موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق

ياسر عبد الرحمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى للناشر 1428 هـ - 2007 م رقم الإيداع: 24181/ 2006 الترقيم الدولي: I.S.B.N 8-006-441-977 مركز السلام للتجهيز الفني عبد الحميد عمر 0106962647 مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة 10 ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط القاهرة ت: 5326610 محمول: 0102327302 - 0101175447 WWW.Iqraakotob.com Email:[email protected]

إهداء

إهداء إلى كل من علمني حرفًا من القرآن وأرشدني إلى طريق الإيمان إلى أمي التي سهرت على راحتي إلى أبي الذي تعب في ترييتي إلى زوجتي التي ساعدتني إلى ابنتي واسأل الله أن يبارك فيها إلى كل من كان له فضل عليَّ ياسر عبد الرحمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان القوي يلد الخلق القوي حتمًا، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، فالرجل الذي يؤذي جيرانه يحكم الله عليه حكمًا قاسيًا فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا والله لا يؤمن، لا والله لا يؤمن، لا والله لا يؤمن قالوا: من ذاك يا رسول الله؟ قال: جار لا يأمن جاره بوائقه، قيل: وما بوائقه، قال:

شره" [رواه أحمد]، ويعلم الرسول أصحابه الإعراض عن اللغو فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" [رواه البخاري]. على أن المنتسبين للإسلام يستسهلون أداء العبادات المطلوبة، ولكنهم يعملون أعمالاً يأباها الخلق القويم، وفي هذا ورد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رجل: يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها! قال: "هى في النار" ثم قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط (الأثوار جمع ثور وهو القطعة من الأقط وهو اللبن المجفف) ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: "هى في الجنة" [أرواه أحمد]. ولقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يومًا فقال: "أتدرون من المفلس؟ ". قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" [رواه مسلم]. ودائرة الأخلاق تشمل الجميع، فقد ذبحت شاة لابن عمر فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ والهدف من كتابة هذه الموسوعة هو مواجهة التدهور الأخلاقي الموجود في المجتمع. يقول محمد الغزالي: العبادات التي شرعت في الإسلام ليست طقوسًا مبهمة بل هي تمارين متكررة؛ لتعود المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها. والزكاة المفروضة ليست ضريبة، ولكنها غرس لمشاعر الحنان والرأفة لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ومن أجل ذلك وسع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دلالة كلمة الصدقة فقال - صلى الله عليه وسلم - "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة، وبصرك للرجل الردئ البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو

أخيك لك صدقة" [رواه الترمذي]. وكذلك شرع الإسلام الصوم؛ فلم ينظر أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل حرمان النفس من شهواتها المحظورة؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [رواه البخاري]، والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وقد يحسب الإنسان أن الحج مجرد رحلة بعيدة عن المعاني الحقيقية، وهذا خطأ، والله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وهذه الموسوعة تحتوي على مجموعة من الأخلاق والصفات متضمنة القصص التربوية، وقمت بمراعاة الآتي في الموسوعة: - قمت بالتعليق بعد معظم القصص بسؤال أو نصيحة أو توجيه تربوي لننتقل من ميدان القول إلى ميدان العمل، فليس الهدف من الموسوعة سرد القصص فحسب بل الالتزام بالمفاهيم التربوية والأخلاق الإسلامية. - الإكثار من القصص لما لها من تأثير على النفوس، ونجد أن كثيرًا من الناس يتأثر بالقصص أكثر من الموعظة المجردة، فالهدف هو اكتساب الأخلاق، فإذا تحققت فيك هذه الصفة فاحمد الله، وإن لم تتحقق فجاهد نفسك في الالتزام بها، واستعن بالله ثم بإخوانك، ولا تتعجل في الانتقال إلى الصفة الثانية حتى تتحقق الأولى، وليس شرطًا قراءة الموسوعة من أولها، بل انظر إلى الصفة التي تجد فيها تقصيرًا في نفسك، واجتهد في الالتزام بها. يفضل قراءة صفة واحدة يوميًا أو أسبوعيًا مع نفسك وأهلك وإخوانك وأبنائك، وابحث كيف تتحقق فينا هذه الصفة عمليًا من خلال التوجيهات التربوية، وليكن شعارنا هذا الأسبوع مثلا "الصدق" أو "الأمانة". ننبه أن ما سيأتي من كلام ونصائح وإرشادات وتوجيهات ستبقى حبرًا على ورق ما لم تتقل إلى حيز التنفيذ، وتدخل عالم الواقع. ولا تنس أخي الحبيب الدعاء لمن كتب هذا الكتاب المتواضع بأن يكون هذا الجهد

في ميزان حسناته، وأن يتقبله منا خالصًا لوجهه الكريم، ونسعد بتقديم ملاحظاتكم للاستفادة منها. وسيجد القارئ بعض القصص قد تكررت في أكثر من صفة رأينا الإبقاء عليها لأهميتها ودلالتها، وهي مع ذلك قليلة العدد لا تكاد تلاحظ. هذا هو جهد المقل، إن يكن خيرًا فلله الحمد والفضل، فما تحرك قلمي إلا بإذنه، ولا تحرك فكري إلا برزقه، وما جمعت ورتبت إلا بعونه. وأعتذر عما قد يكون في هذا العمل من نقص، بما قال العماد الأصفهاني: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل استيلاء النقص على جملة البشر". وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسرًا تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى بي في النار، وهذا الجهد نسأل الله أن يتقبله وأن يجزي خيرًا كل من عمل فيه أو ساهم في نشره. والله نسأل أن ينفع به كل من قرأه واطلع عليه، وأن ينفعنا بنصيحته ويفيدنا برأيه. ***

الإخلاص

الإخلاص لقد أثبتت الأيام أننا في حاجة إلى إخلاص الأعمال لله تبارك وتعالى، وكان صحابة الني - صلى الله عليه وسلم - يحرصون على إخلاص أعمالهم لربهم، ويجددون نياتهم في كل وقت وحين، ومن ظن أن في إخلاصه إخلاصًا فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص، ولذا لابد أن يراقب كل منا نيته: ماذا أريد بأكلتي؟ ماذا أريد بكلمتي؟ فإن أراد بها وجه الله أمضاها وإلا تركها ثم جدد نيته. وقد وردت الآيات والأحاديث التي تحض على الإخلاص نذكر منها قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11]. وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرله إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" [متفق عليه]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [متفق عليه]. وسئل الني - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [متفق عليه]. قال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط. قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا

عشرة لا ينتفع بها

العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. قال بعض السلف: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية. وقال بعض العارفين: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء. وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عونًا لي على الحق، وقال علي كرم الله وجهه: روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت. ولقد كان معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- يضرب نفسه ويقول: يا نفسي أخلصي تتخلصي. وقال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. وقال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى. وكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس وكتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل. وقال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال. عشرة لا ينتفع بها: يقول ابن القيم: عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به. وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء. ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه في الآخرة. وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به. وبدن معطل من طاعته وخدمته.

من مظاهر الإخلاص

ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره. ووقت معطل عن استدراك فارط أو اغتنام به وقربة. وفكر يجول فيما لا ينفع. وخدمة من لا تُقربك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك. وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء، والله المستعان. من مظاهر الإخلاص: إخفاء الطاعات: قال رجل لتميم الداري: ما صلاتك بالليل؟ فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في سر أحب إلي من أن أصلي الليل كله ثم أقصه على الناس. وعن أبي بكر المروزي قال: كنت مع أبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) نحوًا من أربعة أشهر، فكان لا يدع قيام الليل، وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها .. كان يسر ذلك. صاحب النقب: حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنًا فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد حتى جاء رجل من عرض الجيش فدخله وعالج الباب فكسره، ففتحه الله عليهم. فنادى مسلمة على صحب النقب، فما جاء أحد، قال: فليدخل على ساعة يأتي. فأتى رجل فقال للحاجب: استأذن لي على الأمير. فقال: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه.

فأتى مسلمة فأخبره الحاجب فأذن له فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثًا. - ألا تسودوا اسمه في صحيفة الخليفة. - ولا تأمروا له بشيء. - ولا تسألوه من هو. فقال مسلمة: نعم، فمن هو؟ قال الرجل: أنا هو. ثم اختفى. فكان مسلمة لا يصلي صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب. ويقول عمرو بن العاص: ركعة بالليل خير من عشر بالنهار. وُيروي أن إبراهيم النخعي كان إذا دخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف غطاه. الخوف من الشهرة: قال إبراهيم بن أدهم: ما قرت عيني يومًا في الدنيا قط، إلا مرة واحدة: بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام، وكان بي البطن (مغص)، فجاء المؤذن وجرني برجلي حتى أخرجني من المسجد. وإنما قرت عينه لأن الرجل لم يعرفه، ولذا عامله بعنف، وجره من رجله كأنه مجرم، وهو الذي ترك الإمارة والثروة لله تعالى. وقال سليم بن حنطلة: بينما نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وهي لفتة عمرية نفيسة إلى ما قد تحدثه هذه المظاهر البسيطة في بدايتها من عواقب وآثار بعيدة الغور في نفسية الجماهير التابعة، والقادة المتبوعين. وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يومًا من منزله فاتبعه ناس، فالتفت إليهم، فقال: علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وخرج أبو أيوب السختياني في سفر، فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل.

ولا يفهم من هذه الآثار الدعوة إلى الانطوائية والعزلة، فإن الذين رُويت عنهم إنما هم أئمة ودعاة مصلحون. والشهرة في ذاتها ليست مذمومة، ولكن المذموم هو طلب الشهرة والزعامة والجاه والحرص عليها. ويقول الجنيد: إن لله عبادًا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع. وقال بشر الحافي: ما اتقى الله من أحب الشهرة. ويقول أبو حامد الغزالي في باب محاسبة النفس: (ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه ... أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلب من بعض الناس إليك، فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك أو أطاعك، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت، ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك؟ وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك، ولا ذكر من ذكرك، كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك". ويقول وهيب بن الورد: خالطت الناس خمسين سنة، فما وجدت رجلاً غفر لي ذنبًا فيما بيني وبينه، ولا وصلني إذا قطعته، ولا ستر عليَّ عورة، ولا أمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير. وقال الشافعي: من طلب الرياسة فرت منه، وإذا تصدر الحدث فاته علم كثير (¬1). فإذا قلت: أي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء! فكيف فاتهم فضيلة الخمول؟ فاعلم أن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم. نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى، فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به، فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك. وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض. ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (1/ 478).

سوء خاتمة المرائي

اتهام النفس: عن كنانة بن جبلة السلمي قال: قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك، فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني. وعن يونس قال: سمعت محمد بن واسع يقول: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني، من نتن ريحي. وقال مالك بن دينار: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شر من في السجد، لبادرتكم إليه. وقال أيضًا: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قالوا: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل. وقال له رجل: يا مرائي، قال: متى عرفت اسمي؟ ما عرف اسمي غيرك. وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: مات سفيان الثوري عندي، فلم اشتد به جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما أراك كثير الذنوب؟ فرفع سفيان شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت. وها هو الإمام ابن الجوزي يبكي عند الموت فيقول له تلاميذه: يا إمام ألست قد فعلت كذا وكذا؟ فقال: والله إنني أخشى أن أكون فرطت ونافقت فيحق عليَّ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} [الزمر: 47 - 48]. سوء خاتمة المرائي: قال منصور بن عمار رحمه الله: كان لي صديق مسرف على نفسه ثم تاب، وكنت أراه كثير العبادة والتهجد ففقدته أيامًا، فقيل لي: هو مريض. فأتيت إلى داره فخرجت إلىَّ ابنته فقالت: من تريد؟ قلت: فلانًا، فاستأذنت لي، ثم دخلت فوجدته في وسط الدار، وهو مضطجع على فراشه، وقد اسود وجهه، وأذرفت عيناه، وغلظت شفتاه، فقلت له وأنا خائف منه: يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله ففتح

الفرق بين النسيجين

عينيه فنظر إلي شزرًا، وغشي عليه، فقلت له ثانيًا: يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله، ثم ثالثًا، ففتح عينيه وقال: يا أخي منصور، هذه كلمة قد حيل بيني وبينها فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قلت له: يا أخي، أين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام؟ فقال: كان ذلك لغير الله، وكانت توبتي كاذبة، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني وأُذكر به، وكنت أفعل ذلك رياء للناس، فإذا خلوت إلى نفسي أغلقت الباب وأرخيت الستور، وشربت الخمور، وبارزت ربي بالمعاصي، ودمت على ذلك مدة فأصابني المرض، وأشرفت على الهلاك. الفرق بين النسيجين: لما أخذ دود القز ينسج الحرير أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج ثم نسجت وقالت: يا دودة القز لك نسج ولي نسج، ولا فرق بين النسيجين، قالت دودة القز: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق. قد يتصدق اثنان: الأول بدينار واحد، والثاني بمائة دينار. ويكون الأول أسبق من الثاني وأعلى منزلة. وقد يصلي رجل ركعتين والثاني الليل كله، ويكون الأول أسبق من الثاني وأعلى منزلة فالعبرة إذن ليست بكثرة العمل ولكن بالإخلاص وعلو الهمة. يقول الغزالي: "فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية، مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك، مع التعب الكثير، والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة، والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكون صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله". ولا يفهم من ذلك الاقتصار في العبادة، ولكن يجب الزيادة في العمل مع الإخلاص. ستبعث وحدك: يقول بعض الحكماء: خرجت من بطن أمي وحدي، ودخلت إلى قبري وحدي، وأحاسب بين يدي الله تعالى وحدي، فمالي والناس؟.

الإخلاص مسك

ويقول ابن الجوزي: واشوقاه إلى أرباب الإخلاص، واتوقاه إلى رؤية تلك الأشخاص. إني لأحضر ذكركم فأغيب وإني وقتي بتذكركم ليطيب. ويقول عمر بن الخطاب: لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ثم جاءه الموت، لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ، فإذا ليس في يده شيء. الإخلاص مسك: يقول ابن الجوزي: الإخلاص مسك مصون في مسك القلب تنبه ريحه على حامله، العمل صورة والإخلاص روح، المخلص يعد طاعته لاحتقاره لها عرضًا وقلم القبول قد أثبتها في الجوهر خالصًا ... وعمل المرائي بصلة كلها قشور، المرائي يحشو جراب العمل رملاً فيثقله ولا ينفعه، ريح الرياء جيفة تتحاماها مسام القلوب، وما يخفى المرائي على مسانح الفطن. وذات يوم قرأ عمر بن عبد العزيز قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] فبكى بكًاء شديدًا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة، فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحالة يبكون، فقال: يا أبتاه ... ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أنْ أهلك، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار. وقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، فكل سوء عملناه جزينا به؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غفر الله لك يا أبا بكر، قالها ثلاثًا: يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست يصيبك الأذى؟ ألست تصيبك اللأواء" (الشدة) قلت: نعم، قال: فما تجزون به في الدنيا" رواه أحمد. وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القبر أول منزل من

الإخلاص لربك

منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه (الترمذي). وعن ثابت البناني قال: قال مطرف بن عبد الله: ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلى نفسي. وعن ثابت عن مطرف قال: لأن يسألني ربي عز وجل يوم القيامة فيقول: يا مطرف ألا فعلت؟ أحب إلي من قوله لم فعلت؟ وعنه قال أيضًا بعرفة: اللهم لا ترد الجميع من أجلي؟ وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر، ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح، وقد علاه كآبة، فقال: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أر اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثًا، صفرًا، غبرًا، بين أعينهم أمثال رُكب المعزى، وقد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله، فإذا أصبحوا ذكروا الله، وتمادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، والله لكأني بالقوم قد باتوا غافلين، ثم قام فما رُئى بعد ذلك ضاحكا حتى كان مقتله، - رضي الله عنه - وأرضاه. الإخلاص لربك: يقول ابن الجوزي: عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم، وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له، فإن رضي عمله ورآه خالصًا لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصًا أعرض بها عنه، ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك؛ لأنه يبتغي أن يقنع بنظر من يعمل له. ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته، لذلك وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة، وإن لم يطلعوا عليها، فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح، وإن لم يشاهد منه ذلك، فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعًا، لأنه غير مقبول عند الخالق، ولا عند الخلق، لأن قلوبهم قد التفتت عنه، فقد ضاع العمل وذهب العمر. ***

التوبة

التوبة التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أولها: الإقلاع عن المعصية. ثانيها: أن يندم على فعلها. ثالثها: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كان حد قذف ونحوه طلب عفوه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، ويقول تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. انتبه يقول ابن الجوزي: يا من عمره كلما زاد نقص، يا مائلا إلى الدنيا هل سلمت من النقص؟ يا مفرطًا في عمره هل بادرت الفرص؟ يا من إذا ارتقى في منهاج الهدى ثم لاح له الهدى نكص، من لك يوم الحشر عند نشر القصص؟ عجبًا لنفس أمست بالليل هاجعة، نسيت أهوال يوم الواقعة، ولأن تقر وعظها فتصغي لها سامعة، ثم تعود الزواجر عنها ضائعة، والنفوس غدت في كرم الكريم طامعة، وليست لها في حال من الأحوال طائعة، والأقدام سعت في الهوى في طرق شاسعة، بعد أن وضحت من الهدى سبل واسعة، والهمم شرعت في مشارع الهوى متنازعة، لم تكن مواعظ للعقول لها نافعة، وقلوب تضمر التوبة إذا فزعت بزواجر رادعة، ثم تعود إلى ما لا يحل مرارًا متتابعة.

عباد الله

عباد الله تدبروا العواقب واحذروا قوة المناقب، اخشوا عقوبة المعاقب، وخافوا سلب السالب، فإنه والله طالب غالب، أين الذين قعدوا في طلب المنى وقاموا، وداروا على دار الرحيل وحاموا؟ ما أقل ما لبثوا وما أوفى ما أقاموا! لقد وبخوا في نفوسهم في قعر قبورهم على ما أسلفوا ولاموا. عتاب يا من بأقذار الخطايا قد تلطخ، وبآهات البلايا قد تضمخ، يا من سمع كلام من لام ووبخ، يعقد عقد التوبة حتى إذا أمسي يفسخ، يا مطبقًا لسانه والملك يحصي وينسخ، يا من طير الهوى في صدره عشش وفرخ، كم أباد الموت ملوكًا كالجبال الشمخ، كم أزعج قواعد كانت في الكبر ترسخ، وأسكنهم ظلم اللحود ومن ورائهم برزخ، يا من قلبه من بدنه بالذنوب أوسخ، يا مبارزًا بالعظائم أتأمن أن يخسف بك أو تمسخ!! استيقظ من نومك أما والله لو علم الأنام ... لما خُلقوا لما هجعوا وناموا لقد خلقوا لأمر لو رأته ... عيون قلوبهم تاهوا وهاموا مُوت ثم قبر ثم حشر ... وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد عملت رجال ... فصلُّوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا ... كأهل الكهف أيقاظ نيام أيها العبد لا شيء أعز عليك من عمرك وأنت تضيعه، ولا عدو لك كالشيطان وأنت تطيعه، ولا أضر من موافقة نفسك وأنت تصافيها، ولا بضاعة سوى ساعات السلامة وأنت تسرف فيها لقد مضى من عمرك الأطايب يا حاضر البدن والقلب غائب، اجتماع العيب والشيب من المصائب، أين البكا لخوف العظيم الطالب.

وقفة مع النفس

وقفة مع النفس كيف ترجو النجاة وتلهو بأسر الملاعب، إذا أتتك الأماني بظن كاذب، الموت صعب شديد مر المشارب، يلقى شره بكأس صدور الكتائب، فانظر لنفسك وانتظر قدوم الغائب، يأتي بقهر ويرمي بسهم صائب، يا آملاً أن تبقى سليمًا من النوائب. يا معرضًا ابن آدم كي تظن أعمالك مشيدة، وأنت تعلم أنها مكيدة؟ وكيف تترك معاملة المولى وأنت تعلم أنها مفيدة؟ وكيف تقصر في زادك وقد تحققت أن الطريق بعيدة؟ يا معرضًا عنا إلى متى هذا الإعراض؟ يا غافلاً عن الموت والعمر لا شك في انقراض. أين من سبقك؟ أين من حصَّن الحصون المشيدة واحترس، وعمر الحدائق فبالغ وغرس، نصب لنفسه سري العز وجلس، وبلغ المنتهى ورأى الملتمس، وظن في نفسه البقاء ولكن خاب الظن في النفس، أزعجه والله هادم اللذات واختلس، ونازله بالقهر فأنزله عن الفرس، ووجه به إلى دار البلاء فانطمس، وتركه في ظلام ظلمة من الجهل والدنس، فالعاقل من أباد أيامه فإن العواقب في خلس. القطار يسير يا من يرحل في كل يوم مرحلة، وكتابه قد حوى حتى الخردلة، ما ينتفع بالنذير والنذر متصلة، ولا يصغى إلى ناصح وقد عذله، ودروعه مخرقة والسهام مرسلة، نور الهدى قد بدا ولكن ما رآه ولا تأمله، وهو يؤمل البقاء ويرى مصير من قد أمله، قد انعكف بعد الشيب على العيب، كن كيف شئت فبين يديك الحساب والزلزلة، ونعم جلدك فلابد للديدان أن تأكله، فيا عجبًا من فتور مؤمن موقن بالجزاء والمسألة استيقن. الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستغفر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" [رواه البخاري].

الله يفرح بك

الله يفرح بك عن أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" [رواه مسلم]. الله ينادي عليك عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى يبسط بده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" [رواه مسلم]. التوبة واجبة على الدوام فإن الإنسان لا يخلو من معصية، ولو خلا عن معاصي بالجوارح لم يخل عن الهم بالذنب بقلبه، فإن خلا عن ذلك لم يخل عن وساوس الشيطان بإيراد الخواطر المذهلة عن ذكر الله، ولو خلا عنه لم يخل عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص ولا يسلم أحد من هذا النقص حتى تقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. احذر استصغار الذنب قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات" [رواه البخاري]. وقال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. لا تفرح بالصغيرة وتجهر بها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" [رواه مسلم].

طريق التوبة

طريق التوبة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله عز وجل إلا غفر له" [رواه أبو داود والترمذي]. احذر التسويف يقول ابن القيم: إن أكثر أهل النار من المسوفين كرجل احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه. راجع حساباتك أن يرد فكرك إلى أول يوم بلغت فيه الحلم، وتفتش عما مضى من عمرك سنة سنة، وشهرًا شهرًا، ويومًا يومًا، وتنظر إلى الطاعات وإلى المعاصي وتفصل ديوان معاصيك وتتوب إلى الله وتعزم على فعل الحسنات، وينبغي أن تمحي كل سيئة بحسنة. الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول ابن حجر: يحتمل أن يكون استغفاره عن اشتغاله بالأمور المباحة من أكل وشرب عن الاشتغال بذكر الله فيرى بذلك ذنبًا إلى المقام الأعلى؛ كما يفعل المصلي بعد صلاته يشرع في الاستغفار، وهل كان هو في ذنب، فاعلم أننا نحتاج إلى التوبة والاستغفار فإن لم يكن عن توبة الذنوب، فالاستغفار للتقصير في شكره، وعبادته، والتوبة أول تشريع شرع للبشر، فعندما نسي آدم وأكل من الشجرة تاب إلى ربه. استغفر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم" [رواه مسلم]. استغفار يحتاج إلى استغفار قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، الاستغفار

أسئلة محيرة

المطلوب هو الذي يحل عقدة الإصرار، فمن قال بلسانه: استغفر الله وقلبه مصر على المعصية فاستغفاره يحتاج إلى استغفار. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غُفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف" [رواه الترمذي]. أسئلة محيرة يقول ابن القيم: هل في الدنيا شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم؟ وما الذي رفع قوم لوط حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، فجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم حجارة من السماء؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه؟ وما الذي خسف بقارون وداره؟ علامات التائب منكسر القلب .. غزير الدمع .. حي الوجدان .. قلق الأحشاء .. صادق العبارة .. جم المشاعر .. جياش الفؤاد .. مشبوب الضمير .. في قلبه حرقة .. وفي وجدانه لوعة .. وفي وجهه أسى .. وفي دمعه أسرار .. إذا هدل الحمام بكى .. وإذا صاح الطير ناح .. وإذا شدا البلبل تذكر .. وإذا لمع البرق اهتز قلبه .. خوفًا ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته .. يجد للطاعة حلاوة .. ويجد للعبادة طلاوة .. يجد للإيمان طعمًا .. يجد للإقبال لذة .. يكتب من الدموع قصصًا .. وينظم من الآهات أبياتًا .. ويؤلف من البكاء خطابًا .. التائب كالأم اختلس طفلها ثم اختلست طفلها من يد الأعداء أتدري كم فرحتها! .. أتقدر سعادتها؟! والتائب كالغائص في البحر .. إذا نجا من اللجة إلى الشاطئ .. بعد أن أيس من النجاة .. ترى الذل قد علاه .. والحزن قد وهاه .. يذم نفسه على هواه .. وبذلك صار عند الله ممدوحًا .. لأنه تاب إلى الله توبة نصوحًا. هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم ما خلى الله بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك، وخلي بينك وبين نفسك، ولو

إلهي

عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلاً، فقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان: أن يكلك الله إلى نفسك ويخلي بينك وبينه، والتوفيق أن لا يكلك إلى نفسك. إلهي لم يكن ما كان مني استهانة بحقك، ولا جهلاً بك، ولا إنكارًا لاطلاعك، ولا استهانة بوعيدك، وإنما كان من غلبة الهوى، وضعف القوة عن مقاومة مرض الشهوة وطمعًا في مغفرتك واتكالاً على عفوك، وحسن ظن بك، ورجاء لكرمك، وطمعًا في سعة حلمك ورحمتك، وغرني بك الغَرور والنفس الأمارة بالسوء وبسترك المرخي عليَّ، وأعانني جهلي ولا سبيل إلى الاعتصام إلا بك، ولا معونة على طاعتك إلا بتوفيقك. اتهم توبتك يقول ابن القيم: يجب أن يخاف العبد أن توبته لم تقبل، وأنه لم يبذل جهده في صحتها وأنها توبة علة، وأنه لا يشعر بها كتوبة أرباب الحوائج، أو أنه تاب محافظة على حاله فتاب للحال، لا خوفًا من ذي الجلال، أو أنه تاب للراحة من الكد في تحصيل الذنب أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، أو لضعف داعي المعصية في قلبه، وخمود نار شهوته، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفًا من الله، وتعظيمًا لحرماته، وإجلالاً له، وخشية من سقوط المنزلة عنده. ومن اتهام التوبة أيضًا ضعف العزيمة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته. ومن اتهام التوبة طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب حتى كأنه أعطي منشورًا بالأمان. ومن علاماتها جمود العين واستمرار الغفلة، وأن ما يستحدث بعد التوبة أعمالاً صالحة لم تكن له قبل الخطيئة. علامات التوبة المقبولة - أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبلها. - أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له لا يأمن مكر الله طرفة عين؛ فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].

حجة باطلة

- انخلاع قلبه وتقطعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: ({لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]، قال: تقطعها بالتوبة، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه وهذا هو تقطعه، وهذا حقيقة التوبة لأنه يتقطع قلبه حسرة وخوفًا، تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلابد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة، ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضًا كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب لا تحصل بالجوع ولا بالرياضة، وإنما هي كسرة تامة، بين يدي الرب قد أحاطت به من جميع جوانبه. يا رب: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، وأسألك بقوتك وضعفي، وبغناك وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه. حجة باطلة: إن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك، فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك؟ بل إذا أساء إليك مسيء، وجنى عليك جان واحتج بالقدر: لاشتد غضبك عليه، وتضاعف جرمه عندك، ورأيت حجته داحضة ثم تحتج على ربك به، وتراه عذرًا لنفسك؟ فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حاله؟! عجبًا لك: الله أعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحاربون عدوك، ويريدون منك ألا تميل إليه وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم وموالاته دونهم، طرد إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته وأبعده من قربه؛ إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم، لكرامتك عليه فعاداه وأبعده، ثم واليت عدوه وملت إليه وصالحته، وتتظلم مع ذلك وتشتكي الطرد والإبعاد.

بدل بيئتك

بدل بيئتك: عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإنه بها أناس يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صور آدمي فجعلوه بينهم -أي حكما- فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجودوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" متفق عليه. وفي رواية في الصحيح: "فكان إلى القرية الصالحة بشبر فجعل من أهلها" وفي رواية في الصحيح: "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقرَّبي وقال: قيسوا بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له". توبة صادقة: روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث. فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهي اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعًا والشمس إلا حرارة! فتعجب نبي الله موسى فأوحى الله إليه وقال: يا موسى فيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فيه منعتكم. فقال موسى: إلهي وسيدي أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه منك النداء ومني البلاغ. فقام مناديًا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر. فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدًا خرج فعلم أنه

توبة هارون الرشيد

المطلوب وقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا لأجلي فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله وقال: إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعًا فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب. فقال موسى: إلهي وسيدي بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم. فقال موسى: إلهي أرني هذا العبد الطائع. فقال: يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني. توبة هارون الرشيد حكي عن أبي يوسف -رحمه الله- أنه أُشهد عنده أمير من عظماء جيش أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان من أقربائه، فلم يقبل شهادته، فشكا إلى هارون، فقال هارون: لم رددت شهادته؟ قال: لأني سمعته يومًا بين يديك يقول: أنا عبد أمير المؤمنين، فإن كان صادقًا؛ فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذبًا؛ فلا شهادة للكاذب. فقال هارون: إن شهدت فهل تقبل شهادتي؟ قال: لا. فقال: ولم؟ قال: لأنك تتكبر على الله فلا تخرج إلى الجماعة، ولا تصلي مع عامة المسلمين، وهذا تكبر على الله، ولا يليق بالعبد هذا. فتاب هارون على ذلك، واتخذ مسجدًا للعامة على بابه، وكان يخرج إليه عند كل صلاة. توبة مالك بن دينار روي عن مالك بن دينار أنه سئل عن سبب توبته، فقال: كنت شرطيا وكنت منهمكا على شرب الخمر، ثم إنني اشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتا، فشغفت بها، فلما دبت على الأرض ازدادت في قلبي حبا، وألفتني وألفتها، قال: فكنت إذا وضعت المسكر بين يدي جاءت إلي وجاذبتني عليه وهرقته على ثوبي، فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة الجمعة، بت ثملا من الخمر، ولم أصل فيها العشاء الآخرة، فرأيت فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت، ونفخ في

الصور، وبعثرت القبور، وحشر الخلائق وأنا معهم، فسمعت حسًّا من ورائي، فالتفت، فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مشرعا نحوي، فمررت بين يديه هاربا فزعا مرعوبا، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: أيها الشيخ، أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ وقال لي: أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه، ولكن مر وأسرع فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه، فوليت هاربا على وجهي، فصعدت على شُرُف من شرف القيامة، فأشرفت على طبقات النيران، فنظرت إلى هولها، وكدت أهوى فيها من فزع التنين، فصاح بي صائح: ارجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله ورجعت ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل، فإن فيه ودائع المسلمين، فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك، قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كوى مخرمة وستور معلقة فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هاربا والتنين من ورائي، حتى إذا اقتربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه، فإذا الستور قد رفعت، فرأيت أطفالاً بوجوه كالأقمار، وقرب التنين مني فتحيرت في أمري، فصاح بعض الأطفال: ويحكم، أشرفوا وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت على معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى إلى التنين فولى هاربا، ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحتي وقالت: يا أبت {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، فبكيت وقلت: يا بنية أخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني، قالت: ذلك عملك السوء قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي، فقالت: يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: أي بنية! وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم، قال مالك: فانتبهت فزعًا وأصبحت فأرقت المسكر وكسرت الأنية وتبت إلى الله، وهذا كان سبب توبتي.

الصبر

الصبر من سنن الكون الانتظار والمصابرة خصال تتسق مع سنن الكون، فالزرع لا ينبت ساعة البذر، بل لابد من المكث شهورًا، والجنين يظل في بطن الحامل شهورًا حتى يستوي خلقه، وقد أعلمنا الله أنه خلق العالم في ستة أيام، وما كان ليعجز أن يقيمه في طرفة عين أو أقل. {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]. الصبر إذا كان في مصيبة سمي صبرًا وضده الجزع، وإذا كان في الحرب سمي شجاعة ومضاده الجبن، وإذا كان في كظم الغيظ سمي حلمًا ومضاده التذمر. وقد جمع الله أقسام الصبر في قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ (أي المصيبة) وَالضَّرَّاءِ (أي الفقر) وَحِينَ الْبَأْسِ (أي المحاربة) أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. الإيمان نصفان يقول ابن القيم: الإيمان نصفان نصف صبر، ونصف شكر. اصبروا على النعماء، وصابروا على الباساء والضراء، ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء. الصبر الجميل وقد أمر الله في كتابه الكريم بالصبر الجميل وهو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل وهو الذي لا عتاب فيه، والهجر الجميل وهو الذي لا أذى فيه. عاقبة الصبر نظر الله بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته فأقامه في منزلته، وإلى إدريس فاحتال بإلهامه على جنته، وإلى نوح فنجا من الغرق بسفينته، وإلى هود فعاد على عاد شؤم مخالفته، وإلى صالح فتمخضت صخرة بناقته، وإلى إبراهيم فتبختر في حلة خلته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وإلى لوط فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى

لا يتنافي مع الصبر

شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همته، وإلى موسى فخطر في مكالمته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان فراحت الريح في مملكته، وإلى أيوب فيا طوبى لركضته، وإلى يونس فسمع نداه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، وإلى عيسى فكم أقام ميتًا في حفرته. لا يتنافي مع الصبر الشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل، والنبي إذا وعد لا يخلف وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وكذلك أيوب أخبر الله عنه: أنه وجده صابرًا مع قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، إنما ينافي الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله، كما رأى بعضهم رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة، فقال: يا هذا تشكو من يرحمك؟ وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بكم أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم أخاطبك على قدر عقلك يحكي عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت، فقال لها بعض من معها: أتضحكين، وقد انقطعت إصبعك؟ قالت: أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها. لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... فقد سرني أني خطرت ببالكا الصبر مفتاح الفرج ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعًا وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج فالصبر ضرورة دنيوية كما أنه ضرورة دينية، فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، لولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس على غرسه ما مضى، ولولا صبر الطالب على درسه ما تخرج، ولولا صبر المقاتل في ساحة الوغى ما انتصر، وهكذا

ثمن الجنة

كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، واستمرأوا المر، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب، ومشوا على الأشواك، وحفروا الصخور بالأظافر، ولم يبالوا بالأحجار تقف في طريقهم، والطعنات تغرس في ظهرهم، وبالشرك تنصب للإيقاع بهم، وبالكلاب تنبح من حولهم، بل مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقفين، متذرعين بالعزيمة، مسلحين بالصبر قد يعثرون ثم لا يلبثون أن ينهضوا، وقد يخطئون ثم يوشكون أن يصيبوا، وقد يجرحون ثم لا يلبث جرحهم أن يندمل، وقد يفشلون مرة ومرة فلا يلقون السلاح ولا يستسلمون لليأس ولا يفقدون نور الأمل، لقد عرف عشاق المجد، وخطاب المعالي، وطلاب السيادة أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة، لا تنال إلا بركوب متن المشقات، وتجرع غصص الآلام، والصبر عن كثير مما يجب. لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ثمن الجنة من ظن أن طريق الإيمان مفروشة بالأزهار والرياحين، فقد جهل طبيعة الإيمان بالرسالات، وطبيعة الأعداء، يقول تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 1 - 2]،وقال أيضا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] الجنة إذن لابد لها من ثمن، وهي سلعة غالية، فلا مفر من الثمن، وقد دفعه أصحاب الدعوات من قبل، فلابد أن يدفعه إخوانهم من بعد. بيان من الله يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. فالبلاء هنا بلاء عام، يصيب القلوب بالخوف، والبطون بالجوع، والأموال بالنقص، والأنفس بالموت، والثمرات بالآفات، ومن لطف الله تعالى ورحمته هنا أنه جعل البلاء {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] وتنكير شيء هنا للتقليل والتحقير، لأن ما هو أكبر وأكثر لا يطيقون، فمسهم بشيء قليل من البلاء، تخفيفًا عنهم، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ

لا لأخلاق الأطفال

أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وصف الله الأذى المسموع من أهل الكتب والمشركين بالكثرة (أذى كثيرًا) وهذا يدل على أن حربًا كلامية ستعلن على أهل الإيمان. لا لأخلاق الأطفال الصبر من عناصر الرجولة الناضجة، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله، لم يستأجر أطفالاً أو مرضى إنما ينتقي له ذوي الكواهل الصلبة، ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئ لما أوتوا من مواهب ولما أدوا من أعمال. وهذا قائد أمريكي يقول: لا تسأل الله أن يخفف حملك، ولكن اسأل الله أن يقوي ظهرك، وإن خفة الحمل وفراغ اليد، وقلة المبالاة، صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير، لكن مشاغل العيش وهموم الواجب ومرارة الكفاح واستدامة السعي، هي أخلاق المجاهدين البنائين. من أسماء الله الحسنى: الصبور أي هو الذي لا يستعجل في معاقبة العاصين وتأديب المذنبين، وهو الذي لا تضره المعاصي، وهو الآخذ بالنواصي، وهو الذي إذا قابلته بالجفاء قابلك بالإحسان، وإذا واجهته بالعصيان أقبل عليك بالغفران، أما صبر المولى عز وجل على العاصي وعدم أخذه بالعقوبة العاجلة فظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس أحد أو ليس شىء أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم" فعبد الصبور لا يستعجل دفع الملمات وما أمره الله به من الطاعات. غالب أعداءك الصبر واجب لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وصيغة المصابرة تفيد مفاعلة من جانبين، والمعنى هنا مغالبة الأعداء في الصبر، وذلك أننا إذا كنا نصبر على حقنا، فإن المشركين يصبرون على باطلهم، فلابد أن نغلبهم بصبرنا، وأن يكون صبرنا آكد وأقوى، ولذا حكى القرآن عن المشركين استمساكهم بالصبر على ضلالهم وشركهم وتواصيهم بذلك: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ

عجبا لك

مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6] فالصبر مع نفسك، والمصابرة: بينك وبين عدوك، والمرابطة: الثبات وإعداد العدة. وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك الرباط أيضًا، لزوم ثغر القلب، لئلا يهجم منه الشيطان فيملكه أو يخربه. عجبًا لك عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" [رواه مسلم]. اتقي الله عن أنس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تبكي عند قبر فقال:"اتقي الله واصبري" فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" [متفق عليه]. امرأة من أهل الجنة عن عطاء بن أبي رباح: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي- صلى الله عليه وسلم -فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي قال:"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها. [متفق عليه]. بشرى عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" [متفق عليه]. وعن ابن مسعود قال: دخلت على النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، وحُطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها" [متفق عليه].

لا تطلب الموت

لا تطلب الموت: عن أنس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" [متفق عليه]. انظر إلى من سبقك عن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل منها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" [رواه البخاري]. الله يحبك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي]. قصة امرأة صالحة عن أنس قال: كان ابن لأبي طلحة -رضي الله عنه- يشتكي: فخرج أبو طلحة فقُبِض الصبي، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سُلَيم وهي أم الصبي: هو أسكن ما كان. فقربت له العشاء فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: أعرستم الليلة؟ قال: نعم، قال: اللهم بارك لهما، فولدت غلامًا، فقال لي أبو طلحة: أحمله حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعث معه بتمرات فقال: معه شىء؟ قال: نعم تمرات، فأخذها النبي، فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في في الصبي ثم حنكه وسماه عبد الله" متفق عليه. وفي رواية البخاري: قال ابن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن، يعني من أولاد عبد الله المولود. عند الغضب عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه

رد الأمانة

عند الغضب" متفق عليه. وعن سليمان بن صرد قال: كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبان، وأحدهما قد احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" فقالوا له إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعوذ بالله من الشيطان الرجيم" متفق عليه. وعن معاذ بن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤس الحلاثق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء" [رواه الترمذي]. رد الأمانة إذا فقد الأب ولده فإن الملك استرد عبده، وإذا قال الوالد: ولدي، قال الله: عبدي، أنا قبل غيري أولى به وأحق. روي مالك عن القاسم بن محمد: هلكت امرأة لي فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها فقال: إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه، عالم عابد مجتهد، وكانت له امرأة كان بها معجبًا، فماتت فوجد عليها وجدًا -أي حزنًا شديدًا- حتى دخل في بيت وأغلق على نفسه واحتجب، فلم يكن يدخل عليه أحد، فسمعت به امرأة من بني إسرائيل فجاءته فقالت: إن لي حاجة أستفتيه فيها، ليس يجزني إلا أن أشافهه بها، ولزمت بابه، فأخبر بها، فأذن لها فقالت: أستفتيك في أمر، قال: وما هو؟ قالت: إني استعرت من جارية لي حليًّا، فكنت ألبسه زمانًا، ثم إنها أرسلت تطلبه، أفأرده إليها؟ قال: نعم والله!! قالت: إنه قد مكث عندي زمانًا!! فقال: ذاك أحق لردك إياه! فقالت له: يرحمك الله، أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك، وهو أحق به منك؟! فأبصر ما كان فيه، ونفعه الله بقولها. كمال الرضا عن الله كان للتابعي الجليل عمر بن ذر الهمداني ولد فمات، وجاء أهل بيته يبكونه أشد البكاء وينتحبون عليه أشد النحيب، ورآهم عمر فقال لهم: ما لكم. إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق ولا أخطئ بنا ولا أريد غيرنا وما لنا على الله معتب.

من لطائف الأدب

وسمع أصحابه بموت ولده فقالوا: الآن يضيع الشيخ فقد كان ابنه بارًا لوالديه أشد البر مطيعًا لهما لأجمل ما تكون طاعة الوالد فسمعهم الشميخ فبقى متعجبًا يتمتم: أنا أضيع؟ حتى إذا واراه التراب وقف على قبره يقول: رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارًا، ولقد كنت عليك حدبًا، وما بي إليك من وحشة، وما إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذلك، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. يا ذر لولا هول المطلع ومحشره لتمنيت ما صرت إليه فليت شعري يا ذر ما قيل لك وماذا فعلت. اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني، فتجاوز عنه فإنك أرحم به مني وأكرم. فلما ذهب لينصرف قال: يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك. يقول عمرو بن جرير فبقى القوم متعجبين مما ظنوا بالشيخ ومما رأوا من رضاه عن الله وتسليمه له. من لطائف الأدب في نداء أيوب لربه أنه لم يسأله شيئًا معينًا كالشفاء، إنما اكتفى بأن ذكر نفسه بالحاجة والضعف وذكر ربه بما هو أهله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. فهم خاطيء ويظن بعض الناس أن الإسلام يمجد الآلام لذاتها ويكرم الأوجاع، وهذا خطأ، فعن أنس بن مالك قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيخًا يهادى بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عن تعذيب هذا لغني، وأمره أن يركب [رواه البخاري]. وعن ابن عباس أن أخت عقبة نذرت الحج ماشية، وذكر عقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تطيق ذلك، فقال رسول الله: "إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتَهْدِ بدنة" [رواه أبو داود]. {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].

لا تلعنها

وإنما يحمد الإسلام لأهل البلايا وأصحاب المتاعب رباطة جأشهم وحسن يقينهم. لا تلعنها فقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مريضة فوجدها تلعن الداء وتسب الحمى، فكره منها هذا المسلك وقال لها مواسيًا: "إنها -أي الحمى- تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" [رواه مسلم]. محن في طيها منح من الخطأ أن يحسب المسلم أن تلاحق الأذى عليه آية على نسيان الله له، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله، أو في ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل" [رواه أحمد]. هل رأيت حبيبًا يعذب حبيبة؟! قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] إنما هو سبحانه يبتلي عباده ليضع عنهم الأوزار، ويصرف عنهم عذاب النار، والصبر عطاء، فعن أبي سعيد: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" [متفق عليه]. وهو علامة حب، عن أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" [رواه الترمذي]. ما حظي الدينار بنقش اسم الملك، حتى صبرت سبيكته على التردد على النار، فنفت عنها كل كدر، ثم صبرت على تقطيعها دنانير، ثم صبرت على ضربها على السكة، فحينئذ ظهر عليها رقم النقش (كتب في قلوبهم الإيمان). ابتسم في مقابلة المحن لعل قطعة الخشب كانت معذورة وهي تشكو للمسمار الذي يفلقها، ويدخل في أحشائها قائلة له: مهلا يا عزيزي المسمار كف عن الصراخ والشكوى .. ارحمني من عنفوان الاختراق. فقال لها باسما: اعذريني فأنا مكره ومضطر من كثرة الدق على رأسي بالمطرقة. الخطوة الأولى في مقابلة المحنة هي الابتسامة مع الصبر، فعندما يتأخر القطار لا تلعن الأقدار وارض بما حدث وحاول الابتسام.

الفرج بعد الشدة

الفرج بعد الشدة حج رجل عَلوي فلما طاف بالبيت وأدى نسكه وأراد الخروج إلى "منى" أودع رحله وما كان معه بيتًا وقفل بابه، فلما عاد وجد الباب مفتوحًا والبيت فارغًا. قال: فتحيرت ونزلت بي شدة ما رأيت مثلها فاستسلمت لأمر الله، ومضى علي ثلاثة أيام ما طعمت فيها شيئًا. فلما كان اليوم الرابع بدأ بي الضعف وخفت على نفسي وذكرت قول جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماء زمزم لما شُرب له" [رواه ابن ماجه] فخرجت حتى شربت منها ورجعت لأستريح فعثرت في الطريق بشيء فأمسكته فإذا هو هميان (¬1) داخله ألف دينار، فجلست في الحرم وناديت: من ضاع منه شيء فليأتني بعلامة ويأخذه. وانقضى يومي ولم يأتني أحد، فغدوت إلى الصفا والمروة في اليوم الثاني فوقفت عندهما يومي فلم يأتني أحد. فضعفت ضعفًا شديدًا فجئت على باب "إبراهيم" فقلت قبل انصراف الناس: قد ضعفت عن النداء فمن رأيتموه يطلب شيئًا قد ضاع فأرشدوه إلي. فلما كان وقت المغرب إذا أنا بخراساني ينشد ضالته فصحت به وقلت: صف ما ضاع منك. فأعطاني صفة الهميان بعينه وذكر وزن الدنانير وعِدتها فقلت: إن أرشدتك إليه تعطيني مائة دينار. قال: لا. قلت: فخمسين. قال: لا. فلم أزل أنازل إلى أن بلغت إلى دينار واحد فقال: لا، إن رده من هو عنده إيمانًا واحتسابًا وإلا فهو الضر، ثم ولى لينصرف فخفت الله وأشفقت إن يفوتني الخراساني فصحت به: ارجع، فأخرجت الهميان ودفعته له، فمضى وجلست ومالي قوة على المشي إلى بيتي. فما غاب عني حينًا حتى عاد إلي فقال: من أي البلاد أنت ومن أي الناس أنت؟ قلت: وما عليك من أمري هل بقى لك عندي شيء؟ ¬

_ (¬1) كيس جلدي، على شكل المنطقة أو الحزام تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط.

صبر على الطاعة

فقال: أسألك بالله لا تضجر. فقلت: من أهل الكوفة ومن ولد"الحسين بن علي" وقصصت عليه قصتي. فقال: يا هذا خذ هذا بأسره بارك الله لك فيه، إن الهميان ليس لي فما كان يجوز لي أن أعطيك منه شيئًا قل أو كثر، وإنما أعطانيه رجل وسألني أن أطلب بالعراق أو الحجاز رجلاً حسينيًا فقيرًا مستورًا، ولم تجتمع لي هذه الصفة في أحد إلا فيك لأمانتك وعفتك وصبرك. صبر على الطاعة حدث هشام بن عروهّ عن أبيه قال: دخلت على أسماء ذات النطاقين -رضي الله عنها- وهي تصلي فسمعتها وهي تقرأ الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فاستعاذت من النار، فقمت وهي تستعيذ، فلما طال عليّ قيامي ذهبت إلى السوق ورجعت وهي ما زالت تستعيذ باكية. فالمرأة المسلمة يجب أن تصبر على طاعة الله، وعلى قيام الليل، وتجاهد نفسها في قراءة الورد القرآني اليومي، ولا تدعي الانشغال بأمور البيت، فالقرآن زادها إلى الجنة، وكذلك طاعة الزوج، وعليها بالتوازن المحمود. فداء بالمال أخرج ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه أبو بكر، أي في الهجرة، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه!! قالت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، قالت: وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه، ثم وضعت عليه ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاع لكم، تقول أسماء: ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أسكت الشيخ بذلك" رواه أحمد. إنه الصبر على ضيق المعيشة من أجل نصرة دعوة الحق. ***

الصدق

الصدق قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. قال أبو سليمان: اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله تعالى غاية طلبتك. قال الثوري: عن قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] هم الذين ادعوا محبة الله تعالى ولم يكونوا بها صادقين. وليس صدق الوعد خلة تافهة، ولكنها محمدة ذكرها الله في مناقب النبوة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]. الصدق يهدي إلى الجنة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" [متفق عليه]. الصدق طمأنينة عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" [رواه الترمذي]. وقوله: "يريبك" بفتح الياء وضمها معناه: اترك ما تشك في حله، واعدل إلى ما لا تشك فيه. لا تجحد نعمة ربك خطب الحجاج بن يوسف يومًا، فأطال الخطبة، فقال أحد الحاضرين: الصلاة! فإن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه وزعموا أن الرجل مجنون، فقال الحجاج: إن أقر بالجنون خلصته من سجنه، فقال الرجل: لا يسوغ لي أن أجحد نعمة الله التي أنعم بها عليَّ، أثبت لنفسي صفة الجنون التي نزهني الله عنها، فلما رأى الحجاج صدقه خلى سبيله. فالمتأمل يرى أن صدق الرجل كان سببًا في خروجه من السجن.

موقف مع البخاري

موقف مع البخاري روى البخاري أنه خرج يطلب الحديث من رجل فرآه قد هربت فرسه، وهو يشير إليها بردائه كأن فيه شعيرًا فجاءته فأخذها، فقال البخاري: أكان معك شعير؟ فقال الرجل: لا، ولكن أوهمتها، فقال البخاري: لا آخذ الحديث ممن يكذب على البهائم، فكان هذا مثالاً عاليًا في تحري النقل عن الصادقين، ولهذا اعتبر كتابه أصدق كتاب في الأحاديث النبوية. أنواع الصدق 1 - صدق النية: في يوم اليمامة أغلقت بنو حنيفة -أنصار مسيلمة الكذاب- الباب عليهم، وأحاط بهم الصحابة، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة فاحتملوه على ترس على أسنة رماحهم، فاقتحم عليهم الحديقة وشد عليهم وقاتل حتى فتح باب الحديقة، فجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحًا، ولذلك قام عليه خالد بن الوليد شهرًا يداوي جرحه. شهيد ثار الكون من أجله: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوي تمر من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه جاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل منهم عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء، وفي رواية ابن إسحاق: كان عاصم بن ثابت أعطى لله عهدًا ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا أبدا، فكان عمر يقول لما بلغه الخبر: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في الدنيا.

يقول ابن الجوزي: عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح له من اسمه نصيب، عصمه ربه وثبته فأفلح، حفظ الله فحفظه الله، ثار الكون كله من أجله يوم استشهد؛ الدبابير خرجت نهارًا تحميه، والسيل انهمر ليلاً يفديه، فما استطاع أحد من الشركين مس شعرة منه، غاظ عاصم أعداءه، لأنه في الأصل فاعل ليس مفعولاً به، والفاعل دائمًا مرفوع لا يكسره شيء. ذو الجناحين جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فآتاه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين. صدق مع الله فأعطاه جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء. ما لي أراك تكرهين الجنة؟ في غزة مؤتة لما رأى المسلمون كثرة الأعداء قالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا؛ فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فشجع عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - قومه وقال: يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون .. الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور، وإما الشهادة. وبعد مقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما- قال عبد الله بن رواحة لنفسه وقد تردد: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو لتكرهنه ما لي أراك تكرهين الجنة ... إن أجلب الناس وشدوا الرنة لطالما كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتل. صدق الله فصدقه عن شداد بن الهادي: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غزاة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم -

سبيًا فقسم وقسم له، فأوصى أصحابه ما يقسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فأخذه فجاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ قال: "قسمت لك"، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي إلى ها هنا، وأشار إلى حلقه، فأموت فأدخل الجنة، فقال:"إن تصدق الله يصدقك"، فلبثوا قليلاً فأُتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - يحُمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه الله" ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبته ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد على ذلك" [رواه النسائي]. كل منا يتمنى الشهادة، ولكن الله لن يرزق أحدًا هذا المنزلة إلا إذا كان صادقًا في طلبها، وعمل من أجلها. 2 - صدق الإيمان يقول خيثمة -وكان ابنه قد استشهد يوم بدر-: لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصًا حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرُزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقتل بأحد شهيدًا. اختبار صعب كان ملك الروم يسمع عن صدق الصحابة، فوقع عبد الله بن حذافة السهمي - رضي الله عنه - أسيرًا فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد فأراد أن يختبره فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف مالي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذًا أقتلك، قال: أنت وذاك. فأُمر به فصُلب، وقال للرماة: ارموه قريبًا من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب فيه ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم بكى عبد الله فقيل للملك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع فقال: ردوه، وقال له: ما أبكاك؟ قال: هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن

يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله، فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع الأساري؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبره، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه. إنه صدق في الإيمان لا يتزعزع في الشدائد، ولا يلين للمغريات، ولا تفتنه الدنيا، ولا ينشغل بها عن دينه ودعوته، فليحذر كل مسلم مغريات وشهوات الدنيا. 3 - صدق العمل في معركة نهاوند في عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء السائب بن الأقرع إلى سيدنا عمر بخمس الغنائم فقال له عمر: ما وراءك يا سائب؟ قال: خيرًا يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك بأعظم الفتح، استشهد النعمان بن مقرن، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم بكى عمر ثم قال: ومن؟ قال: فلان وفلان حتى عد له أناسًا كثيرين، ثم قال السائب: والله يا أمير المؤمنين أصيب أناس لا تعرفهم فقال عمر وهو يبكي: المستضعفون من المسلمين لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرفهم. أخي الحبيب لا تهتم بمعرفة الناس لك، ولا تسع إلى الشهرة وتكفيك معرفة الله لك. 4 - صدق اللسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدس الكلمة التي يقولها وذلك إشارة إلى الرجولة الكاملة، فعن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله ببيع قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة فجئت فإذا هو في مكانه فقال: "يا فتى لقد شققت عليَّ! أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك" [رواه أبو داود] وكان يأتي في الموعد المضروب بينهما. فإذا أعطيت موعدًا فلابد أن تكون صادقًا في الالتزام به حفاظًا على أوقات الآخرين ولا تعتذر إلا لضرورة ويكون الاعتذار مسبقًا.

الكذب على الأعداء

الكذب على الأعداء في معركة أجنادين، احتاج عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى معرفة شيء عن جيش الروم، فقرر الذهاب إلى قائد الروم على أنه رسول من قائد المسلمين إليه، ولما انتهى عمرو من مهمته، وقام ليخرج فأرسل القائد إلى حراسه أن يقتلوا عمرًا عند خروجه، وأثناء خروج عمرو ناداه رجل كان يعرفه، وحذره من غدر الروم، قائلاً: أحسنت الدخول فأحسن الخروج، ففهم عمرو، ورجع إلى القائد، وقال له: إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة أرسلنا عمر بن الخطاب لنكون مع عمرو بن العاص قواد جيشه، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك، ففرح القائد بذلك، ووجدها فرصة ثمينة ليقتل عشرة من المسلمين، فقال لعمرو: اذهب وأحضرهم، وأرسل للحراس ألا يتعرضوا له بسوء، فنجا عمرو وعاد إلى جيشه سالمًا، فلما علم قائد الروم بهذه الحيلة، قال: خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب. أبو سفيان ذهب أبو سفيان بن حرب ومعه بعض القرشيين إلى الشام للتجارة، فأرسل إليهم هرقل ملك الروم يطلب حضورهم، فلما جاءوا إليه دال لهم: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا، فقال هرقل: أدنوه مني واجعلوا أصحابه خلفه، ثم قال لهم: إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: لولا الحياء أن يروا علي كذبًا لكذبت، فأخذ هرقل يسأله عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه وأصحابه وأبو سفيان لا يقول إلا صدقًا حياء. أنكحك الصدق كان لسيدنا بلال بن رباح الحبشي، مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخ يريد الزواج من امرأة من قبيلة مخزوم، وهي قبيلة عريقة في حسبها ونسبها، ولم تكن ترضى بمثل بلال صهرًا لها، فلما أصر أخوه على أن يخطب هذه المرأة رضخ بلال لقوله، وتوجه معه إلى أشراف مخزوم، وعرض عليهم رغبة أخيه في مصاهرتهم، وقال لهم: يا قوم، نحن من قد عرفتم، كنا عبيدًا فأعتقنا الله، وكنا ضالين فهدانا الله، وكنا فقراء فأغنانا الله، وإني أخطب منكم ابنتكم لأخي، فإن تنكحوها له فالحمد لله، وإن تردونا عن قصدنا، فسوف يغنينا الله.

أموت ولا أكذب

فرحب به القوم، وأكرموا وفادته، وقبلوا شفاعته، وقالوا: مرحبا بمؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم زوجوه ابنتهم، فلما خرجا من عندهم أقبل عليه أخوه يلومه ويعنفه، ويقول: يا بلال، هلا ذكرت لهم مواقفنا في الإسلام، فقد أبلينا مع رسول الله بلاء حسنًا، فقال له بلال: اسكت يا هذا، فقد أنكحك الصدق. أموت ولا أكذب حين استعرت نيران الثورة ضد الإنجليز في الهند كان المسلمون هناك يتصدرون الصفوف الأولى للثورة، ويقضون مضاجع المستعمرين الإنجليز بشجاعتهم النادرة وإقبالهم على الاستشهاد دفاعًا عن دينهم وبلادهم. وفي يوم من أيام عام 1857م، ألقت السلطات الإنجليزية القبض على العالم المؤمن الشيخ رضا الله البدواني بتهمة الاشتراك في الثورة ضد الإنجليز. وجيء بالعالم الشيخ ليحاكم أمام ضابط إنجليزي كبير، وكان هذا الضابط يكبر في الشيخ جرأته وشجاعته، فأراد أن يلتمس للشيخ مبررًا قانونيًا يطلق به سراحه فأوعز لبعض أصدقاء الشيخ أن ينصحوه بأن ينكر التهمة أمام المحاكم. وجيء بالشيخ أمام المحكمة العسكرية فقال له الضابط الإنجليزي: علمت أيها الشيخ أنك لم تكن مشتركًا في الثورة ضدنا، فإن كان هذا الذي سمعته حقًا، أطلقت سبيلك في الحال .. ؟ وابتسم الشيخ المؤمن وهو يجيب الضابط الإنجليزي: لا والله أيها الحاكم لا أجحد شرف المشاركة في حربكم، ووالله لو أطلقت سراحي الآن لعدت إليك بعد ساعات بنفس التهمة التي تحاكمني بها الآن. ولم يجد الحاكم الإنجليزي بدًا من الحكم بإعدام الشيخ المؤمن رضا الله البدواني. وسيق العالم الثائر إلى خشبة الإعدام ومشى الحاكم الإنجليزي إلى جانبه، والشيخ المؤمن لا ينفك يذكر الله ويثني عليه، حتى إذا اقترب موكب الموت من خشبة الإعدام قال الحاكم الإنجليزي للعالم المؤمن: أيها الشيخ ما زال أمامك متسع من الوقت لتنقذ نفسك من الشنق، قل لي الآن أنك

لم تشارك في الثورة ضدنا فأؤجل تنفيذ الحكم، ثم أعمل على براءتك وإطلاق سراحك. ونظر الشيخ إلى حبل المشنقة وهو يبتسم ابتسامة تهزأ بالموت ثم نظر إلى الضابط الإنجليزي وقال: أتريد أن أكذب لأنجو من الموت اليوم فيحبط عملي، فإذا مت بعد ذلك لقيت الله وقد حبط عملي كله .. ؟ لا أيها الحاكم لن أكذب أبدًا، لقد اشتركت في الثورة ضدكم لأن ديني يأمرني بذلك فافعل ما بدا لك. وما هي إلا لحظات إلا وجسد العالم الثائر رضا الله البدواني يتأرجح في الهواء شهيدًا في سبيل الله. ***

المراقبة

المراقبة المراقبة: هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. يقول إبراهيم الخواص: المراقبة هي خلوص السر والعلانية لله عز وجل، وقد حث الإسلام على المراقبة، فقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. وقال: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]. وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراقب ربه فيقول: "إني أرى ما لا ترون، أطت السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" [الترمذي]. وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ قال: بخمس: استقامة ليس فيها روغان. واجتهاد ليس معه سهو. ومراقبة لله في السر والعلانية. وانتظار الموت بالتأهل له. ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب. إذا أراد المؤمن أن يتذكر مراقبة الله فعليه أن يتعبد باسم الله السميع، فلا يسمع ربه منه فحشًا ولا عصيانًا، ويتعبد باسم الله البصير، فلا يرى ربه منه معصية ولا يقع منه ما يغضبه عز وجل. من أسماء الله الحسنى: الرقيب الرقيب: اسم من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في حديث المصطفى الشامل للأسماء الحسنى، كما ورد ذكره في القرآن الكريم.

