهلي معهم، وأن يذوبوا فيه، فلا يكون لهم كيان مستقل، وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل ويأبونه، فما ينبغي للمسلم أن يعود إلى الظلام بعد النور الذي أكرمه الله به كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} ... [إبراهيم: 13 - 14]. وهذا دأب الطاغوت إذا أحس بهزيمته أمام العقيدة خرج شاهراً سيفه بالقوة المادية الغليظة، وعندما تسفر القوة المادية الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا مجال لحجة.

ولا يسلم الله الرسل وأتباعهم إلى الجاهلية، فالتجمع الجاهلي لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته. والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته، هم ناس يجهلون أن كل فرد في المجتمع يعمل لحساب هذا المجتمع الشاذ. لذلك لا يرتضي الرسل الكرام العودة في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها كما قال سبحانه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]. وهنا وبعد هذا التهديد من الكفار .. وبعد الثبات على الدين من المؤمنين .. ينزل عذاب الله .. ويحيط بالكافرين .. بضربة مدمرة قاضية لا تقف لها قوة البشر المهازل وإن كانوا طغاة متجبرين: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 13 - 14]. ولا يفصل الله بين المؤمنين والكفار إلا بعد مفاصلة المؤمنين للكفار، ورفضهم أن يعودوا لملة قومهم، وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم .. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة .. ويتمايز الفريقان عقيدة ومنهجاً .. وبعد أن تبذل القوة المؤمنة كل طاقة تمكنها. عندئذ يأتي وعد الله بالنصر على الأعداء .. ويدمر الطواغيت الذين كانوا يتهددون المؤمنين .. ويمكَّن للمؤمنين في الأرض .. فتقف القوة الصغيرة الهزيلة .. قوة الطغاة الظالمين في صف .. ويقف المؤمنون المتواضعون ومعهم قوة الله في صف. فإذا دعا كلاهما بالنصر والفتح كانت العاقبة كما يجب أن تكون: {وَاسْتَفْتَحُوا

وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} ... [إبراهيم: 15 - 17]. ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل كل يوم من جسم التجمع الجاهلي في أول الأمر، وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بدّ له من مواجهة التجمع الجاهلي ليتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده. ومن أجل هذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام، إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح، ومواجهة الدفاع عن الربوبية التي اغتصبها العباد، وهي من حق الله وحده. لذلك واجهت الجاهلية الإسلام في معركة حياة أو موت، ومعركة بقاء أو زوال لا هوادة فيها، وأعداء هذا الدين من الكفار والمشركين يصفون القرآن الذي يعالج النفوس والعقول والقلوب، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس، وعلاقات المجتمع، وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل، ويبين قصص الأولين، وعاقبة المؤمنين والكافرين، يصفونه بأنه أساطير الأولين. والأساطير: هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 24 - 25]. إن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان، وهذا سيؤدي بهم إلى حمل ذنوبهم، وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول، ويصدونهم عن الإيمان والقرآن، ويضاعف العذاب للكفار بما كفروا، وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوهم عن سبيل الله كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. فالكفر فساد، والحمل عليه إفساد، وهؤلاء قد ارتكبوا جريمة كفرهم، وجريمة

صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً، وذلك شأن عام مع جميع الأقوام. والطغاة المتسلطون يهددون بالعذاب الغليظ، ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح كما قال فرعون للسحرة لما آمنوا: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} [طه: 71]. إنه الاستعلاء بالقوة الغاشمة، قوة الوحوش في الغابة، القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة، وحيوان يقرع بالناب. إن كفار مكة يظنون أن الدين كالتجارة، فهم على استعداد للتخلي عن كثير من تصوراتهم في مقابل أن يتخلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما يدعوهم إليه، وربه ينهاه عن ذلك بقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} ... [القلم: 8 - 9]. فهي المساومة إذاً كما يفعلون في التجارة، وفرق كبير بين العقيدة والتجارة، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها أبداً، فهم يريدون من النبي (أن يترك سب آلهتهم، وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يداهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]. ولم يساوم - صلى الله عليه وسلم - في دينه وهو أحرج المواقف في مكة، وهو محاصر في دعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُعذبون ويُؤذَوْن في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة فينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين تأليفاً لقلوبهم، أو دفعاً لأذاهم.

وساوموه على أن يعبد ما يعبدون، وهم يعبدون ما يعبد، فحسم الله هذه المساومة المضحكة بقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6]. ولقد واجه الملأ من قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل أذى، بالقول وبالفعل .. وعرضوا عليه عروضاً مغرية لعله أن يقبلها ويترك ما جاء به من الدين .. واتهموه تارة بالسحر .. وتارة بالكذب .. وتارة بالشعر .. وتارة بالكهانة .. وتارة بالجنون، ولكنه لم يبال بالعروض .. وصبر على السب والأذى .. ومضى يدعو إلى الله حتى أظهر الله دينه .. وجاء الحق .. وزهق الباطل. والله سبحانه يأمر رسوله (بأداء رسالته إلى البشرية .. وينهاه عن طاعة أحد، من هؤلاء الملأ المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، وهو الوليد بن المغيرة، أحد كبار طغاة قريش، له مواقف مشهورة وكثيرة في الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} [القلم: 10 - 15]. وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين .. استهزاءً بآياته .. وسخرية من رسوله .. واعتداء على دينه .. وكفراً بالله ونعمه. وما جزاء هذا الصنف العنيد المستكبر الأثيم: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16]. إنها القاصمة والعلامة المخزية التي يستأهلها عدو الإسلام، وعدو الرسول الكريم، لمثل هذه الهامات الشامخة، والكبرياء المنفوخة. إنه العزيز الجبار القوي القهار يقول لرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - خَلِّ بيني وبين هؤلاء الكفار المكذبين، المغترين بالمال والبنين، والجاه والسلطان، فالحرب معي، لا معك ولا مع المؤمنين، وهذا المخلوق عبدي، وأنا سأتولى أمره، وذرني

لحربه، فأنا به كفيل، فسأملي لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44 - 45]. والله يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وشأن المكذبين وأهل الأرض أجمعين أهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذا التدبير، ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم فارون، وإن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوإ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. إن حجج الإسلام ومبادئه بينة عادلة، دافعة تدفع جميع طوائف الكفر، ولذلك فهم لا يملكون إلا الإيذاء والقتل؛ لأن الإنسان حين يفقد حجته يلجأ إلى العنف، وطالما هو يملك الحجة فيستطيع أن يجادل ويخاصم. ولا يلجأ إلى العنف أبداً ما دام قوياً بحجته وبرهانه، ولا يلجأ إلى العنف إلا ضعيف الحجة، ولذلك قال أصحاب القرية لرسلهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} [يس: 18]. إن مواكب الكفر ورجاله لا تملك أي حجة أمام دين الله، وأمام حملة رسالته، ولكنهم خشية على شهواتهم، وحرصاً على أموالهم، وخوفاً على الجاه والسلطان الذي اغتصبوه ظلماً وعدواناً، وحتى لا يتساووا مع الناس في الحقوق والواجبات، هم يلجؤون دائماً إلى الإيذاء والعنف والقتل في مواجهة مواكب الإيمان، ويحاربونهم بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، ما دام أنهم قد فقدوا المنطق والبرهان، وضاعت حجتهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ

الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} ... [إبراهيم: 13، 14]. وهؤلاء الكفار ليس لهم قيمة ولا قوة ولا قدرة، وهم أقل من أن يُنزل الله عليهم قوة من السماء لتقضي عليهم، فهم لا يساوون شيئاً. وهو سبحانه إن تركهم في غيهم في الدنيا فليس معنى ذلك أنه غير قادر عليهم، وليس مرجعه أنهم معجزون في الأرض، أو يساوون شيئاً أمام قدرة الله، بل مرجعه إلى أن الله خلق الإنسان وأعطاه حرية الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن، ومشيئة الله سبحانه أن يترك الكافر يجادل ويكابر، وينذره ويرسل إليه الرسل ومواكب الإيمان، لا لأنه لا يقدر عليه، ولكن لأن الله جعله مختاراً، وله يوم يأتي فيه أجله، أو ينتهي عمره، فهو لا يساوي عند الله شيئاً، والله قادر أن يسلبه الحياة في أي لحظة كما قال سبحانه عن صاحب يس: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} [يس: 28 - 30]. فالله خلق العباد، وقدر الآجال والأرزاق، وابتلاهم بالأعمال، فمنهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ولولا هذه الآجال، وهذا الابتلاء لعاجلهم الله بالعقوبة كما قال سبحانه: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} ... [الشورى: 14]. ألا ما أعظم الكفر وأقبحه، ولذلك توعد الله أهله بأشد العقوبات كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161 - 162]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} [آل عمران: 10].

وقال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} [آل عمران: 12]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} ... [آل عمران: 91]. وقال سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} ... [الرعد: 31]. وقال سبحانه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران: 196 - 197]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} ... [المائدة: 36]. وإذا كانت هذه عقوبات الله للكفار، وليس لأحد بها من طاقة، فهل يعود الكافر إلى ربه ويتوب إليه؟. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: 38]. وجميع أعمال الكفار غير مقبولة عند الله؛ لأنها مبنية على الكفر والتكذيب، لكن ما كان لله منها يجازَوْن به في الدنيا بنعمة الصحة والمال ونحو ذلك. أما في الآخرة فلا نصيب لهم من أعمالهم كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} [إبراهيم: 18].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» أخرجه مسلم (¬1). وقد أبعد الله الكفار في الدنيا والآخرة من رحمته وكفى بذلك عقاباً: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب: 64 - 66]. والله سبحانه لا يغفر لمن أشرك به أحداً من خلقه، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب والمعاصي كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. والكفر ضد الإيمان، وجميع الكفار أعداء للمؤمنين. والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار .. وكفر جحود .. وكفر عناد .. وكفر نفاق. وكل من لقي ربه بذلك أو بشيء من ذلك فهو كافر لا يغفر الله له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فأما كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]. وأما كفر الجحود فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89]. وأما كفر العناد فهو أن يعرف بقلبه، ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2808).

وأما كفر النفاق فأن يكفر بقلبه، ويقر بلسانه، وهؤلاء أخطر الكفار على الإسلام، وأشدهم عقوبة يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. والكفار لغلظ كفرهم، وكفرهم بالله وآياته وشرعه، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالشقاء والنكد والظنك، ويوم القيامة يحشرون على وجوههم إلى جهنم عمياً لا يبصرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون، كما قال سبحانه عنهم: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} [الإسراء: 97 - 98]. وقال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} ... [الرعد: 34]. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). ألا ما أعظم الكفر والشرك والنفاق. إن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب الله عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نَجَسٌ، ومنعهم من قربان حرمه، وجعلهم أعداءه وأعداء ملائكته ورسله والمؤمنين، وأباح لأهل الإسلام أموالهم ونساءهم وأبناءهم. لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6523)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.

العالمين، نسأل الله السلامة والعافية. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].

6 - العدو السادس: أهل الكتاب

6 - العدو السادس: أهل الكتاب فقه عداوة أهل الكتاب قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51]. أهل الكتاب من اليهود والنصارى بلغ بهم الحسد أنهم ودوا لو يردون المؤمنين عن الإيمان، وقد سعوا في ذلك وأعملوا المكايد، فأمر الله المؤمنين بمقابلة من أساء إلينا منهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره، ثم بعد ذلك أتى الله بأمره المؤمنين بجهادهم، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم فقتلوا من قتلوا، واسْتَرَقّوا من اسْتَرقّوا، وأَجْلَوا من أَجْلَوا، كما قال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. والمشركون واليهود والنصارى كلهم أعداء للإسلام والمسلمين، لكن المشركين واليهود أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً وعناداً وكفراً. والنصارى أقرب الخلق إلى المسلمين وإلى ولايتهم ومحبتهم من اليهود

والمشركين، وذلك لأن فيهم علماء زاهدين، وعباداً في الصوامع، والعلم مع الزهد والعبادة يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة. فلذلك لا توجد فيهم غلظة اليهود، ولا شدة المشركين. وليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومحبتهم، والمتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر. وهم إذا سمعوا ما أنزل الله إلى الرسول من القرآن أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} ... [المائدة: 83]. وقد نهى الله عباده المؤمنين عن تولي الكفار واليهود والنصارى؛ لأن هؤلاء أعداء المسلمين، يتناصرون فيما بينهم، ويتعاونون على ضرب الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، فكيف يتولاهم المسلم؟. وقد بين الله أحوال اليهود والنصارى، وأظهر صفاتهم، وكشف شرورهم ومكايدهم، ليحذرهم المسلم، ولا يركن إليهم، فهم أعداء الله حقاً. وبين سبحانه بياناً شافياً ما عليه اليهود والنصارى من الكفر والظلم .. والكيد والمكر .. والغش واللبس .. والصد عن سبيل الله .. والإفساد في الأرض .. وغير ذلك من الصفات التي أوجبت لعنة الله لهم .. وغضبه عليهم .. وتمزيقهم كل ممزق .. وضرب الذلة والمسكنة عليهم .. وذلك بعد نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم .. واتباعهم أهواءهم .. وما تتلوه الشياطين عليهم .. ومن ذلك: الكذب والافتراء كما قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} ... [البقرة: 79]. وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ

الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} [آل عمران: 78]. ومنها كتمان ما أنزل الله من الحق كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران: 187]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} [البقرة: 174]. ومنها تحريف كتب الله كما قال سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]. ومنها نقض العهد والميثاق كما قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 13]. وقال سبحانه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]. وقال سبحانه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100]. ومنها الغرور والكذب كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]. وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} [البقرة: 80].

وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)} [المائدة: 18]. ومنها وصف الله بما لا يليق بجلاله كما قال سبحانه عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]. وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30]. وقال سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181]. ومنها الكفر بالله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} [البقرة: 88]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [النساء: 150 - 151]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 73 - 74].

ومنها الكفر بما أنزل الله من كتب .. كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89]. وقال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} ... [البقرة: 90]. ومنها تكذيب الرسل وقتلهم كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} ... [المائدة: 70]. وقال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]. وقال سبحانه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61]. وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ [البقرة: 101 - 102]. والناس في سماع الحق أربعة أقسام: الأول: وهو أعلاها من سمع الحق وقبله وانقاد له وهم المؤمنون كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 83 - 84]. الثاني: من امتنع عن سماع الحق وأعرض عنه وهم الكفار كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26].

الثالث: من سمع الحق ولم يفقه المعنى كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} ... [الأنفال: 22 - 23]. فهؤلاء والقسم الثاني لم يعلم الله في قلوبهم خيراً فيسمعهم سماع فقه وقبول. الرابع: من سمع الحق وفقه لكنه لم يقبله كاليهود الذين قال الله فيهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} [النساء: 46]. فهؤلاء كالقسم الثاني والقسم الثالث عرفوا الحق ولم يقبلوه فكانوا مغضوباً عليهم ملعونين وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه. ومنها الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. ومنها عدم الانقياد للهدى كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145]. ومنها الصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72]. وقال سبحانه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 161]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ

أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. ومنها عبادة غير الله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} [المائدة: 116]. ومنها إيذاء المؤمنين كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]. ومنها الإيمان بالباطل والدعوة إليه كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51]. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)} [النساء: 44]. وقال سبحانه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]. ومنها التضليل والحسد كما قال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]. وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} ... [النساء: 54 - 55]. وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ

إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. فهذه صفات أهل الكتاب، وهذه أخلاقهم، وإلى هذا الحد وصلت أحوالهم، وتردَّت أوضاعهم، فبين الله تبارك وتعالى أنهم بهذه الحال ليسوا على شيء حتى يعودوا إلى دينهم، ويؤمنوا بربهم، ويعملوا بأحكام دينهم، والدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]. والله سبحانه رؤوف بالعباد، يذكر أهل الكتاب بأعمالهم السيئة، ويلوِّح لهم بالتوبة والاستغفار، ويستعطف قلوبهم للإيمان بالله وحده، والإيمان برسله، والإيمان بكتبه، ويناديهم باسم الكتاب الذي فيه الهدى والنور تارة .. ويناديهم باسم النبي الصالح الذي ينتسبون إليه تارة؛ لعل القلوب القاسية أن تلين، والأرض المقفرة أن تُنبت، والعداوة أن تزول كما قال سبحانه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 40 - 42]. وقال سبحانه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} [البقرة: 122 - 123]. وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} ... [البقرة: 44]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا

اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران: 64]. وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [آل عمران: 65]. وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 71]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)} ... [آل عمران: 98]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99]. وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15]. وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} [المائدة: 19]. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} [المائدة: 65]. وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]. وقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} ... [المائدة: 76]. وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ

السَّبِيلِ (77)} ... [المائدة: 77]. وأهل الكتاب قسمان: مؤمنون .. وكفار. فالمؤمنون كما قال الله عنهم: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: 113 - 114]. والكفار كما قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79]. وأهل الكتاب كلهم إذا لم يؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثته ويعملوا بأحكام الإسلام فهم كفار مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأعمالهم غير مقبولة كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)} [النساء: 47]. إن أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى يعلمون أن تجمع المسلمين على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين. ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع، أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه، وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله، واستغلال ديارهم وأموالهم، لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها، وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد أصناماً تُعبد من دون الله: تارة اسمها الوطن .. وتارة اسمها القوم .. وتارة اسمها الجنس .. وتارة اسمها

المال .. وغير ذلك من الأصنام التي تتصارع فيما بينها داخل المجتمع الإسلامي الواحد، القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشرعية، إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية. وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القواعد الأساسية التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح القومية في تحطيم التجمع النصراني، وتحويله إلى قوميات سياسية، ذات كنائس قومية فارغة من العبودية. وبذلك حطموا الحصار النصراني حول الجنس اليهودي .. ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول الجنس اليهودي: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} ... [الصف: 8]. وكذلك فعل الصليبيون الوثنيون مع المجتمع الإسلامي، فقد أثاروا النعرات الجنسية، والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي مسرحاً للقتل والتشريد، والفرقة والردة. وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية ثم يرضى لهم بعد ذلك بأصنام الجنسيات والقوميات والأوطان وأمثالها. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن شريعة الله، يحاربون الإسلام، ويعادون المسلمين في كل زمان ومكان. وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهوداً لا تكل .. وحملات لا تنقطع .. ويستخدمون في تحريفه عن وجهته كل الوسائل، وكل الأجهزة، وكل التجارب، وهم يسحقون سحقاً وحشياً كل من يدعو إليه ليكون منهج حياة كما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في جميع بقاع الأرض. وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه .. يحرفون الكلم عن مواضعه .. ويحلون ما حرم الله .. ويميعون ما شرعه .. ويخدعون كثيراً من أهل

العلم ليستنبطوا لهم الأدلة التي تبارك وتزكي ما هم عليه من انحراف وفساد .. ويشترون كثيراً من الأنفس الرخيصة التي احترفت العلم .. ويهيئون لها الفرصة .. ويخدعونها بالأموال والمناصب لتقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتنفذ كل ما يريدون باسم سماحة الدين، ولو كان يغضب رب العالمين ويهدم الدين .. ويضطهد من أجله خيار المؤمنين: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} ... [البقرة: 79]. وهم كذلك يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة في عصر الجمل أنه قد مضى ولا تمكن إعادته ويشيدون بعظمة هذا الماضي ورجاله ليخدروا مشاعر المسلمين ثم يقولون لهم: إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة .. وعبادة .. لا شريعة ونظاماً .. وحسبهم فقط أن يفخروا بمجدهم السابق، وقالوا: الدين لله .. والوطن للجميع .. فمكان الدين في المساجد .. ومسرح الحياة يموج بالحريات والفواحش والمنكرات: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} ... [البقرة: 85]. وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات، وتغيير طبيعة هذا الدين، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به. فحولوا كثيراً من المجتمعات البشرية إلى قطيع غارق في وحل الزنا والفاحشة والفجور .. يتقلب في الشهوات .. ويرتع في سوق الرذيلة .. مشغول بلقمة العيش .. حتى لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد .. كي لا يفيق بعد اللقمة والفاحشة ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين. وتجند لها القوى لتحصد كل نبتة تقف في طريقها باسم حرية الإنسان وحقوق الإنسان.

فيا له من تخطيط ماكر خبيث .. وما أجدر أهله بلعنة الله وغضبه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} ... [المائدة: 59]. وما يفعله أهل الكتاب بالمسلمين كله شر، فماذا ينتظرهم من الشر والعقوبة {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} ... [المائدة: 60]. وماذا جنى اليهود والنصارى من نقضهم الميثاق، وتخليهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله، وكفرهم بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]. وقال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} [المائدة: 78]. هكذا تحولت حياة اليهود والنصارى بعد ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كفر وظلم .. وعداوة وبغضاء .. وكذب وحسد .. وأكل لأموال الناس بالباطل .. وصد عن سبيل الله .. وقتل للأنبياء والأولياء .. وسفك للدماء .. وجمع للأموال بكل وسيلة محرمة .. وتمرغ في الشهوات .. وإفساد في الأرض .. وإشعال للحروب .. واستذلال للأمم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. ولكن طبيعة هذا الدين ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية والأمة المسلمة القائمة بهذا الحق على قلة العدد وضعف العدة، ما تزال بفضل الله صامدة لعمليات القمع والوحشية التي يصبها أعداء الإسلام في صحن الإسلام. والله غالب على أمره، محيط بخلقه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ

حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182]. فهؤلاء المكذبون الظالمون يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، وهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين، إنهم يتولى بعضهم بعضاً، ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض، وينسون قوة الله. إنها سنة الله مع المكذبين .. ومع الظالمين .. ومع المجرمين .. ومع المفسدين. يرخى لهم العنان، ويملي لهم في العصيان، ويذرهم في الطغيان، ويتركهم في الفساد، استدراجاً لهم في طريق الهلكة، وإمعاناً في الكيد لهم، ولكنهم غافلون، والعاقبة للمتقين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. والله تبارك وتعالى أنزل كتابه بالحق والهدى لتهدي به البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} ... [إبراهيم: 52]. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى إن لم يؤمنوا فعليهم أن يدفعوا الجزية ولا يكرهون على اعتناق الإسلام، فإن أبوا دفع الجزية وجب قتالهم كما قال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. فهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، واليهود منهم قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله كما اتخذ النصارى المسيح رباً من دون الله. فكلهم كفار مشركون .. خالفوا ما أمروا به من التوحيد لله .. وهم محاربون لدين الله، ومفسدون في الأرض: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} ... [التوبة: 31].

وكثير من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، ولم يؤمن منهم بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل خاصة النصارى كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} ... [آل عمران: 199]. ولكن موقف هؤلاء الأفراد لا يمثل الغالبية من أهل الكتاب، خاصة اليهود الذين شنوا على الإسلام حرباً خبيثة، استخدموا فيها ألوان المكر والخديعة والوحشية، كما أنهم في الوقت ذاته أعرضوا عن الدخول في الإسلام، كما قال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} ... [البقرة: 91]. وقد بين الله في القرآن حقيقة ما عليه أهل الكتاب، كما حكى عنهم أشنع الوسائل، وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله، وكشف للمسلمين أحوالهم ليحذروهم ويتقوهم فقال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة: 75]. وقال سبحانه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)} [البقرة: 76]. وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89]. فهذه أحوال اليهود والنصارى كشفها الله للمسلمين من أول يوم، وبيَّن ما هم عليه من فساد العقيدة، ومن الشرك بالله، ومن الكفر بآيات الله ورسله، وهذا لم

يتغير، وهم باقون عليه إلى الآن. أما الذي وقع فيه التعديل فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب، مرحلة بعد مرحلة حسب المصلحة. فقد جاء زمان يقال فيه للمسلمين: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} ... [البقرة: 109]. ويقال لهم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} ... [آل عمران: 64]. ويقال لهم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} ... [العنكبوت: 46]. ثم أتى الله بأمره الذي وَكَلَ المؤمنين إليه، فوقعت أحداث عظام، وتعدلت أحكام، وجاءت مرحلة نزول الأحكام النهائية الأخيرة فيهم كما قال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} ... [التوبة: 29]. وموقف أهل الكتاب من المسلمين موقف العداوة والبغضاء، فأهل الكتاب والمشركون كلهم اجتمعوا على حرب الإسلام والمسلمين من أول يوم. وقد ذكر الله سبحانه مواقف أهل الكتاب العدائية صريحة؛ لئلا يغتر بهم المسلمون، أو يطمئنوا إليهم. فقال سبحانه: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو

الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} ... [البقرة: 105]. وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} ... [البقرة: 109]. وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} ... [البقرة: 120]. وقال سبحانه: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)} ... [آل عمران: 69]. وقال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} ... [آل عمران: 100]. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)} [النساء: 44]. هذه هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين في كل مكان وزمان، فهل يحذر المسلمون من بطشهم وكيدهم وتضليلهم؟ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)} ... [المائدة: 57]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51]. وقد حارب اليهود الإسلام من أول يوم بالكيد والمكر والأذى، وما زالت تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله قائمة ومشتعلة حتى الآن.

لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق. استقبلوه بالدسائس والأكاذيب، والشبهات والفتن، يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود. وشككوا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} ... [البقرة: 146]. واحتضنوا المنافقين، وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في جو المسلمين، وزودوهم بالتهم الباطلة، والأكاذيب المفتراة. وما فعلوه في حادث تحويل القبلة .. وما فعلوه في حادث الإفك .. وما فعلوه من الغدر برسول الله .. وما فعلوه من الغدر في كل مناسبة، ليس إلا صورة من هذا الكيد اللئيم. فماذا قالوا في تحويل القبلة؟: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. وماذا قالوا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]. وما موقفهم من كتاب الله؟. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 70 - 71]. وماذا فعلوا في صفوف المسلمين لتشكيكهم في دينهم؟. {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72]. وماذا فعلوا من الكذب لتحريف كتاب الله، وصد المسلمين عنه؟.

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} [آل عمران: 78]. وقد طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما قال سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)} ... [النساء: 153]. وقد تحرشوا بالمسلمين في المدينة، ونقضوا عهودهم مرة بعد مرة، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، وأَلَّبوا المشركين على المسلمين في الأحزاب، وكانوا أساس الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه -، وتفرق بعدها شمل المسلمين إلى حد كبير، وكانوا أساس الفتنة فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. وقادوا حملة الوضع والدس في كتب التفسير والحديث والسيرة. وكانوا من الممهدين لحملة الطغاة التتار على بغداد، وتقويض الخلافة الإسلامية. وقادوا حملة القضاء على الخلافة الإسلامية في تركيا بتدبير ماكر خبيث. وهم وراء كل كارثة تحل بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض. وهم وراء كل حملة لسحق قادة الفكر الإسلامي، وطلائع البعث والنمو الإسلامي. وهم حماة الأوضاع والأوطان التي تتولى إبادة المسلمين في كل مكان. ذلك شأن اليهود: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} ... [المائدة: 41]. فهل يستحقون بعد هذا الظلم والطغيان أن يكونوا قدوة للبشرية؟

وأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب وهم النصارى فلا يقل إصراراً على العداوة والحرب عن شأن اليهود، فحين أحست الكنيسة بخطورة الإسلام على ما صنعت هي بأيديها وسَمَّته المسيحية، وهو مُركّب من الوثنيات والأضاليل الممزوجة ببقايا مخرفة من كلمات المسيح، إلا وقامت في مواجهة هذا الدين الجديد. فتجمعوا لحرب الإسلام في مؤتة .. ثم تجمعوا لضرب الإسلام مرة أخرى .. فكانت من أجل ذلك غزوة تبوك .. ثم كان جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام لمواجهة تجمعاتهم التي تستهدف القضاء على الإسلام. ثم اشتعل مِرْجل الحقد الصليبي منذ انتصار المسلمين في موقعة اليرموك الظافرة .. والتي أعقبها انتشار الإسلام في الشام والعراق، ومصر وأفريقيا .. ثم دخول الإسلام في الأندلس .. ثم تجلت عداوتهم ووحشيتهم في الأندلس عندما زحفت الصليبية الحاقدة على المسلمين في أسبانيا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب المسلمين بما لم يعرف من قبل ولا يتصوره ذو عقل .. ثم كشرت عن أنيابها وبلغت ضراوتها ووحشيتها حينما هجم الصليبيون على الشرق الإسلامي، وأبادوا المسلمين في بيت المقدس في وحشية لا تعرف الرحمة، ولا تزال هذه الحرب الصليبية المسعورة تستخدم كافة الأسلحة، وكافة الطاقات لضرب الإسلام والمسلمين في كل مكان، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتطارد الأتقياء: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. فالكفار والمشركون .. واليهود والنصارى. كل هؤلاء مجمعون على حرب الإسلام والمسلمين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} ... [البروج: 8 - 9].

وما يشعل هؤلاء حرباً على الإسلام والمسلمين إلا ويعقبها حرب أخرى من أولئك، وما وقعت معركة مع المشركين إلا وأعقبها معركة مع اليهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فغزوة بدر كانت في السنة الثانية مع المشركين .. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قينقاع من اليهود .. ثم كانت غزوة أحد مع المشركين في السنة الثالثة من الهجرة .. ثم أعقبها غزوة بني النضير من اليهود .. ثم كانت غزوة الأحزاب في السنة الخامسة .. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قريظة من اليهود وهكذا .. فأهل الكتاب لم يعودوا على دين الله بشهادة واقعهم، وشهادة اعتقادهم، فقد أمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً، وعبدوا الصليب. وهذا منهم شرك، فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً، كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. وكثير من المسلمين اليوم انتهوا إلى ما انتهى إليه كفار وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولم يبق معهم من الدين إلا اسمه، وهذا ما يريده أعداؤهم، فقد هانوا على الله، وهانوا على أعدائهم، ونزلت بهم النكبات والكوارث، والمصائب والفتن، وصاروا محط الشفقة، ومهبط الإغاثة، وذلك كله بسبب إعراضهم عن موائد القرآن، وقعودهم على موائد الشيطان: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 66 - 70]. إن أهل الكتاب لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من

دون الله، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر. إنما هم كذلك يعلنون الحرب على الدين الحق، ويسعون لإطفاء نور الله في الأرض، المتمثل في هذا الدين عقيدة وعبادة وشريعة، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض. فهم محاربون لنور الله، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} ... [الصف: 8]. ولكن وعد الله حق في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون، وهو وعد تطمئن به قلوب الذين آمنوا، فيدفعهم إلى العمل والمضي في الطريق، والصبر على الكيد والحرب من الأعداء، كما يتضمن الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان. فليطمئن المؤمنون لوعد الله بإظهار دينه، وليعلم الكفار أن الله حافظ لدينه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. فقاعدة دين الله كله .. ودين الحق الذي أرسل الله به رسله .. هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع. فأيما شخص، أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد، والشعائر، والشرائع، انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق. فدين الله الذي قرر سبحانه أن يتمه هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله، وهو متمثل في كل دين سماوي، جاء به رسول الله من عند الله من قبل. ولقد تحقق الدين الحق على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فترة طويلة من الزمان، وكان دين الحق أظهر وأغلب، وأظهره الله على الدين كله. وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف منه وترجف. ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه خطوة خطوة، بما أهملوه من أوامره، وبفعل

الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب التي يشنها عليه أعداؤه من الكفار وأهل الكتاب سواء، ولكن هذه ليست نهاية المطاف، ووعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل راية الإسلام، وتمضي مبتدئة مما بدأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بَدَأ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهمْ أمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذلِك» متفق عليه (¬2). والقرآن في جداله مع أهل الكتاب يبين أن ما بأيديهم من الكتب لم يكن هو الكتاب الذي أنزله الله على أنبيائهم. فمرة قال: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]. والذين لم ينسوه كتموه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]. والذي لم يكتموه حرفوه كما قال سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]. ثم جاءوا بأشياء من عندهم افتراءً وكذباً كما قال الله عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} ... [البقرة: 79]. وقد حذرنا الله ورسوله من طاعة أهل الكتاب، وبين أنهم يريدون رد المؤمنين إلى الكفر، وأن من تولاهم فهو منهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100 - 101]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (145). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).

ومن عصى الله وأطاع أهل الكتاب أضلوه، فخسر الدنيا والآخرة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً شِبْراً، وَذِرَاعاً ذِرَاعاً، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «مَنْ؟» متفق عليه (¬1). وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بعدما كفروا بربهم وكذبوا رسله .. وقتلوا أنبياء الله .. وصدوا عن سبيل الله .. وحرفوا كتاب الله .. ونبذوه وراء ظهورهم .. وكتموا الحق .. ونقضوا العهد .. وأكلوا أموال الناس بالباطل .. ووصفوا الله بما لا يليق به، هل يصلحون بعد هذا لقيادة البشرية ودعوتها إلى ربها؟. وما بقي عندهم من الدين الحق الذي يدعون الناس إليه؟. وهل يستحقون بعد هذا كله إلا اللعنة والعذاب الموجع؟ وهذا ما فعل الله بهم جزاء كفرهم وبغيهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80]. وليس من حكمة الله أن يستعمل من كفر به وعصاه في حمل أمانة الدعوة إلى الله، وأن يحملها لعباده أمة ظالمة ملعونة، أو أمة تائهة ضالة. فكانت رحمة الله لليشرية أن بعث إليها محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدين الحق إلى يوم القيامة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. وكل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه لا يصلح للقيادة كما قال سبحانه: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7320)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130]. وقد رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم (وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وتركوا دين إبراهيم، وبدلوا دين الأنبياء، كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]. واليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم التي هي عبادة الله وحده، فهم إنما يعبدون الشيطان ويزعمون أنهم على ملة إبراهيم، فكذبهم الله بقوله سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: 67]. فاليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، بل عملوا بضده. والنصارى ضالون عن الحق، مشركون يعبدون الله ويشركون به غيره. وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادة الله، مستكبرون عنها، كما قال الله عنهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]. والنصارى مع شركهم بالله لهم عبادات كثيرة مبتدعة. واليهود من أقل الأمم عبادة، وأبعدهم عن عبادة الله وحده؛ لأنهم متبعون أهواءهم عابدون للشيطان. وجميع أعمال اليهود والنصارى بعد بعثة النبي (حابطة باطلة، ولو عبدوا الله وحده لم تحبط أعمالهم. وقبل بعثة النبي (إنما كان يعبد الله من عبده بما أمره الله به فله أجره عند ربه، وأما من ترك عبادة الله واتبع هواه من أهل الكتاب فهو كافر. وأما موسى وعيسى وأتباعهما على الحق فهم على ملة إبراهيم وهو إمامهم كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68].