والرقيب: هو الذي لا يغفل ولا ينام، أحاط بصره بكل شيء، أدنى حفيظ وأقرب شهيد، وهو الذي من الأسرار قريب، وعند الاضطرار يجيب، وهو المطلع على الضمائر، الشاهد على الأسرار، وهو الذي يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى، وهو تعالى الذي يسبق علمه جميع المحدثات وتتقدم روايته جميع المكونات، الحاضر الذي لا يغيب، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]. وقال عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وقال عز وجل: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، إلى غير ذلك من الآيات. مظاهر اسمه تعاله الرقيب الله عز وجل رقيب على السماوات وما فيهن من كواكب ونجوم، يحفظها من أن يخرج منها جرم عن موضعه الذي أقامه فيه، أو ينقص من سرعته التي أجراها بها وأداره عليها، أو ينحرف عن اتجاهه الذي وجهه إليه، لا تشغله الرقابة على كبارها عن الرقابة على صغارها، ولا يعوقه حفظ قريبها عن حفظ بعيدها، وهو سبحانه رقيب على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، يرقب أشعة الشمس في اختلاط ألوانها حتى لا يطغى بعضها على بعض، وحتى يظل الظاهر منها ظاهرًا والخفي منها خفيًا. يرقب الأرض في دورتها حول نفسها أمام الشمس حتى لا تنحرف عن مدارها الذي رسمه، وحتى تحتفظ بالسرعة التي خصها بها، يرقبها في إنبات نباتها وجريان أنهارها، ويرقب الأجرام السماوية أن تقع على الأرض، إذ لو وقع أصغر جرم منها على الأرض لدكها دكًّا وصيرها هباء منثورا، ويرقب البحار أن تطغى على اليابسة إذ لو طغت عليها لأصبحت الكرة الأرضية كلها بحرا يعج عجاجه وتصطخب أمواجه، ويرقب الأجنة في بطون أمهاتها وتطورها في خلقها ونموها وتغذيتها وتمامها وخروجها من ظلمات الأرحام. وهو عز وجل يرقب القلوب في نبضاتها، وتوزيعها الدم في دورته في الأجسام وتحول الدم إلى أنسجة وخلايا. وهو عز وجل يرقب خطرات الأفكار وخلجات الأنفس وهجسات الضمائر،

ثمار المراقبة

لا يغيب عن رقابته شيء (¬1). ثمار المراقبة: 1 - الورع: كانت فاطمة بنت عبد الملك بنت خليفة، وزوجة خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهي مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والجوهرات، ومن فضول القول أن أشير إلى أن عروس عمر بن عبد العزيز كانت في بيت أبيها تعيش في نعمة لا تعلو عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا في ذلك العهد، ولو أنها استمرت في بيت زوجها تعيش كما كانت تعيش قبل ذلك لتملأ بطنها كل يوم، وفي كل ساعة بأدسم المأكولات وأندرها وأغلاها، وتنعم نفسها بكل أنواع النعيم الذي عرفه البشر، لاستطاعت ذلك .. إلا أن الخليفة الأعظم عمر بن عبد العزيز اختار -في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض- أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم، ورضيت بذلك زوجة الخليفة التي كانت بنت خليفة وأخت أربعة من الخلفاء، فكانت مغتبطة بذلك، لأنها تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة وهذه الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ وألوان الترف، بل اقترح عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة، فتخرج عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها وعنقها وشعرها ومعصميها، مما لا يسمن ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع بثمنه بطون شعب برجاله ونسائه وأطفاله، فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي والمجوهرات واللآليء والدرر التي حملتها معها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين. وتوفي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئًا، فجاءها أمين بيت المال، وقال لها: إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، واعتبرتها أمانة لك، وحفظتها لذلك اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها. فأجابته بإنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت: وما كنت لأطيعه حيًا، وأعصيه ميتًا (¬2). ¬

_ (¬1) النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (256 - 257). (¬2) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين (681 - 682).

2 - السماحة: جاء أحد جلساء أبي حنيفة إليه، وقال: إني بحاجة إلى ثوب خز يا أبا حنيفة. فقال له: ما لونه؟ فقال: كذا وكذا. فقال: اصبر حتى يقع لي فآخذه لك، فما إن دارت الجمعة حتى وقع له الثوب المطلوب، فمر به صاحبه، فقال له أبو حنيفة: قد وقعت لي حاجتك .. وأخرج إليه الثوب فأعجبه وقال: كم أدفع لغلامك ثمنه؟ فقال: درهمًا، فقال الرجل في استغراب: درهمًا واحدًا؟ فقال أبو حنيفة: نعم، فقال له الرجل: ما كنت أظنك تهزأ بي يا أبا حنيفة، فقال أبو حنيفة: ما هزئت بك، وإنما اشتريت هذا الثوب وآخر معه بعشرين دينارًا ذهبًا، ودرهم من الفضة، وقد بعت أحد الثوبين بعشرين دينارًا ذهبًا، وبقي عليَّ هذا بدرهم واحد، وما كنت أربح على جليسي (¬1). 3 - تذكر الموت: لقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: أيها الرجل كم عمرك؟ قال الرجل: ستون سنة. قال الفضيل: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تلقاه. قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل: هل تعلم معنى تلك الكلمة. قال الرجل: نعم أعلم أني لله عبد وأني إليه راجع. قال الفضيل: يا هذا من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع فليعلم أنه بين يديه موقوف، ومن علم أنه بين يديه موقوف فليعلم أنه بين يديه مسئول، ومن علم أنه بين يديه مسئول فليعد للسؤال جوابًا. قال الرجل: فما الحيلة يرحمك الله؟ قال الفضيل: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي (¬2). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين (487 - 488). (¬2) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين (720).

أمانة في البيع والشراء

4 - الأمانة: عن أسلم مولى عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب، وهو يعس بالمدينة إذ عيى، فاتكأ على جاذب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. قالت: يا أماه أو ما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين؟ قالت: وما كان عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنا بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصبية: والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا، وعمر يسمع كل ذلك. فقال: يا أسلم علِّم الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه فلما أصبح: قال: يا أسلم امض في الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم لا بعل لها، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فولدت له بنتًا، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز. وهكذا كان عمر يتفقد الرعية بنفسه، ويعس في الليل ويقوم بواجبه نحو رعيته محتسبًا عند الله تعالى أجره، كما كان لمراقبة تلك الفتاة لربها وأمانتها الأثر الجميل والخير العميم في حياتها وفي آخرتها إن شاء الله. أمانة في البيع والشراء حُكي عن محمد بن المنكدر -رحمه الله- أنه كان له شقاق -جنس من الثياب- بعضها بخمسة، وبعضها بعشرة. فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة. فلما حضر ابن المنكدر، وعلم بذلك، صار يطلب المشتري طول النهار حتى وجده، وقال له: إن الغلام غلط، فباعك خمسة بعشرة. فقال المشتري: يا هذا، قد رضيت.

عمر يختبر الراعي

فقال ابن المنكدر إن رضيت أنت؛ فأنا لا أرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد علينا شُقتنا وتأخذ دراهمك. فقال: أعطني خمسة، فدفعها إليه، فانصرف الأعرابي وهو يسأل، ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر. فقال الأعرابي: لا إله إلا الله، هذا الذي نستقي به في البوادي إذا قُحطنا. عمر يختبر الراعي قال عبد الله بن دينار خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى مكة فانحدر بنا راع من الجبل، فقال له عمر ممتحنًا له: يا راعي بعني شاة من هذه الغنم. فقال عمر: إنني مملوك. فقال عمر: قل لسيدك أكلها الذئب (يريد أن يختبره). فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر ثم غدا مع المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه، وقال له: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة. الغلام المعلَّم وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - الذي راقب الله عز وجل كيف كان جزاؤه؟ يقول ابن مسعود: كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال: "يا غلام هل من لبن؟ " قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لا تخرج لبنًا"، فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلب في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقلص" فقلص، ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا القول، فمسح رأسي وقال: "يرحمك الله إنك غليم معلَّم" رواه أحمد. راقبوا الله في خلواتكم إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات؛ فيترك ما يشتهي حذرًا من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودًا هنديًا على مجمر فيفوح طيبه؛ فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو، وعلى قدر

درس في المراقبة

المجاهدة في ترك ما يهوي تقوي محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم، ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته. وقد تمتد هذه الأراييج بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرها أبدا. قال أبو الدرداء: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص. إذا ما خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل ... لها إن الذي خلق الظلام يراني يقول محمد بن عدي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. درس في المراقبة يقول الإمام الغزالي: كان لأحد المشايخ تلاميذ وطلاب علم، فأراد أن يلقنهم درسًا في مراقبة الله عز وجل، فدعا بعدة طيور، وناول كل واحد منهم طائرًا وسكينًا، وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه فيه أحد ... فرجع كل طالب بطائره مذبوحا إلا طالبًا واحدًا، فقد رجع بطائره دون أن يذبحه. فقال له الشيخ: ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد .. إذ الله مطلع علي في كل مكان .. فاستحسن الشيخ منه ذلك. إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

التوكل

التوكل وعلى الله فتوكلوا قال ابن القيم: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة، ويقول الإمام الغزالي: التوكل منزلة من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين. ويقول بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله لو توكل على الله لرضي بالمقدور. رزقك على ربك نحتاج إلى التوكل خاصة في قضية الرزق، فربما قبل إنسان أن يذل نفسه، ويحني رأسه، ويبذل كرامته، من أجل لقمة العيش التي يحسبها أنها في يد مخلوق مثله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، فحياته وحياة أولاده في قبضته، فهو قادر في نظره أن يحيي ويميت كما قال النمرود. وقد أمر الله رسوله بالتوكل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. المتوكلون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" [رواه البخاري ومسلم]. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت" [رواه مسلم]. كن كالطير وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا" [رواه الترمذي].

الشيطان يحزن

الشيطان يحزن عن أنس - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووُقيت وكُفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي" [رواه أبو داود]. حقيقة التوكل التوكل: هو انطراح القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل؛ يقلبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار. لا تحزن ومعك الملك كذلك من أعطاه ملك درهمًا فسرق منه، فقال له الملك: عندى أضعافه، فلا تهتم، متى جئت إلي أعطيتك من خزائني أضعافه، فإذا علم صحة قول الملك، ووثق به، واطمأن إليه، وعلم أن خزائنه مليئة بذلك، لم يحزن. من توكل عليه تولاه ومن استغنى به أغناه. هل أنت مؤمن؟ قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] التوكل شرط في الإيمان فمن لا توكل له لا إيمان له، ولا يكون الوكيل وكيلاً إلا إذا اجتمع فيه أربع صفات أن يكون (عليمًا وقادرًا على نصرتك ورحيمًا بك وهاديًا) فهل تجد غير الله وكيلاً؟ لا تتكاسل جاء رجل على ناقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أدعها وأتوكل، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" اعقلها وتوكل" رواه الترمذي. ورفض الرسول مبدأ التهاون والكسل. ساق التوكل قال ابن القيم: لا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية. يقول صاحب الظلال: إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب، ولكن

واعجبا

الأسباب ليست هي التي تنشئ النتائج، فالفاعل المؤثر هو الله وهو الذي يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته، ومن ثم يطلب من العبد أن يؤدي واجبه ويبذل جهده، ثم يتوكل على الله في إحداث النتائج .. فإنه متى تعلق العبد بالأسباب فقد أُثبت جهله ونقص إيمانه ونقص عقله .. حيث إن الناظر إلى مجاري سنة الله عز وجل يرى أن المشيئة ليست على قدر الأسباب .. فكم من عاقل محروم وكم من أحمق مرزوق .. ولو رزق الله كل عاقل وحرم كل أحمق لظن الناس أن العقل يرزق صاحبه، فلما رأوا خلاف ذلك علموا أن الصانع أراد أن يدلهم على نفسه، فهل علمت من هو المتوكل؟. واعجبًا يقول ابن الجوزي: واعجبًا يتأمل الحيوان البهيم العواقب، وأنت لا ترى إلا الحاضر، ما تكاد تهتم بمؤنة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحر، ومَنْ هذه صفته في أمور الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، هذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر؟ فهلا بعثت لك فراش تقوى {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]. هذا اليربوع لا يتخذ بيتًا إلا في موضع طيب مرتفع، ليسلم من سيل أو حافر ثم لا يجعله إلا عند أكمة أو صخرة، لئلا يضل إذا عاد إليه، ثم يجعل له أبوابًا ويرقق بعضها. فهم خاطيء جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وسأله عن رجل جلس في بيته وقال: لا أعمل حتى يأتيني رزقي، فقال الإمام أحمد: هذا رجل جهل العلم فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعل رزقي تحت ظل رمحي" [رواه البخاري]. ولقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناسًا من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله. هكذا أُمِرَ الأنبياء قال تعالى لنوح عليه السلام: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] وقال يعقوب لابنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وقال لأبنائه:

القرآن يأمر بالأخذ بالأسباب

{لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] وقال الله لموسى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23] وقال لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]. القرآن يأمر بالأخذ بالأسباب قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. سبحان الله يا شقيق!! ورد أن شقيق البلخي ودع صديقه إبراهيم بن أدهم، لسفره في تجارة، ولم يلبث إلا مدة يسيرة ثم عاد ولقيه إبراهيم، فعجب لسرعة إيابه من رحلته، فسأله: لِمَ رجع؟ فقص عليه قصة شهدها أنه رأى طائرًا أعمى كسيحًا وجاء طائر آخر يحمل إليه الطعام ويمده به، حتى يأكل ويشبع، فقال شقيق: إن الذي رزق هذا الطائر الأعمى الكسيح في هذه الخربة لقادر على أن يرزقني، وقرر العودة، فقال له إبراهيم بن أدهم: سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز، ولا تكون أنت الطائر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمره على العُمى من حوله، أما سمعت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا خير من اليد السفلى" [متفق عليه]. هل لك حرفة؟! كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا رأى غلامًا أعجبه سأل: هل له حرفة؟ فإن قيل: لا، سقط من عينه. هذه الأشياء لا تنافي التوكل وكان العابد الزاهد إبراهيم الخواص إذا أراد السفر يأخذ معه إبرة وخيوطًا ومقصًا وإناء به ماء، فسأله أحد أصحابه: لم تحمل هذه الأشياء يا أبا إسحاق وأنت من الزهاد؟ فقال ابراهيم: هذه الأشياء لا تنافي التوكل؛ لأن لله تعالى علينا فرائض، والفقير لا يكون معه إلا ثوب واحد، فربما يتمزق ثوبه، فإن لم يكن معه إبرة وخيوط تظهر عورته

غزوة حنين نموذج قرآني

فتفسد صلاته، وإذا لم يكن معه إناء به ماء لم يستطع أن يتطهر لصلاته، وإذا لم يكن معه مقص لم يستطع أن يقص شاربه كما أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم -. غزوة حنين نموذج قرآني تُذم الأسباب إذا تعلق القلب بها وحدها ونسي مسببها، وقد ذكر القرآن لنا نموذجًا من الاعتماد على الأسباب الظاهرة وحدها، فإذا هي لا تحقق نتائجها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]. لا تنس أن الله معك، فما تعجز عنه الأسباب المادية تكمله القدرة الإلهية، فقد قال بنو إسرائيل لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61 - 62]. حدث في ليلة الهجرة وفي الغار قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] بعد أن أخذ بكل الأسباب، هيأ من يبيت في فراشه -علي بن أبي طالب- ومن يرافقه في الطريق -أبو بكر الصديق- ومن يدله على الطريق -عبد الله بن أريقط- ومن يأتي بالزاد -أسماء بنت أبي بكر- ومن يعفي آثارها بغنمه -عامر بن فهيرة-: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]. فلم تقتلوهم ولكن ... وفي غزوة بدر: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وفي غزوة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وقال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]. آلله أمرك بهذا؟! ولقد أخذ سيدنا إبراهيم هاجر وابنها الرضيع سيدنا إسماعيل، وسار بهما في الصحراء، حتى وصلوا إلى بيت الله الحرام، فوضعهما في هذا المكان، وليس معهما إلا قليل من التمر، وإناء به ماء، ثم تركهما وهمَّ بالانصراف، فأسرعت هاجر وراءه وهي

حسبنا الله ونعم الوكيل

تقول: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا؟! وظلت تسأله وإبراهيم لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. فقالت: إذًا لن يضيعنا. وهكذا توكل إبراهيم وزوجته على ربهما وفوضا الأمر إليه. حسبنا الله ونعم الوكيل وهذا إبراهيم عليه السلام قام بتحطيم أصنام قومه، فلما علم قومه بذلك أحضروه وأمروا بإحراقه، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فجاءه جبريل وقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فأمر الله تعالى النار أن تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم. من الرزاق؟ قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31 - 32]. لا تعصه وهو يرزقك قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فدعا الناس بيده هكذا، فقال: اجلسوا، وأقبل الناس، فقال بيده هكذا: اجلسوا، ثم قال:"إني رأيتكم تطلبون معايشكم، هذا رسول الله رب العالمين جبريل نفث في روعي: ألا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء على أن تأخذوه بمعصية، فإن الله لا يُدرك ما عنده إلا بطاعته" [رواه ابن ماجه والحاكم]. طرفة يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها وتراه منقوصًا وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى ... حنت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يومًا فقيرًا لاغيًا ... نبحت عليه وكشرت أنيابها

كن معه يغنيك من خزائنه

كن معه يغنيك من خزائنه فالله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إن شاء الله أغنى الفقير، وأفقر الغني، وقوي الضعيف وأضعف القوي، ونصر المظلوم وأخذ الظالم، وشفي المريض ويسر على المعسر، وأعز الذليل وأذل العزيز لا ينازعه أحد في سلطانه. لا تيأس وإن توالت عليك الخطوب فيا أيها المظلوم والمغلوب، ويأيها الملهوف والمكروب، ويأيها المجروح والمنكوب، لا تيأس وإن توالت عليك الخطوب، وسدت في وجهك الدروب، فإن علام الغيوب، وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومقلب القلوب سيفرج عنك الكروب، ويحقق لك المطلوب، كما كشف الضر عن أيوب، ورد يوسف إلى يعقوب {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88]. الأرزاق الظاهرة كالأقوات والطعام، يقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] نبهكم الله إلى كثرة نعمه عليكم وإحسانه، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم، ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير. أرزاق باطنة للقلوب كالمعارف والعلوم، ومنها نعمة الإسلام: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ونعمة الإيمان: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] ونعمة النصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. البركة من الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" [صحيح الجامع]. موقف يحتاج إلى تأمل وحدث في أحد مساجد مصر أن رجلاً كان يأكل فجاءه قط، فألقى إليه طعاما فغاب

متى الراحة؟!

عنه، ثم أعطاه مرة ثانية فأعطاه طعاما فغاب عنه، ثم أتاه فتعجب الرجل فسار خلفه فوجده يذهب بالطعام إلى أرض خراب بها قط أعمى فقال الله يرزق هذا فكيف يضيع مثلي؟ متى الراحة؟! وأعظم نعمة بعد الإسلام أن تشتاق إلى الجنة وتعمل لها، سئل الإمام أحمد: متى الراحة؟ قال: لا راحة إلا في الجنة. إن لي نفسًا تواقة قال وجاء بن حيوة وزير عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: كنت مع عمر بن عبد العزيز -لما كان واليا على المدينة- فأرسلني لأشتري له ثوبًا فاشريته له بخمسمائة درهم فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه رخيص الثمن، فلما صار خليفة للمسلمين بعثني لأشتري له ثوبًا فاشتريته له بخمسة دراهم فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه غالي الثمن. فبكى رجاء فقال له عمر: ما يبكيك؟ قال: تذكرت ثوبك قبل سنوات وما قلت عنه، فقال له عمر: يا رجاء إن لي نفسًا تواقة، وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه، والآن قد تاقت نفسي إلى الجنة ... فأرجو أن أكون من أهلها. رحم الله امرأ عرف قدر نفسه بلغ عمر - رضي الله عنه - أن ابنًا له اتخذ خاتمًا، واتخذ له فصًا بألف درهم، فكتب له: بلغني أنك اشتريت فصًا لخاتمك بألف درهم فبِعْه، وأشبع بثمنه ألف جائع، واتخذ خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. كثرة الأموال ليست دليل الكرامة على الله قال الله تعالى على لسان الكفار {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] ويقول عن سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17].

الابتلاء بالنعمة

الابتلاء بالنعمة قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] وقال رسول الله:"إذا رأيت الله تعالى يعطى العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج" (رواه أحمد والطبراني)، وقال أيضا: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. قال ابن أبي حازم: كل نعمة لا تقرب من الله سبحانه وتعالى فهي بلية. النعم ثلاث يقول ابن القيم: النعم ثلاث: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده، عرفه نعمته الحاضرة ليشكره ويوفقه لعمل يستجلب بها النعمة المنتظرة. ويحكى أن أعرابي دخل على الرشيد فقال أمير المؤمنين: ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن بها، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجبه ذلك، وقال: ما أحسن تقسيمه. ***

الاستقامة

الاستقامة الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15]. وعن أبي عمرو - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "قل آمنت بالله ثم استقم" [مسلم]. يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب [متفق عليه]. وعن عبد الله بن عمرو: قال لي رسول الله: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل" [متفق عليه] قل آمنت بالله: جدد إيمانك متذكرًا بقلبك ذاكرًا بلسانك. ويقول ابن تيمية: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة. الاستقامة في العبادة كان أويس القرني يقول: هذه ليلة الركوع، فيحيي الليل كله في ركعة، وإذا كانت الليلة الآتية قال: هذه ليلة السجود فيحيي الليل كله في سجدة. وقيل: لما تاب عتبة الغلام كان لا يهنأ بالطعام والشراب. فقالت له أمه: لو رفقت بنفسك! قال: الرفق أطلب! دعيني أتعب قليلا وأتنعم طويلاً. قال عبد الله بن الحسن: كان لي جارية رومية وكنت بها معجبًا، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت إليها فإذا هي ساجدة وهي تقول: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي.

نموذج فريد

فقلت لها: لا تقولي بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. فقالت: يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام. هل أنت مستقيم ومواظب على قيام الليل؟ نموذج فريد هذا الإمام أحمد في محنته التي أرادوا فيها أن ينطق بأن القرآن مخلوق فأبى أن ينطق إلا بالحق، فأمر المعتصم أن يأتوا بالإمام أحمد في الشمس وهو صائم، وأمر بحضور الجلادين، فلما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم الرجل إلى الإمام أحمد ويضرب سوطين فيقول المعتصم للجلاد: شد قطع الله يديك، فلما ضربوه تسعة عشر سوطًا، قام المعتصم وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك، وإني والله عليك لشفيق، فجعل ينخسني بقائمة السيف، ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل بعضهم يقول: ويلك الخليفة على رأسك، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي أقتله. فقال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فقلت: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به. فرجع وجلس وقال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون علي، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائم، فظلوا يضربونني حتى فقدت وعيي، فقال لي رجل ممن حضر: كببناك على وجهك، وطرحناك على ظهرك، ودسناك بالأقدام. فقلت له: ما شعرت بذلك، فلما أفقت أتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر فتقدم ابن سماعة، وصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل منك، فقلت: قد صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثعب دمًا (¬1). ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق (327، 328).

المداومة على القراءة

المداومة على القراءة كان الشيخ محمد نجيب المطيعي الذي ولد عام 1917 يقرأ كل يوم خمس عشرة ساعة متصلة، لا يقطعها سوى الصلوات والطعام، وظل حتى قبل وفاته يحافظ رغم كبر سنه على اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وإني أشهد الله أني ما سمعت أعلم من الشيخ المطيعي، كنت تستمع إليه فتشعر أنك بين يدي عالم في الله، والحديث والقرآن والفقه والأصول والحكم والأمثال والنوادر. لقد كان يحفظ كل كتب الصحاح والأسانيد والسنن متنًا وسندًا متصلاً حتى أن الرواة ليزيد عددهم عن عشرة ويذكرهم واحدًا بعد الآخر دون أن يتلعثم، فإذا سألته عن أحد الرواة حدثك حديث العارف به كأنه يعايشه. ومن أعظم آثاره العلمية الخالدة تكملة كتاب الجموع شرح المهذب، وهو الكتاب الذي كتب منه الإمام النووي خمسة مجلدات ثم توفاه الله، فجاء الشيخ المطيعي ليكمل الجموع إلى خمسة وعشرين مجلدًا، وكان يود لو أكمله إلى الثلاثين. وهذا الكتاب يعتبر أفضل موسوعة فقهية مقارنة في العصر الحديث (¬1). الاستقامة على العفة قال خارجة بن زياد: هويت امرأة من الحي فكنت أتبعها إذا خرجت من المسجد، فعرفت ذلك مني فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم، قالت: وما هي؟ قلت: مودتك، قالت: دع ذلك ليوم التغابن. قال: فأبكتني، والله ما عدت إلى ذلك (¬2). مناظرة بين القلب والعين يقول ابن القيم تحت عنوان: في ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منها صاحبه والحكم بينهما: لما كانت العين رائدًا وباعثًا وطالبًا، وهذه لها لذة الرؤية، وهذا له لذة الظفر، كانا في الهوى شريكَيْ عنان، ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه، فقال القلب للعين: أنت الذي سقتني إلى موارد الهلكات، وأوقعتني في الحسرات، بمتابعتك اللحظات ونزهت طرفك في تلك الرياض، ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان، عباس السيسي (34، 35). (¬2) غض البصر (79).

وطلبت الشقاء من الحدق المراض، وخالفت أحكام الحاكمين، فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم؟ أو ما علمت أنه ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان؟! فقالت العين: ظلمتني أولاً وآخرًا، وبؤت بإثمي ظاهرًا وباطنًا، وما أنا إلا رسولك الداعي إليك، ورائدك الدال عليك .. فأنت الملك المطاع، ونحن الجنود والأتباع، أركبتني في حاجتك خيل البريد، ثم أقبلت عليَّ بالتهديد والوعيد، فلو أمرتني أن أغلق علي بابي وأرخي عليَّ حجابي لسمعت وأطعت، ولما رعيت في الحمي ورتعت، أرسلتني لصيد قد نصبت لك حبائله وأشراكه، واستدارت حولك فخاخه وشباكه، فغدوت أسيرًا بعد أن كنت أميرًا، وأصبحت مملوكًا بعد أن كنت مليكا، هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام عليه الصلاة والسلام حيث يقول: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لهما سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب" [مسلم]. وقال أبو هريرة: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبث جنوده، ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك، وصلاحهما ورشدها برشادك، ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك، وحملت على العين خطيئتك، وأصل بليتك أنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته، وأقبلت على غيره وأعرضت عنه، وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه. فلما سمعت الكبد تحاورهما في الكلام وتناولهما الخصام قالت: أنتما على هلاكي تساعدتما، وعلى قتلي تعاونتما، ولقد أنصف من حكى مناظرتكما، وعلى لساني متظلمًا منكما عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلا فألزم القلب طرفي ... وقال كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا فقلت كُفَّا جميعا ... تركتماني قتيلا ثم قالت: أنا أتولى الحكم بينكما، أنتما في البلية شريكا عنان، كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان، فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي .. وإن لم تدرككما عناية مقلب

استقامة صادقة

القلوب والأبصار، وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار، قال الشاعر: فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني المشومة أم قلبي فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب فعيني وقلبي قد تقاسمهما دمي ... فيا رب كن لي عونًا على العين والقلب قالت: مثلكما مثل مقُعْد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانًا، فقال المقعد للأعمى: أنا أرى ما فيه من الثمار، ولكن لا أستطيع القيام، وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئًا، فقال له المقعد: تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول، فعلى من تكون العقوبة؟ فيقول: عليهما. قالت: فكذلك أنتما. استقامة صادقة حكى عن عبد الواحد بن زيد، قال: كنت في مركب، فطرحتنا الريح إلى جزيرة، وإذا فيها رجل يعبد صنما، فقلنا له: يا رجل، من تعبد؟ فأومأ إلى الصنم، فقلنا: إن معنا في المركب من يسّوي مثل هذا، وليس هذا إلهًا يعبد، قال: فأنتم من تعبدون؟ قلنا: الله. قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه. فقال: كيف علمتم به؟ قلنا: وجه إلينا هذا الملك نبيًا كريما فأخبر بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: أدى الرسالة ثم قبضه الله، قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى، ترك عندنا كتاب الملك، فقال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حسانًا، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورة من القرآن، فلم نزل نقرأ ويبكي حتى ختمنا السورة. فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى! ثم أسلم، وحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وسورًا من القرآن، وكنا حين جننا الليل وصلينا العشاء وأخذنا مضاجعنا، قال لنا: يا قوم! هذا الإله الذي دللتموني عليه، إذا جنه الليل ينام؟ قلنا: لا، يا عبد الله، هو عظيم قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام، فأعجبنا كلامه، فلما قدمنا "عبادان" قلت لأصحابي: هذا قريب عهد بالإسلام، فجمعنا له دراهم وأعطيناه، فقال: ما هذا؟ قلنا: تنفقها، فقال: لا إله إلا الله! دللتموني على

المداومة على الإنفاق

طريق سلكتموها، أنا كنت في جزائر البحر أعبد صنمًا من دونه ولم يضيعني، أَوَ يضيعني وأنا أعرفه؟ فلما كان بعد أيام قيل لي: إنه في الموت، فأتيته، فقلت له: هل من حاجة، فقال: قضى حوائجي من جاء بكم إلى جزيرتي. قال عبد الوأحد: فحملتني عيني، فنصت عنده، فرأيت مقابر"عبادان" روضة وفيها قبة، وفي القبة سرير عليه جارية لم ير أحسن منها، فقالت: سألتك بالله إلا ما عجلت به، فقد اشتد شوقي إليه، فانتبهت، وإذا به قد فارق الدنيا، فقمت إليه فغسلته وكفنته وواريته، فلما جن الليل نمت، فرأيته في القبة مع الجارية، وهو يقرأ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23 - 24]. (¬1) المداومة على الإنفاق قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق! لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على زانية! فقال: اللهم لك الحمد، على زانية! لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله" [متفق عليه]. هل تحرص على صدقة أسبوعية أو شهرية لوجه الله ولمساعدة المحتاجين؟ نتيجة الاستقامة وفاة أثناء الذكر: كان الإمام ابن قدامة لا يكاد يسمع دعاء إلا حفظه ودعا به، ولا يسمع ذكر صلاة إلا صلاها، ولا يسمع حديثًا إلا عمل به، وكان لا يترك قيام الليل من وقت شيبوبته، وقلل الأكل في مرضه قبل موته حتى عاد كالعود، ومات وهو قاعد على أصابعه يسبح. ¬

_ (¬1) التوابين (202، 203).

وفاة أثناء الصلاة

اعلم أخي القارئ أن الإمام قد دفن في يوم شديد الحر فأقبلت غمامة فأظلت الناس إلى قبره وهم يشيعون جنازته (¬1). فاحرص على أذكار الصباح والمساء. وفاة أثناء الصلاة: عن مصعب بن عبد الله قال: سمع عامر بن عبد الله المؤذن، وهو يجود بنفسه، ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيك له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟ فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة ثم مات (¬2). قم إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف. وفاة شاب: توفي منذ سنين قريبة، وبالتحديد في منطقة السالمية، وبعد صلاة الفجر من يوم الجمعة، اعتكف بالمسجد مع مجموعة من إخوانه لقراءة سورة الكهف، فانفرد بزاوية من زوايا المسجد واضعًا مصحفه على الكرسي يرتل آيات الله تعالى منتظرًا شروق الشمس حتى يصلي صلاة الضحى، وفجأة سقط رأسه على المصحف ففزع له إخوانه، وقاموا لنجدته، ولكن كان قدر الله إليه سبق. فانظر إلى العبادات التي ختم الله بها حياة صاحبنا: صلاة الفجر جماعة بالمسجد - الدعاء بعد الصلاة والذكر - اعتكاف - قراءة سورة الكهف من القرآن - انتظار صلاة الضحى (¬3). عن يزيد بن أبي حبيب قال: لما احتضر ابن أبي السرح وهو بالرملة، وكان خرج إليها فارًا من الفتنة، فجعل يقول من الليل: أأصبحتم؟ فيقولون: لا، فلما كان عند الصبح، قال: يا هشام، إني لأجد برد الصبح فانظر، ثم قال: اللهم اجعل خاتمة عملي الصبح. فتوضأ، ثم صلى فقرأ في الأولى بأم الكتاب والعاديات، وفي الأخرى بأم القرآن ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار 2/ 82. (¬2) صفة الصفوة 1/ 131. (¬3) الوقت عمار أو دمار 86.

جزاء عدم الاستقامة

وسورة، وسلم عن يمينه وذهب يسلم عن يساره فقُبض - رضي الله عنه -. تأكد أخي الحببب أنه لم يرزق حسن الخاتمة إلا بسبب أنه استقام على طاعة الله في حياته. وفاة الشافعي عن المزني قال: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا ولسوء أعمالي ملاقيًا وعلى الله تعالى واردًا، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما أهلا بالزوار عن الشعبي قال: أصاب سلمان الفارسي - رضي الله عنه - صرة مسك يوم فتح جلولاء فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة قال: هاتي المسك، فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتيني زوار الآن ليس بإنس ولا جان، ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قُبض. عن زياد، مودى ابن عياش، قال: حدثني من دخل على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال: لولا أني أرى أن هذا اليوم آخر يوم في الدنيا وأول يوم من الآخرة لم أتكلم به، اللهم إنك تعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى، وأحب الذلة على العز، وأحب الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، ثم مات. جزاء عدم الاستقامة ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة برًا، وذهب وتركه، وكان هذا العبد لبيبًا عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع شعيرًا ولم

يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيرًا، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك: ازرعها برًا لم زرعتها شعيرًا؟ قال: رجوت من الشعير أن ينتج برًا، قال: يا أحمق أو ترجو من الشعير أن ينتج برًا. قال: يا سيدي أفتعصي الله وترجو رحمته، أفتعصي الله وترجو جنته، فذعر السيد وخاف واندهش، وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله، وأبت إلى الله، وأنت حر لوجه الله (¬1). ... ¬

_ (¬1) قصص وعبر 2/ 23.

الخوف والرجاء

الخوف والرجاء تأملات قال ابن الجوزي: سبحان من أقام من كل موجود دليلاً على عزته، ونصب علم الهدى على باب حجته، الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، إن رفعت بصر الفكر تر دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته، والكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، هذا بعض صنعته: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13]. أما أبصرت قبور القوم؟ يا من صحيفته بالذنوب قد خفت، وموازينه لكثرة العيوب قد حقت، يا مستوطنًا والمزعجات قد لفت، لا تغتر بأغصان المنى وإن أورقت ورفت، أما رأيت أكفًا عن مطالبها قد كفت؟ أما رأيت عرايس الأجساد إلى الألحاد زفت؟ أما عاينت سطور الأجسام في الكتب قد أدرجت، أما أبصرت قبور القوم؟ في رقاع بقاع القاع قد صفت، من عرف تصرف الأيام لم يغفل الاستعداد، إن قبر المنية ليضحك من بعد الأمنية. شمِّر عن ساق الجد إخواني، السنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤوس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والربح الجنة، والخسران النار، لهذا الخطب شمَّر المتقون عن سوق الجد في سوق المعاملة، كلما رأوا مراكب الحياة تخطف في بحر العمر شغلهم هول ما هم فيه عن التنزه في عجائب البحر، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر، فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الدهر. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل

لا للتقصير في القصير

ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون ما بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون ما بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" [متفق عليه]. لا للتقصير في القصير العمر يسير وهو يسير، فأقصروا عن التقصير في القصير، أليس الزمان يعير ثم يغير؟ وهب أنه وهب، أما ضرب الدهر؟ فاستحال الضرب. إعراض الله أعرض الله عن إبليس فخزي ببعده ولعنته، وعن قابيل فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود فقال: أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون فادعى الربوبية على جرأته، وعن هامان فأين رأيه في وزارته؟ وعن قارون فخرج على قومه في زينته، وعن بلعام فهلك، بل عام في بحر شقوته، وعن برصيصا فلم تنفعه سابق عبادته، هكذا جري تقديره من يوم "لا أبالي" في قسمته. خف من النار عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" [رواه مسلم]. وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشد عذابًا منه وإنه لأهونهم عذابًا" [متفق عليه]. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا" فغطي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين (بكاء مع غنة). متفق عليه. كيف تعرف الديك من الدجاجة؟ قال ابن الجوزي: من نام على فراش الكسل، سال به سيل التمادي إلى وادي

نداءات

الأسف، الرجولية قوة معجونة في طين الطبع، والأنثوية رخاوة، ولد السبع عزيز الهمة، وابن الذئب غدار، وكل إلى طبعه عائد، الجد كله حركة، والكسل كله سكون، إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة حين يخرج من البيض، فعلقه بمنقاره، فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة. فُتُورك في السعي في طلب الفضائل دليل على تأنيث العزم. نداءات يا من قد بلغ أربعين سنة، وكل عمره نوم وسنة، يا متعبًا في جمع المال بدنه؟ ثم لا يدري لمن قد أخزنه؟ أعلم هذه النفس الممتحنة، إنها بكسبها مرتهنة، ألا ليعتبر المغرور بمن قد دفنه؟ كم رأى جبارا قد فارق مسكنه؟ أيا راحلين بالإقامة، يا هالكين بالسلامة، أين من أخذ صفو ما أنتم في كدره؟ أما وعظكم في سيره بسيره؟ بلى قد حمل بريد الإنذار أخبارهم، وأراكم تصفح الآثار آثارهم. احذر الغرق عن المقداد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل" -قال: أبو سليم بن عامر الراوي عن المقداد: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي يكحل به العين- فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، رمنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقوية، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار بيده إلى فيه" [رواه مسلم]. إخواني كم أخرج الموت نفسًا من دارها لم يدارها، وكم أنزل أجسادًا يجارها لم يجارها، وكم أجرى العيون كالعيون بعد قرارها. يا معرضاً بوصال عيش ناعم ... ستصد عنه طائعاً أو كارهاً إن الحوادث تزعج الأحرار عن ... أوطانها والطير من أوكارها أين هؤلاء؟! يقول ابن الجوزي: أين من ملك المغارب والمشارق، وعمر النواحي وغرس الحدائق،

اتقوا النار

ونال الأماني وركب العواتق؟ صاح به من داره غراب بين ناعق، وطرقه في لهوه أقطع طارف، وزجرت عليه رعود وصواعق، وحل به ما شيب بعض المفارق، وهجره الصديق والرفيق الصادق، ونقل من جوار المخلوقين إلى جوار الخالق. أخي ما أنت فيه الآن أحلام، ودنياك لا تصلح، وما سمعت ستراه غدًا إلى التمام، ويقع لي ولك، ويحك! أما يؤثر فيك الكلام. اتقوا النار عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة" [متفق عليه]. شهادة الأرض عن أبى هريرة - رضي الله عنه -: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] ثم قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملتَ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها"، [رواه الترمذي]. وصايا غالية قال أبو بكر - رضي الله عنه -: من استطاع أن يبكي فليبك، ومن لم يستطع فليتباك. وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار. وقال حذيفة - رضي الله عنه -: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصير بها منافقًا، إني لأسمعها من أحدكم اليوم عشر مرات. [رواه أحمد]. وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الكبائر. هل دخلت الجنة؟ ومر الحسن بشاب مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس، فقال له

التسبيح أفضل أم الاستغفار؟

الحسن: يا فتى، هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟. قال: فما رُئى ذلك الفتى بعدها ضاحكًا. التسبيح أفضل أم الاستغفار؟ قال ابن القيم: قلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم: أيهما أنفع للعبد التسبيح أم الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له، ثم قال لي رحمه الله: كيف والثياب لا تزال دنسة. خوف يدفع للعمل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة" [رواه الترمذي]. لو تعلمون ما أعلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني أرى ما لا ترون؟ وأسمع ما لا تسمعون، أطتَّ السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" [رواه الترمذي]. لم شبت يا رسول الله؟ عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال أبو بكر: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أراك شبت؟ فقال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" [رواه الترمذي]. الرسول يبكي يقول عبد الله بن الشخير بن عوف - رضي الله عنه -: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخوانه وهم حول قبر يدفنون رجلاً، فبدر من بين أيديهم، ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا.

خوف عمر

يقول ابن القيم: إن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: وددت أني شعرة في جنب مؤمن. وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وكان يبكي كثيرًا ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وقال قتادة: بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خضرة تأكلني الدواب. خوف عمر وهذا عمر - رضي الله عنه - قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه، وقال لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض، عساه أن يرحمني، ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر لي، ثلاثًا، ثم قضي. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في وجهه خطان أسودان من البكاء. وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصَّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل وفعل، فقال: وددت أني أنجو، لا أجر ولا وزر. ماذا عملت فيما علمت؟ وهذا أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء، قد علمت فكيف عملت فيما علمت؟ وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل. بكاء .. بكاء وقرأ تميم الداري - رضي الله عنه - ليلة سورة الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] جعل يرددها ويبكي حتى أصبح. وقال رجل في مجلس عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ. فقال عبد الله: لكن ههنا رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث؛ يعني نفسه.

وقفة تأمل

وقفة تأمل وقالت فاطمة بنت عبد الملك -امرأة عمر بن عبد العزيز- لمغيرة بن حكيم: يا مغيرة، إنه يكون في الناس من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر، وما رأيت أحدًا قط أشد فرقًا من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قعد في المسجد ثم يرفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلم يزل رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عيناه. وبكى يومًا فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، ممن بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم بين يدي الله عز وجل؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه. لماذا لا نبكي؟ لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب. وهكذا عد الصديق قحط العينين وعدم جودهما بالبكاء من علامات قسوة القلب، ويصبح في قسوته كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله. البكاء في النار عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال عن ربه: "وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي" [رواه ابن حبان]. وعن أنس - رضي الله عنه - قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت" [رواه ابن ماجه]. أتعرف ذنب كذا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يدني المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه فيُقره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟

هل تحافظ على الصلاة؟

فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته" [متفق عليه]. هل تحافظ على الصلاة؟ عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقم فيّ كتاب الله، قال: هل حضرت الصلاة؟ قال: نعم، قال: قد غُفر لك. [متفق عليه]. أصبت حدًّا: معصية توجب التعزير، وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي كحد الزنا، والخمر فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة ولا يجوز للإمام تركها. نداء رباني عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأر فخطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" [رواه الترمذي]. بشريات عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" [رواه مسلم]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعه صعق" [رواه البخاري]. وعن أبي ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا

هنيئا لك

تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة". [رواه مسلم]. هنيئًا لك عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك. قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشرون، قال: إذًا يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا (خوفًا من الإثم في كتم هذا العلم) [متفق عليه]. إنك تعبد الرحيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" [متفق عليه]. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًا في السبي فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، قال: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" [متفق عليه]. الخوف أفضل أم الرجاء؟ كقول القائل: الخبز أفضل أم الماء؟ وجوابه أن يقال: الخبز أفضل للجائع، والماء أفضل للعطشان، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب، فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان. قال علي لبعض ولده: يا بني خف الله خوفًا ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارجُ الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك. ***

الخشوع

الخشوع {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]. الخشوع في أصل اللغة: الانخفاض والانكسار. قال تعالى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]. وقال الراغب الأصفهاني: الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل فيما رُوي: إذا ضَرَعَ القلب خشعت الجوارح. ووصف الله الأرض بالخشوع. فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39]. وعرَّف مجاهد الخشوع فقال: الخشوع غض البصر، وخفض الجناح، وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشرد بصره، أو أن يحدِّث نفسه بشيء من أمر الدنيا. وقال ابن تيمية: الخشوع يتضمن معنيين: أحدهما التواضع والذل، والثاني السكون والاطمئنان، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله، وطمأنينته أيضًا. وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته تظهر على الجوارح وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "التثاؤب من الشيطان، فإن تثاءب أحدكم فليرُدُّه ما استطاع" [متفق عليه]. وقال بعضُ العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن. ومما يؤكد أن الخشوع في القلوب ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد رأى رجلاً يطأطيء رقبته في الصلاة، فقال: يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب. ورأت السيدة عائشة رضي الله عنها شبابًا يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت

اعتراف غربي

لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نُساك. فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقًا. وعن أبي نوح الأنصاري قال: وقع حريق في بيت علي بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله النار، يا بن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني عنها النار الأخرى. وكان الفضيل يقول: أفرح بالليل لمناجاة ربي، وأكره النهار للقاء الخلق. تطلب النجاة ولكن لا من باب الطلب، تقف في الصلاة إن صلاتك عجب، الجسم حاضر والقلب في شعب، الجسد بالعراق والقلب في حلب، الفهم أعمى واللفظ لفظ العرب، أنا أعلم بك منك حب الهوى قد غلب، ومتى أسر الهوى قلبًا لم يفلح وكبت. وبلغ من شدة حرص معاذ بن جبل على تعليم المصلين أهمية الخشوع وحضور القلب في الصلاة، أنه قال: من عرف من على يمينه ومن على شماله وهو في الصلاة متعمدًا فلا صلاة له. ومن كلام ابن مسعود: ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن قرع الباب يفتح له. اعتراف غربي: يقول ألكسيس كاريل مؤلف كتاب "الإنسان ذلك المجهول" وأحد الحائزين على جائزة نوبل: "لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عُرفت إلى يومنا هذا، وقد رأيت بوصفي طبيبًا، كثيرًا من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم، فلما رفع الطب يده عجزًا وتسليمًا تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم. إن الصلاة كمعدن "الراديوم" مصدر للإشعاع، ومولد ذاتي للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى استزادة نشاطهم المحدود، حين يخاطبون القوة التي لا يفنى نشاطها. إننا نربط أنفسنا حين نصلي بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون، ونسألها ضارعين أن

صلاة تليق بمعبودك

تمنحنا قبسًا منها، نستعين به على معاناة الحياة، بل إن الضراعة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا، ولن تجد أحدًا ضرع إلى الله مرة إلا عادت هذه الضراعة بأحسن النتائج. وإذا كان هذا هو أثر الصلاة بعامة، فإن الصلاة الإسلامية بخاصة أبعد غورًا وأعمق آثارًا (¬1). صلاة تليق بمعبودك يا واقفًا في صلاته بجسده والقلب غائب، ما يصلح ما بذلته من التعبد مهرًا للجنة فكيف ثمنًا للجنة. رأت فأرة جملاً فأعجبها فجرت خطامه فتبعها فلما وصل إلى باب بيتها وقف ونادى بلسان الحال، إما أن تتخذي دارًا يليق بمحبوبك أو محبوبًا يليق بدارك. خير من هذا إشارة إما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك أو تتخذ معبودًا يليق بصلاتك. نماذج للخاشعين كان سعيد بن جبير يقول: ما عرفت من على يميني ولا من على شمالي في الصلاة منذ أربعين سنة، منذ سمعت ابن عباس يقول: الخشوع في الصلاة ألا يعرف المصلي من على يمينه وشماله. وقال سعيد بن عبيد: كان سعيد بن جبير يؤم قومه فقرأ في صلاته قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)} [غافر: 71 - 72] فجعل ينشج بنشيج يقطع أكباد سامعيه حتى سقط مغشيًا عليه. وكان الربيع بن خثيم إذا سجد كأنه ثوب مطروح؛ فتجيء العصافير فتقع عليه. ويقول عمر بن الخطاب: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام، وما أكمل الله له صلاة. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: لا يتم خشوعها ولا تواضعها، ولا إقباله على الله فيها. ويقول التابعي حسن بن عطية وغيره: إن الرجلين ليكونان في الصلاة، مناكبهما جميعًا، وإن ما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة (301).

قالوا له: وكيف ذلك؟ قال. يكون أحدهما مقبلاً على الله بقلبه، والآخر ساهٍ غافلٌ في صلاته. فأين نحن من هؤلاء الصالحين، فما عملنا إلا كالسراب، وقلوبنا من التقوى خراب، وذنوبنا عدد الرمال والتراب، ثم نطمع بعد ذلك في الكواعب والأتراب، هيهات هيهات لنا، فنحن قوم سكارى بغير شراب. وعن عبد الله بن شداد قال: سمعت عمر يقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف، فسمعت نشيجه وإني لفي آخر الصفوف، وهو يقرأ قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. وقال ابن عمر: صليت خلف عمر فسمعت حنينه من وراء ثلاثة صفوف، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء. وزار القيرواني أبا جعفر القمودي فوجده يصلي، فأطال أبو جعفر صلاته، وأطال القيرواني القعود، وهو منتظر له، فلما انتهى من صلاته قال له القيرواني: يا أبا جعفر، بأقل من هذا التعب وهذا التكلف تصل إلى المقصود وتدرك المطلوب إن شاء الله. فقال له أبو جعفر يا مسكين لو ذقت حلاوة "الله أكبر" ولذتها لما لمت من التعب من الاستكثار منها. يقول رجل لحممة العابد -وكان من خيار- عباد الله الصالحين في عصر التابعين-: ما أفضل عملك الذي ترجوه عند ربك؟ قال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها من حيث كنت فيها، ولولا أن الله أنزل الفرائض متقطعة بين الأوقات لأحببت أن أكون ليلي ونهاري ساجدًا راكعًا لله. أيها المصلي طهر سرك قبل الطهور، وفتش على قلبك قبل الشروع، حضور القلب أول منزل، فإذا نزلته انتقلت إلى بادية العمل، فإذا انتقلت عنها أنخت بباب المناجي، وأول قري ضيف اليقظة كشف الحجاب لعين القلب، وكيف يطمع في دخول مكة منقطع قبل الكوفة، همك في الصلاة متشبث، وقلبك بمساكنة الهوى متلوث، ومن كان متلطخًا بالأقذار لا يغلف،

طريق النصر

ادخل دار الخلوة لمن تناجي وأحضر قلبك لفهم ما تتلو، ففي خلوات التلاوة تزف أبكار المعاني، إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31] استغرقت إحساس الناظرات {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] فكيف بالباب عقلت؟ فعلقت على الباب؟. يقول الحسن البصري: ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ. إن ناموا توسدوا أذرع الهمم، وإن قاموا فعلى أقدام القلق لما امتلأت أسماعهم بمعاتبة "كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني"، خلفت أجفانهم على جفاء النوم. طريق النصر قبل توجه قتيبة بن مسلم إلى فتوحات الصين أرسل رجلاً إلى المسجد ينظر من فيه (أي أنه يستطلع الأحوال الإيمانية أولاً) فقال له الرجل: رأيت محمد بن واسع (وهو من التابعين) رافعًا إصبعه (يدعو)، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحب إليَّ من ثلاثين ألف عنان (أي فرس)، وكان قتيبة يحرص على مصاحبته في الحرب لصلاحه وتقواه. كيف تقيم الصلاة؟ يروى عن عاصم بن يوسف أنه ذكر له عن حاتم الأصم، أنه كان يتكلم مع الناس في الزهد، والإخلاص، فقال عاصم لأصحابه: اذهبوا بنا إليه نسأله عن صلاته إن كان يكملها، وإن لم يكن يكملها نهيناه عن ذلك. قالوا: فأتوه، وقال له عاصم: يا حاتم جئنا نسألك عن صلاتك. فقال له حاتم: عن أي شيء تسألني، عافاك الله؟ عن معرفتها؟ أو عن تأديتها؟ فالتفت عاصم إلى أصحابه وقال لهم: زادنا حاتم ما لم نحسن أن نسأل عنه، ثم قال لحاتم، نبدأ بتأديتها. فقال لهم: تقوم بالأمر، وتقف بالاحتساب، وتدخل بالسنة، وتكبر بالتعظيم، وتقرأ بالترتيل، وتركع بالخشوع، وتسجد بالخضوع، وترفع بالسنة، وتشهد بالإخلاص، وتسلم بالرحمة. قال عاصم: هذه التأدية فما المعرفة؟

أتسهو في صلاتك؟

قال: إذا قمت إليها، فاعلم أن الله مقبل عليك، فأقبل على من هو مقبل عليك، واعلم بأن جهة التصديق لقلبك أنه قريب منك، قادر عليك، فإذا ركعت فلا تؤمل أن تقوم، ومثل الجنة عن يمينك، والنار عن يسارك، والصراط تحت قدميك، فإذا فعلت، فأنت مصل. فالتفت عاصم إلى أصحابه، وقال: قوموا نعي الصلاة التي مضت من أعمارنا. أتسهو في صلاتك؟ قيل لعامر بن قيس: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أو حديث أحب إليَّ من القرآن حتى أشتغل به، هيهات! مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس. وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته، ولقد انهدمت ناحية في المسجد فزع لها أهل السوق، فما التفت. وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته فإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا علما منه أن قلبه مشغول، وكان يقول في مناجاته: إلهي متى ألقاك وأنت عني راض؟. وعن معمر الموذن قال: صلى إلى جنبي سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] فلما أتى قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] وجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا. قال: فخرجت وتركته، وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه فسمعت: فإذا هو يقرأ ولم يجزها حتى أصبح. فقيل له: يا سليمان التيمي من مثلك؟ فقال: لا تقولوا هكذا، لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل، قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. قال القاسم بن معن: رأيت أبا حنيفة قام ليلة كاملة يصلي ويردد قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] ويبكي ويتضرع حتى أُذن لصلاة الفجر. وعن ابن عباس قال: لأن أقرأ البقرة في ليلة وأتفكر فيها أحبُّ إليُّ من أن أقرأ القرآن هذرمة. وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع.

أسلم بسبب الصلاة

وعن يحيى بن وثاب: أن ابن الزبير كان يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جذم حائط. ويقول أحمد بن أبي الحواري: إذا قام العبد في الصلاة قال الله: ارفعوا الحجب بيني وبين عبدي، فإذا التفت قال: ارخوها ودعوه ما رضي لنفسه. ويقول أيضًا: إني لأقرأ القرآن في صلاتي، فانظر في آية آية، فيحار عقلي فيها، فأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا، وهم يتلون كلام الرحمن؟ أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه، وتلذذوا به واستحلوا المناجاة لذهب عنهم النوم فرحًا بما رُزقوا. وعن مسلم بن نياق المكي قال: ركع ابن الزبير يومًا ركعة، فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وما رفع رأسه. وعن أبي بكر بن عياش قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ذهبت الصلاة مني وضعفت ورق عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران. أسلم بسبب الصلاة 1 - المهندس الإيطالي "كلاودود راديزي" الذي صار المسلم خالد عمر، قال: كنت أسير في يوم ما في أحد الشوارع بمدينة القاهرة، فرأيت مسجدًا يسمى مسجد قايتباي، ووجدت نفسي أتوقف فجأة أمام المسجد بدون شعور، وكان ذلك وقت صلاة الجمعة، ووجدت المصلين يصلون الجمعة، فانتابني إحساس لا يمكن وصفه حيث تولدت في نفسي ومضة روحانية. ويقول: أهم شيء جذبني إلى الإسلام الصلاة، حيث إنها علاقة مباشرة بين العبد وربه بدون وسيط، حيث شعرت بإحساس لا يمكن وصفه أثناء الصلاة. وقال: نعم كانت لحظة سعادة لا أستطيع أن أصف مداها حينما انتهت إجراءات إشهار إسلامي .. لقد شعرت بانتمائي لأسرة الإسلام، وانضمامي كفرد إلى أسرة كنت أفتقدها من قبل، وشعرت بمعنى هذه الأسرة وأهميتها، وهذا الشعور لم أشعر به من قبل. إنني أشعر أيضًا بمسئولية تجاه أصدقائي وأقاربي في إيطاليا .. يجب أن أدعوهم لهذا الدين

معنى إقامة الصلاة

العظيم، ومن هذا المنطلق أشعر بحاجتي للتفقه في الإسلام حتى أستطيع أن أشرح لهم التعاليم الإسلامية، وما يدعو إليه الإسلام من آداب، والتحلي بالسلوكيات الحميدة (¬1). يمشون نحو بيوت الله إذا سمعوا ... الله أكبر في شوق وفي جزل أرواحهم خضعت لله في أدب ... قلوبهم من جل الله في وجل نجواهم: ربنا جئناك طائعة ... نفوسنا وعصينا خادع الأمل إذا سجى الليل قاموه وأعينهم ... من خشية الله مثل الجائد الهطل هم الرجال فلا يلهيهم لعب ... عن الصلاة ولا أكذوبة الكسل وإقامة الصلاة تعني أداءها في خشوع وتضرع وحضور قلب. معنى إقامة الصلاة قال الضحاك: عن ابن عباس قال: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال على الله. ما أجمل وأروع السجود الباكي الخاشع لله، وخاصة في جوف الليل، ما أعظم السجدة الخاشعة الباكية يسجدها المكروب يشكو فيها بثه وحزنه إلى الله، فيشعر معها ببرد اليقين، وبزوال همه، وكربه، وانشراح صدره وتيسير أمره (¬2). وكان عبد الله بن الزبير يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها، ولقد مرت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي فوالله ما أحس بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها صلاته ولا تعجل ركوعه. ... ¬

_ (¬1) السر الخفي وراء إسلام هؤلاء (2/ 57 - 60). (¬2) رجل المحراب: (28).

البكاء من خشية الله

البكاء من خشية الله قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" [الترمذي]. قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: "من استطاع أن يبكي فليبك، ومن لم يستطع فليتباك". أحمد في الزهد. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا". عن الشعبي قال: سمعت من عبد الملك بن مروان يقول: "اللهم إن ذنوبي عظمت فجلت عن الصفة، وإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني". قال الشاعر: وإني لآتي الذنب أعرف قدره ... وأعلم أن الله يعفو ويغفرُ لئن عظم الناس الذنوب فإنها ... إن عظمت في رحمة الله تصغر بكاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -:"اقرأ علي القرآن" قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قال: "حسبك الآن" فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان [متفق عليه]. البكاء خوفًا من سوء الخاتمة عن محسن بن موسى قال: كنت زميل سفيان الثوري إلى مكة فرأيته يكثر من البكاء، فقلت له: يا أبا عبد الله، بكاؤك هذا خوفًا من الذنوب؟

إليك عني

قال: فأخذ عودًا من المحمل فرمى به، فقال: إن ذنوبي أهون عليَّ من هذا، ولكن أخاف أن أسلب التوحيد. يا رب إن عظمت ذنوبي ... كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددتَ يدي من ذا يرحم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو المسيء المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم أني مسلم وبكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي. إليك عني عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - استسقى فأتى بإناء فيه ماء وعسل، فلما أدناه من فيه -فمه- بكى، وأبكى من حوله، فسكت وما سكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مساءلته، ثم مسح وجهه وأفاق، فقالوا: ما هيجك على هذا البكاء؟ قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يدفع عنه شيئًا، ويقول: "إليكِ عنى، إليكِ عني"، ولم أر معه أحدا، فقلت: يا رسول الله، أراك تدفع عنك شيئا، ولا أرى معك أحدا، قال: "هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها، فقلت لها: إليك عني، فتنحت، وقالت: أما والله لئن انفلتَّ منى لا ينفلت مني من بعدك، فخشيت أن تكون قد لحقتني، فذاك الذي أبكاني". [الحاكم]. يا عمر الخير جاء أعرابي إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال له: ياعمر الخير جزيت الجنه ... جهز بناتي واكسهنه أقسم بالله لتفعلنه فقال له عمر -مداعبًا-: فإن لم أفعل، يكون ماذا يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: أقسم بالله لأمضينه

كأن النار لم تخلق إلا لهم

فاستمر عمر في مداعبته، وقال له: فإن مضيت، يكون ماذا يا أعرابي؟ فقال: والله عن حالي لتسألنه ... يوم تكون السائلات هنه والواقف المسئول بينهنه ... إما إلى نار وإما إلى جنة فبكى عمرو قال: يا غلام أعطه قميصي لذلك اليوم (يوم القيامة) لا لشعره. كان عمر بن الخطاب يتأثر عندما يذكره أحد بمواقف الآخرة خوفا من ربه. كأن النار لم تخلق إلا لهم عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطى بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا- قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام [رواه البخاري]. محمد بن مسعد قال: قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، كان النار لم تخلق إلا لهما. وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي. إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب شوقا ... وينطق بالهوى من قد تباكى وعن الاعمش قال: بكى حذيفة في صلاته، فلما فرغ التفت، فإذا رجل خلفه، فقال: لا تعلمن بهذا أحدا. أبكي على قلة زادي بكى أبو هريرة - رضي الله عنه - عند موته فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أما إنه ما أبكي على دنياكم هذه ولكن أبكي على بُعد سفري وقلة زادي،

دموعهم جارية

وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي. وقالت أم محمد بن كعب القرظي لمحمد: يا بني، لولا أني أعرفك صغيرًا طيبًا وكبيرًا طيبًا لظننت أنك أحدثت ذنبا موبقا لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار، قال: يا أماه، وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليَّ وأنا في بعض ذنوبي فمقتني فقال: اذهب لا أغفر لك؟. دموعهم جارية كان سعيد بن السائب الطائفي لا تكاد تجف له دمعة إنما دموعه جارية دهره، إن صلى فهو يبكي وإن طاف فهو يبكي، وإن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي، وإن لقيته في الطريق فهو يبكي. وقيل لسعيد بن السائب: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أنتظر الموت على غير عدة. وقال الثوري: جلست ذات يوم أحدّث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي، فجعل سعيد يبكي حتى رحمته، فقلت: يا سعيد، ما يبكيك؟ وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم. فقال: يا سفيان، وما يمنعني من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت منهم بمعزل؟! وعن أبي معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسح وجهه بدموعه، فقيل له: لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار. ويح نفسي! عن عون بن عبد الله أنه كان يقول في بكائه، وذكر خطيئته: ويح نفسي! ويح نفسي! وبأي شيء لم أعص ربي؟ ويحي! إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي! ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني؟! ويحي إن حجبت

البكاء خوفا من النار

يوم القيامة عن ربي! ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني؟! أم كيف تهنأ معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟! أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟! أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري؟ أم كيف تعظم فيه رغبتي والقليل فيها يكفيني؟! أم كيف أوترها وقد أضرت بمن آثرها قلبي؟! وجاء أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: عهدٌ عهده إلينا رسول الله، قال: "لتكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب"، قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا فيه إلا إكافا ووطاء ومتاعا قوّم نحوًا من عشرين درهما. البكاء خوفا من النار عن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - أنه بكى فبكت امرأته فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك بكيت فبكيت لبكائك. قال: إني أنبئت أني وارد ولم أنبأ أني صادر (أي على النار). وكان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إذا تهجد من الليل قال: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى تراه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وقال يحيى بن معاذ: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة والمحاسبة للنفس عند كل همة. وقال يحيى بن معاذ يدعو: اللهم لا تجعلنا ممن يدعو إليك بالأبدان، ويهرب منك بالقلوب، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عليك. أمنية عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار. قال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة إذ أتاه سائل فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى، فقلت: يا أبا محمد، ما الذي أبكاك؟ قال: أي مصيبة أعظم أن يؤمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه (¬1)، الناس فريقان: فريق ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار (2/ 58).