فقه جهاد الأعداء

7 - فقه جهاد الأعداء قال الله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} ... [العنكبوت: 6]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. أعداء الإنسان ستة: ثلاثة في الداخل وهم: النفس .. والشيطان .. وحب الدنيا. وثلاثة في الخارج وهم: الكفار والمشركون .. والمنافقون .. وأهل الكتاب وإذا انتصر الإنسان على الأعداء في الداخل مكنه الله من الانتصار على الأعداء في الخارج، وإذا انهزم أمام أعدائه في الداخل سهل لأعدائه في الخارج السيطرة عليه، والتحكم بحياته كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40 - 41]. وجهاد هؤلاء الأعداء يكون بتحقيق الإيمان في النفوس، لتذوق طعمه وتتلذذ بحلاوته، فتنشط لطاعة الله، ويسهل عليها اقتحام المشاق، وبذل المحبوب للنفس، وحملها على ما يحب الله وإن كرهته النفس. ويتم ذلك بحمل النفس على أن تعرف الله ربها بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتعرف ما يحبه الله من الإيمان والعبادات والآداب والأخلاق، وتعرف ما يكرهه الله من الكفر والشرك والبدع والأخلاق السيئة، فإذا عرف العبد ما يحب الله فعله .. وإذا عرف ما يكره اجتنبه، ففاز برحمة الله ورضوانه وجنته:

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13 - 14]. وأما جهاد الشيطان فيكون بالاستعاذة بالله من شره، ومعرفة أنواع أسلحته التي يستخدمها في إغواء الناس وإفسادهم، وتنحصر في ثلاثة أنواع: الشبهات .. والشهوات .. والتزيين. فهو يقذف بالشهوات في نفس العبد، فيفجر كل طاقات غرائز الإنسان، ويشعل نار الفتنة التي لا سبيل إلى إخمادها إلا بالاتصال الفوري بالله وذكره: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]. كما يرمي الشيطان بالشبهة في القلب فيثير الشكوك، ويحرك خواطر السيئة، فيصيب الإنسان بالحيرة والتردد، فيفتر العزم، ويقل العمل. وعلاجه بالاستعاذة بالله من شره: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]. أما سلاح التزيين فهو أقوى أسلحته، وأشد أنواعه، وأكثرها فتكاً بالإنسان، فلدى الشيطان من القدرة ما يقلب به العجوز من النساء في عين ناظرها وكأنها حوراء، وتزيين الحرام من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال ما يجعل الإنسان يقدم عليه، ويفرح به، ويؤثره على الحلال. وحرب الشيطان تكون بردِّ كل شبهة يثيرها، وإبعاد كل شهوة يلقيها، وفعل كل طاعة يثقلها وينفر عنها، واجتناب كل معصية يدعو إليها. والتفطن لكل طلاء وتزيين يحاول به الإيقاع في شراكه وحبائله. وذلك كله بعد الاحتماء والالتجاء إلى الله بالاستعاذة بالله من شره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أما جهاد حب الدنيا وشهواتها، فالشيطان يستخدمها ليخدع الإنسان، ويجره

إلى المعاصي عن طريق الشهوات، ثم يسوقه عن طريق الشهوات إلى المحرمات، ثم يوقعه في الكبائر لتكميل شهواته، ثم يشغله بالشهوات والمحرمات والكبائر عن أوامر الله، ثم يخرجه من الدين. فالمسلم يأخذ من الشهوات المباحة حسب أمر الشرع، ويستخدمها في طاعة الله، وينفقها في مرضاة الله، ويجتنب الشهوات المحرمة مطلقاً، ويقبل على طاعة الله، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة. وبهذا يتكون المجتمع الإسلامي القادر على تحمل أعباء جهاد الكفار والمشركين، والمنافقين وأهل الكتاب، فإن من لا يجاهد نفسه ولا ينتصر عليها لا يقدر على جهاد غيرها. فيجاهد المسلم هؤلاء الأعداء في سبيل الله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} [التوبة: 73]. والجهاد للأعداء يكون بالدعوة إلى الله أولاً، فإن لم يؤمنوا فعلى أهل الكتاب أن يدفعوا الجزية، فإن أبوا فعلى المسلمين قتالهم. أما الكفار والمنافقون فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، فإن أبوا فعلى المسلمين قتالهم، فسبيل الله هي الجهاد، وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله. واليهود والنصارى يعرفون أن هذا القرآن حق من عند الله، ويعرفون من ثم ما فيه من سلطان وقوة، وما فيه من خير وصلاح، وما فيه من طاقة دافعة للأمة التي تدين به، وبالأخلاق التي جاء بها، وبالشرائع التي سنها، ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله. ويعرفون حق المعرفة أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل هذا الدين، إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل، ويعرفون أن هذا الدين لا يمكن أن

يهادن الجاهلية التي صاروا إليها. ويعرفون جيداً أن هذا الدين لا يمكن أن يستعلي إلا على أنقاض الجاهلية التي هم عليها، ولا يمكن أن يكون الدين كله لله حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض. وهم يعلمون كل ذلك، ويدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة، وينقِّبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى النفوس، ويبحثون بجد كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟. وكيف يلقون بالريب والشبه والشكوك في قلوب أهله؟ وكيف يحرفون الكلم عن مواضعه؟ وكيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ وكيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية، وتسترد سلطان الله في الأرض، وتطارد أعداءه، وتجعل الدين كله لله، إلى حركة ثقافية باردة .. وإلى بحوث نظرية ميتة .. وإلى جدل فقهي أو طائفي فارغ .. وإلى مسابقات وألغاز؟. وكيف يفرغون مفهوماته وقواعده وأصوله في أنظمة وتصورات غريبة عنه، مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟ إنهم يدرسون هذا الدين دراسة عميقة فاحصة، لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة، ولا لينصفوا هذا الدين .. كلاّ. إنهم يقومون بهذه الدراسة العميقة لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين، ويبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها، ويبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها، مستخدمين المنافقين والمغفلين في ذبحه. ولو تمكنوا من الإجهاز عليه بالحديد والنار لفعلوا .. ولكنهم عجزوا فحاربوه بإثارة الشبهات حوله، والتشكيك به؛ لينفروا المسلمين منه، ويصدوا الناس عنه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8]. وأهل الكتاب يعرفون كل صغيرة وكبيرة في هذا الدين، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين يثير حماسة

الدفاع والمقاومة؛ لذلك يلجأ معظمهم إلى إزجاء الثناء لهذا الدين حتى ينوِّم المشاعر المتوفزة، ويخدِّر الحماسة المتحفزة .. وينال ثقة القارئ واطمئنانه، ثم يضع السم في الكأس، ويقدمها للجهال والمغفلين. وأهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن منزل من الله بالحق، وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين وقوة أهله إنما تنبثق عن هذا الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا يزالون من أجل علمهم بهذا كله يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب حرباً لا تهدأ، وأشد هذه الحروب التي يقوم بها أهل الكتاب وأشرسها هي تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر، وجعل غير الله حكماً، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة، ولا يصبح لدين الله وجود. وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده، يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه، ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى تستمد منها القوانين والأنظمة، ويرجع إليها، ويستشهد بفقراتها وموادها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته، وقد صار ذلك الآن، وأصبح واقعاً لا يحتاج إلى دليل وأهل الكتاب من يهود ونصارى من وراء هذا كله، فهل يرضى بذلك عاقل سوى؟. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: 114]. ألا ما أخطر عداوة اليهود، إنهم الذين يقبعون وراء بيوت الأزياء، ووراء دكاكين التجميل، ووراء سعار العرى والتكشف، ووراء الأفلام والصور التي تقود هذه الحملة المسعورة. إن هذه الأرباب تصدر أوامرها فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية، إنهم يهود يقومون بإصدار أوامرهم على البهائم المغلوبة على أمرها، لتكون عارية ضالة مسرفة كافرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا

فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} [آل عمران: 100]. إنهم بلا شك يبلغون أهدافهم كلها من وراء إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان، أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار، وإشاعة الانحلال الجسدي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل. هذا فضلاً عما تحققه هذه الألعوبة من تحقيق الأهداف الاقتصادية، وسحب أموال البشرية إلى جيوبهم من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل، وسائر الصناعات التي تقوم على هذا السعار وتغذيه، فَوَاهٍ لهذه الأمة التي يعبث اليهود بأجسادها وأخلاقها، وينهبون أموالها وهي غافلة لاهية؟. أخرجها اليهود من المساجد وساحات الجهاد، وميادين الدعوة، ومنابر التعليم إلى الأسواق وأماكن اللهو واللعب، وأسواق الرذيلة، وقاعات الرياضة والفن، وأغرقتهم في الأموال والشهوات. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99]. وقد أكثر الله من ذكر أحوال بني إسرائيل مع أنبيائهم، فهي أكثر القصص وروداً في القرآن كله، وما ذلك إلا لتعتبر بهم هذه الأمة، ولا تقع فيما وقعوا فيه من الأخطاء الجسام، ومحاربة دين الله وقتل رسله، فبنو إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وما حولها، فقد كانوا حرباً على المسلمين منذ اليوم الأول لوصل الإسلام إليها. وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة، وأمدوهم بوسائل الكيد للمسلمين، وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم، كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة،

وحول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عنهم: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72]. وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة. فلم يكن بدّ من كشفهم للمسلمين ليتقوهم ويحذروهم، وقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله، كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله. فعرض الله لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفاً، ووسائلهم كلها مكشوفة. وبنو إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة، ووقعت الانحرافات في عقيدتهم، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض، وهذا الانحراف. فاقتضى هذا أن تُلم الأمة المسلمة وهي وارثة الرسالات كلها بتاريخ القوم، لتتقي مزالق الطريق، ومداخل الشيطان، وبوادر الانحراف. وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها، وتنحرف أجيال منها، وهذه الأمة سيمتد تاريخها إلى أن تقوم الساعة، فجعل سبحانه أمام أئمة هذه الأمة نماذج من العقابيل التي تُلم بالأمم، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. وقد أنعم الله على أهل الكتاب بنعم كثيرة، واختارهم على العالمين في زمانهم، وأفاء عليهم من عطاياه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)} ... [المائدة: 20]. ولكن أهل الكتاب لم يشكروا النعمة، فنقضوا الميثاق، ونسوا الكتاب، وحرفوا الكلم عن مواضعه، ولجوا في المعاصي، فاستحقوا غضب الله ولعنته، وحق عليهم القول بسبب ما اقترفوا، وباءوا بغضب على غضب كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} [المائدة: 78]. ثم كانت اللعنة الأبدية على جميع بني إسرائيل إلا الذين يؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويتبعون ما جاء به، وهذا حكم لا راد له، ولا معقب عليه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} [الأعراف: 167]. ونحن علينا القيام بطاعة الله ورسوله، وإبلاغ الدين للبشرية، والجهاد لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. أما مراتب جهاد المنافقين فكما يلي: الأولى: وعظهم وتخويفهم بالله عز وجل وبما أعد لهم من العذاب الأليم كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء: 63]. الثانية: البراءة منهم وهجرهم وعدم موالاتهم ومقاطعة مجالسهم إن لم يتوبوا كما قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140]. الثالثة: عدم الرضا عنهم، أو قبول اعتذار من ثبت كذبه منهم، كما قال سبحانه: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 96]. الرابعة: عدم قبولهم في الأعمال والمناصب الدينية الهامة، لشدة خطرهم على الأمة كما قال سبحانه: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ

الْخَالِفِينَ (83)} ... [التوبة: 83]. الخامسة: جهادهم كسائر الكفار باليد واللسان، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} ... [التوبة: 73]. السادسة: تهديدهم بفضح خباياهم، ونفيهم وقتلهم، كما قال سبحانه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 60. 61]. السابعة: عدم الصلاة عليهم، أو الاستغفار لهم، أو الترحم عليهم، كما قال سبحانه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} ... [التوبة: 84]. وقال سبحانه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} ... [التوبة: 80]. الثامنة: قتل المنافق الذي ثبت نفاقه بالبينة الواضحة إن لم يتب، كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: 52].

الباب الخامس عشر فقه الدنيا والآخرة

الباب الخامس عشر فقه الدنيا والآخرة ويشتمل على ما يلي: 1 - فقه الدنيا والآخرة 2 - قيمة الدنيا والآخرة 3 - فقه حب الدنيا 4 - فقه الحياة العالية 5 - أحوال الخلق في الدنيا 1 - حال الأشقياء 2 - حال الظالم لنفسه 3 - حال المقتصد 4 - حال السابق بالخيرات 6 - فقه الغربة 7 - فقه الموت 8 - فقه البعث والحشر 9 - فقه الحساب 10 - فقه درجات الآخرة 11 - طبقات الخلق في الآخرة 1 - طبقة أولي العزم من الرسل 2 - طبقة من عداهم من الرسل 3 - طبقة الأنبياء 4 - طبقة ورثة الرسل 5 - طبقة أئمة العدل وولاته 6 - طبقة المجاهدين في سبيل الله 7 - طبقة أهل الإيثار والصدقة والإحسان 8 - طبقة أهل الخير القاصر على النفس 9 - طبقة أهل النجاة 10 - طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب 11 - طبقة من حسناتهم أكثر من سيئاتهم 12 - طبقة من تساوت حسناتهم وسيئاتهم 13 - طبقة من رجحت سيئاتهم بحسناتهم 14 - طبقة من لا طاعة لهم ولا معصية 15 - طبقة أهل النفاق 16 - طبقة رؤساء الكفر ودعاته 17 - طبقة المقلدين وجهال الكفرة 18 - طبقة الجن 12 - دار القرار 1 - صفة الجنة 2 - صفة النار 13 - طريق الفوز والفلاح

1 - فقه الدنيا والآخرة

1 - فقه الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 77]. وقال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبده من الدنيا فينبغي أن يبتغي بها ما عند الله بالإحسان والصدقات، ولا يقتصر على مجرد نيل الشهوات واللذات، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، بل ينفق لآخرته، ويستمتع بدنياه استمتاعاً لا يثلم دينه، ولا يضر بآخرته. وإقامة دين الله في الأرض يحقق الفلاح في الدنيا والآخرة على السواء، لا افتراق بين دين ودنيا .. ولا افتراق بين دنيا وآخرة .. فهو منهج واحد للدنيا والآخرة .. للدين والدنيا .. كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65 - 66]. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. فالإيمان والتقوى كما يكفل لأصحابه جزاء الآخرة بثواب الجنة الحسن، كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وَفْرة ونماء وكفاية. فليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة.

فإذا تنكبت الأمة هذا الطريق فسدت الدنيا، وخسرت الآخرة. وهذا الطريق هو الإيمان والتقوى التي علامتها تحقيق المنهج الإلهي في النفس وفي الحياة الدنيا، وبذلك تصلح الحياة الدنيوية والحياة الأخروية. إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلاً عن الدنيا، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلاً عن سعادة الدنيا .. ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا. لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس، بحيث اعتقدوا أنه لا سبيل للالتقاء بين الطريقين، فعلى الإنسان إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل للجمع بينهما في تصور ولا واقع. وقد ساعد على هذا الفهم أن واقع الناس في هذا الزمان يوحي بهذا. وحقاً إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله، وعن منهجه في الحياة اليوم، تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتلزم واقعاً على الذين يريدون البروز في الدنيا والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، ويتحللوا من الدين والأخلاق والآداب التي يحض عليها الدين. وفي الوقت نفسه تُلزم الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع .. لماذا؟. لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للشرع والدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه. ورأت الأمة هذا ضربة لازب: فلا مفر منه، ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا والآخرة. وهذا كله ليس بصحيح، فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ليس هو الحقيقة التي لا تقبل التبديل، إنما ذلك عارض ناشئ من انحراف طارئ.

فالأصل في الحياة الإسلامية التي جاء بها الشرع أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا. وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، ويكون ذلك إذا تم تحقيق منهج الله في الأرض. فهذا المنهج وحده هو الذي يجعل العمل حسب أمر الله عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، يتم بها تنفيذ أوامر الله في إصلاح الدنيا والآخرة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج وشريعته طاعة ينال العبد عليها ثواب الآخرة، ويظفر بخيرات الأرض التي سخرها له ربه. فالإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الأرض والكون المسخر له يعتبر عاصياً لله، ناكلاً عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، تاركاً للأسباب التي جعلها الله سبباً لصلاح دنياه. كما أن التارك لفرائض وأركان الإسلام يكون عاصياً لربه، ناكلاً عن امتثال أوامره التي جعلها الله سبباً لصلاح آخرته. فالذي يترك أسباب الكسب والمعيشة يكون معطلاً لرزق الله الموهوب للعباد، جافياً عنه، راضياً بما يلقمه الناس من فضلاتهم، ويقف ذليلاً بأبوابهم، وقد ترك الباب الذي فتحه الله ليكسب الدنيا والآخرة، وينشغل في معاشه عن أوامر الله وطاعته، وهكذا يخسر الآخرة؛ لأنه خسر الدنيا، وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب

الكسب للدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9 - 10]. وهذا الدين وسط يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق، فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134]. والدين الإسلامي يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية العقلية في العمل والإنتاج، وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله، فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون، ولا يأكل من سحت، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يسرق ولا يختلس ولا يحتكر، مع الاعتراف لله بالملكية، وأداء حق الفقراء في ماله في حدود ما فرض الله عزَّ وجلَّ. والإسلام يسجل للفرد عمله في هذه الحدود وفق شرع الله، عبادة يجزيه عليها بالبركة في الدنيا، وبالجنة في الآخرة. ويربط المنهج الإسلامي بين العبد وربه رباطاً أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها الله عليه، يستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة، وفي كل حين بكثرة الذكر، وفي العام الواحد ثلاثين يوماً بصوم رمضان، وفي العمر كله بحج بيت الله الحرام، وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. ومن هنا نعلم قيمة الفرائض التعبدية في الإسلام، إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط والالتزام بمنهجه الكلي للحياة، وهي قربى إلى الله يتجدد منها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. وكذا يتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل، والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق. وليست الشعائر التعبدية من صلاة وذكر وصيام وحج ونحوها أموراً منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع. إنما الإيمان والتقوى، والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر. إن الإسلام لا يقدم الآخرة بديلاً عن الدنيا ولا العكس، إنما يقدمها معاً في طريق واحد، وبجهد واحد، ولكنهما لا يجتمعان معاً في حياة الإنسان إلا إذا اتُّبع منهج الله وحده في الحياة. وكذلك الإسلام لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلاً عن العمل والإنتاج والتحسين في واقع الحياة المادية، وليس هو المنهج الذي يَعِد الناس فردوس الآخرة، ويرسم لهم طريقه، بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا. فالعمل والإنتاج والتنمية، وتحسين واقع حياة الناس حسب أمر الله، وحسب توجيه شرعه، ذلك وظيفة وفريضة الخلافة في الأرض. والإيمان والعبادات، والصلاح والتقوى، تمثل الضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق منهج الله في الحياة حسب أمر الله ورسوله، وهذه وتلك مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معاً، والطريق هو الطريق، ولا تصادم بين الدين وبين الحياة الواقعية المادية، وأمر الله في هذه وهذه كله عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، فالدين يستغرق ويشمل حياة الإنسان كلها كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} ... [الأنعام: 162 - 163].

ولكن الناس لما شردوا عن منهج الله وشرعه، واتخذوا لهم مناهج أخرى معادية لمنهج الله، جاء هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى حسب أمر الله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} ... [البقرة: 85]. وبسبب هذا الفصل جاء الشقاء والألم على الطرفين: فمن أقبل على الدنيا وترك الدين يعيش في قلق وحيرة، وبشقاء قلب، وذلك من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته، إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والنجاح في الحياة. وهؤلاء إن ملؤوا جيوبهم بالأموال إلا أنهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء، وهي جوعة لا يملؤها إلا الإيمان بالله. وهم يؤدونها كذلك قلقاً وحيرة وشقاء قلب إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة وكسبها على غير منهج الله. فتصادم العقيدة الدينية والخلق والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين المخالفة لمنهج الله، فيحصل بسبب ذلك الشقاء والتعب. والبشرية اليوم تعاني ما تعاني من ذلك الشقاء، فقد صور لها الأعداء أن الدين لله، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق. ولا تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة، حين نرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا

تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء. إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الإلهية الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي، والمنهج الرباني. وقد حصل وظهر في صور شتى، ظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم، مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء والأحقاد والخوف، وهذا بلاء على رغم الرخاء. وظهر في الانحلال النفسي والخلقي، وظهر في القلق العصبي، والأمراض المنوعة التي اجتاحت العالم، وبخاصة أشدها رخاءً، مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج. وظهر كذلك في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع كل لحظة، وقد بدأت بوادره، وهو خوف يضغط على أعصاب الناس فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء التي حُرِمت أو حَرَمت نفسها من نعمة الإيمان. وأخيراً .. يؤدي هذا الفصل بين الدين والدنيا في النهاية إلى الهلاك والدمار للأمم والشعوب. فاتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، كل ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب. فدين الله عزَّ وجلَّ يقوم على الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة، والقيام بالعمل والإنتاج للنهوض بالخلافة في الأرض. وإذا اجتمعت هذه الأمور تحقق شرط الله لهذه الأمة، فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا، وكُفِّرت عنهم سيئاتهم، ودخلوا جنات النعيم في الآخرة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65 - 66]. فالأساس هو الإيمان والتقوى، وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية، وهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج، وسهولة استقامة الحياة، فضلاً على أن للصلة بالله مذاقها التي يسعد بها المرء في حياته. والله تبارك وتعالى غني عن العالمين، فالإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله، وإقامة شريعة الله في الحياة، كل ذلك ثمرته للإنسان والحياة الإنسانية: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6]. وإذا شدد المنهج الإسلامي على هذه الأسس والأصول فليس هذا معناه أن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له، وتحقيق منهجه في الحياة، أو أن الله محتاج إلى ذلك، ولكن لأن الله جل جلاله رؤوف رحيم، يعلم أنه لا صلاح للبشرية ولا فلاح لها إلا بهذا المنهاج الإلهي الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبحر، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). فشرط الله قائم .. والطريق إليه معروف .. والوفاء بالشرط سهل لو كانوا يعقلون. والحياة في الإسلام ليست هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الإنسان، ولا هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس، كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا. بل الحياة واسعة تمتد طولاً في الزمان، فتشمل فترة الحياة الدنيا، وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها وعظمتها ونعيمها إلا الله، وفترة الدنيا بالنسبة إليها كساعة من نهار. وتمتد الحياة في المكان فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماء والأرض، وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض كما قال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. وتمتد في العوالم فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله، ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا الله به. وتمتد الحياة في حقيقتها فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا وإلى تلك المستويات الجديدة العالية الفائقة في الحياة الأخرى في الجنة وبعكس ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

ذلك في النار. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا، ولا تساوي الدنيا بالقياس إليها جناح بعوضة. إن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وتركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة، وإنما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها، وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، كل أولئك هو زاد الآخرة. والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} ... [الأعراف: 32]. ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة. والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاها مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها إلى القمة السامقة بالدين الكامل، الذي يزين حياتها ويجملها في الدنيا والآخرة، ووعدهم على ذلك الجنة. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بإقامة الدين، ونهانا أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم

أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فركبوها ولم تركبهم، وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة، والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة للآخرة لهو ولعب كما قال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام: 32]. والإنتاج المادي النافع وفق منهج الله من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه. والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو إليه الإسلام، ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان وأخلاقه، كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية الملحدة أو المشركة. فما أبعد ما بين الدارين؟. دار يمكن أن تُطمس وتُحصد في لحظة كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} ... [يونس: 24]. ودار النعيم والسلام التي نعيمها لا يزول والناس فيها مخلدون كما قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. إن للجهد في هذه الأرض ثمرته سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى، أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً.

فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا، ولكنه باطل في الآخرة، وحابط لا يقام له وزن كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15 - 16]. ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً وأمماً تعمل لهذه الدنيا وتنال جزاءها فيها، ولدنياها زينة وانتفاخ، وهذه سنة الله في هذه الأرض، وهؤلاء يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه، ونفوسهم تتطلع إلى الآخرة، وتراقب الله في الكسب والمتاع، فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى. إن العمل للآخرة لا يقف في سبيل العمل للدنيا، بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه، ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره، ولا تنقص من آثاره، بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً، والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18]. فأهل الدنيا لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض، يتلطخون بوحلها ورجسها ودنسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم. أما الذي يريد الآخرة فلا بدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، ثم يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ

مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]. إن الحياة للأرض، الحياة للدنيا، حياة تليق بالديدان والحشرات، والزواحف والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله. على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله، وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20]. والتفاوت بين الناس في الدنيا ملحوظ بحسب أسبابهم وأعمالهم واتجاهاتهم، فكيف يكون التفاوت بين الناس في الآخرة التي الدنيا بالنسبة لها كقطرة من بحر: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} ... [الإسراء: 21]. فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، ومن شاء الدرجات العالية، فهو هناك في الآخرة، حيث الرقعة الفسيحة، والآماد الأبدية، والنعيم الفائق، والقصور الفاخرة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26]. والدنيا لها وظيفة .. والآخرة لها وظيفة. فالدنيا دار الإيمان والعمل .. والآخرة دار الثواب والعقاب. والدنيا صغيرة ناقصة .. والآخرة كبيرة كاملة .. فيها كمال النعيم وكمال العذاب، والدنيا فانية زائلة .. والآخرة دائمة باقية، والدنيا مكان اجتماع الخلق كلهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، أما في الآخرة فيتفرقون، المؤمنون في الجنة، والكفار والعصاة في النار: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. ولهؤلاء نعيم وخلود بلا موت .. ولهؤلاء عذاب وخلود بلا موت. والدنيا مكان الطاعات، ومهبط الرسالات، وزمان الأعمال الصالحة، وفيها

بيوت الله، ومواطن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها ساحات الجهاد في سبيل الله .. وفيها الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته من سماء وأرض، وجبال وبحار، ونبات وحيوان، وإنس وجان، وليل ونهار، وحياة وموت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]. وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} ... [الروم: 22]. والمذموم من الدنيا كل حركة مخالفة لمنهج الله كالمعاصي والسيئات، وكفران النعم، وما أشغل الإنسان عن طاعة الله ورسوله من الأموال والأشياء، والأشخاص والأعمال كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. وجميع ما على وجه الأرض جعله الله زينة لهذه الدار فتنة للناس واختباراً من مآكل لذيذة، ومشارب مختلفة، وملابس طيبة، ومياه وبحار، وزروع وأشجار وثمار، ورياض وأزهار، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحو ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} ... [الكهف: 7]. خلق الله كل ذلك ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملاً. فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها من نظر إلى ظاهر الدنيا دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا عاقبهم الله بالنار: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 196 - 198].

وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور، فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة. فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور، إذ نظر إلى باطن الدنيا حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين والمنزلين كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12].

2 - قيمة الدنيا والآخرة

2 - قيمة الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام: 32]. وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16 - 17]. الله عزَّ وجلَّ جعل لكل شيء زينة ومقصداً، فالنبات له زينة وهي الأوراق والأزهار، ولكن المقصد الحبوب والثمار، والثياب لها زينة وهي الألوان والتفصيل، ولكن المقصد ستر العورة. وكذلك الدنيا زينة، وكل ما عليها زينة، والمقصد الإيمان والأعمال الصالحة، والدنيا كلها زينة، والمقصد الآخرة، وكل من نسي المقصد تعلق بالزينة: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف: 7، 8]. والأنبياء والرسل وأتباعهم يشتغلون بالمقاصد، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأهل الدنيا يشتغلون بالزينات واللهو واللعب، ويغفلون عن المقصد، والله أمرنا أن نأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونعمل للآخرة بقدر الطاقة، وإذا تعارضت في حياتنا الزينات والأشياء مع المقصد وهو عبادة الله وحده، والدعوة إلى الله، قدمنا ما يحب الله وهو عبادته، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والجهاد في سبيله، ونشر دينه. وقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وهذه الدنيا مكان تكميل محبوبات الله من الإيمان والأعمال الصالحة. فقد خلق الله الإنسان وجعله يمر بمراحل وأزمنة وأمكنة وأحوال، وينتهي

بالخلود إما في الجنة أو النار. وهذه المراحل هي: الأولى: بطن الأم: ومدة الإقامة فيها تسعة أشهر، والحكمة من البقاء فيها هذه المدة أمران: تكميل خلق الأعضاء الداخلية .. والأعضاء الخارجية، والإنسان في هذه المرحلة غير مكلف. الثانية: دار الدنيا: والإقامة فيها أكثر من الإقامة في بطن الأم، والحكمة من البقاء فيها تلك المدة أمران: تكميل الإيمان، وتكميل الأعمال الصالحة، وإذا أكمل العبد لله فيها ما يحب أكمل الله له في الآخرة ما يحب، ثم يخرج من الدنيا مع عمله إلى الدار التي تليها. الثالثة: دار البرزخ، وهي القبر، والقبر أول منازل الآخرة، ويبقى فيه الإنسان حتى يكتمل موت الخلائق، وتقوم الساعة، وهو على المؤمن روضة من رياض الجنة، وعلى الكافر حفرة من حفر النار، يبدأ فيه الجزاء، ثم ينتقل منه إلى دار الخلود، إما في الجنة أو النار. الرابعة: الدار الآخرة، وفيها الإقامة المطلقة، والنعيم المطلق للمؤمنين والعذاب الأليم للكافرين، والحكمة من خلق هذه الدار تكميل الشهوات والملذات للمؤمنين جزاء أعمالهم الصالحة، وعقوبة الكفار والظلمة بأشد أنواع العذاب، كل حسب عمله كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)} [الانفطار: 13 - 15]. وقد بين الله عزَّ وجلَّ قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا في كثير من آيات القرآن والسنة النبوية: فقيمة الدنيا الذاتية: بينها الله سبحانه بقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].

وقيمة الدنيا بالمساحة: بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أخرجه البخاري (¬1). وقيمة الدنيا بالنقد: بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال جابر - رضي الله عنه - مرَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِجَدْيٍ أسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأخَذَ بِأذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أيُّكُمْ يحب أنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ! لَوْ كَانَ حَيّاً كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: «فَوَاللهِ! لَلدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» أخرجه مسلم (¬2). وقيمة الدنيا بالوزن: بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» أخرجه الترمذي (¬3). وقيمة الدنيا بالكيل: بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ» أخرجه مسلم (¬4). أما قيمة الدنيا الزمنية: فقد بينها الله عزَّ وجلَّ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة: 38]. إن جميع ما أوتيه الخلق من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من ملاذ الدنيا ومتاعها، كل ذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها، يتمتع به العبد وقتاً قصيراً، محشواً بالمنغصات، ممزوجاً بالمكدرات، ويتزين به الإنسان زماناً ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3250). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2957). (¬3) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي برقم (2320)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (943). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2858).

يسيراً للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعاً، ويعقب الحسرة والندامة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)} [القصص: 60]. فما عند الله من النعيم المقيم، والعيش الهني، والقصور والسرور خير وأبقى في صفته وكميته، وهو دائم أبداً. فهل يستفيد الإنسان من عقله؟ ليعلم أي الدارين أحق بالإيثار؟ .. وأي الدارين أولى بالعمل لها؟. فإذا كان العقل سليماً، والقلب صافياً، آثر الآخرة على الدنيا، وما آثر أحد الدنيا إلا لنقص في عقله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)} [القصص: 61]. فهل يستوي مؤمن ساع للآخرة سعيها، قد عمل على وعد ربه له بالثواب الحسن الذي هو الجنة، وما فيها من النعيم العظيم، فهو لاقيه بلا شك؛ لأنه وعد من كريم صادق الوعد، لعبد قام بمرضاته، وجَانَبَ سخطه؟. فهل يستوي هذا ومَنْ متَّعه الله متاع الحياة الدنيا، فهو يأخذ فيها ويعطي، ويأكل ويشرب، ويتمتع كما تتمتع البهائم، قد اشتغل بدنياه عن آخرته، لم ينقد لرب العالمين، ولم يهتد بسنن سيد المرسلين، فلم يقدم لنفسه خيراً، وإنما قدم على ربه بما يضره؟. فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار، وأحق الأمرين بالإيثار؟. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 14 - 17].

3 - فقه حب الدنيا

3 - فقه حب الدنيا قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14]. وقال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} [القيامة: 20 - 21]. حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر. وقد لعنها الله وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنه ومقته وغضبه سبحانه. ومن أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة، فانعكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء، وسار في الظلمات، وترك طريق الهدى والنور: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]. ومحبة الدنيا تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ لأشتغاله عنه بمحبوبه. والناس ها هنا مراتب: فمنهم من يشغله محبوبه من الدنيا عن الإيمان وشرائعه. ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً. ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات والسنن. وأقل درجات حب الدنيا أنه يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره. ومحبة الدنيا تضر بالآخرة ولا بدّ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا، ومحبتها

تجعلها أكبر هَمٍّ للعبد. ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه. ومن أحب الدنيا، وآثرها على الآخرة، فهو من أسفه خلق الله، وأقلهم عقلاً، إذ آثر الظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش، بحياة إنما هي أحلام ونوم. فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وهي دار ظعن ليست بدار إقامة، مَنْ صح فيها هرم .. ومن استغنى فيها فُتن وطغى .. تُذل من أعزها .. وتُفقر من جمعها .. وهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه. وصاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار فيها غذاء ضار، وقد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، صفوها كدر، وعيشها نكد، وليس لها عند الله قدر ولا وزن. وقد عرضت الدنيا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض الله خالقه، أو يرفع ما وضع ربه. فزوى الله الدنيا عن الأنبياء والمرسلين والصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أُكرم بها، وشرفه الله بملكه لها، ونسي ما صنع الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين شد الحجر على بطنه، وأنه وهو سيد الخلق لم توقد النار في بيته الشهر والشهرين، فقطع حبالها، وأغلق أبوابها، وزهد بسلعها. وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا ابتلي بشغل لا

ينفك عناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه، فالدنيا طالبة مطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. والعاقل من رضي بيسير الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بيسير الدين مع سلامة الدنيا. وشهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المدة، وسوف يجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والفتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، واستحالت إلى رجيع قذر. ومَثَل اشتغال أهل الدنيا بنعيمها، وغفلتهم عن نعيم الآخرة، مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة في البحر، فأمرهم الملاَّح بالنزول لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء، وخوَّفهم ذهاب السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأرفقها لمراده. ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وثمارها العجيبة، ويعجبه حسن أحجارها، وأصوات طيورها. ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، فأسرع فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً يجلس فيه. وأكب بعضهم على تلك الأحجار الحسنة، والأزهار الجميلة، فحمل منها ما حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة موضعاً فحمله على عنقه، وندم على أخذه، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت ريحها، وآذاه نتنها. وهام بعضهم في تلك الفياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته. فهو تارة يشم الأزهار .. وتارة يأكل من الثمر .. وتارة يعجب من تغريد الطيور، وجريان الأنهار، وهو مع ذلك خائف من سبع يخرج، أو شوكة تدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه ويخرق ثيابه. فمن هؤلاء من لحق السفينة ولم يلق فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع وهو غافل، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.

فهذا مثال أهل الدنيا، واشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم. والعبد في هذه الدنيا مهاجر بعمله إلى ربه، والدنيا فانية زائلة، وهي كظل شجرة، والعبد فيها مسافر، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف استراح تحتها ثم راح وتركها، فلا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بقدر الحاجة ثم يواصل السير، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها كالقطرة بالنسبة إلى البحر، وما في الدنيا من الأموال والأشياء لا يساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» أخرجه مسلم (¬2). ومهما كان في الدنيا من النعيم فبقاؤها محدود، وبهجتها قليلة، وهي سريعة الزوال كما قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. لذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالمسابقة إلى الآخرة، والمسارعة إلى أعمالها كما قال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. ¬

(¬1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1931). وأخرجه ابن ماجه برقم (4109)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (2317). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2858).

وقال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. وكل إنسان في هذه الدنيا في إحدى منزلتين: إما في منزلة الإيمان والتقوى والإصلاح وعمارة الآخرة بالأعمال الصالحة. وأما في منزلة الكفر والفساد، والأكل والشره، وعمارة الدنيا الفانية. فالإنسان إن لم تجده يعمل في هذه .. فتجده يعمل في الأخرى، وبين الرجلين في العمل كما بين الكوكب الغارب في الأفق والطامع منه .. وبين ذلك منازل متفاوتة. والدنيا كالبحر الذي لا بدَّ للخلق كلهم من ركوبه ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه دورهم وأوطانهم، ولا يمكن قطعه إلا في سفينة النجاة، وسفينة النجاة طاعة الله ورسوله. وقد أرسل الله الرسل لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، فنهض الموفقون وركبوا السفينة فوصلوا إلى محبوبهم ومرادهم. وأما الحمقى من الناس فاستصعبوا عمل السفينة وركوبها، وقالوا نخوض البحر فإذا عجزنا قطعناه سباحة، وهم أكثر أهل الدنيا الذين خاضوا البحر، فلما عجزوا أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق، وصار حظهم شقاء الأبد. فهؤلاء الذين يعرضون على النار ويوبخون هناك كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20]. فمن اطمأن إلى الدنيا .. واغتر بلذاتها .. ورضي بشهواتها .. وألهته طيباتها عن السعي للآخرة .. وتمتَّع بها تمتُّع الأنعام السارحة .. فهي حظه من الآخرة .. وسينال على ذلك أشد العقوبة لتكبره عن الحق .. وقول الباطل .. والعمل بالباطل .. والكذب على الله. والدنيا متاع الغرور .. كم قتلت؟ .. كم أهلكت من البشر؟.

ومثل الدنيا كمثل حب قد نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحب حب منثور، فجاءت إليه الطيور: فمنها من قنع بالجوانب، ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى وسلم. ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب ووسط الحب فوقع في الفخ، وقد انهمك كثير من الناس في الدنيا، وصاروا يقصدونها ويتهافتون فيها تهافت الفراش في النار لما يرى من ضوئها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمََا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» متفق عليه (¬1). وكل أحد في هذه الدنيا ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة. والدنيا كمثل رجل هيأ داراً وزينها، ووضع فيها من جميع الآلات، ودعا الناس إليها، فكلما دخل ضيف أجلسه على فراش وثير، ووضع بين يديه أواني فاخرة، فيها من كل ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، وأخدمه عبيده ومماليكه. فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده، فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في هذه الدار، ولم يعلق قلبه بها، ولم يحدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف. يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدم له، ولا يسأل عما وراء ذلك؛ اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه، وما يفعله مع ضيوفه، فدخل كريماً، وتمتع كريماً، وفارقها كريماً، ورب الدار غير ذام له. وأما الأحمق فحدث نفسه بسكنى الدار، وحوز تلك الآلات إلى ملكه، وتصرف فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه، وجعل يبدل وينقل الآلات، ويغير ما شاء، وكلما قدَّم إليه صاحب الدار شيئاً حدث نفسه ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له.

بملكه، واختصاصه به دون غيره. ورب الدار يشاهد ما يصنع، وكرمه يمنعه من إخراجه من داره، حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات، ومَلَك الدار، وتصرف فيها تصرف المالك الحقيقي، واستوطنها واتخذها داراً له، أرسل إليه مالكها عبيده .. فأخرجوه منها إخراجاً عنيفاً، وسلبوه كل ما هو فيه، ولم يصحبه من تلك الآلات شيء. وحصل على مقت رب الدار، وافتضاحه عنده، وبين مماليكه وحشمه وخدمه، فيا لها من عبرة لمن كان له عقل يعقل به: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، فلا يزال يشرب حتى يقتله الماء المالح. والدنيا كالظل للإنسان، لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله. والله عزَّ وجلَّ خلق الدنيا ليبتلي بها العباد، ولينظر من يركن إليها فتقتله، ومن يطيع الله ويتبع هداه فيسعد في الدنيا والآخرة. ومَثَل ذلك كمثل ملك بنى داراً لم ير الناس ولم يسمعوا بمثلها، فلا أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقاً، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بأنواع الزينة، وأُلبست أنواع الحلل والحلى تشويقاً للناس إليها، وجُعل لها أعواناً وخدماً، وجُعل تحت يدها ويد أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني، وابتغى منك زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوديه، ولا تعوقيه عن سفره إلي. ومن مد إليك عينه، ورضي بك، وآثرك عليّ، فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش. ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلاً ثم استرديه منه، واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك وخدمك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بضد ذلك

حتى تتقطع نفسه عليك حسرات. وإنما الدنيا كحوض كبير مُليء ماء، وجُعل مورداً للأنام والأنعام، فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد، حتى لم يبق منه إلا كدر في أسفله، قد بالت فيه الدواب، وخاضته الناس والأنعام، فما أسرع زوالها، ألا وإن الدنيا قد آذنَتْ ِبصَرْم، وَوَلّتْ حَذّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء. وإذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي الإنسان مريضه من الطعام والشراب، ومن أهان الدنيا كرمت عليه الآخرة، ومن أكرم الدنيا وأهلها هانت عليه الآخرة وأعمالها. وحب الدنيا أصل كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر جماع كل شر، والمال فيه داء كثير، إن سلم صاحبه من الفخر والخيلاء والطغيان، لم يسلم من أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله عزَّ وجلَّ وأداء حقوقه. وكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، فجميع الأمم المكذبة للرسل والأنبياء .. إنما حملهم على كفرهم، وتسبب في هلاكهم حب الدنيا. فإن الرسل لما دعوهم إلى الإيمان، ونهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم. وحب الدنيا يوقع العبد في الشبهات .. ثم في المكروهات .. ثم في المحرمات .. وطالما أوقع في الكفر والهلاك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبْشِرُوا وَأمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ لا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أخَشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ» متفق عليه (¬1). وخطيئة آدم - صلى الله عليه وسلم - إنما كان سببها حب الخلود في الدنيا، وذنب إبليس سببه الكبر وحب الرئاسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وشهواتها، وبسببها كفر فرعون ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3158) واللفظ له، ومسلم برقم (2961).

وهامان وجنودهما، وأبو جهل وقومه، واليهود وغيرهم. والزهد في الدنيا والرئاسة هو الذي عمر الجنة بأهلها. وحب الدنيا والرئاسة هو الذي عمر النار بأهلها. فالدنيا خمر الشيطان، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير. وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد. وأقل ما في حب الدنيا أنه يلهي عن ذكر الله وطاعته، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين، وإذا لهى القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، فأزعجه إلى كل معصية، وصرفه حيث أراد. والزهد في الدنيا ليس بتحريم الحلال ولا إضاعته، ولكن الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليدين منها. والرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة والمعاصي الباطنة. فهي أصل معاصي القلب من الحسد والكبر، والفخر والخيلاء، والتسخط والتكاثر، فهذا كله من امتلاء القلب بحبها لا من كونها في اليد. وامتلاء القلب بها ينافي الشكر لله، ورأس الشكر تفريغ القلب لله منها ومن غيرها. فسبحان الغفور الشكور، يطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، يتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله. السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره، والتوبة إليه. فله الحمد على ما أعطى وما منع، وله الحمد على كل حال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34]. والدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، وفيها حظ له، وهي الأرض وما

عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومركب، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله تبارك وتعالى، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح. وقد وضع الله في الطباع تَوَقان النفس إلى ما يُصلحها. فمن تناول منهما ما يصلحه على الوجه المأمور شرعاً يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره وقع في الذم. فليس للشره في تناول الدنيا وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل العبد عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود. ولا وجه كذلك للتقصير في تناول الحاجة؛ لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها. فالطريق السليم هي الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهي عون لها، وقضاء لحقها، فهذا مما ينشطها للخير فلا يمنعها منه. وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون، ومن ركن إلى الدنيا وأحرقته بنارها، فصار رماداً تذروه الرياح، والعاقل يرى أن نقصان بدنه ودنياه، ولذته وجاهه ورئاسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيراً له، وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن. فحرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة. وإذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله سبحانه حوائجه كلها .. وحمل عنه كل ما أهمه .. وفرّغ قلبه لمحبته .. واستعمل لسانه لذكره .. واستخدم جوارحه لطاعته .. وعمر أوقاته بامتثال أوامره. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه .. حمّله الله همومها وغمومها .. ووكله إلى نفسه .. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق .. ولسانه عن ذكره بذكرهم ..

وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم .. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره. والحياة الدنيا لعب ولهو حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها، والذي يجعلها مزرعة للآخرة، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36]. والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62]. وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ومعاشاً وفراشاً. وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد. وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام. فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته. وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.