منتهى الخوف

يبكي من معاص حرم الوصول إليها، وفريق يبكي على طاعة لم يوفقه الله لها. منتهى الخوف كان يحيى بن معاذ الرازي يقول: كيف يفرح المؤمن في دار الدنيا إن عمل سيئة خاف أن يؤخذ بها، وإن عمل حسنة خاف ألا تقبل منه، وهو إما مسيء وإما محسن. وعن منصور بن عمار أنه قال: خرجت ليلة من الليالي وظننت أن النهار قد أضاء، فإذا أصبح علا، وإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: اللهم وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولكن عصيتك إذ عصيتك بجهلي، وما أنا بنكالك (عقابك) جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني عليها شقوتي وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فمن عذابك من يستنقذني؟ ومن أيدي زبانيتك من يخلصني؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه إذا قيل للمخفين: جوزوا، وقيل للمثقلين: حطوا! فيا ليت شعري مع المثقلين أحط؟! أم مع المخفين أجوز؟! ويحي كلما طال عمري كثرت ذنوبي! ويحي كلما كبرت سني كثرت خطاياي، فيا ويلي كم أتوب، وكم أعود، ولا أستحي من ربي. من أحسن الأشياء كان السري السقطي يقول: أحسن الأشياء خمسة: البكاء على الذنوب. وإصلاح العيوب. وطاعة علام الغيوب. وجلاء الرين (ما يغطي القلب من سواد الذنوب) عن القلوب. وألا تكون لما تهوى ركوب. وقال: خمسة أشياء لا يسكن في القلب معها غيرها: الخوف من الله وحده، والرجاء من الله وحده، والحب لله وحده، والحياء من الله وحده، والأنس بالله وحده.

عتاب للنفس

عتاب للنفس كان عون بن عبد الله يقول في بكائه وذكر خطيئته: ويح نفسي! بأي شيء لم أعص ربي؟ ويحي! إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي! ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني؟! ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي! ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني؟! أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟! أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري، أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري؟! أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني؟! أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟! أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي؟! تخيل نفسك يقول صاحب الإحياء: تخيل نفسك وقد قرع سمعك النداء إلى العرض، فيكفيك تلك الروعة جزاء عن ذنوبك، إذ يؤخذ بناصيتك، فتقاد وفؤادك مضطرب، ولبك طائر، وفرائصك مرتعدة، وجوارحك مضطربة، ولونك متغير، والعالم عليك من شدة الهول مظلم، فقدر نفسك وأنت بهذه الصفة تتخطى الرقاب، وتخرق الصفوف، وتقاد كما تقاد الفرس، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، فتوهم نفسك أنك في أيدي الموكلين بك على هذه الصفة حتى انتهى بك إلى عرش الرحمن، فرموك من أيديهم، وناداك الله سبحانه وتعالى بعظيم كلامه: يا ابن آدم ادن مني، فدنوت منه بقلب خافق محزون وجل، وطرف خاشع ذليل وفؤاد منكسر، وأعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فكم لك من فاحشة نسيتها فتذكرتها، وكم من طاعة غفلت عن آفاتها فانكشف لك عن مساويها، فكم لك من خجل وجبن، وكم لك من حصر وعجز، فليت شعري بأي قدم تقف بين يديه؟ وبأي لسان تجيب؟ وبأي عقل تعقل ما تقول؟ ثم تفكر في عظم حيائك إذا ذكرك ذنوبك شفاهًا، إذ يقول: يا عبدي أما استحييت مني فبارزتني بالقبيح؟ واستحييت من خلقي فأظهرت لهم الجميل؟ أكنت أهون عليك من سائر عبادي؟ استخففت بنظري إليك فلم تكترث، واستعظمت نظر غيري؟ ألم أنعم عليك؟ فماذا غرك بي؟ أظننت أني لا أراك وأنك لا تلقاني؟

وصية

وصية جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنه - يقال له جندب فقال له: أوصني. فقال. أوصيك بتوحيد الله، والعمل له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع .. يا جندب إنك لن تزداد من مودتك إلا قربا، فصل صلاة مودع، وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك، وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها، وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك. ابك لذنبك طول الليل مجتهدا ... إن البكاء معول الأحزان لا تنس ذنبك في النهار وطوله ... إن الذنوب تحيط بالإنسان وقفات من لم يكن له مثل تقواهم لم يعلم ما الذي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يعلم ما الذي ألم قلب يعقوب. وكان الحسن يبكي كثيرًا ويقول: كنا نسلا من نسل الجنة، وذرية من أهلها، فسبانا إبليس بالخطيئة إلى الأرض فلا ينبغي لنا الفرح في الدنيا، بل يجب علينا الحزن والبكاء ما دمنا في دار السبي، حتى نعود إلى دار الكرامة التي خرجنا منها وأبعدنا عنها. يا من كانت له معنا معاملة، وطالت بيننا وبينه المواصلة، ثم اختار الهجر والمفاصلة، إن لم يكن جميل فلتكن مجاملة، تفكر تعرف قدر ما فاتك، وابك لذنب حرمك الفوز وأفاتك، اسكب دموع أسفك فرب دم بالأسى سفك، واندب أطلال مألفك لعلك تغاث في مواقفك. وأنَّى لابن الخطاب مثل هذا ذهب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد وفاة الصديق يسأل زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها عن عبادته فقال لها: كيف كان أبو بكر يعبد ربه حين يخلو بنفسه؟ فأجابته قائلة: كان إذا جاء وقت السحر قام فتوضأ وصلى ثم يظل يصلي، يتلو القرآن ويبكي، ويسجد ويبكي، ويدعو ويبكي.

دعوني

فبكى عمرو قال: وأنَّى لابن الخطاب مثل هذا؟! وقال عبد الخالق بن عبد الله العبدي: كان عطاء إذا جن عليه الليل خرج إلى المقابر، فوقف على أهل القبور، ثم قال: يا أهل القبور متم فواموتاه! ثم يبكي ويقول: يا أهل القبور عاينتم ما عملتم فواعملاه! فلا يزال كذلك حتى يصبح. يا هذا، المجاهدة لا يصلح لها إلا بطل، متى تغير من جنود عزمك على الإنابة قلب واحد، ثم آمن قلب الهزيمة عليك. دعوني دعوني على نفسي أنوح وأندب ... بدمع غزير واكف يتصبب دعوني على نفسي أنوح لأنني ... أخاف على نفسي الضعيفة تعطب فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصى ... إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب؟! فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي ... إذا كنت في نار الجحيم أعذب! وقد ظهرت تلك القبائح كلها ... وقد قرب الميزان والنار تلهب ولكنني أرجو الإله لعله ... بحسن رجائي فيه لي يتوهب ويدخلني دار الجنان بفضله ... فلا عمل أرجو به أتقرب سوى حب طه الهاشمي محمد ... وأصحابه والآل من قد ترهبوا (¬1) أنجح الوسائل أنجح الوسائل لطلب الحوائج الذل، وأبلغ الأسباب في العفو البكاء، والعيّ -العجز عن الفصاحة- عن ترتيب العذر بلاغة المنكسر، وليس في المياه ماء يقلع آثار الذنوب عن ثوب القلب إلا الدموع، فإن صب الماء ولم يزل الأثر فعليك باغتراف من بحر الاعتراف، احضر نادي المجتهدين، ونادهم: طوبى لكم! قد وجدتم قلوبكم، فارحموا من لم يجد (¬2). ¬

_ (¬1) بحر الدموع 35. (¬2) المواعظ والمجالس 26.

ويحي!

ويحي! بكيت على الذنوب أعظم جرمي ... وحق لكل من يعصى البكاء فلو كان البكاء يرد همي ... لأسعدت الدمع معا دماء أخي: أين الدموع السواجم قبل المنايا الهواجم؟! أين القلق الدائم إلى الذنوب العظائم؟! أيها القاعد والموت قائم، أنائم عن حديثنا أم متناوم؟ بادر بالتوبة من هفواتك، قبل فواتك، والمنايا بالنفوس فواتك (¬1). ابكِ على خطيئتك يقول ابن الجوزي: ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها، وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكانهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها. ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون: اشفع لنا، فيقول: ذنبي، وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم وإلى موسى وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم، فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبا حقيقة، ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا، وهم بعد على خوف منها، ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله: واسوأتاه وإن عفوت!، فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة لحظة تبقي حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له. فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلا، وهذا أمر قلَّ أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة، وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل. ... ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 28.

قيام الليل

قيام الليل يقول تعالى: ({يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4]. ويقول تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]. ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" [رواه الترمذي]. ويقول أيضًا: "أفضل الصلاة دون الفريضة صلاة الليل" [رواه مسلم]. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران؟ ما أطيب أيام الوصال! وما أمرَّ أيام الهجر! ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدا وقياما (¬1). يقول ابن القيم: يحيون ليلهم بطاعة ربهم ... بتلاوة وتضرع وسؤال وعيونهم تجري بفيض دموعهم ... مثل أنهار الوابل الهطال في الليل رهبان وعند جهادهم ... لعدوهم من أشجع الأبطال بوجوههم أثر السجود لربهم ... وبها أشعة نوره المتلالي الليل مدرسة الرجال قال أبو سليمان الداراني: لأهلُ الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا ¬

_ (¬1) بحر الدموع 14.

الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. كان همام بن الحارث يدعو: اللهم اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهرا في طاعتك، قال: فكان لا ينام إلا هنيهة. عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان -وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز- قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك، وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وأوي كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلي، ثم ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية ({أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)} [الشعراء: 205 - 206] فيبكي ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البكاء، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله، كالمستيقظ من النوم، لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حسًا، رحمه الله (¬1). يقول تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 17 - 18]. يقول سيد قطب: فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا، يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام. قال الحسن البصري: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر. وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] كانوا لا ينامون إلا قليلا، ثم يقول: لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا، إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 290، 291).

يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله، مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة، صفة لا أجدها فينا، ذكر الله تعالى قوما فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] ونحن -والله - قليلا من الليل ما نقوم، فقال له أبي - رضي الله عنه -: طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ (¬1). يقول المغيرة: خرجت ليلة بعد أن هجع الناس هجعة، فمررت بمالك بن أنس فإذا أنا به قائم يصلي، فلما فرغ من {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ابتدأ بـ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] حتى بلغ قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فبكى بكاء طويلا، وجعل يرددها ويبكي وشغلني ما سمعت عنه ورأيت عن حاجتي التي خرجت إليها، فلم أزل قائما وهو يرددها ويبكي حتى طلع الفجر، فلما تبين له ركع، فصرت إلى منزلي، فتوضأت، ثم أتيت المسجد، فإذا به في مجلسه والناس حوله، فلما أصبح نظرت فإذا أنا بوجهه قد علاه النور. ويتعجب الإمام أحمد بن حنبل من الذين يطلبون العلم وليس لهم من قيام الليل نصيب، فعن أبي عصمة البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بالماء فوضعه عندي، فلما أصبح نظر في الماء، فإذا هو كما كان على حاله لم يُتوضأ منه، فقال أحمد: سبحان الله! رجل يطلب العلم ولا يكون له ورد بالليل؟! قال المروزي: كنت مع الإمام أحمد بن حنبل نحوا من أربعة أشهر بالعسكر، فكان لا يدع قيام الليل وقراءة النهار، وما علمت بختمة للقرآن ختمها لأنه كان يسر ذلك. ويحكى عن أسلم بن عبد الملك عن رجل من الصالحين كان كثير الصلاة والتهجد، وكان لا يرى نائما بالليل إلا قليلا، فقال له أسلم: يا أخي، ما لي لا أراك تنام كما ينام الناس؟ فقال: إن عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في غيرها. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (6/ 3377).

وعن أزهر -وكان من القوامين- أنه قال: رأيت في المنام امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا، فقلت لها: من أنت؟ قالت: حوراء .. فقلت: زوجيني نفسك؟ قالت: اخطبني إلى سيدي وامهرني. فقلت: وما مهرك؟ قالت: طول التهجد. وقال الحسين الكرابيسي: بت مع الشافعي ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله فيها، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، وكأنما جمع له الرجاء والهيبة جميعا. ويحكى أحمد بن أبي الحواري يقول: قال لي أبو سليمان الداراني: يا أحمد، إني محدثك بحديث فلا تحدثن به أحدا حتى أموت. قال أحمد: وما هو؟ قال الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي من صلاة الليل، فإذا أنا بحوراء تنبهني، وتقول: يا أبا سليمان، تنام عنا، وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟! بؤسا لعين آثرت لذة نوم على لذة مناجاة العزيز، قم -رحمك الله- فقد دنا الفراغ، ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد؟ قال الداراني: فوثبت فزعا وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي. يقول ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة. وعن حماد بن سلمة قال: قرأ ثابت البناني قوله تعالى {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37] وهو يصلي الليل فجعل يبكي وينتحب ويرددها.

يقول أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان الداراني وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك يا أبا سليمان؟ قال: يا أحمد، ولم لا أبكي؟ وإذا جن الليل ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه وافترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى عليهم فنادى جبريل: بعيني من تلذذ بكلامي، فينادي فيهم: ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحبابه؟ أم كيف أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني؟ فبي حلفت إذا وردوا عليَّ يوم القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم (¬1). نحن الذين إذا أتانا سائل ... نوليه إحسانا وحسن تكرم ونقول في الأسحار هل من تائب ... مستغفر لينال خير المغنم قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. فلماذا هذا التكبر والعناد؟ ولماذا الإصرار على الفساد؟ فمن أراد دواء القلوب فليقم بالأسحار، وليكثر من التوبة والاستغفار، وجدوا في الدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له (¬2). وقال محمد بن عبد الله الخزاعي: صلى عبد الواحد بن زيد الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة. الجد الجد، فما تحتمل الطريق الفتور، ضاقت أيام الموسم، فجعجعوا بالإبل. كانت عابدة لا تنام من الليل إلا يسيرا فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بطول الرقدة في القبور رقادا. أيها المقصر عن طلب المزاد، كيف تدرك المعالي بغير اجتهاد؟ أين أهل السهر من أهل الرقاد؟ أين الراغبون في الهوى من الزهاد؟ رحل المتيقظون مستظهرين بكثرة الزاد، ¬

_ (¬1) صلاة الصالحين: 104. (¬2) روائع الأسحار 26.

كل جواد لهم يعرف الجواد، فساروا فزاروا والكسلان عاد. وقالت أم عمرو بن المنكدر: يا بني أشتهي أراك نائما! فقال: يا أماه، إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه مأربي. وقال سفيان: إن لله ريحا مخزونة تحت العرش تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار. يا طويل النوم فاتتك مدحة {تَتَجَافَى} [السجدة: 16]، وحرمت منحة {الْمُسْتَغْفِرِينَ} [آل عمران: 17]، ولست من أهل عتاب" فإذا جنه الليل نام عني" ليس في ليل الهجر منام ومتى رأيت محبا ينام؟!. وقال عبد الرحمن رسته: سألت ابن الهدي عن الرجل يبني بأهله، أيترك الجماعة أياما؟ قال: لا، ولا صلاة واحدة، وحضرته صبيحة بُني على ابنته، فخرج فأذن، ثم مشى إلى بابها، فقال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة، فخرج النساء والجواري، فقلن: سبحان الله! أي شيء هذا؟ وقال أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ: كان هناد بن السري كثير البكاء، فرغ يوما من القراءة لنا، فتوضأ وجاء إلى المسجد فصلى إلى الزوال وأنا معه بالمسجد، ثم رجع إلى منزله فتوضأ، وجاء يصلي بنا الظهر، فأخذ يقرأ في المصحف حتى صلى المغرب، قال: فقلت لبعض جيرانه: ما أصبره على العبادة! فقال: هذه عبادته بالنهار منذ سبعين سنة، فكيف لو رأيت عبادته بالليل؟! ويقول الحسن البصري: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل. وقال بعض الصالحين: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة إلى ما لا يحل حرمت قراءة سورة، وإن العبد ليأكل الأكلة أو ليفعل الفعلة فيحرم بها قيام سنة. وكان عبد العزيز بن أبي رواد إذا جن الليل يأتي فراشه فيمرر عليه يده ويقول: إنك للين، والله إن في الجنة لألين منك. ولا يزال يصلي الليل كله. وكان للفاروق عمر جار فقال: ما رأيت أحدا من الناس كان أفضل صلاة من عمر،

إن ليله صلاة وإن نهاره صيام وفي حاجات الناس (¬1). بل إنه - رضي الله عنه - لشدة ارتباطه بالعبادة والصلاة لما دخل في غيبوبة بعد طعنه لم ينبهوه إلا بذكر الصلاة، فقال أحد الحاضرين: إنكم لن توقظوه بشيء أفزع له من الصلاة. فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين. فقال: ها الله إذا، ولا حق (لا حظَّ) في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليسعب (يسيل) دما (¬2). وكان يهتم بأهل بيته أيضا، فقد روي أنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم: الصلاة، ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] (¬3). وكان من دعاء عامر بن عبد قيس إذا أصبح بعد تهجده: اللهم غدا الناس إلى أسواقهم، وأصبح لكل امرئ منهم حاجة، وحاجتي إليك يا رب أن تغفر لي. وكان لا يبيت كل ليلة حتى يبل عمامته بدموعه. وعن عيسى بن عمرو قال: كان عمرو بن عتبة يخرج على فرسه ليلا فيقف على القبور، فيقول: يا أهل القبور طويت الصحف، ورفعت الأعمال، ثم يبكي، ثم يصف بين قدميه يصلي التهجد، فيرجع فيشهد صلاة الصبح. ويقول مولى عمرو بن عتبة: رأيت ابن عتبة ليلة قائما يصلي فسمعنا زئير الأسد فهربنا وهو قائم يصلي لم ينصرف، فقلنا له بعدما ولى الأسد، وانتهى من صلاته: أما خفت الأسد؟ فقال: إني أستحي من الله أن أخاف شيئا سواه. وعن ابن جريج قال: قال لي عطاء: قال لي طاووس بن كيسان: يا عطاء لا تنزلن حاجتك بمن أغلق دونك أبوابه، وجعل عليها حجابه، ولكن أنزلها بمن بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة، أمرك أن تدعوه وضمن لك أن يستجيب لك. ¬

_ (¬1) حياة الصحابة (3/ 679). (¬2) المصدر نفسه (3/ 93). (¬3) المصدر نفسه (3/ 146).

وكان طاووس يفترش فراشه ويضطجع فيتقلى كما تتقلى الحب في المقلى، ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين. يا هذا، كيف تطيق السهر مع الشبع؟ كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل؟. قلت لليل: هل لجوفك سر ... عامر بالحديث والأسرار؟ قال: لم ألق في حياتي حديثا ... كحديث الأحباب في الأسحار وكان زيد بن الحارث يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءا عليه، وجزءا على ابنه، وجزءا على ابنه الآخر عبد الرحمن، فكان هو يصلي ثم يقول لأحدهما: قم، فإذا تكاسل صلى جزأه، ثم يقول للآخر: قم، فإن تكاسل أيضا صلى جزأه فيصلي الليل كله. وقال الحسن بن علي: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والنهار نقي فلا تدنسه بآثامك. وكان علي بن بكار يفرش الفراش، فيلمسه بيده، فيقول: إنك لطيب، وإنك لبارد، والله لا أعلونك في هذه الليلة. ثم يظل يصلي إلى الصباح. وقال أحد ضباط المباحث -الذين منَّ الله عليهم بالهداية- للإخوان: كنا نرسل بعض المخبرين للتجسس على الإخوان، إلا أننا لا نلبث نفقد الثقة فيمن نرسلهم لإحساسهم بتحولهم وتبدلهم لاحتكاكهم بالإخوان المسلمين حتى تعبنا وأعيانا الأمر، فاخترنا رجلا شريرا وقلنا، هذا سهم نضرب به الإخوان يستعصي على الكسر، ومضت الأيام، وبعد أسبوع واحد فقط، وإذا بهذا المخبر يدخل مكتبي وطلب نقله من عند الإخوان قائلا: ودوني عند الشيوعيين، عند اليهود، عند الكفرة، أما أولاد .... دول لأ، فعجبت من أمره وسألته: لماذا؟ قال: كل ليلة يقومون ويصلون، وشيخهم يقرأ القرآن لهم، الركعة تيجي ساعة، معدتش قادر أصلب طولي (¬1). ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية 277.

السجود

السجود الكل يسجد لله، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. وما من مخلوق إلا وهو داخل في هذا السجود دون اختيار، يقول تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. قال الشوكاني: المراد بسجودهما انقيادهما لله تعالى انقياد الساجدين من المكلفين. احتجاج الهدهد ولقد أظهر الهدهد الاحتجاج وهو محلق على هذه المسافة لا يمكنه سماع ما يقولون للشمس التي يعبدونها، ولكن رؤيته لهم وهم يسجدون لغير الله كانت كافية لأن يحكم عليهم بالكفر: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)} [النمل: 25]. الشمس تسجد في الصحيحين عن أبي ذر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - له حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]. وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فلذلك أمرت الملائكة مريم بالسجود بقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]. وقدموا السجود على الركوع، لأن السجود أفضل أركان الصلاة.

سجدة خير من الدنيا

سجدة خير من الدنيا يأتي زمان تكون فيه السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها. عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخترير، ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها" [رواه البخاري]. ولما كان السجود مظهرا من مظاهر الخضوع والذل فقد أمر الله بني إسرائيل عند دخولهم البلد الذي فتحه الله عليهم وهو قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58]. سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي يطيل السجود، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته -تعني في الليل- فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبيل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة. [رواه البخاري]. هل تذوقت حلاوة الخشوع؟ يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107 - 109] فهذا التأثر الناشيء من التفكر في عظمة الخالق الذي جعلهم يخرون على وجوههم لشدة التأثر والبكاء وهم ساجدون لله تعالى، ليس عندهم ما يتقربون به ويتذللون أكثر من هذا السجود الخاشع، فيزيدهم خشوعا إلى خشوعهم، وانكسارا إلى انكسارهم، فتزداد لديهم حلاوة الإيمان ولذة الخشوع وجمال المناجاة. الرسول سيتعرف عليك يعرف الرسول أمته يوم القيامة بمواضع السجود، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة" قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: "أرأيت لو دخلت صبرة فيها خيل دهم بهم، وفيها فرس أغر محجل أما كنت تعرفه منها؟ " قالوا: بلى، قال: (فإن أمتي يومئذ غر من السجود محجلون من الوضوء" [رواه أحمد].

النجاة بالسجود

النجاة بالسجود النجاة يوم القيامة بالسجود. فقد جاء في حديث البخاري عن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون تحته ... ". أكثر من السجود تصاحب النبي ومن أراد الجنة فعليه بالسجود. عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل"، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" [رواه مسلم]. سجود المؤمنين يقول تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم: 42 - 43] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يآتي لهم سبحانه وتعالى في أدنى صورة رأوه فيها فيقول لهم: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا (مرتين أو ثلاثا) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: وهل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه" [رواه مسلم]. أثر السجود يقول تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. يقول سيد قطب: سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف، وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في

سجود التلاوة

الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة، واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها، فهو أثر هذا الخشوع، أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة، ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا (¬1). سجود التلاوة وحكمه سنة للقارئ والمستمع. عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا" [أبو داود]. ومواضع السجود في القرآن خمسة عشر موضعا. من سجد سجود التلاوة دعا بما شاء، ولم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث عائشة قالت: كان رسول الله يقول في سجود القرآن: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين" [رواه الخمسة إلا ابن ماجه]. سجدة الشكر عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به يخر ساجدًا شكرا لله تعالى. رواه أبو داود. سجود السهو وهما سجدتان يسجدهما المصلي قبل التسليم أو بعده، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" [البخاري]. ... ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (6/ 3332).

التأثر بالقرآن

التأثر بالقرآن حث الإسلام على تدبر القرآن، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وروى ابن عبد البر عن علي - رضي الله عنه - قال: ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا في علم ليس فيه تفهيم، ولا في قراءة ليس فيها تدبر. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: لأن أقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] و {الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1] أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا. وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: لأن أقرأ القرآن في شهر أحب إليّ من أن أقرأه في خمس عشرة، ولأن أقرأه في خمس عشرة أحب إلي من أن أقرأه في عشر، ولأن أقرأه في عشر أحب إلي من أن أقرأه في سبع؛ أقف وأدعو. أحوال السلف مع القرآن يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به. وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به. وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت حتى يعاد للمرض. ويخبر أحد أصحاب الربيع بن خثيم فيقول: كان الربيع يبكي حتى تبل لحيته من دموعه، ومر ذات ليلة بقوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: 12 - 13]. فصعق الربيع، فاحتملناه إلى أهله.

التأثر بآية

وكان يقول: إذا عوتب في بكائه وشدة اجتهاده، أدركنا أقواما كنا في جنوبهم لصوصا. التأثر بآية عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنا ليلة فقام بآية يرددها، وهي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وقام تميم الداري بآية يكررها حتى أصبح أو كاد، وهي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وروى إبراهيم بن علقمة قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود فافتتح سورة طه فلما بلغ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] قال: رب زدني علما، رب زدني علما. وعن عروة بن الزيير - رضي الله عنه - قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر (يعني أمه) وهي تصلي، فقرأت هذه الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فقمت، فلما طال علي ذهبت إلى السوق، ثم رجعت، وهي مكانها، وهي تكرر الصلاة (يعني الآية). وروي أن عامر بن عبد قيس قرأ ليلة سورة المؤمن (غافر)، فلما انتهى إلى هذه الآية {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18] لم يزل يرددها حتى أصبح. وكان بعضهم يقول: كل آية لا أفهمها، ولا يكون قلبي فيها، لا أعد لها ثوابا. وعن أبي سليمان الداراني قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال، وخمس ليال، ولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها. وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء. وشرب عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ماء مبردا فبكى بكاء شديدا، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت آية في كتاب الله {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا شهوتهم الماء.

وعن القاسم قال: صلى ابن عمر- رضي الله عنه - فقرأ قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] حتى بلغ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1 - 6] فبكى ابن عمر حتى حنى ولم يقدر أن يكمل ما بعدها من الآيات. وقال محمد بن كعب: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح ({إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] و {الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1] لا أزيد عليهما، وأتفكر فيهما أحب إلي من أن أهذ القرآن هذَّا، أو قال: أنثره نثرا. وقال الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال. ويقول المقريزي نقلا عن مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مخلد فقرأ سورة البقرة فما ترك ألفا ولا واوا. ويقول الحارت بن سعيد: أخذ بيدي رياح القيسي فقال: هلم يا أبا محمد حتى نبكي على مر الساعات، ونحن على هذه الحال، قال: وخرجت معه إلى المقابر فلما نظر إلى القبور صرخ، ثم خر مغشيًا عليه، قال: فجلست -والله- عند رأسه أبكي، فأفاق، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فابك، ثم قال: وانفساه! وانفساه! ثم غشي عليه. قال: فرحمته -والله- مما نزل به، فلم أزل عند رأسه حتى أفاق، فوثب وهو يقول: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} ... {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12]، مضى على وجهه، وأنا أتبعه لا يكلمني حتى انتهى إلى منزله، فدخل ورجعت إلى أهلي، ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات. ويقول منصور بن عمار دخلت الكوفة فبينما أنا أمشي في ظلمة الليل إذ سمعت بكاء رجل بصوت شجي من داخل دار وهو يقول إلهي، وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولكن عصيتك بجهل مني، فالآن من ينقذني من عذابك؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبالك عني؟ واذنوباه! واغوثاه! يا الله! قال منصور بن عمار فأبكاني كلامه فوقفت فقرأت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ

خوف شديد

مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فسمعت للرجل صياحا شديدا واضطرابا فوقفت حتى انقطع صوته ومشيت. فلما أصبحت أتيت إلى دار الرجل فوجدته قد مات والناس في تجهيزه، وعجوز تبكي، فسألت عنها فقيل: هي أمه، فقمت إليها وسألتها عن حاله، فقالت: كان يصوم النهار ويقوم الليل ويكتسب الحلال فيقسم كسبه ثلاثا: ثلثًا لنفقته، وثلثًا لنفقتي، وثلثًا يتصدق به، فقلما كان البارحة مر إنسان، وهو يقرأ فسمع آية من القرآن ففارق الدنيا (¬1). خوف شديد قرأ عمر بن عبد العزيز بالناس ذات ليلة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} [الليل:1 - 14] خنقته العبرة فلم يستطع أن ينفدها فتركها، وقرأ سورة غيرها. وقرأ ذات ليلة: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، فدخل بيته وتفرق الناس. وقرأ ذات ليلة قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] فبكى بكاء شديدا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة، فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك وهو على هذا الحال، فقال: يا أبت ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني، لقد خشيت أن أهلك، والله يا بني، لقد خشيت أن أكون من أهل النار. أعظم آية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فآتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فآخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله، قال: إني محتاج، وعلي عيال، وبي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " فقلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، فقال: "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرصدته، فجاء يحثو ¬

_ (¬1) خير القرون (2/ 242 - 243).

من أحوال الصالحين

من الطعام فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله، فقال: إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود! فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما من؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله: "ما فعل أسيرك البارحة؟ " فقلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، فقال: ما هي؟ فقلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذلك شيطان" [رواه البخاري]. هل تحرص على قراءة آية الكرسي باستمرار؟ من أحوال الصالحين القاسم بن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعًا وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]. وعن البراء بن سليم قال: سمعت نافعا يقول: ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] ثم يقول: إن هذا لإحصاء شديد. [رواه أحمد]. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] هو قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله رسول الله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي (بستاني) -وحائطه له فيه ستمائة نخلة- وأم الدحداح فيها وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: اخرجي من الحائط

تأثير القرآن في العرب

فقد أقرضته ربي عز وجل. وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" [البخاري]. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" [متفق عليه]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" [مسلم]. تأثير القرآن في العرب قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23]. ويقول ابن مسعود: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن. [الطبري]. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله أنهم كانوا يأخذون من رسول الله عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الآخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعا. [رواه أحمد]. ومن هنا اقتضت حكمة الله أن ينزل القرآن منجما في ثلاث وعشرين سنة في مكة والمدينة، ليتمكن الناس من فهمه والعمل به، قال تعالى لرسوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. هل تشعر بأن قلبك يتأثر عند قراءة القرآن؟ العمل بالقرآن ذكر ابن كثير في تفسيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة - رضي الله عنه - أكثر الناس بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه (بيرحاء) -اسم حديقة له- وكانت مستقبلة

مع سورة الزلزلة

المسجد، وكان النبي يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي:"بخ بخ! ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. [أحمد]. وفي الصحيحين أن عمر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال:"حبس الأصل وسبل الثمرة". [ابن كثير]. ومعنى هذا أن يجعله وقفا في سبيل الله، يحبس أصله، فلا يباع ولا يوهب، وتسبل ثمرته، أي تجعل في سبيل الله، أي في الخير وإعانة الضعفاء والفقراء. يقول سيد قطب: إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق، وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله، ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها، وتسمع توجيهاته، وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام .. ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها، وحين اتخذت القرآن مهجورا، وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة، وتعاويذ ورقى وأدعية، أصابها ما أصابها (¬1). هل تستخرج آية يوميا من القرآن وتعمل بها؟ مع سورة الزلزلة أخرج إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه عن أسماء قالت: بينما أبو بكر يتغدى مع رسول الله، إذ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8] فأمسك أبو بكر، وقال: يا رسول الله، أكل ما عملناه من سوء رأيناه؟ فقال:"ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون به، ويدخر الخير لأهله في الآخرة". ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 859).

ليس لي عذر

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب البكاء، وابن جرير الطبري وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- قال: أنزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] وأبو بكر قاعد يبكي، فقال له رسول الله: "ما يبكيك يا أبا بكر؟ " قال: تبكيني هذه السورة، فقال:" لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم". وأخرج ابن المبارك في الزهد وأحمد وعبد بن حميد والنسائي والطبراني وابن مردويه عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8] فقال: حسبي، لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها. وأخرج سعيد بن منصور عن المطلب بن عبد الله أن رسول الله قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8] فقال الأعرابي: يا رسول الله! أمثقال ذر؟ قال: "نعم"، فقال الأعرابي: واسوأتاه! ثم قام وهو يقولها، فقال رسول الله: "لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عائشة جاءها سائل فسأل، فأمرت له بتمرة، فقال لها قائل: يا أم المؤمنين إنكم لتتصدقون بالتمرة؟ قالت: نعم والله! إن الخلق كثير ولا يشبعه إلا الله، أوَليس فيه مثاقيل ذر كثير؟ وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن برقان قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أتاه مسكين وفي يده عنقود من عنب فناوله منه حبة وقال: فيه مثاقيل ذر كثيرة. ليس لي عذر الشيخ الأعرج عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - يأبى إلا أن يخرج للمشاركة في غزوة أحد مع أن الله عذره في كتابه حين قال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] ومع أن له أربعة بنين يشهدون المعارك خلفا له مع رسول الله، ولكنه يسعى وراء أمنية غالية هي الشهادة، وقد حققها الله له. وعن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] فقال: أي بَني .. جهزوني (أي بعدة الحرب) فقال له بنوه: يرحمك الله .. فقد غزوت مع النبي حتى مات، فنحن نغزو

بل أنت يا رب

عنك، قال: لا، جهزوني، فغدا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها، إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها. قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنني الحرب كثرت السواد، وحفظت المتاع. هل تحرص على أن يرزقك الله الشهادة؟ بل أنت يا رب عن حجر بن قيس المدري قال: بتٌّ عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فسمعته وهو يصلي من الليل يقرأ بهذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 58 - 59] قال: بل أنت يا رب -ثلاثا- ثم قرأ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 63 - 64] قال: بل أنت يا رب -ثلاثا- ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقعة: 68 - 69] قال: بل أنت يا رب -ثلاثا- ثم قرأَ {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} [الواقعة: 71 - 72] قال: بل أنت يا رب -ثلاثا- (¬1). سرعة الاستجابة تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلا، وإني -والله- ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وكل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل (المزخرف الذي فيه تصاوير) فاعتجرت به (شدته على رأسها) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رءوسهن الغربان" ابن كثير في تفسيره. أجل، لم ينتظرن يوماً أو يومين أو أكثر حتى يشترين أو يخطن أكسية جديدة تلائم غطاء الرءوس، وتتسع لتضرب على الجيوب، بل أي كساء وجد، وأي لون تيسر، فهو الملائم والموافق، فإن لم يوجد شققن من ثيابهن ومروطهن، وشددنها على رءوسهن، غير مباليات بمظهرهن الذي يبدون به كان على رءوسهن الغربان. ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب للصلابي (1/ 68 - 69).

تحريم الخمر في أمريكا

تحريم الخمر في أمريكا يقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة بلايين، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون دولار، وقد أعدم في هذه المدة 30 نفسًا وسجن 532335 نفسًا وبلغت الغرامات ستة عشر مليون دولار، وصادرت من الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين دولار، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراما بالخمر، وعنادا في تعاطيها حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 م إلى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة (¬1). يقول البنا: كان القرآن فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم، وكان واسطة العقد في الخطب والعظات فصار واسطة العقد في الحلي والتميمات، أفلست مُحقا حين قلت: ما رأيت ضائعا أشبه بمحتفظ به من كتاب الله! تناقض عجيب في هذا الموقف منا أمام القرآن: أننا نعظمه ما في ذلك شك .. ونذود عنه، ما في ذلك شك .. ونتقرب به إلى الله، ما في ذلك شك، ولكن يا قوم، أخطأتم طريق التعظيم، وتنكبتم سبيل الذود عنه، وضللتم عن جادة التقرب إلى الله به (¬2). القرآن ينادي على الأمة فيقول: أنا القرآن في آياتي الحل كامن ... فهل فكر المسلمون في تطبيقي؟ كان يحيى بن معاذ يدعو: اللهم لا تجعلنا ممن يدعو إليك بالأبدان ويهرب منك بالقلوب، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عندك (¬3). الاستماع إلى القرآن يطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه شيئا من القرآن، قال: قلت: أقرأ ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة: 218. (¬2) الرسائل: 87. (¬3) خير القرون (2/ 322).

أسلموا بسبب القرآن

عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري" قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قال لي: "كف- أو أمسك"، فرأيت عينيه تذرفان. أسلموا بسبب القرآن ابن الزعيم غاندي: والده هو الزعيم "المهاتما غاندي" الهندوسي، وكان ابنه "هيرالال" يسمع كثيرًا عن الإسلام، وعزم على إشهار إسلامه بعد سماع قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85] وفي يوم الجمعة ارتدى قميصًا أبيضا، وتوجه إلى الجامع الكبير في مدينة بومباي، وأمام أكثر من عشرين ألف مسلم أعلن إسلامه، وصادف مضايقات كثيرة وقال: "لست بنادم ولا متأسف لاعتناقي الدين الإسلامي الحنيف كما يقولون ويشيعون، والله يعلم أني ما فعلت أكثر من تلبيتي نداء الحق ونداء ضميري، ورضوخي واستسلامي إلى الضالة المنشودة، والحلقة المفقودة التي كانت ضائعة مني، قد وجدتها أمامي أخيرا متمثلة في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفي سيرة رسوله، "مجلة الإسلام عدد يوليو 1936م" (¬1). بطل العالم في الملاكمة "كاسيوس كلاي" الذي صار محمد علي كلاي: عام 1960م ولما بلغ العشرين من عمره حصل على لقب بطل العالم في الملاكمة في أقصر مباريات الملاكمة، لم تستغرق سوى ثوان معدودة، وأمام ضجيج المعجبين، وفلاشات آلات التصوير أعلن إسلامه قائلا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله". ويقول عن سبب إسلامه: بدأت أعيش مع القرآن، والفاتحة أول سورة حفظتها منه، وبدأت رحلة الإسلام التي هي رحلة طمأنينة، ورحلة إيمان يعيشها صاحبها بتعاليم خالقه. ولم يسلم من الإيذاء، ولكنه كان صابرا، وقال:"إننا لو قمنا بهذه الدعوة سنجد حشودا كبيرة تدخل إلى الإسلام، الذي عندما نقارنه بغيره من الأديان نعرف أنه الدين الهادي إلى القلوب، دين الحق والنقاء" وأخذ كلاي ينتقل من مرحلة اعتناقه للإسلام إلى مرحلة الدعوة إليه بحماس المؤمن وإصرار وعناد من عرف طريق الحق، لقد أخذ يدعو الناس في الأماكن التي ¬

_ (¬1) السر الخفي وراء إسلام هؤلاء 1/ 28.

إسلام قسيس

ينتقل إليها، ويقول لهم: "إنه كلما قرأ المسلم القرآن بعمق، وقام بتأدية الشعائر الإسلامية بصدق وعمق، ركب بر الأمان في رحلة الإسلام، وركب قطار الاستقرار والطمأنينة ويبعد عنه خبث الشيطان". جريدة المسلمون في عددها الأول 1985 (¬1). إسلام قسيس القس المصري "فوزي صبحي سمعان" أصبح معلما للدين الإسلامي، سمع هذه الآيات: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 116 - 117] ودخل كنيسة الإسماعيلية، ووجد نفسه يسجد سجود المسلمين، وبالفعل أشهر إسلامه وهو يبكي (¬2). أستاذ اللاهوت كان يعمل راعي الكنيسة الإنجيلية وأستاذ العقائد واللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط، حتى عام 1953م، ثم سكرتيرا عاما للإرسالية الألمانية السويسرية بأسوان، ومبشرا بين المسلمين ما بين المحافظات من أسيوط إلى أسوان عام 1955 م. سمع القرآن مذاعا بالمذياع يقول: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} [الجن: 1 - 2]. يقول: فأسلمت وغيرت اسمي من "إبراهيم خليل فيلبس" إلى إبراهيم خليل أحمد، وأخذت أدعو للإسلام، ولقد تولت الكنيسة إثارة الجهات المسئولة ضدي، حتى أن وزارتي الأوقاف والداخلية طلبتا مني أن أكف عن الحديث عن الإسلام وإلا تعرضت لتطبيق قانون الوحدة الوطنية، متهما بالشغب وإثارة الفتن، فقررت الهجرة إلى السعودية. لا تعلم كم شعرت براحة نفسية عميقة وأنا أقرأ القرآن الكريم فأقف طويلا عند الآية ¬

_ (¬1) السر الخفي وراء إسلام هؤلاء (1/ 45). (¬2) المصدر نفسه (1/ 168)، مجلة الفيصل: أكتوبر 1992.

خمسة قساوسة

الكريمة {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] (¬1). خمسة قساوسة أشهر خمسة قساوسة إسلامهم بعد مناظرة استمرت ثلاثة أيام بينهم وبين جماعة من الدعاة المسلمين، وقد أشهروا إسلامهم في بور سودان، ومن الطريف أيضا أن أحد عشر قسيسا بالسودان قد أشهروا إسلامهم في الوقت الذي كانوا يقومون فيه بمحاولات التنصير (¬2). إسلام البحار أحد البحارة، كان يساعده في عمله بحار مسلم من اليمن، وأفنيا زهرة شبابهما في لجج البحار، وفي أثناء تلك الفترة كثيرا ما كان يرى هذا المسلم مداوما على صلاته وعبادته، وكان هو يسخر منه أحيانا، ويلمزه أحيانا أخرى .. ولكن المسلم استمر في عمله وعلاقته بربه، غير عابئ به، ما دام لم يحاول منعه من أداء فرائض دينه، وتمر الأيام وتشاء إرادة الله أن يكتنف الموج هذه السفينة الصغيرة، وتحتويها لججه العاتية، فيتيقن البحار ومن معه بالهلاك، ويلجأ إلى مساعده البحار المسلم بتضرع وخنوع ليصلي لله ركعات وقت الشدة، لأنه طالما كان معه في الرخاء، لعل الله ينقذهم مما هم فيه من البلاء، ويتجه البحار المسلم إلى ربه متضرعا أن ينقذهم مستعينا بآية طالما رددها في المواقف المماثلة مستشهدا بقوله تعالى {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40] وتشاء الأقدار فيتبدد الخطر بسكون البحر وهدوء أمواجه، وتنقشع الظلمات، ويلتفت هذا البحار إلى مساعده البحار المسلم ليبدأ معه حوار ظن مستوضحا عن نظر الإسلام في مثل هذه الظاهرة، فشرح له مدلول الآية، فوقف البحار واجما، وقال: هل كان محمد بحارا؟ قال مساعده: لا، قال: هل ركب البحر في حياته؟ قال: لا، قال: وكيف يأتي بمثل ذلك المشهد الذي لم أره متجليا في حياتي العامرة بخوض البحار إلا هذا اليوم الذي لم أجد القرآن يتحدث عنه من واقع المشاهدة؟ قال: هذا من أسرار عظمة الإسلام، وعالمية القرآن، وكان هذا المشهد مدخلا مباشرا لاعتناق هذا البحار الإسلام عن قناعة وفهم. ¬

_ (¬1) مجلة الدعوة: أكتوبر 1976، السر الخفي وراء إسلام هؤلاء (1/ 172). (¬2) صحيفة الرأي العام 25/ 12/ 1988، السر الخفي وراء إسلام هؤلاء (1/ 231).

في ظلال القرآن

ومن هنا يتحدد دور الفرد المسلم، بأن يجعل من نفسه القدوة، وأن يستشعر المسئولية، فيكون مثاليا أولا بالقدوة والعمل في التطبيق والمنهج (¬1). في ظلال القرآن يقول سيد قطب: الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه. والحمد لله .. لقد منَّ الله عليَّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي، ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه. لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إليَّ بهذا القرآن .. أنا العبد القليل الصغير .. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجميل؟! أي رفقة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟! أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟! وعشت في ظلال القرآن أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة، أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال، وأعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل، النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟ وعشت في ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله .. ثم أنظر .. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملي عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها، وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟! يا حسرة على العباد! (¬2). خيبة أهل الكتاب حكى أن ملكا كتب إلى بعض عماله في البلدان أني قادم عليكم فاعملوا كذا وكذا، ¬

_ (¬1) السر الخفي وراه إسلام هؤلاء (2/ 122، 123). (¬2) في ظلال القرآن: 11.

هجر القران أنواع

فعملوا إلا واحدًا منهم، فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر؟ أترى كتبه قائما أو قاعدا؟ فما زال يتفكر حتى قدم الملك ولم يعمل ما أمره به شيئا، فأحسن جوائز الكل وقتل هذا. هجر القران أنواع أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. وقفات خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة، فمر بدار رجلٍ من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقع يستمع قراءته فقرأ "والطور" حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 7 - 8] قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليًا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه - رضي الله عنه -. عمر - رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك، وقرأها وصلى بها، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بها المغرب، وعمر يعلم، ويتأسى، ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا وحسا مفتوحا، فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت، حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة، التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة، فتتخللها وتتعمقها، في لمسة مباشرة كهذه اللمسة، تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأولى كما تلقاها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها، فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (6/ 3394).

آداب تلاوة القرآن

يقول سيد قطب: كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي وطريقنا إلى نيويورك، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب .. ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة، وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها، وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون. وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا -من بين من جاء لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية- سيدة يوغوسلافية فارَّة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة، جاءت وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة، وقالت لنا في إنجليزية ضعيفة: أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم .. ولكن ليس هذا ما جئت من أجله .. إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهده في أية لغة .. ثم .. إن هناك فقرات مميزة في خطبة الجمعة، وهي أشد إيقاعا ولها سلطان خاص على نفسي (¬1). آداب تلاوة القرآن: 1 - تلاوة صفحة على الأقل يوميا. 2 - الوضوء قبل تلاوته. 3 - الاستعاذة بالله من الشيطان قبل تلاوته. 4 - التغني وتحسين الصوت. 5 - محاولة البكاء عند تلاوته. 6 - التطويل في الصلاة بتلاوته. 7 - استقبال القبلة عند تلاوته. 8 - عدم وضع المصحف على الأرض وعدم وضع شيء عليه. 9 - عدم دخول الحمام به. 10 - عدم رفع الصوت به إذا وجد من يصلي أو يذاكر أو أحد مريضا. 11 - البطء وعدم السرعة أثناء التلاوة. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 821).

12 - الاجتماع على تلاوته. 13 - لا يقرؤه في أقل من ثلاث ليال. قال رسول الله: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ليال لم يفقهه". [أصحاب السنن والترمذي]. 14 - التزام الخشوع عند تلاوته. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا" [ابن ماجه]. 15 - أن يحسن صوته به. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زينوا القرآن بأصواتكم" [أحمد]. 16 - ترتيل القرآن. قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. 17 - ألا يكون عند تلاوته من الغافلين عنه المخالفين له إن قرأ (ألا لعنة الله على الكاذبين) وكان كاذبا فإنه يكون لاعنا لنفسه وجاء في التوراة: (أن الله تعالى يقول: أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك، وأنت في الطريق تمشي، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا، حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كيف فصلت لك فيه من القول، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، فكنت أهون عليك من بعض إخوانك، يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل إليه بكل وجهك، وتصغى إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه، أن كف، وها أنا مقبل عليك ومحدث وأنت معرض بقلبك عني، أفجعلتني أهون عليك من بعض إخوانك؟! ". 18 - الاتصاف بصفات أهل القرآن: يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون. ***

التعلق بالمساجد

التعلق بالمساجد قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]. كلما دخل الإسلام بلدًا كان المسجد شعاره وعنوانه، وكان ناديًا للجميع، ومعهدًا للدرس، ومعبدًا للذكر. وقد حض الإسلام على عمارته، وبيَّن لنا أن ذلك يكون بأمرين: الأول تعمير مادي، وذلك يكون بإقامته، وإضاءته، وتنظيفه، وصيانته. والثاني: تعمير روحي، وذلك يكون بالتردد عليه للصلاة والذكر ومدارسة العلم. أما عن التعمير الروحي فيكون ذلك بالصلاة فيه وقراءة القرآن، والذى وتعلم العلم، ومعرفة أحوال المسلمين. فالمساجد لم تبن للصلاة فقط. بل ليهتم كل مسلم بإخوانه المسلمين يسأل عنهم إذا غابوا، ويرشدهم إذا انحرفوا، ويعاونهم إذا احتاجوا، وبذلك يفوز بالفوز العظيم والأجر الجزيل من الله رب العالمين. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كنت تحبسه وتصلى عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلى فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحدث فيه" [متفق عليه]. فالصلاة جماعة بالمسجد تزيد في الأجر والفضل على صلاة المسلم في بيته بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة، وذلك لأنها تغرس فيه حب النظام حيث إنه لا يستطيع أن يصليها قبل وقتها، وتنمي فيه روح الجماعة حيث لا يخاطب ربه إلا بصيغة الجمع {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وتقيم له الدليل على أن الناس جميعًا سواء في وقوفهم أمام الله رب العالمين.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسجد بيت كل تقي، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالرَّوح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة" [رواه الطبراني]. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام" [متفق عليه]. وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زواري عمَّارها، فطوبى لمن تطهر في بيته وزارني في بيتي، وحق على المزور أن يكرم زائره". قال ابن عباس: إن المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهلها كما تضيء نجوم السماء لأهلها. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" [مسلم]. ومن مظاهر التعلق بالمسجد الحرص على صلاة الجماعة فقد كان الرسول يحرص على حضور صلاة الجماعة في المسجد حتى وهو في مرض الموت، فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله؟ قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب (الإجانة) قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء "ليقوم" فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قال: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد، ينتظرون النبي لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي إلى أبي بكر، بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر -وكان رجلا رقيقا-: يا

عمر، صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام [البخاري] فانظر -رحمك الله- إلى أي مدى كان رسول الله حريصا على الصلاة؟! ولما وجد في نفسه خفة خرج إلى المسجد فكيف كانت خفته؟ قالت عائشة: فوجد النبي من نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع (أي لم يكن يقدر على رفعهما من الأرض). يقول سيد قطب: "إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب، صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة، وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا، ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلاة بربه، الموصول الروح بالوحي والإلهام .. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق، وريًا في الهجير، ومددا حين ينقطع المدد، ورصيدا حين ينفد الرصيد (¬1). ونلاحظ محاسبة النفس على التقصير في أداء الصلاة: عن نافع أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعة، أحيا بقية ليلته. وحرص السلف على صلاة الجماعة، قال القواريري: لم تكن تكاد تفوتني صلاة العتمة في جماعة، فنزل بي ضيف فشغلت به، فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة، فإذا الناس قد صلوا، فقلت في نفسي: جاء عن النبي: أن "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" [البخاري]. فانقلبت إلى منزلي فصليت العتمة سبعا وعشرين مرة، ثم رقدت فنمت، فرأيتني كأني مع قوم راكبين أفراسًا، وأنا راكب، ونحن نتجارى وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم، فالتفت إلي آخرهم، فقال: لا تجهد فرسك، فلست بلاحقنا، قال: فقلت: ولم؟ قال: لأنا صلينا العتمة -يعني العشاء- في جماعة. وقال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا. ¬

_ (¬1) فى ظلال القرآن (1/ 69).

يخرجون للصلاة وهم مرضى

وكان الإمام المزني شيخ الشافعية -رحمه الله- إذا فاتته صلاة الجماعة، صلى تلك الصلاة خمسا وعشرين مرة. يخرجون للصلاة وهم مرضى عن عبد الله بن مسعود قال: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". [مسلم]. وعن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، أنه كان يحمل وهو مريض إلى المسجد. هل تحرص على صلاة الجماعة مهما كانت الأسباب؟ في أصعب الظروف كان الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي للصلاة يحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك؟ قال: إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة (¬1). وقال ربيعة بن عبد الرحمن: المروءة في الحضر: الإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن، وكثرة الإخوان في الله عز وجل. وفي رواية: أما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج (¬2). وقال السخاوي عن مدين بن أحمد المغربي: مكث دهرا إلى حين وفاته لا تفوته التكبيرة الأولى من صلاة الصبح ويمكث في مصلاه وهو على طهارة إلى أن يركع الضحى وربما جلس بعد ذلك. وكان أبو السعود الكازورني أول الناس دخولا المسجد وآخرهم خروجا، لزم صلاة الجماعة بالمسجد النبوي بحيث لا يفوته فرض إلا لعذر، وكان لا يخرج من المسجد إلا آخر الناس خصوصا بعد صلاة العشاء ويقول: أحب أن أكون آخر الناس ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (338). (¬2) المصدر نفسه (339).

من أحوال السلف

خروجا وأولهم دخولا (¬1). وكان القاضي حسين بن محمد بن عبد الوهاب قد ثقل آخر عمره، فكان يخرج لصلاة الجماعة يتهادى بين رجلين حتى يقام في الصف وله من العمر نحو اثنتين وتسعين سنة (¬2). وقال ابن الخطيب: بقي الحفار الغرناطي نحوا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادي بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة. وقال إبراهيم الكينعي: صلى حاتم الحملاني زهاء أربعين سنة إماما، ما ترك صلاة واحدة في جماعة، ولا سجد للسهو في جميع هذه المدة إلا ست مرات، وكان لا يدع البكاء في الصلاة مطلقا، وقبضت روحه وهو يصلي. وروى ابن سعد، عن عبد الرحمن بن السور بن مخرمة، قال: جاء عمر إلى سعيد بن يربوع، إلى منزله، فعزاه بذهاب بصره، وقال: لا تدع الجمعة ولا الصلاة في مسجد رسول الله، قال: ليس لي قائد، قال: فنحن نبعث إليك بقائد، فبعث إليه بغلام من السبي. وقال ثابت بن الحجاج: خرج عمر بن الخطاب إلى الصلاة، فاستقبل الناس، فأمر المؤذن فقام وقال: والله لا ننتظر لصلاتنا أحدا، فلما قضى صلاته، أقبل على الناس، ثم قال: ما بال أقوام يتخلفون، يتخلف بتخلفهم آخرون، والله لقد هممت أن أرسل إليهم فيجأ (يضرب) أعناقهم، ثم يقال: اشهدوا الصلاة. من أحوال السلف عبد الله بن الزبير بن العوام كان يسمى حمام المسجد .. الربيع بن خثيم كان يقول: إني لآنس بصوت عصفور المسجد من أنسي بزوجتي، وكان -رحمه الله- بعدما سقط شقه يهادي بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون: يا أبا يزيد، قد رخص الله لك، لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 340، 341). (¬2) المصدر نفسه (1/ 342).

الحرص على صلاة الفجر

ينادي: حي على الفلاح، فمن سمع منكم: حي على الفلاح، فليجبه ولو زحفًا، ولو حبوا. وعن أبي حيان التيمي عن أبيه: أصاب الربيع الفالج (الشلل) فكان يحمل إلى الصلاة، فقيل له: إنه قد رخص لك، قال: قد علمت، ولكن أسمع النداء بالفلاح. الحرص على صلاة الفجر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما قام الليل كله" [مسلم]. انظر إلى الصحابي الجليل الحارث بن حسان، تزوج في ليلة من الليالي، فحضر صلاة الفجر مع الجماعة. روى الإمام الطبراني عن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث ابن حسان وكان له صحبة، فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الليلة؟ فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء. وعن هشيم عن أبيه قال: فقد عمر رجلا في صلاة الصبح، فأرسل إليه فجاء، فقال: أين كنت؟ فقال: كنت مريضا، ولولا أن رسولك أتاني لما خرجت، فقال عمر: فإن كنت خارجا إلى أحد، فأخرج للصلاة. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يمر في الطريق مناديا: الصلاة الصلاة -يوقظ الناس لصلاة الفجر- وكان - رضي الله عنه - يفعل ذلك كل يوم. وروى ابن سعد عن الحسن يحدث عن خروج عليّ في اليوم الذي طعن فيه من بيته، حيث يقول: فلما خرج من الباب نادى: أيها الناس الصلاة الصلاة، كذلك يفعل في كل يوم، ومعه درته يوقظ الناس (¬1). وقال علي بن بكار: مذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر، لو قمت في السحر لرأيت طريق العباد قد غص بالزحام، لو وردت ماء مدين، وجدت عليه أمة من الناس يسقون. وقال أبو الزناد: كنت أخرج من السحر إلى مسجد النبي فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ. ¬

_ (¬1) من يظلهم الله 332.

أنس يبكي

فأما اليوم فنشكو إلى الله أحوال المسلمين؛ فلا تكاد تمر ببيت في صلاة الفجر إلا وتسمع غطيط أهله بالنوم بعد سهر الليل على مسلسلات الحب والغرام وكلمات الفحش والإجرام، ليل صاخب ووجه شاحب وابتعاد عن الهدي الأول، نعم، فإلى وقت قريب لم يكن ليل المسلمين هكذا، بل كان ليل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، ليل الصالحين والصالحات، ليل الراكعين والراكعات، ليل الساجدين والساجدات، ليل التائبين، ليل المستغفرين، فما الذي دهانا؟ ما الذي دهانا معشر البنين والبنات؟! سيئات وشهوات، وقنوات ومسلسلات (¬1). وكان الصالحون من هذه الأمة حريصين على بدء القتال دائما بعد صلاة الصبح، وليس قبلها، حتى لا تضيع عليهم الصلاة، لأن وقتها قصير، وحتى يحصلوا على بركة الساعات الأولى من النهار، وحتى يبتهلوا إلى الله في صلاتهم أن ينصرهم على أعدائهم. خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يكن يبدأ قتاله إلا بعد صلاة الصبح. ويوسف بن تاشفين -رحمه الله- زعيم دولة الرابطين، وقائد من أعظم قادة المسلمين، لم يخض موقعة الزلاقة المشهورة إلا بعد أن صلى الفجر بجيش المسلمين، ثم بدأ القتال. وقطز -رحمه الله- بدأ القتال في موقعة عين جالوت المشهورة ضد التتار بعد صلاة الصبح مباشرة (¬2). أنس يبكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان يبكي كلما تذكر فتح "تستر". و"تستر" كانت مدينة فارسية حصينة حاصرها المسلمون سنة ونصفًا بالكامل، ثم سقطت المدينة في أيدي المسلمين، وتحقق لهم فتح مبين، وهو من أصعب الفتوح التي خاضها المسلمون .. فإذا كان الوضع بهذه الصورة الجميلة المشرقة فلماذا يبكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - عندما يتذكر موقعة تستر؟ ¬

_ (¬1) روائع الأسحار 29. (¬2) كيف تحافظ على صلاة الفجر؟ ص 80.