فالدنيا لها حالتان: تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة. وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح. والإنسان محتاج إلى الدنيا فهي مطية الآخرة، ومحتاج إلى الدين لتكون حياته طيبة، وكما يحتاج الإنسان إلى ركوب السفينة حينما يدخل البحر، فيركب مدة يسيرة لينجو من الأمواج ثم يصل إلى الساحل. وهكذا المسلم يحتاج إلى الدين ما دام حياً، فيؤمن بالله، ويمتثل أوامره مدة يسيرة لينجو من الغرق في بحر الكفر والشهوات، والشبهات والكبائر، والمحرمات والمكروهات، ويستمر على ذلك حتى يصل إلى الآخرة بسلام. فبقاء الإنسان في الحياة بسيط، كأنه راكب سفينة من الساحل إلى الساحل الآخر، كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24]. والله حكيم عليم خلق الدنيا .. وزيَّنها .. وأسكننا فيها .. وحذرنا منها، وخلق الآخرة .. وزينها بكل شيء .. ودعانا إليها .. ورغَّبنا فيها كما قال سبحانه: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77]. فالدنيا وقتها قصير، وأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال. وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه. وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض لما آذى نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم -، وجحد فضل مَنْ رزقه. ولو أن الدنيا وما فيها ألقيت في مُلْك واحد من أهل الجنة لا تساوي حلقة ترمى في ميدان كبير، ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. ومن الحمق أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً، وإلى ثواب الدنيا

وثواب الآخرة معاً، ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه، ويعيش كالحيوانات والدواب والشياطين. بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان، قدم يدب على الأرض، وروح ترفّ في السماء، وكيان يتحرك وفق أمر الله في هذه الأرض: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134]. وقد نهى الله عزَّ وجلَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها؛ فتنة لهم واختباراً، وأخبره أن رزقه الذي أُعد له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي مُتعوا به فقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} ... [طه: 131]. وأخبر سبحانه أنه آتى رسوله - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 87 - 88]. وبناء الدنيا بالأموال والأشياء .. وبناء الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة .. ونعمت الدنيا التي تعين على طاعة الله .. ويعف بها الإنسان نفسه عن غيره .. ويواسي بها إخوانه المحتاجين. وحب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين من وجوه: أحدها: أن الله لعنها وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض لغضبه ومقته ولعنته. والثاني: أن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله. الثالث: أن العبد إذا أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال والطاقات التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة. فهذا عَكَس الأمر، وقَلَب الحكمة، وتردى في السفول، وهذا الذي قال الله عنه:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} ... [هود: 15 - 16]. والدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار. ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق. وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها .. ومنها زاد الجنة .. وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله .. ومحبة الله وذكره وابتغاء مرضاته. وخير عيش يناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها .. وفيها مساجد أنبياء الله .. ومهبط وحيه .. وبيوت عبادته .. ومصلى ملائكته .. ومتجر أوليائه .. وفيها اكتسبوا رحمة الله .. وربحوا فيها العافية .. وفيها قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح بذكر الله ومعرفته، وعبادته ومحبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والأنس به، ولذة مناجاته، والإقبال عليه .. وفيها كلام الله ووحيه وهداه. فالإيمان بالله، والطاعة لله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك له، أفضل ما في هذه الدار، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضاه، أفضل ما في الآخرة. ففي الدنيا أفضل الأسباب، وفي الآخرة أفضل الغايات. فهذا أفضل ما في هذه الدار .. وهذا أفضل ما في الدار الآخرة. وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات وهي الأقوال والأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها .. ويدوم جزاؤها .. خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه كما قال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]. وحذر الله عزَّ وجلَّ عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، وأخبر أن من فعل ذلك فهو الخاسر حقيقة، لا من قَلَّ ماله وولده في الدنيا كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]. فالأموال والأولاد وإن كانت نعمة من الله فهي فتنة كذلك، لا تقرب الخلق إلى الله، وإنما يقربهم إليه تقوى الله وطاعته كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37]. ولما كانت تلك أحوال الدنيا الفانية .. وتلك أحوال الدار الآخرة الباقية، فقد حذر الله عباده من آفات هذه الدار الدنيا بقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} ... [يونس: 24]. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم ر بنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا .. ولا مبلغ علمنا .. ولا إلى النار مصيرنا .. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.

4 - فقه الحياة العالية

4 - فقه الحياة العالية قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} ... [الأنعام: 122]. وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. الوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. وسمي الوحي روحاً: لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله سبحانه وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. ولكل عبد روحان: روح يحيي بها الله قلب من شاء من عباده .. وروح يحيا بها البدن .. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته. قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} ... [النحل: 97]. فالحياة الطيبة حياة القلب ونعيمه .. وبهجته وسروره بالإيمان بالله ومعرفته ومحبته .. والإنابة إليه .. والتوكل عليه. فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.

وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، وهي منقادة له. والحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث: في دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار في الجنة. والمعيشة الضنك تكون كذلك في الدور الثلاث: في دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار في النار. فكل من جمع بين الإيمان والعمل الصالح أحياه الله حياة طيبة في الدنيا بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ورَزَقه رزقاً طيباً من حيث لا يحتسب، وجزاه في الآخرة بالجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. فيؤتيه الله بفضله ومنِّه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة. والحياة ضد الموت، ومراتب الحياة عشر: الأولى: حياة الأرض بالنبات كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} [النحل: 65]. الثانية: حياة النمو والاغتذاء، وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. الثالثة: حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه، وهي إحساسه وحركته، وهذه الحياة فوق حياة النبات، وهي متفاوتة، وتقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله. الرابعة: حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة، وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها، فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي. ولهذا لا يلحقها كلال، ولا فتور، ولا نوم، ولا إعياء كما قال سبحانه عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].

الخامسة: حياة العلم من موت الجهل: فالجهل موت لأصحابه، والجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض. وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة. السادسة: حياة الإرادة والهمة: فضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى. وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياته. وحياة القلب: بدوام الذكر لله، وترك الذنوب. فكما جعل الله حياة البدن بالطعام الطيب، وتجنب الخبيث، جعل حياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب والمعاصيِ. والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات، يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت. وعلامة موت القلب: إذا كان لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يرغب في الطاعات، ولا يبالي بالمحرمات. والمؤمن حقاً: هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح. وإذا مات المؤمن موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة التي حصلت به بعد موته. السابعة: حياة الأخلاق العالية، والصفات المحمودة، التي هي حياة راسخة للموصوف بها.

فحياة مَنن قد طُبع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك. وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم. والحياء مشتق من الحياة، وأكمل الناس حياة أكملهم حياء، فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها. وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة. لذلك كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الذكي الفطن أكمل من حياة البليد. ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكمل الناس حياة، حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلي أجسامهم؛ لكمال أخلاقهم وتقواهم. الثامنة: حياة الفرح والسرور وقرة العين بالله: وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وأكثرهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها، بل تقطعه عنها إلا أقل القليل. وحرمها أكثرهم، وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والبصيرة. وهذه المرتبة أعلى مراتب الحياة، ولكن كيف يصل إليها من عقله سُببي في بلاد الشهوات، وأَمَله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوإ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمة المحب وطاعته تتكرر وتتزايد حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وإذا تعلقت روحه بحبيبه عمل بما يحب، فهو يتقرب إلى ربه حفظاً لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له. فيتقرب إلى ربه بأنواع التقرب إليه: فقلبه للمحبة، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتعظيم. ولسانه للذكر والحمد وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطاعات، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه. فَيَشرع المحب أولاً في التقرب بالأعمال الصالحة الظاهرة .. ثم يترقى من ذلك

إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه .. ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان .. فيعبد الله كأنه يراه .. فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط. ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (¬1). وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه. وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض. وملاك هذا الأمر: التقرب والانبعاث بالكلية إلى الحبيب وما يحب، ولا يزال العبد رابحاً على ربه أفضل مما قدم له. وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات. التاسعة: حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان: وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675) واللفظ له.

وراحة، نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك. ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ومفارقة الرفيق المؤذي النكد، الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلاً عن مخالطته وعشرته. والنفس لإلفها هذا السجن الضيق النكد زماناً طويلاً تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد، وتستوحش إذا استشعرت مفارقته. ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والأمن والخصب والسرور صبر في طريقه على كل مشقة، ومن قدم على الملك وجاءه بما يحبه أكرمه، ومن جاءه بما يسخطه عاقبه عليه. العاشرة: الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم وذهاب أهلها إلى دار الحيوان: وهي الحياة التي شمر إليها المشمرون، وسابق إليها المتسابقون، والتي يقول من فاته الاستعداد لها: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: 24 - 26]. والحياة السابقة كالنوم بالنسبة لهذه الحياة. وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة .. فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟ .. فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم عزَّ وجلّ َكرة وعشياً، ويسمعون كلامه كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (554)، ومسلم برقم (633) واللفظ له.

وسبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة الباقية، وتعلقها بالحياة الفانية أمور: الأول: ضعف الإيمان بالله، وضعف اليقين على وعد الله ووعيده، فالإيمان هو روح الأعمال، وهو الباعث عليها، والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها. وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه، وتكون طاعة صاحبه ومعصيته كما قال سبحانه: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} [البقرة: 93]. الثاني: جثوم الغفلة على القلب: فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا نجد بعض الناس أيقاظاً في الحس، نياماً في الواقع، فتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم. فالقلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن. وكمال هذه الحياة كان لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، الذي تنام عيناه وقلبه يقظان، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته. فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب، فمستيقظ القلب وغافله كمستيقظ البدن ونائمه. والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها، وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر، والا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله. فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته. فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بدع عملية يعذب فيها نفسه، ثم بدع قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله. فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في أصول الإيمان، ثم يتمكن منه الشيطان وبعده ويمنيه، وتستولي عليه النفس الأمارة بالسوء، ويظفر سلطان الطبع والشهوات بسلطان الإيمان والأعمال.

فلما تم أسره وسجنه، وتولى الشيطان تدبير المملكة، استخدم جند الشهوات وارسلها فيها يسخط الله، واتخذ حجاباً من الهوى. فحينئذ أغلق باب اليقظة، وفتح باب الغفلة. فإذا اجتمعت هذه العساكر على القلب من ضعف الإيمان، وقلة الأعوان، والإعراض عن ذكر الرحمن، مع طول الأمل المفسد للإنسان كيف تكون حاله؟ فلا بدَّ للعبد من المجاهدة والتضحية بما يملك لتحصيل الإيمان وتقويته، وتحسين الأعمال وتنويعها، فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان، وحسن الأعمال، فتلك الحياة العالية التي دعا إليها الرسل، وهي الموصلة برحمة الله إلى الحياة العليا في الجنة. والحياة العالية لها علامات .. والحياة السافلة لها علامات. والحياة العالية ثلاثة أنواع: الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل: ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس: نَفَس الخوف .. ونَفَس الرجاء .. ونَفَس المحبة. فنفس الخوف مصدره مطالعة الوعيد، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة، وآثر المخلوق على الخالق، وآثر الهوى على الهدى، وآثر الغي على الرشاد. ونَفَس الرجاء مصدره مطالعة وعد الله، وحسن الظن بالرب تعالى، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، وحكَّم الهدى على الهوى، والوحي على الآراء، والسنة على البدعة والعادة. ونَفَس المحبة مصدره مطالعة الأسماء والصفات، ومشاهدة نعم الله وآلائه، وفضله وإحسانه. فإذا ذكر العبد ذنوبه تنفس بالخوف .. وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه

تنفس بالرجاء .. وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب. والإنسان بسبب الجهل يظن أن سعادته وقيمته بما في يده من الأموال والأشياء، والله عزَّ وجلَّ َبعث الأنبياء ليبينوا للناس أن السعادة بالإيمان والأعمال الصالحة. فأسباب السعادة في الداخل .. وكذلك أسباب الخسران في الداخل. وبصلاح القلوب تصلح الدنيا والآخرة، وبفساد القلوب تفسد الدنيا والآخرة، وإذا فسدت القلوب فسدت الأعمال، ثم كان الخسران. وإذا صلحت القلوب صلحت الأعمال، ثم كان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وجميع الأنبياء بعثهم الله بالإيمان والأعمال الصالحة التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة لكل إنسان، ولكل مجتمع، ولكل أمة كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. وعلاقة القلوب بالله نور وهداية وسعادة، وعلاقة القلوب بغير الله ظلمة وضلال وفساد. وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة باستعمال القلب والبدن، وكل عضو من أعضاء الإنسان للدين، ويتعلم طريقة استعمالها من النبي - صلى الله عليه وسلم - الفكر واللسان، والسمع والبصر، واليد والرجل .. وهكذا. الحياة الثانية: حياة جمع القلب على الله، والتوجه إليه سبحانه: فالقلب لا سعادة له، ولا فلاح ولا نعيم، ولا فوز ولا لذة، ولا قرة عين إلا أن يكون الله وحده هو غاية طلبه، ونهاية قصده، ووجهه الأعلى هو كل بغيته. ولهذه الحياة القلبية ثلاثة أنفاس: فَس الاضطرار .. وَفَس الافتقار .. ونَفَس الافتخار.

فنفس الاضطرار يكون بانقطاع أمله مما سوى الله، فيضطر حينئذ بقلبه وروحه، ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة. فهذا النفَس نَفَس مضطر إلى ما لا غنى عنه طرفة عين. وضرورته إليه من جهة كونه ربه وخالقه، وفاطره وهاديه، وناصره وحافظه، ورازقه ومعينه ومعافيه، والقائم بجميع مصالحه. ومن جهة كونه معبوده وإلهه وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه. وأما نَفَس الافتقار: فهو من نوع َفَس الاضطرار، وكأن نَفَس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه، ونَفَس الافتقار يعلق القلب بربه. وأما نَفَس الافتخار: فهو نتيجة هذين النَّفَسَين؛ لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه والأنس به، والفرح به، وبالخِلَع التي خلعها ربه على قلبه وروحه، مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها. فحينئذ يتنفس نفساً آخر يجد به من اللذة والراحة والانشراح ما يشبه نَفَسَ من جُعل في عنقه حبل ليُخنق به حتى يموت، ثم كُشف عنه، فتنفسَ نَفَسَ من أُعيدت عليه حياته، وتخلص من أسباب الموت. والعبودية تنافي الافتخار، لكن العبد هنا لا يفتخر بذلك، ويختال على بني جنسه، بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نَفْسه بما فتح عليه ربه ومنحه إياه، وخصه به، وأولى ما فرح العبد به فضل ربه عليه، فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويحب الفرح بذلك؛ لأنه من الشكر: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]. ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكوراً، فهو افتخار بما هو محض منَّة الله ونعمته على عبده، لا افتخار بما من العبد، فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك. الحياة الثالثة: حياة الوجود: وهي حياة بالحق، وهي حياة الواجد.

وحياة الواجد أكمل مما قبلها لشرفها وكمالها بموجدها وهو الحق سبحانه، فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة. وحقيقة الحياة: الحياة بالرب تعالى لا الحياة بالنفس وأسباب العيش كما قال سبحانه في الحديث الإلهي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (¬1). وبهذا يشهد العبد تفرد الرب تعالى بالربوبية والإلهية، والتدبير والقيومية، فلا يثبت لسواه قسطاً في الربوبية، ولا يجعل لسواه حظاً في الإلهية ولا في القيومية. بل يفرده سبحانه بكل ذلك، وهذا النَّفَس يورثه الاتصال بربه في كل وقت، بحيث لا يبقى له مراد غيره، ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه. والمال والبنون حرث الدنيا، والإيمان والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يعطى الإنسان أحدهما، وقد يُّحرم منهما، وقد يجمعهما الله لأقوام. وأَشْكر العباد أحبهم إلى الله، وأقربهم إليه. فأقرب العباد إلى الله الملائكة، وهم درجات، وما منهم أحد إلا له مقام معلوم، وعمل مرسوم، وأعظمهم وأشرفهم إسرافيل وجبريل وميكائيل. وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وقد أصلح الله بهم الأنبياء والرسل والبلاد والعباد، وهم أشرف المخلوقات. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6502).

ويلي درجتهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أخيار، وقد هدى الله بهم سائر الخلق، وأعلاهم رتبة محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي أكمل الله به الدين، وختم به النبيين. ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فهم صالحون في أنفسهم، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق، ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه وأصلح من غيره. ثم يليهم الحكام الذين يحكمون بالعدل؛ لأنهم أصلحوا دنيا الخلق، كما أصلح العلماء دينهم. ثم يلي العلماء والحكام، المؤمنون الصالحون الذين أصلحوا دينهم وأنفسهم فقط، فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم. ومن عدا هؤلاء همج رعاع. إن ثمرة جهد الإنسان على الأشياء يجعل لها قيمة، فالطائرة والسيارة وما فيهما من المنافع نتيجة جهد الإنسان على الحديد، وكل سلعة تزداد قيمتها بقدر ما فيها من الصفات. وكذلك الإنسان كلما اجتهد على أوامر الله، وجاءت فيه الصفات، صارت له قيمة عند الله، وتعلو درجته عند الله بقدر ما يحمل من الإيمان والأعمال والصفات كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} ... [طه: 75 - 76]. وإذا أراد الإنسان أن يعرف قيمته عند الله فلينظر بماذا أقامه؟. هل هو ممن يجمع الحسنات، وينوع الطاعات، ويحفظ الأوقات بذكر الله وعبادته؟ .. أم هو مشغول عن ذكر الله وعبادته بجمع الأموال والحطام، والتمرغ في الشهوات، وإضاعة الأوقات فيما يغضب الله، فاللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} ... [الفاتحة: 6 - 7].

وبمقدار الإيمان والتقوى .. وبمقدار البذل والتضحية .. وبمقدار الأخلاق العالية .. تعلو قيمة الإنسان عند الله في الدنيا والآخرة .. والكافر لا قيمة له عند الله؛ لخلو قلبه من الإيمان، وقعوده عن العمل الصالح، وخلوه من الصفات الطيبة، فلا قيمة له في الآخرة، لكن في الدنيا يأخذ قيمة مزيفة مؤقتة بحسب ما عنده، والله عزَّ وجلَّ جعل الفوز والفلاح والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -: في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق .. أما الأموال والأسباب فالله عزَّ وجلَّ يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الله الدين إلا من يحب. والأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفلحوا في الدنيا والآخرة مع قلة الأسباب أو عدمها. ونمرود وفرعون وقارون وأمثالهم خسروا في الدنيا والآخرة مع وجود الأسباب من الملك والمال وغيرها. {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 20 - 21]. وقد خلق الله الإنسان للأبد، فهو إذاً خلق ليبقى أبد الآباد، ولكنه يمر بمراحل وأمكنة وأزمنة، ثم ينتهي بالخلود في الجنة أو النار، وهو في كل ذلك يستفيد من خزائن الله في الدنيا والآخرة. أما بقية المخلوقات فيأتي عليها يوم يُقضى عليها فيه، ثم تنتهي إلا ما شاء الله بقاءه كالعرش والكرسي والجنة والنار ونحوها. وكما خلق الله في الأرض الاستعداد لإنبات الزروع والأشجار، فكذلك خلق الله في الإنسان الاستعداد للعمل وإيصال المنافع إلى غيره. وقد خلق الله الإنسان ليقوم ويتزين بالإيمان والأعمال الصالحة، ولم يخلقه ليستكثر من الأموال والأشياء، والشهوات.

فإنْ شَغَلَ الإنسان نفسه بهذه الأشياء عن المنعم الذي وهبه إياها فالله يسلطها عليه، ويجعلها سبباً في شقائه وهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة. فالله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان لمقصد عظيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وجعل ما في السموات وما في الأرض في خدمته؛ ليتمكن من أداء وظيفته، وجعل الدنيا له كالدابة؛ إن ركبها حملته إلى الآخرة، وإن حملها قتلته وعذبته. وقد خلق الله كل شيء لحكمة ومقصد، فالطعام للأكل، والماء للشرب والهواء للتنفس، والحديد لمنافع الإنسان، وكذلك خلق الله الإنسان لحكمة ومقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ومن اجتهد على شيء ظهرت نتيجته، فمن اجتهد على الحديد أخرج منه السيارات وسائر الأواني والمنافع. وكذلك الإنسان إذا اجتهدنا عليه بالدعوة ظهر فيه بإذن الله الإيمان والأعمال الصالحة، والصفات العالية، وظهر فيه من المنافع له ولغيره ما لا يحصيه إلا الله في العبادة والدعوة والتعليم، وحسن المعاملات والأخلاق {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]. والحياة النافعة إنما تحصل للعبد بالاستجابة لله وللرسول كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لله ورسوله، فكل ما جاء عن الله ورسوله هو الحياة، ومن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب استجابته، والحياة الطيبة في الجنة مبنية على كمال الحياة الطيبة في الدنيا. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: الأولى: حياة بدنه التي يدرك بها النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره،

ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك. الثانية: حياة روحه وقلبه التي يميز بها بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهدى والضلال. فيختار الحق على ضده، والهدى على الضلال. وتفيد هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار، وقوة الإيمان، وقوة الحب للحق، وقوة الكراهة للباطل. وكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك من روحه، فيصير حياً بذلك النفخ، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الروح الذي ألقي إليه وهو الوحي كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} ... [الشورى: 52]. فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، والرسول البشري، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي، ونفخ الرسول البشري، حصلت له الحياتان، وجمع الله له بين الحياة والنور. ومن حصل له نفخ المَلَك دون نفخ الرسول، حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} ... [الأنعام: 122]. وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لكل إنسان حياتين: حياة تبدأ من بطن أمه وتنتهي بالموت .. وحياة تبدأ بعد الموت عند البعث إلى حياة لا نهاية لها، المؤمن في الجنة، والكافر في النار. وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، والتي هي خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته، والدعوة إليه، وكمال التوكل عليه، ثم يليهم أتباعهم وورثتهم ممن سار على هديهم واقتفى أثرهم.

فالقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه وتباشير أنواره. فعند هذا يتحرك قلب المؤمن لمعرفة ما يحبه الله ويرضاه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فكل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله لا بدَّ أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصل إليه. فإذا تمكن العبد في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة، فذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتُسد عليه الأبواب التي تفرق همه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق. ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، فلا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، فإذا أدخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها. ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي الحلوى. ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة جلاله وكماله وصفاته بحيث ينسيه ذلك كل ما سواه. ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول مشاهد المعرفة، وهو نور يقذفه الله في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في جميع أحواله، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى الملك العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، فعند ذلك تزول عنه هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر، هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظر إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا. ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى تصريف وتدبير جميع الكائنات

والمخلوقات بيده سبحانه، فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه إلى غيره، وأنه لم يصل بعد، رُجي أن يفتح له فتح آخر هو فوق ما كان فيه. ثم يبقى له وجود قلبي روحاني ملكي، فيبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء، الذي هو مراد المؤمن وغاية مطلبه كما قال سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} ... [النجم: 42]. فهذا لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام. ثم يرقيه الله سبحانه فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للقلوب والأرواح، فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه ووليه المحسن إليه. فهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته، وقرب منزلته من ربه، فالمرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة والقرب، فيا سعادة صاحب هذا القلب، ويا له من قلب مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال، وعظمة الجلال والكبرياء للواحد الأحد، والناس مفتونون ممتحنون بما يزول ويفني من الأموال والصور والرياسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله. وأعلاهم مرتبة من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب، والنكاح واللباس. ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية؟ إن التعلق بالحور العين وما في الجنة من نعيم بالنسبة للموثق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد المحبوب لذاته وهو الله، فكيف تكون حالنا وقد قَدَّمنا محبوبات الدنيا على أوامر الله عزَّ وجلَّ؟.

وقد سأل موسى - صلى الله عليه وسلم - ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال: «أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17]» أخرجه مسلم (¬1). وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها مما في الجنة. فهذا العبد قد جرَّد المحبة لله وإن كان يريد من ربه خير الدنيا والآخرة، فهذه إرادة خالصة جذبت قلبه إلى ربه جملة كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. فهذه حقيقة التوحيد والإخلاص: انجذاب القلب إلى الله تعالى بالكلية. وهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله. فالسعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به سبحانه أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار. ولو لم يوجب محبة الله عزَّ وجلَّ إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (189).

والقلوب مفطورة على حب الصور الجميلة، لكن المسلم مأمور ومتعبد بغض بصره؛ لئلا تنتقش الصور في قلبه فيعكف عليها محبة تصرف قلبه عما خُلق له من النظر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه. فكل محبة لما سوى الله صرف لما هو حقه لغيره، وهي ألم في القلب يُعذَّب به؛ لانصرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق. فأعلى نعيم الجنة رؤية الرب عزَّ وجلَّ ومحبته وحلول رضوانه، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم (¬1). فهذا نعيم لا يشغل أهل الجنة عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق؛ لأن لذته أعظم مما هم فيه من النعيم. وربهم من فوقهم يسلم عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه، وهو مستوٍ على عرشه الذي هو سقف الفردوس، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم. فالنفوس الزكية العلية تعبد الله لأنه أهل أن يُعبد ويُجل، ويُّحَب ويُعظَّم، ويُّحمد ويوقر، فهو لذاته مستحق للعبادة. ولا ينبغي للعبد أن يكون كأجير السوء إن أعطي أجرةً عَمِل، وإن لم يعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة. فالعارفون عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتان ما بينهما. وليس المراد عيب سؤال الله الجنة، فالعبد محتاج لذلك، وإنما العيب أن يكون مبلغ العلم ومنتهي الإرادة والطلب هو الجنة المخلوقة، والغفلة والغَيْبَة عن حقيقة التعبد والتأله للملك الحق. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2835).

وحتى لا يكون التعبد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة، بل يكون لذات المعبود سبحانه. والله سبحانه يطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. وكل من عرف الله تعالى طابت له الحياة، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، وقرَّت عينه بالله، وقرَّت به كل عين، وقرت عينه بالموت. ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه، وأحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه ولهج بذكره، واشتاق إليه، واستحيا منه، وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به. ومن أحب الدنيا حتى صارت أكبر همه فليوطن نفسه على تحمل المصائب. ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم .. وتعب دائم .. وحسرة لا تنقطع .. ذلك أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، فلو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً. ومحب الدنيا كشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد سكراً. وأسعد الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والتقوى، والإحسان والإخلاص، الذين لا يفعلون شيئاً إلا ابتغاء وجه ربهم الأعلى، لا يريدون سواه كما قال سبحانه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 17 - 21]. وهؤلاء هم الأنبياء ومن سار على هديهم. وصاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم ومننهم، وإن حمل منهم شيئاً بادر إلى جزائهم عليه؛ لئلا يبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى، ليكون عمله كله لله وحده، لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وحده لا

شريك له. أما من تطوِّقه نِعَم المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم. وكل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزي بها من دعاه إليها. فلهذا من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه مِنَّة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاءه وجهه، وطلب مرضاته وحده. وهذا الذي وعده الله برضاه بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 21]. وإنما يتم ذلك بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].

5 - أحوال الخلق في الدنيا

5 - أحوال الخلق في الدنيا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7 - 8]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} ... [يونس: 9]. الله عزَّ وجلَّ خلق الخلق فمنهم كافر ومنهم مؤمن كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} [التغابن: 2]. والإنسان من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، والأيام والليالي مراحل لسفره، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر. فالكيِّس الفطن من جعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فهو إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل. ولا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته. والناس في قطع هذه المراحل قسمان: القسم الأول: الذين قطعوها مسافرين إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا مرحلة قربوا من تلك الدار، وبعدوا من ربهم، وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} ... [الصف: 8]. فهؤلاء شرُّ خلق الله، وقد جعلت أيامهم ولياليهم مراحل يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها، واستعملوا بها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم، يسوقونهم إلى منازلهم في النار سوقاً كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا

الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} ... [مريم: 83]. والقسم الثاني: الذين قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه .. ومقتصد .. وسابق بالخيرات بإذن الله. وهؤلاء كلهم مستعدون للسير، موقنون بالرجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون في التزود، وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه كما قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]. وسعي العبد وحركته في هذه الحياة أربعة أنواع: سعي لجلب نفع مفقود كالكسب ... أو لحفظ موجود كالادخار .. أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل .. أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض. والإنسان في الحقيقة متوجه من الدنيا إلى الآخرة، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن دار العمل إلى دار الجزاء، ومن الدار الفانية إلى الدار الباقية، ومن السعادة الجزئية أو الشقاوة الجزئية، إلى السعادة الكلية أو الشقاوة الكلية، فالخير كله بحذافيره في الجنة، والشر كله بحذافيره في النار، والناس قادمون على ربهم، ومجزيون بأعمالهم: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} ... [الغاشية: 25 - 26]. فسعيد وشقي .. ورابح وخاسر .. ومُكرم ومُهان .. كلٌّ حسب عمله. فآخذ كتابه بيمينه .. وآخذ كتابه بشماله .. ففرح مسرور .. وشقي محزون .. فمسوق إلى الجنة .. ومسوق إلى النار. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].

والناس في الدنيا فريقان: المؤمنون .. والكفار .. فالإيمان له شُعب، ولأهله صفات، وأهله ثلاث درجات: ظالم لنفسه .. ومقتصد .. وسابق بالخيرات. والكفر له شعب، ولأهله صفات، وأهله درجات، وهم متفاوتون في الشقاء حسب أعمالهم، كما أن المؤمنين متفاوتون في النعيم حسب أعمالهم، وموعد الجميع يوم الفصل: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 105 - 108]. والنعيم والعذاب في الدنيا والآخرة مبني على العمل في الدنيا: فمن آمن وعمل صالحاً فله السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كفر بالله فله الشقاء في الدنيا والآخرة. ولا بدَّ من معرفة حال هؤلاء السعداء ليقتدي العبد بهم .. ومعرفة حال هؤلاء الأشقياء ليحذر من سوء أعمالهم.

1 - حال الأشقياء

1 - حال الأشقياء قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161 - 162]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} ... [الأحقاف: 20]. الكفار والمشركون والمنافقون لاحظ لهم في الآخرة، وأما في الدنيا فهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12]. وما أكثر هؤلاء الغاوين الضالين المتبعين إبليس اللعين، فهؤلاء كالأنعام التي فقدت العقول، حيث آثروا ما يفنى على ما يبقى، فلم يستفيدوا من عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، بل هم أضل من البهائم السائمة. فإن البهائم مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان تدرك بها مضرتها من منفعتها، فهي أحسن حالاً منهم. وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، ووهبهم الله الأفئدة والأسماع والأبصار لتكون عوناً لهم على القيام بأوامر الله، وحقوقه، فاستعانوا بها على معصية الله والصد عن سبيله، ومحاربة أوليائه ودينه، وغفلوا عن أنفع الأشياء وأحسنها من الإيمان بالله وطاعته وذكره. فهؤلاء جديرون بأن يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم وخلقهم لها، وهم بأعمال أهلها يعملون كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} ... [الأعراف: 179].

فهؤلاء أضل من الأنعام السائمة؛ لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي، وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه، وهؤلاء صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، فكل حيوان بهيم فهو أهدى منهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]. وهؤلاء الكفار والمشركون والمنافقون تقع عليهم اللعنة من الله، ومن جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق، وإفساد دينهم، وصدهم عن سبيل الله، وإبعادهم من رحمة الله، وإعراضهم عن دينه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161]. فهؤلاء يقطعون مراحل أعمارهم سائرين إلى دار الشقاء، متزودين غضب الرب سبحانه، ومعاداة كتبه ورسله وما بعثوا به، ومعاداة أوليائه، والصد عن سبيله، ومحاربة من يدعو إلى دينه، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإقامة دعوةٍ غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له وحده، والعبادة له وحده. فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه. فما أعظم جرمهم .. وما أكبر خسارتهم .. وما أشد عقوبتهم .. فهم أشد الناس جرماً، فما أجدرهم بلعنة الله وغضبه وسخطه؟ فأي جرم أعظم من رد الحق والهدى الذي اختاره الله لعباده؟. وأي جرم أعظم من قتل الأنبياء الذين حملوا الحق إلى البشرية والسخرية منهم، ورد ما جاءوا به؟. وأي جرم أعظم من إيذاء وصد وقتل الذين يأمرون بالقسط والعدل من الناس ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ

الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} [آل عمران: 21 - 22] فاستحق هؤلاء بهذه الجنايات والكبائر أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم أشد الألم في النار للأبدان والقلوب والأرواح. وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله، ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} ... [فاطر: 36]. وإذا كان أكثر الأرض الآن يموج بالكفر والضلال والفجور .. والكفار يزيدون على ستة آلاف مليون نسمة .. ويموت منهم يومياً إلى النار أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان .. وهم غارقون في الشهوات والملذات. فمن المسئول عن ترك هذا الوباء من الكفر والشرك والظلم والفساد ينتشر في البشرية؟. إن الله عزَّ وجلَّ قد وكل الشمس بالإنارة، ووكلنا بنشر الهداية، والشمس قد أدت الأمانة وما زالت تؤديها. فهل نحن أدينا أمانة الدعوة إلى الله، ليسمع الناس الحق الذي شرفنا الله بالدعوة إليه، فيهتدوا إليه، ويسعدوا به في الدنيا والآخرة، وينجو من عذاب الله يوم القيامة، {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} ... [إبراهيم: 52]. إن الإسلام هو الدين الحق، وهو حق واجب لكل إنسان، ومَنْعُ الإنسان حقه وعدم إيصاله إليه ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل لعن الظالمين وتوعدهم بالعذاب كما قال سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19]. وما أشقى حال الإنسان الذي سمع الحق ثم أعرض عنه وصدَّ عنه.

إن الله خلق الجبال العظيمة الصلبة العالية الراسية، وأخبر عنها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت وتصدعت من خشية الله كما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21]. فوا عجبًا من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويُذكر الرب جل جلاله فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، فليس بمستنكَر على الله ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تَلِنْ بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه. فمن لم يلن في هذه الدار قلبه، فإن أمامه المليِّن الأعظم في نار جهنم التي تذيب الأجسام الصلبة، والأحجار القاسية، والنفوس العاصية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وهؤلاء الأشقياء من الكفار والمشركين مصيرهم يوم القيامة إلى جهنم كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 38 - 48]. فهذه أربع صفات أخرجت هؤلاء من زمرة المفلحين إلى زمرة الأشقياء الهالكين: الأولى: ترك الصلاة، وهي عمود الإخلاص للمعبود. الثانية: ترك إطعام المسكين، الذي هو من مراتب الإحسان إلى العبيد، فلا عبادة للخالق، ولا إحسان للمخلوق. الثالثة: الخوض في الباطل.

الرابعة: التكذيب بالحق. فلأجل هذا هم مخلدون في النار، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين. وكل واحدة من هذه الصفات موجبة للإجرام، مقتضية للعقوبة، ومجموعها يدل على غلظ الكفر، ويوجب أشد العقوبة. فما أجهل هؤلاء بربهم ودينه، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها كما قال سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 - 51]. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

2 - حال الظالم لنفسه

2 - حال الظالم لنفسه قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} ... [النساء: 110]. أورث الله تبارك وتعالى هذه الأمة الكتاب المهيمن على سائر الكتب، فمنهم الظالم لنفسه بالمعاصي التي هي دون الكفر .. ومنهم المقتصد الذي اقتصر على فعل الواجبات، وترك المحرمات .. ومنهم السابق بالخيرات، الذي سبق غيره في الأعمال الصالحة. فكل هؤلاء الأصناف الثلاثة اصطفاه الله تعالى لوراثة الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن معه أصل الإيمان، وعلم الإيمان، وأعمال الإيمان. ووراثة الكتاب من أجلّ النعم وأفضلها على الإطلاق. ومن تجرأ على المعاصي، واقتحم على الإثم، وظلم نفسه بحملها على معصية الله، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً، يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود إليه، فهذا قد وعده الله الذي لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة. فالسائرون إلى الله وإلى دار كرامته ظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته، وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب وأوامره، مع إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه .. مأسورة مع حظه وهواه، وهو يعلم سوء حاله، ويعترف بتفريطه، وكثرة معاصيه، ويعزم على الرجوع إلى الله، كما قال آدم - صلى الله عليه وسلم - وزوجه حين ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما

ربهما عن الأكل منها: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. فلما علم الله منه حسن التوبة والندم على ما فعل ألقى إليه كلمات فتاب وتاب الله عليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37]. فهذا حال المسلم ينسيه الشيطان ذكر ربه، ويغفل فيعصي ربه ثم يتوب إلى ربه، فيتوب عليه؛ لأنه التواب الرحيم. فالظالم لنفسه مقصر في الزاد، غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته، بل هو مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه. وسيجد غب أذاه إذا وصل المنزل، بحسب ما تزود من ذلك الضار المؤذي. والظالم لنفسه يستقبل مرحلة يومه وليلته، وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكَتْ جوارحه طالبة لها، فإذا زاحمتها حقوق ربه فتارة وتارة. فمرة يأخذ بالرخصة .. ومرة يأخذ بالعزيمة .. ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب. فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران .. والطاعات والمعاصي .. والحسنات والسيئات .. وهو للأغلب منهما. فإذا ورد هذا العبد يوم القيامة ميز ربحه من خسرانه، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم منه فضله وعدله. والذين معهم أصل التوحيد والإيمان إذا خلطوا الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك، والرجاء بأن يغفر الله لهم، فهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم كما قال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ

أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} ... [التوبة: 102]. ومن مغفرته أن الظالمين المسرفين على أنفسهم، الذين قطعوا مراحل أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم فإنه يعفو عنهم ويتجاوز عن سيئاتهم، ومن ندم منهم على ذنبه، واعترف به، ولم يتب توبة نصوحاً قبل موته، فإنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب. فعلى المسلم أن يرفع السدود والحجب التي تحول بينه وبين الحق. والسدود التي تحول بين المؤمن والحق أربعة: المال .. والجاه .. والتقليد .. والمعاصي. فيرفع حجاب المال بإنفاقه في سبيل الله إلا ما يحتاجه .. ويرفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع والهرب من أسباب الذكر .. ويرفع حجاب التقليد بترك التعصب للمذاهب والأشخاص والأماكن .. ويرفع حجاب المعاصي بالتوبة، وهجر المعاصي، والخروج من المظالم.

3 - حال المقتصد

3 - حال المقتصد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} ... [فاطر: 32]. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَسْألُهُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أنْقُصُ، فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» متفق عليه (¬1). المقتصد: هو من اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره. فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة. فهذا قد أدى وظيفة تلك المرحلة، ولم يزد عليها، ولا نقص منها، فلا حصل على أرباح التجار، ولا بخس الحق الذي عليه. فإذا استقبل مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام، والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلاً بها، مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات والأوراد والأذكار والتوجه. فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، فيأخذ مضجعه إلى أن ينشق الفجر، فيصلي ويقوم إلى غذائه ووظيفته. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2678) واللفظ له، ومسلم برقم (11).

فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وإن كان له مال تجب فيه الزكاة أدى حق الله فيه من الزكاة الواجبة. وكذلك الحج الواجب يؤديه كما أمر الله ورسوله. وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، ولا يظلمهم ولا يترك حقهم. فالأبرار المقتصدون قطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه. فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة. فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار المشروعة إلى حين تطلع الشمس، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب المشروعة. فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى صلاته كما أمر، مكملاً لها بآدابها وأركانها وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة، والحضور بين يدي الرب. فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه، وسائر أحواله، آثاراً تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه. ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله، وقلة التكالب والحرص على الدنيا. قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة، فهو مهموم مغموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه. هذا وهم في ذلك كله مراعون في حفظ السنن، لا يُخِلُّون منها بشيء ما أمكنهم. فيقصدون من الوضوء أكمله .. ومن الوقت أوله .. ومن الصفوف أولها، عن يمين الإمام، أو خلف ظهره.

ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه، هذا دأبهم في كل فريضة. فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة، نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يُخِلُّون بها أبداً. فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يبلغه النوم وهو يذكر الله. فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى. ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد: من عيادة المرضى .. وتشييع الجنائز .. وإجابة الدعوة .. والمعاونة لهم بالجاه والبدن والمال والنفس .. وزيارتهم وتفقدهم. وقائم كذلك بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نَقَلَه فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، وكده ومداواته بعمل صالح يزيل أثره، فهذه وظيفته دائماً. وهؤلاء هم أصحاب اليمين الذين يستمتعون في الجنة بما لذ وطاب من النعيم المقيم كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40]. ومن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ورحمته. وإذا تأمل العاقل حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم.

ومن هنا انقطعوا عن معرفة الله، وحُجبوا عن معرفته، ومحبته، والأنس بمناجاته، ولذة عبادته، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً. وأفضل الفكر الفكر في ذلك، فإنه يُسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً، ويحرك قلبه وجوارحه لطاعة مولاه، والمنافسة في الخيرات. والناس في الفكر والإرادة أربعة أقسام: الأول: من يريد الله لذاته، فهو مشغول بما يحبه ويرضيه دون سواه. الثاني: من يريد الله، ويريد منه. الثالث: من يريد منه، ولا يريده. الرابع: من لا يريده، ولا يريد منه. فآثر هؤلاء العبيد عند الله وأحبهم إليه وأقربهم منه الأول، لكمال معرفته بربه، فذاك العبد حقاً، العارف حقاً. ويا ليتنا نسير بدرب العبد الثاني، والخوف علينا أن نسير بدرب العبد الثالث. أما العبد الرابع فهو من الأشقياء الهالكين؛ لأنه أعرض عن ربه، وتعلق ببعض عبيده، فله يريد، ومنه يريد.

4 - حال السابق بالخيرات

4 - حال السابق بالخيرات قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 10 - 14]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 59 - 61]. وقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]. السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين. وهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة. ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه، خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات. فهؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أوسنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير، ويسابقون في كل عمل صالح، وينافسون في كل ما يقربهم إلى الله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 61]. والأمر باستباق الخيرات أمر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الوجوه والأحوال، والمبادرة إليها في أول وقتها. والخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة

وصدقات، وحج وعمرة، وجهاد، ونفع خاص وعام. والسابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامات. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، ويرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر. والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار .. ومقربون. وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين وهم: المقتصدون .. والأبرار .. والمقربون. وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه. والسابقون المقربون، السابقون بالخيرات، هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونبأهم عجيب، ونحن نستغفر الله من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن تشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم. فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله. فَسَرَت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه. قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه. وصارت رغبتهم إليه .. وتوكلهم عليه .. ورهبتهم منه ... وإنابتهم إليه .. وسكونهم إليه .. وانكسارهم بين يديه .. فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره.

فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكراً صفاته العلا، وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد انصبغ قلبه بمعرفته ومحبته. فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً، ذليلاً منكسراً من كل جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة. وشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه. يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر. فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه، مقيماً لكل ما سواه، غنياً عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. ويرى ربه يغفر الذنوب، ويفرج الكروب، ويرحم المسترحمين، ويفك عانياً، وينصر ضعيفاً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواماً، ويذل آخرين. ويشاهد الملك الرزاق يقسم الأرزاق ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده، بيده اليمنى، وبيده الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلاً منه وحكمة. ويشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب ولا وزير ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها.

أحاط سبحانه بالعباد وحوائجهم، ووسعها قدرة ورحمة وعلماً، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن. ولا تغلطه سبحانه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين. «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). فهو سبحانه الملك الغني الكريم، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قدير على كل شيء، يفعل ما يشاء؛ لأراد لقضائه، ولا معقب لحكمه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَُْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (¬2). واذا صارت أسماء ربه، وصفات ربه، مشهدا لقلبه، أَنْسَتْه ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه، وجذبت دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه. فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، ربه يمشي. قال رسول الله (: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (¬3). فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه، أو يطمئن بغير مولاه. فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (993). (¬2) أخرجه مسلم برقم (179). (¬3) أخرجه البخاري برقم (6502).

فرشهم، تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها. فإذا استيقظ هذا القلب من أوكاره، صعد إلى الله بهمته وحبه، مشتاقاً إليه، طالباً له، محتاجاً إليه، عاكفاً عليه. فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها، فيكله إلى ضعة وعجز، وذنب وخطيئة. بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاَ، ولا موتاَ ولا حياة ولا نشوراً. فإذا انتبه من نومه قال: «لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله» أخرجه البخاري (¬1). فأول ما يبدأ به إذا قام من النوم أن يقول: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» متفق عليه (¬2). يقولها متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه، ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات والتي كلها تقصده بالهلاك والأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن. فالذي يكلؤه ويحرسه في نومه ويقظته هو الله وحده، فليحمده على هذه النعمة: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1154). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6314) واللفظ له، ومسلم برقم (2711).

ويتذكر أن الذي أعاده حياً سليماً بعد هذه الإماته قادر على أن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان .. ثم يقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران 190 - 200]. ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر، فيتوضأ حسب السنة، ثم يصلي صلاة التهجد كما ورد في السنة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة .. صلاة محب محتاج، مخلص لمحبوبه، متذلل مفكر بين يديه، لا صلاة مدلٍ بها عليه، يرى أن من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأكرمه وحرم غيره .. فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتملق لمولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم،

ويناجيه بكلامه، معطياً لكل آية حقها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه آيات المحبة والود، وآيات الأسماء والصفات، وآيات الآلاء والإنعام والإحسان، وآيات الرحمة والرجاء والبر والمغفرة، وآيات وصف الجنة وما فيها من النعيم المقيم. وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، وآيات وصف النار وما فيها من العذاب الأليم والنكال الشديد. فإذا صلى ما كتب الله له، جلس مطرقاً بين يدي ربه، هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطراً، وكان عليه بعدُ ليل، اضطجع على شقه الأيمن مجماً لنفسه، مريحاً لها، مقوياً لها على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً كأنه لم يزل نائماً طول ليلته لم يعمل شيئاً. فإذا أذن المؤذن إلى صلاة الفجر تابعه في الأذان ثم صلى ركعتي الفجر وهما خير من الدنيا وما فيها، ويبتهل إلى الله ويدعوه بينها وبين صلاة الفجر، فالدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة. ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإمام، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن، فإن للقرب من الإمام تأثيراً في سر الصلاة، خاصة صلاة الفجر، فقرآن الفجر يشهده الله وملائكة الليل، وملائكة النهار. وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب جل جلاله، ونزوله إلى السماء الدنيا، آخر كل ليلة حتى يطلع الفجر. يصلي الصلاة في أول وقتها بخشوع قلب، كاملة الشروط والأركان والواجبات والسنن. فإذا فرغ من صلاة الفجر أقبل بكليته، على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار

المسنونة بعد كل فريضة، يداوم عليها، ويجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً. ثم يزيد عليها مما ورد من أذكار الصباح ما شاء، أو قراءة القرآن، ويجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً. فإذا طلعت قام متضرعاً إلى ربه، سائلاً إياه أن يكون ضامناً عليه، متصرفاً في مرضاته بقية يومه. فلا يفعل شيئاً إلا في مرضاة ربه، من دعوة إلى الله، وتعليم لعباده، أو نفع وخدمة للمسلمين، أو اشتغال بنوافل العبادات، وإن كان من الأفعال الطبيعية قلبه عبادة بالنية، وقَصَدَ الاستعانة به على مرضاة ربه، فتكون عاداته عبادات. ويقدم في كل وقت ما نفعه أعم على غيره، فيقدم الدعوة والتعليم على النوافل، ويؤخر العمل الانفرادي من أجل العمل الاجتماعي كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. وقال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وقال سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]. فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مؤدياً للسنة الراتبة قبله، مكملاً له، ناصحاً فيه لمعبوده، فهو لايبغي مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه، وإصلاحه، وإكماله، ليقع موقعاً من محبوبه، فينال به رضاه عنه، وقربه منه. أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم. والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً. ومن أنصف نفسه، وعرف أعماله، استحى من الله أن يواجهه بعمله، أو يرضاه

لربه، وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه، ولم يدع من أجل حُسْنه شيئاً إلا فعله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]. فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله، إحسان للعمل، واستغفار بعد العمل؛ لأنه يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو دائماً يستغفر الله عقيب كل عمل صالح. قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 18]. وكان النبي (إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً. وفي الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} ... [البقرة: 199]. فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار في جميع أحواله، فلا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته، كثرة توبته واستغفاره، وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقة لربه في محبة ما يحب، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما يكره، وبذل الجهد في تركه. وهذا إنما يكون من النفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة العمل والإرادة، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاص مطابق لما جاء به الرسول (لامخالف له، قائم بأحكام العبودية التي تقتضيها كل صفة بخصوصها. وهذا سلوك الأكياس، الذين هم خلاصة العالم. فالسير إلى الله عن طريق الأسماء والصفات شأنه عجيب، وفتحه عجيب، صاحبه قد سبقت له السعادة، وهو مستلق على فراشه، غير تعب ولا مكدور، ولا مشرد عن وطنه.

فهو ساكن لا يُرى عليه آثار السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز. فالسائرون إلى الله قسمان: سائر قد ركبته نفسه فهو حاملها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرها وتهرب منه، ويخطو بها خطوة أمامه، فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها في جهد، وهي معه كذلك .. فمتى يصل مثل هذا؟ وسائر قد ركب نفسه، وملك عنانها، فهو يسوقها كيف يشاء؟ وأين شاء؟ ومتى شاء؟. لا تلتوي عليه ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف، في يد مالكه وآسره، فهي منقادة معه حيث قادها، تسير به وهو ساكن راكب على ظهرها .. فما أسرع وصول هذا، وشتان بين المسافِرَين، ومن شأن هؤلاء القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره. بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره، ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه الملك الحق، القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي تدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة. {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده، بِلَوْ كان كذا كان كذا، ولا بعسى ولعل، ولا بليت وأتمنى. بل ربهم أعظم وأجل في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره، أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به، وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله. بل هذا العبد ناظر بعين قلبه إلى بارئ المخلوقات وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر، وعوائدهم ومألوفاتهم.

وعيب المخلوقات وتنقصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنها صُنْعه وأَثَر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وهو أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وله في كل شيء حكمة. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]. فالمؤمن لا يعيب إلا ما عابه الله، ولا يذم إلا ما ذمه الله، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله، وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه، كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]. فالعبد يستحي من ربه أن يكون في داره، وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فيقول: لوكان كذا مكان كذا لكان خيراً، أو يشاهد الملك الحق يولي هذا ويعزل هذا، ويعطي هذا ويَحْرِم هذا، فيقول: لو وُلِّي هذا المكان فلان لكان خيراً ولو عُزل هذا المتولي لكان أولى، ولو عوفي هذا، ولو أغنى هذا ... وهكذا. فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض، وإخراجه من قربه؟ فوا عجباً .. كيف ينازع العبد ربه منازعة جاهل عاجز ضعيف، ليس له من الأمر شيء؟. وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، ولا يرضى بما رضي الله به، ولا يسكن عند مجاري أقداره، بل هو عبد ضعيف فقير مسكين جاهل ظالم في مجموع حالاته فيرى نفسه غنياً، ويرى نفسه عارفاً محسناً. فما أجهله بنفسه .. وربه .. وما أتركه لحقه .. وما أشد إضاعته لحظه. ولو أحضر العبد رشده لرأى ناصيته ونواصي الخلق كلهم بيد الله سبحانه، يرفعها ويحفضها كيف يشاء؟ وقلوبهم بيده يقلبها كيفما يشاء؟ يقيم منها ما يشاء ويزيغ منها ما يشاء، لكمال علمه ورحمته وحكمته. ويرى نفسه عبداً لربه، تُقَلِّبه وتُصرِّفه يد القدرة، مستسلم لله، ينظر بقلبه إلى

مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، عينه في كل لحظة شاخصة إلى حق مولاه المتوجه عليه لربه يؤديه في وقته على أكمل أحواله. فهؤلاء إذا وردت عليهم أقداره التي تصيبهم بغير اختيارهم، قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على ثلاث مراتب: إحداهما: الرضى عنه فيها، والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا ناشيء من مشاهدتهم للطفه فيهم، وبره وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها، ونصبها سبباً لمصالحهم. الثانية: شكره عليها كشكره على النعم، وهذا فوق الرضا عنه بها، فهاتان مرتبتان لأهل هذا الشأن. الثالثة: للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى اليأس والجزع، الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة. ولما كانت الحياة الدائمة مبنية على الحياة الفانية، بما فيها من عمل فمن آمن وعمل صالحاً فله الجنة، ومن كان بضد ذلك فله النار، أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتجارة الرابحة فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف 10 - 13] وقد استجاب أكثر الخلق للشيطان، فأشغلهم وخدعهم بالتجارة الخاسرة عن التجارة الرابحة التي أرسل الله بها الأنبياء، وكفى بذلك عقوبة {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20]. والهدف والغاية من حياة الإنسان ثلاثة أمور وهي: عبادة الله عز وجل .. والدعوة إلى الله .. والخلافة في الأرض.

يشتغل العبد بذلك كل وقته، ويجعل جزءاً يسيراً لكسب المعاش بعد معرفة أحكام العمل، كما قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} ... [الجمعة: 10]. والشهوات مطلقة غير محدودة، وطلب الشهوات من الإنسان مطلق أيضاً غير محدود، فما يكاد يفرغ من شهوته إلا وتشتاق نفسه إلى شهوة أخرى. ولو اجتمع الإنس والجن لتكميل شهوة إنسان واحد ما قدروا، وإنما تكميل الشهوات بيد الله عزَّ وجلَّ. فالإنسان تصوره ضعيف، فلا يستطيع أن يكمل شهواته حسب معرفته، إنما يكملها ربه الذي خلقه، وعلم ما ينفعه وما يضره، فأعطاه في الدنيا منها القليل الذي يصلحه، وفي الآخرة يكملها الله لأوليائه في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فالإنسان في هذه الحياة، بسبب جهله، وقصور معرفته يريد تكميل شهواته والاستمتاع بها الآن. فيريد الآن أن يأكل أحسن شيء .. ويريد أن يشرب أحسن شيء .. ويريد أن يسكن أحسن شيء .. ويريد أن يلبس أحسن شيء .. ويريد أن يركب أحسن شيء حسب معرفته. ولكن الله الذي خلقه أعلم منه، وحكمة الله أن يأخذ من الشهوات بقدر حاجته، ويصوم عن تكميل الشهوات إلى غروب شمس حياته، وبعد ذلك له في الجنة النعيم المقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. وأوامر الله عزَّ وجلَّ ليس لها حد .. وشهوات الإنسان ليس لها حد .. فمن قدم أوامر الله وأكملها .. وضحى بشهواته من أجلها .. أكرمه الله بالجنة وأكمل شهواته فيها .. ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة .. أكمل الله له محبوباته في الآخرة.

فأين من ينافس في أعمال الآخرة؟ وأين من يسابق في الخيرات، ليحصل على أعلى الدرجات في الجنات؟ إننا نرى جهد الدنيا مهماً جداً، ولذلك وظائف الدنيا عليها إقبال مع أن أجورها قليلة، ولا تحقق إلا متعة قليلة وهمية. أما وظائف الدين فلا إقبال عليها بسبب ضعف الإيمان، مع أن أجورها عظيمة، وتحقق متعة وسعادة في الدنيا والآخرة. وعادة الملك أن يعطي الجائزة الكبيرة، والهدية الكبيرة بنفسه، أما الجائزة الصغيرة، والهدية الصغيرة، فيأمر أحد الخدم أن يعطيها من يريد. وهكذا أسباب الدنيا من الأموال والأشياء والمناصب، كلها صغيرة، فيعطيها الله عن طريق الأسباب. أما الدين والجنة وما فيها من النعيم، فهو كسب عظيم وكبير، يعطيه الله من علم أنه يستحق ذلك في نفسه. فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن يحب. والله عز وجل ابتلى كل إنسان بطريقين: طريق الإيمان والأعمال الصالحة، وطريق الأموال والشهوات، والإنسان الفائز من يقضي حياته بطريق الإيمان والأعمال الصالحة، ويأخذ من الأموال والشهوات بقدر الحاجة، والخاسر بضد ذلك. واليهود والمشركون أحرص الناس على الحياة، كما قال سبحانه عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96]. ولماذا يحرصون على الحياة؟ لأنهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه.

فهم لا يحبون الموت، بل يحرصون على الحياة أياً كانت، ولا يهم أن تكون حياة كريمة، ولا حياة مميزة على الإطلاق. إنهم يريدون أي حياة ... حياة حشرات، أو حياة بهائم ... أو حياة سباع ... أو حياة عقارب ... أو حياة شياطين. وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، ثم من سار على هداهم من الصديقين والشهداء والصالحين، الذين حياتهم خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء 69 - 70]. والله سبحانه إذا رقَّى عبده بالتدريج نوَّر باطنه وعقله بالعلم، فرأى أنه لا خالق سواه، ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره، وأنه لا يستحق أن يعبد سواه، وكل معبود سواه فباطل. ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهده عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه، وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته، وقيام صفاته بذاته، فيضمحل شهود غيره من قلبه. ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم به وحده بإقامته لها، وإمساكه لها. فإنه سبحانه يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم، ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن. ويمسك القلوب الموقنه أن تزيغ عن الإيمان، ويمسك أرواح الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود، ويمسك على الموجودات وجودها، ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت. والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته، فهو سبحانه مستغن عن كل ما سواه، وما سواه فقير إليه بالذات.

فهذا العبد يشهد ربه منفرداً بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والنفع والضر، ويرى جميع المخلوقات محل جريان أحكام الرب عليها، لا يملك شيئ منها لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، بالواجبات والنوافل حسب أمره وشرعه، ويشهد ألوهية الله فيتعلق به وحده دون سواه، ويحبه وينيب إليه، ويتوكل عليه، ويفرده بالمحبة والخوف، والرجاء والتعظيم والإجلال. فهذه أعلى مقامات المؤمنين، وأحسن درجات المحسنين، قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال 2 - 4]. ولهؤلاء السابقين في الجنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة 10 - 26]. وهذا السابق بالخيرات ما سبق إليها إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم عليه به، كما قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]. فالظالم لنفسه .. والمقتصد .. والسابق بالخيرات .. هؤلاء الذين ورثوا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله لوراثة الكتاب.

وبعرض متاجر الأقسام الثلاثة يتبين للعبد من أي التجار هو؟ أما جزاء الذين أورثهم الله كتابه فهو: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 33]. وهم متفاوتون في هذا النعيم حسب أعمالهم، ودرجاتهم حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم وتنوعها. فإذا تم نعيمهم، وكملت لذاتهم وسرورهم حمدوا الله على كمال النعيم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34]. فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا في لذاتهم، ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيداً. فله الحمد حيث غفر لنا الزلات، وقَبِل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله، ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا. وأوصلنا إلى دار المقامة التي يرغب الإنسان في الإقامة فيها، لدوامها وكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدورتها. وذلك كله بفضله وكرمه لا بأعمالنا، فلولا فضله لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من كمال النعيم، حيث لا نصب ولا تعب. {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 35]. إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، في كل عمل محمود. والناس أصناف: فمنهم من يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، فهذا

يسمى عظيم الهمة. ومنهم من فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في أدنى الأمور وصغائرها، فهذا يسمى صغير الهمة. ومنهم المتواضع الذي لا يكفي لعظائم الأمور، ويشعر أنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لمثلها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده. ومنهم من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، وهذا يسمى فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور. والقرآن الكريم يملأ النفوس بعظم الهمة والمسابقة إلى الخيرات، وهذا العظم هو الذي قذف بأولياء الله ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على قلوب مملوءة بالكفر والظلم، وجاهدوها حتى امتلأت بالإيمان والعدل. وأتوا على عروش كانت ظالمة فنسفوها، ورفعوا فيها لواء العدل والأمن، وأتوا على عقول كانت ضالة ففجروا فيها أنهار العلوم تفجيراً. فلله ما أعظم هذه الهمم، وما أشرف هذه النفوس الأبية. ومجالات وأقسام علو الهمة كثيرة، يجمعها ست صفات هي: طلب العلم ... وحسن العبادة .. وحسن الاستقامة .. والبحث عن الحق ... والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيل الله. فعلو الهمة في طلب العلم يتمثل في الغيرة على الوقت أن ينفَقَ في غير فائدة، وحرص لايشفي غليله إلا بأكواب طافحة من كل علم، وغوص في البحث عن نفائس العلوم، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة؛ لأنها مشغولة بالحق الذي أشغلها عن الباطل. إن معالي الأمور وعزة المسالك محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم. أما علو الهمة في العبادة والاستقامة فلها أقوام فقهوا عن الله أمره، وعرفوا

حقيقة الدنيا، فاستوحشوا من فتنها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همتهم عن سفاسفها، وعرفوا الآخرة، فتعلقت قلوبهم بها، فلا تراهم إلا قوامين صوامين، ذاكرين شاكرين، مسبحين مستغفرين. فما أعلى همتهم في التوبة والاستقامة، وما أقوى عزيمتهم في العبادة والإخبات، والذكر والدعاء. وأما البحث عن الحق فما أكثر المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وما فيه من أحكام، فَمَنَّ الله عليهم وأعطاهم ما سألوا، وحقق لهم ما أرادوا، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} ... [العنكبوت: 69]. وأما علو الهمة في الدعوة إلى الله، فمن أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، والصبر على مشاق الدعوة، حتى تبلغ الغاية التي يريد الله أن تبلغها. وقد كان الرسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمة في هذا المجال، وكان أولو العزم منهم في الذؤابة .. بذلاً .. وصبراً .. وتضحية، وكان سيدنا محمد (في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يحذو حذوه كل داعية إلى الله عزَّ وجل، إذ لم يكن همه هداية قومه أو العرب فحسب، بل العالم كافة، وخاطب ملوك العالم ورؤساءه ليدخلوا في دين الإسلام. والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى رجال عالي الهمة، وقد ضرب رسول الله (المثل الأعلى في هذا المجال فلم يكن أحد في وقت القتال أقرب إلى العدو منه، وكان أصحابه رضي الله عنهم مثلاً في الشجاعة والإقدام اقتداء به. فما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه الروح الوثابة، والهمة العالية؛ لتجاهد ضد أعداء الله، وأعداء الدين الحق، وتطهر الأرض من دَنَس أعداء الله ورسوله ودينه، وتنشر الفضيلة والحق في العالم.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا. اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. اللهم فقهنا في الدين واهدنا الصراط المستقيم، واجعلنا من عبادك المخلصين، ودعاتك الصادقين، وحزبك المفلحين. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].

6 - فقه الغربة

6 - فقه الغربة قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)} [هود: 116]. وقال النبي (: «إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا» أخرجه مسلم (¬1). الغربة ثلاثة أنواع: الأولى: غربة أهل الله، وأهل سنة رسول الله (بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله (أهلها، وهي الغربة التي تكون في مكان دون مكان، وزمان دون زمان، وبين قوم دون قوم. وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله (، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به. فهذه الغربة لا وحشة على أهلها لا في الدنيا ولا في الآخره، فوليهم الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداهم أكثر الناس وجفوهم. ومن هؤلاء الغرباء مَنْ ذكرهم النبي (بقوله: «رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ» أخرجه مسلم (¬2). والمؤمن حقاً في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال، وله حال. ومن صفات هؤلاء التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله تعالى ورسوله (. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (146). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2622).

فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وهم النُّزَّاعُ من القبائل. تغربوا عن قبائلهم وعن بلادهم فراراً بدينهم، وإعلاء لكلمة ربهم. فطوبى لهؤلاء الغرباء الذين يَصْلحون إذا فسد الناس، ويُصْلحون ما أفسد الناس: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} ... [الأحزاب: 39]. والإسلام الحق اليوم هو أشد غربة منه في أول الإسلام، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جداً، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس، فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون. فأهل الإسلام في الناس غرباء .. والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء .. وأهل العلم في المؤمنين غرباء .. وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء .. والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فمن أراد أن يسلك هذا الصراط المستقيم فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم في سيرته، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع نبيه وإمامه - صلى الله عليه وسلم -. فما أشد حال أهل هذه الغربة؟ وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات وولايات ومناصب، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول (، فالواحد من هؤلاء الغرباء غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من الناس مساعداً ولا معيناً فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدعة، داع إلى الله ورسوله بين دعاة أهل الأهواء والبدع، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر لديهم معروف، والهدى ضلالة، والضلالة هدى.

الثانية: غربة مذمومة، وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق، فهي غربة بين حزب الله المفلحين. فهؤلاء وإن كثروا فهم غرباء على كثرة أصحابهم، أهل وحشة على كثرة مؤنسيهم. الثالثة: غربة مشتركة، فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خلقوا لها، كما بين ذلك النبي (: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري (¬1). والاغتراب أمر يشار به إلى الانفراد عن الأكفاء، فكل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم؛ لعدم مشاركته أو لقلته. ولما كانت الغربة هي الانفراد، والانفراد إما بالجسم وإما بالقصد والحال، وإما بهما، كان الغريب غريب جسم، وغريب قلب وإرادة، أو غريباً بالاعتبارين. فالغربة على ثلاث درجات: غربة عن الأوطان .. وغربة الحال .. وغربة الهمة. فالغربة الأولى غربة بالأبدان. والثانية: غربة بالأفعال والأحوال، والمراد به العالم بالحق العامل به الداعي إليه، وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم، فهو صاحب صدق واخلاص بين أهل الكذب والنفاق. والثالثة: غربة بالهمة، وهي غربة طلب الحق سبحانه. فإن همة العارف حائمة حول من يعرف، فهو غريب بين أبناء الآخرة، فضلاً عن أبناء الدنيا، لا يشغله عن مطلوبه ومحبوبه شاغل إلا ما ارتضاه محبوبه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6416).

7 - فقه الموت

7 - فقه الموت قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8]. وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185]. الموت: تغير حال الإنسان، وانتقال من دار إلى دار. والروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة أو منعمة، ومفارقتها للجسد معناه: خروج الجسد عن طاعتها، وسكونه عن الحركة بفقدها، فإن الأعضاء والجوارح آلات للروح تستعملها. والروح بنفسها تَعْلم الأشياء من غير إعلام، ولذلك قد يتألم بنفسه بأنواع الغم والحزن والكمد، ويتنعم بأنواع الفرح والسرور، وكل ذلك لا يتعلق بالأعضاء. فكل ما هو وصف للروح بنفسها فيبقى معها بعد مفارقة الجسد، وما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد عند البعث. وكل أعضاء الإنسان آلات والروح مستعملة لها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها على الروح. والإنسان في الحقيقة هو الروح المدرك للعلوم والآلام واللذات، وذلك لا يموت ولا ينعدم، ومعنى الموت انقطاع تصرفه عن البدن، وخروج البدن على أن يكون آلة له، فحقيقة الإنسان نفسه وروحه وهي باقية. والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ

الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [الجمعة: 8]. والنفس البشرية ترى الحق كاملاً وهي في سكرات الموت، تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل، وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تقبل توبة، ولا ينفع إيمان، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} ... [ق: 19]. والمؤمن يكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه. ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم. والناس في هذه الدنيا ثلاثة: إما منهمك في الدنيا وإما تائب مبتدي، وإما عارف منته. فالغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذكر الموت من الله بعداً؛ لجهله وسوء عمله. وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد. فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه. وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه. وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعد لقائه لحبيبه والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعد كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه.

وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطيء مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين. والموت هادم اللذات، وخطره عظيم، وما بعده أفظع منه، وغفلت الناس عنه بسبب قلة ذكرهم له، وقلة فكرهم فيه. ومن يذكره من الناس لا يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه. فالطريق النافع أن يفرِّغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه. وعند ذلك يقل فرحه وسروره في الدنيا، وينكسر قلبه. وأنجع طريق فيه أن يكثر من ذكر أقرانه، الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، وقصورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟. وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟. وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟ وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟. وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟ وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟. قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26]. فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ

الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185]. وطول الأمل في الدنيا داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران: الجهل .. وحب الدنيا. فأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر. وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه. قال النبي (: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (¬1). وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، ومكدر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه. والإنسان مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته. فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743). انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).

كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} ... [الأعراف: 51]. وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. وإذا عرفنا سبب كراهية الموت، وأنه الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل. أما الجهل: فيُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين. وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه. ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا. وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أعطي ملك الارض من المشرق إلى المغرب، فإن حب العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير. فما أعظم الموت، وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً. فما أعظم الموت، وما أشد سكراته .. وما أعظم هول ما بعده. ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.

والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل. فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور. والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى. ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه. ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار. كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14]. وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية. فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار. والإنسان إذا مات وفارق الحياة لايستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة. فكل ما في الدنيا لايساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار. فالناس لا بدَّ لهم من السجن: فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت

أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي (: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم (¬1). ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامه، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم. فالناس رجلان: إما خارج من السجن .. وإما ذاهب إلى السجن. وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها. وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله .. وأجله .. ورزقه .. وأثره .. ومضجعه. ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها. وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة. وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان .. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب. وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد. فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2956).

وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟. فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته. وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} ... [النساء: 17]. وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن: يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ. ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل. ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. والأجل أجلان: أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير. وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر. فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (¬1). والأجل قسمان: أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5985) واللفظ له، ومسلم برقم (2557).

الثاني: أجل القيامة العامة. فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال (: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (¬1). أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2]. فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات. والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب. والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام. وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه .. وأجله .. وعمله .. وشقي أو سعيد. وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها. ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3332)، واللفظ له، ومسلم برقم (2643)

ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم (¬1). ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار. فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)} ... [الكهف: 48]. وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100]. ومن الناس من أحب الموت .. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله .. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا .. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب .. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى .. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة. والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2565).

بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]. فلما قال الكافر (أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد. فماذا حصل؟. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء. وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]. وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين. والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟. أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145]. وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.

فالذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب. أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب. وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه، إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار. والله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى. وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن. أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة. فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله سبحانه، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع. وقدر الله وسنته في الحياة والموت كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)} ... [آل عمران: 156]. وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ

يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78]. على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157]. وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى. وهناك إما مغفرة من الله ورحمة ... أو غضب من الله وعذاب. وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر. وإلى ما وراء القدر من حكمة .. وما وراء الابتلاء من جزاء: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} ... [المنافقون: 11]. والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر. خلقهم الله لعبادته، وأرسل إليهم رسلاً يحفظونهم، ورسلاً آخرين يدعونهم إلى الله، ورسلاً آخرين يقبضون أرواحهم، وكل يؤدي رسالته حسب أمر ربه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61]. وسَيُرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب. فهو وحده يحكم .. وهو وحده يحاسب .. وهو لا يبطئ في الحكم .. ولا يمهل في الجزاء: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ

الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62]. فلا بدَّ للناس أن يستيقنوا أن الله محاسبهم ومجازيهم على أساس شريعته هو لا شريعة غيره، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون من أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله عزَّ وجلَّ. وأنهم سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا إلهاً في الأرض، ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة، وأشركوا مع الله غيره من خلقه. والأمر كله لله، وسنة الله ماضية لا تتخلف، وأَجَله الذي أَجَّله لا يستعجل لكل حي، ولكل فرد، ولكل أمة: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} ... [يونس: 49]. والآجال كالأرزاق كلها بيد الله، والأسباب والأمراض ستار وراءه قدرة الله. والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي، هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود .. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، هلاك الهزيمة والضياع .. وهو ما يقع للأمم إما لفترة تعود بعدها للحياة .. وإما دائماً فتضمحل، وتنمحي شخصيتها، وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد. وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل مصادفة ولا ظلماً. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا، والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها، لا بمجرد الاعتقاد فقط، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة، والحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ

خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 24 - 25]. والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} [المؤمنون: 80]. فالبشر كلهم أعجز وأقل من بث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها. والبشر قد يكونون سبباً لإزهاق الروح، لكن تجريد الحي من حياته بيد الله وحده، والذي يملك اختلاف الليل والنهار هو الله وحده، وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة .. هذه في النفوس والأجساد .. وتلك في الكون والأفلاك. وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن. فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان. وقد وكل الله عزَّ وجلَّ ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11]. ولملك الموت أعوان من الملائكة كما قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} ... [الأنفال: 50 - 51]. إن أمر النشأة الأولى ونهايتها، أمر الحياة والموت، كل ذلك بيد الله وحده، وهو أمر مألوف وواقع في حياة الناس، فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم. إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري، أو يجادل فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 57 - 59].

إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام. يأكل ويشرب .. ويضحك ويبكي .. ويقوم ويقعد .. وينام ويستيقظ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 12 - 16]. هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 60 - 62]. والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20]. والله سبحانه القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} ... [الحج: 6 - 7]. فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون

بالتوبة من المعاصي، وإيثار الآخرة، والخروج من المظالم، والإقبال على الله بالطاعات، واجتناب المحرمات. وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً. أما النظرة الأولى: فتبعثه ليستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله. والمسلم لا يتمنى الموت، إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي» متفق عليه (¬1). وحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء. والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟. وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر .. وعن كل طاعة عملها .. وعن كل معصية فعلها .. وعن كل فاحشة اقترفها. وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه .. وكل ما أسروه وأعلنوه .. وكل ما جمعوه وفرقوه .. وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6351) واللفظ له، ومسلم برقم (2680).

8 - فقه البعث والحشر

8 - فقه البعث والحشر قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} [يس: 51 - 53]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45]. وقال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} ... [التغابن: 7]. ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون. وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟ .. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟. وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة. فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد،

مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر. وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ». ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]. ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} ... [الكهف: 47]. فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية. يستقبلك يوم عظيم شأنه .. ترى فيه السماء قد انفطرت .. والكواكب من هوله انتثرت .. والنجوم قد انكدرت .. والشمس قد كورت .. والجبال قد سيرت .. والبحار قد سجرت .. والجحيم قد سعرت .. والجنة قد أزلفت .. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات .. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة .. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً .. وتبسّ الجبال بسّاً .. يوم يكون فيه الناس

كالفراش المبثوث .. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت .. وتضع كل ذات حمل حملها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2]. يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت. والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم. فتأمل حالك أمامه .. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته .. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته .. والناس يتعاوون فيها ويبكون .. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها .. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك .. واضطراب قلبك .. وتزلزل قدمك .. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب. فكيف حالك عند عبور الصراط .. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون .. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف .. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار .. وتعلو أرجلهم .. والنار تغلي بهم .. تشوي وجوههم .. وتحرق أجسادهم .. وتقطع أمعاءهم. فيا له من منظر ما أفظعه .. ومرتقى ما أصعبه .. ومجاز ما أضيقه .. وهول ما أفزعه. فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه .. وأنت مثقل الظهر بأوزارك .. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار. والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن

الصراط من الخلائق. فكيف بك لو زلت قدمك .. ووقَعْتَ في قعر جهنم .. ووقع بك ما كنت تخافه .. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي .. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ... يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً .. يا ليتني كنت تراباً .. يا ليتني كنت نسياً منسياً. فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن .. وهذه الأخطار بين يديك .. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟. وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟. وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً. فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]. وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً. ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد. النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم .. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم .. فيتفجر الصديد من أفواههم .. وتتقطع من العطش أكبادهم .. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم. كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ .. يبكون ويصيحون .. وهم يمشون في النار على وجوههم .. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون .. قد

غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم .. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم. طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع .. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار .. ولباسهم من نار: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 19 - 22]. فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار. فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} ... [مريم: 39]. وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين. ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى. وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57]. فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم. في وجوههم نضرة النعيم .. يسقون من رحيق مختوم .. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق .. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير. متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} ... [الإنسان: 19]. يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع .. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. كأنهن الياقوت والمرجان ... كأمثال اللؤلؤ

المكنون .. خيرات حسان .. يمشين في درجات الجنان .. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار .. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان. عطرات آمنات من الهرم والبؤس .. حور مقصورات في الخيام .. قاصرات الطرف عين. يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون .. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر .. في خيام واسعة من اللؤلؤ ... وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها .. وبسطهم من العبقري الأخضر. وهم في الجنة خالدون .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]. فهم عباد مكرمون .. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون .. لا يخافون فيها ولا يحزنون .. وهم من ريب المنون آمنون .. فهم فيها يتنعمون .. ويأكلون من ألوان الطعام .. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن. ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور .. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب .. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان .. وترابها الزعفران والدر والياقوت .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 8 - 16]. فيا له من نعيم ما أكمله .. ويا له من سرور ما أعظمه .. ويا له من خير ما أدومه .. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد (رسولاً: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].

يا حسرة على العباد .. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟. إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول. وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً. وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة. وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72]. فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 20 - 22]. فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن

الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 1 - 8]. فيا حسرة من شغله التكاثر عن ربه إذا عاين تكاثره هباءً منثوراً .. وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خداعاً وغروراً .. ووجد عاقبة تكاثره عليه لا له .. وخسر هنالك تكاثره .. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه. وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به في يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30]. فلم يفز مِنْ تكاثره إلا بأن صار من الأقلِّين، ولم يحظ به من علوه به في الدنيا إلا بأن صار مع الأسفلين. فيا له من تكاثر ما أقله .. ومن غنى جالب لكل فقر .. وخير تُوُصِّل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه .. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} ... [المؤمنون: 99 - 100]. فهذا المفرط سأل ربه الرجعة ليستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه، وسلطانه وقوته، وأملاكه وأسبابه، فيقال له كلا، لا سبيل لك إلى الرجعى؛ لأن الله يعلم أنه لو رجع فإن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحاً لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه لا بقلبه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} ... [الأنعام: 28]. وكل أحد من مسلم وكافر سوف يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله

من حلال أم حرام؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالاً آخر: هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم على معصيته؟. فالأول سؤال عن كسبه، والثاني سؤال عن محل مصرفه. والنفوس الشريفة العلوية إنما تكاثر بما يدوم نفعه، وما تزكو به وتكمل، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد، وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم من المراكب والمساكن، والمطاعم والمشارب ونحوها، فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلة. فعاقبة هذا التكاثر قِلّ وفقر، وحرمان وأحزان. إن أمر البعث هو دائماً مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام، منذ أن أرسل الله رسله للناس يأمرونهم بعبادة الله وحده، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب. فالمشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)} [النحل: 38]. فهم يقرون بوجود الله، ولكنهم ينفون عنه بعثه الموتى من القبور، يرون هذا البعث أمراً عسيراً بعد الموت والبلى، وتفرق الأوصال والأشلاء. وغفلوا عن الخلق الأول مَنْ خلقه؟: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15]. وغفلوا عن قدرة الرب؟ {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [يس: 81]. فما أجهل الإنسان بنفسه؟ وما أجهله بربه؟

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79]. والله سبحانه هو القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، وجميع ما في الكون تحت قهره وأمره: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} ... [يس: 82 - 83]. وحكمة الله في البعث: أن هذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه، فالناس يختلفون حول الحق والباطل .. والهدى والضلال ... والخير والشر. وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الأرض، ولا يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الدار، حتى يتم الجزاء في الآخرة، ويبلغ كل أمر تمامه هناك، أهل الجنة في كمال النعيم .. وأهل النار في كمال العذاب، وللأمر حكمته: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 39]. والأمر بعد ذلك هين كغيره على الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]. وقد جعل الله الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال، والآخرة دار تكميل الشهوات واللذات، ومن لم يأت بالإيمان، والأعمال الصالحة دخل النار المشتملة على كمال العذاب والآلام: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} ... [النساء: 13 - 14]. والدور التي يمر بها العبد أربع: الدار الأولى: بطن الأم، وحكمة بقائه هنا تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.

الثانية: دار الدنيا، وحكمة بقائه هنا تكميل الإيمان والأعمال الصالحة. الثالثة: دار البرزخ، وحكمة بقائه هنا انتظار يوم القيامة، وهو بحسب حاله، المؤمن في نعيم، والكافر في عذاب. الرابعة: دار القرار في الجنة أو النار، وهذه آخر منازله. وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، وجعل أحكام يوم القيامة من النعيم والعذاب على الأبدان والأرواح معاً. والبعث: هو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً غير مختونين، ويبعث كل عبد على ما مات عليه، فيبعثون ويحشرون للحساب والجزاء كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} ... [يس: 51 - 53]. وأول من ينشق عنه القبر محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (¬1). وجميع الخلائق تحشر إلى ربها يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95]. ويحشر الناس يوم القيامة على أرض بارزة بيضاء، ليس فيها عَلَم لأحد كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2278).

مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} ... [الكهف: 47]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأحَدٍ» متفق عليه (¬1). ويحشر الناس جميعاً يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فقَالَ (: «يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» متفق عليه (¬2). ويحشر المؤمنون إلى ربهم وإلى الجنة وفداً مكرمين في موكب كريم. قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]. وقال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. ويحشر الكفار والمشركون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً إلى النار. قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [الإسراء: 97 - 98]. وقال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} ... [الصافات: 22 - 23]. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» متفق عليه (¬3). ويساقون إلى جهنم عطاشاً زرقا: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6521)، ومسلم برقم (2790) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6527)، ومسلم برقم (2859) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4760)، ومسلم برقم (2806) واللفظ له.

قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} ... [مريم: 85 - 86]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)} ... [طه: 102]. فالحشر الأول لجميع الخلق من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى الجنة أو النار. فعند الحشر الأول الكفار يسمعون ويبصرون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشر الكفار عمياً وبكماً وصماً. فلكل موقف حال يليق به. ويحشر الله يوم القيامة الدواب والبهائم والوحوش والطيور، ثم يحصل القصاص بين الدواب، فيقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْها، فإذا اقتص لبعضها من بعض قيل لها كوني تراباً. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. ويجمع الله الخلائق بعد بعثهم في ساحة واحدة في عرصات القيامة، وذلك لفصل القضاء، حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس في ذلك اليوم، ويذهب العرق سبعين ذراعاً، ويعرق الناس على قدر أعمالهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».

قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (¬1). وإذا حُشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، وبلغ العناء منهم مبلغاً عظيماً لشدة الهول، وعظمة الكرب، وصعوبة الموقف، رغبوا إلى ربهم في أن يحكم بينهم، فإذا طال موقفهم، وعظم كربهم، ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليفصل بينهم، ثم يجيء الله جل جلاله لفصل القضاء بين عباده كما قال سبحانه: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 21 - 23]. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن المبدأ والمعاد .. والقيامتين الصغرى والكبرى .. والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة .. والأصغر وهو عالم الدنيا .. والدارين الجنة دار السعداء، والنار دار الأشقياء .. وفصَّل سبحانه في كتابه خلق الإنسان، وكيف يقضي حياته، وبيَّن أحواله عند وفاته، ويوم معاده. والله سبحانه يعيد جسد الإنسان بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه بحسب عمله، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها. وهو سبحانه العليم بما تنقصه الأرض من لحوم البشر وعظامهم وأشعارهم، والقادر على جمعها وتحصيلها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً، ثم بعثها يوم القيامة. بل مع كل نَفَس سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} [ق: 20]. وبراهين المعاد في القرآن تقرر ثلاثة أصول: أحدها: تقرير كمال علم الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2864).

الثاني: تقرير كمال قدرة الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} ... [يس: 81 - 82]. الثالث: كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]. ولكن الكفار لا يؤمنون بالرب .. ولا يؤمنون بالدين الحق .. ولا يؤمنون بالبعث .. ولذلك اختلط عليهم الأمر، فهم في أمر مريج آل بهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة. فما أجهلهم بربهم .. وما أسفه عقولهم. {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 5 - 8]. وقد وكل الله تعالى إ بكل إنسان قريناً من الملائكة يكتب عمله، فإذا كان يوم القيامة قال الملك: يا رب هذا هو الشخص الذي وُكِّلت به، وهذا عمله الذي أحصيته عليه في الدنيا، كما قال سبحانه: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} ... [ق: 23 - 26]. يا حسرة على العباد كم ضيعوا من الأوقات في غير طاعة الله .. ويا خيبة الكفار في ذلك اليوم العصيب. فسبحان الرب الملك العظيم، العزيز الجبار، الغني الحليم، الذي له الخلق والأمر، وله التصريف والتدبير في الكون كله، في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة. خلق الملائكة المقسِّمات أَمْر الله الذي أُمِرت به بين خلقه كما قال سبحانه:

{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} ... [الذاريات: 4]. ومن أعظم المقسمات لأوامر الرب في خلقه: جبريل: الذي يَقْسِم الوحي بأمر ربه إلى الرسل، ويقسم العذاب وأنواع العقوبات على من خالف الرسل. وميكائيل: الذي يقسم القطر والبرد والثلج والنبات والأرزاق بأمر الله. وإسرافيل: الذي يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور بأمر الله. وملك الموت: الذي يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله. وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال سبحانه عنهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5]. وذلك كله يدل على كمال قدرة الرب .. وكمال علمه .. وكمال حكمته .. وكمال عنايته بخلقه .. وكمال رحمته لهم. وإبداء الخلق وإعادته دليل ظاهر مكرور يدل على المبدأ والمعاد، الذي نزلت به كتبه سبحانه، وأخبرت به جميع رسله. وذلك مشهود في الدنيا عياناً: في إبداء الليل والنهار وإعادتهما .. وفي إبداء الزمان وإعادته الذي هو حاصل بسير الشمس والقمر .. وفي إبداء النور وإعادته في القمر .. وإبداء النبات والحيوان وإعادتهما .. وإبداء فصول السنة وإعادتها .. وإبداء ما يحدث في تلك الفصول وإعادته. أو ليس القادر على ذلك كله بقادر على أن يحيي الموتى يوم القيامة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33].

9 - فقه الحساب

9 - فقه الحساب قال الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} ... [البقرة: 284]. وقال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26]. إن الله تبارك وتعالى يحاسب الخلائق في الآخرة، ويجازيهم على ما عملوا من خير أو شر في الدنيا: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} ... [الأنعام: 160]. والشياطين يهيِّجون الكفار إلى المعاصي، فهم مسلَّطون عليهم بسبب كفرهم، وهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 83 - 84]. فيا ويل من يعدّ الله عليه ذنوبه، وأعماله، وأنفاسه، ويتتبعها، ليحاسَبَ الحساب العسير عليها. إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف، ويعيش في قلق وحسبان، فكيف بالله المنتقم الجبار؟. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105]. وكل إنسان محاسب على عمله وحده، وكل نفس لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وكلٌّ سوف يحمل حِمْلَه وحده، لا يعينه عليه أحد، ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه، وهو الكاسب وحده دون سواه، والأمر كله صائر إلى الله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ

وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر: 18]. إن شعور كل فرد بأنه مجزي بعمله، لا يؤاخَذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسَب، مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل أحد عنه شيئاً. كما أنه عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة غيره، ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة. كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح، وكل يحمل أثقاله ويمضي في طريقه حتى يقف أمام الميزان: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} ... [الأنبياء: 47]. وإلى الله المصير، فهو المحاسب والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيئ، ولا يوكل الحكم إلى غير الله ممن يميلون أو ينسون أو يهملون. إن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله، وهذا حق. ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال، وكلفه اختيار الهدى، وأمره به، ورضيه له كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} ... [الحجرات: 7 - 8]. فالله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان قابلاً لهذا وهذا، فكل إنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر، ولا يتجه إلى هذا أو هذا إلا بمشيئة الله كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29]. وحساب العباد كلهم سيقع على ما اختاروا في الدنيا من الحق أو الباطل كلهم: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].

وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (¬1). والله جل جلاله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال، يَفْرَغ يوم القيامة لحساب هذين الخلقين الضعيفين: الجن والإنس، وفي وعيد وانتقام كما قال سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} ... [الرحمن: 31]. يا لَلْهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان، ولا تقف له الجبال الرواسي. والله سبحانه ليس مشغولاً فيفرغ، ولا يشغله شأن عن شأن في خلقه وتدبيره. فهذا الوجود كله أنشأه الله بكلمة واحدة (كن) فيكون على ما أراد. وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50]. فكيف تكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالحساب والانتقام من كل مجرم، والإكرام لكل مؤمن. {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 48 - 49]. ولا يستطيع أحد أن يفر من الله، فكل الكون ملكه، وكل أحد في قبضته، وكل عبد ناصيته بيده، وكل أحد سيقف للحساب، وينال جزاء عمله. وأنى للإنس والجن أن يَنْفُذُوا، أو يهربوا من ملك الله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2577).

بِسُلْطَانٍ (33)} ... [الرحمن: 33]. وفي يوم القيامة مواقف شتى: منها ما يُسأل فيه العباد .. ومنها ما لا يُسألون فيه عن شيء .. ومنها ما تجادل فيه كل نفس عن نفسها .. وما يلقى به التبعة على شركائها .. ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام. فهو يوم طويل مديد .. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود. وهنا موقف لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 37 - 39]. وذلك حين تُعرف صفة كل فرد وعمله، فيؤخذ كلٌّ إلى داره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41]. أما أهل الجنة فيساقون وفداً مكرمين إليها كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 73 - 74]. ويوم القيامة، وبعد الحساب يكون الناس ثلاثة أقسام: أصحاب الميمنة ... وأصحاب المشأمة .. والسابقون المقربون. قال الله تعالى في أقسام الناس يوم القيامة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 - 11]. أما بيان قدرهم عند الله .. وتفصيل ما أعد الله لهم .. وتعديد أنواعه .. فهو يختلف بحسب عملهم. فأعلاهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 10 - 26]. فهؤلاء عدد محدود، وفريق منتقى، كثرتهم في الأولين، وقلَّتهم في الآخِرِين، وهم في ذلك النعيم الكامل، جزاء ومكافأة على حسن عملهم في الدنيا. أما أصحاب اليمين فهم فريق آخر في الجنة دون السابقين الأولين، وهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخِرِين كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40]. وأما الفريق الثالث فهم أصحاب الشمال، أصحاب النار كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 41 - 56]. والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده المؤمنين إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه في الدنيا للآخرة قبل القدوم عليها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. فالتقوى تجعل القلب يقظاً، حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، وتجعله خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطَّلع عليه الله في حالة يكرهها.

والتقوى تُذكِّر العبد بربه، وتفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته. فيمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه. ونظر العبد ماذا قدم لغده كفيل بأن يوقظه إلى مواضع الضعف، ومواضع النقص، ومواضع التقصير في حياته، مهما يكن أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً. إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب. وكما يدعو الله عباده إلى اليقظة والتذكر، ومحاسبة أنفسهم، كذلك يحذرهم من نسيانه بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} ... [الحشر: 19]. إن الذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، والقصد من خلقه. وهذا النسيان لربه مرض في القلب ينشأ عنه نسيانه لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد. فأي خسارة تحل بالإنسان إذا تمرغ في الدنيا بما يسخط الله، وغفل عن الآخرة، ورحل إليها بزاد إلى النار؟. وتُعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} ... [الحاقة: 18]. والكل مكشوف من الخلق: فكل إنسان مكشوف الجسد .. مكشوف النفس .. مكشوف القلب .. مكشوف العمل .. مكشوف المصير .. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار. وتتعرَّى النفوس تعرِّي الأجساد .. وتبرز الغيوب بروز الشهود .. ويتجرد الإنسان من حيطته، ومن مكره، ومن تدبيره، ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه.

وما أقسى الفضيحة على الملأ .. وما أخزاها على عيون الجموع. أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن، ويوم القيامة كل شيء بارز في الكون كله، والأرض مدكوكة مسوَّاة لا تَحجب شيئاً، والسماء منشقة واهية لا تحجب شيئاً، والأجساد معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك ليس من دونها ستر، وليس فيها سر. ألا إنه لأمر عصيب .. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان الحياة، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر. إنه يقف أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 13 - 18]. ألا ما أشد هذه الحال التي سيقف فيها كل إنسان وهو عريان الجسد والقلب، والنية والشعور، عريان من كل ساتر. كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار؟ .. وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟. ألا إنه لأمر أَمَرّ من كل أَمْر ومن كل مر .. وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين كأنه حاضر تراه العيون: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 19 - 24]. فهذا مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه فيهتف: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} [الحاقة: 19].

أما مشهد المعذبين الهالكين فقد ذكره الله بقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 25 - 37]. فهذا مشهد الخاسر الذي عرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن العذاب مصيره، فيقف في هذا المعرض الحاشد الحافل وقفة المتحسر الكسير الكئيب. ثم يصدر الأمر من العلي الأعلى، فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل، ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب، كلهم يبتدر هذه النطفة الصغيرة المكروبة المذهولة. إنه قد خلا قلب هذا الإنسان من الإيمان بالله، والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار، وذلك العذاب، فهو مَسْخٌ من الكائنات لا يساوي الحيوان، بل لا يساوي الجماد. فكل شيء مؤمن يسبح بحمد ربه موصول بمصدر وجوده، أما هو فمقطوع من الله، مقطوع من الوجود المؤمن بالله. ثم يعلن الله عن تكملة جزاء ذلك الشقي عن جرمه: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 35 - 37]. وكل نفس عليها من أمر الله رقيب كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]. وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها، ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله، فالنفس مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء. إن الناس ليسوا متروكين يفعلون كيف شاؤوا بلا رقيب، إنما هو الإحصاء

الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]. فالنفس ليست في خلوة أبداً وإن خلت، فهناك الحافظ الرقيب عليها، حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفى عن كل عين، وتأمن من كل طارق. هناك الحافظ الذي يكشف كل غطاء، وينظر إلى كل مستور. والحساب يكون على ما يرتكبه الإنسان من المعاصي، سواء كانت بأمر النفس، أو بإغواء الشيطان، ولا يكون الحساب على أمور جبرية لا يملك الإنسان فيها حق الاختيار، فالقهر يُسقط الحساب عن البشر، وإبليس لا يستطيع أن يقهر أحداً على المعصية، ولكنه يغريه ويزين له، فإذا استجاب سقط، وإذا استعان بالله نجا وسلم. والشيطان لا يستطيع أن يقودك إلى الشر رغماً عنك، ولكن باختيارك يوقعك في إغرائه، واستجابتك له. فالحساب يتم على أمر اختياري تستطيع أن تفعله أو لا تفعله بإرادة منك، وهنا يكون الحساب عدلاً؛ لأنك أنت الذي اخترت. وكيد الشيطان ضعيف، لماذا؟. لأن الله معك يمنعك منه إن استعنت به، ولأن أمر الشيطان عَرْض وإغراء، لا قهر ولا إجبار، ولو كانت نفسك قوية لاستطعت أن تتغلب عليه. وإبليس لا يستطيع أن يرغم أحداً على عمل، ولا يملك الحجة الصحيحة للإقناع بالإثم. ولكن المسألة أنه يملك النفس الضعيفة، ويستطيع أن يغريك أو يوهمك بشيء كاذب، حتى إذا ارتكبته وجدت النتيجة غير ما قال. والتهافت على الدنيا يدفعنا إلى أن لا نتنبه لكيد الشيطان، فيغفل الإنسان، فيدخل الشيطان ويغري الإنسان بالمعصية كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} ... [فاطر: 6].

وجميع ما في السموات والأرض ملك لله عزَّ وجلَّ، وعبيد له، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. هو الذي خلقهم ورزقهم ودبر أمورهم، ووفقهم لمصالحهم الدينية والدنيوية. وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، وسيحاسبهم على ما أسروه وما أعلنوه. فيغفر لمن يشاء ممن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]. والله تبارك وتعالى حُكْمه العدل، وقضاؤه القسط، يضع لعباده يوم القيامة الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تُظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً، فلا يزاد في سيئاتها، ولا يُنقص من حسناتها كما قال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]. والله عزَّ وجلَّ سريع الحساب يعلم جميع أعمال العباد، حافظ لها، مثبت لها في الكتاب، عالم بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها، عالم بمستحقها، موصل للعمال جزاءها مهما كانت: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]. فلا يخشى المجرمون أن الله يعذبهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبون أنه يُضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، بل كل ذرة من خير أو شر معدودة مكتوبة معروضة على من عملها كما قال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} ... [الزلزلة: 7 - 8]. ويجمع الله عزَّ وجلَّ جميع الخلائق للحساب في ساحة واحدة في عرصات

القيامة حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس منهم في ذلك اليوم كمقدار ميل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (¬1). ويجيء الله عزَّ وجلّ َيوم القيامة لفصل القضاء، فتشرق الأرض بنور ربها، وتخشع الخلائق لهيبة الله وعظمته وجلاله كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} ... [الفجر: 22]. وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 108]. وإذا حشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، واشتد كربهم لطول العناء والانتظار، وشدة الأهوال، رغبوا إلى ربهم أن يحكم فيهم، فإذا طال موقفهم وعظم كربهم ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله ليفصل بينهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» متفق عليه (¬2). ثم يفصل الله بين الناس، ويحاسبون على أعمالهم، فتعطى الكتب، وتوضع الموازين، ويحاسب كل فرد، فآخذ كتابه بيمينه إلى الجنة، وآخذ كتابه بشماله إلى النار: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2864). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟. قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً». قُلْنَا: لا. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا». ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِهِمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ. ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ. حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا. قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً. ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجَسْرُ؟. قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ

فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُمْ بِأشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ. وَإِذَا رَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُّحَرِّمُ الله صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ. فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا». قَالَ أبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. «فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أبْيَضَ. فَيَخْرُجُونَ كَأنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» متفق عليه (¬1). فما أشد تلك الأهوال، وما أعظم ذلك الموقف بين يدي الله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439) واللفظ له، ومسلم برقم (183).

إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 6 - 12]. والحساب يوم القيامة عام لجميع الخلق إلا من استثناهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب كما قال النبي (: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ». قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أخرجه مسلم (¬1). والمحاسبون يوم القيامة صنفان: أحدهما: من يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا هَلَكَ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [ٍٍالانشقاق: 7 - 8]. فَقَالَ رَسُولُ الله (: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عُذِّبَ» متفق عليه (¬2). الثاني: من يحاسب حساباً عسيراً، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فإن صدق فبها ونعمت، وإن حاول الكذب أو الكتمان فإنه يختم على فمه، وتستنطق جوارحه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65]. والكفار يحاسبون وتعرض عليهم أعمالهم يوم القيامة توبيخاً لهم، وهم متفاوتون في العذاب، فعقاب من كثرت سيئاته، أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن له حسنات منهم يخفف عنه العذاب لكنه لا يدخل الجنة. وأول من يحاسب من الأمم يوم القيامة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأول ما يحاسب عليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (218). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6537) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).

المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. وجميع الكفار والمنافقين لا تقبل قُرَبُهم وطاعاتهم، لفقدها شرطها وهو الإيمان كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} ... [إبراهيم: 18]. وكل إنسان سوف يسأل ويحاسب على الأمانة التي تحملها، وقد حذرنا الله عزَّ وجلَّ من خيانة الأمانة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته. والأمانة هي الشيء الذي يجب أن يُّحفظ، ثم يؤدى إلى صاحبه. والأمانة ثلاثة أقسام: الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عُهِد إليه حفظه، والقيام به من الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وتعليم دينه، والدعوة إليه، وامتثال جميع أوامره، واستعمال قلبه وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وهذه أعظم الأمانات التي يجب أداؤها. والطاعات كلها من الأمانة، فمن أداها فقد أدى الأمانة، والمعاصي كلها من الخيانة، فمن فعلها فقد خان الأمانة، وخان الله عزَّ وجلَّ. الثاني: أمانة العبد مع الناس، كرد الودائع إلى أهلها، وإيفاء المكيال والميزان، ونصح الخلق، وعدم غشهم، وحفظ السر، ونحو ذلك مما يجب أداؤه للناس والحكام. ومنه عدل الأمراء مع الرعية .. وعدل العلماء مع العوام بتعليمهم الأحكام التي تُقوِّي إيمانهم، وتصلح بها عباداتهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم

وأخراهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر. الثالث: أمانة الإنسان مع نفسه، بأن لا يختار إلا ما هو الأصلح له والأنفع له في الدين والدنيا. فلا يُقْدِم على عمل يضره في دنياه وآخرته، كأن يتوقى أسباب الأمراض والأوبئة، ويغتنم عمره في اكتساب مرضاة الله بالقيام بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى ربه. فيغتنم شبابه قبل هرمه .. وصحته قبل سقمه .. وغناه قبل فقره .. وفراغه قبل شغله .. وحياته قبل موته.

10 - فقه درجات الآخرة

10 - فقه درجات الآخرة قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132]. وقال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 21]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه (¬1). وتوزع الدرجات في الآخرة على حسب الحسنات، والسيئات التي يعملها الإنسان في الدنيا. وتتفاوت درجات الناس في الآخرة كما يتفاوتون في الدنيا. والناس في الآخرة على أربع درجات: الفائزون .. والناجون .. والمعذبون .. والهالكون. ومثال ذلك كأن يستولي ملك من الملوك على إقليم من الأقاليم ليقيم فيه العدل بين أهله. فهذا الملك العادل له مع أهل هذا الإقليم أربعة أحوال: فهو لا يقتل منهم إلا الجاحد المعاند في أصل الولاية. ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف له بالملك. ولا يخلِّي إلا معترفاً له بالملك ولم يقصر. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816).

ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة. وكل واحد من هؤلاء الأقسام متفاوت في النعيم والعذاب، وعبور الصراط حسب أعمالهم وأحوالهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ، سَلِّمْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه (¬1). وأما اختلاف العذاب بالشدة فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب. وأهل السعادة متفاوتون في النعيم كذلك على حسب أعمالهم في الدنيا. فالمؤمن إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها فيشبه أن يعفى عنه كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]. وهذا إما أن يُلحق بالمقربين، أو بأصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه ويقينه، فإن قل أو ضعف دنت منزلته، وإن زاد أو قوي علت منزلته. والمقربون يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى. ودرجات العارفين في معرفة الله، ومعرفة عظمته، ومعرفة آلائه، ومعرفة دينه لا تنحصر، بل هي متفاوتة؛ لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم: فأعلى درجات أصحاب اليمين أدنى درجات المقربين. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183) واللفظ له.

فهذا حال من أدى الفرائض واجتنب الكبائر. أما من ارتكب كبيرة أو كبائر: فإن تاب توبة نصوحاً قبل موته التحق بمن لم يرتكب تلك الكبيرة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وإن مات قبل التوبة فأمره خطير، فربما يكون إصراره على الذنب سبباً لسوء خاتمته، وعذاب الميت من غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر، ومدة الإصرار، وتنوع الكبائر. ثم ينزل البُلْهُ المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين. والله قد يعفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة، وقد يغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه فكيف على غيره. وفي الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». فَقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أَرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). والله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه يرفع المؤمنين من ذرية العبد إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790).

وأما الناجون: ونعني بالنجاة السلامة، وهم قوم لم يَخْدِموا فَيُخلع عليهم، ولم يُقصروا فيعذبوا. ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم. فلم يكن لهم معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا أهل الأعراف. وأما الفائزون فهم العارفون، وهم المقربون السابقون، وهؤلاء الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12]. فسبحان الله ماذا ينتظر هؤلاء من المساكن الواسعة، والقصور الفاخرة، وألوان الطعام والشراب، والنعيم المقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. وهم متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم حسب معرفتهم بالله، وحسب أعمالهم الصالحة. ويتفاوت الناس يوم القيامة في الدرجات والأحوال، والثواب والعقاب، بحسب الأعمال، وبحسب الإيمان والكفر، وبحسب الطاعات والمعاصي، ومن ذلك أن خِفَّة حِمْل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل. واستظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، وبروزه للحر والشمس بحسب أعماله: فمن استظل في هذه الدار بالإيمان والأعمال الصالحة، استظل يوم القيامة في ظل الرحمن. ومن كان ضاحياً هنا للشرك والمعاصي ضَحَى هناك وبرز للحر الشديد. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ،

وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (¬1). ومن طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً، وقام للدين، وتحمل لأجله المشاق، خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه. ومن آثر الراحة والدعة والبطالة طال عليه الوقوف هناك، واشتد عليه. وثِقَلُ ميزان العبد يوم القيامة بحسب إيمانه وأعماله الصالحة، واتباعه للحق، والصبر عليه، ومجاهدته من أجله. والمشي على الصراط يوم القيامة يكون في السرعة والبطء حسب سرعة السير على الصراط المستقيم في الدنيا. فأسرع الناس سيراً هنا أسرعهم سيراً هناك، وأثبتهم هنا أثبتهم هناك كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27]. والخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم .. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم. وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس. فالله يجازي كلاً بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132]. والناس في الآخرة متفاوتون في النعيم والعذاب كما تفاوتوا في الدنيا بالعمل. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423) واللفظ له، ومسلم برقم (1031).

فالأرواح الطيبة السفلية في الأرض تكون في الجنة مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، وفوق ذلك مجاورة ملك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم. أما الأرواح الخبيثة السفلية فلا يمكن أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى. فلا يليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسمى، والدرجات العلى، روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه الحيوان البهيم. بل قد تزيد على الحيوان البهيم، فلا فرق بينهما وبين البهائم والحمير والكلاب والبقر إلا بانتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها. بل طباع هذه الحيوانات خير من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير. ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]. فلا يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} ... [القلم: 35]. وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} ... [السجدة: 18 - 20]. فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء والأعمال إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة.

والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار. فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ. والنفس الخبيثة بضد ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها من الأرواح والأعمال. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه (¬1). والناس يوم القيامة صنفان: سعداء .. وأشقياء. والسعداء قسمان: السابقون المقربون .. وأصحاب اليمين. فهذه درجاتهم في الآخرة كما قال سبحانه: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 7 - 12]. فالسابقون في الدنيا إلى الإيمان، هم السابقون إلى الجنان، والسابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات فالناس في الآخرة ثلاثة أقسام كما هم عند الموت كذلك ثلاثة أقسام كما قال سبحانه عن الإنسان بعد خروج روحه: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 88 - 96]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3336)، ومسلم برقم (2638).

فهذه مراتب الناس عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله: مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم. ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فهو سالم غانم. وظالم بتكذيبه وضلاله فله نزل من حميم، وتصلية جحيم. ودرجة النبوة .. والصديقية .. والربانية .. ووراثة النبوة .. وخلافة الرسالة .. تلك هي أفضل درجات الأمة في الدنيا والآخرة. ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من عَلِمَ بتعليمهم وإرشادهم أو عَلَّم غيره شيئاً من ذلك كان لهم مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على آباد الدهور والأزمان. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} ... [النساء: 69 - 70]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم (¬1). فكم ينزل بعمل هؤلاء من البركات والهدايات؟. وكم يُكتب لهم من الأجور والحسنات؟. تلك والله المكارم والمغانم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. ودخول كفار الإنس والجن النار بعدل الله، ودخول مؤمني الإنس والجن بفضل الله ورحمته، فرحمته سبحانه سبقت غضبه. والفضل أغلب من العدل، ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل أعمال أهل النار، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2674).

وأما الجنة فيدخلها من آمن وعمل صالحاً، ويدخلها من لم يعمل خيراً قط، بل ينشئ الله لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه، ويرفع بها درجات العبد من غير سعي منه، بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وصدقتهم، وأعمال البر التي يهدونها إليه، بخلاف أهل النار، فإن الله لا يعذب فيها أحداً بغير عمل أصلاً. فمسيء الجن والإنس في النار بعدل الله، وبما كانوا يكسبون. ومحسنهم في الجنة بفضل الله، وبما كانوا يعملون. والجميع متفاوتون في الدرجات والكرامات والعقوبات بحسب أعمالهم: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].

11 - طبقات الخلق في الآخرة

11 - طبقات الخلق في الآخرة قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107]. الدنيا دار الإيمان والعمل والآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا داء الفناء .. والآخرة دار البقاء. والإنس والجن يوم القيامة طبقات .. ومنازلهم في الجنة درجات .. وفي النار دركات. وطبقات المكلفين يوم القيامة ثمان عشرة طبقة: الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل. وهذه الطبقة هي العليا على الإطلاق، فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سَلَّم عليهم في العالمين كما قال سبحانه: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} ... [الصافات: 181]. فالله عزَّ وجلَّ اختص رسله بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته: فمنهم من اتخذه خليلاً كما قال سبحانه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125]. ومنهم من كلمه تكليماً كما قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]. ومنهم من رفعه مكاناً علياً كما قال سبحانه عن: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57].

الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. فهؤلاء الرسل أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، وخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد بفضل الله على أيديهم. ولم يجعل الله لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً من خلقه بكرامة إلا على أيديهم. وبالرسل عُرف الله، وبهم عُبد وأُطيع، وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض من الإيمان والتقوى، والعبادات والطاعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله. والأنبياء والرسل درجات، وأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وهم المذكورون في قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} ... [الشورى: 13]. وأفضل أولي العزم سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم -. فهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة، حتى يردوها إلى أفضلهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم، وقد ذكر الله منهم في القرآن من الأنبياء والرسل خمسةً وعشرين، ومنهم من لم يقص الله علينا أخبارهم، ولا نعلم أسماءهم فنؤمن بهم إجمالاً كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} [غافر: 78]. الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

والنبي: هو من أوحى الله إليه بشرع سابق ليُعْلِم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده، وهم درجات كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} ... [الإسراء: 55]. والرسول: من أوحى الله إليه بشرع وأمره بإبلاغه إلى من لا يعمله، أو يعلمه ولكنه خالفه. فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول. ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه، أو نبي يوحي إليه بشريعة مَنْ قبله ليجددها، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل. وهؤلاء هم خلفاء الرسل في أممهم، وهم القائمون بما بُعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل والأنبياء، وهي مرتبة الصديقية، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70]. وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه، وهم حملة دينه إلى الناس، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وهؤلاء أفضل درجات الأمة بعد الأنبياء والمرسلين. ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أن كل من علم وعمل بتعليمهم وإرشادهم، أو علَّم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره على آباد الدهور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مبيناً فضل الدعوة إلى الله: «انْفُذْ عَلَى

رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أجْرُهَا، وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» أخرجه مسلم (¬3). فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها، وحلة ما أجملها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره صار أشلاء ممزقة، وأوصالاً متفرقة، وصحف حسناته متزايدة، تملى بالحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. فكم اهتدى بسبب هؤلاء؟ .. وكم زال من البدع بسبب تعليمهم السنن؟ .. وكم تعلّم من الناس بسبب تعليمهم؟ .. وكم زال من ظلمات الجهل بسبب توجيههم وإرشادهم؟ .. وكم حصل من الخير على أيديهم؟ .. وكم رفع عن الأمة من البلاء والعقوبات بسبب نصحهم؟ ولهذا رفع الله مقامهم بين العالمين فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3701) واللفظ له، ومسلم برقم (2406). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1631). (¬3) أخرجه مسلم برقم (1017).

الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته. وهؤلاء هم الذين تُؤْمَن بهم السبل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذل بهم الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويقام بهم حكم الكتاب والسنة، ويُدفع بهم شر الأعداء. الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، وتطفأ بهم نيران البدع والضلالة. وهؤلاء الذين تُنصب لهم منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ، عِنْدَ اللهِ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم (¬1). وهم أحد الأصناف السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: الإمَامُ، الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال إنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (¬2). فلما كان الناس في ظل عدلهم في الدنيا كانوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ظلاً بظل جزاءً وفاقاً. فيا لها من مرتبة ما أشرفها، ومنزلة ما أعلاها، أن يكون الوالي أو الإمام على فراشه، والناس يعملون بالخير، ويتلون القرآن، وتقوم سوق البر والأعمال الصالحة في كل مكان، وكل زمان، في كل مدينة، وكل قرية، وكل بيت، وكل مسجد، وكل سوق، وكل ذلك يكتب في صحائف حسناته، وتزداد كل وقت، ما دام يعمل بعدله، وما دام ناصحاً لرعيته. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1827). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (660) واللفظ له، ومسلم برقم (1031).

الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

وأين هذا من الإمام الغاش لرعيته الظالم لهم، الذي قد حرّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله. وهؤلاء هم جند الله الذين يقيم بهم دينه، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم دينه، وهم الغزاة الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا. قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه، وهم شركاء لكل من يحمونه في أعمالهم التي يعملونها، وإن باتوا في ديارهم. ولهم مثل أجور من عَبَدَ الله بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنهم كانوا هم السبب فيه. وقد حث الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، ورغبهم فيه، وأجزل لهم الأجر عليه فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 10 - 11]. وقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على عمار المساجد بالصلاة والطاعات بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]. وأخبر سبحانه أنه لا يستوي عنده عمَّار المسجد الحرام بالطواف والاعتكاف والصلاة وسقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله بقوله سبحانه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 19 - 22].

الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

فهذه الدرجات الثلاث هي درجات السبق: درجة العلم والدعوة .. ودرجة العدل .. ودرجة الجهاد. وبها سبق الصحابة رضي الله عنهم، وأدركوا مَنْ قبلهم، وسبقوا مَنْ بعدهم فهم السبب في وصول الإسلام إلينا .. وهم السبب في تعليم كل خير وهدى تُنال به السعادة والنجاة .. وهم أعدل الأمة فيما ولوه .. وهم أعظمهم جهاداً في سبيل الله. والأمة تنعم في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألةَ علمٍ نافع إلا على أيديهم، ولا يسكن بقعة من الأرض آمناً إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام بعدل وهدى إلا كانوا هم السبب في وصوله إليهم. فلهم من الأجور بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة، مضافاً إلى أجر أعمالهم. فسبحان من يختص برحمته وفضله من يشاء: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان. وهم أهل الإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم في مهماتهم، فهم أحد الصنفين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (¬1). ومعناه: لا ينبغي لأحد أن يغبط أحداً على نعمة، ويتمنى مثلها إلا أحد هذين، وذلك لما فيهما من منافع، النفع العام، والإحسان المتعدي إلى الخلق، فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عباد الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعباده. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (73) واللفظ له، ومسلم برقم (816).

الطبقة الثامنة: من فتح الله له بابا من أبواب الخير القاصر على نفسه

وهذان الصنفان أنفع الناس لعباد الله، ولا يقوم أمر الناس ولا يعمر العالم إلا بهما. وقد مدح الله أهل الإنفاق في سبيل الله، وأثنى عليهم، وبين عظمة أجورهم فقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274]. وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]. فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة، هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم: العلماء والدعاة .. وأئمة العدل .. وأهل الجهاد .. وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله. فهؤلاء ملوك الآخرة .. وصحائف حسناتهم متزايدة .. تملى بها الحسنات وهم في بطون الأرض .. ما دامت آثارهم في الدنيا. فيا لها من نعمة ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، والله يختص برحمته من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، والله عليم حكيم. الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحج والعمرة، وقراءة القرآن، والصيام، والاعتكاف، والذكر وغير ذلك، مع القيام بأداء فرائض الله عليه. فهذا قد جاهد في تكثير حسناته .. وملء صحيفته .. وإذا عمل خطيئة تاب منها إلى الله. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة، ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته. فهذه طبقات أهل الربح والحظوة عند الله تبارك وتعالى. الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة. وهي طبقة من يؤدي فرائض الله، ويجتنب محارم الله، مقتصراً على ذلك لا يزيد

الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

عليه ولا ينقص منه، فلا يتعدى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض الله عليه. فهذا من المفلحين إن صدَّق بضمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ضمن الله لهؤلاء تكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه، واجتنبوا الكبائر، فإن فعلوها وتابوا منها لم يخرجوا عن طبقتهم. قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلوات الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم (¬1). الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب، وهؤلاء قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشَوْا كبائر ما نهى الله عنه، ولكن الله رزقهم التوبة النصوح قبل الموت. فهؤلاء ناجون من عذاب الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} ... [النساء: 17]. الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فعملوا حسنات وسيئات، ولَقُوا الله مصرين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم. فهؤلاء أيضاً ناجون فائزون كما قال سبحانه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف: 8 - 9]. الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (233).

الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

فهؤلاء منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، وهم أهل الأعراف كما قال سبحانه: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} [الأعراف: 46]. فهؤلاء قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيوقفهم الله على سور عال بين الجنة والنار، فيقفون هناك حتى يقضي الله فيهم بما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضله ورحمته. وما تقدم من الطبقات هم أهل الجنة الذين لم تمسهم النار. الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية. وهؤلاء قوم مسلمون خفت موازينهم، ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات. فهؤلاء يدخلون النار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم السيئة، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه .. ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه .. ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه .. وهكذا. فيبقى هؤلاء في النار على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنة، فيفيض عليهم أهل الجنة من الماء حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة إذا هُذِّبوا ونُقُّوا وطُهِّروا من الذنوب. وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر الله سيد الأنبياء مراراً أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان. الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان. وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع بها بخبر. ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئاً ولا يميز. ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئاً أبداً. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا، وأما أطفال المسلمين فهم

الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

في الجنة. وأهل هذه الطبقة يمتحنون في عرصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وبناء على هذا يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَربعةٌ يَومَ القِيامةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئاً، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الأَْصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً، وَأَمَّا الأَْحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإْسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قال: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلَاماً وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» أخرجه أحمد (¬1). الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق. وهؤلاء قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله. وهؤلاء المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم، وعظيم خطرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وإنما كان أهل هذه الطبقة وهم المنافقون في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الدين وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ورسوله من غيرهم، ولهذا قال الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16302) انظر السلسلة الصحيحة رقم (1434).

الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته. وهؤلاء هم أئمة الكفر الذي كفروا وصدوا عن سبيل الله، يصدون عباد الله عن الدخول في دين الله بالترغيب والترهيب. فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر .. وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. فكما أن للداعي إلى الهدى مثل أجور من اتبعه فكذلك للداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه، واستجاب له. ولا ريب أن هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه، وضل به، ولهذا كان فرعون وقومه في أشدالعذاب؛ لعظيم جرمهم وفسادهم كما قال سبحانه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]. فهؤلاء رؤساء الكفار استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم .. وصدهم عن سبيل الله .. وعقوبتهم من آمن بالله .. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم. ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عصي الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأخبث فالأخبث من نُوَّابه في الأرض ودعاته. والكفر يتفاوت .. فكفر أغلظ من كفر .. وظلم أعظم من ظلم .. ومعصية أغلظ من معصية. وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، ولكل عامل جزاؤه، ولا ظلم لأحد حين يحكم الله يوم القيامة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]. ويغلظ الكفر من حيث العقيدة كمن جحد رب العالمين وكفر به، ولم يؤمن

الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويغلظ من حيث عناد الإنسان وضلاله وكفره على بصيرة بعد معرفة الحق كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل، وكفر اليهود بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ويغلظ كذلك من جهة السعي في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرته. فهؤلاء أشد الكفار جرماً، وأشدهم عذاباً، وليس عذاب مَنْ دونهم ممن جهل الحق، ولم يؤذ المؤمنين، ولم يصد عن سبيل الله كهؤلاء، فمن الكفار من تجتمع في حقه الجهات الثلاث ومنهم اثنتان، ومنهم واحدة، وعلى حسب غلظ الكفر يكون العذاب. الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة. فهؤلاء بمنزلة الدواب، يعبدون ما يعبد آباؤهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. فهم لا يحاربون المسلمين ولا يؤذونهم، لكنهم لا يتبعونهم، فهؤلاء كفار جاهلون، ومن قبلهم كفار معاندون. والمقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه يختلف عن المقلد الذي لم يتمكن من ذلك بوجه. والقسمان واقعان في الوجود: فالمتمكن المعرض مفرط، تارك للواجب عليه، ولا عذر له عند الله. أما العاجز عن السؤال والعلم، الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. ففرق بين عجز الطالب، وعجز المعرض.

الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فهم في النار جميعاً، الذين اتَّبعوا، والذين اتُّبِعوا، كما قال سبحانه عن الأتباع أنهم قالوا: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف: 38]. الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن. والجن منهم المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر كما قال سبحانه إخباراً عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} ... [الجن: 14، 15]. وكفار الجن في النار كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} ... [السجدة: 13]. فالجن مكلفون بشرائع الأنبياء، يجب عليهم طاعتهم كما يجب على الإنس، ومؤمنهم في الجنة، وكافرهم في النار، وهم مكلفون بالشريعة الإسلامية، مأمورون منهيون، مثابون ومعاقبون. فالمحسن منهم في الجنة كالإنس، والمسيء في النار كالإنس كما حكى الله عن مؤمنيهم أنهم قالوا: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن: 13]. فهذه طبقات المكلفين من الثقلين: الجن والإنس في الدار الآخرة، وكل طبقة منها لها أعلى، وأدنى، ووسط، وهم درجات عند الله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)} ... [الأحقاف: 19]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء: «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (349) واللفظ له، ومسلم برقم (163).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أحَدَكُمْ إذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (¬1). {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]. اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك .. وبعفوك من عقوبتك .. وبك منك لا نحصي ثناءً عليك .. أنت كما أثنيت على نفسك. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1379)، واللفظ له، ومسلم برقم (2866).

12 - دار القرار

12 - دار القرار قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. الله تبارك وتعالى خالق كل شيء .. خلق الدنيا والآخرة .. وخلق الجنة والنار .. وجعل الجنة دار أوليائه .. وجعل النار دار أعدائه. وجعل الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال .. وجعل الجنة دار تكميل الشهوات واللذات .. وجعل النار دار العذاب والعقوبات. خلق سبحانه الجنة وجعلها داراً للثواب لمن آمن به وأطاعه. وخلق النار وجعلها داراً للعقاب لمن كفر به وعصاه. وجعل الخير كله بحذافيره في الجنة، ففيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. نعيم برؤية الرب الرحيم، وسماع كلامه، ورضوانه، ونعيم بما أعده الله لعباده المتقين من المساكن والقصور، وألوان الطعام والشراب، والحور العين، والجنات والبساتين. وجعل سبحانه العذاب كله بحذافيره في النار، فكل شر وبلاء وعذاب وعقاب جمعها الله للكفار والعصاة في النار. وقَسَّم سبحانه العذاب والنعيم في الآخرة على الأبدان والأرواح. فللأبدان نعيم .. وللأرواح نعيم .. وكذلك للجسد عذاب وللروح عذاب. فمن نعيم الجسد كل ما تشتهيه الأنفس، وتلتذ به من الطعام والشراب، وثمرات النخيل والأعناب، ومن الشراب أنهار الخمر والعسل واللبن والماء.

ومن نعيم الروح رؤية الرب جل جلاله ورضاه والقرب منه. ومن عذاب الجسد ما يعذَّب به أهل النار من النار التي تحرق أجسامهم، والحميم الذي يقطِّع أمعاءهم، والطعام الكريه المر الذي تعافه النفوس من الزقوم والغسلين والضريع. ومن الشراب الماء الحميم، والصديد الكريه كما قال سبحانه: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 16، 17]. وتعذب أرواحهم بالصَّغار والإهانة، وتحجب أبصارهم عن رؤية الله، وعذاب الاحتجاب عن الله، وإهانته لهم، وغضبه عليهم وسخطه، والبعد عنه، أعظم عليهم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15، 16]. والدنيا دار العمل، والآخرة دار الجزاء، لكن لا ينقطع العمل والسؤال إلا بعد دخول دار القرار: في الجنة أو النار. أما في البرزخ، وعرصات القيامة فلا ينقطع ذلك كسؤال الملكين الميت في قبره، ودعوة الخلائق إلى السجود لله يوم القيامة، وامتحان المجانين، ومن مات في الفترة. ثم يحكم الله بين العباد حسب إيمانهم وكفرهم وأعمالهم، فريق في الجنة .. وفريق في السعير. قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} ... [الحج: 56، 57]. وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى: 7]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. وسيكون الحديث عن الجنة وعن النار من كتاب مَنْ خلقها وخلق ما فيها، وخلق أهلها، وهو الله سبحانه. ومن سنة مَنْ دخلها، ووطئت أقدامه أرضها، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الجنة دار النعيم، والنجاة من النار دار الجحيم، إنه سميع مجيب.

1 - صفة الجنة

1 - صفة الجنة قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} ... [البقرة: 25]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء: 122]. الله تبارك وتعالى جعل الدنيا دار الإيمان والعمل والابتلاء، وجعل الآخرة دار الثواب لمن أطاعه، ودار العقاب لمن عصاه. وجعل الجنة دار أوليائه، وجعل النار دار أعدائه. فالجنة طيبة طاب نعيمها، فهو باق لا يبيد، وهو صاف عن كل شوب، لا يمازجه كدر، ولا يعرض له عطب ولا عفن. ومن أجل أن الجنة طيبة، كانت دار الطيبين، فلا يدخلها إلا من صلح وطاب من الخَلْق كما قال سبحانه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} [النحل: 32]. وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} ... [الزمر: 73]. * أسماء الجنة: الجنة واحدة في الذات، متعددة الصفات، وهي اسم لدار النعيم المطلق الكامل، وهذه أشهر أسمائها: 1 - دار السلام: لأن أهلها سالمون من كل مكروه، لا يمسهم فيها نَصَب ولا وَصَب، ولا هم ولا حزن، فهي دار السلام من كل بلية وآفة ومكروه كما قال

سبحانه: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)} [الأنعام: 127]. وهو سبحانه السلام الذي سلَّمها من الآفات والنقص، وسلَّم أهلها من كل آفة ونقص، السلام الذي يسلِّم على أهلها كما قال سبحانه: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58]. وتسلم عليهم الملائكة كما قال سبحانه: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24]. وتحية أهلها السلام كما قال سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} [إبراهيم: 23]. وكلام أهلها كله سلام، لا لغو فيها، ولا فحش، ولا باطل: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25، 26]. 2 - جنة المأوى: التي يأوي إليها الأبرار من عباد الله كما قال سبحانه: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)} [السجدة: 19]. 3 - دار الخلد: لأن أهلها خالدون فيها أبداً، لا يظعنون عنها أبداً كما قال سبحانه: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)} [الفرقان: 15]. 4 - دار المقامة: التي يقيم فيها أهلها أبداً، لا يموتون ولا يتحولون منها أبداً كما قال سبحانه حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 34، 35]. فأهلها يرغبون في الإقامة فيها لكثرة خيراتها، ودوام مسراتها، وكمال نعيمها: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} ... [الكهف: 108]. 5 - جنة عدن: فأهلها باقون فيها مقيمون كما قال سبحانه: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ

لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص: 49، 50]. 6 - دار الحيوان: فهي دار الحياة التي لا موت فيها أبداً، وهي دار الحياة الدائمة التي لا تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. ففي الجنة الحياة الكاملة التي من لوازمها أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقُوَاهم في غاية الشدة؛ لأنها أبدان خلقت للحياة الدائمة، وأن يكون فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح، والمراكب والمساكن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. 7 - جنة الفردوس: وهو أعلى الجنة وأفضلها، والفردوس هو البساتين التي تجمع كل ما في البساتين من الأشجار. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} ... [الكهف: 107، 108]. 8 - جنات النعيم: التي فيها كل نعيم ظاهر وباطن كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)} ... [لقمان: 8]. 9 - المقام الأمين: الذي يأمن فيه الإنسان من كل سوء وآفة ومكروه، الذي جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب، وأنواع النقص، وأهله آمنون من الخروج والنغص والنكد. قد جمع الله فيه أمن المكان بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} [الدخان: 51]. وأمن الطعام بقوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان: 55]. فلا يخافون انقطاع الفاكهة، ولا سوء عاقبتها ومضرتها، ولا يخافون الخروج من الجنة، ولا يخافون الموت فهم خالدون في النعيم أبداً. * مكان الجنة: أما مكان الجنة فهو في السماء كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ

سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 13 - 15]. وسدرة المنتهى فوق السماء، ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيُقبض منها، وينتهى إليها ما يُعرج به من الأرض فيُقبض منها. وقال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). * عدد أبواب الجنة: عدد أبواب الجنة ثمانية. قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} ... [الزمر: 73]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم (¬3). * أسماء أبواب الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7423). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257) واللفظ له، ومسلم برقم (1152). (¬3) أخرجه مسلم برقم (234).

الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ». فَقال أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأبِي أنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟. قال: «نَعَمْ، وَأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» متفق عليه (¬1). * سعة أبواب الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» متفق عليه (¬2). وعن عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - قال: ذُكِرَ لَنَا أنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ» أخرجه مسلم (¬3). *الأيام والأوقات التي تفتح فيها أبواب الجنة في الدنيا هي: يوم الإثنين .. ويوم الخميس .. وإذا دخل رمضان .. وعند الوضوء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تُفْتَحُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإثنَيْن، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» أخرجه مسلم (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» متفق عليه (¬5). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1897) واللفظ له، ومسلم برقم (1027). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم برقم (2967). (¬4) أخرجه مسلم برقم (2565). (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري يرقم (3277) واللفظ له، ومسلم برقم (1079).

يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم (¬1). وأهل الجنة إذا دخلوا الجنة، لم تغلق أبوابها عليهم .. بل تبقى مفتحة كما هي كما قال سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} ... [ص: 50، 51]. فتبقى أبواب الجنة مفتحة؛ لأنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب .. ولكي يتبوأ أهل الجنة منها حيث شاؤوا .. ويذهبون ويجيئون متى شاؤوا .. وتدخل عليهم الملائكة منها كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم .. ويدخل عليهم منها ما يسرهم كل وقت. * أول من يدخل الجنة: وأول من يدخل الجنة سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آتِي باب الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أنْتَ؟ فَأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أمِرْتُ لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» أخرجه مسلم (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا أكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأنَا أوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ» أخرجه مسلم (¬3). وأول الأمم تدخل الجنة أمته - صلى الله عليه وسلم -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬4). فهذه الأمة أسبق الأمم خروجاً من الأرض .. وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف .. وأسبقهم إلى ظل العرش .. وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم .. وأسبقهم إلى الجواز على الصراط المستقيم .. وأسبقهم إلى دخول الجنة .. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (234). (¬2) أخرجه مسلم برقم (197). (¬3) أخرجه مسلم برقم (196). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (876)، ومسلم برقم (855) واللفظ له.

وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. وأول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ -الألنْجُوجُ، عُودُ الطِّيبِ -وَأزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، أوْ سَبْعُ مِائَةِ ألْفٍ (لا يَدْرِي أبُو حَازِمٍ أيَّهُمَا قال) مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» متفق عليه (¬2). ويسبق الفقراء الأغنياء في دخول الجنة. وتختلف مدة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم من يسبق بأربعين سنة، ومنهم من يسبق بخمسمائة سنة، كما يتأخر مكث العصاة في النار بحسب جرائمهم، لكن لا يلزم من سبق الفقراء في الدخول ارتفاع منازلهم على الأغنياء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فُقَرَاءَ المهاجرين يَسْبِقُونَ الأغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأرْبَعِينَ خَرِيفًا» أخرجه مسلم (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ». أخرجه أحمد والترمذي (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3327) واللفظ له ومسلم برقم (2834). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6543)، وأخرجه مسلم برقم (219) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم برقم (2979). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8521)، وأخرجه الترمذي برقم (2354).

* صفة وجوه أهل الجنة: أما صفة وجوه أهل الجنة فهي: بيضاء .. ناعمة .. ناضرة .. مسفرة .. ضاحكة .. مستبشرة. قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107]. وقال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} [الغاشية: 8 - 10]. وقال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} ... [المطففين: 22 - 24]. وقال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس: 38، 39]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لا تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلا تَحَاسُدَ» متفق عليه (¬1). * درجات الجنة: وهي من الكثرة والتفاوت بحيث لا يعلم عظمها وتباهيها إلا الله عزَّ وجلَّ، ودرجات الجنة بعضها فوق بعض. قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 21]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه: 75، 76]. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3254) واللفظ له ومسلم برقم (2834).

آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} ... [الأنفال: 2 - 4]. وقال الله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 163]. وأهل الجنة متفاضلون في تلك الدرجات: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قال: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256) واللفظ له ومسلم برقم (2831).

أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬2). * أعلى درجات الجنة: أعلى درجات الجنة هو الفردوس: فهو أوسط الجنة .. وأعلاها .. وسقفه عرش الرحمن. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أُرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬3). وأعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة: وهي التي خص الله بها نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - .. وسميت وسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى العرش .. فهي أقرب الدرجات إلى الله عزَّ وجلَّ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأرْجُو أنْ أكُونَ أنَا هُوَ، فَمَنْ سَألَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة» أخرجه مسلم (¬4). * أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم منزلة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَألَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قال: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأخَذُوا أخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أتَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! قال: رَبِّ! فَأعْلاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قال: أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]» أخرجه مسلم (¬5). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (2790). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1464) واللفظ له، والترمذي برقم (2914). (¬3) أخرجه البخاري برقم (2790). (¬4) أخرجه مسلم برقم (384). (¬5) أخرجه مسلم برقم (189).

مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه (¬1). * عدد صفوف أهل الجنة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُْمَمِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2). * سعة الجنة وعلوها: الجنة واسعة المساحة، عالية المكان. قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)} [الغاشية: 8 - 11]. وقال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. وأهل الجنة متفاضلون في القصور. قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: 20]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)} [العنكبوت: 58]. وقال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} [الزمر: 20]. * أكثر أهل الجنة: أكثر أهل الجنة هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له ومسلم برقم (186). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2546)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2065). وأخرجه ابن ماجه برقم (4289)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3462).

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الْجَنَّةِ؟». قال قُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الْجَنَّةِ». فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الْجَنَّةِ وَذَاكَ أنَّ الْجَنَّةَ، لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أنْتُمْ فِي أهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُْمَمِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2). فقد رجا - صلى الله عليه وسلم - أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعطاه الله رجاءه .. ثم زاده إلى الثلثين .. وفضل الله واسع .. والله ذو الفضل العظيم. * عدد الجنات: الجنات كثيرة لا يعلم عددها إلا الله عزَّ وجلَّ. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} [الحج: 14]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم حارثة، وكان قد استشهد ابنها في غزوة بدر: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى» أخرجه البخاري (¬3). والجنات مع كثرتها ترجع إلى أصلين: الأول: جنتان من ذهب، آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وهاتان الجنتان للمقربين. قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} ... [الرحمن: 46]. الثاني: جنتان من فضة، آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وهاتان الجنتان لأصحاب اليمين. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6528)، ومسلم برقم (221) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2546)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2065). وأخرجه ابن ماجه برقم (4289)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3462). (¬3) أخرجه البخاري برقم (2809).

قال الله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} [الرحمن: 62]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» متفق عليه (¬1). * صفة استقبال أهل الجنة: وأما صفة استقبال أهل الجنة: فإن الملائكة وخزنة الجنة تستقبل المؤمنين بالبشر والثناء والسلام. قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} ... [الزمر: 73]. وقال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24]. وقال الله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء: 103]. * من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَأجدُ النَّبِيَّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لا، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قَالَ: هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلاءِ سَبْعُونَ ألْفاً قُدَّامَهُمْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لا يَكْتَوُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» متفق عليه (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَدَنِي رَبِّي سُبْحَانَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4878) واللفظ له، ومسلم برقم (180). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6541) واللفظ له، ومسلم بر قم (220).

عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفاً، أوْ سَبْعُمِائَةِ ألْفٍ -لا يَدْرِي أبُو حَازِمٍ أيُّهُمَا قَالَ -مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَالْبَدْرِ» متفق عليه (¬2). * صفة أرض الجنة وبناء قصورها: قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وقال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} [الزمر: 20]. وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماء قال: «ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أتَى بِي السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ اُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» متفق عليه (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله .. الجنة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ» أخرجه أحمد والترمذي (¬4). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن ابن صياد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تربة الجنة فقال: «دَرْمَكَةٌ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2437)، صحيح سنن الترمذي رقم (1984). وأخرجه ابن ماجه برقم (4286)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3459). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6554) واللفظ له، ومسلم برقم (219). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3342)، واللفظ له، ومسلم برقم (163). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8043)، وأخرجه الترمذي برقم (2526) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2050).

بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا أنَا نَائِمٌ رَأيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقالوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا». فَبَكَى عُمَرُ وَقال: أعَلَيْكَ أغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ. متفق عليه (¬2). * صفة خيام أهل الجنة: وهذه الخيام غير الغرف العالية، والقصور الفخمة، بل هي خيام في البساتين، وعلى شواطئ الأنهار. قال الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن: 72]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» متفق عليه (¬3). * صفة استلام قصور الجنة: وأهل الجنة يوم القيامة يعرفون مساكنهم كما يعرفون بيوتهم في الدنيا. قال الله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 5، 6]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ لأحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا» أخرجه البخاري (¬4). * صفة فرش أهل الجنة: قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)} [الرحمن: 54]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2928). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3242) واللفظ له، ومسلم برقم (2395). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4879)، ومسلم برقم (2838) واللفظ له. (¬4) أخرجه البخاري برقم (2440).

وقال الله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} ... [الواقعة: 34]. صفة البسط والنمارق: قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} ... [الرحمن: 76]. وقال الله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 13 - 16]. * صفة أرائك الجنة: وهي الأسرة عليها الكلل أو الكراسي ذات الوسائد. قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)} [المطففين: 22، 23]. وقال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)} [الإنسان: 13]. وقال الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)} ... [يس: 55، 56]. * صفة سرر أهل الجنة: وسرر أهل الجنة عالية .. مصفوفة .. موضونة. قال الله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} ... [الغاشية: 13]. وقال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} [الطور: 20]. وقال الله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)} [الواقعة: 15، 16]. وقال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} ... [الحجر: 47]. * صفة حلي أهل الجنة ولباسهم: حلي أهل الجنة رجالاً ونساءً الذهب والفضة .. واللؤلؤ .. والزبرجد .. ولباسهم الحرير .. وثياب خضر من سندس وإستبرق. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا

حَرِيرٌ (23)} [الحج: 23]. وقال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 33]. وقال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} [الكهف: 31]. وقال الله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21]. وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم خليل الرحمن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ» أخرجه البخاري (¬1). * صفة أواني أهل الجنة: أواني أهل الجنة من الذهب والفضة في صفاء القوارير. قال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)} [الواقعة: 17، 18]. وقال الله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 71]. وقال الله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} [الإنسان: 15، 16]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6526). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7444)، ومسلم برقم (180).

* صفة إكرام أهل الجنة: قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]. وقال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. وتدخل عليهم الملائكة من كل باب تحييهم بالسلام، وتكرمهم بالتُّحَف والهدايا كما قال سبحانه: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24]. * صفة خدم أهل الجنة: وأهل الجنة رجالاً ونساء يخدمهم ولدان مخلدون .. لا يهرمون ولا يتغيرون .. كأنهم لؤلؤ منثور .. ومن حسنهم وبهائهم كأنهم لؤلؤ مكنون .. يدورون عليهم بالخدمة وقضاء الحاجات في جميع الأوقات. قال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)} [الواقعة: 17، 18]. وقال الله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19]. وقال الله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)} [الطور: 24]. * أول طعام يأكله أهل الجنة: سأل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: «زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ» أخرجه البخاري (¬1). وجاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقال اليهودي: فَمَنْ أوَّلُ النَّاسِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3329).

إِجَازَةً؟ قال: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ». قال الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قال: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ». قال: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قال: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أطْرَافِهَا». قال: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قال: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا». قال: صَدَقْتَ. متفق عليه (¬1). * صفة طعام أهل الجنة: طعام أهل الجنة كل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه .. وأنواع اللحوم النضيجة .. وغيره مما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر .. يطاف به عليهم بصحاف من ذهب وفضة. قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 70، 71]. وقال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} ... [الرعد: 35]. وقال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} [الواقعة: 20، 21]. وقال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} ... [الحاقة: 24]. وقال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)} [يس: 57]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ». قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: «جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم (¬2). وجاء رجل من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَقَالَ لأَِصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لِي بِهَذِهِ خَصَمْتُهُ، قَالَ: ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2835).

فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ» أخرجه أحمد والنسائي (¬1). وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر؟ قال: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ (أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا» أخرجه أحمد والترمذي (¬2). وجاء أعرابي فقال يا رسول الله أسمعك تذكر شجرة في الجنة لا أعلم في الدنيا شجرة أكثر شوكاً منها -يعني الطلح- فقال رسول الله (: «فَإنَّ اللهَ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِثْلَ خِصْيَةِ التَّيْسِِ المَلْبُودِ -يعني المخصي- فيها سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِِ لا يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ الآخَر» أخرجه الطبراني (¬3). * صفة شراب أهل الجنة: يشرب أهل الجنة من أنهار الماء الصافي .. وأنهار اللبن .. وأنهار الخمر .. وأنهار العسل .. والرحيق المختوم .. والشراب الممزوج تارة بالكافور .. وتارة بالزنجبيل .. وتارة صِرْفاً من غير ممزوج. يطوف به عليهم ولدان مخلدون .. بأكواب وأباريق من ذهب وفضة. قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} ... [محمد: 15]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (19269)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (11478). (¬2) حسن صحيح: أخرجه أحمد برقم (13306). وأخرجه الترمذي برقم (2542)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2063). (¬3) صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير (7: 130)، وفي مسند الشاميين (1: 282). انظر السلسلة الصحيحة رقم (2734).

وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان: 5، 6]. وقال الله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} [الإنسان: 17، 18]. وقال الله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 25 - 28]. وقال الله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} ... [الصافات: 45 - 47]. فيمزج الشراب لأصحاب اليمين .. ويشربه المقربون صِرْفاً من غير مزيج. وقال الله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} ... [الواقعة: 17 - 19]. والملائكة والخدم قَدَّروا الكأس على قَدْر رِيِّ الراغبين فيه .. فلا يزيد عليه فَيُثقل الكف .. ولا يَنقص فتطلب النفس الزيادة. قال الله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} [الإنسان: 15، 16]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5426) واللفظ له، ومسلم برقم (2067). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3361) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2677). وأخرجه ابن ماجه برقم (4334)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3498).

* صفة أشجار الجنة وثمارها: أشجار الجنة .. وفواكه الجنة .. كثيرة متنوعة .. مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام. قال الله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)} ... [الإنسان: 14]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)} [المرسلات: 41، 42]. وقال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} [ص: 51]. وقال الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31، 32]. وقال الله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 52، 68]. وقال الله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان: 55]. وقال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 27 - 33]. وقال الله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 20 - 24]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأنَّهُ قِلالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا

كَأنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أصْلِهَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَألْتُ جِبْرِيلَ فَقال: أمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا» متفق عليه (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» أخرجه الترمذي (¬3). * صفة أنهار الجنة: وأنهار الجنة كثيرة منوعة .. أنهار من ماء غير متغير لا بمرارة ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها .. وأطيبها ريحاً .. وألذها شرباً. وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا غيرها .. وأنهار من خمر لذة للشاربين .. وأنهار من عسل مصفى من شمعه. وأنهار الجنة تجري على وجه الأرض في غير أخاديد .. وهي أنهار مطَّردة دائمة الجريان .. تجري بأنواع مختلفة من الأشربة .. بينها من التفاوت في الطعم والشكل ما لا يعلمه إلا الله .. تَفَجَّر من جبال المسك، حصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك الأذفر، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت. قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3207) واللفظ له، ومسلم برقم (162). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6553) واللفظ له، ومسلم برقم (2828). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2525)، صحيح سنن الترمذي رقم (2049). انظر صحيح الجامع رقم (5647).

ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} ... [البروج: 11]. وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} ... [الكوثر: 1، 2]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَمَا أنَا أسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، إِذَا أنَا بِنَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِباب الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ، الَّذِي أعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِيبُهُ، أوْ طِينُهُ، مِسْكٌ أذْفَرُ» أخرجه البخاري (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلا يَظْمَأُ أبداً» متفق عليه (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أنْهَارِ الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬4). * صفة عيون الجنة: وعيون الجنة كثيرة .. مملوءة بما لذ وطاب من أنواع الشراب، ويفجرها عباد الله متى شاءوا. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} [الحجر: 45]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} ... [الإنسان: 5، 6]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6581). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6579) واللفظ له، ومسلم برقم (2292). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2839). (¬4) أخرجه البخاري برقم (7423).

وقال الله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 27، 28]. وقال الله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} ... [الرحمن: 50، 66]. وقال الله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} [الإنسان: 17، 18]. * صفة نساء أهل الجنة: عرائس الجنة .. وخيراتها الحسان .. كأنهم البدر ليلة التمام .. قاصرات الطرف على أزواجهن .. فلا يطمحن إلى غيرهم؛ لحسنهم عندهن .. وقَصَرْنَ طَرْفَ أزواجهن عليهن .. فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن. فهن حور حسان قد بلغن الكمال في الحسن والجمال .. فلا يرى فيهن عيب ولا نقصان وكملت محاسنهن حتى ليحار الطرف فيهن من رقة الجلد .. وصفاء الألوان .. حتى ليرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن .. ويرى الناظر وجهه في خد إحداهن كما ترى الصورة في المرآة: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن: 58]. ولا تسل عن جمال العيون .. ففيها كل السحر والفتون .. قد زانها الحور .. شدة بياض في شدة سواد: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} [الصافات: 48، 49]. وهن حمر الخدود .. فخدودهن أصفى من لون الورد .. وثغورهن كأنها اللؤلؤ المنضود .. وأجسامهن تكاد تتفجر شباباً وصحة وامتلاء .. فهي بيضاء باكرها النعيم .. وجرى ماؤه في غصنها الناعم الرخيم. وقدها كالغصن الرطيب في حسن القوام .. ونساء الجنة كلهن كواعب ونواهد .. ثدياها قد بعدا عن بطنها فليسا بلاصقين فيه. وأما أعناقهن فذات طول وجمال .. في بياض واعتدال .. فهن مثل كؤوس الفضة .. وكفاهما ألين من الزبد مجسّاً .. وأنعم من الحرير ملمساً.

وأما ريحها فنوافح المسك .. يفوح أريجه من فمها وثيابها، حتى يتضوع به المكان من حولها طيباً ومسكاً. وأما جسمها فأشد نعومة من الحرير. وأما اللون ففي صفاء الياقوت في بياض المرجان: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} ... [الرحمن: 58]. وأما كلامها فيسلب اللب بحسن أنغامه .. وجمال تطريبه الذي يفوق كل لحن .. وكل صوت .. قد كمل حسنها وجمالها .. فهي أحسن شيء صورة .. وكملت خلائقها فلا يصدر عنها إلا كل جميل من عفة وشرف .. وطاعة للزوج .. وتحبب إليه .. وقَصْرٍ للطرف عليه .. ومناجاته بأحب الكلام إليه .. الشمس تجري في محاسن وجهها .. والليل تحت ذوائب شعرها الأسود الجميل .. قد جمعت ملاحة الصورة .. وطيب الرائحة .. وحسن المودة .. وحسن التبعل والتغنج. ونساء الجنة أعراب .. أسنانهن متماثلة .. بنات ثلاث وثلاثين سنة .. وهي سن الشباب والنضارة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)} [الواقعة: 35 - 38]. ونساء الجنة كلهن أبكار .. وكل منهن لا يفتض بكارتها إلا محبوبها الذي اختصه الله بها كما قال سبحانه: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: 56]. ويعطى الرجل من أهل الجنة قوة مئة رجل من أقوى أهل الدنيا في الجماع .. وكلما جامعها عادت بكراً ولذة أحسن من ذي قبل. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ في اليَوْمِ إلى مائة عَذْراءَ» أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في صفة الجنة (¬1). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (5263)، وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (373). انظر السلسلة الصحيحة رقم (367).

وأهل الجنة متفاوتون في عدد نسائهم بتفاوت درجاتهم .. ولكل واحد منهم زوجتان من الحور العين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أعْزَبُ» متفق عليه (¬1). ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس .. والبول والغائط .. والقذر والأذى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]. ونساء أهل الجنة في غاية الحسن والجمال، فهن خَيِّرات الصفات، والأخلاق والشيم، حسان الوجوه والعيون كما قال الله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [الواقعة: 22 - 24]. وقال الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن: 56 - 58]. وقال الله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} ... [الرحمن: 70 - 72]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « .. وَلَوْ أنَّ امْرَأةً مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أهْلِ الأرْض لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أخرجه البخاري (¬2). * صفة عطور وروائح الجنة: وذلك يختلف باختلاف الأشخاص وتفاوت درجاتهم ومنازلهم. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لا يَبُولُونَ وَلا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3246)، ومسلم برقم (2834) واللفظ له. (¬2) أخرجه البخاري برقم (2796).

يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، أمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأُلُوَّةُ -الألنْجُوجُ، عُودُ الطِّيبِ- وَأزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» متفق عليه (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَامًا» أخرجه البخاري (¬2). وفي لفظ: «وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬3). * صفة غناء أزواج أهل الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أزواجَ أهلِ الجنَّةِ لَيغنِّين أَزواجَهنَّ بِأَحسنِِِ أَصْواتٍ سَمِعَها أحَدٌ قَطّ، إنّ ممّا يُغنِّينَ بِهِ: نحنُ خيرُ الحِسَانِ .. أَزواجُ قَومٍ كِرامٍ .. يَنظرنَ بقرَّةِ أَعيَان. وإنَّ ممَّا يُغنِّينَ بِهِ: نَحنُ الخَالِداتُ فَلا يمتنَه .. نَحنُ الآمِناتُ فَلا يَخَفنَه .. نحْْنُ المُقيمَاتُ فَلا يَظعنَّه. أخرجه الطبراني في الأوسط (¬4). * صفة جماع أهل الجنة: وجماع النساء في الجنة منزه عن المذي والمني والضعف .. وفيه أكمل لذة .. يعطى الرجل قوة مائة رجل في الجماع .. ويفضي إلى مائة عذراء .. وجماع النساء في الجنة لا يوجب غسلاً .. ولا يعقبه كسلاً. قال الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)} ... [يس: 55، 56]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3327) واللفظ له، ومسلم برقم (2843). (¬2) أخرجه البخاري برقم (3166). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي يرقم (1403)، صحيح سنن الترمذي رقم (1132). وأخرجه ابن ماجه برقم (2687)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (2176). (¬4) صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4917)، انظر صحيح الجامع رقم (1561).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَ الرَّجلَ مِن أَهْلِِ الجَّنةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مائةِ رَجُلٍ في الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهوةِ وَالجِمَاعِ» أخرجه الطبراني والدارمي (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الرَّجلَ ليَصِل في اليومِ إلى مائةِ عَذْراء» أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في صفة الجنة (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» متفق عليه (¬3). صفة الحمل والولادة في الجنة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَشْتَهِي» أخرجه أحمد والترمذي (¬4). طول أهل الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُّحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ» متفق عليه (¬5). * دوام نعيم أهل الجنة: إذا دخل أهل الجنة الجنة تلقتهم الملائكة .. وبشرتهم بما في الجنة من النعيم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير (5: 178)، وهذا لفظه. وأخرجه الدارمي برقم (2721)، وانظر صحيح الجامع رقم (1627). (¬2) صحيح: أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (5263)، وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنة ... برقم (373)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (367). (¬3) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (4879)، ومسلم برقم (2838) واللفظ له. (¬4) صحيح: أخرجه أحمد برقم (11079). وأخرجه الترمذي برقم (2563)، صحيح سنن الترمذي رقم (2077). (¬5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3326) واللفظ له، ومسلم برقم (2841).

المقيم بشرى لم يسمعوا بمثلها قط .. فلهم في الجنة نعيم بلا بؤس .. وصحة بلا سقم .. وأمن بلا خوف .. وحياة بلا موت. قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرعد: 35]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا» وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]» أخرجه مسلم (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله: هَلْ يَنَامُ أهْلُ الجَنَّةِ؟، قَال: «لا، النَّومُ أَخُو المَوْتِ» أخرجه البزار (¬2). * رفع ذرية المؤمن في درجته: يرفع الله ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل .. لتكمل سعادته بهم .. ويزداد سروره بقربهم. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} ... [الطور: 21]. * صفة سوق الجنة: وفي الجنة سوق لا بيع فيه ولا شراء .. يأخذ منه المرء ما شاء بلا عوض ولا ثمن .. نصبته الملائكة لأولياء الله وحزبه .. فيه من التحف والهدايا .. وما تحبه النفوس مما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر. وهو سوق تعارف بين أهل الجنة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أهْلِيهِمْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2837). (¬2) صحيح: أخرجه البزار برقم (3517) -كشف الأستار- انظرالسلسلة الصحيحة رقم (1087).

وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهْلُوهُمْ: وَاللهِ! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُونَ: وَأنْتُمْ، وَاللهِ! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً» أخرجه مسلم (¬1). * صفة ملك وقصور الجنة: الله تبارك وتعالى يكرم أولياءه في الجنة بملك كبير من الجنان والقصور والخدم .. تعظمهم الخدم .. ولا تدخل الملائكة عليهم إلا بإذن .. وكل أهل الجنة ملوك .. لأنهم كانوا في الدنيا عبيداً للملك .. فلما قدموا عليه مَلَّكهم وخلدهم. قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} ... [الإنسان: 20، 22]. وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72]. وقال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} ... [الزمر: 20]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه (¬2). فالواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن والغرف المزخرفة ما لا يدركه الوصف .. ولديه من البساتين الزاهرة .. والفواكه اللذيذة .. والثمار الدانية .. والأطعمة الفاخرة .. والرياض المعجبة .. والطيور المطربة .. والأنهار ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2833). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831) واللفظ له.

الجارية ما يأخذ القلوب ويفرح النفوس. وعنده من الزوجات الجامعات لحسن الظاهر والباطن .. والحور العين .. والخيرات الحسان .. ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً. وحوله من الخدم المؤبدين .. والولدان المخلدين .. ما به تحصل الراحة والطمأنينة .. وتتم لذة العيش .. وتكمل الغبطة. وعلاوة على ذلك كله الفوز برؤية الرب الرحيم .. وسماع كلامه .. ولذة قربه .. والابتهاج برضاه. فسبحان الملك الحق المبين .. الذي لا تنفد خزائنه .. ولا يقل خيره .. فكما لا نهاية لأوصافه .. فلا نهاية لبره وإحسانه وإكرامه. * صفة ظلال الجنة: ظلال الجنة ظليلة ممدودة .. لكنها لا تحمي من حر ولا شمس .. إذ لا حر ولا شمس هناك كما قال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)} ... [الإنسان: 13، 14]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} ... [النساء: 57]. وقال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرعد: 35]. وقال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 27 - 30]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة:30]» متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4881) واللفظ له، ومسلم برقم (2826).

* أعظم نعيم الجنة: النعيم في الجنة قسمان: نعيم برؤية الخالق عزَّ وجلَّ .. وسماع كلامه .. وحلول رضوانه .. وهذا أعلى النعيمين .. وهو نعيم القلوب والأرواح. والآخَرُ نعيم بالاستمتاع بما في الجنة من اللذات والشهوات، مما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر .. وهو نعيم الأبدان. فسبحان من تفضل على عباده بهذا وهذا. قال الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35]. وقال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)} [المطففين: 22، 23]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ (: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟». قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللهِ!. قال: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللهِ!، قال: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» متفق عليه (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، رَبَّنَا! وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ! وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (806)، ومسلم برقم (182) واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (181).

ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدًا» متفق عليه (¬1). * صفة نعيم الجنة: في الجنة من النعيم واللذات والشهوات، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} [الزخرف: 69 - 73]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} ... [الدخان: 51 - 56]. وقال الله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 12 - 22]. وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6549)، ومسلم برقم (2829) واللفظ له.

مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 10 - 26]. وقال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر». مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17]. متفق عليه (¬1). * ذكر وكلام وتحية أهل الجنة: قال الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 74]. وقال الله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10]. وقال الله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25، 26]. * سلام الرب على أهل الجنة: قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} ... [الأحزاب: 44]. وقال الله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3244)، ومسلم برقم (2824) واللفظ له.

* أهل الجنة: الجنة دار كل مؤمن ومؤمنة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} [البقرة: 82]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ» أخرجه مسلم (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الْجَنَّةِ» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (: «كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ» متفق عليه (¬2). فكل من آمن بقلبه .. وعمل الصالحات بجوارحه .. فهو من أهل الجنة. ووصف الله أعمال الخير بالصالحات .. لأن بها تصلح أحوال العبد .. وأمور دينه ودنياه .. وحياته الدينية والأخروية .. ويزول بها عنه فساد الأحوال .. فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. * أكثر أهل الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ» متفق عليه (¬3). * آخر من يدخل الجنة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4918)، ومسلم برقم (2853) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3241) واللفظ له، ومسلم برقم (2737).

لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه (¬1). * دخول الجنة: المؤمنون يدخلون الجنة برحمة الله، وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها بل هو سبب .. فدخول الجنة برحمة الله والنجاة من النار بعفو الله .. واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال الصالحة. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 124]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ)» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (¬2). * الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} ... [الأعراف:43]» أخرجه مسلم (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له، ومسلم برقم (186). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم برقم (2837). (¬4) أخرجه مسلم برقم (181).

* عظمة نعيم الجنة: في الجنة فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخلد من النعيم. قال الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} ... [السجدة: 17]. وقال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 71]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قُولُ الله تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلااُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]» متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه (¬2). * آخر من يدخل الجنة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ آخِرَ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ» متفق عليه (¬3). خلود أهل الجنة: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} ... [البينة: 7، 8]. وقال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3244) واللفظ له، ومسلم برقم (2824). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3250) واللفظ له، ومسلم برقم (1881). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7511) واللفظ له، ومسلم برقم (186).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا صَارَ أهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ» متفق عليه (¬1). * جنة الدنيا: في الدنيا روضتان من رياض الجنة، إحداهما ثابتة، والأخرى متجددة في الزمان والمكان والأشخاص. قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» متفق عليه (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» أخرجه أحمد والترمذي (¬3). * سيدة الجنان: الله عزَّ وجلَّ يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات عرشه واستوى عليه، واختار من الملائكة جبريل، واختار من البشر محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ومن السموات العليا، ومن البلاد مكة، ومن الأشهر المحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأوقات أوقات الصلاة. كذلك الله سبحانه اختار من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه، وهي جنة الفردوس التي خصصها الله بالقرب منه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6548) واللفظ له، ومسلم برقم (2850). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1196)، ومسلم برقم (1391). (¬3) حسن: أخرجه أحمد برقم (12551)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (1391). وأخرجه الترمذي برقم (3510)، صحيح سنن الترمذي رقم (2787).