فضيلة الوقت بعد الفجر

لقد فتح باب حصن تستر قبيل ساعات الفجر بقليل، وانهمرت الجيوش الإسلامية داخل الحصن، ودار لقاء رهيب بين ثلاثين ألف مسلم، ومائة وخمسين ألف فارسي، وكان قتالا في منتهى الضراوة، وكانت كل لحظة في هذا القتال تحمل الموت، وتحمل الخطر على الجيش المسلم. موقف في منتهى الصعوبة .. وأزمة من أخطر الأزمات. ولكن في النهاية -بفضل الله- كتب الله النصر للمؤمنين .. وانتصروا على عدوهم انتصارا باهرا، وكان هذا الانتصار بعد لحظات من شروق الشمس، واكتشف المسلمون أن صلاة الصبح قد ضاعت، في ذلك اليوم الرهيب لم يستطع المسلمون في داخل هذه الأزمة الطاحنة والسيوف على رقابهم أن يصلوا الصبح في ميعاده، ويبكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - لضياع صلاة الصبح مرة واحدة في حياته، ويقول أنس: وما تستر؟ لقد ضاعت مني صلاة الصبح، وما وددت أن لي الدنيا جميعا بهذه الصلاة (¬1). فضيلة الوقت بعد الفجر ثبت لهذا الوقت من الفضيلة والخصوصية ما يوجب على المسلم في عمارته بالطاعة: فقد أقسم الله به في قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وأرشد العباد إلى التسبيح فيه بقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. قال ابن القيم: ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير (أي العبادة والتوجه إلى الله) في ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت، حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق وحصول القسم وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه (أي النهار) على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر. ¬

_ (¬1) كيف تحافظ على صلاة الفجر؟ 81، 82.

نماذج رائعة

نماذج رائعة تقول أم الشهيد يحيي عياش يوم استشهاده: ما ترك صلاة الفجر في المسجد يوما واحدا منذ عشرين سنة. وها هو الشيخ المجاهد القعيد أحمد ياسين يرزقه الله الشهادة -التي طالما تمناها ودعا الله بها- بعد صلاة الفجر لتكون هي آخر عمل له في الدنيا. روى الإمام مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة -رحمه الله- في صلاة الصبح في يوم من الأيام (يوما واحدا) وأن عمر بن الخطاب غدا إلى السوق- ومسكن سليمان بين السوق -والمسجد النبوي- فمر على الشفَّاء أم سليمان رضي الله عنها فقال لها: لم أر سليمان في الصبح. فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه (لم يكن يشاهد التليفزيون). فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليّ من أن أقوم ليلة. لقد كانت بيعة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليكون أميرا للمؤمنين بعد الصديق في صلاة الفجر في المسجد النبوي .. فقد توفي الصديق - رضي الله عنه - مساء ودفن مساء، وفي صلاة الفجر من اليوم التالي بويع عمر بن الخطاب بالخلافة. وهذا يعني أن كبار رجال الدولة والأمراء والوزراء وأهل الحل والعقد ومن بيده الأمر كل هؤلاء كانوا يصلون الفجر في جماعة، ويأخذون قرارات مصيرية جدا في صلاة الفجر (¬1). هل تحافظ على أداء صلاة الفجر يوميا في جماعة؟ الحرص على تكبيرة الإحرام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى لله أربعين يوما في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق" [الترمذي]. ويقول عدي بن حاتم: ما جاء وقت صلاة قط إلا وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت ¬

_ (¬1) كيف تحافظ على صلاة الفجر؟ ص 79.

إلا وأنا إليها بالأشواق (¬1). ويقول سعيد بن المسيب: ما فاتتني الصلاة في جماعة، وقال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة. وكان يحيى بن القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظا على الصلاة في الجماعة، وعلى الصف الأول، قال يحيي: وهو علامة الإسلام، وكان يحيى يلتمس الحائط حتى يقوم في الصف الأول. مفتي الحرم شيخ الإسلام أبو محمد عطاء بن أبي رباح قال عنه ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة. قال أبو مسهر حدثنا عبد الرحمن بن عامر: سمعت ربيعة بن يزيد يقول: ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضا أو مسافرا. وقال زياد بن أيوب: حدثنا أبو بكر قال: كان عاصم بن أبي النجود إذا صلى ينتصب كأنه عود، وكان يكون يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابدا خيرا، يصلي أبدا، ربما أتى حاجة، فإذا رأى مسجدا قال: مل بنا فإن حاجتنا لا تفوق، ثم يدخل فيصلي (¬2). وعن عثمان بن حكيم؟ سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد (¬3). وكان السلف إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام. وكان منهم من يبكي عندما تفوته تكبيرة الأحرام مع الجماعة، ومنهم الذي يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة. ومنهم القائل وقد قارب التسعين: "لم أصل الفريضة منفردا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما". قال وكيع بن الجراح عن الإمام العظيم سليمان بن مهران (الأعمش): كان ¬

_ (¬1) حياة الصحابة (3/ 97). (¬2) من يظلهم الله (1/ 334). (¬3) المصدر نفسه (1/ 320).

الأعمش قريبا من السبعين لم تفته التكبيرة الأولى. ولله در إبراهيم التيمي حيث يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه. ولله در القائل: لا يصنع الأبطال إلا ... في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ... ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ... ورق يذريه الرياح من خان "حي على الصلاة" ... يخون "حي على الفلاح" يا ابن آدم، إذا هانت عليك صلاتك فأي شيء يعز عليك في دينك؟ (¬1). قال أسيد بن جعفر: بشر بن منصور ما فاتته التكبيرة الأولى قط. قال الحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم: بلغني أنه أذن سبعين سنة في مسجده (¬2). يروي مصعب بن عبد الله أن عامر بن عبد الله بن الزبير سمع المؤذن ينادي بالصلاة وهو يحتضر وينازع الموت -وكان منزله قريبا من المسجد- فقال لمن عنده: خذوا بيدي إلى المسجد. فقيل له: إنك عليل. فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟ فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات وهو في الصلاة. يقول وكيع بن الجراح: من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يكن قد وقرها، ومن تهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه. ومن الأمثلة العملية على هذا التبكير ما روي عن برد مولى سعيد بن المسيب قال: ما نودي بالصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد. ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 324، 325). (¬2) المصدر نفسه (1/ 336، 337).

حالك في الصلاة

يقول سفيان بن عيينة: إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة. بداية بالوضوء: كان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه انتفض وارتعد وبكى بكاء شديدا، فقيل له في ذلك، فقال: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم، إني أريد أن أقوم بين يدي الله تعالى. كان علي بن الحسين إذا توضأ يصفر فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك على الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟! حالك في الصلاة شيخ الإسلام الرباني أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي قال عنه معمر مؤذنه: صلى إلى جنبي سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة، وسمعته يقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] قال: فلما أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] جعل يرددها حتى خف أهل المسجد فانصرفوا، قال: فخرجت وتركته، قال: وعدت لأذان الفجر، فنظرت فإذا هو في مقامه، قال: فسمعت، فإذا هو فيها لم يجزها وهو يقول: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]. قال ابن وهب: رأيت سفيان الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء. وقال علي بن الفضيل: رأيت الثوري ساجدا، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه (¬1). ... ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 335).

الورع

الورع الورع نوعان: مندوب، وهو ترك الشبهات، وواجب وهو ترك المحرمات. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. الورع ينظف القلب من نجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الورع في كلمة واحدة: "من حسن إسلام الرء تركه ما لا يعنيه" [ابن ماجه]. فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع. قال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا. قال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن؛ فورع الظاهر: ألا لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو ألا تدخل قلبك سواه. المرء إن كان عاقلا ورعا ... أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه (¬1) وإليك قصصًا في ورع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين والصالحين، نسأل الله أن يرزقنا الورع. ورع الرسول عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - مرَّ بتمرة في الطريق، فقال:" لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" [رواه البخاري]. ماذا لو علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هناك أناسا من أمته يأكلون أموال اليتامى ظلما، ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي: 90.

سبحان الله!

ويأخذون حقوق العاملين بغير وجه حق، وينهبون أموال الشعوب المستضعفة؟ قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. سبحان الله! عن صفية بنت حيي -رضي الله عنها- قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فقام معي ليقلبني (يصحبني إلى منزلي) -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلكما (التأني والتمهل) إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا -أو قال شيئا-" [رواه مسلم]. أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يوضح لهما حقيقة الأمر، لأنه يعلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولذلك لا يصح لمسلم أن يسير مع فتاة في الطريق العام بحجة أنها خطيبته، فلا تجوز الخلوة بالأجنبية، وهي ما زالت أجنبية عنك لأن الخطبة وعد غير ملزم. الحرام حرام بعد مقتل عمرو بن ود بعث المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: "ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية"، فلم يقبل منهم شيئا، وقد حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من بعض المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟! (¬1). أبو بكر الصديق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان لأبي بكر - رضي الله عنه - غلام يخرج له الخراج، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ فقال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه" الخراج: ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب للصلابي (1/ 120).

ورع وخوف

شيء يجعله السيد على عبده يؤديه يوميا في كسبه يكون لعبده. وهكذا كان أبو بكر يخاف من حساب ربه يوم القيامة. ورع وخوف روى أبو نعيم في الحلية: أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كانت له امرأتان فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ من بيت الأخرى، ثم توفيتا في السقم الذي أصابهما بالشام فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما أيتهما تقدم في القبر خوفا من ربه. إنه يخاف من حساب ربه، فكان ورعا في دفنهما، والمسلم يجب عليه العدل بين الزوجتين في كل شيء من باب الورع. قال الحسن البصري: أدركنا أقواما كانوا يتركون سبعين بابا من الحلال خشية الوقوع في الحرام. نموذج فريد استعمل عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه ماله وزقاق فيها عسل وسمن، فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلا، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن، فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم، فعد الزقاق فنقصت زقين، فسأله عنهما، فكتمه وقال: نحن نحضرهما، فعزم عليه إلا ذكرها له، فأخبره، فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع (¬1). إنما هاجر به أبوه عن نافع أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته؟ فقال: "إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس كمن هاجر بنفسه" [رواه البخاري]. وهذا من ورع عمر بن الخطاب حتى مع أبنائه، وإنه لمثال لكل مسئول في بلاد ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب للصلابي (1/ 280).

من أين لك هذا؟

المسلمين صغيرا كان أو كبيرا أن يتورع ويتعفف عن أموال الناس، ولا يحابي أهله. من أين لك هذا؟ روى مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم، قال: شرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء فإذا نعم من نعم الصدقة .. وهم يسقون فحلبوا لنا من ألبانها فجعلته في سقائي هذا. فأدخل عمر إصبعه فاستقاءه. ويقول المسور بن مخرمة: كنا نلزم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نتعلم منه الورع. محاسبة الأهل أولاً كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شديدا في محاسبة نفسه وأهله، وكان إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني -والله- لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر. وقد منع عمر أهله من الاستفادة من المرافق العامة التي رصدتها الدولة لفئة من الناس، خوفا من أن يحابى أهله به، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: اشتريت إبلا أنجعتها الحمى (أدخلتها أرضا مخصصة لرعاية الإبل) فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلا سمانا، فقال: لمن هذه الإبل؟ فقيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ! ابن أمير المؤمنين قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين. حتى لا يقال إن عمر قام بمحاباة ابنه على غيره، وحتى لا تقدم له مميزات لم تقدم لباقي الرعية. خذه يا معيقيب قال معيقيب: أرسل إليَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب

ميزان رباني

ابنه عاصم! فقال لي: أتدري ما صنع؟ إنه انطلق إلى العراق فأخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين فانتفقهم (سالهم النفقة) فأعطوه آنية وفضة ومتاعا، وسيفا محلى، فقال عاصم: ما فعلت، إنما قدمت على أناس من قومي، فأعطوني هذا، فقال عمر: خذه يا معيقيب فاجعله في بيت المال. فهذا مثل في التحري في المال الذي يكتسبه الإنسان عن طريق جاهه ومنصبه بدون جهد. ميزان رباني قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة تحسن الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد: أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك، قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحي به عنقك، فأصيب فضلا على المسلمين. فهذا من احتياطه البالغ لأمر دينه وخوفه من أن تمسح زوجته عنقها منه فيكون قد أصاب شيئا من مال المسلمين. بينما لا يتذكر هذه الملاحظات بعض أصحاب المناصب الآن. خوف من الشبهات قال معدان بن أبي طلحة اليعمري: إنه قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لن أستاثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله نارا في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صفحة (إناء) من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة. أمير الؤمنين عمر يرغب في أن يأكل مع عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج أن يأكل من طعام صنع من مال السلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال في العفة والورع إذ إن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس فيه شبهة تحريم لأنه منهم ولكنه قد أعف نفسه عن ذلك ابتغاء ما عند الله تعالى، ولشدة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشبهات فحمى نفسه منه.

من غشنا فليس منا

من غشنا فليس منا يحكى أن أحد الصالحين كان يوصي عماله في المحل أن يكشف للناس عن عيوب بضاعته إن وجدت، وكلما جاء مشتر أطلعه على العيب. فجاء ذات يوم يهودي فاشترى ثوبًا معيبًا، ولم يكن صاحب المحل موجودًا فقال العامل: هذا يهودي لا يهمنا أن نطلعه على حقيقة الثوب، ثم حضر صاحب المحل فسأله عن الثوب فقال: بعته ليهودي. فسأله: هل أطلعته على ما فيه من عيوب؟ فقال: لا، فقال: أين هو؟ فقال: سافر مع القافلة. فأخذ الرجل المال معه ثم تبع القافلة وأدركها بعد ثلاثة أيام فقال: يا هذا اشتريت ثوب كذا وكذا به عيب، فخذ دراهمك؟ وهات ثوبي. فقال اليهودي: ما حملك على هذا؟ فقال الرجل: الإسلام وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا". فقال اليهودي: والدراهم التي دفعتها لكم مزيفة، فخذ بدلها ثلاثة آلاف صحيحة وأزيدك أكثر من هذا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. ويحك تسقيني نارا! عن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره، فقال: ويحك! من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارا! فهذا مثل ورع أمير المؤمنين عمر، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الوقت. بكى الناس إشفاقا مرض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوما فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل

ورع الولاة

جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليَّ حرام، فبكى الناس إشفاقا عليه وأذنوا له جميعا، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء من بعدك. فلا يجوز لأي مسئول أن يأخذ من أموال المسلمين بغير حق، ولا يستثمرها لصالحه في البنوك ويهرب بها إلى الخارج. ورع الولاة حرص العديد من الولاة على أن يعفى من الأعمال الموكلة إليهم فقد استعفى عتبة ابن غزوان عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- من ولاية البصرة فلم يعفه، كما أن النعمان بن مقرن كان واليا على كسكر فطلب من عمر أن يعفيه من الولاية ويسمح له بالجهاد رغبة في الشهادة، كما رفض بعض الصحابة الولاية حين طلب منهم عمر أن يعملوا في الولايات، فقد رفض الزبير بن العوام ولاية مصر حينما عرض عليه ذلك قائلا: يا أبا عبد الله، هل لك في ولاية مصر؟ فقال: لا حاجة لي فيها ولكن أخرج مجاهدا وللمسلمين معاونا. كما رفض ابن عباس ولاية حمص حينما عرض عليه عمر أن يوليه إياها بعد وفاة أميرها. المسلم لا يسعى إلى الإمارة على الآخرين، لأنها أمانة هي خزي وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها، فإن كنت مسئولا فاتق الله في عملك وكن ورعا. اجعلها سوقا للمسلمين بعث عمرو بن العاص إلى الفاروق بقوله: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع، فكتب عمر: أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟! وأمره بأن يجعلها سوقا للمسلمين. وهذا دليل على كمال ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وزهده في مظاهر الدنيا، وإذا كان الكبار لا يترفعون عن أوحال الدنيا ومتاعها الزائل، فإن من دونهم من باب أولى أن يترفعوا عن ذلك.

نزاهة العمال

نزاهة العمال كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكي يضمن نزاهة عماله يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس، وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنست أصحاب رسول الله يعني -باستعمالهم- فقال له عمر: يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال أبو عبيدة: أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة. إذا استعملت رجلا فحدد له راتبا حتى لا يلجأ إلى الحرام. أجور العمال كره بعض العمال في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخذ الأرزاق نتيجة قيامهم بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر - رضي الله عنه - لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، فقال عمر: لا تفعل فإن تكن أردت الذي أردت، قد كان رسول الله يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك. وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلاميا فرضه الرسول - رضي الله عنه -، وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية. ورع الفاروق عمر كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شديد الورع في المال العام ويظهر ذلك من قوله: أنا أخبركم بما أستحل من مال الله، حلة الشتاء والقيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم، وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني لا آكل إلا وجبتي، ولا ألبس إلا حلتي، ولا آخذ إلا حقي. وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم من كان غنيا فليستعفف، ومن

لا ترفع صوتك على حديت النبي

كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وهكذا على كل مسئول أن يكون أمينا على المال العام، فعليك أخي الحبيب ألا تستعمل الهاتف في مكان عملك إلا بعد أن تدفع ثمن المكالمة للمؤسسة. لا ترفع صوتك على حديت النبي عن أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرا، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة" [رواه البخاري]. إنه من ورع المتقين، إذا ذكر حديث للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن نقول سمعنا وأطعنا، ولا ترتفع أصواتنا على أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ورع التابعين كان دخل عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله لله، حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، ونحن نرى الناس يتولون الحكم فقراء، فيخرجون منه أثرياء أصحاب ثروات طائلة، وأرصدة في البنوك في الداخل والخارج، ولكن عمر بن عبد العزيز كان ثريا من أثرياء بني أمية فإذا به يصبح بعد الحكم والخلافة فقيرا، وهذا هو التورع عن أي شيء فيه شبهة. إن الذي أفسد الحياة الإسلامية قبل عمر بن عبد العزيز هو نهب الأموال العامة، والطمع فيها، وأن كل إنسان يريد أن يكون لنفسه ثروة، خاصة من أفراد بيت بني أمية، ولكن عمر بن عبد العزيز اعتبر هذه الأموال مظالم ورد هذه المظالم إلى أهلها، فمن عُرف له حق عند أمير من أمراء بني أمية، فمن حقه أن يشكو، ومن حق شكواه أن تُسمع، ومن حق ظلامته أن ترد، وما لم يُعرف له صاحب، فليؤخذ ويوضع في بيت مال المسلمين، وهذه هي سياسة عمر بن عبد العزيز. كان شديدا على نفسه وعلى أهله، لم يسمح لنفسه أن يشم ريح عنبرة جاءت إلى بيت المال فوضع يده على أنفه، قيل له: يا أمير الؤمنين إنها تشم! قال: وهل لها فائدة إلا الشم؟

ورع أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز

وبعث يوما غلامه ليشوي له لحما فجاءه به سريعا فقال: أين شويته؟ قال الغلام: في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين؟ قال: نعم، فقال عمر: كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك! وسخنوا له الماء في المطبخ العام، فرد بدل ذلك بدرهم حطبا، وكان - صلى الله عليه وسلم - له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفا. فانظر كيف بلغ تورعه وكيف بلغت عفته، هكذا كان يأخذ نفسه بالشدة. ورع أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عن فاطمة ابنة عبد الملك قالت: اشتهى عمر بن عبد العزيز يومًا عسلاً، فلم يكن عندنا، فوجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد إلى بعلبك بدينار، فأتى بعسل، فقلت: إنك ذكرت عسلاً وعندنا عسل، فهل لك فيه. قالت: فأتيناه به فشرب، ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قالت: وجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد بدينار إلى بعلبك، فاشترى لنا عسلاً. فأرسل إلى الرجل، فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه، واردد إلينا رأس مالنا، وانظر إلى الفضل فاجعله في علف دواب البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيأت. عمر بن عبد العزيز وعمته أتت عمة عمر بن عبد العزيز إلى امرأته فاطمة، فقالت: إني أريد كلام أمير المؤمنين. قالت لها: اجلسي حتى يفرغ. فجلست، فإذا بغلام قد أتى، فأخذ سراجًا. فقالت لها فاطمة: إن كنت تريدينه فالآن، فإنه إذا كان في حوائج العامة؟ كتب على الشمع، وإذا صار إلى حاجة نفسه؛ دعا بسراجه. فقامت، فدخلت عليه، فإذا بين يديه أقراص وشيء من ملح، وزيت، وهو يتعشى، فقالت: يا أمير المؤمنين، أتيت بحاجة لي، ثم رأيت أن أبدأ بك قبل حاجتي. قال: وما ذاك يا عمة؟ قالت: لو اتخذت لك طعامًا ألين من هذا.

الآن طاب لي أكله

قال: ليس عندي يا عمة، ولو كان عندي لفعلت. قالت: يا أمير المؤمنين كان عمك عبد الملك يجري عليَّ كذا وكذا، ثم كان أخوك الوليد فزادني، ثم وُليت أنت فقطعته عني. قال: يا عمة، إن عمي عبد الملك، وأخي الوليد، وأخي سليمان كانوا يعطونك من مال المسلمين، وليس ذاك المال لي فأعطيكه، ولكني أعطيك مالي إن شئت. قالت: وما ذاك، يا أمير المؤمنين؟ قال: عطائي مائتا دينار، فهو لك؟ قالت: وما يبلغ مني عطاؤك؟ قال: فليس أملك غيره يا عمة. قالت: فانصرفت عنه. الآن طاب لي أكله أتت عمر بن عبد العزيز سلتا رطب من الأردن، فقال: ما هذا؟ قالوا: رطب بعث به أمير الأردن. قال: علام جيء به؟ قالوا: على دواب البريد. قال: فما جعلني الله أحق بدواب البريد من المسلمين، أخرجوهما، فبيعوهما، واجعلوا ثمنهما في علف دواب البريد. فغمزني ابن أخيه فقال لي: اذهب، فإذا قامتا على ثمن، فخذهما علي. قال: فاخرجتا إلى السوق فبلغتا أربعة عشر درهمًا، فأخذتهما، فجئت بهما إلى ابن أخيه، فقال: اذهب بهذه الواحدة إلى أمير المؤمنين. وحبس لنفسه واحد، قال: فأتيته بهما، فقال: ما هذا؟ قلت: اشتراهما فلان ابن أخيك، فبعث إليك بهذه، وحبس لنفسه الأخرى. قال: الآن طاب لي أكله. محمد بن واسع ظل محمد بن واسع الأزدي يجاهد المشركين تحت راية يزيد بن المهلب حتى اقترب

أقبلت هدية؟!

موعد الحج، فلما لم يبق أمامه غير وقت قصير، دخل على يزيد، واستأذنه في الانصراف إلى القيام بالنسك، فقال له يزيد: إذنك بيدك يا أبا عبد الله، فامض متى شئت، وقد أمرنا لك بمبلغ من المال يعينك على حجك، فقال له: وهل ستأمر بمثل هذا المال لكل جندي من جنودك أيها الأمير؟ فقال: لا، قال: لا حاجة لي بشيء أخص به من دون جند المسلمين، ثم ودعه وانصرف. أقبلت هدية؟! عبد الملك بن مروان كان حريصا على نزاهة من يعملون في دولته، فقد بلغه ذات يوم أن أحد عماله قبل هدية، فأمر بإحضاره إليه، فلما حضر قال له: أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب عما سألتك، قال: نعم، قد قبلت، فعزله. لا تقبل هدية ممن له حاجة عندك في مكان العمل بهدف تيسير أموره وتأخير الآخرين. عطاء بن أبي رباح يقول عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي نريد هشام بن عبد الملك، فكلما غدونا قريبا من دمشق إذا نحن بشيخ على حمار أسود عليه قميص خشن وجبَّة بالية، فضحكت منه، وقلت لأبي: من هذا؟ فقال: اسكت، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح، فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم عادا فركبا، وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك، فما أن استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني بما كان منكما. فقال: لما علم هشام أن عطاء بن أبي رباح بالباب بادر فأذن له -ووالله ما دخلت إلا بسببه- فلما رآه هشام قال: مرحبا مرحبا ههنا ههنا، ولا زال يقول له: ههنا ههنا، حتى أجلسه معه على سريره، ومس بركبته ركبته، وكان في المجلس أشراف الناس، وكانوا يتحدثون فسكتوا، ثم أقبل عليه هشام، وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟

ورع الإمام

قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين، أهل الله وجيران رسوله، تقسم عليهم أرزاقهم وأعطياتهم. فقال: نعم، اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة، ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب، وقادة الإسلام، ترد فيهم فضول صدقاتهم. فقال: شم، يا غلام اكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم، هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور (المرابطون) يقفون في وجوه عدوكم، ويقتلون من قصدهم بشر، تجري عليهم أرزاقهم تدرها عليهم، فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور. فقال: نعم، يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يكلفون ما لا يطيقون فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم. فقال: يا غلام اكتب لأهل الذمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم، اتق الله في نفسك يا أمير المؤمنين، واعلم أنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحد، فأكب هشام ينكت في الأرض وهو يبكي، فقام عطاء، فقمت معه، فلما صرنا عند الباب، إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه وقال له: إن أمير المؤمنين بعث لك بها، فقال: هيهات {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] فوالله إنه دخل على الخليفة وخرج من عنده، ولم يشرب قطرة ماء (¬1). ورع الإمام كتب الخليفة المنصور إلى أبي حنيفة بثلاثين ألف درهم، على دفعات، فحدثت أبا حنيفة نفسه: كيف تأخذ كل هذا المال، وهو من مال المسلمين؟ ففكر أبو حنيفة في حيلة ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين (18 - 20).

محمد بن المنكدر

ليرد هذا المال، فذهب إلى أمير المؤمنين، وشكره على صنيعه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني ببغداد غريب، وليس عندي موضع أضع فيه هذه الأموال الكثيرة، فأرى أن تجعلها في بيت مال المسلمين، حتى إذا أردتها أخذتها، فأجابه المنصور إلى ذلك. ومرت الأيام حتى توفي أبو حنيفة، ولم يأخذ من ذلك المال شيئا، فقال أبو جعفر المنصور: خدعنا أبو حنيفة. ثم رد المال إلى بيت المال. وهكذا يكون المسلم الداعية ورعا في أموال المسلمين. محمد بن المنكدر يروي الإمام الغزالي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة دراهم، وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف، لم يل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا، قد رضيت، فقال: وإن رضيت، فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك. فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي. يرفض الذل اعتقل كمال السنانيري في أكتوبر عام 1954م وأفرج عنه في يناير عام 1973م بعد أن أمضى سجنه في الواحات في وجه الشمس المحرقة، ولهيب هواء الصحراء، وبعد الحكم عليه ضغطوا على زوجته وأمه لعلهما تثنيانه عن عناده، ويكتب سطرين في تأييد عبد الناصر، فأبى بشدة، وقال لأمه التي طلبت منه أن يكتب رسالة استعطاف وشفعت كلامها بدموعها، فاعتذر لها وقال بشموخ الداعية وكان ورعا:"كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أرسلت هذه الرسالة ثم مت"؟. ومن ورعه أنه خير زوجته بين البقاء زوجة له أو الطلاق، فالتقطت دمعاتها وقالت: أبقي زوجة لك أيها الحبيب. ولكن رجال المباحث ضغطوا على أهلها فأجبروها على الطلاق منه. الورع عما يستبيحه الكافة انفرد الأستاذ الهضيبي برتبة عالية في الورع عما تعارف الناس على إباحته من توافه

الإفراج الصحي

الأشياء التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية في خدمة موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات؛ إذ كان يحرم على نفسه وذويه استعمال شيء منها في شان خاص، وكان يعود من المحكمة -وهو قاض أو محقق- وفي حقيبته أكداس من ورق التسويد الرخيصة ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية، فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها -ولو كانت دون الإصبع- في أمر يخصه أو يخص واحدا من أهله، فإذا رآها واحد من أولاده في غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته، أنكر عليه أبوه وأعطاه قرشا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق، ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها لا يحل لأحد أن يستخدمها في شأن خاص به. لا تستخدم شيئا خاصا بالعمل في مصلحتك الشخصية حتى الأشياء التافهة مثل الأوراق والأقلام إلا بإذن صاحب المؤسسة. الإفراج الصحي في عام 1957م قررت لجنة من خمسة أطباء مسيحيين أن حالة الهضيبي تنذر بالهلاك، وأنها لا تستطيع تحمل المسئولية عن بقائه رهن الاعتقال، فصدر قرار بالإفراج الصحي عنه، نقل على أثره إلى بيته حيث توافرت له أسباب العلاج الذي أزاح الله به شبح الخطر عن حياة المرشد الصديق. بيد أن الهضيبي -الذي يعي تبعات القيادة تجاه الجنود- ما لبث أن أخذه الجند إلى إخوانه وأبنائه المسجونين، ولم تطب نفسه أن يكون في نظر الطغاة ذلك الواهن الضعيف الذي يتلقف هذه الفرصة لينعم بحياة الدعة متميزا على إخوة له في الجهاد هو أولاهم بأوفر حظ من البلاء. لذلك ما كاد يتنسم أريج العافية حتى سارع بالكتابة إلى السلطات يبلغها أنه قد عوفي بحمد الله من عارض المرض الذي أوجب عنه الإفراج، وأن باستطاعته العودة إلى السجن لقضاء باقي المدة المحكوم بها عليه. إنه مثال عال في الورع في التعامل مع الآخرين. ***

المسارعة إلى الخيرات

المسارعة إلى الخيرات حث الإسلام على المسارعة إلى الخيرات فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. وحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المسارعة إلى الخيرات؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل الظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" [رواه مسلم]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنى مُطغيًا (يجعل صاحبه يتمادى في فعل المعاصي) أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مُفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [رواه الترمذي وقال: حديث حسن]. المسارعة في دخول الجنة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله: "ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. هل تتسابق مع إخوانك في طاعة الله عز وجل؟ سبقك بها عكاشة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -خرج يوما فقال:"عرضت عليَّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر،

سارع

فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب" فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن، فقال: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقام رجل آخر فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "سبقك بها عكاشة" [رواه البخاري]. احرص ألا يأتي أحد يوم القيامة أفضل عملا منك، وتذكر الفردوس الأعلى وما أعده الله للصالحين فيه. سارع قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فبات الناس يدوكون (يخوضون في الحديث) ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال:"فأرسلوا إليه" فأتى به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاه الراية حتى قال عمر: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فلما أصبح أعطاها الرسول عليا ففتح الله على يديه [رواه مسلم]. وعن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي:"سلني"، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أو غير ذلك؟ " قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" مسلم. إذا سمعت خطبة الجمعة أو أي موعظة اسأل نفسك: ماذا استفدت منها؟ واخرج منها بواجب عملي في حياتك. مساعدة الفقراء كانت جماعات كثيرة من أهل المدينة تعيش وهي لا تدري من أين يأتيها رزقها ليلا، فلما مات علي بن الحسين، فقد هؤلاء ما كان يأتيهم من رزق ليلا، فعرفوا مصدره، ولما

جيل المسارعين إلى الخيرات

وضع زين العابدين على المغتسل نظر غاسلوه، فوجدوا في ظهره آثار السواد، فقالوا: ما هذا؟ فقيل لهم: إنه من آثار حمل أكياس الدقيق إلى مائة بيت في المدينة ففقدت عائلها بفقده. اجتهد في تقديم مساعدة للفقراء والمساكين ولا تخبر أحدا بهذا، واحتسب أجرك عند الله. جيل المسارعين إلى الخيرات قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل. وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه. وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوما، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة. وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز قالت: ما رأيت أحدا أكثر صلاة ولا صياما منه، وكان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء ويجلس يبكي. وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبا لمن يعرف أن الجنة تُزين فوقه، والنار تسعر تحته، كيف ينام بينهما؟ وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطا في مسجد بيته يخوف به نفسه. وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفا حتى يكون الكلل منك لا مني. وكان يقول: أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا. وقال هشيم تلميذ منصور بن زادان: كان لو قيل له: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل. وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو

ذهب أهل الدثور بالأجور

قيل له: القيامة غدا ما وجد مزيدا، وكان يقول: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي. وعن وكيع قال: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة. وعن أبي حيان، عن أبيه قال: كان الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج -الشلل- فقيل له: قد رخص لك. قال: إني أسمع حي على الصلاة، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوًا. وعن عيسى بن عمر قال: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلا، فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور، قد طويت الصحف، وقد رفعت الأعمال، ثم يبكي، ويصف بين قدميه حتى يصبح، فيرجع، فيشهد صلاة الصبح. وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة. فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله. هم الرجال وعيب أن يقال ... لمن لم يكن مثلهم رجلُ ذهب أهل الدثور بالأجور عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور (المال الكثير) بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك". قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة"، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" [رواه البخاري].

مسارعة في طلب العلم ونشره

مسارعة في طلب العلم ونشره - ألف الإمام البيهقي ألف جزء كلها تآليف محررة نادرة، وأقام يصوم ثلاثين سنة. - وبلغ الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي -المتوفى سنة 513 هـ الذي يقول فيه الإمام ابن تيمية: إنه من أذكياء العالم- في محافظته على الزمن مبلغا أثمر أكبر كتاب عرف في الدنيا لعالم، هو كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد. - وصنف الحافظ ابن عساكر كتابه "تاريخ دمشق" في ثمانين مجلدة كبيرة. - وصنف الإمام أبو حاتم الرازي كتابه "المسند" في ألف جزء. - وهذا الإمام أبو الفرج ابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ قال على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي، ونصراني، وقال أيضا: ولو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب. - فإذا كان قدر ما قرأ وهو في الطلب (عشرين ألف مجلد) واحتسبنا أن صفحات المجلد الواحد في المتوسط (300) صفحة، كان مقدار ما قرأ ستة ملايين صفحة، وإذا كان ما كتب بإصبعه (ألفي) مجلد، كان مقدار ما كتب ستمائة ألف صفحة، هذا ما قرأ ونسخ، فما مقدار ما كتب وصنف؟! يقول ابن الجوزي: لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، فأعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت أثناء لقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي. - وصنف شيخ الإسلام ابن تيمية ما يربو على أربعمائة مصنف من كنوز العلم، ودقائقه. - وهذا الطبيب الرائد ابن النفيس صنف كتابا في الطب سماه "الشامل" يقول فيه التاج السبكي: قيل: لو تم لكان ثلاثمائة مجلدة، وتم منه ثمانون مجلدة. - ويحدث الإمام ابن عقيل عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره يقول: إني لا يحل

المسارعة في الجهاد

لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين مما كنت أجده وأنا ابن عشرين. قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة. سارع في وضع خطة لنفسك للقراءة اليومية، ولا تصرف جزءا من وقتك في غير فائدة. المسارعة في الجهاد ظهرت المسارعة إلى الخيرات في موقف الرجل الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل [رواه البخاري]. وحنظلة الأنصاري - رضي الله عنه - لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته قام من فوره إلى الجهاد، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: "سلوا أهله ما شأنه؟ " فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. هكذا نزع حنظلة نفسه من أحضان عروسه ليلة الزفاف لأن الحور تناديه، وهو يعلم جيدا الفارق بين هذه وتلك، وعند إراقة دمه أعلنت الملائكة حالة الطوارئ، فريق يغسله، وفريق يطيبه، وفريق يزفه إلى عروسه الجديدة. تنافس في الشهادة عن سليمان بن بلال، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه معا الخروج معه، فذكر ذلك للنبي فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة ابن الحارث لابنه سعد -رضي الله عنهما- إنه لابد لأحدنا أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر وقتل. تحدث مع أبنائك عن فضل الشهادة، وأهمية الدفاع عن المسجد الأقصى.

جهزوني

جهزوني قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .. قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما سمع الله عذر أحد، أي بَني جهزوني جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله! لقد غزوت مع النبي حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نقاتل عنك، قال: لا، جهزوني، فغزا في البحر فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير جسده، وهذه هي المسارعة إلى تنفيذ أمر الله، والجهاد في سبيل الله. من يأخده بحقه؟ عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذ هذا السيف؟ " فأخذه قوم فجعلوا ينظرون إليه فقال: "من يأخذه بحقه؟ " فأحجم القوم، فقال أبو دجانة سماك بن خرشة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين [رواه أحمد]. المسارعة في رد الفتنة يذكر المستشار العقيلي أن كامل الشريف والشيخ فرغلي، كانا يمثلان الإخوان في لقاء بمكتب البكباشي عبد الناصر -وكان وقتها وزيرا للداخلية في وزارة محمد نجيب- وقد ضم الاجتماع رجال الانقلاب: عبد الحكيم عامر، وصلاح سالم، وحسين كمال الدين، فأراد ضباط الانقلاب أن يوقعوا بين الشيخ فرغلي، والمرشد العام الهضيبي بذكرهم جهاد الشيخ فرغلي، إلا أنه قطع عليهم الحديث وقال غاضبا: يجب أن تدركوا أن هذا الذي تتحدثون عنه هو زعيمنا وقائد جماعتنا، وإني أعتبر حديثكم هذا إهانة للجماعة كلها ولشخصي بصفة خاصة، وإذا كان هذا أسلوبكم فلن تصلوا إلى شيء. فكان هذا القول كافيا لإقناعهم أنهم أمام رجل صلب العود، قوي الشكيمة، فانصرفوا بالحديث إلى جهة أخرى (¬1). لا تسمح لأحد بإضعاف صلتك بإخوانك، وسارع في الرد على ما يثار من أقوال غرضها خبيث. ... ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية 505.

محاسبة النفس

محاسبة النفس يقول تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقال تعالى أيفئا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]. وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 6 - 8]. وتال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]. عرف أرباب البصائر من الآيات البينات أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذرِّ من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يُحاسب خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عراص القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. وقد أشار القرآن إلى المحاسبة بعد العمل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.

وكان عمر يضرب قدميه بالدرة إذا جنه الليل ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم؟ وعن ميمون بن مهران أنه قال: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، والشريكان يتحاسبان بعد العمل. وتروي أم المؤمنين عائشة: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لها عند الموت: ما أحد أحبَّ إليَّ من عمر، ثم قال لها: كيف قلت؟ فأعادت عليه ما قال فقال: لا أحد أعزَّ عليَّ من عمر. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبر لها وأبدلها بكلمة غيرها. وقال محمد بن علي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. ثم فسر المحاسبة فقال: المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إنك لتعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات، حيل بيني وبينك، وهذا حساب قبل العمل. ثم قال: ويفرط في الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ماذا أردت بهذا؟ والله لا أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله، وهذا حساب بعد العمل (¬1). ويقول معاذ بن عون الضرير: كنت أكون قريبًا من الجبان -المقابر- فكان يمر بي رياح القيسي بعد المغرب إذا خلت الطريق، فكنت أسمعه وهو يتشنج بالبكاء، وهو يقول: إلى كم يا ليل يا نهار، تحطان من أجلي، وأنا غافل عما يراد بي؟ إنا لله، إنا لله، فهو كذلك حتى يغيب عني وجهه (¬2). ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة 225، 226. (¬2) خير القرون (2/ 304).

لفتة!

تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرى في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع في كل يوم يبتديك بنعمة ... منه وأنت لشكر ذاك مضيع (¬1) لفتة! وإليك أخي العاقل هذه اللفتة من ابن القيم يقول فيها: اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فإياك ثم إياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك، فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقى إليك الوساوس، ويدخل فيما بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمثالك معه كمثال صاحب (رحى) يطحن بها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل به تراب، وبعر وغثاء ليطحنه في طاحونك فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون، أفسد عليك ما في الطحين من حب فخرج الطاحون كله فاسدا. وعن طاوس قال: رأيت علي بن الحسين ساجدا في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول: فأصغيت إليه فسمعته يقول: عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك، فوالله ما دعوت الله بها في كرب إلا كشف الله عني. وعن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين أن أباه كان يقول في جوف الليل: أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك ولا أعتذر. كان داود الطائي يعاتب نفسه قائلا: يا داود، من خاف الوعيد، قصر عليه البعيد، ومن طال أمله قصر عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا داود، أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشئوم، واعلم يا داود، أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور، إنما يندمون على ما يخلفون، ويفرحون بما يقدمون، فبما عليه أهل القبور يندمون، عليه أهل الدنيا يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاء يختصمون. ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 91.

يا نفس!

يا نفس! يا نفس تدبري أمرك وتأملي، ومثلي بين ما يبقى وما يفنى ولا تعجلي، لقد ضللت طريق الهدي فقفي واسألي، وآثرت وهنًا يورث وهنًا لا تفعلي، يا غمرة من الشقاء ما أراها تنجلي، أتبع الهوى والهوى علي وليس لي، أريد حياة نفس ونفسي تريد مقتلي، يا جسدا قد بلى بما قد بلى (¬1). هل أنت إلا قطرة؟ يقول ابن الجوزي: لمن رآها تتكبر: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة؟ وإن رأى تقصيرها عرفها حق المولى على العبيد، وإن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر، وإن مالت عن الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] والمعنوية كقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل. وقال محمد بن يونس بن موسى: سمعت زهير بن نعيم الباني قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، توصي بشيء؟ قال: نعم، احذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة. وعن عون بن عبد الله قال: كان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات الثلاث ويلقى بعضهم بعضا: من عمل لآخرته كفاه الله عز وجل دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. مثل واضح كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله، كما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولا ويراقبه ثانيا ويحاسبه ثالثا ويعاقبه أو يعاتبه رابعا، فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا، فيوظف عليها الوظائف ويشرط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة، فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع ¬

_ (¬1) المواعظ والمجالس37.

وصية حكيم

رأس المال، كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها؛ فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى، وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى. وصية حكيم قال بعض الحكماء لابنه: يا بني لا تشغل قلبك من الدنيا إلا بقدر ما تتحققه من عمرك، ولتكن جرأتك على المعاصي بقدر صبرك على النار، وإذا أردت أن تعصي الله تعالى فانظر موضعا لا يراك الله فيه، وانظر إلى نفسك فإن كانت عزيزة فلا تذلها، وإن كانت ذليلة فلا تزدها على ذلها ذلا. كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. ويقول ابن الجوزي: تفكرت في نفسي يوما تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللطف الرباني، فمنذ الطفولة وإلى الأن أرى لطفا بعد لطف، وسترا على قبيح، وعفوا عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكرا إلا باللسان. النفس اللوامة قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]: لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا، ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا. ونقل عن توبة بن الصمة -وكان بالرقة وكان محاسبا لنفسه- أنه حسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقي الملك بأحد وعشرين ألف ذنب، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى! فهكذا ينبغي أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل

واحسرتاه

ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي والملكان يحفظان عليه ذلك {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. واحسرتاه فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا! واحرماني لمقامات الرجال الفطناء! يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهد الجوارح علي! وخذلاني عند إقامة الحجة، سخر -والله- مني الشيطان وأنا الفطن، اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار، وقد جئتك بعد الخمسين وأنا مخلق المتاع، وأبي العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم، فوالله ما عصيتك جاهلا بمقدار نعمتك، ولا ناسيا لما ألفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي (¬1). مع أبي طلحة وهذا أبو طلحة لما اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه تصدق بالحائط كفارة لذلك، وإن عمر كان يضرب قدميه بالدرة كل ليلة ويقول: ماذا عملت اليوم؟ وعن مجمع: أنه رفع رأسه إلى السطح فوقع بصره على امرأة فجعل على نفسه ألا يرفع رأسه إلى السماء ما دام في الدنيا. وكان الأحنف بن قيس لا يفارقه المصباح بالليل فكان يضع إصبعه عليه ويقول لنفسه: ما حملك على أن صنعت يوم كذا وكذا؟ محمد بن بشر رئي محمد بن بشر بن داود الطائي، وهو يأكل عند إفطاره خبزا بغير ملح، فقيل له: لو أكلته بملح؟ فقال: إن نفسي لتدعوني إلى الملح منذ سنة. ولا ذاق داود ملحا ما دام في الدنيا. أصحاب علي يروى عن رجل من أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: صليت خلف علي - رضي الله عنه - الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه وعليه كآبة فمكث حتى طلعت الشمس ثم قلب يده ¬

_ (¬1) صيد الخاطر (530، 531).

ويحك يا نفس

وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد وما أرى اليوم شيئا يشبههم، كانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، وكان القوم باتوا غافلين -يعني من كان حوله-. ويحك يا نفس يحكي محمد بن المنكدر عن عقاب تميم لنفسه إذا نام عن صلاة الليل مرة فيقول: نام تميم الداري ليلة لم يقم فيها يتهجد حتى أذن الصبح فقام سنة كاملة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع. وقال أبو زيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك. وقال إبراهيم التميمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمراتها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلتها في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها .. ثم قلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحا، قال: فأنت في الدنيا فاعملي. وهذه طريقة اتخذها الرجل في إيقاظ نفسه، وإن شئت فقل: في إحياء ضميره، لقد تخيل المتوقع واقعا والغائب حاضرا، ثم قال لنفسه بعد أن عرض عليها بصورتين: تخيري واعلمي (¬1). التوبة قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة" [رواه مسلم]. وقال عون بن عبد الله: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريعة، وهم إلى الرقة أقرب، فداووا القلوب بالتوبة، فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب. ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة 226.

ويقول ابن القيم: إن الذنوب والمعاصي تضر، ولابد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحا، وبالجنة نارا تلظى .. وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل، زجل الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألفتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قوم اللواطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم (¬1). ¬

_ (¬1) الداء والدواء 58، 59.

توشك أن تصل

توشك أن تصل قابل الفضيل بن عياض رجلا بلغ من الكبر عتيا، فسأله: كم عمرك؟ قال الرجل: ستون عاما. قال الفضيل: توشك أن تصل إلى الله. قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع. قال الفضيل: إذا عرفت أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، عرفت أنك مسئول، وإذا عرفت أنك مسئول، فأعد للسؤال جوابا. قال الرجل: وما الحيلة يرحمك الله؟ قال الفضيل: يسيرة، أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى. دينار العيار روى أن رجلا يعرف بدينار العيار كانت له والدة تعظه ولا يتعظ، فمر في بعض الأيام بمقبرة كثيرة العظام، فأخذ منها عظما نخرة فانفت في يده، ففكر في نفسه، وقال لنفسه: ويحك! كأني بك غدا قد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا، وأنا اليوم أقدم على المعاصي، فندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي، إليك ألقيت مقاليد أمري فاقبلني وارحمني. ثم مضى نحو أمه متغير اللون، فقال: يا أماه ما يصنع بالعبد الآبق إذا أخذه سيده؟ فقالت: يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يده وقدمه. فقال: أريد جبة من صوف وأقراصًا من شعير، وتفعلين بي كما يفعل بالعبد الآبق، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت كما طلب، فكان إذا جنه الليل أخذ في البكاء والعويل، ويقول: ويحك يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟! وقالت له أمه في بعض الليالي: ارفق بنفسك. فقال: دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا .. يا أمي إن لي موقفا طويلا بين يدي

تذكر يوم القيامة

رب جليل، ولا أدري أيؤمر بي إلى الظل الظليل، أم إلى شر مقيل، إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخا لا عفو معه. قالت: فاسترح قليلا. فقال: الراحة أطلب؟ أتضمنين لي الخلاص؟ قالت: فمن يضمنه لي؟ قال: فدعيني وما أنا عليه، كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أقاد إلى النار. فمرت به في بعض الليالي في قراءته: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92 - 93]. ففكر فيها، وبكى وجعل يضطرب كالحية حتى خر مغشيا عليه، فجاءت أمه إليه ونادته، فلم يجبها فقالت: قرة عيني، أين الملتقى؟ فقال بصوت ضعيف: إن لم تجدني في عرصة القيامة فاسألي مالكا عني. ثم شهق شهقة مات فيها، فجهزته وغسلته، وخرجت تنادي: أيها الناس، هلموا إلى الصلاة على قتيل النار، فجاء الناس فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم. تذكر يوم القيامة شاب يافع لديه طموح الشباب، كان يعيش مثل بعض أقرانه لا يأبهون بأوامر الله، وذات ليلة أراد الله به خيرا، فرأى في المنام مشهدا أيقظه من غفلته، وأعاده إلى رشده. يحدثنا هذا الشاب عن قصته فيقول: في ليلة من الليالي ذهبت إلى فراشي كعادتي لأنام، فشعرت بمثل القلق يساورني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ونمت، فرأيت فيما يرى النائم، أن شيئا غريبا وضخما قد وقع من السماء على الأرض .. لم أتبين ذلك الشيء، ولا أستطيع وصفه، فهو مثل كتلة النار العظيمة، رأيتها تهوي فأيقنت بالهلاك .. أصبحت أتخبط في الأرض، وأبحث عن أي مخلوق ينقذني من هذه المصيبة. قالوا: هذه بداية يوم القيامة، وإن الساعة قد وقعت، وهذه أولى علاماتها، ففزعت، وتذكرت جميع ما قدمت من أعمال، الصالح منها والطالح، وندمت أشد الندم .. قرضت أصابعي بأسناني حسرة على ما فرطت في جنب الله .. قلت والخوف قد تملكني: ماذا

أفعل الآن؟ وكيف أنجو؟ فسمعت مناديا يقول: اليوم لا ينفع الندم .. سوف تجازى بما عملت .. أين كنت في أوقات الصلوات؟ أين كنت عندما أتتك أوامر الله؟ لتمتثل الأوامر وتجتنب النواهي؟ كنت غافلا عن ربك .. قضيت أوقاتك في اللعب واللهو والغناء، وجئت الآن تبكي .. سوف ترى عذابك .. زادت حسرتي لما سمعت المنادي يتوعدني بالعذاب .. بكيت وبكيت ولكن بلا فائدة. وفي هذه اللحظة العصيبة استيقظت من نومي .. تحسست نفسي فإذا أنا على فراشي. لم أصدق أني كنت أحلم فقط حتى تأكدت من نفسي .. تنفست الصعداء، ولكن الخوف ما زال يتملكني، ففكرت، وقلت في نفسي: والله إن هذا إنذار لي من الله .. ويوم الحشر لابد منه، إذن لماذا أعصي الله؟ لم لا أصلي؟ لم لا أنتهي عما حرم الله؟ أسئلة كثيرة جالت في خاطري حتى أنجو في ذلك اليوم العظيم، أصبح الصباح، وصليت الفجر، فوجدت حلاوة في قلبي، وفي ضحى ذلك اليوم نزلت إلى سيارتي .. نظرت بداخلها فإذا هي مليئة بأشرطة الغناء .. أخرجتها واكتفيت ببعض الأشرطة الإسلامية النافعة، بقيت على هذه الحال، في كل يوم أتقدم خطوة إلى طريق الهداية التي أسأل الله أن يثبتني وإياكم عليها .. ويقول ابن الجوزي: ابك على نفسك قبل أن يبكى عليك، وتفكر في سهم قد صوب إليك، وإذا رأيت جنازة فاحسبها أنت، وإذا عاينت قبرا فتوهمه قبرك، وعد باقي الحياة ربحا (¬1). تفكر في مشيك والمآب ... ودفنك بعد عزك في الزاب إذا وافيت قبرا أنت فيه ... تقيم به إلى يوم الحساب وفي أوصال جسمك حين تبقى ... مقطعة ممزقة الإهاب فلولا القبر صار عليك سترا ... لأنتنت الأباطح والروابي خلقت من التراب فصرت حيا ... وعُلمت الفصيح من الخطاب وعدت إلى التراب فصرت فيه ... كأنك ما خرجت من التراب ¬

_ (¬1) المدهش 373.

الدولة الغريبة

فطلق هذه الدنيا ثلاثا ... وبادر قبل موتك بالمتاب نصحتك فاستمع قولي ونصحي ... فمثلك قد يدل على الصواب خلقنا للممات ولو تركنا ... لضاق بنا الفسيح من الرحاب ينادي في صبيحة كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب الدولة الغريبة تروى كتب التراث أن دولة غريبة، لها قوانينها الغريبة، تقع في وسط صحراء مقطوعة، مليئة بالزواحف الخطرة، والوحوش الضارية، ولكن هذه الدولة لها أسوار عالية لا يمكن أن يتسلقها أحد، ولا يمكن لأحد أن يخرج منها إلا من بابها الذي لا يفتح إلا كل خمس سنوات، هي مدة بقاء حاكم البلد فيها، حيث يطرد من بابها بعد انقضاء مدته، وغالبا يكون مصيره الموت في تلك الصحراء التي لا يوجد فيها أي مظهر من مظاهر الحياة، وفي نهاية مدة أحد حكامها وما أعقبها من مراسم الطرد، أعلن عمن يتطوع لإدارة الدولة فلم يتطوع أحد، ومضت الأيام دون أن يتقدم أحد إلى أن فوجئ الجميع بشاب في مقتبل العمر يتقدم للجنة المشرفة على الاختبار، ويقبل بالمهمة الصعبة، فعرضوا عليه شروط الحكم وأفهموه كل شيء عن مدة حكمه، ومصيره بعد ذلك فوافق على جميع الشروط. وبدأ فترة حكمه يحدبة، وهمة عالية، وكان قد انفق مع آلاف العمال سرا، حيث كان يخرجهم من البوابة ليلا ليشقوا القنوات المتصلة بالعيون من داخل الدولة، ويغرسوا الشجر المثمر بجميع أنواعه، ويستمر العمال في العمل ولا يدخلون حتى قبيل الفجر فيدخلون، وهكذا استمر في هذه الخطة حتى شارفت مدته على الانتهاء، فلما جاء فريق الإشراف على التعيين والطرد ليخبره بقرب موعد الرحيل لم يروا عليه ما كانوا يرونه على من سبقوه من الوجل والرعب، بل رحب بقرب الموعد، وأبدى شجاعة متناهية وطمأنينة أدهشتهم، ولما جاء موعد الطرد، وفتحت الأبواب تعجب الجميع من مناظر الأشجار المثمرة، وقنوات المياه التي تتخللها، والآبار الجديدة التي حفرت حتى بدا ما هو خارج أجمل مما في داخلها، ولما سألوا عن ذلك أخبرهم بما قام به من استعدادات ليوم الرحيل، أعجبوا به أشد الإعجاب واتفق الجميع على أن يولوه حاكما عليهم مدى الحياة.

أيها الباكي

هذه قصة رمزية لمعنى الحياة التي نعيشها، فكل منا له مدة معينة محددة لا تزيد ولا تنقص، يطرد بعدها من هذه الدار، إلى دار أخرى، إما أن يكون قد استعد لها فينجو كما نجا ذلك الشاب، وإما أن يكون قد فرط فيها وفرط في الوقت الذي أعطي لها، حتى جاءت لحظة الطرد من الدنيا فلم يجد إلا صحراء قاحلة لا حياة فيها ولا منجاة، فيبكي حيث لا ينفع الندم ولا البكاء، فهل نعتبر؟ أيها الباكي أيها الباكي على أقاربه الأموات، ابك على نفسك فالماضي قد فات، وتأهب لنزول البلايا وحلول الآفات، وتذكر قول من إذا ذكرك قال: مات، كأنك بما أتى الماضين قد أتاك، ولقد صاح بك نذيرهم: أنت غدا كذاك وليخرسن الموت بسطوته فاك، إذا وافاك إنما اليوم لهذا وغدا لذاك. قرئ على قبر. أنا في القبر وحيد ... قد تبرأ الأهل مني أسلموني بذنوبي ... خبت إن لم تعف عني (¬1) وجاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة فقال: إن بي داء فهل عندك دواء؟ فقالت: ما الداء؟ فقال: القسوة. فقالت: بئس الداء داؤك، يا هذا، عُد المرضى، واشهد الجنائز، وتوقع الموت (¬2). وقال جعفر بن سليمان: سمعت شميط بن عجلان يقول: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بالدنيا ولا بسعتها. اجعل القرآن منهجك كان والد محمد إقبال يقول له كلما رآه يكثر من قراءة القرآن: إن أردت أن تفقه القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك (¬3). ¬

_ (¬1) المدهش لابن الجوزي 515. (¬2) خير القرون (2/ 46). (¬3) أعلام المسلمين 272.

ذكر الله

ويقول البنا: أهم الأغراض التي تجب على الأمة الإسلامية حيال القرآن الكريم ثلاثة مقاصد: أولها: الإكثار من تلاوته، والتعبد بقراءته، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى. وثانيها: جعله مصدرا لأحكام الدين وشرائعه، منه تؤخذ وتستنبط وتستقي وتتعلم. وثالثها: جعله أساسا لأحكام الدنيا، منه تستمد وعلى مواده الحكيمة تطبق. تلك أهم المقاصد والأغراض التي أنزل الله لها كتابه وأرسل به نبيه وتركه فينا من بعده واعظا مذكرا وحكما عدلا وقسطاسا مستقيما، ولقد فهم السلف -رضوان الله عليهم- هذه المقاصد فقاموا بتحقيقها خير قيام، فكان منهم من يقرأ القرآن في ثلاث ومنهم من يقرأه في سبع ومنهم من يقرأه في أقل من ذلك أو أكثر .. ولقد كان بعضهم إذا شغل عن ورده من القرآن نظر في المصحف وقرأ بعض الآيات الكريمة، وقال: حتى لا أكون ممن اتخذوا القرآن مهجورا، فكان القرآن ربيع قلوبهم وورد عبادتهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ورضي الله عن الخليفة الثالث الذي لم يترك المصحف والحصار على بابه والسيف على عنقه (¬1). ذكر الله قال ابن عون المصري: أما يستحي أحدكم أن تكون دابته التي يركب، وثوبه الذي يلبس، أكثر ذكرا لله منه؟ ويقول ابن الجوزي: يا معشر المذنبين، تأسوا بأبيكم في البكاء، تفكروا كيف باع دارا قد ربى فيها وضاع الثمن، لا تبرحوا من باب الذل، فأقرب الخطائين إلى العفو المعترف بالزلل، ما انتفع آدم في بلية {وَعَصَى} [طه: 121] بكمال {وَعَلَّمَ} [البقرة: 31] ولا رد عنه عز {واسْجُدُوا} [البقرة: 34] وإنما خلصه ذل {ظَلَمْنَا} [الأعراف: 23]. قيام الليل كان لسعيد بن جبير ديك كان يقوم الليل بصياحه، قال: فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته؟ ¬

_ (¬1) الرسائل 85.

ينتفض فزعا

قال: فما سمع له صوت بعدها، فقالت أمه: يا بني لا تدع علي شيء بعدها (1). وقال الحسن بن علوية: سمعت يحيى بن معاذ يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخواء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. وقالت ابنة الرييع بن خثيم: يا أبتاه مالي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ قال: إن جهنم لا تدعني أنام. ينتفض فزعا يقول أبو يزيد محمد بن حسان: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلا أرحم من سفيان، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي إنه لجزع ما أرقني، وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين. ثم يقبل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه، وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه. وقال يزيد بن هارون: بت عن المستسلم بن سعيد، وكان لا يكاد ينام، إنما هو قائم وقاعد، وذكر أنه لم يضع جنبه منذ أربعين عاما، فظننت أنه يعني بالليل، فقيل: ولا بالنهار. وقال عمرو بن عون: مكث هشيم بن بشر يصلي الفجر بوضوء العشاء الآخرة، قبل أن يموت عشر سنين. - ويقول ابن الجوزي: يا من كان له قلب فمات، يا من كان له وقت ففات، استغث من بوادي القلق، "ردوا علي ليالي التي سلفت"، احضر في السحر فإنه وقت الإذن العام، واستصحب رفيق البكاء فإنه مساعد صبور، وابعث رسائل الصعداء فقد أقيم لها من يتناول. واعلم بأن سبب حرمانك من قيام الليل الذنوب والمعاصي، قال مبارك بن فضالة: سمعت الحسن البصري قال له شاب: أعياني قيام الليل، فقال: قيدتك خطاياك.

كثرة الدعاء

كثرة الدعاء قال الحسن بن علوية: سمعت يحيى بن معاذ يقول: على قناطر الفتن جاوزوا إلى خزائن المنن. وسمعته يقول: إلهي، كيف أفرح وقد عصيتك؟ وكيف لا أفرح وقد عرفتك؟ وكيف أدعوك وأنا خاطئ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟. وقال يحيى بن معاذ: يا من يغضب على من لا يسأله، لا تمنع من قد سألك. وقال أبو سليمان الداراني: إنك إن طلبتني بشري طالبتك بكرمك، وإن أخذتني بذنوبي أتيت بتوحيدك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم بحبي لك. وعن معاوية بن قرة أن أبا الدرداء اشتكى فدخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: هو الذي أضجعني. ***

علو الهمة

علو الهمة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلو الهمة فقال: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" [رواه الترمذي]. ويعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علو الهمة في الدعاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" [رواه البخاري]. ويخطئ كثير من الناس حين يصفون الكفار بعلو الهمة، لأن الهمة العالية حكر على طلاب الآخرة، وهي من عزتها تأنف أن تسكن قلبا قد تنجس بالكفر، وبين تعالى أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية فقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. يقول ابن الجوزي: إذا اعتقدت أنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ من الحياة إلا الصغير، وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور شعرت بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة والغرض الأسمى. ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعر بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين، فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض، حدد غرضك وليكن ساميا صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطوة جديدة، إنما يصد النفس ويعبسها ويجعلها في سجن مظلم: اليأس وفقدان الأمل، والعيشة السيئة برؤية الشرور، والبحث عن معايب الناس والتشدق بالحديث عن سيئات العالم لا غير (¬1). ¬

_ (¬1) لا تحزن 61.

عالي الهمة شريف النفس

عالي الهمة شريف النفس عالي الهمة يعرف قدر نفسه، في غير كبر، ولا عجب، ولا غرور، وإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل. ألم تر إلى شرف نفس الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم حين دعا ربه: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وحين قال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]. قيل لرجل: لي حويجة. فقال: اطلب لها رجيلا. وقد قيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير. فقال: اطلب له رجلا صغيرا. ويقول ابن الجوزي: لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها وصغر شأنها وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير، هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه والإيمان بقوتها، فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته وفي إمكان نجاحه، وعالجه بفتور ففشل فيه. الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرور اعتماد النفس على الخيال وعلى الكبر الزائف، والثقة بالنفس اعتمادها على مقدرتها مع تحمل المسئولية، وعلى تقوية ملكاتها وتحسين استعداداتها (¬1). 1 - علو الهمة في العبادة: كان من أخبار عامر بن عبد الله ما حدث به أحد أبناء البصرة قال: سرت في قافلة فيها عامر بن عبد الله، فلما أقبل علينا الليل، نزلنا فحمل عامر متاعه، وربط فرسه بشجرة، وجمع له من حشائش الأرض ما يشبعه، ثم توارى، فقلت في نفسي: والله ¬

_ (¬1) لا تحزن 62.

لأتبعنه، ولأنظرن ما يصنع في هذه الليلة، فمضى حتى انتهى إلى رابية ملتفة الشجر، مستورة عن العين، فاستقبل القبلة، وانتصب قائما يصلي، فما رأيت أحسن من صلاته، فلما صلى ما شاء أن يصلي طفق يدعو الله ويناجيه، فكان مما قاله: إلهي لقد خلقتني بأمرك، وأقمتني في بلايا هذه الدنيا بمشيئتك، ثم قلت لي: استمسك، فكيف أستمسك إن لم تمسكني بلطفك يا قوي يا متين، إنك تعلم أنه لو كانت لي هذه الدنيا بما فيها، ثم طُلبت مني مرضاة لك، لوهبتها لطالبها، فهب لي نفسي يا أرحم الراحمين، إني أحببتك حبا سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضاء، فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه، وما أمسيت فيه. قال الرجل البصري: ثم إنه غلبني النعاس، فأسلمت جفني إلى الكرى، ثم ما زلت أنام وأستيقظ، وعامر منتصب في موقفه، ماض في صلاته ومناجاته، حتى تنفس الصبح، فلما بدا الفجر أدى المكتوبة، ثم أقبل يدعو فقال: اللهم ما قد أصبح الصبح، وطفق الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإن لكل منهم حاجة، وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له، اللهم فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين، اللهم إني سألتك ثلاثا، فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحدة، اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد، ثم نهض من مجلسه فوقع بصره على فعلم بمكاني منه في تلك الليلة، فجزع لذلك أشد الجزع، وقال لي في أسى: أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة؟ فقلت: نعم. فقال: استر ما رأيت مني ستر الله عليك. فقدت: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك، أو لأخبرن الناس بما رأيته منك. فقال: ويحك لا تفعل. فقلت: هو ما أقول لك، فلما رأى إصراري. قال: أحدثك على أن تعطيني عهد الله وميثاقه ألا تخبر بذلك أحدا. فقدت: لك عليّ عهد الله وميثاقه ألا أفشي لك سرا ما دمت حيا. فقال: لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي

أبو حنيفة

حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة رأيت أم جدارا. فقلت: هذه واحدة، فما الثانية؟ فقال: الثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحدا غيره، فاستجاب لي حتى أني -والله- ما أرهب شيئا في الأرض ولا في السماء سواه. قلت: فما الثالثة؟ فقال: سألت ربي أن يذهب عني النوم حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد فمنعني هذه الثالثة. فلما سمعت منه ذلك قلت له: رفقا بنفسك، فإنك تقضي ليلك قائما، وتقطع نهارك صائما، وإن الجنة تدرك بأقل مما تصنع، وإن النار تتقي بأقل مما تعاني، فقال: إني لأخشى أن أندم حيث لا ينفع الندم، والله لأجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النار فبتقصيري (¬1). أخي الحبيب: لا تترك قيام الليل مهما كانت الظروف، وداوم على صلاة ركعتين يوميا على الأقل في وقت السحر، فإن لم تستطع فحافظ عليها قبل النوم، واسأل الله أن يوقظك في الثلث الأخير من الليل. أبو حنيفة عرف عن أبي حنيفة أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين عاما. وأنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. وكان إذا قرأ سورة الزلزلة اقشعر جلده ووجل فؤاده، وأخذ لحيته بيده وطفق يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خيرا خيرا، يا من يجزي بمثقال ذرة شرا شرا، أجر عبدك النعمان من النار، وباعد بينه وبين ما يقربه منها، وأدخله في واسع رحمتك يا أرحم الراحمين (¬2). قدم أعمالا صالحة قبل الدعاء وستجد راحة في قلبك واطمئنانا في نفسك. القيام والبكاء أقبل أبو حنيفة ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون: إن هذا الرجل ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 24: 28. (¬2) المصدر نفسه 493.

2 - علو الهمة في الجهاد

الذي ترونه لا ينام الليل، فما أن لامست كلمتهم هذه مسمعه حتى قال: إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله، ولن أتوسد فراشا بعد اليوم في ليل حتى ألقى الله، ثم دأب منذ ذلك اليوم على قيام الليل كله، فكان إذا أرخى الظلام سدوله على الكون، وأسلمت الجنوب إلى المضاجع، قام فلبس أحسن ثيابه، وسرح لحيته، وتطيب، وتزين، ثم يصف في محرابه ويقطع ليله قانتا، أو منحنيا بصلبه على أجزاء القرآن، أو رافعا يده بالضراعة، فلربما قرأ القرآن كله في ركعة واحدة، ولربما قام الليل كله بآية واحدة، ولقد روي أنه قام الليل كله وهو يردد قوله تعالى {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وهو يبكي من خشية الله (¬1). احرص على قراءة القرآن يوميا، واجتهد في تدبر الآيات وكأنها قد نزلت عليك، وستجد السعادة في معايشة كلام الله. 2 - علو الهمة في الجهاد: في أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من آي القرآن ما يرفع شأن المجاهدين، ويفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد، ويأنف القاعد من القعود، فأثر ذلك في نفس ابن أم مكتوم، وعز عليه أن يحرم من هذا الفضل وقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآنا في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد، وجعل يدعو في ضراعة: اللهم أنزل عذري .. اللهم أنزل عذري، فما أسرع أن استجاب الله عز وجل دعاءه! حدث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - كاتب وحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ثم سري عنه فقال: "اكتب يا زيد" فكتبت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] فقام ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها ما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: اقرأ ما كتبته يا ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 491، 492.

3 - علو الهمة في طلب العلم

زيد فقرأت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال: اكتب {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فنزل الاستثناء الذي تمناه ابن أم مكتوم، وعلى الرغم من أن الله سبحانه أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد، فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين، وعقد العزم على الجهاد في سبيل الله. ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور، فحرص منذ ذلك اليوم على ألا تفوته غزوة، وحدد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال، فكان يقول: أقيموني بين الصفين، وحملوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار. وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة تزيل ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فكتب إلى عماله يقول: لا تدعوا أحدا له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو رأى، إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي، والعجل العجل. وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب، وكان في جملة هؤلاء المجاهدين المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه -، فأمَّر الفاروق على الجيش سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأوصاه، ولما بلغ الجيش القادسية، برز عبد الله بن أم مكتوم لابسا درعه، مستكملا عدته، وندب نفسه ليحمل راية المسلمين والحفاظ عليها، أو الموت دونها. والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية، وانجلى اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين، فزالت أعظم الدول وكان بين الشهداء عبد الله بن أم مكتوم، فقد وجد صريعا مضرجا بدمائه وهو يعانق راية الإسلام (¬1). أين علو همتك في الدفاع عن دين الله، ونصرة الإسلام والمسلمين؟ 3 - علو الهمة في طلب العلم: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل البخاري: أن احل إلي كتابي الجامع والتاريخ، وغيرهما لأسمع منك. فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 155: 157.

أين نحن من هؤلاء

كان لك إلي شيء منه حاجة، فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا، فأنت سلطان، فامنعني من الجلوس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم. احذر أن تجعل نية طلبك للعلم الشهرة في الدنيا وأنفذ الخليفة بمائة دينار إلى عالم، وقال لغلامه: إن قبل ذلك فأنت حر. فحملها إليه فلم يقبل، فقال: اقبل ففيه عتقي، فقال: إن كان فيه عتقك ففيه رقي (¬1). أين نحن من هؤلاء قال عمر بن حفص الأشقر: إنهم فقدوا البخاري أياما من كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، وقد نفد ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث. وقال مالك: لا ينال هذا الأمر، حتى يذاق فيه طعم الفقر. وهذا يحيى بن معين، خلف له أبوه ألف ألف درهم، فأنفقها كلها على تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه. وذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة، ثلاثين سنة، خمس عشرة في دراسة، وخمس عشرة في عبادة. وقال الحافظ ابن كثير: وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة. وقال النووي: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض. وحكى البدر بن جماعة أنه سأله عن نومه فقال: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وانتبهت. وهذا ابن كثير: أخذ كتاب الإمام أحمد مرتبا، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلي الموصلي، وأجهد نفسه كثيرا، ¬

_ (¬1) علو الهمة- محمد أحمد إسماعيل المقدم.

حتى قبل الموت!

وتعب فيه تعبا عظيما، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله، إلا من بعض مسند أبي هريرة، فإنه مات قبل أن يكمله فإنه عوجل بكف بصره. وقال إبراهيم النخعي: من سره أن يحفظ الحديث، فليحدث به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه، فإنه إن فعل ذلك كان كالكتاب في صدره. وكان بعضهم يذاكر العلم مع نفسه فتراه يجلس وحده، ويرفع بالعلم صوته. يقول جعفر بن المراغي: دخلت مقبرة بتستر، فسمعت صائحا يصيح: والأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .. ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت، إلى أن رأيت ابن زهير، وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش. وقال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث (¬1). احرص على القراءة اليومية، وتعليم الناس ما تستفيده من قراءتك، فإن لم تستطع القراءة فلا تحرم نفسك من سماع شريط علم نافع. حتى قبل الموت! من الغريب أن فترة مرض الدكتور مصطفى السباعي على قساوتها وشدتها، كانت من أخصب أيام حياته، وأكثرها إنتاجا من الناحية العلمية. يقول د. محمد أديب الصالح: كان السباعي -رحمه الله- حريصا -كما علمت منه قبل وفاته بيوم واحد- على كتابة مؤلفات ثلاثة هي: العلماء الأولياء، والعلماء المجاهدون، والعلماء الشهداء (¬2). 4 - علو الهمة في الدعوة: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد اجتمع يوما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وكانوا قلة مستضعفين، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا أسمعهم إياه. ¬

_ (¬1) علو الهمة- محمد أحمد إسماعيل المقدم. (¬2) من أعلام الحركة الإسلامية 542.

الشيخ محمد فرغلي

فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة، تحميه وتمنعهم منه إذا أرادوه بشر. فقال: دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني، ثم ذهب إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن1 - 4] ومضى يقرأها، فتأملته قريش، وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟ تبًّا له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن وإن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك لقد أسمعتهم ما يكرهون (¬1). الشيخ محمد فرغلي يقول الشيخ حسن البنا عن الشيخ محمد فرغلي: حين تم بناء المسجد الذي طالب به عمال الشركة بالجباسات بالإسماعيلية انتدب للإمامة والتدريس فضيلة الأخ محمد فرغلي، المدرس بمعهد حراء حينذاك، وصل الأستاذ فرغلي وتسلم المسجد، وأعد له سكن خاص بجواره، ووصل روحه القوية بأرواح هؤلاء العمال الطيبين، فلم تمض عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعا عجيبا، لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة؛ خلافة الله في أرضه، فجدوا في عملهم، عفوا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق، لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية، أو لفظة جافية، أو مظهرًا من مظاهر التحقير والاستصغار، كما كان ذلك شأنهم من قبل، تجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب والجد والأمانة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ، ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال. ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 105: 107.

فكر الرؤساء في الشركة في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيس المباشر، فلما توجه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير. فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا مسيو فرانسوا أنني موظف بشركة جباسات البلاح، لو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وأتقاضى راتبي منهم محولا عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبا لا حسابا، ولا أترك عملي في المسجد ولو بالقوة، إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية التي انتدبتني هنا، وهو أمامك بالإسماعيلية اتفقوا معه كما تريدون. واستأذن وانصرف. وسقط في يد إدارة الشركة وصبرت أياما لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه اتصل بالبنا في الإسماعيلية فأوصاه بالتمسك بموقفه وألا يدع مكانه بحال، وحجته مقبولة ولا شيء لهم عنده، لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها بمحافظ القنال الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور ومعه قوته، وجلس في مكتب المدير، وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد وأجاب الرسول: لا حاجة لي عند المأمور، ولا عند المدير، وعملي بالمسجد، فإذا كان لأحدهما حاجة فليحضر إلي، وعلى هذا فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب منه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل ويعود إلى الإسماعيلية، فأجاب بمثل ما تقدم، وقال له: تستطيع أن تأتيني من الإسماعيلية بكلمة واحدة في خطاب فانصرف، ولكنك إذا أردت استخدام القوة، فلك أن تفعل ما تشاء، ولكني لن أخرج من هنا إلا جثة لا حراك بها. ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظة واحدة، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشي المأمور العاقبة فترك الموقف وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بالإمام البنا للتفاهم على الحل، يقول البنا: (ولكني اعتذرت له، بأنني مضطر إلى التفكير في الأمر، وعقد مجلس إدارة الجمعية للنظر ثم أجيبه بعد ذلك، وفي هذه الأثناء يؤسفني أن أقول إنني حضرت إلى القاهرة لمقابلة العضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة، فوجدت منه كل إعراض عن مصالح العمال، وكل انحياز إلى آراء الشركة ومديرها، وكل

الإيمان وعلو الهمة

تجرد من أي عاطفة فيها معنى الغيرة الوطنية. قابلت بعد ذلك مدير الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ، فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه كلمة لا أزال أذكرها: إنني صديق للكثير من زعماء المسلمين ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنة، ولكني لم أجد منهم أحدًا كهذا الشيخ، الذي ينفذ علينا هنا أحكاما عسكرية كأنه جنرال تماما. فناقشته في هذا الكلام وأفهمته أنه مخطئ وأن الشركة هي التي تقسو على العمال وتنقص من حقوقهم، وتستصغر إنسانيتهم، وتبخل عليهم وتقتر من أجورهم، في الوقت الذي يتضاعف ربحها ويتكدس، وأن من الواجب علاج هذه الحال بعلاج نظم هذه الشركات، ووجوب قناعتها باليسير من الربح، واتفقنا أخيرا على أن يبقى الأستاذ فرغلي شهرين حيث هو، وأن تقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة، وأن تطلب رسميا من الإخوان أن يحل محله واحد من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه، وتعني بمسكنه ومطالبه، وفي نهاية المدة عاد فضيلة الشيخ فرغلي وتسلم مكانه فضيلة الأستاذ شافعي أحمد واستمرت الدعوة تشق طريقها في هذه الصحراء مجراها ومرساها" (¬1). المسلم عالي الهمة لا يطلب مالا من أحد وإنما يعتز بنفسه، ويسعى لنشر دعوة الإسلام في كل مكان. الإيمان وعلو الهمة يقول القرضاوي: الإيمان هو قوة الخلق، وخلق القوة، وروح الحياة، وحياة الروح، وسر العالم، وعالم الأسرار، وجمال الدنيا، ودنيا الجمال، نور الطريق، وطريق النور. الإيمان هو واحة المسافر ونجم الملاح، ودليل الحيران، وعدة الحارب، ورفيق الغريب، وأنيس المستوحش، ولجام القوي، وقوة الضعيف. الإيمان هو مصنع البطولات، وتحقق المعجزات، ومفتاح المغاليق، ومنارة الهدى في كل طريق (¬2). ... ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية 500: 502. (¬2) الإيمان والحياة 308.

طلب العلم

طلب العلم يحث الإسلام على العلم، يقول تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" الترمذي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب" الترمذي. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق. ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حيًا به أبدا ... الناس موتى وأهل العلم أحياء قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. ثماني مسائل روى عن حاتم الأصم -تلميذ شقيق البلخي- أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. قال شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟!

قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها، وإني لا أحب أن أكذب. فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها. قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا هو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي. فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية؟ فقال: نظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41] فعلمت أن قوله سبحانه تعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى. الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته لله ليبقى عندي محفوظا. الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما. الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضا وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني. السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضا فرجعت إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو فتركت عداوة الخلق غيره. السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه، ويدخل فيها ما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى

أهمية اللغة العربية

اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى عليّ وتركت مالي عنده. الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق؛ هذا على عقاره، وهذا على تجارته، وهذا على صناعته، وهذا على صحة بدنه، وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي. أهمية اللغة العربية قيل إن أبا الأسود الدؤلي دخل على ابنته يوما، فقالت له: ما أحسنُ السماء -بضم النون- فظن أنها تسأل. فقال لها: نجومها. فقالت له: أنا لا أسأل ولكني أريد أن السماء حسنة. فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماء -بفتح النون- ثم انصرف إلى الإمام علي كرم الله وجهه فقال له: لقد فسد لسان العرب، وقص عليه القصة. فأمره أن يضع علم النحو، وأول باب وضعه هو باب التعجب، ثم أتبعه بكثير من الأبواب سدا لما كان يسمع من الخطأ. وقيل إنه قال لأبي الأسود حين جاءه يخبره بفساد لسان العرب: الكلمة اسم وفعل وحرف، وعلى هذا فانح يا أبا الأسود، فسمى هذا العلم نحوا لهذه الكلمة. تخير العلوم يقول أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ، فتذهب رياستك. ثم خطر لي أن أتعلم الحديث.

طلب العلم

فقلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني فماذا يكون؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان، فلا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عارا عليك في عقبك. فقلت: لا حاجة لي في هذا، قال أبو حنيفة: فقلت: أتعلم النحو، فقلت: إذا حفظت النحو والعربية ما يكون من آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة، وهذا لا عاقبة له. قال: فقلت: أنظر في الشعر. فإن نظرت في الشعر حتى لم يكن أحد أشعر مني ماذا يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهيب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات، قلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت في الكلام ماذا يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشعات الكلام فيرمي بالزندقة، فإما أن تؤخذ فتقتل وإما أن تسلم فتكون مذموما ملوما. قال أبو حنيفة: فقلت: فإن تعلمت الفقه، فماذا يكون من أمري؟ قالوا: تُسال تفتي وتطلب للقضاء وإن كنت شابا. قال: فقلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته. طلب العلم قال أبو يوسف القاضي: توفي أبي وخلفني صغيرا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار (يقصر الثوب) أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس وأسمع، فكانت أم تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقا يعود به على نفسه.

كيف تحفظ العلم؟

فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء، هذا هو ذا يتعلم أكل الفلوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. قال أبو يوسف: ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون الرشيد فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها، فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها. فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكك؟ فقلت: خيرا يا أمير المؤمنين. قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فتعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا ودينا، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا ينظره بعين رأسه. كيف تحفظ العلم؟ يقول ابن الجوزي: تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله، ومن لم يجد نشاطا للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح، وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثرا في الحفظ. قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ. وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه؟ قال: بجمع الهم. وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم. وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته. وقال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، وجاء في الأثر: "من سلك طريقا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زل".

علم بلا عمل

علم بلا عمل المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخبرات الآخرين فقدم مفلسا على قوة الحجة عليه. أحب الصالحين أحب الصالحين ولست منهم ... لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي ... ولو كنا سواء في البضاعة (¬1) وقال شهر بن حوشب: إذا حدث الرجل القوم، فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه. وسئل الحسن البصري: ما بالنا نعظ الناس فنبكيهم، وأنت تعظ الناس فتبكي؟ فقال: ليست النائحة كالثكلى. وجاء في مأثور الحكم: زلة العالم كالسفينة، تغرق ويغرق معها خلق كثير (¬2). كيف ينال العلم أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء، وحرص، واجتهاد، وبلغة ... وصحبة أستاذ، وطول زمان (¬3) شهوة العلم هذا الشافعي يقال له: كيف شهوتك للعلم؟ فيقول: سامع بالحرف -أي بالكلمة- بما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعا تنعم به كما تنعمت الأذان. فقيل له: كيف حرصك عليه؟ فقال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذاته للمال. ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 90. (¬2) أخلاق الدعاة 20، 21. (¬3) ديوان الشافعي 116.

الكتاب خير جليس

فقيل له: فكيف طلبك له؟ فقال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس غيره (¬1). الكتاب خير جليس الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يسترثيك، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك، وفخم ألفاظك (¬2). المداومة على طلب العلم من تفرس أبي حنيفة في أبي يوسف -تلميذه- عندما مرض أبو يوسف مرضا خيف عليه منه، فعاده أبو حنيفة فلما خرج من عنده وضع يديه على عتبة بابه وقال: إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم من عليها. وأومأ إلى الأرض. وقد أغرت هذه التزكية أبا يوسف في أن يتخذ لنفسه مجلسا مستقلا بعد مرضه .. ولكن أبا حنيفة كان حريصا على ملازمته فرده إلى الحلقة بسياسة حكيمة. عقد أبو يوسف لنفسه حلقة خاصة ونظر أبو حنيفة فإذا بتلميذه الذي أمله للناس من بعده يتعجل ذلك اليوم وها هو ذا يجلس قريبا منه في مسجد الكوفة متصدرا حلقة من الحلقات. ولم يحسده أبو حنيفة على ذلك، ولم تدخل نفسه الغيرة من تلميذه، ولكن داخلها شيء آخر، هو خشيته على هذا التلميذ من الفشل، لأنه ما زال أمامه وقت للتخرج .. إن التطلع للرياسة قبل الأوان ابتسار للثمرة قبل نضجها، ولقد خاض أبو حنيفة نفسه هذه التجربة قديما حين حدثته نفسه ذات يوم أن يستقل عن شيخه حماد، ومنعه الحياء من ذلك، ثم أنابه شيخه عنه في أثناء سفر مفاجيء له، فلما عاد شيخه عرض عليه المسائل التي سئل فيها وكيف أجاب عنها، فإذا به يوافقه في كثير منها ويخالفه في بعضها، فأدرك ¬

_ (¬1) إيقاظ الغافلين 116. (¬2) لا تحزن 125، بتصرف.

أنه أحسن صنعا حين لم يستقل بنفسه. تذكر أبو حنيفة ذلك فأشفق على تلميذه وعزم على أن يرده إلى الحلقة حبا له وإشفاقا عليه، لا حسدا له وغيرة منه. ولكن كيف يرده؟ لابد من إعمال الحيلة، ولن يعدمها أبو حنيفة وهو صاحب الذكاء المشهور. استدعى أحد المتحلقين حوله، وألقى إليه سؤالا وطلب منه أن يوجهه إلى أبي يوسف، قال له: قل ليعقوب: ما رأيك في رجل دفع إلى قصار ثوبا ليقصره له بدرهم، فعاد إليه بعد أيام يطلب الثوب فجحده، ثم إن صاحب الثوب عاد بعد أيام يطلب الثوب مرة أخرى فرده عليه مقصورا، فهل له من أجر؟ إن قال لك: له أجر فقل له: أخطأت، وإن قال: ليس له أجر فقل له: أخطأت .. وتوجه الفتى إلى أبي يوسف وألقى عليه السؤال. فقال أبو يوسف: له أجر. فقال له: أخطأت. فقال أبو يوسف: ليس له أجر. فقال له الفتى: أخطأت، وعاد الفتى إلى حلقة أبي حنيفة بعد أن أنهى مهمته، وأنهى إلى أستاذه جواب أبي يوسف، ونظر أبو يوسف فعلم أنه حار في مسألة كان المفروض ألا يحار فيها .. وهي مسألة يسيرة هينة، فكيف لو ألقى عليه من عويص المسائل، فطوى مجلسه المستقل، وعاد إلى مجلس أبي حنيفة تائبا مستغفرا، قال له أبو حنيفة: أظن ما جاء بك إلا مسألة القصار؟ قال أبو يوسف: نعم. فقال أبو حنيفة: من يجلس في مجلس الإفتاء فلا ينبغي له أن يعجز في الإجابة عن أقل مسألة. فقال أبو يوسف: إني تائب فعلمني. قال أبو حنيفة: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له، لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة لأنه قصره لصاحبه، يا أبا يوسف، من ظن أنه يستطيع

فطنة العالم

أن يستغني عن العلم فليبك على نفسه، ومن ظن أنه علم فقد جهل (¬1). ويقال إن سقراط قال: لقد علمت شيئا واحدا وهو أنني لا أعلم شيئا. ومن كلام أبي يوسف: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. فطنة العالم حلف هارون الرشيد على زوجته ألا تبيت ليلتها في بلد يدخل في ولايته، كان واقعا تحت تأثير ثورة غضب بعد خلاف نشب بينهما، وأسقط في يد هارون الرشيد بعد أن هدأت ثورة غضبه وأدرك أن الطلاق كائن لا محالة، ولكنه سرعان ما استنجد بقاضيه فأسرع في استدعائه، وجاء أبو يوسف متعجلا يلي طلب الخليفة وهو لا يعرف فيم استدعاه، وقص هارون على أبي يوسف قصة اليمين، وما أسرع أن حل أبو يوسف المشكلة دون عناء، لقد قال فورا: فلتذهب زوجة الخليفة إلى المسجد لتبيت فيه. إن المسجد هو المكان الوحيد الذي لا يقع تحت ولاية الخليفة -مع امتداد رقعة الملك في ذلك الوقت- حتى لقد كان هارون ينظر إلى السحابة تمر فيقول لها: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك. وذهبت زوجة الخليفة إلى المسجد وقضت فيه ليلتها ولم يحنث الخليفة في يمينه، ولم يقع الطلاق، ولم تتأثر كرامة الزوجة، لأنها قضت ليلتها في ضيافة الرحمن في بيته، وكانت فرصة طيبة لتقوم ليلتها تشكر الله على نعمه، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. نماذج فريدة معاصرة كان الإمام البنا يحفظ 18 ألف بيت شعر ومثلها من النثر. ويقول عمر التلمساني: أقبلت على القراءة الدينية، فقرأت تفسير الزمخشري، وابن كثير، والقرطبي، وسيرة ابن هشام، وغيرها من السير، وقرأت أسد الغابة، والطبقات الكبرى، ونهج البلاغة والأمالي والعقد الفريد لابن عبد ربه، والمخصص لابن سيده، ¬

_ (¬1) الإمام أبو حنيفة 136.

الاستقامة في طلب العلم

وصحيح البخاري، وصحيح مسلم من جلده إلى جلده. الاستقامة في طلب العلم قال القاضي عياض: لما أتيت الكوفة، وأكثر أملي السماع من سليمان بن مهران الأعمش فسألت عنه، فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث، فحلف ألا يسمعهم مدة، فكنت أختلف إلى باب داره، لعلي أصل إليه، فلم أقدر على ذلك، فجلست يوما على بابه، وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع منه، إذ فتحت جارية بابه يوما وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري. قالت: وأين بلدكم؟ قلت: إفريقية، فانشرحت إلي، وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها. قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو؟! فتأملتني، ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم، وإذا هي جارية كانت لنا، بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش، وقالت له: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره (بالباب) فأمرها بإدخالي، فدخلت وأسكنني قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني، وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه. زد من الضرب ها هو شيخ البخاري وأبي داود (هشام بن عمار) قال الحافظ جزرة: سمعت هشام ابن عمار يقول: دخلت على مالك بن أنس، فقلت له: حدثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا، بل حدثني، فقال: اقرأ، فلما راددته، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا فاضربه خمس عشرة، قال: فذهب بي، فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت: قد ظلمتني، ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل. فقال مالك: فما كفارته؟

هذا والله الملك

قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا. قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له: زد من الضرب، وزد من الحديث، فضحك مالك، وقال: اذهب. هذا والله الملك قال الإمام الذهبي عن عبد الله بن المبارك: طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيل ودخل إليه السجن، فسمع منه نحوا من أربعين حديثا، ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومائة، وأخذ عن بقايا التابعين، وأكثر من الترحال والتطواف وإلى أن مات في طلب العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله وتجهيزهم معه إلى الحج. صبرهم على الجوع من أجل العلم قال الوخشي أبو علي الحسن: كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره، فضاقت على النفقة، وبقيت أياما بلا أكل، فأخذت لأكتب فعجزت، فذهبت إلى دكان خباز، وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها، ثم فتح الله تعالى عليَّ. لا يستطاع العلم براحة الجسد قال الحافظ بن عبد الرحمن بن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل: كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكا أعجبنا، فاشتريناه، فلما صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس، فلم يمكننا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام، وكاد يتغير فأكلناه نيئا، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه .. ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. العمل بالعلم يقول سفيان بن عيينة: إن أنا عملت بما أعلم فأنا أعلم الناس، وإن لم أعمل بما أعلم فليس في الدنيا أحد أجهل مني.

حفظ العلوم

ويقول الفضيل بن عياض: لا يزال العالم جاهلا بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالما. ويقول الشافعي: ليس العلم ما حُفظ .. العلم ما نفع. ويقول محمد بن الحسن الوراق: إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد ... لعلمك مخلوقا من الناس يقبله وإن زانك العلم الذي قد حملته ... وجدت له من يجتنيه ويحمله ويقول ابن القيم: علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق. ويقول علي بن أبي طالب: هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. ويقول سيدنا عيسى: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم. حفظ العلوم يقول الأعشى: احفظوا ما جمعتم، فإن الذي يجمع ولا يحفظ كالرجل كان جالسا على خوان"مائدة طعام" يأخذ لقمة لقمة، فينبذها وراء ظهره، فمتى تراه يشبع؟ ويقول الشافعي: علمي معي حيثما يممت ينفعني ... قلبي وعاء له لا بطن صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق (¬1) وكان أبو حامد الغزالي عائدا من رحلته العلمية في جرجان، وكان نتاج رحلته مجموعة كراريس سماها "التعليقة" حوت مجموع الفوائد التي سجلها الإمام عن أستاذه، وفي الطريق حين عودته إلى بلدة طوس خرج عليه قطاع الطريق هو ومن معه، فأخذوا جميع ما في القافلة، بما في ذلك تعليقة الشيخ. ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 67.

نتيجة الفهم الصحيح والثقافة الواعية

ويقول أبو حامد الغزالي: فتبعتهم فالتفت إلى كبيرهم، وقال: ويحك ارجع، وإلا هلكت، فقلت: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد على تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ قلت: كتب في مخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلى المخلاة. قال أبو حامد: فقلت: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي. نتيجة الفهم الصحيح والثقافة الواعية يحكي الإمام ابن القيم عن فقه الإمام ابن تيمية العميق للإسلام في ترتيب الأولويات فيقول: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم (¬1). ولما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم الرسول على تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر. فقال الرسول للسيدة عائشة: "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم -قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون" [البخاري]. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه". السعادة كان عبد البديع صقر كثيرا ما يجتمع مع أضرابه وإخوانه في بيت الإمام حسن البنا -عليه رحمة الله- لتدارس بعض الكتب في التفسير والسلوك، ككتاب إحياء علوم الدين ¬

_ (¬1) من فقه الأولويات في الإسلام 153.

من نماذج العلماء

مثلا، وكانوا في حدود الأربعين من الأشخاص، فيدركهم الجوع، فيطعمهم جميعا طعاما بسيطا "على ما قسم الله" وأحيانا ينسى الإمام أن يجهز لهم شيئا فيقول: "اذهبوا إلى المطبخ فكلوا ما وجدتم أو اصبروا" فكانوا في نشوة الفرح باللقاء والمشغلة بالعلم النافع لا يقيمون وزنا لهذه الاعتبارات، ويتقاسمون الرغيف اليابس وهم في غاية السعادة (¬1). من نماذج العلماء يقول البخاري عن نفسه: لقيت أكثر من ألف رجل، لأهل الحجاز والعراق والشام ومصر، ولقيتهم مرات، أهل الشام ومصر مرتين والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، ومكثت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي خراسان. وكتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث (¬2). وعن عيسى الخياط عن الشعبي قال: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لم يضع. وقال الشعبي: العلم كثر من عدد القطر فخذ من كل شيء أحسنه. وكان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي. وقال شقيق بن إيراهيم: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لم تجلس معنا؟ قال: أذهب أجلس مع الصحابة والتابعين. قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون؟ قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، ما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس. وقيل لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، إلى متى تكتب هذا الحديث؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كُتبت. ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان (2/ 57، 58). (¬2) أعلام المسلمين 133.

الفتوى

وقال مرداد بن جميل: سأل عمرو بن إسماعيل -رجل من أصحاب الحديث- المعافي بن عمران فقال له: يا أبا عمران، أي شيء أحب إليك؟ أسهر وأصلي، أو أكتب الحديث؟ فقال: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة. الفتوى عن نافع أن رجلا سأل ابن عمر في مسألة، فطأطأ رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا رحمك الله حتى نتفهم مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به. اطلبوا العلم عن معاوية بن قرة قال: قال أبو الدرداء: اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم. وعن أنس، عن أبي الدرداء قال: اغد عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك، قلت للحسن: ما الرابع؟ قال: المبتدع. وقال هارون بن سفيان: سمعت عبيد الله بن عمر القواريري يقول: أملى علي عبد الرحمن بن المهدي عشرين ألف حديث حفظا. ويقول ابن الجوزي: لقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها الماء، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقهم كابن أجود. إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا

هكذا يطلب العلم

ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي متى؟ لو عشت مثلا 70 سنة وضاعت منك كل يوم 5 دقائق ضاع منك 3 أشهر، وإذا ضيعت عشر دقائق ضاع من حياتك 6 أشهر، وإذا ضيعت 25 دقيقة ضاعت منك سنة كاملة. هكذا يطلب العلم يحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل على شريك، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالا، فسأله وهو مستند على الحائط وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأمير السؤال مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه، فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. وكان الطبري عالي الهمة، عظيم الاجتهاد، ومما يحكى عنه أن رجلا جاءه يسأله في العروض، وهو علم يعرف به الشعر من (النثر)، ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له: على قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غد فتعال إلي، ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض فتدارسه في ليلته، وقال: أمسيت غير عروضي وأصبحت عروضيا. وظل الطبري أربعين عاما يكتب كل يوم أربعين ورقة، قاصدا بذلك وجه الله، بما ينفع به الإسلام والمسلمين. ولما ترك الألوسي منصب الإفتاء بالعراق، تفرغ لتفسير القرآن الكريم، وتعلقت نفسه رغبة لإتمام هذا العمل، فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه، ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم يذكره المفسرون السابقون عليه، ولا يهدأ له بال حتى يسجل خواطر في كراريسه، وعندئذ يعود إليه الهدوء، ويزول عنه القلق والتوتر، ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم. وكان عبد الله بن المبارك سريع الحفظ، لا ينسى ما حفظه أبدا، يحكى أحد أقربائه

الذكاء والعلم

-واسمه صخر بن المبارك- عن ذلك فيقول: "كنا غلمانا في الكتاب، فمررت أنا وابن المبارك برجل يخطب، فطالت خطبته، فلما انتهى قال لي ابن المبارك: قد حفظتها فقلت له: فأعدها علي إن كنت حفظتها كما تدعي، فأعادها عليه ابن المبارك وقد حفظها ولم يخطيء في لفظ منها. ومن وصايا لقمان الحكيم: يا بني اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوما يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك إن تكن عالما نفعك علمك، وإن تكن جاهلا يعلموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تكن عالما لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا زادك الله غيا -أو عيا- ولعل الله أن يطلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم. (الدارمي). وكان الرشيد معجبا بذكاء ابنه وانصرافه إلى العلم، فحين دخل على المأمون، وهو ينظر في كتاب، قال له: ما هذا؟ فأجاب المأمون: كتاب يشحذ فكرة، ويحسن العشرة. فقال الرشيد: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر مما يرى بعين جسمه. ويحكى أن الرشيد أراد الحج فدخل الكوفة وطلب المحدثين علماء الحديث فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فبعث إليهما الأمين والمأمون، فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث، فقال المأمون: يا عم أتاذن لي أن أعيدها من حفظي؟ فأداها فعجب ابن إدريس من حفظه. الذكاء والعلم جاءت امرأة إلى المأمون، وقالت له: مات أخي، وترك ستمائة دينار، فأعطوني دينارا واحدا، وقالوا: هذا ميراثك من أخيك. ففكر المأمون وقال: أخوك ترك أربع بنات؟ قالت: نعم. قال: لهن أربعمائة دينار (ثلثا الميراث).

قالت: نعم. قال: ترك أمًا، فلها مائة دينار (سدس الميراث) وزوجة لها خمسة وسبعون دينارا (ثمن الميراث) بالله ألك اثنا عشر أخا؟ قالت: نعم. قال: لكل واحد ديناران، ولك دينار. ويقول أحد التلاميذ: ترددت على مجلس الحسن عشر سنين، فليس من يوم إلا وأسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك. وكان الحسن البصري يبكي كثيرا ولما سئل عن ذلك قال: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئا. وقال الحسن البصري ناصحا تلميذا له: إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثه وإن طال حتى يمسك. وقال سحنون: لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع، ولا لمن يهتم بغسل ثوبه. وقال الربيع: لم أر الشافعي آكلا بالنهار، ولا نائما بليل، لاهتمامه بالتصنيف. يقول الشافعي: لا يدرك الحكم في عمره ... من يكدح في مصلحة الأهل ولا ينال العلم إلا فتى ... خال من الأفكار والشغل لو أن لقمان الحكيم الذي ... سارت به الركبان بالفضل بلي بفقر وعيال لما ... فرق بين التبن والبقل (¬1) ويقول الشافعي: لو كلِفت شراء بصلة لما فهمت مسألة. ¬

_ (¬1) الديوان 71.

وعن جعفر بن محمد قال: رواية الحديث وبثه في الناس أفضل من عبادة ألف عابد. وقال عبد الله بن عباس: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر. وقال سلمان: إنما مثل العالم مثل رجل حمل سراجا في طريق مظلم يستضيء به من به، وكل يدعو له بالخير. ويروى أن فقيها أعاد الدرس في بيته مرارًا كثيرة فقالت له عجوز في بيت: قد -والله- حفظته أنا. فقال: أعيديه، فأعادته، فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز أعيدي ذلك الدرس. فقالت: ما أحفظه. قال: أنا أكرر عند الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك. أ- حسن النية: قال ابن عباس: إنما يحفظ الرجل على قدر نيته. ب- إحياء المحفوظ بالعمل به: قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به. ج- التخلي عن المعاصي: قال الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي وقال مالك بن أنس: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلب. وعن ابن مهدي قال: سأل رجل مالكا عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسالك عنها، فقال له مالك: فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم أني قلت لك: لا أحسنها. وقال أبو هريرة: إنكم تقولون: ما بال المهاجرين لا يحدثون عن رسول الله بهذه

الأحاديث؟ وما بال الأنصار لا يحدثون بهذه الأحاديث؟ وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتهم في الأسواق، وإن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها وإني كنت امرأ معتكفا وكنت أكثر مجالسة رسول الله، أحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وإن النبي حدثنا يوما فقال:"من يبسط ثوبه حتى أفرغ من حديثي ثم يقبضه إليه فإنه ليس ينسى شيئا مني أبدا" فبسطت ثوبي. ثم حدثنا فقبضته إلي، فوالله ما نسيت شيئًا سمعته منه، وايم الله لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. [متفق عليه]. ويقول الشافعي: تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه الجحافل وإن صغير القوم إن كان عالما ... كبير إذا ردت إليه المحافل (¬1) وقال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد (¬2). وقال أحمد بن حنبل: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب، والجزائر، ومكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، والعراقين جميعا، وفارس، وخراسان، والجبال، والأطراف ثم عدت إلى بغداد (¬3). ويقول ابن عباس: ما أكثر العلم وما أوسعه ... من ذا الذي يقدر أن يجمعه إن كنت لابد له طالبا ... محاولا فالتمس أنفعه ويقول الإمام النووي: كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن كان يحفظ القرآن، وقد مثل الداعية الذي يحفظ القرآن بالرجل يتحلى بثوب حسن في الظاهر، ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 105. (¬2) أخلاق الدعاة 100. (¬3) أخلاق الدعاة 100.

عباس العقاد

ولكنه لا يكتسي تحته بإزار، فإذا صفحته الريح كشفت عورته، وبانت سوءته: العلم جهل عند أهل الجهل ... وما الجهل جهل عند أهل العلم ومنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه عباس العقاد بينما عباس العقاد في الفرقة الرابعة الابتدائية، إذ بالشيخ محمد عبده -الذي كانت له مكانة كبيرة في ذلك الوقت- يزور المدرسة، فيطلعه مدرس الإنشاء على موضوع كتبه عباس، فأعجب الشيخ به إعجابا شديدا وقال: ما أجدر هذا الصبي أن يكون كاتبا بعد .. فكانت هذه الجملة التي قالها الشيخ محمد عبده حافزًا قويا لعباس العقاد في ذلك الوقت المبكر، جعلته يسلك طريق الكتابة دون سواها (¬1). نماذج من علماء الأمة نشأ الإمام النووي في أسرة تشتغل بالعلم، فجده مالك بن أبي عامر من كبار التابعين، فشجعه ذلك على حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وأتقن تلاوته، لكنه لم يكتف بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول الله، فذهب إلى أمه وقال لها: يا أماه إني أحب رسول الله وأريد أن أحفظ أحاديثه، فكيف لي بذلك؟ ابتسمت أمه ابتسامة صافية، وضمته إليها، ثم ألبسته ثيابا جميلة وعممته وقالت له: اذهب إلى "ربيعة الرأي" -وكان فقيها كبيرا- وتعلم من أدبه قبل علمه، فجلس الطفل الصغير، مالك بن أنس يستمع إلى شيخه وينهل من علمه، وبعد انتهاء الدرس يسرع بالجلوس تحت ظلال الأشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه، حتى لا ينساه، وقد رأته أخته ذات مرة وهو على هذه الحال، فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته، فقال لها: يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث رسول الله، وكان مالك بن أنس -كغيره من الأطفال الصغار- يحب اللعب، فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليلا إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته، فقد سأله أبوه يوما في مسألة هو وأخوه النضر، فأصاب النضر، وأخطأ مالك في الرد على السؤال، فغضب منه والده، فكانت هذه الحادثة سببا في عزمه على ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 238.

الجد والاجتهاد في العلم، فذهب من فوره إلى ابن هرمز -وهو عالم كبير- فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات، وكان شديد الحرص على الاستفادة منه خلالها (¬1). اصبر على مر الجفا من معلم ... فإن رسوب العلم في نفراته ومن لم يذق مر التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فكبر عليه أربعا لوفاته وذات الفتى -والله- بالعلم والتقى ... إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته (¬2) - كان سيبويه حريصا على طلب العلم، وذات مرة، جلس حماد بن سلمة يلقي درسا من دروسه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء" فظن سيبويه أن شيخه قد أخطأ في عبارة "ليس أبا الدرداء" فقام من مكانه ليصححها له، وقال: ليس أبو الدرداء، لأنه اعتقد أن كلمة أبا اسم ليس التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، فابتسم الشيخ في وجه الفتى الصغير وقال: لحنتَ وأخطأتَ يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس ما هنا استثناء، فقال سيبويه بأدب لأستاذه قولته السابقة: لا جرم سأطلب علما لا تلحني فيه. ومنذ ذلك الحين بدأ الفتى الصغير رحلة الاجتهاد والجد، لتحصيل علوم اللغة العربية وخاصة علم النحو (¬3). أفاد سيبويه الكثيرين بعلمه، حتى وصل علمه إلى عامة الناس الذين أخذوا عنه، وتعلموا منه الفصاحة. يحكى أن رجلا قال لسماك (يبيع السمك) بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ فقال: بدرهمان .. فضحك الرجل مستهزئا من السماك لأنه رفع المجرور، فقال السماك: ويلك أنت أحمق: لقد سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان. يقول أبو هريرة: لأن أفقه ساعة أحب إلي من أن أحي ليلة أصليها حتى أصبح، ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 87 - 88. (¬2) ديوان الشافعي 59. (¬3) أعلام المسلمين 209، 210.

والفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء دعامة ودعامة الدين الفقه (¬1). وكان من دعاء بعض الصالحين: اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك. وعن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا النبي أخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (أو يعصب شك موسى) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده". [أبو داود]. وعن عقبة بن مسلم قال: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا فكان كثيرا ما يسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إلي فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم (¬2) وسئل القاسم بن محمد بن أبي بكر عن شيء فقال: لا أحسنه. فقال السائل: إني جئت إليك لا أعرف غيرك؟ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جانب القاسم: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلى من أن أتكلم بما لا علم لي (¬3). وسئل الإمام الشعبي عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قولك: لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا (¬4). واشتهر عن الإمام مالك، والذي قيل فيه حقه: لا يفتى ومالك بالمدينة، قال ابن وهب: لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح. ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة 111. (¬2) المصدر نفسه 149. (¬3) المصدر نفسه 10. (¬4) أخلاق الدعاة 100.

وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، قال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وعن مالك أيضا: أنه ربما كان سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها (¬1). ومن جميل ما يروي في هذا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه سأل شيخه عبد الله بن الحسن العبري عن مسألة فغلط فيها، فقال له: أصلحك الله، القول فيها كذا وكذا، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: إذن أراجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنَبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ود أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول (¬2). وعن وهب بن منبه قال: ينبغي للعالم أن يكون بمنزلة الطباخ الحاذق يعمل لكل قوم ما يشتهون من الطعام، وكذلك ينبغي للعالم أن يحدث كل قوم بما تحتمله قلوبهم وعقولهم من العلم (¬3). وعن الشافعي قال: كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث والمسألة فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة وكانت لنا جرة عظيمة فإذا امتلأ العظم تركته في الحجرة (¬4). وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله، لذلك كان يكتب في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق اللص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله، ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه. ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول بل كان يعمل بما في ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة 150. (¬2) أعلام المسلمين 211. (¬3) أخلاق الدعاة 151. (¬4) أخلاق الدعاة 153.

هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به (¬1). مناى من الدنيا علوم أبثها ... وأنشرها في كل باد وحاضر دعاء إلى القرآن والسنن التي ... تناسى ذكرها في المحاضر وكتب ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانية آلاف ورقة تقريبا (¬2). ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" [البخاري]. ويقول الحسن البصري: العامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا تضروا بعلمكم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا (¬3). قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاقم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". [مسلم]. وعن سفيان بن عيينة قال يوما لأصحابه: من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قالوا: قل يا أبا محمد. قال: ليس أحد أحوج إلى طلب العلم من العالم، لأنه ليس الجهل بأحد أقبح به من العالم (¬4). وحفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله وأمه تشجعه وتشد من أزره، وتحنو عليه، ولكن كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الأوراق التي يسجل فيها محفوظاته، كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمل ليكتب عليها (¬5). وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 101. (¬2) أعلام المسلمين 101. (¬3) أعلام المسلمين 108. (¬4) أخلاق الدعاة 95. (¬5) أعلام المسلمين 94.

آداب طالب العلم

يجلس في حلقته إذا صلى الفجر فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو والشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر (¬1). آداب طالب العلم: 1 - عدم الحياء في العلم: قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار! لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. 2 - المداومة على طلب العلم: قال الشاعر: وكلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي وكلما ازددت علما ... زادني علما بجهلي 3 - الصبر: يقول الشاعر: ومن لم يذق مر التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فكبر عليه أربعا لوفاته 4 - التدوين: يقول أحمد بن حنبل: مع المحبرة إلى المقبرة، وقيل: العلم صيد والكتابة قيد. 5 - العمل بالعلم: قال الرسول: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" رواه الترمذي. 6 - احترام المعلم: يقول شوقي: قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا أرأيت أعظم أو أجلَّ من الذي ... يبني وينشيء أنفسا وعقولا؟! ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 96.

آفات العلم

آفات العلم قال رسول الله: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء وتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار" ابن ماجه. وقال عمر: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم، قالوا: كيف يكون منافقا عليما؟ قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل. وقال الحسن: لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء. وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. وقال سفيان الثوري: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطوف به أهل النار فيقولون: مالك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه" متفق عليه. وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أوتيت علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم. وراعي الشاة يرعى الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟! وقال حاتم الأصم: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو. لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقال الحسن: تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا. وقال عمر: إذا زل العالِم زل بزلته عالَم من الخلق.

التفكر

التفكر أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالتفكر في عظيم مخلوقاته، ونعمه عليهم، وأن ينظروا فيما حولهم من مخلوقات تتحدث كلها عن عظمة من خلقهما وصنعهما وأبدعهما فجاءت في أحسن صورة وأتمها وأكملها. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190 - 191]. وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية: 17 - 21]. والآيات الدالة على وجوب التفكر والتدبر والتأمل كثيرة، فهيا بنا ننظر ونتدبر فيما خلق الله وأبدع لنقول معًا: سبحان الله. يقول هرشل عالم الفلك الكبير في القرن الثامن عشر: "كلما اتسع نطاق العلوم كثرت الأدلة على وجود حكمة خالقة، قادرة، مطلقة، وما العلماء الطبيعيون والكيماويون وعلماء الفلك إلا بناة لمعابد العلوم التي يسبح فيها للخالق العظيم". ويقول سقراط فيلسوف اليونان الشهير: "هذا العالم يظهر لنا على النحو الذي لم يُترك فيه شيء للمصادفة". قرر علماء النفس أن الإيمان هو أهم عوامل الشفاء لمرضى النفس وتقول الإحصاءات في أمريكا إنه في كل 35 دقيقة تقع حادثة انتحار، وفي كل 120 ثانية يصاب شخص بالجنون، ويقول الأطباء بأن معظم حالات الانتحار وحالات الجنون يمكن أن يقطع دابرها الإيمان. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].

التفكر

ويقول رائد الفضاء السوفيتي تيتوف: "لقد رأيت الأرض معلقة في الفضاء .. وتساءلت من يمسكها فلا تقع .. هل من إجابة غير ما جاءت في القرآن الكريم: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. ويقول لابلاس: "إن القدرة التي وضعت الأجرام السماوية في المجموعة الشمسية، وكثافتها، وأقطارها، ومداراتها، وحددت مدة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بنظام مستمر إلى ما شاء الله، لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة". سبنسر الذي لم يكن يعترف بالأديان قال: "إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن للحادثات مظاهر قدرة مطلقة، متعالية عن الإدراك". ويقول الفلكي الكبير جيمس جينز: "لا يمكن أن تكون المصادفة هي التي أوجدت نظام هذا الكوكب". ويقول ابراهام لنكولن:" إنني لأعجب لمن يتطلع إلى السماء ويشاهد عظمة الخالق، ثم لا يؤمن بالله". {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. التفكر أحد العلماء رد جسم الإنسان إلى العناصر الأساسية فيه، فخرج بالنتائج الآتية: إذا جئنا بإنسان وزنه مائة وأربعون رطلاً ونظرنا في تكوينه وجدنا بدنه يحتوي على المواد الآتية: قدر من الدهن يكفي لصنع (7) قطع من الصابون. قدر من الكربون يكفي لصنع (7) أقلام رصاص. قدر من الفسفور يكفي لصنع رءوس (120) عود ثقاب. قدر من ملح المغنسيوم يصلح جرعة واحدة لحد المسهلات. قدر من الحديد يمكن عمل مسمار متوسط الحجم منه. قدر من الجير يكفي لتبييض بيت للدجاج. قدر من الكبريت يطهر جلد كلب واحد من البراغيث التي تسكن شعره.

النحلة

قدر من الماء يملأ برميلاً سعته عشرة جالونات. وهذه المواد تشتري من السوق بمبلغ من المال ... وتلك هي قيمة الإنسان المادية (¬1). يقول سيد قطب: إن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض وهو ينفصل عن أمه، ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة. إن وقفة أمام هذه اللحظة وهذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان. وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات، بل أمام النطق ذاته نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة. إنها عجيبة. عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرًا، ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها، إنها خارقة، خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله (¬2). الطير سبحه والوحش مجده ... والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه ... والنحل يهتف حمدًا في خلاياه والناس يعصونه جهرًا فيسترهم ... والعبد ينسى وربي ليس ينساه التقى زنديق بإمامنا الشافعي يومًا، فقال له: يا شافعي، ما الدليل على وجود الله؟ فقال الإمام: ورقة التوت، فقال الزنديق: وكيف ذلك؟ قال الشافعي: تأكلها الدود فتخرجها حريرًا طريًا، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلا شهيا، وتأكلها الغزالة فتخرج مسكًا زكيًا، وتأكلها الشاة فتخرجها لبنًا صافيا، ... المادة واحدة، واللون واحد، لكن الصنعة مختلفة فمن الصانع؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. النحلة تلك التي خاطبها ربها بما خاطب به الأنبياء فقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة: (58) (¬2) في ظلال القرآن (6/ 3380).

مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل:69،68]. هل تأملت النحل وأحواله وأعماله؟ ألم تتأمل أقراص الشمع السداسية، وفي دقتها وإتقان صنعتها؟ .. إنها مأمورة بالأكل من كل الثمرات، بخلاف كثير من الحشرات التي تعيش على أنواع معينة من الأشجار أو الأعشاب .. وتتعجب معي حين تعلم أن النحلة لا تأكل، بل ولا تقف على شجرة التبغ "الدخان". وللنحلة عيون كبيرة، توجد في حافتي الرأس عينان، وعينان أخريان في أعلى الرأس، تحتها عين ثالثة مما جعل لها سعة أفق في النظر، فهي ترى أقصى اليمين، وأقصى الشمال، وترى القريب والبعيد في وقت واحد، مع العلم بأن عيونها لا تتحرك، فمن الذي جعل عيونها كذلك؟ إنه من أحسن كل شيء صنعه والنحلة لها سمع دقيق جدًا يتأثر بأصوات وذبذبات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان .. فمن الذي زودها بهذا السمع العجيب؟ والنحلة تحمل ضعف وزنها، وبسرعة أربعمائة خفقة جناح في الثانية الواحدة .. فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى. وهناك من النحل من تعمل مرشدات عندما تجد مصدرًا للغذاء، تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية أخواتها، وعندما ينتهي ما به من رحيق تفرز عليه رائحة كريهة حتى لا تضيع في البحث فيه مرة أخرى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]. فمن الذي علمها وأرشدها؟ إنه الله رب العالمين. إن النحلة (الشغالات) خارج الخلية تستطيع الرجوع إلى خليتها بالتعرف عليها من بين عشرات الخلايا بلا تعب أو عناء، حتى ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال. وهناك حراسا للخلية، فلا تدخل الخلية نحلة غريبة عنها إلا قتلوها. وهناك نوع آخر أو نحل آخر يعمل بالنظافة، ولذلك فهي لا تلقي مخلفاتها إلا خارج الخلية فمن الذي علمها، ومن الذي ألهمها؟ يقول ابن الجوزي: عرض لي طريق الحج من العرب، فسرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في

دعوة

صدري، فصار يعرض لي عند ذكرى الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها، فصحت بالنفس: ويحك اعبري إلى البحر وانظرى إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه، ثم اخرجي إلى الكون والتفتي إليه، فإنك ترينه بالإضافة إلى السموات والأفلاك كذرة في فلاة. ثم جولي في الأفلاك، وطوفي حول العرش، وتلمحي ما في الجنان والنيران، ثم اخرجي عن الكل والتفتي إليه، فإنك تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد. ثم التفتي إليك فلتلمحي بدايتك ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية، وليس إلا العدم، وفيما بعد البلى وليس إلا التراب، فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ والمنتهى؟ وكيف يغفل أرباب القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم؟ (¬1). دعوة لله في الآفاق آيات لعل أقلها ... هو ما إليه هداكا ولعل ما في النفس من آياته ... عجب عجاب لو ترى عيناكا والكون مشحون بأسرار إذا ... حاولت تفسيرًا لها أعياكا قل للطبيب تخطفته يد الردى ... من يا طبيب بطبه أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما ... عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة ... من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة ... فهوى بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خطأ بين الزحام ... بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للجنين يعيش معزولاً بلا ... راعٍ ولا مرعى ما الذي يرعاكا قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء ... لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه ... فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو ... تحيا وهذا السم يملأ فاكا ¬

_ (¬1) صيد الخاطر 204 - 205.

واسأل بطون النحل كيف تقاطرت ... شهدًا وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين ... دم وفرث ما الذي صفَّاكا وإذا رأيت الحي يخرج من منايا ... ميت فاسأله من أحياكا قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى ... عن عيون الناس من أخفاكا قل للنبات يجف بعد تعهد ... ورعاية مَنْ بالجفاف رماكا وإذا رأيت النبت في الصحراء ... يربو وحده فاسأله من أرباكا وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا ... أنواره فاسأله من أسراكا واسأل شعاع الشمس يدنو وهي ... أبعد كل شيء ما الذي أدناكا قل للمرير من الثمار من الذي ... بالمر من دون الثمار غذاكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى ... فاسأله من يا نخل شق نواكا وإذا رأيت النار شب لهيبها ... فأسال لهيب النار من أوراكا وإذا رأيت الجبل الأشم مناطحًا ... قمم السحاب فسله من أرساكا وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه ... فسله من بالماء شق صفاكا وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال ... جرى فسله من الذي أجراكا وإذا رأيت البحر بالملح الأجاج ... طغى فسله من الذي أطغاكا وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا ... فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا ستجيب ما في الكون من آياته ... عجب عجاب لو ترى عيناكا ربي لك الحمد العظيم لذاتك ... حمدًا وليس الواحد إلاكا يا مدرك الأبصار والأبصار لا ... تدري له ولكنهه إدراكا إن لم تكن عيني تراك فإنني ... في كل شيء أستبين عُلاكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى ... ما خاب يومًا من دعا ورجاكا يأيها الإنسان مهلا ما الذي ... بالله جل جلاله أغراكا يأيها الماء المهين من الذي سواكا ... ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا

هذا الكون

ومن الذي غذاك من نعمائه ... ومن الكروب جميعها نجاكا ومن الذي شق العيون فأبصرت ... ومن الذي بالعقل قد حلاكا ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا ... ومن الذي تنسى ولا ينساكا (¬1) هذا الكون تبعد أرضنا التي نعيش عليها عن الشمس، التي تبلغ درجة حرارتها على سطحها 12 ألف درجة، بمقدار يبلغ 92 مليونا ونصف مليون ميل، وتبعد عن القمر 240 ألف ميل، وهذه الأبعاد هي التي تكفي لتهيئة البيئة الصالحة للحياة بالصورة التي نعرفها على الأرض. إذا لو قربت الأرض عن ذلك لاحترقت الأحياء التي عليها في التو واللحظة، وانعدمت منها كل مظاهر الحياة، ولو بعدت الشمس أكثر من ذلك لأصاب الجمد، ثم الموت كل كائن حي على الأرض، ولو قرب القمر أو بعد عن ذلك، لغمر الماء القارات، ولأهلك الجزر الأحياء، وتفتت الجبال والتلال، وتلاشت الحياة. وتدور الأرض حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، أي بما يعادل مرة كل أربع وعشرين ساعة، ولو قل معدل دورانها عن ذلك لطال النهار بما يؤثر في النبات والأحياء صيفًا، وطال الليل بما قد تتجمد بسببه السوائل شتاء، ولو زادت لانعدمت الحياة. وإذا زاد سمك القشرة الأرضية عما هي عليه قليلاً، لنقص الأكسجين، وقلت فرص الحياة، فإذا فرضنا أن سمك القشرة الأرضية زاد بمقدار عشرة أقدام، لانعدمت بانعدام الأكسجين مقومات الحياة، هذا الأكسجين الذي إذا زاد زيادة طفيفة، لسبب فناء العالم، بما يسببه من اختلال في كثافة الهواء .. فتتهاوى الكواكب والنجوم. إن من يسكنون بجوار البحار والمحيطات، أو يضطرون إلى الحياة بجوارها، يقومون بعملية معقدة لتبخير الماء ثم تكثيفه لاستبعاد الملح الذي به ليكون بذلك صالحًا للشرب، ولطالما تمنوا أن تكون هذه المياه الملحة حلوة كمياه الأنهار، فلو أن أمنيتهم تحققت، وصارت المياه كلها حلوة، لصارت عفنًا منتشرًا، ولانتهت الحياة من الأرض. فمياه ¬

_ (¬1) دعوة للتأمل (14 - 18).