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7423).

2 - صفة النار

2 - صفة النار قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. الله تبارك وتعالى خلق الجنة وجعلها داراً للثواب لمن آمن به وأطاعه .. وخلق النار وجعلها داراً للعقاب لمن كفر به وعصاه. وجعل سبحانه الخير والنعيم كله بحذافيره في الجنة .. وجعل الشر والعذاب كله بحذافيره في النار. والنار هي دار العذاب التي أعدها الله للكفار والمنافقين والعصاة في الآخرة. والنار واحدة في الذات، متعددة في الصفات. * أشهر أسماء النار: للنار أسماء كثيرة بحسب ما فيها من ألوان العذاب، وهذه أشهر أسمائها: النار: كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. جهنم: كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140]. الجحيم: كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة: 10]. السعير: كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)} ... [الأحزاب: 64]. الهاوية: كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 8 - 11]. سقر: كما قال سبحانه: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ

سَقَرَ (48)} ... [القمر: 48]. الحطمة: كما قال سبحانه: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)} ... [الهمزة: 4 - 6]. لظى: كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)} [المعارج: 15 - 17]. دار البوار: كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28 - 29]. * مكان النار: قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} [المطففين: 7]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 4 - 6]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « .. وأمَّا الكَافرُ فَإذَا قُبضتْ نَفسُهُ، وذَُهِبً بهَا إلى بَابِ الأَرْضِ، يَقولُ خَزنَةُ الأَرْضِ: مَا وَجَدْنا رِِيحاً أنتنَ منْ هذهِ، فتبلغُ بهَا إلى الأَرضِ السُّفلَى» أخرجه الحاكم وابن حبان (¬1). فالجنة تحت العرش .. فوق السماء السابعة .. والنار تحت الأرض السابعة .. قد جمعت بين الضيق والسفول. * عدد أبواب النار: أبواب النار سبعة .. وكل باب أسفل من الآخر .. ولكل باب من أبواب النار جزء مقسوم من أهلها بحسب أعمالهم. قال الله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} ... [الحجر: 43، 44]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الحاكم برقم (1304). وأخرجه ابن حبان برقم (3013)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.

وأبواب النار مغلقة على أهلها: فمع الحرارة البليغة في النار .. أهلها محبوسون فيها .. قد يئسوا من الخروج منها. قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 5 - 9]. وقال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 20]. * مجيء النار في عرصات القيامة: قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 21 - 23]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ ألْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» أخرجه مسلم (¬1). * قعر النار: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟». قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: «(هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» أخرجه مسلم (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى عُنُقِهِ» أخرجه مسلم (¬3). * وقود النار: وقود النار يوم القيامة الناس والحجارة العظيمة. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2842). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2844). (¬3) أخرجه مسلم برقم (2845).

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. وقال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} ... [الأنبياء: 98]. * قوة حرارة النار: قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: 97]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَارُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالُوا: وَاللهِ! إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» متفق عليه (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقالتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» متفق عليه (¬2). * دركات النار: الجنة درجات بعضها فوق بعض .. والنار دركات بعضها أسفل من بعض .. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم .. وتمكنهم من أذى المؤمنين. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وقال العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَفَعْتَ أبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قال: ««نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أنَا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3265)، ومسلم برقم (2843) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3260) واللفظ له، ومسلم برقم (617).

لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (¬1). * صفة ظل النار: أهل النار في سموم وحميم .. وظل شديد الحرارة .. ومن فوقهم ظلل من النار .. ومن تحتهم ظلل .. فظل نار جهنم لا ظليل ولا يغني من اللهب. قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة: 41 - 44]. وقال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} ... [الزمر: 16]. وقال الله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)} [المرسلات: 30، 31]. * خزنة النار: مالك خازن النار .. وخزنة جهنم تسعة عشر من الملائكة. قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} ... [الزخرف: 77، 78]. وقال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 26 - 31]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر: 49، 50]. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3883)، ومسلم برقم (209) واللفظ له.

* عظمة خلق أهل النار: يكون جسد الكافر يوم القيامة بحسب ما صدر منه من كفر وأعمال سيئة في الدنيا .. وبحسب ما أفسد وأضل من الناس .. فضرسه مثل أحد .. وغلظ جلده مسيرة ثلاث ليال .. وما بين منكبيه مسير ثلاثة أيام .. ومقعده من النار ما بين المدينة والربذة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ضِرْسُ الْكَافِرِ، أوْ نَابُ الْكَافِرِ، مِثْلُ أحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلاثٍ» أخرجه مسلم (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» متفق عليه (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَعَرْضُ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانَ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّبَذَةِ» أخرجه أحمد والحاكم (¬3). * صفة وجوه أهل النار: وجوه أهل النار يوم القيامة سوداء .. مظلمة .. باسرة .. كالحة .. خاشعة .. ذليلة .. مغبرة .. عليها قترة. قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60]. وقال الله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} [القيامة: 24، 25]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} [المؤمنون: 103، 104]. وقال الله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2851). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6551)، ومسلم برقم (52) واللفظ له. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8327)، وأخرجه الحاكم برقم (8759)، وهذا لفظه. انظر السلسلة الصحيحة رقم (1105).

الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 40 - 42]. * ورود الناس النار: جميع الخلائق سيردون النار مؤمنهم وكافرهم .. برهم وفاجرهم .. حُكمٌ حتَّمه الله على نفسه .. وأوعد به عباده .. فلا بدَّ من نفوذه .. ثم ينجي الله المتقين .. ويذر الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي فيها جثياً .. فيسقط الكفار في النار. ويمر المؤمنون والمنافقون على الصراط على قدر أعمالهم .. فينجو المؤمنون .. ويهوي المنافقون إلى الدرك الأسفل من النار. قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} ... [مريم: 71، 72]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرؤية، وصفة المرور على الصراط: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ سَلِّم». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه (¬1). * أول من يعبر الصراط: أول من يعبر الصراط محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرؤية: «وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأكُونُ أنَا وَأُمَّتِي أوَّلَ مَنْ يُجِيزُ» متفق عليه (¬2). * بعث النار: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قال: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183) واللفظ له. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (806)، ومسلم برقم (182) واللفظ له.

مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قال: «أبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلاً وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ألْفًا» متفق عليه (¬1). * أول من تسعر بهم النار: أول من تسعر بهم النار ثلاثة .. وهم الذين يراؤون الناس بأعمالهم كالمقاتل في الجهاد، والعالم، والمنفق .. فهؤلاء لما كانت أعمالهم غير خالصة لله كانوا أول من تسعر بهم النار. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (¬2). * أهل النار المخلدون: أهل النار المخلدون هم كل كافر .. ومشرك .. ومستكبر .. ومنافق. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3348) واللفظ له، ومسلم برقم (222). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1905).

خَالِدُونَ (39)} ... [البقرة: 39]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَأهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لا يَبْتَغُونَ أهْلا وَلا مَالا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أهْلِكَ وَمَالِكَ». وَذَكَرَ الْبُخْلَ أوِ الْكَذِبَ «وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ» أخرجه مسلم (¬1). * كيفية دخول أهل النار النار: يساق أهل النار إلى النار سوقاً عنيفاً .. ويضربون بالسياط الموجعة من الزبانية الغلاظ الشداد إلى شر محبس .. وأفظع موضع .. وهي جهنم التي جمعت كل عذاب وشقاء وألم كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} [الزمر: 71، 72]. وتساق كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها وتشاكل سعيها .. يلعن بعضهم بعضاً .. ويتبرأ بعضهم من بعض كما قال سبحانه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2865).

نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25]. وأهل النار يدخلونها من مكان ضيق .. مقرنين في السلاسل والأغلال كما قال سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 13، 14]. ويُدفع أهل النار إليها دفعاً .. ويساقون إليها سوقاً عنيفاً لامتناعهم من دخولها: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} [الطور: 13، 14]. ويسحبون في النار على وجوههم كما قال سبحانه: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} [القمر: 48]. ويسلسل كل أهل عمل من المجرمين بسلاسل من نار .. فيقادون إلى العذاب في أذل صورة وأشنعها وأبشعها كما قال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} [إبراهيم: 49 - 51]. ويُّحشر الكفار إلى النار على وجوههم .. تسحبهم ملائكة العذاب على وجوههم .. وتجرهم إلى جهنم الجامعة لكل عذاب وعقوبة. فما أشد عقوبة هؤلاء الكفار: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} [الفرقان: 34]. * اضطراب النار يوم القيامة: النار يوم القيامة إذا رأت أهلها اشتد سعيرها .. واشتد زفيرها .. وتغيظت على أهلها .. وغضبت عليهم؛ لغضب خالقها .. وزاد لهبها وحرارتها بحسب زيادة كفر أهلها وشرهم. قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} ... [الفرقان: 11، 12]. ولا تزال جهنم تطلب الزيادة من المجرمين العاصين غضباً لربها .. وغيظاً على

الكافرين كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]. وإذا ألقي أهل النار فيها سمعوا لها صوتاً عالياً فظيعاً من شدة غيظها على الكفار، فما الظن بما تفعل بهم إذا دخلوا في جوفها؟. {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)} [الملك: 6 - 8]. وهي نار يَحْطِم بعضها بعضاً .. وتَحْطِم كل من يدخلها .. وتَنْفُذُ من الأجسام إلى القلوب .. فهل ينجو الكافر والعاصي من شدة لهيبها وإحراقها؟. {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 4 - 9]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَبِالْمُصَوِّرِينَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). * أكثر أهل النار: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُرِيتُ النَّارَ فَإذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْن». َ قِيل: أيَكْفُرْنَ بِالله؟ قال: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أحْسَنْتَ إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» متفق عليه (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قال: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8411)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (512). وأخرجه الترمذي برقم (2574)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2083). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (29) واللفظ له، ومسلم برقم (907).

النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قال: «أبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلاً وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ألْفًا» متفق عليه (¬1). * أشد أهل النار عذاباً: أشد أهل النار عذاباً إبليس، وهو أول من يكسى حلة من النار؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عصي الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأخبث فالأخبث من نوابه في الأرض ودعاته، كفرعون وقارون وأمثالهما. قال الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} [ق: 24 - 26]. وقال الله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45، 46]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. وقال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} [مريم: 68 - 70]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» متفق عليه (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3348) واللفظ له، ومسلم برقم (222). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5950)، ومسلم برقم (2109) واللفظ له.

اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَبِالْمُصَوِّرِينَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬1). أهون أهل النار عذاباً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ، عَلَى أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ» متفق عليه (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أهْوَنُ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» أخرجه مسلم (¬3). * ما يقال لأهون أهل النار عذاباً: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة: 36، 37]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله تَعَالَى لأهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هَذَا، وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فَأبَيْتَ إِلا أنْ تُشْرِكَ بِي» متفق عليه (¬4). * أشد عذاب أهل النار: العذاب في النار نوعان: عذاب على الأبدان بالنار والإحراق .. وعذاب على الأرواح بالإهانة والصغار .. وحجابهم عن رؤية ربهم. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (8411)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (512). وأخرجه الترمذي برقم (2574) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2083). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 6562) واللفظ له، ومسلم برقم (213). (¬3) أخرجه مسلم برقم (212). (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6557) واللفظ له، ومسلم برقم (2805).

وقال الله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام: 124]. وقال الله تعالى عن أهل النار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15، 16]. والعذاب في جهنم أنواع ودرجات، وشدته وخفته بحسب الكفر والذنوب. فهناك عذاب على ظاهر الجسد .. وهناك عذاب على باطن الجسد .. وهناك عذاب على الأعضاء والجوارح .. وهناك عذاب تملأ الأحشاء فيه جحيماً وناراً .. وهناك عذاب الإهانة والصغار .. وهو أشد وأعظم .. وهناك عذاب كعذاب الكفار .. وهناك عذاب منقطع كعذاب عصاة الموحدين .. وهناك عذاب غايظ .. وهناك عذاب خفيف .. وليس في النار خفيف .. ولكنه عذاب دون عذاب. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وقال تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} ... [الأنعام: 124]. * سلاسل جهنم وأغلالها ومقامعها: خلق الله في جهنم سلاسل يُقرن بها كل كافر ومثله .. وأغلالاً تُغَلّ بها أيدي الكفار والعصاة إلى أعناقهم، ويوثقون بها .. ومقامع يُضربون بها. قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} [الإنسان: 4]. وما أشد حسرة الكافر حين يؤمر به إلى جهنم .. ويقال للزبانية الغلاظ الشداد: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} [الحاقة: 30 - 32]. فيجعل في عنقه غلاً يخنقه .. ثم يقلب على جمر جهنم ولهبها .. ثم يُنظم في سلسلة من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة .. ذرعها سبعون ذراعاً .. تدخل في

دبره .. وتخرج من فمه .. ويعلق فيها .. فلا يزال يعذب هذا العذاب العظيم. والسبب الذي أوصله إلى هذه المكانة .. وهذه الحال .. كفره بربه .. ومعاندة رسله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 33 - 37]. وفي جهنم من النكال والعذاب الشديد .. والألم الموجع .. والطعام الكريه المر ما تقشعر لهوله الأبدان .. وتتفطر له الأكباد .. وتذهل منه العقول كما قال سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} [المزمل: 12، 13]. ويضرب الكفار بمقامع من حديد في النار كما قال سبحانه: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 21، 22]. ويُقرن الكفار مع أمثالهم وشياطينهم بالسلاسل .. وتغل أيديهم إلى أعناقهم .. ثم يسحبون في الحميم الذي اشتد غليانه وحره .. ثم يوقد عليهم اللهب العظيم .. ويُسجرون في النار .. ثم يوبخون على شركهم وكذبهم. {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)} [غافر: 70 - 74]. * صفة طعام أهل النار: المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه .. وإما أن يسمن بدنه من الهزال .. وطعام أهل النار خال من هذين الأمرين .. فهو طعام كريه في غاية المرارة والنتن والخسة والخبث نسأل الله العافية. فأهل النار: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)} [الغاشية: 6، 7]. والكافر في النار ليس له قريب أو صديق يشفع له .. وليس له طعام يأكل منه إلا

من غسلين .. وهو صديد أهل النار .. الذي هو في غاية الحرارة .. ونتن الريح .. وقبح الطعم .. وشدة المرارة: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} [الحاقة: 35، 36]. ولا يأكل هذا الطعام الذميم إلا الذين أخطأوا الصراط المستقيم .. وسلكوا سبل الجحيم: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 37]. ومن طعام أهل النار شجرة الزقوم .. وهي شر الأشجار وأفظعها .. طعمها كالمهل .. وهو الصديد المنتن .. خبيث الريح والطعم .. شديد الحرارة، يغلي في بطونهم كغلي الحميم كما قال سبحانه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} [الدخان: 43 - 46]. وشجرة الزقوم تنبت في وسط النار .. وتسقى بصديد أهل النار .. وطلعها كريه فظيع كأنه رؤوس الشياطين .. وهي طعام أهل النار: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} [الصافات: 63 - 68]. وطعام أهل النار يغص به آكله لمرارته وبشاعته .. وكراهة طعمه .. وخبث رائحته كما قال سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} [المزمل: 12، 13]. فهذا طعام أهل النار: طعام الضريع .. وطعام الغسلين .. وطعام الزقوم .. وطعام ذو غصة. فمن يطيق سماع هذا ورؤيته، فكيف بمن يأكله ويتجرعه؟. * صفة شراب أهل النار: شراب أهل النار في غاية الحرارة .. كريه الطعم .. خبيث الرائحة .. حميم لا يطاق .. وصديد من القيح والدم .. وماء كالمهل غليظ أسود .. حار منتن .. وغساق لا يطاق شربه من شدة برده.

قال الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15]. وقال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} ... [إبراهيم: 15 - 17]. وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. وقال الله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: 21 - 26]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مُسْكرٍ حَرامٌ، إنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْداً لِمَنْ يَشْرَبُ المُسْكِرَ، أنْ يَسْقِيَهُ منْ طيِنَةِ الخَبَالِ» قالوا: يا رسولَ الله! وما طينَةُ الخبال؟ قال: «عرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أو عُصَارَةُ أهلِ النَّارِ» أخرجه مسلم (¬1). * صفة ثياب أهل النار: ثياب أهل النار قطعت وفصّلت من نار من النحاس وهو أشد حرارة إذا حمي كما قال سبحانه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)} [الحج: 19، 20]. وهم في النار مُقَرَّنون بالسلاسل كل صنف مع مثله .. وسرابيلهم وهي ثيابهم من قطران .. وهو النحاس المذاب الحار كما قال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} [إبراهيم: 49، 51]. * صفة فرش أهل النار: فرش أهل النار من نار .. ولحفهم من نار .. من فوقهم ظلل من النار .. ومن ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2002).

تحتهم ظلل من النار .. وأطباق من نار .. وقطع عذاب كالسحاب العظيم من فوقهم ومن تحتهم. قال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} [الأعراف: 41]. وقال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} [الزمر: 16]. * حسرة أهل النار: قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 167]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ أحَدٌ الْجَنَّةَ إِلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْراً، وَلا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ إِلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» أخرجه البخاري (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَقَدْ سَألْتُكَ مَا هُوَ أهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي، فَأبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ» متفق عليه (¬2). * تحية أهل النار: قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف: 38]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (6569). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3334) واللفظ له، ومسلم برقم (2805).

وقال الله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} ... [الفرقان: 13، 14]. * طلب النار المزيد: قال الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ» متفق عليه (¬1). * خطبة إبليس في أهل النار: إذا قضى الله الأمر .. وفصل بين العباد .. ودخل أهل الجنة الجنة .. ودخل أهل النار النار .. خطب إبليس في أهل النار .. وتبرأ منهم؛ ليزيد من كربهم وندامتهم وحسرتهم، كما قال سبحانه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22]. * صور من أحوال أهل النار: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب: 64 - 66]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4848)، ومسلم برقم (2848) واللفظ له.

مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 74 - 76]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]. وقال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 106، 107]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} [القمر: 47، 48]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ؟ ألَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قال: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» متفق عليه (¬1). * صور من أصناف المعذبين في النار: 1 - الكفار والمنافقون: قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. 2 - الذين يكتمون ما أنزل الله: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} [البقرة: 174]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه أبو داود والترمذي (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3267) واللفظ له، ومسلم برقم (2989). (¬2) حسن صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3658) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3106). وأخرجه الترمذي برقم (2649)، صحيح سنن الترمذي رقم (2135).

3 - قاتل النفس المعصومة عمداً: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَامًا» أخرجه البخاري (¬1). 4 - الزناة والزواني: 5 - آكلو الربا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا» .. وفيه أنه قال ذات غداة: «هَلْ رَأى أحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟». قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ الله أنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ: ذَاتَ غَدَاةٍ: «إِنَّهُ أتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ الله مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ -قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ أبُو رَجَاءٍ -فَيَشُقُّ قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأولَى. قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ الله مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3166).

فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ -قَالَ: وَأحْسِبُ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ- فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهبُ ضَوْضَوْا. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ -حَسِبْتُ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ- أحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَراً فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَألْقَمَهُ حَجَراً. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ، كَأكْرَهِ مَا أنْتَ رَاءٍ رَجُلاً مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا فَأتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لا أكَادُ أرَى رَأْسَهُ طُولا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأيْتُهُمْ قَطُّ. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا مَا هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قَالا لِي: انْطَلِق انْطَلِقْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ، لَمْ أرَ رَوْضَةً قَطُّ أعْظَمَ مِنْهَا وَلا أحْسَنَ. قَالَ: قَالا لِي: ارْقَ فِيهَا قَالَ: فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأتَيْنَا باب الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاهَا، فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأحْسَنِ مَا أنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأقْبَحِ مَا أنْتَ رَاءٍ. قَالَ: قَالا لَهُمُ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ، قَالَ: وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ مِنَ الْبَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ

السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ: قَالا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَ: فَسَمَا بَصَرِي صُعُداً، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ. قَالَ: قَالا لِي: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ الله فِيكُمَا ذَرَانِي فَأدْخُلَهُ. قَالا: أمَّا الآنَ فَلا، وَأنْتَ دَاخِلَهُ. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَباً، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأيْتُ؟. قَالَ: قَالا لِي: أمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ. وَأمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي. وَأمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجارةَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا. وَأمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ، الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ. وَأمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ (. وَأمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ». قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ الله، وَأوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله (: «وَأوْلادُ الْمُشْرِكِينَ. وَأمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَناً وَشَطْرٌ [مِنْهُمْ] قَبِيحاً، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، تَجَاوَزَ الله عَنْهُمْ» أخرجه البخاري (¬1). 6 - المصورون: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مُصوِّرٍ في النّارِ، يَجعَلُ لهُ، بكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرها، نفساًً ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (7047).

فتعذِّبُهُ في جَهنَّم» أخرجه مسلم (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَوَّرَ صُورَةً في الدُّنيا كُلِّفَ أَنْ يَنفُخَ فيهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيامَةِ، وَليسَ بِنافِخٍ» متفق عليه (¬2). 7 - آكل مال اليتيم: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]. أهل الكذب والغيبة والنميمة: قال الله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} [الواقعة: 92 - 94]. وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، -وفيه- فقلت يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬3). * بكاء أهل النار وصراخهم: قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 81، 82]. وقال الله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} [فاطر: 37]. وقال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء: 100]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2110). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7042)، ومسلم برقم (2110) واللفظ له. (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2616) واللفظ له، صحيح سنن الترمذي رقم 2110. وأخرجه ابن ماجه برقم (3973)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3209).

وقال الله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 13، 14]. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)} [الفرقان: 27]. * دعاء أهل النار: إذا دخل أهل النار فيها .. وأصابهم العذاب الشديد .. استغاثوا ونادوا لعلهم يجدون من يغيثهم ويجيبهم. فينادون أهل الجنة .. وينادون خزنة النار .. وينادون مالكاً خازن النار .. وينادون ربهم .. فلا يجابون إلا بما يزيد حسرتهم .. ثم يفقدون الأمل في الخروج منها .. ويأخذون في الزفير والشهيق. قال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} [الأعراف: 50]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر: 49، 50]. وقال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} ... [الزخرف: 77، 78]. وقال الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 106 - 108]. فإذا فقد أهل النار الأمل في الخروج منها وأيسوا من أي خير أخذوا في الزفير والشهيق كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 106، 107].

عياذاً بالله من غضب الله وسخطه وعقوبته. اللهم ارزقنا الجنة .. وأجرنا من النار .. أنت مولانا .. فنعم المولى .. ونعم النصير. * تخاصم أهل النار: حينما يرى الكفار ما أعد الله لهم من العذاب .. ويعاينون تلك الأهوال .. يمقتون أنفسهم .. ويمقتون أحبابهم وخلانهم في الدنيا .. وتنقلب كل محبة بينهم في الدنيا إلى عداوة. وعند ذلك يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً .. ويحاج بعضهم بعضاً على اختلاف طبقاتهم: 1 - مخاصمة العابدين لمعبوديهم: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)} [الشعراء: 96 - 99]. 2 - مخاصمة الضعفاء للسادة: قال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} [غافر: 47، 48]. 3 - تخاصم الأتباع مع قادة الضلال: قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} [الصافات: 27 - 33]. 4 - تخاصم الكافر وقرينه الشيطان: قال الله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ

وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق: 27 - 29]. 5 - ويبلغ الأمر أشده عندما يخاصم الإنسان أعضاءه. قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} ... [فصلت: 19 - 21]. * دعاء أهل النار على من أضلهم: قال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} [الأحزاب: 67، 68]. وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} ... [فصلت: 29]. * خلود أهل النار: الكفار والمشركون والمنافقون مخلدون في النار .. وأما عصاة الموحدين فهم تحت مشيئة الله .. إن شاء غفر لهم .. وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم أخرجهم إلى الجنة. قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. * خروج عصاة الموحدين من النار: قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} ... [مريم: 71، 72]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ

مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً» متفق عليه (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُعَذَّبُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا فِيهَا حُمَمًا ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرَّحْمَةُ فَيُخْرَجُونَ وَيُطْرَحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ قَالَ فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَاءَ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حِمَالَةِ السَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬2). * ميراث أهل الجنة منازل أهل النار: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ لَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} [المؤمنون:10] أخرجه ابن ماجه (¬3). * قرب الجنة والنار: الطاعة موصلة إلى الجنة .. والمعصية موصلة إلى النار .. والطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْجَنَّةُ أقْرَبُ إِلَى أحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» أخرجه البخاري (¬4). * حجاب الجنة والنار: الجنة لا يوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره والمشقات .. والنار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات المحرمة والشاغلة عن فعل المأمورات .. فالجنة محجوبة بالمكاره .. والنار محجوبة بالشهوات .. فمن هتك الحجاب اقتحم هذه أو هذه. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (44)، وأخرجه مسلم برقم (193) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (15268)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2451). وأخرجه الترمذي برقم (2597) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2094). (¬3) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (4341)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3503). (¬4) أخرجه البخاري برقم (6488).

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» متفق عليه (¬1). * احتجاج الجنة والنار وحكم الله بينهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ: أنْتِ عَذَابِي أعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ (وَرُبَّمَا قَالَ: أصِيبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ) وَقَالَ لِهَذِهِ: أنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا» متفق عليه (¬2). * خلود أهل الجنة وأهل النار: قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 106 - 108]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} ... [المائدة: 36، 37]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا صَارَ أهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ» متفق عليه (¬3). الطريق إلى الجنة: الطريق إلى الجنة هو سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة بطاعة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6478) واللفظ له، ومسلم برقم (2823). (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850)، ومسلم برقم (2846) واللفظ له. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6548)، واللفظ له، ومسلم برقم (2850).

الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» متفق عليه (¬1). * الطرق إلى النار: الطرق إلى النار كثيرة ويجمعها الكفر والشرك ومعصية الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: «أتَى النَّبِيَّ (رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» أخرجه مسلم (¬2). اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. فأي شقاء أعقبه الكفر بالله ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟. وأي خسار وهلاك وضلال فوق هذا؟. وأي خزي وشماتة حلَّت بأعداء الله ورسوله ودينه؟. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7280) واللفظ له، ومسلم برقم (1835). (¬2) أخرجه مسلم برقم (93).

إن أمام كل كافر، وأمام كل عاص، عذاب وإهانة، جزاء إعراضهم عن الدين، وانتهاكهم حرمات الله، وعدم المبالاة بأوامره. إن هؤلاء أشقى الخلق إطلاقاً. هم الأشقى في الدنيا بأرواحهم الخاوية الميتة .. وهم الأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى. وهؤلاء لا ينتفعون بذكرى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} [الأعلى: 9 - 13]. والنار الكبرى هي نار جهنم، الكبرى بشدتها، والكبرى بمدتها، والكبرى بضخامتها، والكبرى بإحراقها. فلا مَنْ فيها يموت فيجد طعم الراحة، ولا هو يحيا في أمن وراحة. إنما هو العذاب الخالد، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى أحسن أمانيه. فلله كم حجم هذا العذاب الذي الموت ألذ شيء يتمناه الإنسان للفرار منه، والنجاة من هوله وألمه؟. ويوم القيامة يصل كل إنسان إلى دار إقامته، وإلى ما أعد الله له من النعيم أو العذاب، فللمؤمنين دار النعيم، وللمكذبين بالساعة عذاب جهنم، وقد سُعِّرت ودَبَّت فيها الحياة، فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها، وهي تتحرق عليهم، وتصعد منها الزفرات غيظاً منهم: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} ... [الفرقان: 11، 12]. وكيف حالهم إذا وصلوا إليها؟، وكيف حالهم إذا دخلوا فيها؟. {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} ... [الفرقان: 13، 14]. فهل ذلك السعير، وذلك الزفير، وذلك العذاب خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟.

{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} [الفرقان: 15، 16]. إن عذاب الله شديد لكل كافر، لكل مشرك، لكل عاص، لكل مجرم، لكل مفسد، لا يمكن أن يفتديه الإنسان بالبنين والزوج والأخ والعشيرة، ومن في الأرض جميعاً: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)} [المعارج: 11 - 14]. إن هذا المجرم من الهول والرعب الذي يراه يود لو يفتدي من عذاب النار بأعز الناس عليه، ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة ويناضل عنهم، ويعيش لهم. بل إن لهفته على النجاة لتُفقده الشعور بغيره على الإطلاق، فيود لو يفتدي بأهل الأرض جميعاً لينجو ويفلت من العذاب. فما أعظم كربه؟، وما أشد فزعه؟. ولكن أنى له من الإفلات فهو محاصر بالعذاب: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} [المعارج: 15 - 18]. ألا ما أخطر الحال والمقام؟. إنه مشهد مروع مخيف، تطير له النفس شعاعاً بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله، فقد أعد لهذا المجرم ناراً تلظى وتحرق، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس، ومقامع تكسر الهامات، وغساق ينشب في الحلوق، وطعام الزقوم والغسلين، وثياب من نار، وفرش من نار، وسلاسل وأغلال من نار، وسجن مظلم. ونار تدعو كل من أدبر وتولى، تدعوه كما كان من قبل يدعى إلى الهدى فيدبر ويتولى. ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يمكن أن يدبر ويتولى، ولقد كان من قبل مشغولاً عن الدعوة بجمع المال بأي وسيلة، وحفظه في الأوعية. فأما يوم القيامة فالدعوة من جهنم لا يمكن أن يلهو عنها، ولا يملك أن يفتدي

بما في الأرض كلها منها، ولو جاء بذلك كله ما تقبل منه فليس هذا مكانه، وليس هذا وقت قبوله. فما أخسر من جمع المال في الأوعية، وصرفه فيما حرم الله، إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية، وما أشد عذابهم عند ربهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة: 36 - 37]. إن الذي يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ويتمتع بنعم الله، ثم يكفر بالله، ويشرك به، ويعصي أمره، ويعاند رسله، ويحارب أولياءه، ويصد عن سبيله، لجدير بكل عقوبة جزاء كفره ورده الهدى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} [ق: 24 - 26]. فهذا الملقى في جهنم جره الشيطان إليها بست سلاسل: الأولى: أنه كَفَّار لنعم الله وحقوقه، كفار بدينه وتوحيده، وأسمائه وصفاته، كفار برسله وملائكته، كفار بكتبه ولقائه. الثانية: أنه معاند للحق بدفعه جحداً وعناداً. الثالثة: أنه منَّاع للخير، وهذا يعم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله، والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه، ولا لبني جنسه، كما هو حال أكثر الخلق. الرابعة: أنه مع منعه للخير معتد على الناس، ظلوم غشوم، معتد عليهم بيده ولسانه. الخامسة: أنه مريب صاحب ريب وشك، آت لكل ريبة. السادسة: أنه مع ذلك مشرك بالله، قد اتخذ مع الله إلهاً آخر يعبده ويحبه، ويغضب له، ويرضى له، ويحلف باسمه، وينذر له، ويوالي فيه، ويعادي فيه.

ويختصم هو وقرينه من الشياطين، ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله، فيقول قرينه الشيطان: لم يكن لي قوة أن أضله وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد، اختاره لنفسه وآثره على الحق كما قال سبحانه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} [ق: 27]. ولكن الخصومة لا تنفع في ذلك الزمان والمكان، فيقول الرب موبخاً لهما: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)} [ق: 28]. وإذا كان أهل النار في جهنم يعذبون، وفي النار يسجرون، فإن أهل الجنة في النعيم يتلذذون كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14]. وإذا كان أهل النار يتلاعنون في النار، ويدعون بالويل والثبور، فإن أهل الجنة إخوان متحابون: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47]. وإذا كان أهل النار يشتغلون بالتنابز واللعن والخصام، فأهل الجنة يشتغلون بالحمد والثناء لربهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} ... [الأعراف: 43]. وإذا كان أهل النار ينادَوْن بالتحقير والتأنيب ليدخلوا مع أمم مثلهم من الجن والإنس في النار، فإن أهل الجنة ينادَوْن بالترحيب والتكريم لدخول الجنة: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]. وإذا كان أهل النار وجوههم مسودة مظلمة مغبرة، فإن وجوه أهل الجنة مسفرة ضاحكة مستبشرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس: 38، 39]. وإذا كان لباس أهل النار ثياب قطعت من نار وقطران، فإن لباس أهل الجنة من الحرير والسندس والإستبرق، وحليهم من الذهب والفضة واللؤلؤ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 33].

وإذا كانت فرش أهل النار من نار، ولحفهم من نار، ومن فوقهم ظلل من النار، فإن أهل الجنة فرشهم بطائنها من إستبرق، وسررهم مرفوعة، ولهم نمارق ووسائد مصفوفة، وبسط مبثوثة: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} [الرحمن: 76]. وإذا كان طعام الكفار في النار الزقوم والضريع والغسلين، وشرابهم الغساق والصديد والحميم، فإن طعام أهل الجنة فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وشرابهم من خمر لذة للشاربين، وعسل مصفى، ولبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، ولهم فيها من كل الثمرات، أكلها دائم وظلها، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وقصور من ذهب وفضة، وغلمان وولدان للخدمة، وشباب بلا هرم، وصحة بلا مرض، ونعيم بلا بؤس، وحياة بلا موت، وخلود بلا فناء. فيا لها من نعمة .. ويا لها من مسرة، فهل من مشمر إلى الجنة؟. وهل من راغب في الحور الحسان اللاتي كأنهن الياقوت والمرجان؟. وهل من مسارع لتلك القصور الفاخرة، والمساكن العالية، والفواكه اللذيذة، والأنهار الجارية، وكثبان المسك والكافور، وحصباء الدر والياقوت، وصحاف الذهب والفضة، ولباس الحرير والديباج؟. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]. وليس بعد العمل الصالح إلا الجزاء الصالح، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟. فيا سبحان الله .. كم عند الكريم الرحيم لأوليائه من الكرامات؟: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} [الزخرف: 70 - 73].

فكذلك أكرم الله أهل الجنة برؤيته، لكن لا يحيطون به: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]. والجنة وما فيها من النعيم كرامة من الله لأهل طاعته، ورضى الله عند العبد أكبر من الجنة وما فيها من النعيم كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. وهذا الرضا جزاء على رضاه عنهم في الدنيا ورضاهم عنه، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال، وهو الإيمان بالله والأعمال الصالحة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} ... [البينة: 7، 8]. فرضوان الرب عنهم أكبر من كل ما وعدوا به، وأيسر شيء من رضوانه سبحانه أكبر من الجنات وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، والفوز برضوانه، ووالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه. وإذا تجلى لهم سبحانه، ورأوا وجهه عياناً، نسوا ما هم فيه من النعيم، وذهلوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. وأي نعيم؟ .. وأي لذة؟ .. وأي قرة عين يداني ذلك؟. وهل طابت الجنة وقامت إلا بذلك؟. ومن عرف الله جل جلاله، وشهد مشهد حقه عليه، ومشهد تقصيره وذنوبه، وأبصر هذين المشهدين بقلبه علم وجزم بأن دخول الجنة برحمة الله .. واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال .. والنجاة من النار بعفو الله.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (¬1). فالعمل سبب لدخول الجنة، لكنه غير مستقل بحصوله، وليس العمل عوضاً عن الجنة، بل دخول الجنة برحمة الله، وقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما كما سبق. والله تبارك وتعالى بمنه وفضله وكرمه يقرب الجنة للمتقين كما قال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} [ق: 31 - 33]. فوصف الله أهل الجنة بأربع صفات: إحداها: أن يكون العبد أواباً أي رجاعاً إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، كلما أذنب ذنباً استغفر الله منه. الثانية: أن يكون حفيظاً لما ائتمنه الله عليه وافترضه، حافظاً لما استودعه الله من حقه ونعمته، ممسكاً عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ الممسك عما حرم الله عليه، والأواب المقبل على الله بطاعته. الثالثة: أن يكون ممن يخشى الله بالغيب، لكمال معرفته بربه وقدرته، وكمال علمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ومعرفته بكتبه ورسله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده. فمن عرف هذا خشي الرحمن بالغيب. الرابعة: أن يكون منيباً إلى ربه، راجعاً عن معصيته، مقبلاً على طاعته. وجزاء من قامت بهم هذه الصفات أن يقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 34، 35]. فيدخلون الجنة دخولاً مقروناً بالسلامة من الآفات والشرور، مأموناً فيه جميع ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6467) واللفظ له، ومسلم برقم (782).

مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم ولا كدر ولا تنغيص. ذلك يوم الخلود الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات، ولهم فيه كل ما يشاؤون ويحبون من الملاذ والشهوات، ويزيدهم فوق ذلك أفضل نعيم وأكمله، وهو التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، والفوز برضاه، والتلذذ بسماع كلامه. وقد جمع الله لأهل الجنة بين نوعي الزينة الظاهرة من اللباس والحلي، كما جمع لهم بين الزينة الظاهرة والباطنة، فجمَّل البواطن وأكمل لذتها بالشراب الطهور، وجمل السواعد بالأساور والحلي، وجمل الأبدان بثياب الحرير والسندس والإستبرق كما قال سبحانه: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 21، 22]. والله تبارك وتعالى هو الرحمن الذي لا أرحم منه، الكريم الذي لا أكرم منه، ومن رحمته وكرمه أن أرسل رسله بدينه وشرعه الذي يصلهم بربهم، ويسعدهم في دنياهم وأخراهم. والله سبحانه يغار على خلقه وعباده أن يصرفهم الشيطان عن دينهم .. ويغار على قلب عبده أن يكون معطلاً من الإيمان والتوحيد، ومن حبه وخوفه ورجائه، وأن يكون فيه غيره، فالله سبحانه خلق الآدمي لنفسه واختاره من بين خلقه، ويغار على لسان عبده أن يتعطل من ذكره، ويشتغل بذكر غيره. ويغار على جوارحه أن تتعطل من طاعته، وتشتغل بمعصيته، فيقبُح بالعبد أن يغار مولاه الحق على قلبه ولسانه وجوارحه وهو لا يغار عليها. والله حكيم عليم إذا أراد بعبده خيراً سلَّط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه. وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء، وهذا من غيرته سبحانه وتعالى على عبده.

والله عزَّ وجلَّ كما يغار على عبده المؤمن فهو يغار له ولحرمته، فيدفع سبحانه عن قلوب الذين آمنوا وجوارحهم وأهلهم وحريمهم وأموالهم، يدفع عنهم ذلك كله غيرة منه لهم كما غاروا لمحارمه من نفوسهم ومن غيرهم. والله يغار على إمائه وعبيده شرعاً وقدراً، ومن أجل ذلك حرم الفواحش، وشرع عليها أعظم العقوبات، وأشنع القتلات، لشدة غيرته على إمائه وعبيده، فإن عطلت هذه العقوبات شرعاً أجراها سبحانه قدراً كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، والله لأنَا أغْيَرُ مِنْهُ، والله أغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أجْلِ غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أحَدَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، وَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنَّةَ» متفق عليه (¬1). * متى تمتلئ الجنة والنار؟: جهنم لا تزال يلقى فيها من كفار الإنس والجن، وتقول هل من مزيد كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]. ولا تزال النار تطلب الزيادة حتى بضع رب العزة قدمه عليها، فينزوي بعضها إلى بعض. والله عز وجل قد وعد النار ليملأنها من الجنة والناس أجمعين كما قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} ... [السجدة: 13]. والنار واسعة فلا تمتلئ حتى يضيقها الجبار على من فيها كما قال النبي (: «لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7416)، واللفظ له، ومسلم برقم (1499).

فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ» متفق عليه (¬1). أما الجنة فلا يضيقها سبحانه، بل ينشئ لها خلقاً فيدخلهم إياها؛ لأن الله يدخل الجنة من لم يعمل خيراً قط؛ لأن ذلك من باب الإحسان. وأما العذاب بالنار فلا يكون إلا لمن كفر بالله وعصاه، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي (قال: «يَبْقَى مِنَ الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَبْقَى، ثُمَّ يُنْشِئُ اللهُ تَعَالَى لَهَا خَلْقًا مِمَّا يَشَاءُ» أخرجه مسلم (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4848)، ومسلم يرقم (2848) واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم برقم (2848).