عظمة الكون

المحيطات والبحار مياه واقفة، والملح فيها مادة حافظة تمنع التعفن، فالشمس تبخر مياه البحار والمحيطات التي تعتبر مستودعًا لا ينفد من المياه المحفوظة، فتصعد إلى الطبقات الباردة في السماء، فتتكثف لتسقط مياها حلوة تجري في الأنهار، تسقي الزرع. دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وميل محورها البالغ 23 درجة فتكون فصول السنة، ولو كان الحور معتدلاً لما دارت الأرض حول نفسها، ولتجمعت قطرات المياه المتبخرة من المحيطات والبحار ونزلت في مكانين محددين في الشمال والجنوب، ولتكونت قارات من الجمد، ولظل الصيف دائمًا والشتاء دائمًا. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]. اليوم بأكمله موجود على الأرض فما كان صباحًا عند قوم فهو نفسه ظهر وعصر ومغرب وعشاء ونصف ليل عند قوم آخرين، حتى تصل إلى القطبين فترى فيها ستة أشهر متواصلة مظلمة، وستة أشهر متواصلة مضيئة. عظمة الكون قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. يقول العالم بليفن في كتابه العلم ينظر إلى السماء: إن الكون أرحب وأعظم مما كنا نتخيله، وإن الأجزاء النائية من الكون تندفع في الفضاء بعيدًا بسرعة مخيفة. وقد انتهى علماء الفلك إلى أن مجموعتنا النجمية تشمل مائة بليون من النجوم تقريبًا، ويظن كثير من الناس أن ما بين النجوم فضاء تام، والحقيقة أنه ممتليء بالغازات والمواد المختلفة. ويقول بليفن: "إن الكون كله بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها، والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة، صورة لا يكاد المرء يتخيلها حتى يدركه البهر وتنقطع أنفاسه، ولكن يبدو أن الأجدر بأن يبهر ويقطع الأنفاس هو رؤية هذا الكائن البشري الضئيل الذي يعيش على شظية من شظايا نجم صغير، في زاوية حقيرة من زوايا مجرة لا تختلف شيئًا عن الملايين من أمثالها، هذا الكائن يتحدى ثم يجرؤ أن يعرف هذا الكون.

بعض ما في الكون

ويقول الفلكيون: "إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم كوكب بآخر إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة. ويقرر العلم أن سرعة الضوء 186 ألف ميل في الثانية، ومن النجوم ما ترسل ضوءها فيصل إلينا في دقائق، ومنها ما يصل في شهور، وهناك نجوم أرسلت ضوءها وأمكن معرفة ذلك بأجهزة خاصة من ملايين السنين، ولم يصل إلينا ضوؤها بعد. فكم يبلغ اتساع الكون؟ بعض ما في الكون {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]. يقول العلامة سيكنا: "لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السموات العلا إلا ويفضي إجلالاً ووقارًا، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها، وكل نجم وكوكب هو دنيا قائمة بذاتها". الأرض الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم، والثالث من حيث القرب. والأرض تكاد تكون كرة، إلا أنها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء، ومفلطحة عند القطبين، ومساحة سطحها 200 مليون من الأميال المربعة ويشغل اليابس منها نحو من 50 مليون ميل مربع، والماء حوالي 150 مليون ميل مربع ووزنها يبلغ 7 آلاف مليون مليون مليون أي رقم 7 وأمامه 21 صفرًا من الأطنان، وهي بهذا الحجم معلقة في السماء. الشمس كرة هائلة من الغازات الملتهبة، قطرها يزيد على مليون وثلث مليون كم، ومحيطها مثل محيط الأرض 325 مرة، ويبلغ ثقلها 332 ألف ضعف ثقل الأرض، وتبلغ درجة

حرارتها الداخلية 20 مليون درجة مئوية، بينما حرارة سطحها 6000 درجة. وهذا السطح تندلع منه ألسنة اللهب إلى ارتفاع نصف مليون كم، وهي تنثر في الفضاء باستمرار طاقة قدرها 167400 حصان من كل متر مربع، ولا يصل للأرض منها سوى جزء من 2 مليون جزء، وهي لا تعتبر إلا نجمة، ولكنها ليست في عداد النجوم الكبرى وسطحها به عواصف وزوابع كهربائية ومغناطيسية شديدة، والمشكلة التي حيرت العلماء هي أن الشمس كما يؤخذ من علم طبقات الأرض لم تزل تشع نفس المقدار من الحرارة منذ ملايين السنين، فإن كانت الحرارة الصادرة عنها نتيجة احتراقها، فكيف لم تفن مادتها على توالي العصور، ولكفاها ستة آلاف سنة لتحترق وتنفد حرارتها. الجمل الأهداب الطويلة التي حول عينيه، والتي هي أشبه بشبكة تحمي عينيه من ذرات الرمال إذا هبت عاصفة رملية أثناء سيره في الصحراء. وفي الوقت نفسه يستطيع الإبصار من خلال هذه الشبكة، وبذلك لا يضطر إلى إقفال عينيه كما نفعل لوقاية أعيننا من التراب، أما عن أنفه فهو يتحكم في فتحتها أثناء العواصف ليمنع دخول الرمل فيه، وشفة الجمل العليا مشققة ليساعده على أكل نباتات الصحراء التي غالبا تكون أشواكا، وذلك علاوة على أرجله ذات الخف الذي يناسب الرمل فلا تغوص فيه لو كانت ذات ظلف أو حافر. ولقد أدهش الجمل العلماء بتحمله إذا غاب عنه الماء وأدهشهم أكثر استعداد الجمل لأن يشرب الماء المالح إذا عطش دون أن يصيبه ضرر. وما زالوا في حيرة من أمر أجهزته التي تتكيف ضد الجوع، فلا تفرز كليته نسبة ملحوظة من الماء بل تنخفض درجة حرارة جلده في الحر عند العطش لتقليل تبخر الماء منه. الجذور عند النباتات إذا كان للنبات عقل فهو في جذوره، إذ أن شعيراته الدقيقة الرهيفة تنتشر في كافة أرجاء الأرض متفادية العوائق والصخور، فإذا صادفت عقبة ولو ذرة من رمل دفعتها، وإذا لم تستطع أفرزت عليها حوامض لتذيبها، فإذا عجزت أنبتت شعيرات لتلتف حولها وتثبتها في الأرض فتأمن شرها ثم تمتد بعيدًا. وللجذر فائدة مهمة غير ذلك ألا وهي تثبيت النبات إذ يقع عليه أمر قيام النبات

والاحتفاظ به .. فلا يسقط أو يقع .. وعندما تنظر إلى هذه الأشجار الضخمة الكبيرة الواقفة الشامخة علينا أن نتذكر الجذر الذي يمسكها. البحار دلت الأبحاث على أن أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال، وقد وصل العلماء إلى أعماق بلغت تسعة وثلاثين ألف قدم. والموج يرتفع عادة إلى 25 قدمًا، وقد يرتفع في أيام العاصفة إلى 130 قدمًا، وإذا عرفنا أن للقدم الواحدة في كل موجة قوة مدمرة زنتها ستة آلاف رطل لأمكننا أن نتصور مدى الدمار الذي تنتجه هذه الأمواج. ففي عام 1872 م اقتلعت موجة عاتية في اسكتلندا مرسى حديديًا وزنه مليونان و700 ألف رطل، وأخرى حملت صخرة وزنها 175 رطلا إلى ارتفاع مائة قدم، وفي عام 1737 م وفي ميناء بانجوك هاج البحر وقتل 300 ألف إنسان ودمر 20 ألف مركب. ثم على حين فجأة يصفو الجو، وتعتدل الرياح، ويسكن البحر، وتظهر السماء، وتنكشف الأرض، فلا يملك الإنسان إلا أن يسبح بحمد الله قائلا: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. تقليب البيض خطر لعالم أمريكي أن يستفرخ البيض دون حضانة الدجاج، بأن يضع البيض في نفس الحرارة التي ينالها البيض من الدجاج الحاضنة لها، فلما جمع البيض ووضعه في جهاز التفريخ نصحه فلاح أن يقلب البيض إذ أنه رأى الدجاجة تفعل ذلك .. فسخر منه العالم، وأفهمه أن الدجاجة إنما تقلب البيض لتعطي الجزء الأسفل منه حرارة جسمها الذي حرمه .. أما هو فقد أحاط البيض بجهاز يشع بحرارة ثابتة لكل أجزاء البيض .. واستمر العالم في عمله حتى جاء دور الفقس وفات ميعاده ولم تفقس بيضة واحدة!! وأعاد التجربة وقد استمع إلى نصيحة الفلاح، أو بالأحرى إلى تقليد الدجاجة، فصار يقلب البيض حتى إذا أتى ميعاد الفقس خرجت الفراريج؟ وآخر تعليل علمي لتقليب البيض، أن الفرخ حينما يخلق في البيض، ترسب المواد الغذائية في الجزء الأسفل من جسمه، وإذا بقى بدون تحريك تتمزق أوعيته .. ولذلك فإن

علمني الخبير العليم

الدجاجة لا تقلب البيض في اليوم الأول والأخير. علمني الخبير العليم تكييف حرارة وهواء خلية النحل لما كان يلزم ليرقات نحل العسل حفظ الهواء على درجة ثابتة من الحرارة والتهوية التامة، لتظفر بأسباب الحياة والنمو في الخلية، فإن هناك طائفة من النحل لا عمل لها في الخلية إلا إجهاد عضلاتها لتولد حرارة في أبدانها لتشع في أرجاء الخلية، بينما هناك طائفة أخرى تجثم على الأرض وتحرك أجنحتها بسرعة معينة محكمة لتولد تيارًا من الهواء يكفي لتهوية الخلية، فتكون بذلك مكيفة الجو هواء وحرارة!! لغة الحيوانات النحلة إذا عثرت على حقل مزهر، عادت إلى الخلية، وما أن تتوسطها حتى ترقص رقصًا خاصًا، فإذا بالنحل يندفع إليها، ويسير خلفها إلى حيث تهديه النحلة إلى الزهور. ويقول اللورد "أفبري": إنه طالما أراد أن يمتحن عقل النمل، والوقوف على طريقة التفاهم بين أفراده، وجد يومًا نملة خارجة وحدها من جحرها، فأخذ ذبابة وألقاها في طريق النمل، فما أن عثرت عليها حتى أخذت تعالجها بفمها وأرجلها مدة تزيد على العشرين دقيقة، وتيقنت بعدها عجزها، فعادت أدراجها إلى جحرها، وبعد ثوان معدودة، خرجت النملة تتقدم نحوًا من اثنتي عشرة نملة من أخواتها إلى أن انتهت بهن إلى الذبابة التي ما إن وقع عليها النمل، حتى أخذ يمزقها تمزيقا، وعاد النمل إلى جحره، وكل منها تحمل جزءًا من الذبابة .. فالنملة الأولى رجعت إلى زميلاتها ولم يكن معها شيء قط .. فكيف تم لها أن تخبر باقي النمل بأنها وجدت طعامًا سائغًا، وفريسة شهية، ما لم يكن تم ذلك بلغة خاصة. النملة تخرج من بيتها، تحمل حب الأرز فتذهب به إلى العراء في جانب مائل من الأرض، معرض للشمس، وتضع حبتها لتجف من ماء المطر ثم تعود به إلى مخازنها تحت الأرض. الإنسان لم يعرف إلا أخيرًا أن الغدة النخامية والغدتين فوق الكليتين إنما هي مخازن ذخيرة

تعمل وتنشط عند الحاجة .. بينما في الأوقات العادية لا تزيد عن كونها أجهزة معطلة .. هذه الغدة وظيفتها حفظ التوازن الكيماوي والحيوي في الجسم .. إلا أنه عندما يحاط الإنسان بجو بارد تفرز هذه الغدد إفرازات تسبب ضيقًا في الأوعية الدموية مما يرتفع بسببه ضغط الدم .. فيتغلب الجسم على الجو البارد المحيط به .. بالدفء الداخلي الناتج عن ارتفاع ضغط الدم .. وسرعة تجلط لإيقاف نزف الدم .. كما أن هذه الغدد تعمل على تخفيض ضغط الدم عند الانفعالات النفسية وحالات التوتر والقلق. ومما قرره العلم أن للأمعاء الدقيقة التي يبلغ طولها ستة أمتار ونصف متر، حركتين لا إراديتين لما يؤيد وجود الله، الحركة الأولى: حركة خلط مستمر هدفها مزج الطعام، بمختلف عصارات الأمعاء وخمائرها مزجًا تافا حتى يكون الهضم عامًا، والحركة الثانية: عرض الطعام المهضوم على أكبر مساحة ممكنة في الأمعاء كي يمس أكبر مسطح فيها فتمتص منه أكبر قدر، ثم يأتي بعد ذلك دور الهضم في الأمعاء الغلاظ التي تفرز آخر أجزاء المواد المهضومة من الفضلات. وقد دلت التجارب على أنه إذا استؤصلت كلية من الجسم مثلاً ترتب على ذلك تضخم الأخرى، فيمكن قيامها بعمل الكليتين، دون أن يكون للإنسان دخل في ذلك، لذلك إذا بتر نصف الغدة الدرقية، زاد حجم النصف الثاني .. وفي الجسم أجزاء احتياطية، يمكن الاستغناء عن جزء منها عند إصابتها بمرض، فقد يقطع من الأمعاء متر من الأمتار السبعة والنصف الموجودة بجسمه دون أن يحس بفقده. ويقول الدكتور آرون سميث في المؤتمر الدولي لعلماء النفس المنعقد في موسكو شهر أغسطس 1966م: إن رجلا أمريكيا أزيل نصف مخه بعملية جراحية ومازال يستطيع المشي والكلام والغناء بل والقيام بمسائل حسابية كما كان قبل الجراحة. جلد الإنسان الجلد لا ينفذ إليه الماء ولا الغازات رغم مسامه التي تساعد على إخراج الماء من داخل الجسم .. فهو يخرج الماء في العرق ولا يسمح بدخوله! والجلد معرض لهجمات الميكروبات والجراثيم التي تسبح في الجو، لذلك يسلح بإفرازات قادرة على قتل تلك الميكروبات، أما إذا تغلبت الجراثيم واجتازت منطقة الجلد، فهنا تبدأ عملية حربية منظمة

يعجز الإنسان عن إدراك عظمتها، تدق الأجراس لتنبه كافة أعضاء الجسم على دخول عدو لها، وما هذه الأجراس إلا الآلام التي يحس بها الإنسان، لتسرع فرقة حرس الحدود، وتضرب حصارًا شديدًا على عدوها المغير، فإما هزمته وطردته، وإما ماتت فتتقدم فرقة أخرى من الصف الثاني، فالثالث، وهكذا .. وهذه الفرق هي كرات الدم التي يبلغ عددها ثلاثين ألف بليون كرة بين بيضاء وحمراء، فإذا رأيت بثرة حمراء وفيها صديد على الجلد، فاعلم أن صديدها هو فرق ماتت في سبيل واجبها وأن الاحمرار هو كرات دم في صراع مع عدو غادر. ومن أهم وظائف الجلد حفظ الجسم عند درجة ثابتة من الحرارة، إذ أن أعصاب الأوعية الدموية، في الجلد تنشطها عندما يشتد حر الجو، كي تشع منه الحرارة، وتفرز غدد العرق ما يزيد على لتر من الماء فتنخفض درجة حرارة الجو الملاصقة للجلد .. أما إذا اشتد برد الجو انقبضت الأوعية الدموية فتحتفظ بحرارتها ويقل العرق .. هذا الجهاز العجيب أعد بعناية وتقدير ليكيف حرارة الجسم فيجعلها على درجة 37 درجة مئوية دومًا في خط الاستواء أو في القطبين. وجلد الإنسان شيء خاص به، فلا يشبه جلد إنسان إنسانًا أبدًا كما أن الجلد نفسه يتجدد، فجلدك الحالي ليس هو جلد العام الماضي، فإن تجديدات الجلد مستمرة بنمو الخلايا التي في الطبقات التي تكون الجلد، فكل 20 طبقة من الجلد تكون سطح الجلد. الإبصار مركز حاسة الإبصار العين التي تحتوي على 130 مليونًا من مستقبلات الضوء وهي أطراف أعصاب الإبصار، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب وتعتبر حركته لا إرادية، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهر كما أنه يجعل حركة العين من الصلبة والقرنية والمشيمية والشبكية، تتم في سهولة وشمر وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية، ويكفي أن نعلم أن معجزة الإبصار هي أن صورة الشيء المنظور تطبع معكوسة على الشبكية، وينقل العصب البصري هذه الصورة المعكوسة الشكل إلى المخ، فيعيدها المخ إلى العين، وقد عكسها مرة أخرى أي عدلها، فيراها الناظر

معدولة، فهل حدث أن رأى إنسان مرة واحدة صورة معكوسة في التاريخ. يقول الدكتور جودسون هريك في محاضرة ألقاها في معهد التاريخ بنيويورك في ديسمبر 1957م: إن الدماغ الإنساني الذي يبلغ وزنه ألفًا وأربعمائة جرام غريب التركيب بعيد عن الصور والخيال، فلو جمعنا كل ما في العالم من أجهزة التلغراف والتليفون والرادار فإنها لا تبلغ في تعقيدها درجة دماغ الإنسان. الجهاز الدوري يشمل الجهاز الدوري الطحال، تلك القطعة الصغيرة الحجم البيضاوية الشكل من الأنسجة ومجاري الدم، وتوجد خلف المعدة، إنه يقوم بجمع كرات الدم الحمراء التي ضعفت ويفتتها ليصنع منها كرات جديدة قوية، كما أنه ينتج كرات دم بيضاء .. ويضاعف من إنتاجه لمختلف كرات الدم عند الحاجة. أجهزة أخرى جهاز الذوق في الإنسان يرجع عمله إلى مجموعة من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي، ولتلك الحلمات أشكال مختلفة منها المحيطية، والقطرية والعدسية، ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي، وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية فينتقل الأثر إلى النحخ، وهذا الجهاز موجود في أول الفم حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به، وبه يحس المرء المرارة والحلاوة والبرودة والسخونة والحموضة والملح واللاذع ونحوه. ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب فكم عدد الأعصاب وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة وتتجمع بالإحساس عند المخ. تقول مجلة العدوم الإنجليزية: إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة، وأنه من الصعب جدًا بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقوة وسرعة التكيف، فحينما تريد قراءة كتب، تتناوله بيدك ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيًا وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة تضغط عليها بالدرجة التي تقلبها، ثم يزول الضغط بقلب الورق. واليد تمسك بالقلم وتكتب به. وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من

ملعقة إلى سكينة وتحمل كل ما يريده الإنسان .. واليدان تشتملان على 27 عظمة، 19 مجموعة من العضلات لكل منهما. وفي دراسة اختلاف شكل الإنسان ما يقربنا إلى تفهم جزء من مدى القدرة التي كونت فشكلت. فقد أثبت العلماء أن الصفات الشكلية والخلقية تحملها في الإنسان كروموسومات تناهت في الدقة إلى درجة أنه لو جمع كروموسومات العالم بأجمعه ما زادت عن قبضة اليد، هذه القبضة تسبب اختلافًا في شكل ولون وصفات وأخلاق بلايين البشر، وهم سكان هذا العالم في الماضي والحاضر والمستقبل. السمك للسمك حاسة غريبة، هي حاسة تفادي الاصطدام بالصخور والحواجز في ظلمات البحار، وقد درس العلماء هذه الظاهرة فقرروا من نتائج دراساتهم أن للسمك خطًا طوليًا على كل جانب من جانبيه، وبفحص هذه الخطوط بالمجهر، وجدت أنها أعضاء دقيقة حساسة إلى درجة كبيرة، فإذا اقتربت السمكة من حاجز أو صخر، تحس هذه الأعضاء باختلاف ضغط الماء نتيجة اصطدامه بالحاجز، حتى ولو كان تماوج الماء قليلاً، فتتفادى بذلك الاصطدام إذ تغير طريقها. الخفاش حيرت العلماء قدرة الخفاش على تفادي الاصطدام بالمباني والأشجار، فهو يطير في الليل حيث الأضواء، وحيث لا تظهر العوائق في الليل، زيادة على ضعف بصره، وقد قام العالم الإيطالي سبالانزاني بالتحقق من هذه القدرة بتجربة لطيفة، إذ علق في سقف حجرة عددًا من الحبال في نهاية كل منها ناقوس صغير يدق إذا لمس الحبل، ثم أظلم الغرفة إظلامًا تامًا، وأطلق فيها خفاشًا وطار الخفاش مرارًا ولكنه لم يمس هذه الحبال، إذ لم يدق أي جرس. وقد علل العلماء فيما مضى هذه القدرة بأن جلد الخفاش أرق من أي جلد، ولذلك يتمكن من أن يحس اختلاف ضغط الهواء حين يقترب من عائق، وظهر في السنوات الأخيرة رأي يقرر أن الخفاش يرسل اهتزازات ترد إليه بالتصادم مع أي جسم يقابله فيحس به، وأن نظرية معرفته بالعقبات دون رؤية هي نفس نظرية الرادار الذي اخترع في

عجائب الحياة في النبات

عصر الذرة .. فانظر كيف أن ما تفتقت عنه حيل العلماء من اكتشافات بهرت العالم .. موجودة في الخفاش. عجائب الحياة في النبات ينبت النبات عمومًا من بذرة توافرت لها ظروف خاصة، أهمها حيوية الأجنة فيها، وتحافظ البذور على حيويتها لمدد طويلة تعتبر في ذاتها دليلاً على وجود الله، فقد أمكن استنبات حبات قمح وجدت في قبور الفراعنة، ويجب توافر الماء الضروري للإنبات، والحرارة المناسبة. فكل بذرة تنبت في درجة حرارة معينة، والهواء ضروري للنبات، فهو كائن حي يعيش ويحيا ويتنفس بل ويحس .. ودرجة إحساسه واستجابته للمؤثرات قوية وسريعة .. فالنبات يقلق ويهدأ .. يحزن ويسعد .. فلقد أجريت تجارب على نباتات وضعت في مركبات فضاء .. وبأجهزة القياس .. أوضحت التسجيلات أن صدمات عصبية أصابت النباتات وبدا عليها الاضطراب .. وما إن رجعت إلى الأرض حتى عاد إليها الاستقرار والهدوء. وإذا استنبتت البذرة وخرج الجنين الحي مكونًا جذيرًا صغيرًا بدأ يتغذى من الغذاء المدخر في البذرة حتى يستطيل عوده ويضرب في الأرض ليأكل منها، شأنه في ذلك شأن الجنين في الإنسان والحيوان يتغذى من أمه وهو في بطنها، ثم من لبنها، ثم يستقل عنها، ويعتمد على نفسه في غذائه عندما يستوي. عوده فهل غير الله أودع في البذرة الحياة؟ وهل غير الله وهب الجذر قوة التعمق في الأرض وأخرج الساق وأنبت عليها الأوراق، فالأزهار، فالثمار؟ تنفس النبات اكتشف في عام 1779 م أن النبات يتنفس، فيأخذ الأكسجين ويطرد ثاني أكسيد الكربون، مثله في ذلك مثل الإنسان والحيوان، ويصحب تنفس النبات ارتفاع في درجة الحرارة، ويتم التنفس في الليل والنهار، إلا أنه في النهار لا تظهر نتيجة التنفس واضحة بالنسبة لعملية التمثيل الكربوني التي يجريها النبات بسرعة أكثر من عملية التنفس، فيخرج الأكسجين ويمتص ثاني أكسيد الكربون. لذلك قد عرف بأن ارتياد الحدائق يكون نهارًا أفضل. وقد دلت الأبحاث على أن عملية التمثيل الكربوني، كانت كافية وحدها باستهلاك

عبادة الكون

ثاني أكسيد الكربون الموجود في العالم، لو أن الأمر قد اقتصر عليها، ولكن العليم الخبير قدر ذلك، فجعل الكائنات الحية الأخرى تخرج في تنفسها ثاني أكسيد الكربون. ولم يترك أمر استهلاك ثاني أكسيد الكربون وإنتاجه دون تحديد، فقد قضت حكمة الخالق أن تكون نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو دائمًا من ثلاثة إلى أربعة أجزاء في كل عشرة آلاف جزء هواء، وهذه النسبة ينبغي أن تكون ثابتة على الدوام لعمار العالم، فلم يحدث أي تغير لها قط مهما اختلفت عمليات الاستهلاك والأنتاج. عبادة الكون قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]. الكون يغار على توحيد الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 88 - 91]. الجبال مهيأة للتأثر بالقرآن: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. الحجارة تتأثر من خشية الله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]. بل صاحبت بعض الجبال والطير نبيًا من أنبياء الله في عبادته: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. يحس المسلم أن في الكون من الحيوانات والجمادات ما يتودد إليه، قال رسول الله: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانًا" [رواه البخاري ومسلم]. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء" [رواه الترمذي].

مشاعر متبادلة مع الكون كله

مشاعر متبادلة مع الكون كله السماء والأرض لا تبكيان على موت الكافرين والطغاة: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]. المسلم يتبادل مشاعر المحبة مع جبل أصم، عن أنس قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد فقال: "إن أحدًا جبل يحبنا ونحبه" [رواه مسلم والبخاري]. وعن قتادة أن أنسًا حدثه أن النبي صعد أحدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثبت أحد فإن عليك نبيًا وصديقًا وشهيدين" [رواه البخاري]. والحجر والشجر يناصران أهل التوحيد، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم السلمون، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" [رواه البخاري ومسلم]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما نظر إلى الهلال: "ربي وربك الله" [رواه الترمذي ومسلم]. ونهي عن لعن الريح، فعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تلعن الريح فإنها مأمورة" [رواه الترمذي]. المسلم لا ينسى للوزغ عداءه القديم لخليل الرحمن، فيبادله العداوة بمثلها، عن عائشة قالت: " ... فإن رسول الله حدثنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار لم تكن في الأرض من دابة إلا تطفئ النار عنه، غير الوزغ كان ينفخ فيه، فأمرنا رسول الله بقتله" [رواه أحمد]. بينما دواب أخرى يلتقي المسلم معها في تسبيح ربها ودعوتها إلى التوحيد، ونهى المسلم عن قتلها، عن ابن عباس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد" [رواه أبو داود]. عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن نملة قرصت نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحي إليه:" أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" [رواه مسلم]. عن عبد الله بن عمرو قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع وقال: "إن نقيقها تسبيح" [رواه الطبراني] (¬1). ¬

_ (¬1) للاستزادة انظر كتاب الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعروف: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل ما يبغضه الله. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [التوبة: 71]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن النكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" [رواه الترمذي]. يقول سيد قطب: إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين، فالأرض لا تخلو من الشر، والمجتمع لا يخلو من الشذوذ، ولكن طبيعة الجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفًا مصطلحًا عليه، وأن يصبحا سهلاً يجتريء عليه كل من يهم به، وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات، ويصبح الجزاء على الشر رادعًا وجماعيًا تقف الجماعة كلها دونه، وتوقع العقوبة الرادعة عليه .. عندئذ ينزوي الشر وتنحسر دوافعه، وعندئذ يتماسك الجتمع فلا تنحل عراه، وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها الجتمع، ولا يسمح لها بالسيطرة، وعندئذ لا تشيع الفاحشة ولا تصبح هي الطابع العام (¬1). فوائد الأمر بالمعروف: السلامة من العقاب الإلهي: قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 947، 948).

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حماية الأرض من الفساد: قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" [رواه البخاري]. إقامة الحجة على العصاة: قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. تنبيه الغافلين: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]. حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوجوب، مع اختلاف العلماء هل هو فرض كفاية أم فرض عين؟ قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. والمقصود من هذه الآية أن تكون فرق من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" [رواه مسلم]. ونرى أنه يمكن الجمع بين الرأيين، وأنه واجب على كل مسلم ولكن الوجوب قد يكون مباشرة، وقد يكون بواسطة لغير المتأهلين. ويقول عبد القادر عودة: إن الواجب لم يسقط بتحميله للبعض دون البعض، إنما يسقط بالأداء. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: بحسب المرء إذا رأى منكرًا لا يستطيع تغييره أن يُعلم الله من قلبه أنه كاره له.

مراتب الإنكار

يقول سيد قطب: "إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ووصف بني إسرائيل فقال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] (¬1). مراتب الإنكار 1 - تغيير المنكر باليد: اتفق العلماء على أن التغيير باليد لا يكون إلا عند القدرة عليه، كأولي الأمر بمعناها العام حتى تشمل: الوالد في بيته، والرئيس في عمله، وصاحب العمل مع عماله وفي مصنعه. 2 - تغيير المنكر بالقول، وهو أنواع: أ- تعريف مرتكب المنكر بالحكم الشرعي فقد يكون جاهلاً به. ب- الوعظ والنصح والإرشاد. ج- التقريع والتخويف. د- التهديد بإنزال العقوبة به. 3 - الإنكار بالقلب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حبة خردل". [رواه مسلم] ويقول فقهاء الحنفية: والسكوت عن البدعة والمنكر، فإن رضي أي مع القدرة على الإزالة فهو آثم، وإلا كفاه الإنكار بالقلب، وليس معنى الإنكار بالقلب أن يموت القلب فلا يغضب للمنكر بل معناه رفض كل معصية حضرها أو غاب عنها، أو دعي إليها سرًا أو علنًا، وما لم تكن المسألة كذلك يصبح موقف المسلم من دينه حرجًا ومسئوليته خطيرة، ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 928).

الرفق في النهي عن المنكر

قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" إذا عملت الخطيئة في الأرض وكان من شهدها فكرهها وقال مرة: فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها" [رواه أبو داود]. والمسلم مأمور أن يغير المنكر إذا رآه، فإن لم يستطع أن يغيره ويزيله، فلا أقل من أن يزول هو عنه، ليبتعد عن مواطنه وأهله، ومما يروي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه كان يعاقب شارب الخمر ويقيم عليه الحد، ويعاقب من شهد المجلس، ولم يشارك في الشرب والإثم، ولكنه شارك في السكوت عليه ولم يغادر مكان المعصية، رفع إليه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانًا لم يشاركهم لأنه كان صائما فقال: ابدأوا به -أي عاقبه قبلهم- ثم قال: أما سمعتم قول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. يقول سيد قطب: وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم، ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم، فيبقى أضعف الإيمان، وهو تغييره بقلوبهم، وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقًّا على الإسلام، وليس هذا موقفًا سلبيًا من المنكر -كما يلوح في بادئ الأمر-. وتعبير الرسول بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته، فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر، إنه ينكره ويكرهه، ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يحضع له ويعترف به، وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة المعروف في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى توافي هذه الفرصة. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير، وهو على كل حال أضعف الإيمان، فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان، أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع، ولأن ضغطًا قد يكون ساحقًا، فهو الخروج من آخر حلق الدين، والتخلي عن أضعف الإيمان. الرفق في النهي عن المنكر يشترط الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وعظ رجل المأمون وعنف له في القول، فقال: يا رجل ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].

النهي عن المنكر بالمعروف

النهي عن المنكر بالمعروف قال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد ليلة، وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران، وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت، فاجتمع الناس يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه، فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إليَّ يا ابن أخي فاستحى الغلام، فجاء إليه فضمه إليه، ثم قال له: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه، بيّته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف، فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه، فأدخله عليه، فقال له: أما استحييت لنفسك؟ أما استحييت لشرفك؟ فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكسًا رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهدًا يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود للشرب، ولا لشيء مما كنت فيه أنا تائب، فقال: ادن مني، فقبل رأسه، وقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث، وكان ذلك ببركة الرفق. لا تخش إلا الله عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحقر أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله: كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما يمنعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" [رواه ابن ماجه]. يقول عبد الله بن عبد العزيز العمري: من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الله تعالى، فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لاستخف به. أحياني أحياه الله صعد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - على المنبر يومًا فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه. فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثانية؛ قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا.

لا يشارك فى باطل

فنزل معاوية - رضي الله عنه -، فأرسل إلى الرجل، فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل. ثم دخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس: إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"سيكون بعدي أمراء يقولون، ولا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة". وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد على أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية، فلم يردَّ عليَّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم. ثم تكلمت في الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل، فرد علي، فأحياني أحياه الله. لا يشارك فى باطل روى زياد عن مالك بن أنس قال: لما بعث أبو جعفر إلى مالك بن أنس وعبد الله ابن طاووس قال: دخلنا عليه وهو جالس على فرش وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسوا، فجلسنا، فأطرق زمانًا طويلاً ثم رفع رأسه، والتفت إلى ابن طاووس وقال: حدثني عن أبيك! فقال عبد الله: حدثني أبي قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه. فاغتاظ المنصور من تعريض ابن طاووس به، وأطرق ساعة، ملأ الغضب من خلالها وجهه، حتى ظن مالك أنه الهلاك!! قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يصيبني دمه. ثم قال المنصور لابن طاووس: ناولني الدواة (قالها ثلاث مرات) فلم يفعل ابن طاووس. فقال المنصور: لِمَ لم تناولني؟ فقال ابن طاووس: أخاف أن تكتب بها معصية، فأكون قد شاركت فيها!! فلما سمع المنصور ذلك قال لهما: قوما عني. فقال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي. يقول مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله من ذلك اليوم (¬1). الهضيبي وجمال عبد الناصر من المواقف المشرفة للعلماء مع الحكام موقف الأستاذ حسن الهضيبي من جمال عبد ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق (342).

الشعراوي والسادات

الناصر عام 1954، حين تأزمت الأمور، وخنقت الحريات، وانتشر الظلم والعدوان، فقد بعث إليه خطابًا يأمره فيه بالمعروف، وينهاه عن المنكر، والفساد والإفساد وقد قال فيه: السيد جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، فإني ما زلت أحييك بتحية الإسلام وأقرئك السلام، وما زلت ترد عليَّ التحية بالشتائم واتهام السرائر، واختلاق الوقائع وإخفاء الحقائق، وليس ذلك أدب الإسلام ولا من شيم الكرام، لست أطمع في نصحك بأن تلزم الحق فذاك أمر عسير، وأنت حر في أن تلقى الله تعالى على ما تريد أن تلقاه عليه، ولكني أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها، وأنها بحاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير، وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلى آخر ما تنسبون إليهم. إن الأمة في حاجة الآن إلى القوت الضروري، القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب، إنها في حاجة إلى حرية القول، ومهما قلتم إنكم تحكمونها حكمًا ديمقراطيًا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام، والتعبير عن الرأي، فإذا حققتم ذلك فإننا نعدكم بأن نذكر الحقائق ولا نخاف من نشرها ونصدق القول ولا نشوبه بالكذب والبهتان والاختلاق، ولا نتهم لكم سريرة، ولا نبادلكم فيما تضمرون وتدخرن في أنفسكم، ولا نجاري بعض وزرائك فيما يكتبون من غثاثة وإسفاف، وإنما نعدكم -كما هو شأننا- بأن نناقش المسائل مناقشة موضوعية، أما أن تعطوا أنفسكم الحق في الكلام وتحرموا الناس منه، وأما أن تفرضوا آراءكم بالسلاح على الأمة فذلك شيء لا يعقله الناس ولا ترضاه الأمة (¬1). الشعراوي والسادات وقف الشيخ الشعراوي في وجه السادات وخطأه على تفويته صلاة المغرب في اجتماع سياسي جمع أعضاء مجلس الشعب والوزراء وغيرهم من كبار المسئولين، وابتدأ الاجتماع قبل المغرب واستمر حتى بعد العشاء، وعندما حانت صلاة المغرب وقف المرحوم د. السعيد أبو علي عضو مجلس الشعب عن المحلة الكبرى، وأذن للصلاة بصوت مرتفع مقاطعًا بذلك الرئيس السادات وهو يخطب خطبته المذاعة على الهواء بالإذاعة والتليفزيون، وكان الدكتور السعيد من الجمعية الشرعية، فقال له السادات: اجلس نحن في عبادة، وطلب منه الدكتور ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان (2/ 41 - 43) عن جريدة الحقيقة 23/ 3/ 1991.

التلمساني والسادات

السعيد رفع الجلسة ليصلي الأعضاء المغرب ورفض السادات، فترك الدكتور السعيد مكانه ومعه بعض الأعضاء يعدون على الأصابع ومنهم الشيخ الشعراوي الذي كان وزيرًا للأوقاف وأدوا الصلاة بالخارج، وعادوا إلى مكانهم لمعاودة الاستماع لكلمة الرئيس السادات، وبعد انتهاء الجلسة دار حوار علني بين السادات والشيخ الشعراوي حيث قال السادات للشيخ الشعراوي: نحن كنا في عبادة، فقال له الشيخ الشعراوي: يا ريس العبادة نوعان: عباد موقوتة وعبادة غير موقوتة، والصلاة عبادة موقوتة، وكان يتحتم عليك رفع الجلسة لأداء الصلاة، فقال له السادات: أنت شايف كده يا شيخ شعراوي، فرد عليه الشعراوي بحزم قائلاً: لست أنا اللي شايف كده، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمرنا بذلك وهو اللي شايف كده، وأسقط في يد السادات (¬1). التلمساني والسادات في حديث مفتوح للرئيس أنور السادات بمدينة الإسماعيلية حضره الأستاذ عمر التلمساني بناء على دعوة وجهت إليه، وبث في الإذاعة والتليفزيون على الهواء مباشرة، اتهم السادات جماعة الإخوان بالفتنة الطائفية وساق أنواعًا من التهم الباطلة، فما كان من الأستاذ التلمساني إلى أن انبرى واقفًا يرد على السادات بقوله: "الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع على من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله، وهأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله". وما أن سمع السادات مقولة التلمساني حتى أصابه الذعر والرعب وناشد التلمساني أن يسحب شكواه. فقال التلمساني بقوة وأدب وتأثر "إني لم أشكك إلى ظالم وإنما شكوتك إلى رب عادل يعلم ما أقول". إن الذي يمد رجله لا يمد يده دخل إبراهيم باشا ابن محمد علي حاكم مصر المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسًا في المصلين. ومر إبراهيم باشا من جانب الشيخ وكان ¬

_ (¬1) وعرفت الإخوان: 174.

رجل آثر الله

مادًا رجله فلم يحركها ولم يبدل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا واغتاظ غيظًا شديدًا وخرج من المسجد وقد أضمر في نفسه شرًا بالشيخ. وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلاً بالسلاسل. وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغير رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل قبل له بإغلاقها. وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه ويسقط هيبته في نفوس السلمين فلا يبقى له تأثير عليهم. وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلاميذه ومريديه. وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه. فألقى السلام وقال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ: هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك. ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير وقال له بهدوء وسكينة: يا بني عد بنقود سيدك وردها إليه وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. رجل آثر الله دعا عمر بن هبيرة كلا من الحسن البصري وعامر بن شراحيل المعروف بالشعبي وقال لهما: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده وأوجب طاعته على الناس، وقد ولاني ما ترون من أمر العراق، ثم زادني فولاني فارس، وهو يرسل إلي أحيانا كتبا يأمرني فيها بإنفاذ ما لا أطمئن إلى عدالته، فهل تجدان لي في متابعتي إياه وإنفاذ أوامره مخرجا في الدين؟ فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة، ومسايرة للوالي، والحسن ساكت، فالتفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟

فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله جل وعز يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة، إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق -كائنا من كان- في معصية الخالق عز وجل. فبكى عمر بن هبيرة حتى بلت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن، وبالغ في إكرامه، فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد، فاجتمع عليهما الناس، وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع الأمير، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لعمر بن هبيرة لا أجهله، ولكني أردت فيما قلته ابن هبيرة، وأراد فيما قاله وجه الله، فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحببه إليه (¬1). المسلم لا يخشى في الله لومة لائم وإنما يقول كلمة الحق لوجه الله. ... ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 106، 107.

الإيجابية

الإيجابية الإيجابية: هي اندفاع الإنسان الناشئ عن استقرار الإيمان في قلبه، لتكييف الواقع الذي من حوله، وتغييره وتبديله إلى الأفضل، وهي الحافز الذي يدفع بطاقة الإنسان لأداء عمل معين للوصول إلى غاية محددة محتملاً كافة الصعاب؛ لتحقيق هدفه الأسمى. وتكتمل معاني الإيجابية حين يحقق المسلم في حياته قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163]. ونجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحث على الإيجابية فيقول:" إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" [رواه البزار]. رجل إيجابي تدبر في قصة الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]. فكم من الجهد بُذل في زمان لم تكن وسائل المواصلات والاتصالات ميسرة وسهلة كما في أيامنا هذه، وكم من الثمن دفع تضحية لإنقاذ حامل الحق الذي أراد أن يبلغه، إنه الإيمان بالفكرة والدعوة والطريق. تعلم من الهدهد تفقد سليمان الطير فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] فإذا بالهدهد يقول له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]. ولكي ترى كم من المسافات قطع، وكم من الجهد بذل وضحى، لك أن تعرف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن، فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسعة والفيافي وبلغ قائده بما رأى. إن الدعوة لا تنتصر بأصحاب المصالح، ولا بطلاب الدنيا، ولا المعطين للدعوة

حتى النملة إيجابية

فضول أوقاتهم وجهدهم، ولا طالبي الأضواء والشهرة. حتى النملة إيجابية قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)} [النمل: 17 - 18]. ونلاخظ إيجابية النملة في تحذير قومها من الأخطار المحيطة بهم، فهي أمرت وحذرت، واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور، وخاطبت أمتها بالقول السديد والرأي الرشيد، فهل فكرت يومًا في تحذير قومك من مؤامرات الأعداء؟ الداعية الفعال قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} [يس: 20 - 25]. إنها استجابة الفطرة السليم لدعوة الحق المستقيمة، فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره، فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره إلى قومه، وهذه هي الإيجابية. مؤمن آل فرعون بعد أن صب فرعون بطشه على بني إسرائيل، فكر في قتل موسى ومن معه، وقامت الاجتماعات، وعقدت المؤتمرات، وبينما هم يتشاورون إذا برجل منهم، كان يكتم إيمانه بموسى من قبل، فلما رأى تآمرهم على قتل موسى، ضاق ذرعًا: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28]. أقام مؤمن آل فرعون الحجة على فرعون وجنوده، بأحلى عبارة، وأجمل إشارة، وفي

اقتراح إيجابي

النهاية يفوض أمره إلى الله البصير بعباده، وهذه هي الإيجابية، الإعلان عن كلمة الحق في وقتها. يقول سيد قطب: فالتبعة فردية، والحساب شخصي، وكل نفس مسئولة عن نفسها، ولا تغني نفس عن نفس شيئًا، وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم، مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان، وعلى العدل المطلق من الله، هو أقوم المباديء التي تشعر الإنسان بكرامته، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره، وكلاهما عامل من عوامل التربية، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام (¬1). اقتراح إيجابي دخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متم وإن حييتم، قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن -وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - (على ما يبدو) قد رأى أنه آن الأوان للإعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن تدفع عن نفسها- فأذن بالإعلان، وخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفين، عمر فى أحدهما، وحمزة في الآخر، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة. فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت وسمعت، فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، فوالله ما رد عليه كلمة حتى قام يجر رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، وعمر يقول من خلفه: كذبت ولكنني أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر يجعل لا يدنو أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 70).

موقف بطولي

أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم، فبينما هم كذلك إذ جاءه رجل عليه حلة حرير وقميص، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ، قال: فمه؟ امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عدي يسلمون إليكم صاحبكم، فكأنما كانوا ثوبًا انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي (¬1). الدعاة اليوم هم طلائع النور في أمة طال عليها الليل، وبوادر اليقظة في أمة تأخر عنها النور، وأمل العالم في عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة واليقين، فلا يجوز لمسلم أن يبخل بوقته أو جهده لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو ولد يرجو له مستقبلاً يفخر به، أو يورثه الطريق، يكون له دعوة صالحة بعد فراقه لهذه الدنيا الفانية؟ موقف بطولي في موقعة القادسية أسرع القعقاع بن عمرو - رضي الله عنه - حتى قدم بهم على جيش القادسية صبيحة يوم أغواث، وكان أثناء قدومه قد فكر بعمل يرفع به معنويات المسلمين، فقسم جيشه إلى مائة قسم، كل قسم مكون من عشرة، وأمرهم بأن يقدموا تباعًا كلما غاب منهم عشرة عن مدى إدراك البصر، سرحوا خلفهم عشرة، فقدم هو في العشرة الأوائل وصاروا يقدمون تباعًا كلما سرح القعقاع بصره في الأفق فأبصر طائفة منهم كبر فكبر المسلمون، ونشطوا في قتال أعدائهم، وهذه خطة حربية ناجحة لرفع معنويات المقاتلين، فإن وصول ألف لا يعني مددًا كبيرًا لجيش يبلغ ثلاثين ألف، ولكن هذا الابتكار الذي هدى الله القعقاع إليه قد عوض نقص هذا المدد بما قوي من عزيمة المسلمين، وقد بشرهم بقدوم الجنود بقوله: يأيها الناس قد جئتكم في قوم، والله أن لو كانوا بمكانكم حسدوكم، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب (قائد من قادة الفرس) فقال له القعقاع: من أنت؟ فقال: أنا بهمن ¬

_ (¬1) عمر بن الخطاب للصلابي بتصرف.

المسئولية فردية

جاذويه، وهنا تذكر القعقاع مصيبة المسلمين الكبرى وهزيمتهم يوم الجسر على يد هذا القائد فأخذته حميته الإسلامية فنادى فقال: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر، ولابد أن هذا القائد الفارسي بالرغم مما اشتهر به من الشجاعة قد انخلع قلبه من هذا النداء، فقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - عن القعقاع: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، فكيف سيثبت له رجل واحد مهما كان في الشجاعة وثبات القلب، ولذلك لم يمهله القعقاع فأوقعه أمام جنده قتيلاً، فكان لقتله بهذه الصورة أثر كبير في زعزعة الفرس ورفع معنويات المسلمين، لأنه كان قائدًا لعشرين ألف مقاتل من الفرس، ثم نادى القعقاع مرة أخرى: من يبارز؟ فخرج إليه رجلان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أخو بني تيم، وقُتل الرجلان المبارزان من الفرس على يد القعقاع والحارث، وهكذا قضى القعقاع في أول النهار على قائدين من قادة الفرس الخمسة، ولا شك أن ذلك أوقع الفرس في الحيرة والاضطراب، وساهم ذلك في تدمير معنويات أفراد الجيش الفارسي. اجلس مع نفسك وفكَّر في وسائل عملية لنصرة الإسلام. المسئولية فردية يقول تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. يقول سيد قطب:"فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت، ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت، فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه، فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد، ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنهم -حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق، فهو مسئول عن نفسه هذه، وعن حق الله فيها، وحق الله فيها هو طاعة في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكًا فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والضلال، أو تحت القهر والطغيان -إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد يدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له، وما أجد من تلك العبيد بحامل عنه شيئًا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر" (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 345).

مبارزة

مبارزة عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: أقبل رجل من المشركين وعليه السلاح، حتى صعد على مكان مرتفع من الأرض، فقال: من يبارز؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من القوم: أتقوم إليه؟ فقال له الرجل: إن شئت يا رسول الله، فأخذ الزبير - رضي الله عنه - يتطلع، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قم يابن صفية، فانطلق إليه حتى استوى معه، ثم عانق أحدهما الآخر، ثم تدحرجا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيهما وقع الحضيض أول فهو المقتول، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس فوقع الكافر ووقع الزبير على صدره فقتله. إيجابية الأطفال عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عماه! أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم ألبث أن نظرت لأبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه، فتنافس معاذ ومعوذ على ذبح رأس الكفر أبي جهل على الطريقة الإسلامية، ليقدما رأسه هدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا ضربة وذاك أخرى حتى قتلاه، وعند قبض الثمن اختلفا فتخاصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلب رؤية دليل الإثبات (السيوف)، وبعد المعاينة قضى باقتسام الأجر مناصفة قائلاً: كلاكما قتله. يجب أن نهتم بتعليم الأطفال الإيجابية، ونسمح لهم بالتعبير عن آرائهم مع توجيههم إلى حب الرسول عمليًا. أبو محجن الثقفي كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رآهم يُقتلون، فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين فأرسل إلى امرأة سعد يقول لها: إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله وحملتِهِ على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل، فحلت عنه قيوده، وحمل

قول الحق

على فرس كان في الدار، وأعطي سلاحًا، ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يمر على رجل فيقتله، فنظر إليه سعد فجعل يتعجب منه ويقول: من ذلك الفارس؟ فلم يلبثوا إلا يسيرًا إلا أن هزم الله المشركين، ورجع أبو محجن ورد السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعد فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أن تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن، فقالت: والله إنه لأبو محجن، كان من أمره كذا وكذا، فقصت عليه قصته، فدعا به وحل قيوده، وقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال أبو محجن: لا جرم لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدًا. قول الحق جاء أن أبا غياث الزاهد كان يسكن المقابر ببخارى، فدخل المدينة ليزور أخًا له، وكان غلمان الأمير (نصر بن أحمد) ومعهم المغنون والملاهي يخرجون من داره، وكان يوم ضيف الأمير، فلما رآهم الزاهد، قال: (يا نفسُ وقع أمر، إن سكت فأنت شريكة) فرفع رأسه إلى السماء، واستعان بالله، وأخذ العصا فحمل عليهم حملة واحدة، فولوا منهزمين مدبرين إلى دار السلطان، وقصوا على الأمير، فدعا به وقال له: أما علمت أنه من يخرج على السلطان يتغدى في السجن؟ فقال له أبو غياث: أما علمت أنه من يخرج على الرحمن يتعشى في النيران؟ فقال له: من ولاك الحسبة؟ فقال: الذي ولاك الإمارة. فقال: ولاني الخليفة. فقال: ولاني الحسبة رب الخليفة. فقال الأمير: وليتك الحسبة بسمرقند. فقال: عزلت نفسي عنها. قال الأمير: العجب في أمرك، تحتسب حين لم تؤمر، وتمتنع حين تؤمر.

الجبين المرفوع

قال: لأنك إن وليتني عزلتني، وإن ولاني ربي لم يعزلني أحد. فقال الأمير: سل حاجتك. فقال: حاجتي أن ترد عليَّ شبابي. فقال: ليس ذلك إليَّ. قال: هل لك حاجة أخرى؟ قال: أن تكتب إلى مالك خازن النار أن لا يعذبني. قال: ليس إليَّ ذلك أيضًا، قال: هل لك حاجة أخرى؟ قال: أن تكتب إلى رضوان خازن الجنان يدخلني الجنة. قال: ليس ذلك إليَّ أيضًا. قال أبو غياث: فإنها مع الرب الذي هو مالك الحوائج كلها، لا أسأله حاجة إلا أجابني إليها، فخلى الأمير سبيله. المسلم الإيجابي يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" [رواه الترمذي]. الجبين المرفوع كان حسن الهضيبي أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلف اليمين القانونية التي يؤديها القضاة أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين، حتى إذا جاء دور الهضيبي الواهن البنية، الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مد يده لمصافحة الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورة أنعشت الإباء فيمن بعده وتبعه سائر المستشارين، فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء، حتى قال أحدهم: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه".

والله لأعرضنك اليوم

والله لأعرضنك اليوم عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، فإذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفسُ الم أشهد كذا وكذا؟ فقلتِ لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم، أخذك أو تركك، فقلت: لأرمقنه اليوم، فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو، وانكشف الناس فكان في حماتهم، وقال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة. إيجابية الغلام عن صهيب الرومي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا أعلمه السحر فبعث إليه غلامًا يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة، قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمى، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي قال: ولك رب غيرى؟ قال: رب وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجىء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص،

إيجابية أبي ذر

وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفى أحدًا، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جىء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟: قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهمًا من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس، تم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. ققال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخرت وأضرم النران وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيه فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق" [رواه مسلم]. كان الغلام إيجابيًا في دعوة الناس إلى الخير، فكانت ثمرة الإيجابية إيمان أهل القرية، وثباتهم على إيمانهم ضد الظلم والطغيان. إيجابية أبي ذر لما بلغ أبا ذر - رضي الله عنه - مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم

ائتني به، فانطلق الآخر حتى قدم مكة، وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلام ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل قربة قديمة فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي فعلم أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى فعاد إلى مضطجعه فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علي معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، فقال: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وإن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا عليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه [رواه البخاري]. وفي رواية مسلم: قال أبو ذر: فأتيت أنيسًا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارًا فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم "إيماء بن رخصة الغفاري" وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذ قدم رسول الله المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأسلم نصفهم الباقي، وهكذا أسلمت قبيلة غفار بدعوة أبي ذر بعد أن بذل ما بذل من جهد ووقت وتحمل الأذى في سبيل نشر دعوته.

الشيخ أحمد ياسين

الشيخ أحمد ياسين كان المعتاد في قطاع غزة إجراء حفل سنوي للطلاب للاحتفال بأعياد النصر، لخروج القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، ووقع الاختيار على أربع فتيات من جيران الشيخ أحمد ياسين للمشاركة في الرقصات أثناء الحفل، فحرض الشيخ أولياء أمورهن على الرفض، فأمر (بشير الرايس) مدير التعليم حينئذ بفصلهن من المدرسة، فاتصل الشيخ وأولياء الأمور بمساعد الحاكم العسكري العام وكان مديرًا للشئون (اللواء جمال صابر) وهددوه بأن مخيم الشاطيء على موعد غدًا مع مظاهرة كبرى احتجاجًا على هذا التصرف، وعلم الحاكم الإداري بالقصة فعنف (بشير الرايس) وأمر بإعادة البنات فورا إلى مدارسهن، ولم يشاركن في الحفل الراقص (¬1). ... ¬

_ (¬1) شهيد أيقظ الأمة: (19).

الإيثار

الإيثار الإيثار تفضيل الإنسان لغيره على نفسه، فيبذل لهم مما يملك لإسعادهم قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وللإيثار فضل كبير ينعم به الفرد والجتمع، فالمؤثر يحظى برضوان الله تعالى وحبه له، ويحدث الترابط بين أفراد المجتمع. إيثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن امرأة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسنها فلان، فقال: اكسنيها، ما أحسنها! قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله ما سألته لألبسه إنما سألته لتكون كفني قال سهل: فكانت كفنه [رواه البخاري]. ضيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث على نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصلحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] [رواه البخاري]. مساعدة الناس عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء رجل على راحلة

إيثار علي بنفسه مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -

له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" [رواه مسلم]. إذا كنت تملك قميصا زائدا عن حاجتك، أو لا تستعمله فتبرع به لأحد الفقراء. إيثار علي بنفسه مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - تآمر كفار قريش على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووقف فرسانهم الأشداء حاملين سيوفهم أمام باب بيته، ولكن الله حفظه منهم، وطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن ينام في فراشه، فلم يتردد في الموافقة على طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدم نفسه فداء له، فنام في فراشه، وتغطى ببردته، وهو يعلم أن المشركين قد يقتلونه لظنهم أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا علموا أنه خدعهم ونام مكانه. ونجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحاط عليا برعايته، فلم تمتد إليه أيدي المشركين بأذى، وكان علي بن أبي طالب أول فدائي في الإسلام، فكن على استعداد لتقدم نفسك مقابل الدفاع عن رسولك. جوار الحبيبين عندما طُعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أراد ألا يحرم من شرف الصحبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: عمر يقرأ عليك السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن بجوار صاحبيه، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: كنت أريده لنفسي ولأؤثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما وراءك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أحب إليَّ من ذلك، فإذا أنا مت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. وهكذا كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- تؤثر الآخرين على نفسها.

عمر بن الخطاب والدنانير

عمر بن الخطاب والدنانير أخذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أربعمائة دينار فجعلها في صرة، فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها. فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، وتله في البيت ساعة، حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالى يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن والله مساكين فأعطنا، ولم يتبق إلا ديناران فرمى بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك، فسُر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. إيثار حتى الموت أصيب الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياش بن أبي ربيعة -رضي الله عنهم- بجروح شديدة، وبينما هم راقدون في خيمة الجرحى، طلب الحارث ماء ليشرب فأحضر رجل له الماء، وكان الماء قليلاً، وقربه من فم الحارث ليشرب، ولكن الحارث لاحظ أن عكرمة ينظر إلى الماء فعرف أنه يريد أن يشرب، فقال الحارث للرجل: أعطه له، فلما ذهب الرجل بالماء إلى عكرمة، كان إلى جواره عياش، فلما هم عكرمة أن يشرب، لاحظ أن عياشًا ينظر إلى الماء، فقال عكرمة للرجل: أعطه له، فلما وصل الرجل إلى عياش، وجده قد مات، فرجع الرجل بالماء مرة أخرى إلى عكرمة، فوجده قد مات فعاد به إلى الحارث فوجده قد مات أيضًا، ماتوا جميعًا وكل منهم يؤثر أخاه على نفسه بشربة ماء حتى في اللحظة الأخيرة. لو ذكرتيني لفعلت بعث ابن الزبير بثمانين ومائة ألف إلى عائشة -رضي الله عنها- فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلمي فطري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها الجارية: أما

إيثار المهاجرين والأنصار

استطعت مما قسمت اليوم أن نشتري لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني، لو كنت ذكرتيني لفعلت. فرحم الله أم المؤمنين، وقد امتلأ قلبها بالإيمان وحب الرحمن، حتى نسيت إلى جنب ذلك نفسها وهي صائمة. إيثار المهاجرين والأنصار لما قدم المهاجرون المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين الأنصار، وآخى بين عبد الرحمن ابن عوف وسعد بن الربيع -رضي الله عنهما- فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ " [رواه البخاري]. إيثار بالشهوات عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان مريضًا، فاشتهى سمكة طرية، فالتُمست له بالمدينة، فلم توجد حتى وُجدت بعد كذا وكذا يوم، فاشتريت بدرهم ونصف، وشويت، وحُملت له على رغيف، فقام سائل على الباب، فقال للغلام: لفها برغيف، وادفعها له. فقال الغلام: أصلحكا لله، اشتهيتها منذ كذا وكذا يوم، فلم نجدها، فلما وجدناها، واشتريناها بدرهم ونصف أمرت أن ندفعها له، نحن نعطيه ثمنها. فقال: لُفها، وادفعها إليه. فقال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهمًا وتدع هذه السمكة؟ فأخذ منه درهمًا، وردها، فعاد الغلام وقال له: دفعت له درهما وأخذتها منه. فقال له: لفها، وادفعها إليه، ولا تأخذ منه شيئًا، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما امرئ اشتهى شهوة فردَّ شهوته، وآثر بها على نفسه غفر الله له". إيثار نادر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل،

في أحد

قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا" [رواه البخاري]. إنهم يريدون أن يتبرعوا بنصف أموالهم لإخوانهم المهاجرين تعويضًا لهم عما تركوه في مكة في سبيل الله، ولا يقوم بهذا الإيثار إلا من قوي إيمانه وزكَّى نفسه من الحقد والحسد. في أحد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه، قال:"من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو وهو رفيقى في الجنة؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل" [رواه مسلم]. وكان آخر هؤلاء السبعة عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط. كل منهم يؤثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفسه حتى ماتوا ورزقهم الله الشهادة. إيثار الرجال روي أنه اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي نيف وثلاثون رجلاً لهم أرغفة معدودة لا تكفيهم شبعًا، فكسروها وأطفأوا السراج، وجلسوا للأكل، فلما رفعت المائدة فإذا الأرغفة محلها لم ينقص منها شيء لأن كل واحد منهم لم يأكل إيثارًا للآخرين على نفسه حتى لم يأكلوا جميعًا، وهكذا آثر كل مسلم جائع منهم غيره، فكانوا من أهل الإيثار جميعًا. أبو هريرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأَشد حجرًا على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل. ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل. ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق،

بشر بن الحارث

ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته - صلى الله عليه وسلم - صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد على القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة" [رواه البخاري]. بشر بن الحارث قال بعض الصالحين: ما رأيت أحدًا خرج من الدنيا كما دخل فيها إلا بشر بن الحارث، أتاه رجل في مرضه الذي توفي فيه، فشكا إليه الحاجة، فنزع بشر قميصه الذي كان عليه، فأعطاه إياه، ولم يملك غيره واستعار قميصًا مات فيه. إنه الإيثار حتى في لحظات الموت، فأخوه يحتاج إلى هذا القميص، وهو قد أيقن بالموت. وكان سفيان الثوري يقول للسائل: مرحبًا بمن جاء يغسل ذنوبي. أنفق مما تحب عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخله ويشرب

إيثار بما تحب

من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنا الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" [رواه البخاري]. يا أخي: أنت صاحب دعوة، ويراد منك أن تنشيء أمة وتبني دولة، والأمم لا تقام بفضائل الجهود، يراد منك أن تجاهد لإعلاء مبادئ الدعوة باذلاً في سبيلها مالك وراحتك ووقتك وهمتك ومواهبك وأخيرًا دمك. إيثار بما تحب أصاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بخيبر أرضًا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالاً قط أنفس منه فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، أو تصدقت بها، فتصدق عمر بها في سبيل الله، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف. إيثار عبد الرحمن بن عوف عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينما عائشة -رضي الله عنها- في بيتها إذ سمعت صوتًا في المدينة قالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء، قال: كانت سبعمائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة رضي الله عنها: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً. فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأتاها فسألها عما بلغه، فحدثته فقال: فإني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله وجعلها عبد الرحمن بن عوف في سبيل الله. صدقة على الفقراء والمساكين، وآثرهم على نفسهم. إيثار حكيم بن حزام روى أن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - باع داراً له من معاوية بستين ألفًا، فقالوا: غبنك والله

يا قوم أسلموا

معاوية! فقال: والله أشهدكم أنها في سبيل الله، والمساكين، والرقاب، فأينا المغبون؟! إنه الفهم الصحيح لمعنى الإيثار وحب الخير للآخرين، كان كل صحابي مشغولا بالآخرة وما يقربه إلى الجنة. يا قوم أسلموا عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاء ما لا يخاف الفقر! فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها [رواه مسلم]. يؤثر إخوانه بالحياة لحظات عن أبي العباس بن عطاء قال: سعى ساع بالصوفية إلى الخليفة فقال: إنها هنا قومًا من الزنادقة يرفضون الشريعة، فأخذ أبا الحسين النوري، وأبا حمزة، والدقاق، وتستر الجنيد بالفقه، فكان يتكلم على مذهب أبي ثور. فأدخلوا على الخليفة فأمر بضرب أعناقهم، فبدر أبو الحسين إلى السياف ليضرب عنقه! فقال له السياف: مالك بدرت من بين أصحابك؟! فقال: أحببت أن أوثر أصحابي بحياة هذه اللحظة. فتعجب السياف من ذلك وجميع من حضر، وكتب به إلى الخليفة، فرد أمرهم إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق، فقام إليه النوري، فسأله عن أصول الفرائض في الطهارة والصلاة، فأجابه، ثم قال: وبعد هذه فإن لله عبادًا يأكلون بالله، ويلبسون بالله، ويسمعون بالله، ويصدرون بالله، ويردون بالله، فلما سمع القاضي كلامه بكى بكاء شديدًا، ثم دخل على الخليفة فقال: إن كان هؤلاء القوم زنادقة فما على وجه الأرض موحد. ما شاء الله كان لعروة بن الزبير بستان من أعظم بساتين المدينة، وكان يسور بستانه طوال العام، لحماية أشجاره من أذى الماشية وعبث الصبية، حتى إذا آن أوان الرطب وأينعت الثمار

مداواة الروماتيزم

وطابت، واشتهتها النفوس، كسر حائط بستانه في أكثر من جهة ليجيز للناس دخوله، وكان كلما دخل بستانه ردد قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] (¬1). مداواة الروماتيزم: آلمت بعض الإخوة الشباب في المعتقل البرد الشديد في الزنزانة، وكان شابًا وكانت معه أغطية وثياب، ولما علم معاناة المستشار الهضيبي من مرض الروماتيزم الحاد المزمن الذي يحوج أجلد الفتيان إلى مضاعفة الدفء في وقت الشتاء، فعمد إلى فروة ودفع بها مع حارس الزنزانة ليسلمها -لقاء مبلغ من المال- إلى الأستاذ الهضيبي في زنزانته التي عرف رقمها، غير أن الحارس لم يلبث أن عاد إليه بالفروة بيده ليبلغني أن نزيل تلك الزنزانة أمره بإعادتها إليَّ، وخشيت أن يكون الحارس قد أخطأ المقصود فرددته بكلمة رمزية وألزمته بتسليم الفروة، والتأكد ممن أرسلتها إليه بجواب تلك الكلمة، ولكنه سرعان ما عاد إليَّ بالجواب الرمزي، ومعه الرفض الحاسم بدعوى أنه لا يشعر بأي برد يحوجه إلى الفراء. وبعد يومين هيأت لهذا الشاب الأقدار الاجتماع بالهضيبي في دورة المياه فقال له: أدفيء نفسك بفروتك أو ادفعها إلى من يحتاج إليها من إخوانك، فقال له: فديتك نفسي، من أحوج إليها منك وأنت مريض بالروماتيزم والدوسنتاريا، فإذا بالهضيبي يقول له في بشاشة: لقد شفيت والله ببرد هذه الزنزانة من كل ما أثقلني من الأمراض في السنوات الماضية. وما كاد الشاب يسمع الجواب حتى غلبته العبرات، وتضاءلت نفسه كأنها حفنة من تراب. إيثار الكفاح على السلامة شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ الهضيبي في سوريا ولبنان في صيف عام 1954 م بعد زيارة للمملكة العربية السعودية قام بها في أول ذلك الصيف إجابة لدعوة من الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله، وفيما كان الهضيبي موضع الحفاوة والتكريم من جميع الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية في البلدين الكريمين، إذا بحملة استفزاز مسعورة ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين: 43.

يطلقها حاكم مصر يومذاك على الإخوان المسلمين في مصر في مدينة من محافظة الشرقية، وإذا الأنباء تتواتر عن اتباع ذلك بموجة عارمة تنصب على الجماعة فأغلقت مراكزها التي شارفت على الألفين، وتعتقل قادتها. وظن البعض إيثار الهضيبي للسلامة خارج مصر حرصًا على استنفار الرأي العام، والإنكار على حكام مصر. غير أن الهضيبي ما كاد يسمع أنباء النكثة الجديدة للسلطة المصرية، وما أدت إليه من سجير المحنة، حتى أمر بالتجهز للعودة إلى مصر إعذارًا إلى الله وصيانة للدعوة من أن يشاع أن المرشد العام يهش لقيادته في الرخاء، ويترك جنودها يصطلون بنارها في المحنة والبأساء. ***

الابتسامة

الابتسامة الإسلام دين السماحة واليسر لا يرفض الضحك، ولا يمنعه، وإنما يقبل منه ما يقوي أواصر الود والترابط بين أفراد المجتمع المسلم، وما يخفف من هموم النفس وآلامها ومتاعبها. والإسلام دين الفطرة يحرص على رسم الابتسامة الدائمة على شفاه المسلمين، ويجعل بشاشة الوجه سمة أساسية من سمات المؤمن الصالح. والابتسامة الصافية دليل على الود والصداقة، وحسن المعاملة وحسن النية، وهي تساعد على التلطف والمشاركة بين أفراد المجتمع. والضحك يفرج الكروب، ويزوح عن النفس، وينشط العقول والأذهان، ويريح الأعصاب، ويخلص العضلات من التوتر، ويحافظ على التوازن النفسي للإنسان. سُئل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل. ويقول ابن عيينة: البشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين: وجه طليق وكلام لين (¬1). وسُئل الصحابي جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أكنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم [رواه مسلم]. الضحك في القرآن جاءت آيات القرآن الكريم معبرة عن الطبيعة البشرية وخصائصها، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] ليؤكد أن الله سبحانه وتعالى خلق خاصيتي الضحك والبكاء في النفس البشرية، وقد وصف الله سبحانه وجوه المؤمنين يوم القيامة بالضحك ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة: 197.

نماذج من ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم -

والاستبشار، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس: 38 - 39]. نماذج من ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عابث الوجه قاطب الجبين، كما يظن كثير ممن يزعم التدين أو الزهد، ولكن كان للضحك والمرح جزء من حياته خاصة مع الناس، أما الخوف والبكاء فكان فيما بينه وبين الله دعاء واستغفارًا وتضرعًا، أو رحمة لمصاب المسلمين. وكان ضحكه - صلى الله عليه وسلم - لا يتنافى مع الحق فهو لا يضحك للباطل وعلى الباطل. فهيا ننظر في ضحكه لننشر البهجة والسرور والفرح بين المسلمين، ويكون قدوة لنا في الوسطية والحق وعدم الإسراف. الرسول والفاروق قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عمر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك. فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إيها يابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًّا غير فجك" [رواه البخاري]. تصديق الحبر قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع،

أين السائل؟

والشجر والأنهار على إصبع، وسائر المخلوقات على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] [رواه البخاري]. أين السائل؟ قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت: قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي، فبينا نحن على ذلك أتى النبي بعرق فيها تمر -والعرق: المكتل (السلة الكبيرة) - قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك [رواه البخاري]. ما الكوثر؟ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينا رسول - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آنفًا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 1 - 3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيُختلج (يقتطع) العبد منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" [رواه مسلم]. زرع الجنة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يحدث -وعنده رجل من أهل البادية- أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع قال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكن أحب أن أزرع، قال: فأسرع وبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، وتكون أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله لا تجد هذا إلا قرشيًا أو أنصاريًا، فإنهم

تعالى حتى أسابقك

أصحاب زرع، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -[رواه البخاري]. تعالى حتى أسابقك عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك" أحمد. آخر أهل الجنة دخولاً عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخول الجنة، يؤتى برجل فيقول: سلوا عن صغار ذنوبه واخبئوا كبارها. فيقال له: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا، في يوم كذا وكذا. قال: فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. قال: فيقول: يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هاهنا. قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه [رواه الترمذي]. أتدرون مم أضحك؟ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله". قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدًا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" [رواه مسلم]. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة. فإذا ما جاورها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه آحدًا من الأولين والآخرين. فترفع له شجرة فيقول: أي رب! أدنني

آخر ابتسامة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -

من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها. فيقول الله عز وجل: يا بن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر عليه، فيدنيه منها؛ فيستظل بظلها ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة "عند باب الجنة، هي أحسن من الأوليين" فيقول أي رب! أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها. قال: بلى، يا رب، هذه لا أسالك غيرها. وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها. فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة يقول: أي رب! أدخلنيها. فيقول: يا بن آدم، ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب! أتستهزيء مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزيء مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزيء منك، ولكني على ما أشاء قادر" [رواه البخاري]. آخر ابتسامة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن

نصيحة طريفة

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليهم بيده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر". نصيحة طريفة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أتت سلمى مولاة رسول الله أو امرأة أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله تستأذنه على أبي رافع قد ضربها. قالت: قال رسول الله لأبي رافع: مالك ولها يا أبا رافع؟ قال: تؤذنيني يا رسول الله. فقال رسول الله: بم آذيته يا سلمى؟ قالت: يا رسول الله ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع إن رسول الله قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني. فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، ويقول: يا أبا رافع إنها لم تأمرك إلا بخير" [رواه أحمد]. مواقف مضحكة خرج الإمام الشهيد حسن البنا مرة في رحلة خلوية مع الجوالة، وقام الإخوة المكلفون بإعداد الطعام بعملهم، ولكنهم أخطأوا بخلطهم العدس بالحلبة، فكان مذاق الطعام غير مألوف، ولكنه خفف الحرج عن الآكلين والطهاة لتشجيع الجوالة على تناول هذا الطعام الغريب فقال: أتعرفون ما اسم هذه الطبخة يا أحباب؟ إنها الحلبة التي تسمعون عنها، وها أنتم قد رأيتموها وأكلتموها، فبالهناء والشفاء. وكان في الإسكندرية شعبة للإخوان المسلمين في حي الحجاري بمنطقة رأس التين (تسمى شعبة الحجاري) وحين كان الأستاذ البنا يخطب في حفل للإخوان المسلمين في شعبة محرم بك، جاء الإخوان بشعبة الحجاري في جمع كبير، وهم يهتفون (الحجاري تحييك يا بنا)، فقطع الأستاذ البنا حديثه وقال: ومن للحجاري غير البنا. (الحجاري: الآلة التي تقطع بها الحجارة التي تستعمل في البناء).

أنا روحك وأنت روحي

أنا روحك وأنت روحي يقول عباس السيسي: في عام 1947 م خرجت من دار المكتب الإداري بالإسكندرية إلى مطبعة رمسيس أمام المحافظة القديمة، وبعد مدة خطر ببالي أن أتصل بدار المكتب تليفونيًا لعل أمرًا يحتاجني هناك، ورد عليَّ في التليفون من يقول: من أنت؟ فقلت: أخوك عباس السيسي، وقلت له: من أنت؟ فقال: لا أعطيك اسمي وابتسم ضاحكًا فقلت له: طيب أنت لابس إيه؟ فقال: يا أخ عباس الرجل يعرف بروحه وحسه ولا يعرف بلبسه. فقلت: له: يظهر أنك رجل روحي قوي، قال: أنا روحك وأنت روحي، أنا حسن البنا؟ فألقيت السماعة على المكتب وهتفت: الله أكبر ولله الحمد، حيث كانت مفاجأة حيث جاء الإمام البنا من القاهرة فجأة (¬1). شروط المزاح 1 - عدم الإكثار منه: كان الصحابة الذين تربوا في مدرسة النبوة يتمازحون فيما بينهم، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبادلون (يترامون) بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. قال عمر - رضي الله عنه -: من كثر ضحكه قلت هيبته. 2 - عدم الأذى فيه: عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يأخذن أحدكم مثاع أخيه لاعبًا ولا جادًا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها" [رواه أبو داود]. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى -رضي الله عنهما- قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل فأخذه، ففزع، فقال رسول الله: لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا" [رواه أبو داود]. 3 - تجنب الكذب وقول الزور: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له" [النسائي والترمذي]. ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان (1/ 94) بتصرف.

الضحك والبكاء وجهان لسلامة صحتك

ومن البدع الشائعة بين الناس (كذبة أبريل) وهي ليست من أخلاق الإسلام. 4 - البعد عن السخرية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. 5 - اختيار الوقت والمكان المناسبين: فلا مزاح في أوقات الصلاة، وعند زيارة القبور، وذكر الموت، وعند قراءة القرآن، ولقاء الأعداء، وفي أماكن العلم. 6 - عدم المزاح في الزواج والطلاق والمراجعة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة" (أي أن يراجع الرجل امرأته بعد أن يطلقها) [رواه أبو داود]. 7 - عدم المزاح بالسلاح: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه" [مسلم]. الضحك والبكاء وجهان لسلامة صحتك أكدت الدراسات الطبية أن دقيقة واحدة من القهقهة من القلب تعادل ممارسة تمرين رياضي مدته 10 دقائق، حيث تتحرك أكثر من 80 عضلة مختلفة في جسم الإنسان، كما أن الضحك يساعد أيضًا على إزالة التوتر، وزيادة الإفرازات اللعابية، والعصارات الهضمية اللازمة لتسهيل الهضم، وعلاج الإمساك. وعلى الوجه الآخر إطلاق الدموع بغزارة يعطي إحساسًا بالراحة النفسية، ويقي الجسم من أمراض القلب والقولون وقرحة المعدة، ويقي الإنسان من الهرمونات والمواد الكيماوية الضارة التي تسبب الاكتئاب (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجلة المرأة 2001 ص 38.

العفة

العفة معنى التعفف لغة: هو الكف عما لا يحل، والعفة هي النزاهة. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] أي ليضبط نفسه فإنه وجاء. اصطلاحا: العفة هي حصول حالة في النفس تمنع بها عن غلبة الشهوة. وقال الجاحظ: هي ضبط النفس عن الشهوات. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لواليه" [رواه الترمذي]. عفوا تعف نساؤكم في المحرم ... وتجنبوا ما لا يليق بمسلم إن الزنا دين فإن أقرضته ... كان الزنا من أهل بيتك فاعلم (¬1) عفة اللسان قال سفيان بن حسين الواسطي: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: السند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعد بعدها (يعني لم يذكر أحدا بعد ذلك بعيب) (¬2). قال أحد السلف لما أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له: ما يسؤك منها؟ قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك، فقيل له: فلم طلقتها؟ قال: مالي وللكلام عن امرأة صارت أجنبية عني؟! ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 112. (¬2) أخلاف الدعاة 80.

التعفف عن سؤال الناس

التعفف عن سؤال الناس عن عبد الرحمن بن عبيد عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: إن كنت لأتبع الرجل أسأله عن الآية من كتاب الله، لأنا أعلم بها منه ومن عشيرته، وما أتبعه إلا ليطعمني القبضة من التمر أو السفة من السويق أو الدقيق أسد بها جوعي. وعن أبي رافع أن أبا هريرة قال: ما أحد من الناس يهدي لي هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل. العفة عن أموال الناس أتت عمة عمر بن عبد العزيز إلى امرأته فاطمة، فقالت: إني أريد كلام أمير المؤمنين. قالت لها: اجلسي حتى يفرغ، فجلست، فإذا بغلام قد أتى فأخذ سراجا، فقالت لها فاطمة: إن كنت تريدينه فالآن، فإنه إذا كان في حوائج العامة كتب على الشمع، وإذا صار إلى حاجة نفسه دعا بسراجه. فقامت، فدخلت عليه، فإذا بين يديه أقراص وشيء من ملح، وزيت، وهو يتعشى، فقالت: يا أمير المؤمنين أتيت بحاجة لي، ثم رأيت أن أبدأ بك قبل حاجتي،. قال: وما ذاك يا عمة؟ قالت: لو اتخذت لك طعاما ألين من هذا. قال: ليس عندي يا عمة، ولو كان عندي لفعلت. قالت: يا أمير المؤمنين، كان عمك عبد الملك يجري عليَّ كذا وكذا، ثم كان أخوك الوليد فزادني، ثم وليت أنت فقطعته عني. قال: يا عمة، إن عمي عبد الملك، وأخي الوليد، وأخي سليمان كانوا يعطونك من مال المسلمين، وليس ذاك المال لي فأعطيكه، ولكني أعطيك مالي إن شئت. قالت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: عطائي مائتا دينار، فهو لك؟ قالت: وما يبلغ مني عطاؤك؟

هكذا كانوا

قال: فليس أملك غيره يا عمة. قالت: فانصرفت عنه (¬1). هكذا كانوا أمر أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور لأبي حنيفة بعشرة آلاف درهم فما رضي بأخذها، فجاء إليه بهذا المال رسول الحسن بن قحطبة الوالي فدخل عليه فلم يكلمه، فوضع المال في جراب في زاوية البيت فكان أن أوصى الإمام أبو حنيفة ابنه قائلا له: إذا مت ودفنتموني، فخذ هذا المال واذهب به إلى الحسن بن قحطبة فقل له: خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة. قال ابنه: ففعلت ذلك. فقال الحسن: رحمة الله على أبيك، فلقد كان شحيحا على دينه. وعن عطاء بن السائب قال: كان رجل يقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، فأهدى له تلميذه فرسا فردها وقال: ألا كان هذا قبل القراءة! (¬2). ويقول الحسن البصري: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصلاة والصوم. وعن أبي إسماعيل المؤدب قال: جاء رجل إلى العمري (عبد الله بن عبد العزيز العمري) فقال: عظني. قال: فأخذ حصاة من الأرض فقال: زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض. وذكر الإمام النووي أن أبا إسحاق الشيرازي دخل يوما مسجدا ليأكل طعاما على عادته، فنسي فيه دينارا فذكره في الطريق، فرجع فوجده، ففكر ساعة وقال: ربما وقع هذا الدينار من غيري، فتركه ولم يمسه (¬3). ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء 38. (¬2) أخلاق الدعاة 59. (¬3) أخلاق الدعاة 35.

كلمات من ذهب

وكانت ابنة عمر بن عبد العزيز تقول له: يا أبت إن البنات يعيرنني، فيقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب؟ فيقول: يا بنية قولي لهن: إن أبي يخشى علي حر اللهب (¬1). كلمات من ذهب قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقي الله خفيف الظهر من مال الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازما لأمر جماعتهم، فافعل. وقال أحد طللاب العلم لمحمد بن واسع: أوصني يا أبا عبد الله. فقال: أوصيتك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة، فدهش السائل وقال: وكيف لي بذلك يا أبا عبد الله؟ فقال: ازهد بعرض الدنيا تكن ملكا هنا بالاستغناء عما في أيدي الناس، وملكا هناك بالفوز بما عند الله من حسن الثواب (¬2). عفة عبيد بن عمير ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا فتن به؟ قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه. قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية في المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله استتري. فقالت: إني قد فتنت بك. ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 501. (¬2) صور من حياة التابعين 251.

حكاية فتى عفيف

قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. فلو دخلت قبرك، وأجلست للمسألة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم، لا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط، ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: اتق الله فقد أنعم عليك وأحسن إليك. قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطالٌ ونحن بطالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسًا فصيرها راهبة. حكاية فتى عفيف قال حصين بن محمد: بلغني أن فتى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلها مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان عمر يتفقده إذا غاب، فعشقته امرأة، فذكرت ذلك لبعض نسائها، فقالت: إني أحتال لك في إدخاله عليك، فقعدت له في الطريق، فلما مر بها قالت له: إني امرأة كبيرة في السن، ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت فحلبتها لي -وكان أرغب شيء في الخير- فدخل فلم ير الشاة، فقالت: اجلس حتى آتيك بها. فإذا المرأة قد طلعت عليه، فلما رأى ذلك عمد إلى محراب في البيت فقعد فيه،

إبراهيم المسكي

فأرادته عن نفسه فأبى وقال: اتقي الله أيتها المرأة، فجعلت لا تكف عنه ولا تلتفت إلى قوله، فلما أبى عليها صاحت عليه، فجاء الناس، فقالت: إن هذا دخل عليّ يريدني عن نفسي، فوثبوا عليه وجعلوا يضربونه وأوثقوه. فلما صلى عمر الغداة فقده، فبينا هو كذلك إذ جاءوا به في وثاق، فلما رآه عمر قال: اللهم لا تخلف ظني به، قال: ما لكم؟ قالوا: استغاثت امرأة بالليل، فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها، فضربناه وأوثقناه، فقال عمر: اصدقني، فأخبره بالقصة على وجهها. فقال له عمر: أتعرف العجوز؟ قال: نعم، إن رأيتها عرفتها، فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن، فجاء بهن فعرضهن فلم يعرفها فيهن، حتى مرت به العجوز، فقال: هذه يا أمير المؤمنين، فرفع عمر عليها الدرة، وقال: اصدقيني، فقصت عليه القصة كما قصها الفتى، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف (¬1). إبراهيم المسكي قيل لأبي بكر المسكي: إنا نشم منك رائحة المسك مع الدوام، فما سببه؟ فقال: والله لي سنين عديدة لم أستعمل المسك، ولكن سبب ذلك أن امرأة احتالت عليّ حتى أدخلتني دارها، وأغلقت دوني الأبواب، وراودتني عن نفسي، فتحيرت في أمري، فضاقت بي الحيل، فقلت لها: إن لي حاجة إلى الطهارة، فأمرت جارية لها أن تمضي بي إلى بيت الراحة، ففعلت. فلما دخلت بيت الراحة أخذت العذرة، وألقيتها على جسمي، ثم رجعت إليها، وأنا على تلك الحالة، فلما رأتني دهشت، ئم أمرت بإخراجي فمضيت واغتسلت. فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام قائلا يقول لي: "فعلت ما لم يفعله أحد غيرك، لأطيبن ريحك في الدنيا والآخرة" فأصبحت والمسك يفوح مني، واستمر ذلك إلى الآن. الجزاء من جنس العمل يحكى أن رجلاً اسمه المبارك كان عبدًا رقيقًا لرجل غني اسمه نوح ابن مريم، فطلب منه سيده أن يذهب ليحرس البساتين التي يملكها فذهب. ¬

_ (¬1) غض البصر 90.

وبعد عدة شهور ذهب نوح ليتفقد أحوال البساتين ومعه مجموعة من أصحابه. فقال للمبارك: ائتني برمان حلو وعنب حلو، فقطف له رمانات ثم قدمها إليهم، فإذا هي حامضة وكذلك العنب. فقال له نوح: يا مبارك ألا تعرف الحلو من الحامض؟ قال: لم تأذن لي ياسيدي أن آكل منه حتى أعرف الحلو من الحامض. فتعجب الرجل وقال: أما أكلت شيئًا وأنت هنا منذ شهور؟ قال المبارك: لا والله ما ذقت شيئًا، ووالله ما راقبتك ولكني راقبت ربي، فتعجب سيده من تلك العفة، ومن هذا الورع، وظن في البداية أنه يخدعه، فلما سأل الجيران. قالوا: ما رأيناه يأكل شيئًا أبدًا، فتأكد من صدقه وورعه وعفته. فقال: يا مبارك أريد أن أستشيرك في أمر عظيم، قال: ما هو يا سيدي؟ قال: إن لي ابنة واحدة وتقدم لها فلان وفلان وفلان "من الأثرياء" فيا ترى لمن أزوجها. قال له المبارك: يا سيدي إن اليهود يزوجون للمال، والنصارى يزوجون للجمال، والعرب للحسب والنسب، والمسلمون يزوجون للتقوى، فمن أي الأصناف أنت؟ زوِّج ابنتك للصنف الذي أنت منه. فقال نوح: والله لا شيء أفضل من التقوى، ووالله ما وجدت إنسانًا أتقى لله منك فقد اعتقتك لوجه الله وزوجتك ابنتي. وسبحان الله، عف المبارك عن رمانة من البساتين، فساق الله إليه البستان وصاحبة البستان، والجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فكانت النتيجة أن هذه المرأة أنجبت من المبارك ولدًا أتدرون من هو؟ إنه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك!!

الحياء

الحياء تعريف الحياء لغة: هو انقباض وانزواء وانكسار يعتري المرء خوف ما يعاب به. وهو مشتق من الحياة، فمن لا حياء له فهو ميت في الدنيا وشقي في الآخرة، وقال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه. شرعا: هو صفة وخلق يكون في النفس، فيبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وستون شعبة، من الإيمان" رواه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء" [رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني]. وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا: "الحياء خير كله" [رواه مسلم]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحياء لا يأتي إلا بخير" [رواه البخاري]. وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا:"الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" [رواه الحاكم]. وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا: "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه" [رواه الترمذي]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء. فقال رسول الله: "دعه فإن الحياء من الإيمان" [رواه الترمذي]. أما استحييت مني؟! في أثر إلهي يقول الله عز وجل: "ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسَيتُ الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة".

علامات الشقوة

وفي أثر آخر: "أوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام: عظ نفسك، فإن اتعظت وإلا فاستحي مني أن تعظ الناس". علامات الشقوة قال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل. أنت مؤمن بالله ويقول الجنيد: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب. هكذا خلقك الله والحياء فطرة إنسانية كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]. وضاعت الأخلاق ومن فقد الحياء فقد كل شيء وصار مجردا من كل خلق، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا (أشد البغض) فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام" [رواه ابن ماجه]. مفاهيم يجب أن تصحح 1 - الحياء للنساء: الحياء ليس -كما يظن الناس- صفة تتعلق بالنساء، ولكن الحياء شجاعة تملأ القلب حتى لا يقع في المعاصي، فذو الحياء لابد أن يكون صادقًا، لأن الكذب نقيصة يستحى منها، وذو الحياء لابد أن يكون أمينا لأن الخيانة نقيصة يستحيي منها ... وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" [رواه البخاري].

عمر والمرأة

2 - الحياء سلبية: الحياء ليس صفة سلبية أو عجزًا بل الحياء شجاعة، وإن الحيي من أقوى الناس شكيمة وأشدهم بأسا في الدفاع عن الحق، لا يخشى في الحق لومة لائم، وإن الانتصار للحق والحرص عليه لا يتنافى مع الحياء. 3 - الحياء خوف: الحياء ليس انقباضا في النفس يحجم صاحبه عن فعل الرذائل أمام المخلوقين فقط، ولكن المستحيي فعلا أولى له أن يستحيى من الخالق، لأنه هو وحده المطلع على الخفايا والسرائر. 4 - الحياء خجل: الحياء ليس معناه الخجل من معايشة الناس، فالخجل عكس الحياء؛ لأنه شعور بالنقص داخل الإنسان، فهو يشعر أنه أضعف من الآخرين، وأنه لا يستطيع مواجهتهم، أما الحياء فهو شعور نابع من الإحساس برفعة وعظمة النفس، فالحيي يستحي أن يكذب لأنه لا يقبل أن تكون نفسه في هذه الدنايا، ولكن الخجول إذا أتيحت له الفرصة أن يفعل ذلك دون أن يراه أحد لفعل، والخجل ليس من الإسلام. عن عبد الله بن عمر -وكان دون الحُلم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هى؟ " فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النخلة" رواه البخاري، وفي رواية: فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم وفي رواية: ورأيت أبا بكر وعمر يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما قمنا حدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم. 5 - الحياء في الزواج: ولي أمر الفتاة يجوز له أن يعرض ابنته على الشاب الصالح للزواج منها في غير تحرج ولا التواء ولا حياء زائف، كما حدث مع موسى، وحياء الفتاة لم يمنعها أن تعبر لولي أمرها بأدب عن رغبتها في الرجل. 6 - الحياء يضيع الحقوق: يقول البعض: إن الحياء لا ينفع في هذا البلد، والحياء يضيع الحقوق، وليس هناك تعارض بين الحياء والمطالبة بالحق، طالما أني أطالب بحقي بسلوك مهذب وفيه حياء. عمر والمرأة خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرة فعرض لغلاء المهور، فقالت له امرأة: أيعطينا الله

لا سمع ولا طاعة

وتمنعنا يا عمر؟ الم يقل الله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فلم يمنعها الحياء أن تدافع عن حق نسائها، ولم يمنع عمر أن يقول معتذرا: كل الناس أفقه منك يا عمر. لا سمع ولا طاعة وخطب مرة وعليه ثوبان فأمر بالسمع والطاعة، فنطق أحد المسلمين قائلا: لا سمع ولا طاعة يا عمر .. عليك ثوبان وعلينا ثوب واحد، فنادى عمر بأعلى صوته: يا عبد الله بن عمر .. فأجابه ولده: لبيك يا أبتاه، فقال له: أنشدك بالله أليس أحد ثوبيَّ هو ثوبك أعطيتنيه؟ قال: بلى والله، فقال الرجل: الآن نسمع ونطيع يا عمر .. فانظر كيف لم يمنع الحياء الرجل أن يقول، وعمر أن يعترف. 7 - ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: الحياء ليس معناه التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالرجل الحيي قد يفضل أن يريق دمه على أن يريق ماء وجهه، وليس معنى الحياء أيضا أن يقر المسلم المنكر ويتغاضى عن الحق أو يحلل الحرام للحكام ويزينه لهم. 8 - الاعتراف بالخطأ: لا يتنافى الاعتراف بالخطأ مع الحياء؛ فقد جاء رجل إلى سلطان العلماء العز بن عبد السلام واستفتاه في أمر ما، فأفتاه العز، وبعد أن انصرف الرجل ظهر للعز أنه قد أخطأ في فتواه، فلم يصر على خطئه ولم يمنعه الحياء من الاعتراف بالخطأ، ولكنه استأجر مناديا ينادي في البلاد: من استفتى العز في كذا فلا يأخذ بالفتوى فإن العز قد أخطأ. 9 - الحياء لا يمنع من العلم: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي: "إذا رأت الماء" [رواه البخاري]. الله أكرم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما

لا لخدش الحياء

صفرا خائبتين" [رواه الترمذي]. وقال أيضا في الحديت القدسي: "قال الله: أنا أكرم وأعظم عفوا من أن أستر على عبدي في الدنيا ثم أفضحه بعد أن سترته، ولا أزال أغفر لعبدي ما استغفرني" [رواه الترمذي]. لا لخدش الحياء ولم يصرح الله في القرآن بالألفاظ التي تخدش الحياء: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} [الأعراف: 189] حيث كنى الله بكلمة "تغشاها" عن الجماع. 1 - هكذا كان نبيكم: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه" [رواه البخاري]، وجاء في الحديث أن امرأة سألته عن كيفية الغسل من الحيض فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تغتسل ثم قال: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها" فقالت: كيف أتطهر؟ قال: "تطهري بها"، قالت: كيف؟ قال "سبحان الله! تطهري بها"، فلما رأت السيدة عائشة أن المرأة رغم كل هذا لم تفهم، ورأت حياء النبي من التصريح بما يريد، جذبت المرأة إليها، وقالت لها: تتبعي بها أثر الدم. [رواه البخاري]. ما بال فلان يقول؟ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه شيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ " [رواه أبو داود]. رجل تستحي منه الملائكة وعن سعيد بن العاص - رضي الله عنه - أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعثمان حدثاه أن أبا بكر - رضي الله عنه - استأذن على النبي وهو مضطجع على فراشه فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر - رضي الله عنه - فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم

ما رأيت أشد حياء منه

انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال: "اجمعي عليك ثيابك"، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، مالي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال رسول الله: "إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي حاجته". وقال جماعة من الناس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟! " [رواه مسلم]. ما رأيت أشد حياء منه عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل البعثة يرعى غنما لأخت السيدة خديجة رضي الله عنها، مع شريك له، وعندما ينقضي النهار ويحين موعد أخذهما لأجرتهما، يطلب الشريك من محمد أن يذهب لصاحبة الغنم ليأخذ حقه، فيقول له النبي: "اذهب أنت، فإني أستحي" ... فكان الشريك يذهب وحده في كل مرة، وفي مرة سألته صاحبة الغنم: أين محمد؟ لماذا لا يجيء معك؟ فقال: زعم أنه يستحي، فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء، ولا أعف ولا ... ولا ... منه. [رواه الطبراني]. لا تصافح النساء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ما مست يد رسول الله امرأة إلا امرأة يملكها (أي زوجته) وقال: "إني لا أصافح النساء" [رواه البخاري]. حياء من الضيوف وانظر إلى حياء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ضيوفه عندما تزوج السيدة زينب بنت جحش بأمر من الله، وصنع وليمة العرس لأصحابه ودعاهم إلى طعامه، فمكث بعض الصحابة بعد الفراغ من الطعام مستمتعين بوجود النبي، ولكن النبي يريد أن يقوم إلى زوجه المنتظرة داخل البيت، والنبي يستحيي أن يأمرهم بالانصراف، فخرج من البيت متعللا بالمرور على باقي زوجاته للاطمئنان عليهن، ثم يعود لعل الضيوف يدركون إشارته اللطيفة، حين يترك المنزل، والحياء يمنع النبي أن يطلب منهم الانصراف، وبعد فترة أدركوا وفطنوا أنهم يجب عليهم الانصراف فانصرفوا، فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا

قف واعلم

دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]. قف واعلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استحيوا من الله حق الحياء" قلنا: يا رسول الله إنا نستحيى والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى" [رواه الترمذي]. 1 - حفظ الرأس وما حوى يكون بالبعد عن سماع المحرمات كالغيبة والنميمة، وبالتفكر في الكون، وغض البصر. 2 - حفظ البطن وما حوى يكون بشكر الله على نعمه والالتزام بالسنة وتحرى الحلال في المأكل والمشرب والامتناع عن كثرة الضحك. 3 - ذكر الموت والبلى يكون بتذكر أحوال الموتى والاتعاظ بهم. وصية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحد أصحابه: "أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك" رواه الطبراني. وقال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك واستحى منه على قدر قربه منك. إني استحييت من ربي لما عرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء فرض الله على أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، وفي طريق العودة مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على سيدنا موسى في السماء السادسة فراجعه حتى قال الرسول: "إني استحييت من ربي". ثلاث خصال سئل أحد الصالحين عن معنى الحياء من الله، فقال: الحياء من الله يكون في ثلاث خصال:

ما لي لا أجزع؟!

أن تستشعر دوام إحسانه عليك مع إساءتك وتفريطك. وأن تعلم أنك بعين الله في متقلبك ومثواك. وأن تذكر وقوفك بين يدي الله ومساءلته إياك عن الصغيرة والكبيرة. ما لي لا أجزع؟! لما احتضر الأسود بن يزيد النخعي بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع؟! ومن أحق بذلك مني؟! والله لو أنبئت بالمغفرة من الله لأهابن الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيا منه. إن الرجل في حضرة من يجلهم ويحرص على استرضائهم يضبط سلوكه ضبطًا محكما، فكيف تتصرف والله لا يغيب عنك أبدا؟ وفي الأثر: "استحي من الله كما تستحي من أولي الهيبة من قومك". افرح مع الحياء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" البكر تستأذن" قلت: إن البكر تستحي، قال: "إذنها صماتها" [رواه البخاري]، فيحفظ النبي لكل فتاة حياءها، ويجنبها مشقة الإفصاح عن الموافقة على الزواج صراحة، ويبين الاكتفاء بصمتها دليلا على رضاها. حياء وسط الرجال عن صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليوصلني إلى داري -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي أسرعا. فقال النبي:"على رسلكما إنها صفية بنت حيي". فقالا: سبحان الله يا رسول الله!. قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا" [رواه البخاري].

لا للمزاحمة

لا للمزاحمة نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تزاحم المرأة بالرجال، فكان يأمر الرجال أن ينتظروا في المسجد حتى تخرج النساء، ويأمر النساء بالإسراع حتى لا يزاحمهن الرجال، حتى أمر أن يكون للنساء باب خاص في مسجده. ومن الآداب المشتركة في التعامل بين الرجال والنساء (جدية مجال اللقاء- اجتناب المصافحة- اجتناب الخلوة- اجتناب اللقاء الطويل- غض البصر- اجتناب المزاحمة- اجتناب مواطن الريبة). يشهدن الأعياد أما عن حال المرأة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت تشهد الجماعة والجمعة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال، وكان أكثرهم يعرفون السراويل ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل، وقال رسول الله: "لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء" وصار يعرف بباب النساء. وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذوات الخدور، فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين" [رواه مسلم]. تذكري غيرة زوجك عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربه (قربة الماء) وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعَه رسولُ الله - على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: إخ إخ (كلمة تقال لإناخة البعير) ليحملني خلفه، فأستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير -وكان أغير الناس- فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب، فأستحييت منه، وعرفت غيرتك، فقال: والله

حياء سيدنا موسى والفتاتين

لحمْلك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلى أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني. [رواه البخاري]. حياء سيدنا موسى والفتاتين وجد سيدنا -موسى عليه السلام- امرأتين من مدين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، ولا يلتفت لهما أحد، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة أن تسقي المرأتان بأغنامهما أولا وأن يفسح لهما الرجال، فتقدم للمرأتين ليسألهما عن أمرهما الغريب فأطلعتاه على السبب، إنه الحياء من مزاحمة الرجال، فالمرأة الحيية، العفيفة الروح، النظيفة القلب، لا تستريح لمزاحمة الرجال، فثارت نخوة موسى فتقدم وسقى لهما ثم تركهما، وجاءه الفرج عندما جاءته إحدى الفتاتين على استحياء في غير ما تبذل ولا تبرج وفي هذا قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [القصص: 23 - 27]. وتأمل قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} وكأن الحياء قد تمكن منها، وتمكنت منه، وهو تعبير قرآني يصور حالة المرأة وما هي عليه من أدب جم، وخلق فاضل، وسمت كريم، وأعظم ما في خلق المرأة حياؤها، وهكذا تكون المرأة المسلمة. ولبى موسى الدعوة، وقال لها: امشي خلفي فإن أخطأت الطريق فأشيري إليه بحجر تلقينه فيه، لأصحح المسار وأسلكه، حتى انتهى إلى بيت أبيها، وهكذا يكون الشاب المسلم حييًا لا يسير خلف امرأة ينظر إلى عورتها، ولذلك من المظاهر التي تتنافى مع الحياء في عصرنا اليوم معاكسة الشباب للبنات في الشوارع وأمام المدارس، بل أصبحت البنت في بعض الأحيان تتلفظ مع الشباب بطريقة سيئة تحدث الفوضى ويضيع بينهما الحياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الشباب

أيها الشباب هل من الرجولة أن تفخر أمام أقرانك بالتغرير ببنات المسلمين والإيقاع بهن؟ هل هي شجاعة أن تدغدغ عواطف الغافلات القاصرات بمعسول الكلام وقصص الحب والغرام؟ هل التسلل لبيوت المسلمين في الليل أو إخراج الضعيفات من خدورهن بطولة حتى وإن عرضت هي أو بدأت -كما يقول البعض- فهي امرأة ضعيفة قاصر، أما أنت فرجل، ومن العرب الذين يتصفون بالغيرة والشهامة والشجاعة والكرم، وأنت مسلم فيك إيمان وخوف، وهناك جنة ونار، أليست الحيوانية أن تشبع نهمتك وتقضي شهوتك؟ وإن كان الثمن العار والدمار لحياة ومستقبل فتاة مسلمة كان الأولى بأن تخاف على عرضها، وأن تدافع عن شرفها بدل تهديدها بالأشرطة المسجلة والصور التي تؤخذ في حالة الضعف واستسلام الهوى. أين النخوة؟! سبحان الله! كيف يتبلد الإحساس ويرتكس القلب يوم يعرض عن الله؟ أين النخوة لحماية أعراض الفتيات؟ يا لصوص الأعراض أترضون هذا لأخواتكم؟ أترضونه لزوجاتكم؟ ألا تخافون أن ينتقم الله منكم؟ أسمعك تقول لي: إنني لم أفعل ما سبق. أقول: ألست تطلق العنان للتفكير في الشهوة وتسترسل في رسم الصور والتخيلات؟ ألست تخرج للأسواق ومدارس البنات فتؤجج نار الشهوة في نفسك بإطلاق البصر هنا وهناك؟ ألست تنظر للمجلات التي تعرض صور النساء بتبرجهن وزينتهن وتتبع أخبار الساقطات وعرضهن بأبهى صورة بل وجعلهن قدوات لخروجهن عن تعاليم الإسلام وآداب الحشمة والعفاف، ألست فتى الأحلام وفارس الظلام الذي يرفع سماعة الهاتف لساعات طويلة لتخطط للحياة الوردية والسعادة الأبدية، وتلهب المشاعر وكأنك شاعر فتتغزل بالعيون وتبث الشجن فتقع أسيرة الفؤاد وتحملها على الجواد وفي ضوء القمر يحلو السمر؟! كن حييا إذا كنت مؤمنا.

حياء من الموتى

حياء من الموتى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي، فأضع ثوبي فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر" [رواه أحمد]. السيدة عائشة رضي الله عنها قدوة حسنة لأمهات المؤمنين ولنساء اليوم، إنها تستحي من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو ميت، فكيف بنساء اليوم لا يشعرن بالحياء من الأحياء؟! وترى المرأة تخرج عارية متبرجة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. حياء يعجب النبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة تبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ عليها ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين .. قالت: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى منها". [رواه أحمد]. المرأة المسلمة لا تسمع كلمة تخدش حياءها، ولا تتلفظ بلفظ سيئ مع الشباب في المواصلات وفي الجامعات، وهذا هو حياء المرأة الذي أعجب به النبي - صلى الله عليه وسلم -. أول نعش في الإسلام عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها لما مرضت مرض الموت، وكانت عندها أسماء بنت عميس تعودها قالت فاطمة: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء بعد موتهن، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، وإني سأموت وأستحي أن أحمل في جنازتي على السرير ظاهرة أمام الناس، ويعرف الناس طولي وعرضي -وكانت النعوش لم تعرف بعد-. فقالت أسماء: إني رأيت الناس في الحبشة يصنعون نعوشا يحملون فيها النساء، لئلا يظهر منهن شئ، وبوسعي أن أصنع لك واحدا تحملين فيه. فقالت فاطمة: فأرينيه، فأتت أسماء ببعض من جريد النخل الرطب وجعلت على السرير نعشا، فتبسمت فاطمة وقالت: ما أحسن هذا وأجمله!! يقول ابن عباس: وما رأيتها مبتسمة بعد أبيها إلا يومئذ، وكانت رضي الله عنها أول من حملت في نعش في الإسلام. [رواه الحاكم].

براءة موسى

فأين نحن من نساء اليوم؟ المرأة تخرج متبرجة لا تستحي من الله ولا من الناس؟ صوني حياءك صوني العرض لا تهني ... وصابري واصبري لله واحتسبي إن الحياء من الإيمان فاتخذي ... منه حليك يا أختاه واحتجبي براءة موسى يروى أن بنو إسرائيل كانوا إذا اغتسلوا، اغتسلوا عراة أمام الناس ينظر بعضهم إلى بعض دون حياء، وكان الحياء يمنع نبي الله موسى عليه السلام أن يفعل فعلهم، فكان يغتسل بمفرده بعيدا عن أعين الناس، فادعى قومه أنه إنما يفعل ذلك لعيب به، وأراد الله أن يبرئ نبيه مما قالوا، فلما ذهب موسى يغتسل، اقترب من أحد الأحجار، ثم نزع ثوبه ووضعه على الحجر، فلما انتهى وذهب ليلبس ثوبه، أخذ الحجر الثوب وجرى، فأمسك موسى عصاه وانطلق يجري خلف الثوب وهو يقول: ثوبي يا حجر .. ثوبي يا حجر، حتى وصل إلى جماعة من بني إسرائيل، فرأوه عريانا، ورأوا جسده في أحسن صورة، ليس به عيب، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فأخذ موسى يضرب الحجر بعصاه، حتى علم الضرب في الحجر، وعلم بنو إسرائيل أن موسى يغتسل وحده لأنه شديد الحياء. وهكذا المسلم لا يخلع ملابسه أمام أحد ولو كانوا إخوة صغارًا لشعوره بالحياء، ولا ينظر إلى عورة أحد أبدا لخوفه من ربه. ومما يتنافى مع الحياء في عصرنا: ارتفاع صوت المذياع بالأغاني الهابطة، وتدخين الرجال والنساء، وفترينات الملابس نجد بها قمصان النوم الخاصة بالنساء، وعرض الملابس الداخلية بعد غسلها أمام الناظرين من الخارج، وعرض صور خليعة على غلاف المجلات .. ونسأل الله السلامة. الفقير والحياء كان أبو هريرة رضي الله عنه فقيرا، وذات يوم اشتد عليه الجوع، فخرج إلى الطريق بحثا عن طعام، فمر عليه أبو بكر فاستحيا أبو هريرة أن يخبره، فسأله آية في كتاب الله فربما يستضيفه، فأجابه أبو بكر - رضي الله عنه - عن مسألته، وانصرف، ثم مر عليه عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله أبو هريرة عن آية ربما يستضيفه، فأجابه وانصرف، ثم مر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعرف ما في

مواقف لا تتنافى مع الحياء

نفسه، فأخذه وأمره أن يحضر أهل الصفة (جماعة من فقراء المسلمين في المسجد) فجاء بهم وشربوا عشرة عشرة ثم شرب. والحياء يكون مع الفقير فلا يسأل الناس شيئا؛ ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" [متفق عليه]. فالفقير لا يسأل الناس شيئا وإنما يجتهد في أي عمل ليحصل على قوته بدلا من أن يسأل الناس، ولا تحل الصدقة للغني ولا للقوي، ومن حق ولي الأمر أن يؤدب كل صحيح قادر على التكسب يريد أن يعيش عالة على المجتمع، متخذا من سؤال الناس حرفة له. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله شيئا فقال: "أما في بيتك شيء؟ " قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب (كوب) نشرب فيه الماء. قال - صلى الله عليه وسلم -:" ائتني بهما" .. فأتاه بهما فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال:"من يزيد على درهم؟ " مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال - صلى الله عليه وسلم -:"اشتر بأحدهما طعاما وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به" .. فشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عودا بيده ثم قال له: "اذهب فاحتطب وبع .. ولا أرينك خمسة عشر يوما"، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة؟ إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (شديد)، أو لذي غرم مفظع (دين ثقيل) أو لذي دم موجع (الدية الباهظة). [أصحاب السنن]. مواقف لا تتنافى مع الحياء النساء قلن صراحة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا رسول الله، قد غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك" فوعدهن يوما، فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن. [رواه البخاري]. وقالت أم عطية رضي الله عنها: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى" [رواه مسلم]. فيجوز للمرأة المشاركة في الأعمال العامة ومجالس العلم، والاستماع إلى المحاضرات

الحياء يمنع من الكذب

مع عدم الاختلاط بالرجال. وعن أسيد الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال - صلى الله عليه وسلم - للنساء: "استأخرن فليس لكنَّ أن تحتضنَّ الطريق، عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. [رواه أبو داود]. فأين الحجاب الشرعي في عصرنا؟ ترى ماذا سيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الاختلاط بين الرجال والنساء في مجتمعنا، هل سيشفع لنا، أم سيقول: سحقا سحقا؟! فيجب على المسلم أن يراعي آداب الطريق ولو كان مع زوجته ولا يتحدث معها بصوت مرتفع في الأمور الخاصة بهما أمام الناس. الحياء يمنع من الكذب ذهب أبو سفيان بن حرب ومعه بعض القرشيين إلى الشام للتجارة، فأرسل إليهم هرقل ملك الروم يطلب حضورهم، فلما جاءوا إليه قال لهم: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال هرقل: أدنوه مني واجعلوا أصحابه خلفه، ثم قال لهم: إني سائل هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: لولا الحياء أن يروا عليَّ كذبا لكذبت. فأخذ هرقل يسأله عن صفات النبي ونسبه وأصحابه وأبو سفيان لا يقول إلا صدقا حياء. المسلم الحيي لا يكذب أبدا، لأن الكذب نقيصة تتنافى مع الحياء، وتأمل في موقف أبي سفيان؛ لم يكذب مع أنه مشرك. حياء في الحرب في غزوة الخندق والمسلمون محاصرون تقدم عمرو بن عبد ود، ونادى على المسلمين كي يبارزه أحد، فتقدم له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ودارت بينهما مبارزة شديدة فسقط عمرو قتيلا، فأخذ المسلمون يكبرون، وعاد عليّ إلى المسلمين فقال له عمر: هلا سلبته درعه؛ فإنه ليس في العرب درع خير منها؟ فقال علي: إني حين ضربته استقبلني بسوأته فاستحييت أن أستلبه. المسلم الحيي لا ينظر إلى عورة أحد مهما كان، ويغض بصره عن الحرام.

أما تستحي من نفسك؟!

أما تستحي من نفسك؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعلنه بنفسك إذا خلوت" [رواه ابن حبان]. وكان عثمان - رضي الله عنه - يغتسل في بيت مظلم حتى لا يرى عورة نفسه. أما تستحي من نفسك من سمعك وبصرك وجلدك؟! {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. إلى متى؟! يا أسير دنياه، يا عبد هواه إلى متى؟! إلى أن يفجأك الموت على غفلة منك، ربما وأنت تنتقل من قناة إلى قناة أو وأنت ممسك بسماعة الهاتف أوَترضى أن تموت وأنت تسمع الغناء؟! وأنت تفكر في الزنا؟! إلى متى وأنت بين هذه القاذورات؟! أين عقلك؟! أين غيرتك؟! أين العزيمة؟! أين الصبر؟! أين الرجولة؟! أين دينك؟! عاتبت قلبي لما رأيت جسمي نحيلا فلام قلبي طرفي وقال: كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي: بل كنت أنت الدليلا فقلت: كفَّا جميعا تركتماني قتيلا كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال - صلى الله عليه وسلم - "هل تدرون مم أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام.

صور في مجتمعنا تتنافى مع الحياء

قال: فيقول: بعدًا لكنَّ وسحقا فعنكن كنت أناضل". قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد يسبح الله ويحمده" [رواه الترمذي]. والعبد متى علم أن الرب تعالى ناظر إليه أورثه هذا العلم حياء منه، يجذبه إليه احتمال أعباء الطاعة، مثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده فإنه يكون نشيطا فيه، متحملا لأعبائه، ولاسيما مع الإحسان من سيده إليه، ومحبته لسيده، بخلاف ما إذا كان غائبا عن سيده، والرب تعالى لا يغيب نظره عن عبده ولكن يغيب نظر القلب والتفاته إلى نظره سبحانه إلى العبيد. صور في مجتمعنا تتنافى مع الحياء 1 - لاعب يسب زميله أثناء المباراة ويخلع الثياب أمام الجمهور. فقد خرج عبد الله بن الحرث ومعه أحد أصحابه يوما من البيت وبينما هما يسيران إذ وجدا فتية من قريش، قد خلعوا ثيابهم وأصبحوا عراة ولف كل واحد منهم ثوبه على شكل حبل، وأخذ يضرب بعضهم بعضا، ويضحكون ويمزحون. فلما رأوا عبد الله وصاحبه، لم يهتموا بهما وظلوا على حالهم دون حياء، ثم مر بهم رسول الله فلما رأوه تفرقوا وأسرع كل منهم يختبيء حتى لا يراه رسول الله، فغضب النبي ودخل بيته وهو يقول: "سبحان الله! لا من الله استحيوا ولا من رسوله استتروا" وكانت أم أيمن جالسة ترى الغضب على وجه رسول الله فقالت له: استغفر لهم يا رسول الله، فلم يستغفر لهم -لقلة حيائهم- إلا بعد إلحاح شديد. 2 - معاكسة البنات في الشوارع. 3 - الغش في الامتحانات. كيف تكتسب صفة الحياء؟ 1 - احفظ سمعك عن أسرار الجيران. 2 - صم أذنك عن الغيبة والنميمة.

3 - اصدق في أقوالك في كل الأحوال. 4 - التزم الجدية في الحديث مع غير المحارم. 5 - لا تنطق بلفظ يخدش الحياء. 6 - ابذل ما في وسعك لشكر نعم الله عليك. 7 - لا يتحرك قلبك بحسد تجاه أحد من الناس. 8 - تحر الحلال في مأكلك ومشربك وفي كل معاملاتك. 9 - أكثر من ذكر الموت في اليوم والليلة. 10 - حسّن معاملاتك مع الناس. 11 - استشعر هوان الدنيا عند زيارة المريض. 12 - على المرأة المسلمة ترتدي الحجاب. 13 - مقاطعة المنتجات التي بها صور تجرح الحياء. 14 - غض البصر. 15 - عدم مزاحمة الرجال للنساء والنساء للرجال في المواصلات والأسواق. 16 - عدم الوقوف في مواجهة الباب عند فتحه. 17 - التزام الوقار أثناء السير في الطريق. 18 - عدم الأكل ومضغ اللبان في الطريق وإلقاء قشر اللب في الشارع. 19 - خفض الصوت عند الضحك. 20 - عدم إظهار الضيق من الضيوف مهما أثقلوا. 21 - عدم جلوس النساء بجوار الرجال، ووضع حاجز بينهما إذا اضطرا للجلوس متجاورين. 22 - عدم شراء النساء الملابس الداخلية من رجال، وكذلك الرجال لا يشترونها من نساء. 23 - التزام الجدية عند الرد على التليفون.

24 - عدم الإخبار بشيء قبيح رأيته. 25 - عدم نشر الملابس الداخلية بعد الغسل على الحبال في الخارج فيراها الناس. 26 - عدم خلع ملابس الولد أمام أحد ولو كان أخاه. 27 - عدم مصافحة البنات للبنين. 28 - تعويد الولد أن يغار على أخته ويخرج معها لتوصيلها ولا يتركها وحدها. 29 - عدم الدخول على من يأكل إلا بغير قصد. 30 - الاستئذان عند الدخول خاصة على الوالدين. 31 - الغضب عند رؤية المنكرات. 32 - إذا اضطرت الفتاة للحديث مع أحد الرجال فلتغلف حديثها بالحياء. ***

الوفاء

الوفاء الوفاء: خلق من أخلاق الإسلام التي يحرص عليها المسلم، والوفاء هو ثبوت الإنسان على قوله وفعله، يقول الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] والله تعالى عليم لا يظلم أحدا، فقد كتب الوفاء على نفسه، وأمر به الناس حيث يقول: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25]. ويدور الحديث عن صور الوفاء وهي: مع الله، مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع الوالدين، مع الزوج، مع الزوجة، مع الناس، مع الاْعداء .. ونسأل الله أن نكون من الأوفياء الأتقياء. من صور الوفاء الوفاء مع الله: كان جليبيب - رضي الله عنه - رجلا من الموالي الذين استجابوا لنداء الله ورسوله، فأسلم وحسن إسلامه ولقد بلغ من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أنه خطب له بنفسه امرأة من الأنصار. ولم يطل المقام بجليبيب بعد زواجه حتى دعا داعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجهاد، فاندفع جليبيب يلبي النداء وفاء مع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. فلما انجلت المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين، طفق الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستطلع أحوال الجند، ويتفقد جرحاهم وشهداءهم، فسأل أصحابه: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، نفقد فلانا، وفلانا، وفلانا فأعاد، الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائد السؤال: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، نفقد فلانا، وفلانا، وفلانا، وظل يكرر سؤاله، والمسلمون يجيبونه حتى لم يبق بين المسلمين من يفتقدونه، فقالوا: لا نفتقد بعد الآن أحدا يا رسول الله، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا فأفتقد جليبيب، هلموا معي نبحث عن جليبيب"، فانطلقوا فإذا بجليبيب ينزف دما غزيرا، وقد فاضت روحه إلى بارئها، ونظروا، فإذا من حوله سبعة من صناديد الكفار قد جندلهم قبل أن يردوه شهيدا في سبيل الله.

ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق جسد جليبيب يدعو له بخير، ويقول: "جزاك الله خيرا يا جليبيب، قتلت سبعة قبل أن يقتلوك"، ثم وضعه على ساعديه وهو يقول:"هذا مني، وأنا منه"، ثم أمر فحفر له، ووسده الرسول القائد في قبره بيديه الشريفتين، وفاء له. من الوفاء أن تذكر ماضيك: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عز وجل أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل -أو قال: البقر هو شك في ذلك إن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخ: البقر- فأعطي ناقة عشراء فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب اليك؟ قال: البقر، قال: فأعطي بقرا حاملا وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أي شىء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا فأنتج هذان وولَّد هذا فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصا يقذرك الناس؟ فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في عورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشىء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك" [رواه البخاري]. إذا رأيت فقيرا فتذكر فقرك في الأيام السابقة واحمد ربك وقف بجانبه.

وفاء الأنصار مع الرسول

صدق في الوفاء: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عمه أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: غبتُ عن أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أحد فهُزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم" [رواه البخاري]. قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. المسلم صادق في حبه للشهادة فهو يعمل لها ليل نهار حتى يرزقه الله إياها. وفاء الأنصار مع الرسول: قال عوف بن مالك - رضي الله عنه -: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال؟ "ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا فقلت: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا"، وأسر كلمة خفية، قال؟ "ولا تسألوا الناس شيئا"، قال عوف بن مالك: فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا أن يناوله إياه [رواه مسلم]. الوفاء مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون باتباع سنته والتخلق بأخلاقه والاقتداء به والدفاع عن دينه وعقيدته. وفاء زياد بن السكن: لما اشتد القتال في أحد، وتكاثرت سيوف المشركين ورماحهم من حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وتزلزل المسلمون من حوله، نادى عليه السلام بمن بقى من حوله من المسلمين: "ألا من يشري لنا نفسه؟ " فهب إليه زياد بن السكن - رضي الله عنه - في خمسة من الأنصار، فجعلوا يقاتلون دون رسولهم القائد - صلى الله عليه وسلم - فيستشهدون دونه رجلا بعد آخر، وزياد بن السكن صامد كالطود الأشم، يدفع عن رسول الله ك - صلى الله عليه وسلم - حتى أثخنته الجراح، فوقع على الأرض لا يقوى على الحراك، بعد أن جعل جسده سورا يحمي رسوله القائد.

وإذ ذاك أقبلت فئة من صناديد المسلمين يذبون عن رسولهم القائد، فأزالوا المشركين من حوله، وفرقوهم، فالتفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - نحو زياد بن السكن، فإذا به رمق من حياة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أدنوه مني"، فأدنوه، فوسده الرسول - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، فما لبث - رضي الله عنه - أن مات وخده على فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يفتر يدعو له، رضي الله عنهم أجمعين. تخيل نفسك في هذا الموضع، ماذا كنت ستفعل إذا فر صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه؟ هل ستدافع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم تفر معهم؟ بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا"، فلم يقدم حتى توفي النبي فأمر أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند النبي عِدة أو دين فليأتنا فأتيته فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدني فحثى لي ثلاثا [رواه البخاري]. وهكذا وفى أبو بكر - رضي الله عنه - بوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد وفاته، ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بالوفاء أدى أبو بكر مواعيده عنه. وكذلك فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع سراقة بن مالك - رضي الله عنه -، ففي حادثة الهجرة اتبع سراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"عد يا سراقة ولك سوارا كسرى" وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي خلافة عمر بعد فتح المدائن جاء سوارا كسرى لعمر فنادى سراقة وألبسه إياهما وقال: هذا ما وعدك به رسول الله. إنه الوفاء لما وعد به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وفاء حكيم بن حزام: عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: "يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى". قال حكيم: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ (أسأل) أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين إني أعرض عليه

الوفاء مع الزوجة

حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم (يرزأ يسأل) حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي رحمه الله [رواه البخاري]. لقد كان حكيم وفيا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد مماته، فلم يقبل مالاً من أي خليفة. الوفاء مع الزوجة: قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما غرت من أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة وما رأيتها (على الرغم من أنها كانت ميتة) ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة (أي صديقاتها) فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: (إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" [رواه البخاري]. أخي الزوج: كن وفيا مع زوجتك في حياتها وبعد موتها، ومن الوفاء أن تفتح لها قلبك لتسكن فيه وترى الترحاب في عينيك وفي امتداد ذراعيك، وأن تهتم بها أكثر من عملك وأن تعرف مفتاح قلبها. الوفاء مع الزوج: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقن يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود، فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد (كناية عن قلة المال) وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة، فائته فاسأله، فإن كان ذلك يجزيء عني، وإلا صرفتها إلى غيركم، فقالت: فقال لي عبد الله: بل أئتيه أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال، فقلنا له: أئت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله: "من هما" فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي الزيانب؟ " فقال: امرأة عبد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لهما أجران: "أجر القرابة، وأجر الصدقة" [رواه مسلم].