13 - طريق الفوز والنجاة

13 - طريق الفوز والنجاة قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} ... [الأحزاب: 71]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. لا يمكن للإنسان أن يسعد في الدنيا والآخرة إلا بأصول يسير عليها، وسنن يهتدي بها، وقدوة صالحة يقتدي بها. وهذا الإنسان خلقه ربه، وأنزله إلى الأرض، وأكرمه بإنزال كتبه عليه، وإرسال رسله إليه، ليعرف ربه ومولاه، ويعيش في الحياة وفق أمر من خلقه واجتباه، فيسعد في الدنيا والآخرة، ويفوز بالجنة، وينجو من النار. لهذا لا بدَّ لهذا الإنسان ليصل إلى الكمال من تربية تغذي جسمه .. وتنمي عقله .. وتهذب أخلاقه .. وتزكي روحه. وتربية الشيء هي القيام بتربيته وإنمائه وإصلاحه حتى يبلغ كماله، سواء كان من الكائنات الحية كالإنسان والحيوان، أو كان من المخلوقات النامية كالشجر والنبات. فميادين التربية أربعة: الإنسان .. والحيوان .. والأشجار .. والنبات. وتربية الحيوانات والأشجار والنباتات تختلف باختلاف أنواعها، ولكل نوع منها طرق في تربيته خاصة به، ومربون مختصون. وتربية الإنسان بشكل عام، والمسلم بشكل خاص، لها جوانب متعددة، وطرق مختلفة، وكلها متلقاة من مشكاة النبوة، يجمعها الإيمان بالله رباً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد رسولاً.

وسعادة الإنسان وكماله متوقفان على حسن تربيته، وتربية الكمال البشري في الإنسان تتناول أربعة جوانب هي: جسمه .. وعقله .. وخُلُقه .. وروحه. فتربية الجسم ليبلغ الكمال في نمائه وصحته وبقائه تعتمد على إصلاح غذائه من طعام وشراب، وعلى نقاء الهواء الذي يتنفس به، والعناية بلباسه ومسكنه، ورياضة بدنه، واجتناب كل خبيث وفاسد من المأكولات والمشروبات كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. وقال سبحانه في شأن آدم (: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119]. وتربية العقل ليصبح الإنسان ذا قدرة كافية على الفهم والتذكر، وإصدار الأحكام الصحيحة على ما يعقله ويراه من المعقولات والمحسوسات، تكون بالتعلم والدراسة والتجربة، والنظر في الكونيات والتأمل فيها، والنظر في الآيات القرآنية والتفكر فيها. وأكثر ما ينفع العقل في هذه التربية العلوم النافعة المتلقاة عن الله ورسوله، وأكبر ما يضر بها المعقولات الباطلة، والخرافات الضالة. والجسم والعقل بينهما ارتباط وثيق، فالعقل لا يكمل بدون كمال الجسم، ولا ينمو إلا بنمائه، فكلما تقدمت سن الطفل تقدم نماء العقل. وإذا عاد الجسم بسبب الكبر إلى الضعف، عاد العقل كذلك إلى الضعف، فنماء العقل تابع لنماء الجسم، وكل عناية بالجسم هي عناية بالعقل، وتربية أحدهما تربية للآخر. ومن هنا نجد أن الإسلام كما حرم كل ما يضر بالجسم من السموم والخبائث وغيرها، حرم كذلك كل ما يضر بالعقل كالخمر والمخدرات والحشيش وغيرها من الشرك والسحر، وكل ما يفسد العقل أو يضله، وما ذاك إلا للعناية

بتربية العقل والمحافظة عليه. أما تربية الخُلق، فالخُلق عَرَض من أعراض الروح البشرية، فإذا كان الروح سليماً كان الخلق سليماً، وإذا كان الروح مريضاً كانت الأخلاق مريضة رديئة. فالخُلق مرآة تنعكس عليها صورة الروح البشري. وقد اعتنى الإسلام بتربية الخلق الحسن في آيات وأحاديث كثيرة، ودعا الناس إلى التخلق بكل خلق جميل. قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (¬1). وبين الروح والخلق ارتباط وثيق، ومن هنا فالعناية بتربية الخلق هي نفسها العناية بتربية الروح. وتربية الروح من أشد أنواع التربية صعوبة، وأكثرها تعقيداً، لخفاء الروح، وعدم ظهورها، فهي تحتاج إلى معلمين ربانيين مختصين. فكما أن الجسم يطرأ عليه المرض بسبب المؤثرات الخارجية فيعتل ويداوى بالأدوية فيشفى بإذن الله، فكذلك الروح يطرأ عليه المرض بسبب المؤثرات الخارجية، فيداوى بالمناسب من الأدوية الروحية التي هي العبادات الشرعية، فيشفى بإذن الله عزَّ وجلَّ. وكما أن الجسم إذا مرض تظهر عليه أعراض المرض من صفرة الوجه ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد برقم (8952). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (276)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (45).

وشحوبته، وضعف الجسم وهزاله، فيعجز عن القول والعمل، والتفكير والحركة. فكذلك الروح إذا مرض تظهر عليه أعراض مرضه كالسرقة والخيانة والكذب والنفاق، وشرب الخمر، وارتكاب كبائر الإثم والفواحش. وكما أن الجسم يتلوث بالأوساخ والأدران فيُغسل بالماء والصابون فينظف، فكذلك الروح يتلوث بالذنوب والمعاصي فيتطهر بالاستغفار والتوبة والندم، وفعل الأعمال الصالحة، فيعود إليه صفاؤه وطهره. وكما أن بين الجسم والعقل ارتباط وثيق، فكذلك بين الروح والخلق ارتباط وثيق، ولا يكمل أحدهما بدون الآخر. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} ... [الجمعة: 2]. فالتزكية هي التربية الروحية والأخلاقية، فالروح يزكو بالعبادات وبمكارم الأخلاق، وتعليم الكتاب والحكمة هي التربية العقلية. وسعادة الإنسان وكماله متوقفان على تربية جسمه وعقله، وأخلاقه وروحه. وكما اهتم الإسلام بتربية البشر، فقد اعتنى أيضاً برجال التربية، وحث على احترامهم وتقديرهم، وفرض محبتهم، وأوجب طاعتهم فأعظم المربين، وسيد الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب الله محبته .. وطاعته .. وحذر من معصيته. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِين» متفق عليه (¬1). وأوجب الله طاعته بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132]. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (15)، ومسلم برقم (44) واللفظ له.

وحذر من معصيته بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]. والحلقة المفقودة في حياة المسلمين اليوم هي انعدام المربين القادرين أو قلتهم، مع أن وجودهم ضروري لكمال الأمة وسعادتها. ومما يزيد في المحنة ويضاعف الألم أن الأمة الإسلامية لطول ما فقدت التربية الصحيحة قد فقدت الاستعداد النفسي لقبول التربية، ومن هنا فلا فائدة من وجود الدواء والأطباء إذا كان المريض يرفض التداوي به ويأباه، ومن هنا كان الخطر جسيماً، وزوال المرض عسيراً. ولعل خير من يقوم بتهيئة الأمة لقبول التربية هم المربون الصالحون الصادقون، بما يوجهون به الأمة للاقتداء بخير القرون في العبادة .. والدعوة .. والتعليم .. وحسن الخلق .. وحسن المعاملات .. حسب ما ورد في كتاب ربهم .. وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .. وذلك بطريقتين: جماعية وفردية. فالجماعية: هي أن يتعاون المسلمون فيما بينهم، ويعيدون للمسجد دوره، ويجتمعون فيه كل يوم، ويتشاورون في أعمال الدين، وكيف يؤدونها، وكيف يكونون سبباً لنشرها في العالم، وكيف يفرغون الأوقات ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم ليكون الدين كله لله، ويتحقق مراد الله من عباده، وبذلك يزيد إيمانهم، وتصلح أعمالهم، وتحسن أخلاقهم، ويكونون أمة يقتدى بهم. ويختارون عالماً بالكتاب والسنة مقتدياً بسلف الأمة، ويسندون له أمر تعليمهم، وتربية عقولهم وأرواحهم وأخلاقهم، ويعاهدونه على السمع والطاعة، فيعلمهم الكتاب والسنة، ويزكيهم بالأخلاق والآداب الإسلامية. وهذه الطريقة هي التي سلكها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه مدة حياته، فقد اتخذ دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة مجلساً له ولأصحابه يعلمهم ما يوحى إليه، ويربيهم بأوامر ربهم، ويعرفهم بعظمة ربهم ليكبروه، وبنعمه ليشكروه، وباليوم الآخر وما فيه ليتقوه.

ولما انتقل إلى المدينة - صلى الله عليه وسلم -، كان أول عمل قام به هو بناء مسجد قباء، حيث بناه وجمع المؤمنين من ذلك الحي فيه، وأخذ يعلمهم ويربيهم بما يزكي قلوبهم، ويصلح نفوسهم. ولما دخل - صلى الله عليه وسلم - المدينة كان أول عمل قام به هو بناء المسجد النبوي، وجمع فيه المهاجرين والأنصار يصلي بهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويتشاور معهم في إقامة الدين، وبعث المعلمين والدعاة والمجاهدين إلى أقطار الأرض. ويستقبل فيه الوفود، والراغبين في الإسلام، ويعلمهم ويكرمهم. وما هي إلا أيام وشهور وإذا رجال ونساء يتخرجون من هذا المسجد، هم خير رجال ونساء في العالم، إيماناً وتقوى، وعلماً وحكمة، وإحساناً ورحمة. وعنه عليه الصلاة والسلام أخذ هذه الطريقة التربوية أصحابه، فكانوا نماذج في كمال التربية الإسلامية، ربوا الأمم والشعوب التي فتحوا بلادها على الطهر والصفاء، والعزة والكرامة، والصدق والمحبة. ولما مات أولئك المربون الصادقون أقفرت الدنيا، وأصابها الظلام، وحل بها الخراب والدمار إلا ما شاء ربك. أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً .. وأعمقها علماً .. وأقلها تكلفاً .. وأحسنها أخلاقاً .. وأصدقها حديثاً .. رضي الله عنهم ورضوا عنه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} ... [التوبة: 100]. هذه هي الطريقة التربوية الجماعية النافعة، فإن تعذرت يصار في إصلاح النفس إلى الطريقة التربوية الفردية. فمن أراد تزكية نفسه وتكميلها، فإن عليه أن يخطو في تربية نفسه خطوتين: الأولى: أن يُلزم نفسه وإن كانت كارهة بالقيام بالفرائض الدينية والواجبات

الشرعية، ويلزمها فوراً بترك كل ما نهى الله ورسوله عنه ويأخذها في الفعل والترك بالقوة والحزم. ثم يأخذ في رياضتها على فعل نوافل العبادات المختلفة من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وعلى التحلي بمكارم الأخلاق، وجميل الآداب. والخطوة الثانية: أن يبحث عن عبد صالح عالم بالكتاب والسنة، وسيرة سلف الأمة، بصير بعيوب النفس، خبير بأحوالها، ويطلب منه التعاون معه على البر والتقوى، وبذل النصيحة، وإعانته على تربية نفسه، وحملها على طاعة الله. ويتعهد له بالطاعة الكاملة فيما يأمره وينهاه مما ورد في شرع الله ويصبر على ذلك، كما فعل موسى - صلى الله عليه وسلم - مع الخضر حين قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} ... [الكهف: 66]. فقال الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)} [الكهف: 67، 68]. فقال موسى - صلى الله عليه وسلم -: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 69]. إن الطريق إلى الله سُكَّته الإيمان والأعمال الصالحة، والطريق إلى غير الله سُكَّته الأموال والأشياء. والعاقل يضحي بالغالي لما هو أغلى منه، وهو الإيمان والأعمال الصالحة، وعمارة الدار الآخرة. والإيمان الحقيقي هو الذي يدفع المسلم لتقديم أوامر الله على كل شيء. وكل ما نراه في العالم من انتشار الشرك والقتل والزنا، والظلم والجهل، وفشو المنكرات والفواحش، ومحاربة الإسلام وأهله، فتلك وأمثالها أعراض لا أمراض، فإن ضعف الجسم نتيجة وليس سبباً. والعلاج الصحيح أن نعالج المرض الأصلي، الذي أدى إلى ظهور هذه الأعراض في المسلمين وغيرهم، ومن ثم تزول تلك الأعراض من نفسها، ويتم بناء الإنسان وفق مراد الله منه بالعلم والإيمان والتوحيد، وأحسن الأخلاق.

ويتحقق ذلك بثلاثة أمور: الأول: إصلاح جهاز الإرسال، وذلك باختيار أهل الإيمان والتقوى من العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ، ليتم تعليم وتوجيه الأمة وتربيتها بواسطتهم كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. الثاني: اختيار المادة المرسلة، وذلك بأن يتم توجيه وتعليم وتربية الأمة من مصدرين كاملين لا ثالث لهما، وهما كتاب الله وسنة رسوله، ويطرح ما سواهما من كتب البدع والأباطيل، لتنشأ الأمة على معرفة الحق والعمل به وترك ما سواه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. الثالث: تصفية جهاز الاستقبال، وذلك بتنقيته مما يمنع وصول الصوت وقبوله من الهوى والشبهات والشهوات، فإذا صُفَّي ونُظِّف من ذلك سهل على الإنسان معرفة ربه ومعبوده وخالقه ورازقه، ثم استقبل الأحكام والأوامر الشرعية عن حب ومعرفة وإيمان، وتلذذ بأدائها، وسُرَّ بفعلها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]. وسفينة الدين يجب المحافظة عليها؛ لئلا تغرق في بحار الجاهلية، والدين مسئولية الأمة جميعاً. ترك الصلاة خرق في السفينة .. وترك الزكاة خرق في السفينة .. وترك الدعوة إلى الله خرق في السفينة .. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرق في السفنية .. وترك النصيحة خرق في السفينة .. ومخالفة أوامر الله ورسوله خرق في السفينة. فاحذر أن تخرق السفينة، أو تسكت عمن يخرق السفينة، فإن لمن فعل ذلك خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ

الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. والمؤمنون هم لب العالم، وصفوة بني آدم، وقد وصفهم الله بصفات كريمة، إذا اتصف المسلم بها نال السعادة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة وهم: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 20 - 24]. والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له، والله عنده خزائن كل شيء، ويفعل ما يشاء بقدرته، ولا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه الذي جعل الفوز والفلاح لكل إنسان بامتثال أوامرالله على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالأنبياء والمرسلون كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أفلحوا هم وأتباعهم في الدنيا والآخرة مع قلة الأسباب، ونمرود وقارون وفرعون وأمثالهم خسروا في الدنيا والآخرة مع وجود أعظم الأسباب. ومن يطع الله ورسوله في التوحيد والإيمان، ثم في الأوامر على اختلاف درجاتها ويجتنب ما نهى الله ورسوله عنه من الشرك ثم المعاصي والمحرمات على اختلاف درجاتها، واستقام على ذلك حتى يلقى ربه. فهذا قد فاز بالجنة ونجا من النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13]. ومن كفر بالله وعصى الله ورسوله أدخله الله النار كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].

ويدخل في اسم المعصية الكفر وما دونه من المعاصي. فالله سبحانه رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله معصية تامة فيها الشرك وما دونه دخل النار وخُلِّد فيها. ومن اجتمع فيه طاعة ومعصية كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية، فالموحدون الذين لهم معاصي يعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم الله إلى الجنة؛ لأن ما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود في النار. وأنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده تدبر القرآن، وجمع الفكر على معانيه وأحكامه وآدابه وعلومه. فآيات الله القرآنية تُطْلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وتبين له طرقهما وثمراتهما ومآل أهلهما .. وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة في الدنيا والآخرة .. وتزكي عقله بالعلوم النافعة .. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه .. وتريه صورة الدنيا الفانية والآخرة الباقية .. وتريه صورة الجنة والنار .. وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم .. وتعرفه بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعدله وإحسانه .. وتبين له ما يحبه الله ويرضاه .. وما يكرهه ويسخطه من الأقوال والأعمال. وتُعرِّف العبد بالطريق الموصل إلى ربه .. وما له بعد القدوم عليه من الكرامة. وتعرفه كذلك بالشيطان وما يدعو إليه .. والطريق الموصلة إليه .. وما لمن أطاعه من الإهانة والعذاب يوم القيامة. فهذه الأمور الستة ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها، فبها يتميز له الحق من الباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً، ويكون له بمعرفتها فرقان ونور يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه وانشراحاً في صدره.

فما أحسن تدبر القرآن، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، والعمل بسننه وأحكامه، والتفكر في معاني آياته: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. والدواء كله يدور على أصلين: حمية من الضار .. وحفظ الصحة بتناول الطيبات. فإذا وقع التخليط احتاج الإنسان إلى الاستفراغ الموافق، فمدار الطب على هذه القواعد الثلاث. والحمية حميتان: حمية عما يجلب المرض، وهذه حمية الأصحاء. وحمية عما يزيد المرض، وهي حمية المرضى، فالمريض إذا احتمى وقف مرضه. وكذلك الاستقامة تقوم على أصلين: فعل الأوامر .. واجتناب النواهي. فإذا قصر العبد في فعل الأوامر، وارتكب المناهي، احتاج مع هذا التخليط إلى الاستفراغ بالتوبة النصوح لتزول عنه ذنوبه، ويعود إلى حاله. والله عزَّ وجلَّ أكرم هذه الأمة بهذا الدين، وجهد سيد المرسلين، فهي خير الأمم على الإطلاق، وخير الناس للناس. فدينها أحسن الأديان كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} ... [النساء: 125]. وكتابها أحسن الكتب كما قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر: 23]. ورسولها سيد الخلق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ

عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (¬1). والدعوة إلى الله أحسن أعمالها كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. وهم أحسن الأمم على الإطلاق كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110]. فلله الحمد والشكر حيث أكرم هذه الأمة بأحسن الأديان .. وأحسن الأقوال .. وأحسن الأعمال .. وأحسن الأخلاق .. وشرف هذه الأمة بأحسن الوظائف وأشرفها وهي الدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. والله تبارك وتعالى أعطانا أعظم شيء في خزائنه وهو الإيمان والتوحيد، وطلب منا القيام بالأعمال الصالحة التي تصلح بها حياتنا في الدنيا والآخرة. لكن العمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن تعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له. والتائه الضال إذا طلعت الشمس عرف الطريق وميز الحجر من الذهب، والحية من الحبل، وكذا إذا جاء نور الإيمان ميز الإنسان الحق من الباطل، بين الدنيا والآخرة، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ورأى كل شيء على حقيقته، وقدم ما يحبه الرب على ما تحبه النفس. والقلب إذا زاد فيه نور الإيمان أناب إلى الله، وأحب الطاعات وكره المعاصي. والإيمان يزيد بالطاعات، والدعوة إلى الله، وبالدعوة تنزل الهداية على الخلق، ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2278).

لكن الباطل لا ينكسر إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله. والإيمان والتوحيد والعبادة حق الله على العباد .. فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق جميعاً .. ليؤدوا هذه الأعمال والوظائف لله رب العالمين كما تؤديها جميع الكائنات والمخلوقات لله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} ... [الحج: 18]. وحقيقة الدين اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى وعده ووعيده. وإذا جاء هذا اليقين تغيرت العواطف كلها من المخلوق إلى الخالق، ومن الدنيا إلى الآخرة، ومن العادات إلى السنن. وجميع المخلوقات في قبضة الله .. فلا يكون شيء إلا بإذنه وعلمه .. ولا يتحرك شيء إلا بأمره .. ولا يسكن إلا بأمره .. فله سبحانه الخلق كله .. وله الأمر كله كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وكما أن أعضاء الإنسان كلها لا تتحرك إلا بوجود روحه، فكذلك هذا العالم وما فيه كالخردلة بيد الله لا يبقى ولا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره سبحانه. والقلوب محل نظر الرب سبحانه، وليس لقلوب العباد سرور ولا لذة تامة إلا بمعرفة الله ومحبته والتقرب إليه بما يحب، ولا تكون محبته خالصة إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه. والإنسان عند طلب العلم الشرعي لا بدَّ أن يرى الله ويعلم أنه طالب راغب فيما عند الله، ثم الله ينفعه بما علم. والأنبياء والصحابة عندهم فقه الدين، وأكثر الناس عندهم فقه الدنيا والشهوات، ولذلك صارت عندهم الغيرة على الدين أن ينقص؛ لأنهم اجتهدوا عليه، وضحوا بكل شيء من أجله.

ونحن عندنا الغيرة على الدنيا والشهوات أن تنقص؛ لأننا اجتهدنا على ذلك، وكل قلب اشتغل بشيء جاءت عنده العواطف لتحصيله وتكميله. وإذا ضعف الإيمان سعى الناس لجمع الأموال وتكميل الشهوات، وانصرفوا عن تقوية الإيمان، وتكميل الأعمال الصالحة كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. والله عزَّ وجلَّ خلقنا لعبادته، وتكميل الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق والسنن والواجبات، لا لتكميل الأموال والشهوات والأشياء كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. فكل من أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والتقوى، والعدل والإحسان، والصبر والتوبة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فالله يكمل محبوباته في الدنيا بالحياة الطيبة وفي الآخرة بالثواب الجزيل في الجنة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه وأقوى منه، ولا قيمة لأحد عند الله إلا بالإيمان والأعمال الصالحة فقط، فمن جاء بذلك أكرمه الله بالجنة يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 107، 108]. وكما يحتاج الإنسان كل يوم إلى الطعام والشراب لصلاح بدنه، كذلك يحتاج إلى الإيمان والأعمال الصالحة لصلاح قلبه.

ولا بدَّ لكل مسلم من أمرين: العلم .. والذكر. فالعلم لتحسين صورة العمل .. والذكر لترغيب النفس في العمل، والإكثار منه بذكر فضائله وحسن ثوابه. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بتعلم أحكام الدين ليكون العمل موافقاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. وأمرنا سبحانه بتذكير الخلق بربهم وخالقهم ورازقهم .. تذكيرهم بعظمة الله ليعظموه .. وتذكيرهم بنعمه وإحسانه ليشكروه .. وتذكيرهم بدينه وشرعه .. وأمره ونهيه ليعبدوه ويطيعوه .. وتذكيرهم بما أعد لهم من الثواب والعقاب ليقبلوا على طاعته، ويحذروا من معصيته كما قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]. وقد أمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يُذكِّر بالله وآياته وشرعه كما قال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [الأعلى: 9 - 19]. فعلى كل مسلم أن يُذكِّر بهذه الأوامر الحسنة، والأخبار الصادقة، فهذه أوامر في كل شريعة، وهي هامة لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان. وبالإيمان والتوحيد والتذكير تطمئن القلوب بذكر الله .. وتنشط الجوارح لطاعة الله .. وتتحرك الألسنة بذكره وحمده وشكره. والإيمان درجات، وهو يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. وإذا ضعف الإيمان ضعفت الأعمال وقلَّت، فيمكن أن تؤدى به العبادات

كالصلاة والصيام، والذكر وتلاوة القرآن ونحوها. أما حسن الأخلاق مع البشر، وحسن المعاملات، وحسن المعاشرات، فلا تكمل إلا بالإيمان الكامل، والإيمان الكامل لا يأتي إلا بالمجاهدة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وبعد بذل الجهد لإعلاء كلمة الله تأتي الهداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. فعلينا أن نؤدي الأمانة .. ونستقيم على أوامر الله .. ونقوم بالدعوة إلى الله بالأسباب إن وجدت، وبدون الأسباب إن لم توجد، والله يفتح لنا البركات، ويعطينا من خزائنه لنصرة دينه كما أمد المسلمين في غزوة بدر بالملائكة، وأنزل عليهم النصر مع قلة عددهم وعدتهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123]. وللاستفادة من قدرة الله ومن خزائن الله طريق واحد فقط هو الإيمان والتقوى بامتثال أوامر الله على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96]. وشريعة الله للبشر منذ عهد آدم إلى بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هي جزء من تشريعه للكون، فالمخلوقات كلها تسير وفق أوامرالله الكونية، وأوامرالله الشرعية خاصة بالمكلفين من الإنس والجن، فمن شاء آمن، ومن شاء كفر، ومدار الثواب والعقاب على ما اختار العبد لنفسه. فالأوامر الكونية والشرعية كلها من الله وحده، وطاعة الأوامر الشرعية سبب للفوز والفلاح، ومخالفة الأوامر الشرعية سبب للخسارة والهلاك كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ

مُهِينٌ (14)} [النساء: 13، 14]. والدين خطوتان: خطوة للعبادة .. وخطوة للدعوة .. وحياة النبي شيء .. وجهد النبي شيء آخر .. فحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي العبودية لله في جميع الأوقات والأحوال كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163]. تارة بين المخلوق والخالق بالعبادة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4]. وتارة بين المخلوق والمخلوق بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5]. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثوا عنه حياته وجهده، وقاموا مع رسول الله بذلك حتى انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ورضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} ... [التوبة: 100]. وكثير من الناس يحب حياة النبي (، ويترك جهد النبي (في الدعوة والنصح للأمة، ولا فلاح ولا نجاة إلا بهذا وهذا كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. والكفار من شياطين الإنس والجن يكرهون حياة النبي (، وجهد النبي (، ويحاربون بكل وسيلة من يقتدي بالنبي، ويقوم بجهد النبي، فهؤلاء لهم الشقاء في الدنيا والعذاب الشديد يوم القيامة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88]. ومن سمع الحق وعارضه وقاومه ولاه الله في الدنيا ما يتجهز به لنار جهنم كما

قال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلموا حياة النبي (بكافة جوانبها في جميع الأحوال، ويتعلموا جهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، ويستعملوا جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [الشورى: 15]. وبذلك يرضى الله عنا .. وتنزل الهداية .. والرحمة .. والنصر .. ويستجاب الدعاء .. وتحصل العزة. وبسبب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة دخل الناس في دين الله أفراداً .. وبعد كمال التضحية دخل الناس في دين الله أفواجاً. وبسبب ضعف الإيمان وترك الدعوة بدأ الناس يخرجون من الدين أفراداً ثم أفواجاً، وصارت الأمة تخاف من المخلوق ولا تخاف من الخالق، وتخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش العزيز الجبار الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير. وحين كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله كانت كل يوم تنزل الهداية، ويزيد الإيمان، ويظهر الحق ويزهق الباطل وينزل النصر، وتحصل البركات، وتنتشر الهداية. فالعابد ميدانه نفسه .. والداعي ميدانه نفسه وكل الناس .. وكلاهما مطلوب لكن البحر لا يقارن بالقطرة. والداعي يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، والعابد هو الذي سَلَّم قلبه وجوارحه لربه. فطوبى لمن رزقه الله ذلك كله، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل

العظيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. والدنيا لها جهد .. والدين له جهد، ولا بد من القيام بهما معاً لتصلح أحوالنا في الدنيا والآخرة، فللدنيا أسباب وللآخرة أسباب، لكن ينبغي العمل لكل واحدة بقدر بقائنا فيها، والدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئاً. والصحابة رضي الله عنهم لما عرفوا ذلك قدموا جهد الدين على جهد الدنيا فنزلت الهدايات، وجاءت المنافع والبركات والفتوحات. والأمة الآن لما قدمت جهد الدنيا على جهد الدين أغلقت أبواب الهداية، وأصابتها الذلة، وحلت بها المصائب، وانتشرت فيها المعاصي، وتسلط عليها الأعداء. إنه من العجيب حقاً، بل من المؤسف حقاً، أن تقف الأمة ضد مرتكب الجريمة في شأن المخلوق كالقاتل والسارق ولا تقف ضد مرتكب الجريمة في شأن أحكم الحاكمين بالكفر والشرك والبدع والمعاصي. فلا تهتز قلوبها لرحمته .. ولا تنطق ألسنتها بدعوته .. ولا تتحرك جوارحها لهدايته وإرشاده إلى الصراط المستقيم. والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. والله عزَّ وجلَّ له مراد من عبده كما أن للعبد مراد من ربه .. ومراد الرب من عبده لمصلحة العبد .. فالله غني عن العالمين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. كما أن مراد العبد من ربه لمصلحته هو كذلك كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} ... [العنكبوت: 69]. فأما مراد الله من الخلق فسبعة أمور هي: الأول: الإيمان والتوحيد كما قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]. الثاني: العبادة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]. الثالث: تعلم العلم الإلهي وتعليمه كما قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19]. وقال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79]. الرابع: طاعة الله ورسوله في كل أمر كما قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132]. الخامس: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. السادس: الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} ... [البقرة: 193]. السابع: الاستغفار والتوبة من الخطأ والتقصير كما قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]. هذا أعظم ما يريده الله من عباده، فإذا حقق العباد مراد الله منهم بالإيمان والتوحيد .. وعبادة الله وحده لا شريك له .. وتعلم دينه وشرعه وتعليمه .. وطاعة الله ورسوله في كل أمر .. والدعوة إلى الله .. والأمر بالمعروف .. والنهي عن المنكر .. والجهاد في سبيل الله .. وكثرة الاستغفار والتوبة من الخطأ والتقصير. إذا حقق العباد ذلك أكرمهم الله تعالى بسبع كرامات هي أعظم مراد الخلق من ربهم وهي:

الأول: الهداية إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} ... [العنكبوت: 69]. الثانية: الحياة الطيبة في الدنيا كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. الثالثة: رضا الله عنهم كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. الرابعة: دخولهم الجنة كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72]. الخامسة: رؤية الرب عزَّ وجلَّ في الجنة كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]. السادسة: القرب من الرب في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} ... [القمر: 54، 55]. السابعة: سماع كلام الرب وسلامه في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 55 - 58]. ألا ما أعظم هذه الكرامات .. وما أعلى هذه الدرجات .. وما أحسن هذه التشريفات .. وما أكمل هذه المقامات. فمن أراد هذا كله كاملاً موفراً فليحقق مراد الله منه، ليهنأ بما يريده من ربه ويتمناه لنفسه، ويسعد به إلى الأبد بالهداية إلى الصراط المستقيم .. والحصول على رضوان ربه .. والفوز بالجنة .. والنجاة من النار .. ورؤية ربه في الجنة .. والقرب منه .. وسماع كلامه .. والخلود الدائم في هذا النعيم المقيم كما قال

سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} ... [البينة: 7، 8]. يا حسرة على البشرية كم ضلت وأضلت وشقيت باتباع غير منهج الله؟. يا حسرة على الإنسانية حين قادها العُمْي والشياطين وأضلوها عن سواء السبيل، وساقوها صراط الجحيم. فهي كافرة بربها .. راكعة لهواها وشهواتها .. عاصية لخالقها .. مطيعة لعدوها .. تطيع الشيطان .. وتكفر بالرحمن: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. فواعجباً للبصير الذي نَوَّر الله قلبه بالإيمان كيف يهتدي ويقتدي بالعمي الذين لا يبصرون، وأهل الجهل الذين لا يعلمون: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد: 19]. فليس الفلاح والنجاة إلا بالحق، واتباع أهل الحق من الرسل والأنبياء وأتباعهم. والذين لا يستجيبون لهذا الحق هم بشهادة الله سبحانه عمي لا يتفكرون ولا يعقلون، والذين يستجيبون له هم أولو الألباب، وهؤلاء هم الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله، وتستجيب لطاعته، وتستلذ بمحبته وعبادته وامتثال أوامره، وتسكن لذلك وتستريح. وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضاً عن ربه وعن هذا الحق الذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن هي إلا جبلات مطموسة .. وقلوب منكوسة .. وكائنات معطلة لا تشعر بعبودية المخلوقات لربها، وتسبيحها بحمده .. ولا تحس بطاعة الوجود كله لربه، وهو يسبح بحمده، وينطق بوحدانيته ويخضع لقدرته وتدبيره وتقديره كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ

صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]. وإذا تقرر أن الذين لا يؤمنون بهذا الحق عمي بشهادة الله عزَّ وجلَّ فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله، أن يتلقى في أي شأن من شئون الحياة عن أعمى. سواء في عباداته أو معاملاته أو معاشراته، أو أخلاقه أو نظام حياته. فلا يليق بمسلم قط يعرف هدى الله، ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى، ولم يعلم أنه الحق، فهو أعمى بشهادة الله .. ولن يرد شهادة الله مسلم .. ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} ... [المائدة: 50]. فكل نتاج فكري غير إسلامي ينظم حياة الناس ما عدا العلوم المادية البحتة كل ذلك من الجاهلية، واقتداء بالعمي، ورد لشهادة الله، وهو كفر بواح لمن اهتدى به. ومن العجيب أن من الناس من يزعم أنه مسلم، ثم يأخذ في منهج الحياة البشرية عن الشرق أو الغرب، من الذين يقول الله عنهم أنهم عمي، ثم يظل يزعم أنه مسلم. إن هذا الدين حق لا باطل فيه .. جد لا هزل فيه .. كامل لا نقص فيه .. وحق في كل آية فيه .. وكل نص فيه .. وكل كلمة فيه. فمن لم يجد في نفسه هذا اليقين، وهذا الجد، وهذه الثقة، فما أغنى هذا الدين عنه، وما أجدره بالعقوبة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85]. فلا يجوز للمسلم أن يزهد بدينه، ولا ببعض أحكام دينه، ولا أن يثقل الواقع الجاهلي على حس المسلم حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته، وهو يعلم

أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق أعمى، ثم يتبع هذا الأعمى ويتلقى عنه، بعد شهادة الله تبارك وتعالى. إن هناك علاقة وثيقة بين الصلاح الذي يعم حياة البشر في هذه الأرض، وبين أولي الألباب الذين يؤمنون بالحق ويعملون به ويدعون إليه: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 20 - 24]. كما أن هناك علاقة متينة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض، وبين أولئك العمي عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والخير والصلاح كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. فالذين يعلمون أن الإسلام هو الحق ويستجيبون له هم الذين يُصلحون في الأرض، وتزكو بهم الحياة. كما أن الذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عند الله، ويعلمون أنه وحده الحق، هم الذين يفسدون في الأرض. إن الفوز والنجاة، والسعادة والفلاح، لا يمكن أن تحصل للبشرية إلا بالإسلام الذي ارتضاه للبشرية ديناً إلى يوم القيامة. وحياة الناس لا تصلح قطعاً إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق. ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة .. وبعهد الله على آدم وذريته أن يعبدوا الله وحده .. فيدينوا له وحده ولا يتلقوا عن غيره .. ويطيعون ربهم ولا يتبعوا إلا أمره

ونهيه .. ومن ثم يَصِلون ما أمر الله به أن يوصل .. ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه .. ويخافون سوء الحساب فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة .. ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ودينه بكل تكاليف الاستقامة .. ويتصلون بربهم بإقامة الصلاة على الدوام لربهم تعظيماً له وتكبيراً وحمداً وشكراً وسؤالاً واستغفاراً .. وينفقون مما رزقهم الله في سبل مرضاته سراً وعلانية .. ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان. فما أعظم هذه الأصول .. وما أحسن هذه الصفات .. وما أصلح أهلها .. وما أجل ما يقدمونه لربهم من تعظيم وحمد وطاعة .. وما أعظم ما يحسنون به إلى أنفسهم وللبشرية من منافع وخير وصلاح: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 18]. إن حياة الناس في الأرض لا تصلح قطعاً إلا بمثل هذه القيادة المبصرة التي تسير على هدى الله وحده، والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه، وتستن بجميع ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وتنشأ عن هذه القيادة المبصرة الاستقامة والعزة، والهداية والأمن، والسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32]. إن الأمم لا تصلح أبداً بالقيادات الضالة العمياء التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وحده، والتي تتبع مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه لعباده الصالحين. إنها لا تصلح بمناهج الشرق أو الغرب، ولا تصلح بأي منهج قومي أو قبلي أو

عالمي من نتاج البشر. إن هذا كله من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد هو الحق وحده، الذي لا يجوز العدول عنه ولا التعديل فيه. إنها لا تصلح بالقسوة والبطش والظلم .. ولا تصلح بالحرية والتميُّع .. وإطلاق الشهوات كالبهائم والأنعام. فكل هذه المناهج سواء في كونها من مناهج العمي الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله، ويفعلون ما يشاؤون. فيضعون مناهج الحكم ومناهج الحياة حسب أهوائهم .. ويُشرِّعون للناس ما لم يأذن به الله .. ويلزمون الناس بتنفيذه والعمل به .. ولو لم يأذن به الله .. ولو كان يُغضب الله .. ولو كان يشقى به الناس في الدنيا والآخرة، فما أشد جرم من صرف الناس عن هدى الله وأضلهم عنه بغير علم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} ... [القصص: 50]. وآية هذا .. وبسبب قيادة العمي .. وطاعة العمي .. وتشريع العمي .. ودعوة العمي .. حل بالبشرية هذا البلاء العظيم .. وانفجر فيها هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض .. وهذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها .. وتلك سنة الله التي لا تتبدل كما قال الله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 124 - 126]. إن المؤمن حقاً يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أُنزل على محمد هو الحق كل دين غير دين الله .. وكل منهج للحياة غير منهج الله .. وكل شرع ومذهب ومنهج غير المنهج الوحيد .. والمذهب الوحيد .. والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده.

ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من غير الله هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وهذا الاعتراف فوق أنه يناقض مفهوم الإسلام، هو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. فهذا الفساد العظيم الذي حصل للبشرية في أنحاء الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27]. ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله، وما زالت تتخبط بين شتى الشرائع وشتى المناهج وشتى الأوضاع التي جَرَّت البشرية إلى كل بلاء وفتنة وشر، بقيادة أولئك العمي الذين يخدعون الناس بلباس أردية الفكر والعلم والحرية والوعود الكاذبة على مدار القرون. ولا سعادة للبشرية في الدنيا والآخرة إلا أن تفيء إلى أمر الله .. إلى المنهج الرباني .. إلى الإيمان بالله ورسوله .. إلى طاعة الله ورسوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} ... [النساء: 66 - 70]. إن مسئولية كل مسلم ومسلمة أربعة أعمال، وهذه الأعمال هي مجموع وظائف الدين وهي: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين.

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4]. فيا سعادة من هو عابد لربه: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9]. ويا سعادة من هو داع إلى الله وإلى دين الله وشرعه في مشارق الأرض ومغاربها، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له. وما أعلى درجات من هو معلِّم لدين الله في جميع أوساط المسلمين، ليعبد الناس ربهم على بصيرة. وما أعظم حسنات من أنفق ماله في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله. ويا بشرى لكل من جاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. ويا بشرى لكل من بادر للقيام بالأعمال الصالحة ابتغاء وجه ربه الأعلى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} ... [البقرة: 25]. هذا ما ندعو إليه .. وهذا ما نحبه لأنفسنا .. وهذا ما نحبه لكل إنسان إلى يوم القيامة: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52]. وكل ما نحبه ونرجوه أن يصلح الله أحوال الأمة في الدنيا .. وأن يسكنهم الجنة في الآخرة .. وأن يهديهم إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88]. اللهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53]. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74]. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} [النمل: 19]. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} [نوح: 28]. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201]. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 286]. {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ، وَبِكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَأسْرَرْتُ وَأعْلَنْتُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ» متفق عليه (¬1). «اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7442) واللفظ له ومسلم برقم (769).

مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (¬1). «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» أخرجه أحمد والترمذي (¬2). «أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وَبِالإِسْلامِ دِينًا» أخرجه مسلم (¬3). سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]. تم الفراغ منه بفضل الله وعونه وتوفيقه يوم الإثنين السادس عشر من شهر رجب من عام 1427هـ. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2704) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (10420). وأخرجه الترمذي برقم (3433)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2730). (¬3) أخرجه مسلم برقم (386).

§1/1