أختي المسلمة: من الوفاء مع الزوج أن تجددي عزمه وثقته بنفسه، فكثيرا ما تهتز هذه الثقة نتيجة لما يحدث على أرض الواقع وظروف الحياة وضغوطها المستمرة، فلا تزيدي من الضغوط عليه فيموت قهرا. سيدنا موسى: عندما وصل موسى عليه السلام إلى مدين بالشام، شاهد زحاما كبيرا من الناس على بئر يسقون منها أغنامهم، وبعيدا عن البئر، رأى فتاتين، تنتظران حتى ينتهي الزحام فتسقيا أغنامهما، فتطوع موسى، وسقى لهما، فلما عادت الفتاتان إلى المنزل، عرف أبوهما الشيخ الكبير بما فعله موسى، فأرسل إحداهما إليه تدعوه لمقابلته، حتى يكافئه على ما صنع، فلما حضر موسى شكره الأب، وعرف منه قصة فراره من فرعون ومجيئه إلى مدين، فطمأنه الأب، واستضافه وأكرمه، وعرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه مقابل أن يعمل عنده ثمانية أعوام، وإن شاء أكملها عشرة. فوافق موسى، وقضى الأعوام العشرة على بعض الأقوال فوفى بوعده على خير وجه، وبعدها عاد بزوجته إلى مصر. فمن الوفاء الالتزام بشروط العقد في الشركة، وإتقان العمل. الوفاء مع العلماء: صلى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - على جنازة، ثم أراد أن يركب بغلته، فجاء عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- وأمسك الركاب الذي يضع فيه الراكب قدمه ليساعد زيدا على الركوب، فقال زيد: خل عني يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبل زيد بن ثابت يده وقال: وهكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. شهادة وفاء: أرسل الإمام حسن البنا سنة 1945م رسالة إلى الشيخ محمد الغزالي يشكره فيها على مقالاته التي تنشر، فقال له: "أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، قرأت مقالك "الإخوان المسلمون والأحزاب" فطربت لعبارته الجزلة، ومعانيه الدقيقة، وأدبك العف الرصين، هكذا يجب أن تكتب، اكتب دائما وروح القدس

وفاء مع الكفار

يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" (¬1). هل فكرت يوما أن ترسل رسالة شفوية أو مكتوبة إلى صاحب كتاب، أو خطيب جمعة، أو مقال أعجبك، وترى أنه كان سببا في توعية المسلمين؟ أوفى من السموأل: أراد الشاعر العربي الشهير امرؤ القيس الكندي أن يذهب إلى قيصر الروم، وكان عنده عدد كبير من الدروع والأسلحة، فأعطاها لرجل يقال له السموأل، فلما مات امرؤ القيس أرسل إليه ملك كندة يطلب الأسلحة والدروع، فرفض السموأل، وقال: إما أن أعطيها لابنته أو ورثته، فأرسل الملك إليه مرة أخرى فرفض حفظا للأمانة ووفاء بالوعد، فخرج إليه ملك كندة بعسكر كثير، فدخل السمؤال حصنه، وكان ابنه خارج الحصن، فأمسك به الملك، وهدده إما أن يسلم الدروع والأسلحة، وإما أن يقتل ابنه، فاطلع إليه من الحصن، وقال له: اصنع بابني ما تشاء فلن أغدر بالعهد، ولن أخون، فقتل الملك ابن السموأل، وانتظر السموأل حتى جاء ورثة امرى القيس، وأعطاهم الدروع والأسلحة ووفى بما وعد، وضرب به المثل في الوفاء وقالوا: "أوفى من السموأل". إنه الوفاء بالعهود وإن كان فيه قتل للذرية. وفاء مع الكفار: في العام السادس الهجري، عقد المشركون مع المسلمين صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أنه إذا أسلم أحد من المشركين، وذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده إلى قومه. وبعد عقد الصلح مباشرة، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو - رضي الله عنه - وأعلن إسلامه، فلما رآه أبوه قام إليه وعنفه، ثم طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يرد أبا جندل تنفيذا لروابط الصلح، فوافق. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ فأخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعهد الذي أخذه على نفسه، وأنه يجب عليه الوفاء به، فقال: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، وإننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا". ¬

_ (¬1) أعلام الحركة الإسلامية، المستشار العقيل.

ردوا إليهم الجزية: عندما جمع الروم حشودهم على حدود البلاد الإسلامية الشمالية، كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها، يأمرهم أن يرجعوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم أموالهم التي جبيت منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم "أي الروم" فلو كانوا هم ما ردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئا. عمر والهرمزان: وقع الهرمزان الفارسي في الأسر، وجاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعرف الهرمزان أنه يحكم عليه بالقتل لما فعله من حرب المسلمين، فطلب من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يطلب له ماء يشربه، فلما أتى الماء، قال الهرمزان للخليفة: آخذ عليك عهدا، ألا تقتلني ما دام الماء معي، فقال له أمير المؤمنين: لك ذلك، فقال الهرمزان: فوالله لا أترك الماء ولا أشربه، فخلى عمر سبيله وفاء بوعده. وهكذا المسلم يكون وفيا مع أعدائه في العهود. أبو حنيفة: من مظاهر الوفاء وفاء أبي حنيفة لشيوخه، فلقد كان يدعو لشيخه حماد مع أبويه في كل صلاة يصليها، وكان يحفظ له وده، ويذكره دائما ويترحم عليه، ولا ينسى له فضله، لم يسهل على أبي حنيفة أبدا أن ينسى شيخه وأستاذه حمادًا، فأقام على شرعة الوفاء له، يذكره بالخير، ويثني على فضله، وينوه بأثره فيه، ويدعو له، حتى قال أبو حنيفة: ما صليت قط إلا ودعوت لشيخي حماد ولكل من تعلمت منه علما أو علمته، وفي رواية: ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والديّ، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علما أو علمته علما (¬1). ¬

_ (¬1) الإمام أبو حنيفة 288.

وفاء نحو فلسطين

وعود اليهود: من طبيعة اليهود نقض العهود وعدم الوفاء بها، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100] وقال أيضا: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56]. أخلف اليهود عهودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، منهم بنو قينقاع، فقد ازداد غيظهم على المسلمين بسبب انتصارهم في بدر فما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقا واضطرابا، وفي يوم من الأيام جاءت امرأة من العرب وقدمت على صائغ يهودي فجعل يراودها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فشد اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستخلف على المدينة أبا لبابة وأعطى اللواء حمزة وسار إلى بني قينقاع الذين تحصنوا بحصونهم حتى أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يعقل أن نعقد معهم عهودا بعد اليوم، وهم سادة في نقض العهود؟ أهم أصدق أم الله الذي خلقهم، وكشف لنا عن صفاتهم الدنيئة ومنها نقض العهود؟ فلن تحرر فلسطين إلا بالجهاد والتضحية. وفاء نحو فلسطين حاول اليهود عن طريق زعيمهم الماكر "هرتزل" استمالة السلطان عبد الحميد الثاني، حتى يسمح لهم بإقامة وطن لليهود في فلسطين، فعرضوا عليه مبلغا ضخما من المال، مقابل أن يصدر السلطان قرارا يسمح فيه لليهود بالهجرة إلى فلسطين، والتوطن فيها، وهنا ظهر وفاء السلطان عبد الحميد الثاني وقال قولته الخالدة التي سجلها التاريخ: "لست مستعدا لأن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد، فهي ليست ملكي، بل هي ملك لشعبي، روى ترابها بدمه، وليحتفظ اليهود بأموالهم، ولن يستطيعوا أخذ فلسطين إلا عند تشريح جثتي، وساعتها يأخذونها بلا ثمن، أما وأنا على قيد الحياة فلا". وهكذا يكون الوفاء لأرض فلسطين بعدم نسيان القضية، وعدم الموافقة على التفريط فيها، وتوعية الناس بأهمية المقاطعة الاقتصادية للمنتجات اليهودية.

الكرم والإنفاق

الكرم والإنفاق قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. الإنفاق في سبيل الله من شروط التيسير في هذه الحياة، تيسير الرزق، تيسير الشفاء، تيسير الفرج؛ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ " قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم وماله وارثه ما أخر" [رواه البخاري]. وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" [رواه البخاري]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" [رواه البخاري]. وقفة قرآنية يقول سيد قطب عن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134]: "فهم ثابتون على البذل، ماضون على المنهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء، السراء لا تبطرهم فتلهيهم، والضراء لا تضجرهم فتنسيهم، إنما هو الشعور بالواجب في كل حال، والتحرر من الشح والحرص، ومراقبة الله وتقواه، وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها، ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال، إلا دافع أقوى من شهوة المال، وربقة الحرص، وثقلة الشح .. دافع التقوى، ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح وتخلص، وتنطلق من القيود والأغلال" (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 475).

كرم الرسول - صلى الله عليه وسلم -

كرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها [رواه مسلم]. عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بقى منها؟ " قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: "بقى كلها غير كتفها" [سنن الترمذي] ومعناه: تصدقوا بها إلا كتفها، فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها. الكريم الكريم من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]. فالكريم هو كثير العطاء والإحسان من غير طلب ولا سؤال، بخلاف السخي فإنه المعطي عند السؤال، وهو -عز وجل- إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء. قال الجنيد: الكريم الذي لا يحوجك إلى وسيلة. وقال الحارث المحاسبي: الكريم الذي لا يبالي من أعطى. وقيل: الكريم الذي يعطي من غير منة. وقيل: الكريم هو الذي لا يؤيس العصاة من قبول توبته عليهم من غير مساءلتهم. من مظاهر كرمه سبحانه أنه يبتديء بالنعمة من غير استحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، وإن من كرم عفوه أن العبد إذا تاب عن السيئة محاها عنه وكتب له مكانها حسنة، ومن كرمه أنه في الدنيا يستر ذنوبهم ويخفى عيوبهم، فهو تعالى الذي جمع الكمال كله وتنزه عن أدنى شوائب النقص.

وقد أشارت آيات من القرآن إلى وصف الرزق بالكرامة فقال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] كما وصف الله تعالى القول بالكريم فقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] أي لينا سهلا، كما وصف كتاب سليمان إلى ملكة سبأ في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} [النمل: 29 - 30] ووصف الله به الديار فقال عز وجل: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} [الدخان: 25 - 26] ووصف به ألوان النبات فقال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان: 10] وكرامة أزواج النبات في نفاستها ومنفعتها وقيمتها. وكما وصف الحق عز وجل جانبًا من مخلوقاته بالكريم تجده عز وجل ينفيها عن بعض مخلوقاته كقوله تعالى في وصف الجحيم: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة: 41 - 44] وكرامة الظل في الروح المنعش الذي يذهب كرب الحر، ومن مظاهر كرمه أن جعل الدنيا ملكا للعباد فقال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وكذلك جعل الآخرة ملكا لهم فقال تعالى: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ومن كرمه أنه سخر للإنسان ما في السماوات والأرض، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] كما أن المولى عز وجل يضاعف الثواب للمتقين في سبيله أضعافا مضاعفة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] وقد تصل الزيادة في الثًواب بغير حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. والكرم قسمان: مادي وخلقي؛ فالمادي هو إطعام الطعام وكسوة الأيتام وصلة الأرحام، والخلقي هو العفو عن الجاني وإن تكررت الإساءة، وستر عورة الإخوان. وللكرم فضل كبير، وفائدة عظمى للفرد والمجتمع، فالكريم يحبه الله تعالى ويحبه

أنواع الكرم

الناس، وكل نعمة ينفق صاحبها منها ابتغاء وجه الله تعالى يبارك له فيها، يقول تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] (¬1). أنواع الكرم 1 - الكرم مع النفس بدون إسراف قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ويروى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يلقي درسا على بعض الناس، فرأى من بينهم رجلا يلبس ثيابا قديمة، فلما انتهى من دروسه وانصرف الناس، ناداه الإمام أحمد وقال له: ارفع هذا المصلى تجد تحته ألف درهم، خذها وأنفق بها على نفسك، وأصلح بها أحوالك، فأخبره الرجل أنه غني، لا يحتاج إلى هذا المال، فغضب منه الإمام أحمد وقال له: أما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" [الترمذي]. 2 - إكرام الضيف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" [رواه البخاري]. عجب الله من صنيعكما جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من يضيف هذا الليلة رحمه الله". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. ¬

_ (¬1) النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى- الكريم.

خزيمة وعكرمة

قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل. فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة" وقد ذكرت بعض المراجع أن هذا الصحابي هو: أبو طلحة الأنصاري وامرأته أم سليم رضي الله عنهم جميعًا. 3 - إكرام الصديق يحكى أن رجلا ذهب يطلب مساعدة من صديق له فأعطاه الرجل كل ما معه من مال، وبعد أن انصرف رأت الزوجة على وجه زوجها (الذي أعطى) علامات الضيق والحزن، فقالت له: هل ندمت على ما أعطيت صديقك من مال؟ فقال لها: إني حزين لأنني لم أسأل عنه منذ زمن بعيد، ولم أتفقد أحواله، حتى احتاج أن يسألني. وكان طلحة بن عبيد الله تاجرا واسع التجارة عظيم الثراء، فجاءه ذات يوم مال من "حضرموت" مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلة وجلاً جزعا محزونا، فدخلت عليه زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وقالت: ما بك يا أبا أحمد؟ لعله رابك منا شيء. فقال: لا، ولنعم حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وهذا المال في بيته؟ قالت: وما يغمك منه؟ أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلائك؟ فإذا أصبحت فقسمة بينهم. فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق. فلما أصبح جعل المال في صرر وجفان، وقسمه بين المهاجرين والأنصار (¬1). خزيمة وعكرمة كان خزيمة مشهورا بين الناس بالكرم وعمل المعروف مع أصدقائه وكل من يقصده، وإذا طلب أحدهم منه شيئا قدمه له راضيا مهما كانت قيمته. ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 486.

وظل خزيمة على هذا الأمر حتى فني ماله وساءت حالته، وكان خزيمة رجلا عزيز النفس لا يريد أن يمد يده ليطلب مساعدة من أحد، فأغلق عليه بابه، وأقام مع زوجته وأولاده يعيشون على ما بقي عندهم من طعام ومال. علم عكرمة -والي البلاد- بما وصلت إليه حال خزيمة من فقر وحاجة، فأسف لذلك، وقال: كيف يعيش في فقر وشدة من كان في يوم من الأيام يكرم الناس من ماله وطعامه؟! وعندما جاء الليل، أخذ عكرمة أربعة آلاف درهم، ووضعها في كيس، وخرج من بيته سرا وقد أخفي شكله، وسار في الظلام حتى وصل إلى بيت خزيمة، وطرق الباب، فلما خرج إليه خزيمة ناوله عكرمة الكيس، وقال له: أصلح بهذا المال أحوالك. تناول خزيمة الكيس فوجده ثقيلا مملوءا بالدراهم، فوضعه على الأرض وأمسك بتلابيب عكرمة وسأله: من أنت؟ أخبرني. فأجابه عكرمة: ما جئتك في هذه الساعة المتأخرة من الليل لتعرفني، إنما حضرت لأعطيك هذا الكيس وكفى. فقال خزيمة: وأنا لن أقبل هذا الكيس حتى تعرفني بنفسك وتخبرني من أنت. قال عكرمة: إذا كنت مصمما على معرفتي فأنا منقذ الكرام من غدر الأيام، وأسرع عكرمة بالانصراف، ودخل خزيمة على زوجته يبشرها بخبر المال الذي جاءهما من منقذ الكرام ففرحت. وفي الصباح خرج خزيمة إلى الناس، ودفع ما عليه من ديون، واشترى طعاما لبيته. أما عكرمة فقد رجع إلى منزله، ووجد زوجته قلقة مهمومة، ولما سألته عن سبب خروجه متنكرا في منتصف الليل ومعه المال، حاول عكرمة أن يخفي عنها الحقيقة في أول الأمر، لكنها كررت السؤال ووعدته أن تكتم الأمر وتجعله سرا بينهما، فأخبرها عكرمة بالقصة، وحكى لها ما حدث بينه وبين خزيمة وطلب منها ألا تذكر ذلك لأحد أبدا. ومرت الأيام وتحسنت حال خزيمة، وعاد غنيا مرة أخرى، وذهب لمقابلة صديقه الخليفة، وحكى خزيمة له قصته مع منقذ الكرام من غدر الأيام، وتعجب الخليفة وود لو عرف اسم ذلك الرجل، وقال لخزيمة: والله لو عرفت اسمه لمكافأته أحسن المكأفاة على معروفه وكرمه، ثم قال الخليفة لخزيمة: لقد وليتك حاكما على البلاد مكان عكرمة، فاذهب إليه الآن فورا،

وحاسبه على ما حصل من أموال المسلمين وما أنفق منها. عاد خزيمة إلى بلده واليا عليها، وعندما علم عكرمة بخبر ولاية خزيمة على البلاد بدلا منه، خرج في جمع من أهلها يستقبله، ودخل خزيمة في موكب فخم، وقصد دار الإمارة، ولما جلس فيها، وتسلم أمور الحكم أمر بمحاسبة عكرمة، فوجد عليه أموالا عجز عن سدادها ولم يتمكن من دفعها واعتذر لعكرمة، وقال: ليس عندي ما أدفعه. طلب خزيمة من جنوده أن يقيدوا عكرمة بالسلاسل ويضعوه في السجن حتى يدفع ما عليه من أموال، دخل عكرمة السجن دون أن ينطق بكلمة واحدة ودون أن يوضح لخزيمة أين ذهبت الأموال الناقصة؟ ولما علمت زوجة عكرمة بسجن زوجها حزنت حزنا شديدا. ومرت الأيام، وساءت حالها، فلم تستطع الزوجة أن تصبر طويلا، فنادت خادمتها، وقالت لها: اذهبي إلى بيت الوالي خزيمة، وقولي له: عندي كلمة لك لا أحب أن يسمعها غيرك، وعندما ينصرف من معه، ويصبح خزيمة وحده قولي له: ما هكذا يكون جزاء منقذ الكرام من غدر الأيام. وذهبت الخادمة إلى بيت خزيمة وأبلغته ما قالت سيدتها، فقال منزعجا: واحسرتاه! أهو عكرمة؟ ثم قام من مجلسه، وأرسل إلى عظماء البلاد فجمعهم، وركب حصانه، وسار بهم إلى السجن، ودخل خزيمة السجن هو ومن معه، فوجد عكرمة أصفر اللون متعبا مقيدا بالسلاسل، فأقبل عليه يقبل رأسه ويعتذر إليه عما حدث منه، فرفع عكرمة رأسه، ونظر إلى خزيمة بعينين مليئتين بالدموع، وقال له: وما الذي دعاك إلى أن تفعل كل ذلك الآن يا خزيمة؟ فأجابه: كرم أصلك وحسن خلقك وسوء مكافأتي، لقد قابلت الإحسان بالإساءة وأنا لا أدري. فقال له عكرمة: يغفر الله لك. وطلب خزيمة الحداد وأمره أن يفك قيود عكرمة، ويقيده بدلا منه، ولما سأله عكرمة عن السبب في هذا الطلب الغريب أجابه خزيمة: أريد أن يصيبني من الحبس والقيد مثل ما أصابك. فأقسم عكرمة عليه ألا يفعل ذلك الأمر، وصمم على أن يخرج خزيمة من

أنفق مما تحب

السجن معه فخرج الاثنان في موكب من الناس حتى وصلا إلى دار خزيمة، فشكر له عكرمة واستأذنه في الانصراف إلى بيته فقال له خزيمة: لن تذهب إلى دارك يا عكرمة حتى تزول عنك آثار الحبس والقيد. واستضاف خزيمة عكرمة في داره وأعطاه أفضل ثيابه ثم اختار له أجود فرس عنده وودعه أحسن وداع (¬1). 4 - إكرام الأهل قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]. أنفق مما تحب عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة - رضي الله عنه - أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" [رواه البخاري]. 5 - الكرم مع الفقراء والمساكين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه وال: "كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" [رواه مسلم]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا رجل بفلاة من الأرض سمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحي ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشِّراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمساحته فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان -للاسم الذي سمع في السحابة- فقال له: يا عبد ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء: 18، 20.

أبو أمامة ومحبته للصدقة

الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ فقال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه" الشراج: مسيل الماء [رواه مسلم]. أبو أمامة ومحبته للصدقة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثتني مولاة أبي أمامة قالت: كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها، وما يرد سائلاً ولو ببصلة أو بتمرة، أو بشيء مما يؤكل. فأتاه سائل ذات يوم وقد افتقر من ذلك كله، وما عنده إلا ثلاثة دنانير، فسأله دينارًا، ثم أتاه سائل فأعطاه دينارًا، ثم أتاه سائل فأعطاه دينارًا. قالت: فغضبت وقلت: لم تترك لنا شيئًا. قالت: فوضع رأسه للقائلة، فلما نودي للعصر أيقظته فتوضأ وراح إلى المسجد، فرفقت عليه وكان صائمًا، فتقرضت، وجعلت له عشاء وأسرجت له سراجًا وجئت إلى فرشه لأمهد له، فإذا بذهب، فعددتها فإذا ثلاثمائة دينار قلت: ما صنع الذي صنع إلا وقد وثق بما خلف، فأقبل بعد العشاء، فلما رأى المائدة، ورأى السراج تبسم وقال: هذا خير من عنده. قالت: قمت على رأسه حتى تعشى، فقلت: يرحمك الله خلفت هذه النفقة سبيل، ولم تخبرني فأرفعها. قال: وأي نفقة؟! ما خلفت شيئًا. قالت: فرفعت الفراش فلما أن رآها فرح واشتد عجبه. قالت: فقمت فقطعت زناري وأسلمت. قال ابن جابر: فأدركتها في مسجد حمص وهي تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين. 6 - إكرام اليتيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا [رواه البخاري].

الإنفاق والإخلاص

7 - إكرام الجار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" [رواه البخاري]. الإنفاق والإخلاص يقول تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]. يقول سيد قطب: إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا عن عرض، لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون، لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ، لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان، أو ليكافئه بنيشان، لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، خالصا متجردا لله، ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه، ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله، ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض، وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل" (¬1). دعوة إلى الإنفاق لم يكتف القرآن بالدعوة إلى إطعام المسكين، والتحذير من إهماله، بل جعل في عنق كل مؤمن حقا للمسكين أن يحض غيره على إطعامه {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} [الحاقة: 25 - 34]. وهذا أبو الدرداء يقول لامرأته: يا أم الدرداء، إن لله سلسلة لم تزل تغلي بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم، إلى أن تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضي على إطعام المسكين يا أم الدرداء. وفي سورة الماعون جعل الله من علامات التكذيب بالدين قهر اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} [الماعون: 1 - 3]. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 315).

أي الصدقة أعظم أجرا؟

وفي سورة الفجر خاطب الله المجتمع الجاهلي المتظلم بقوله: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)} [الفجر: 17 - 18]. قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر: 42 - 44]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس" [رواه البخاري]. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة، ويعذبهم عليه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله عز وجل من عالم بخيل" [رواه الترمذي]. الإنسان مجبول على حب المال، لو أنه أوتي ما في الأرض جميعا، بل لو أنه امتلك خزائن الرحمة العليا لما طوعت له نفسه أن ينفق منها بسعة: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]. إن الأموال المستخفية في الخزائن، المختبئة فيها حق المسكين والبائس، شر جسيم على صاحبها في الدنيا والآخرة، إنها أشبه بالثعابين الكامنة في جحورها. أي الصدقة أعظم أجرًا؟ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمُهل حتى إذا بلغت (الروح) الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" [رواه البخاري]. كرم عثمان كان في المدينة عين ماء تسمى (رومة) وكان صاحبها يبيع ماءها للمسلمين، وذات يوم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين، وله بها مشرب في الجنة؟ " فاشترى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نصف البئر، فخير صاحب البئر بين أمرين: إما أن

عثمان ذلك الرجل السخي

يكون لكل واحد منهما حرية استعمال البئر يوما مستقلا، وإما أن يضع كل واحد منهما دلوا خاصا على البئر، فرأى عثمان أنه إذا اختار يوما مستقلا فإن ذلك يكون أنفع للمسلمين فاختار يوما، فكان المسلمون يأخذون ما يكفيهم من الماء في يوم عثمان، فلما رأى صاحب البئر ذلك ذهب إلى عثمان، وقال له: أفسدت عليَّ بئري فاشتر النصف الآخر، فاشتراه عثمان ووهبه للمسلمين. عثمان ذلك الرجل السخي في عهد الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصاب الناس قحط شديد، وكانت قافلة من الشام مكونة من ألف جمل، محملة بأصناف الطعام واللباس قد حلت لعثمان في أرض المدينة، فتراكض التجار عليه، يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة، فقال لهم: كم تعطوني؟ قالوا: خمسة في المائة. قال: إني وجدت من يعطيني أكثر. فقالوا: ما نعلم في التجار من يدفع أكثر من هذا الربح. فقال لهم: إني وجدت من يعطيني على الدرهم سبعمائة فأكثر، إني وجدت الله يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] هل عندكم يا معشر التجار زيادة؟ إني أشهدكم يا معشر التجار، أن القافلة وما فيها من بر ودقيق وزيت وسمن ولباس قد وهبتها لفقراء المدينة، وإنها صدقة على فقراء المسلمين (¬1). كرم أبي حنيفة تعرض إبراهيم بن عيينة لضائقة مالية، وسجن بسبب دين كان عليه، فسارع إخوانه الفقهاء إلى جمع قيمة الدين الذي عليه ليفرج عنه، ولكن أبا حنيفة يؤدي وحده كل ما عليه ويطلب أن يرد ما يجمعه العلماء إليهم. وكان أبو حنيفة ينتهز الفرص لتوزيع المال، فقد أهدى إليه صديق منديلا لا تزيد قيمته على ثلاثة دراهم، فأهدى إليه قطعة خز قيمتها خمسون درهما. ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء: 47.

دار في الجنة

وحين كافأ صديقا أهدى إليه بضعف ما أهدى، احتج الصديق وقال: لو أعلم أنك تفعل ذلك ما أهديت لك، ولكنه رد عليه في منطق العلماء يقول: لا تقل هذا، فإن الفضل للسابق (¬1). دار في الجنة جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها بعد معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش؟ فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، يا ابن أخي إني اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله. ... ¬

_ (¬1) الإمام أبو حنيفة 300.

العفو

العفو العفو من أعظم الصفات التي يتحلى بها المسلم، وقد وصف الله نفسه بالعفو وأمر عباده أن يتصفوا به، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. من أسماء الله الحسنى العفوّ ومعناه: الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي ويصفح عمن تاب وأناب. والعفو صيغة مبالغة. والعفو له معنيان: أحدهما الفضل، ومنه قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] يعني ما فضل من أموالهم. والمعنى الثاني للعفو: المحو والإزالة، يقال: عفت الرياح الآثار إذا أزالتها. فالعفو في وصفه تعالى على هذا المعنى هو إزالة آثار الإجرام بجميل المغفرة، فالله سبحانه وتعالى يعفو عن العباد فيعفو عن ذنوبهم فيزيل أحكامها كما قال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. والفرق بين الغفران والعفو أن الغفران هو الستر بمعنى التغطية ولكن العفو: هو المحو، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]. واعلم أن اقتران العفو بالقدرة تنبيه للعبد لمكارم الأخلاق ليعفو عمن ظلمه إذا نصره الله عليه، قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. والمسلم يعفو عمن أساء إليه بل يحسن إلى المسيء ولا يمن عليه بإحسانه، ومن عرف أنه سبحانه عفو طلب عفوه، ومن طلب عفوه تجاوز عن خلقه، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وأن الكريم إذا عفا حفظ قلب المسيء عن تذكيره بسوء فعله، بل يزيل عنه ذلك الخجل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى.

عفو يوسف

عفو يوسف كان يعقوب يحب ابنه يوسف أكثر من إخوته، فحسده إخوته على هذا الحب، فقرروا أن يتخلصوا من يوسف، فاستأذنوا أباهم في أن يأخذوا يوسف معهم إلى المرعى ليلعب ويمرح، فوافق، وأوصاهم به، فأخذوه معهم، وهناك ألقوه في بئر، ثم رجعوا إلى أبيهم في المساء يبكون، وأخبروه أن الذئب قد أكله، فحزن الأب على فراق يوسف حزنا شديدا، ومرت قافلة، فوجدوا يوسف، فأخرجوه وأخذوه معهم، وباعوه لعزيز مصر. وتربى يوسف في قصر العزيز، ونتيجة لأخلاقه الحسنة، وعلمه الواسع، صار وزيرا لملك مصر، وفي أثناء ذلك، جاء إليه إخوته ليشتروا من مصر لأهلهم بعض الغذاء، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وكانت فرصة ليوسف لينتقم من إخوته، لكنه عفا عنهم، وقال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. إن مرتبة العفو لا يصل إليها إلا من جرد نفسه لله، وجاهد نفسه، وكظم غيظه. عفو الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبيّ ابن سلول أشاع مقالة السوء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها، ويهزون أركان المجتمع الإسلامي هزًا. وجاء ولده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب الصفح عن أبيه فصفح، ثم طلب منه أن يكفنه في قميصه فمنحه إياه، ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له، فلم يرد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرقيق العفو- هذا السؤال، بل وقف أمام جثمان الطاعن في عرضه بالأمس يستدر له المغفرة، ولكن العدالة العليا حسمت الأمر كله فنزل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. العفو سبب إسلام ثمامة بينما كان ثمامة بن أثال في بعض طريقه قريبا من المدينة، إذا بسرية من سرايا رسول

العفو عند المقدرة

الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تجوس خلال الديار، فأسرت ثمامة، وهي لا تعرفه، وأتت به إلى المدينة، وشدته إلى سارية من سواري المسجد، منتظرة أن يقف النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بنفسه على شأن الأسير، وأن يأمر فيه بأمره، ولما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، وهمَّ بالدخول فيه رأى ثمامة مربوطا في السارلة، فقال لأصحابه: "أتدرون من أخذتم؟ " فقالوا: لا يا رسول الله. فقال: "هذا ثمامة بن أثال فأحسنوا إساره، ثم رجع الرسول إلى أهله وقال: "اجمعوا ما كان عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال"، ثم أمر بناقته أن تحلب في الغدو والرواح، وأن يقدم إليه لبنها، وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام وقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي يا محمد خير، فإن تقتل تقتل ذا دم (أي رجلا أراق منكم دما) وإن تنعم (بالعفو) تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله يومين على حاله، يؤتى له بالطعام والشراب، ويحمل إليه لبن الناقة، ثم جاءه فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " قال: ليس عندي إلا ما قلت لك من قبل فإن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وقال: "أطلقوا ثمامة"، ففكوا وثاقه وأطلقه فأعلن إسلامه (¬1). وظهر عفو الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه وفك أسره، فكان ذلك العفو سببا في إسلامه. العفو عند المقدرة يقول عدي بن حاتم الطائي: لقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد أغارت على ديارنا وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا وسيقت إلى يثرب. وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد، فمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقامت إليه وقالت: يا رسول الله، هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك. فقال:"ومن وافدك؟ " فقالت: عدي بن حاتم، فقال:"الفارُّ من الله ورسوله"، ثم مضى رسول الله وتركها، فلما كان الغد مر بها فقالت له مثل قولها بالأمس، فقال لها مثل قوله، ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 59 - 61، وانظر: البخاري (4124) كتاب المغازي- باب وفد بني حنيفة.

ودارت الأيام وأسلم

فلما كان بعد الغد مر بها وقد يئست منه فلم تقل شيئا، فأشار لها رجل من خلفه أن قومي إليه وكلميه، فقامت إليه فقالت: يا رسول الله، هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن علي منَّ الله عليك، فقال: "قد فعلت" فقالت: إني أريد اللحاق بأهلي في الشام، فقال الرسول:"ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ليبلغك بلاد الشام، فإذا وجدت الثقة فأعلميني"، ولما انصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - سألت عن الرجل الذي أشار عليها أن تكلمه، فقيل لها: إنه علي بن أبي طالب، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به، فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله، لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، فكساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنحها ناقة تحملها، وأعطاها نفقة تكفيها، فخرجت مع الركب، قال عدي: ثم جعلنا بعد ذلك نترقب قدومها، ونحن لا نكاد نصدق ما روي من خبرها مع محمد وإحسانه إليها، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت علينا قالت: القاطع الظالم، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية ولدك وعورتك، فقلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا، وجعلت أسترضيها حتى رضيت، وقصت علي خبرها، فقلت لها: ما ترين في أمر الرجل (محمد)؟ فقالت: أرى -والله- أن تلحق به سريعا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل عنده وأنت وأنت (¬1). تذكر عفو الرسول، ولا تغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله. ودارت الأيام وأسلم لما انتهت غزوة بدر ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يستعرضون أسرى المشركين إذا هم يجدون سهيل بن عمرو أسيرا في أيديهم، فلما مثل سهيل بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إليه عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتيه حتى لا يقوم بعد اليوم خطيبا في محافل مكة، ينال من الإسلام ونبيه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "دعهما يا عمر، فلعلك ترى منهما ما يسرك إن شاء الله". ثم دارت الأيام، وكان صلح الحديبية، فبعثت قريش سهيل بن عمرو لينوب عنها في إبرام الصلح، فتلقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه طائفة من صحبه فيهم ابنه عبد الله بن سهيل، ثم ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 137 - 139.

دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب لكتابة العقد، وشرع يملي عليه فقال: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: نحن لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "اكتب باسمك اللهم"، ثم قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" ثم أتم العقد وعاد سهيل بن عمرو مزهوا بما كان يظن أنه حققه من نصر لقومه على محمد. ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى، وإذا بقريش تهزم ويدخل النبي مكة فاتحا، وإذا المنادي ينادي: يا أهل مكلة، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، فما إن سمع سهيل النداء حتى دب في قلبه الذعر، وأغلق على نفسه باب بيته، وسقط في يده، يقول سهيل: أرسلت في طلب ابني عبد الله، وأنا أستحي أن تقع عيني على عينه، لما كنت قد أسرفت في تعذيبه على الإسلام، فلما دخل علي قلت له: اطلب لي جوارا من محمد، فإني لا آمن أن أقتل، فذهب عبد الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أبي، أتؤمنه يا رسول الله جعلت فداك؟ قال:"نعم هو آمن بأمان الله، فليظهر"، ثم التفت إلى أصحابه وقال: "من لقي منكم سهيلا فلا يسئ لقاءه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولكن قدر فكان"، أسلم سهيل بن عمرو بعد ذلك إسلاما ملك عليه قلبه ولبه، وأحبه الرسول من فؤاده، قال الصديق: لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما بين يدي رسول الله، وهو يقدم له البدن، ورسول الله ينحرها بيده الكريمة، ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلاق فحلق رأسه، فنظرت إلى سهيل، وهو يلتقط الشعرة من شعر النبي ويضعها على عينيه فذكرت يوم الحديبية، وكيف أبى أن يكتب محمد رسول الله فحمدت الله أن هداه (¬1). لا تكن صلبا مع الآخرين فتكسر، ولا لينا فتعصر، ولكن كن مرنا معتدلا عفوا متسامحا. ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 533 - 535.

في غزوة ذات الرقاع

في غزوة ذات الرقاع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاة (شجر عظيم له شوك) فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلت (مسلول) في يده فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، فشام السيف (أدخله في غمده) " فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يتعرض له) بأذى [رواه مسلم]. مع أهل مكة ظهر عفو الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موقفه يوم فتح مكة عندما قال قولته الخالدة: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. تخيل نفسك في موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماذا ستفعل؟ ذكاء وعفو يحكى أن أحد الأمراء قبض على مجموعة من الأسرى، ولما أراد أن يقتلهم نظر إليه أحد الأسرى، وطلب منه أن يطعمهم ويسقيهم قبل أن يقتلهم، فأحضر لهم الأمير الطعام والشراب، فأكلوا وشربوا وشبعوا ثم قال أحدهم له: أيها الأمير -أطال الله بقاءك- إننا كنا أسراك والآن صرنا ضيوفك، فانظر كيف تفعل بضيوفك؟ عند ذلك قال لهم الأمير: قد عفوت عنكم. وهكذا يكون المسلم حتى مع الأعداء إذا كان في موضع قوة، وهم في موضع ضعف. خذ العفو عن ابن عباس: لما قدم عيينة بن حصن نزل على ابن أخيه الحر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، إذ كان القراء أصحاب مجلس أمير المؤمنين عمر ومشاورته،

تذكر عفو ربك

كهولاً كانوا أو شبابًا- فقال عيينة: يا ابن أخي استأذن لي أمير المؤمنين، فاستأذن له فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله لا تعطينا الحق ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند حدود الله. تذكر عفو ربك غضب هارون الرشيد على رجل فهمَّ بعقابه فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي. فعفا عنه الرشيد. وقال أبو الدرداء لرجل أسمعه كلاما أغضبه: يا هذا، لا تغرقن في سبي، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. وغضب أمير المؤمنين هارون الرشيد على رجل كان يدعي حميد الطوسي، فدعا له بالسياف ليقتله، فبكى حميد وأخذ يعتذر ثم قال له: مولاي، لا أبكي خوفا من الموت، إنما أبكي لأنني سأموت وأنت غاضب علي، فضحك أمير المؤمنين هارون، وقبل عذره، وعفا عنه، ثم قال للرجل: إن الكريم إذا خادعته انخدع. إذا غضبت فتذكر عفو الله عن ذنوبك الكثيرة. والكاظمين الغيظ جاء عن علي زين العابدين بن الحسين أن غلامه كان يصب له الماء بإبريق مصنوع من الخزف، فوقع الإبريق على رجل زين العابدين فانكسر الإبريق، وجرحت رجل زين العابدين، فغضب، وتغير وجهه. فقال الغلام: سيدي، يقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. فقال زين العابدين: لقد كظمت غيظي. فقال الغلام: ولقول تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. فقال زين العابدين: لقد عفوت عنك.

عفو عن الجهال

فقال الغلام: ويقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فقال له زين العابدين: أنت حر لوجه الله. عفو عن الجهال جاء أن علي زين العابدين بن الحسين كان ذاهبا إلى المسجد ومعه غلمانه، فقابله رجل، فأخذ الرجل يسب زين العابدين ويشتمه، فذهب الغلمان إلى الرجل كي يضربوه، ولكن زين العابدين نهاهم عن إيذائه، ثم نظر إلى الرجل وقال له: يا هذا، فيَّ أكثر مما تقول، وما لا تعرفه مني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكرته لك، فاستحيا الرجل من زين العابدين، ثم خلع زين العابدين قميصه وأعطاه للرجل، وأمر له بألف درهم، فذهب الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله. وكان علي بن الحسين إذا أتاه السائل رحب به وقال: مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة. وكلمه رجل فافترى عليه فقال: إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك، فقام إليه الرجل فقبل رأسه، وقال: جعلت فداك، ليس كما قلت أنا فاغفر لي، قال: غفر الله لك. وعن سعيد بن مسروق قال: أصاب الربيع بن خثيم حجر في رأسه فشجه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر له فإنه لم يتعمدني. وكان عامر بن عبد قيس مستجاب الدعوة، فلم يكن يدعو على أحد بشّر، وذات مرة وشى به بعض الولاة إلى الأمراء فأخرج من بلده، ونفي إلى الشام، فسأله بعض أصحابه أن يدعو عليه، فقال لهم عامر: إني داع فأمنوا: "اللهم من وشى بي وكذب علي وأخرجني من مصري وفرق بيني وبين إخواني فكثر ماله وأصح جسمه وأطل عمره" (¬1). وكان الإمام جعفر الصادق حليما لا يغضب، كان له غلام كسول يحب النوم، فأرسله يوما في حاجة، فغاب وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه، فخرج ¬

_ (¬1) صلاة الصالحين 39.

اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه

يبحث عنه فوجده نائما في الطريق، فجلس عند رأسه، وأخذ يوقظه برفق، حتى استيقظ، فقال له ضاحكا: تنام الليل والنهار؟ لك الليل ولنا النهار (¬1). اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه أبصر عامر بن عبد الله رجلا من أعوان شرطة البصرة، وقد أمسك بخناق رجل من أهل الذمة وجعل يجره جرا والذمي يستغيث بالناس، ويقول: أجيروني أجاركم الله، أجيروا ذمة نبيكم يا معشر المسلمين، فأقبل عامر بن عبد الله عليه وقال: هل أديت جزيتك؟ فقال: نعم أديتها، فالتفت إلى الرجل الممسك بخناقه، وقال: ما تريد منه؟ قال: أريد أن يذهب معي ليكسح (ينظف) حديقة صاحب الشرط. فقال للذمي: أتطيب نفسك بهذا العمل؟ فقال: كلا، فذلك يهد قواي، ويشغلني عن كسب قوت عيالي، فالتفت عامر إلى الرجل وقال؟ دعه، فقال: لا أدعه، فما كان من عامر إلا أن ألقى رداءه على الذمي وقال: والله، لا تُخفر ذمة محمد وأنا حي. ثم تجمع الناس، وأعانوا عامرا على الرجل، وخلصوا الذمي بالقوة، فما كان من أعوان صاحب الشرط إلا أن اتهموا عامرا بنبذ الطاعة ورموه بالخروج على السنة والجماعة وقالوا: إنه امرؤ لا يتزوج النساء ولا يأكل لحم الحيوانات وألبانها، ويتعالى على غشيان مجالس الولاة، ورفعوا أمره إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان. أمر الخليفة واليه على البصرة بأن يدعو عامر بن عبد الله إلى مجلسه، وأن يسأله عما نسب إليه، وأن يرفع له خبره، فاستدعى والي البصرة عامرا وقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك عن أمور نسبت إليك. فقال: سل عما أمر به أمير المؤمنين. فقال: ما لك تعزف عن سنة رسول الله، وتأبى أن تتزوج؟ ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 73.

فقال: ما تركت الزواج عزوفا عن سنة النبي، فأنا أشهد أنه لا رهبانية في الإسلام، وإنما أنا امرؤ رأى أن له نفسا واحدة، فجعلها لله عز وجل، وخشي أن تغلبه الزوجة عليها. فقال: ما لك لا تأكل اللحم؟ فقال: بل آكله إذا اشتهيته ووجدته، أما إذا لم أشتهه، أو اشتهيته ولم أجده فإني لا آكله. فقال: ما لك لا تأكل الجبن؟ فقال: إنا بمنطقة فيها مجوس يصنعون الجبن، وهم قوم لا يفرقون بين الميتة والمذبوحة، وإني لأخشى أن تكون المنفحة (مادة تستخرج من بطن الجدي وتوضع في الحليب فيصير جبنًا) التي صنع بها الجبن من شاة غير مذبوحة، فما شهد شاهدان من المسلمين على أنه جبن صنع بمنفحة شاة مذبوحة أكلته. فقال: وما يمنعك من أن تأتي الولاة، وتشهد مجالسهم؟ فقال: إن في أبوابكم كثيرا من طلاب الحاجات، فادعوهم إليكم، واقضوا حوائجهم لديكم واتركوا من لا حاجة له عندكم. رفعت أقوال عامر بن عبد الله إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فلم يجد فيها نبذًا لطاعة، أو خروجا على السنة والجماعة، غير أن ذلك لم يطفئ نار الشر، وكثر القيل والقال حول عامر بن عبد الله، وكادت تكون فتنة بين أنصار الرجل وخصومه، فأمر عثمان بتسييره إلى بلاد الشام، واتخذها دار إقامة له، وأوصى واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان أن يحسن استقباله، وأن يرعى حرمته، وفي اليوم الذي هم فيه عامر بالرحيل عن البصرة خرج خلق كثير من إخوانه وتلاميذه لوداعه، وشيعوه. فقال دهم: إني داع فأمنوا على دعائي، فاشرأبت إليه أعناق الناس، وسكنت حركاتهم، وتعلقت به عيونهم، فرفع يديه وقال: اللهم من وشى بي وكذب علي وكان سببا في إخراجي من بلدي، والتفريق بيني وبين صحبي، اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه، وهبه العافية في دينه ودنياه، وتغمدني وإياه وسائر المسلمين برحمتك وعفوك

قمة في العفو

وإحسانك يا أرحم الراحمين (¬1). تخيل نفسك مكان عامر بن عبد الله ماذا سيكون موقفك؟ قمة في العفو يقول الحسن بن الحسن: وقعت بيني وبين ابن عمي زين العابدين جفوة، فذهبت إليه وأنا أتميز غيظا منه، وكان مع أصحابه في المسجد، فما تركت شيئا إلا قلته له، وهو ساكت لا يتكلم، ثم انصرفت، فلما كان الليل إذا طارق على الباب يقرعه، فقمت إليه لأرى من، فإذا زين العابدين، فما شككت أنه جاء يرد إلي الأذى، ولكنه قال: يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت لي، فغفر الله لي، وإن كنت غير صادق، فغفر الله لك، ثم ألقى علي السلام، ومضى، فلحقت به وقلت له: لا جرم، لا عدت إلى أمر تكرهه، فرقَّ لي وقال: وأنت في حل مما قلت لي. وروى أحد أبناء المدينة قال: كان زين العابدين خارجا من المسجد فتبعته، وجعلت ألوح له بالشتم، ولست أدري سببا لذلك، فهاج علي الناس يريدون أخذي، ولو أخذوني لم يفلتوني حتى أحطم، فالتفت إلى الناس، وقال: كفوا عن الرجل، فكفوا عني، ولما رأى ما أصابني من الذعر أقبل علي بوجهه الطلق، وجعل يؤمنني ويهدئ من روعي ثم قال لي: لقد سببتنا بما علمت، وما ستر عليك من أمرنا أكبر، ثم قال لي: ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحييت منه، ولم أقل شيئا، فلما رأى حيائي ألقى علي كساء كان عليه، وألقى لي بألف درهم، فجعلت أقول كلما رأيته بعد ذلك: أشهد أنك من أبناء الرسول. وروى أحد مواليه قال: كنت غلاما لعلي بن الحسين، فأرسلني في حاجة فأبطأت عليه، فلما جئته خفقني بالسوط فبكيت واشتد غيظي منه، لأنه ما خفق أحدا قبلي قط، وقلت له: الله الله، يا علي بن الحسين، أتستخدمني في حاجة فأقضيها لك، ثم تضربني؟ فبكى وقال: اذهب إلى مسجد رسول الله، وصل ركعتين، ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين، فإذا ذهبت وفعلت، فأنت حر لوجه الله تعالى، فذهبت وصليت ودعوت، ولم أعد إلى داره إلا وأنا حر (¬2). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 34 - 36. (¬2) صور من حياة التابعين 345 - 346.

الفرق بين العفو والذل

وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشغل قلبه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب. وقال بعضهم: إذا أراد الله أن يتحف عبدا قيض له من يظلمه. ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فجعل يشكو إليه رجلا ظلمه ويقع فيه، فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه اقتصصتها. يقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]. يقول سيد قطب: "وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى، وهي وحدها لا تكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضغن، فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة، ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين، وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن، لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليق لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين؛ إنها العفو والسماحة والانطلاق. إن الغيظ وقر في النفس حين تكظمه، وشاظ يلفح القلب، ودخان يغشى الضمير .. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير" (¬1). الفرق بين العفو والذل يقول ابن القيم: العفو إسقاط حقك جودا وكرما وإحسانا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا وخوفا ومهانة نفس، فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم وتقاضيهم منها ذلك، حتى إذا قدروا على من بغى عليهم، تمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 475).

فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضل وندب إليه، والظلم وحرمه. فإن قيل: فكيف مدحهم على الانتصار والعفو وهما متناقضان؟ قيل: لم يمدحهم على الاستيفاء والانتقام، وإنما مدحهم على الانتصار وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم، فلما قدروا ندبهم إلى العفو، قال بعض المسلمين في هذه الآية: كانوا يكرهونه أن يستذلوا، فإن قدروا عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: ({وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] (¬1) ... . ¬

_ (¬1) الروح 289، 290.

الحلم

الحِلم الحلم: هو الأناة وضبط النفس عند الغضب، قال تعالى عن صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. من أسماء الله الحسنى: الحليم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]. والحليم معناه أنه ذو الصفح والأناة الذي لا يعجل بالعقوبة مع المقدرة؛ فلا يستفزه غضب، ولا يلحقه جهل جاهل ولا عصيان عاص، بمعنى أنه تعالى هو الذي يسامح الجاني مع استحقاقه للعقوبة والمؤاخذة بالذنب، وهو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله شيء على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]. حلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع زيد بن سعنة وهو حبر يهودي، عالم بالكتاب، يقول في قصة إسلامه: لم يبق من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين، لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله. قال: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله، إن قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، فكنت حدثتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق غدا، وقد أصابتهم سنة، وشدة، وقحوط من الغيث، وإني أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تعينهم به. قال: فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل بجانبه -أراه عليا- فقال: ما بقي من شيء يا رسول الله.

إنما بعثت رحمة

قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت له: يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوما من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا، فقال: لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرا معلوما إلى أجل كذا وكذا ولا أسمي حائط بني فلان قال: قلت: نعم فبايعني فأعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، وقال: أعجل إليهم وأغثهم بها. قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى الجنازة، ودنا من جدار ليجلس إليه أتيته فأخذته بجوامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا المطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم. قال: فنظر إليَّ عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني بطرفه، وقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع وتفعل به ما أرى؟! فوالذي بعثك بالحق لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتبسم ثم قال: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما روعته"، قال زيد: فذهب عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ فقال: أمرني رسول الله أن أزيدك مكان ما روعتك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟ قلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فقد أخبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وحسن إسلامه وشهد المشاهد كلها [ابن حبان والحاكم والبيهقي]. إنما بعثت رحمة عن جابر بن سليم قال: وفد أعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يتعلم الإسلام، ولم

حلم مع اليهود

تكن له معرفة سابقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بما يدعو إليه، قال: رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: "لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك" قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: "أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر دعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة (جدب) فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر فضلَّت راحلتك فدعوته ردها عليك"، قال: قلت: اعهد إلي، قال:"لا تسبن أحدا" فما سببت بعد حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة، قال: "ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف" ثم قال: "وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه" [رواه أبو داود]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قيل يا رسول الله، ادع على المشركين، قال:"إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة" [رواه مسلم]. المسلم يقدم النصيحة برفق، ويخلص النية لله تبارك وتعالى، ولا يغضب لأن رجلا تحدث معه بطريقة لا تناسب مقامه، بل يكون حليما، ويتذكر نبيه - صلى الله عليه وسلم -. حلم مع اليهود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن رهطا من اليهود دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام (الموت) عليك يا محمد، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم" فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، فقالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا؟ فقال لها: "قد قلت: عليكم" [رواه الترمذي]. يجب الرد على تحية غير المسلمين بقول: وعليكم، وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود. يا أنيس ذات يوم أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنس بن مالك - رضي الله عنه - ليقضي له حاجة، فذهب أنس وفي الطريق وجد بعض الصبيان يلعبون في السوق، فوقف يلعب معهم، ونسي أن يذهب إلى حيث أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السوق وابتسم له وقال: "يا أُنيس اذهب حيث أمرتك".

مراجعة

ويقول أنس: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته لم صنعت كذا وكذا، ولا لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا. المسلم يكون حليما مع الأولاد فمن طبيعتهم كثرة الحركة، فلابد من توجيههم للرياضة، ولكن مع التوجيه والموازنة بين أداء الصلاة، وقضاء الطلبات المنزلية، والمذاكرة. مراجعة قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة، وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أتراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، يريد عائشة. جميل جدا من كان حليما على زوجته عندما أهملته في أحد الأمور فلم ينفعل وفي نهاية اليوم أخبرها في هدوء أنه تضايق بسبب ما فعلته فما كان منها إلا أن بكت واعتذرت، ولو أنه انفعل وأقام الدنيا وأقعدها لما استفاد شيئا، وليصل مرادك بالتلميح لا التصريح. أحلم من معن كان معن بن زائدة أميرا على العراق، وكان مشهورا بالحلم الشديد، فذهب إليه

أعرابي، يختبر حلمه، فلما دخل الأعرابي على معن قال له: أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير؟! قال معن: أذكر ذلك ولا أنساه. فقال الأعرابي: فسبحان الذي أعطاك ملكا ... وعلمك الجلوس على السرير قال معن: سبحانه وتعالى. فقال الأعرابي: فلست مسلما إن عشت دهرا ... على معن بتسليم الأمير قال معن: يا أخا العرب، السلام سنة، وشأنك في الأمير. فقال الأعرابي: سأرحل عن بلاد أنت فيها ... ولو جار الزمان على الفقير قال معن: يا أخا العرب، إن جاورتنا فمرحبا بك، وان رحلت فمصحوبا بالسلامة. فقال الأعرابي: فجد لي يا ابن ناقصة بشيء ... فإني قد عزمت على المسير قال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها في سفره. فأخذها الأعرابي وقال له: قليل ما أتيت به وإني ... لأطمع منك بالمال الكثير قال معن: فأعطوه ألفا أخرى. فقال له: سألت الله أن يبقيك ذخرا ... فما لك في البرية من نظير قال معن: أعطوه ألفًا أخرى. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين ما جئت إلا مختبرا لك فوجدت أن الله جمع فيك حلما لو وزع على أهل الأرض لكفاهم. قال معن: يا غلام، كم أعطيته على نظمه؟ قال: ثلاثة آلاف دينار.

حلم الفاروق

قال: أعطوه على نثره مثلها. فأخذها ومضى في طريقه شاكرا لكرمه وصار يضرب به المثل في الحلم (أحلم من معن بن زائدة). وسئل معن عن سبب امتناعه عن إيقافه عند حده. فأجاب السائل: إذا نبح عليك الكلب، فهل تنبح مثله؟ قال: لا. وإذا رفسك حمار أترفسه؟ قال: لا. وإذا نطحك ثور فهل تنطحه؟ قال: لا. فأجابه: إن السفيه لا يمتاز عن تلك الحيوانات لاشتراكه معها في أقبح صفاتها، وهي الشراسة والحماقة، فاقتنع السائل وانصرف وهو يقول: لا غرابة إذا سعد كبار العقول (¬1). أخي الحبيب: القوي هو من يكظم غيظه، ولا ينفعل لأتفه الأسباب، وعندئذ سيتأثر الناس بأخلاقك وحلمك. حلم الفاروق خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الشام وتحدث عن الأموال وكيفية القسمة، وقال: إني اعتذرت إليكم عن خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطى ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته وأمرت أبا عبيدة بن الجراح. فقام أبو عمرو بن حفص بن المغيرة فقال: والله ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملا استعمله رسول الله وأغمدت سيفا سله رسول الله ووضعت أمرا نصبه رسول الله، وقطعت رحما، وحسدت ابن عمك. فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن، تغضب في ابن عمك. لابد من مراعاة حالة من يغضب عليك، وتذكر مقولة علي بن أبي طالب: "إذا عز أخوك فهن"، أي كن هينا معه لين الجانب. ¬

_ (¬1) فن التعامل مع الآخرين 48 - 50.

الأحنف بن قيس

الأحنف بن قيس الأحنف بن قيس أحد حلماء العرب الذين ضرب بحلمهم المثل، وقد بلغ من حلمه أن "عمرو بن الأهتم" أغرى رجلا بسبه سبًّا يثيره، لكن الأحنف ظل صامتا مطرقا، فلما رأى الرجل أنه لا يجيبه، ولا يأبه به، أخذ إبهامه في فمه، وجعل يعضه وهو يقول: واسوأتاه! والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه (¬1). ويحكى أيضا أن رجلا شتمه فلم يرد عليه، وتركه ومشي في طريقه فأصر الرجل على المشي وراء الأحنف، وزاد في سبه وشتمه، والأحنف لا يرد عليه، فلما اقترب الأحنف من الحي الذي يعيش فيه وقف والتفت إلى الرجل، وقال: إن كان قد بقى في نفسك شيء فقله قبل أن يسمعك فتيان الحي من قومي فيؤذوك، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا. فظهر الخجل على وجه الرجل، وعاد نادما. يقول الشيطان: كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت لأكون في قلبه، وإذا غضب طرت لأكون في رأسه. فهل تنصاع لكلام الشيطان وتجعله يدخل في رأسك ويوسوس لك بالشر والانتقام لنفسك؟ قال الأحنف لابنه يومًا: يا بني إن أردت أن تؤاخي رجلا، فأغضبه حتى تختبره، فإن أنصفك وإلا فاحذره. إذا استشاط السلطان تسلط الشيطان جاء أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى سكران، فأراد أن يأخذه ليعاقبه، فشتمه السكران، فرجع عنه عمر، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لما شتمك تركته. قال: إنما تركته لأنه أغضبني، فلو عاقبته، كنت انتصرت لنفسي، ولا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي، فانتظرت حتى أهدأ من غضبي. واسمع ما قاله أبو ذر - رضي الله عنه - لخادمه ذات يوم: لم أرسلت الشاة على علف الفرس؟ فقال الخادم: أردت أن أغضبك، فأمسك أبو ذر نفسه، فقال للخادم: لأجمعن غيظا مع أجر، اذهب فأنت حر لوجه الله. ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 465.

ثلاث صحف

هكذا كانوا قمة في الحلم، فلم تصدر منهم كلمات يندمون عليها بعد ذلك، فالناس ينظرون إلى الدعاة اليوم ويضعونهم تحت المجهر، فاحذر أن يصدر منك سلوك يؤثر على دعوتك، وينفر الناس منك. ثلاث صحف كتب أحد الملوك ثلاث صحف، ثم أعطى لكل رجل صحيفة وقال للرجل الأول، إذا اشتد غضبي فقم إلي بهذه، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه، وقال للثالث: إذا ذهب غضبي فأعطني هذه. وكان مكتوبا في الصحيفة الأولى: أقصر فما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا. وكان مكتوبًا في الثانية: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وكان مكتوبًا في الثالثة: احمل عباد الله على كتاب الله فلا يصلحهم إلا ذلك. المسلم لا ينتقم لنفسه، وهو متسامح دائما، وهذه وسيلة من أحد الملوك ليكظم غيظه، فاتخذ ما شئت من الوسائل لتكون حليما، اترك الغضب. قال ابن مسعود: انظر إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟! وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟! وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقال بعضهم: إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار. وقيل: اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان. وقال علي بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز، فأطرق عمر زمانا طويلا ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا؟ وكان عمر - رضي الله عنه - إذا خطب قال في خطبته: أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب. وقال بعضهم: من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار، وقال الحسن: من علامات المسلم قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وتحمل في

الرنتيسي

رفاقة، وصبر في شدة، لا يغلبه الغضب، ولا تجمع به الحمية، ولا تغلبه شهوة، ولا تفضحه بطنه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته، فينصر المظلوم، ويرحم الضعيف، ولا يبخل ولا يبذر، ولا يسرف ولا يقتر، يغفر إذا ظلم، ويعفو عن الجاهل، نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء. قيل لعبد الله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة، فقال: اترك الغضب. يخاطبني السفيه بكل قبح ... فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة فأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا (¬1) الرنتيسي تقول زوجة الشهيد الرنتيسي: كنت أنظف البيت ووقع مني جهاز التلفاز على شاشته وتعطل تماما فاستأت كثيرا لذلك خاصة بعد خروجه من المعتقل والوضع المادي صعب لا يسمح بشراء جهاز آخر، ولكنه حينما حضر وسألني عن سبب استيائي فأخبرته، فقال: للأشياء آجال، قدر الله وما شاء فعل، قالها وهو مبتسم (¬2). كلمات من ذهب قال عمر - رضي الله عنه -: من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة، ولا تشف غيظك بفضيحتك، واعرف قدرك تنفعك معيشتك. وقال أيوب: حلم ساعة يدفع شرا كثيرا. واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد، فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب، والصبر عند الجزع. وقال رجل لعمر - رضي الله عنه -: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] فهذا من الجاهلين. ¬

_ (¬1) (ديوان الشافعي 52). (¬2) مذكرات الشهيد الرنتيسي 87.

فقال عمر: صدقت، فكأنما كانت نارا فأطفئت. وقال محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله: إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. وجاء رجل إلى سلمان فقال: يا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب، قال: لا أقدر، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك. إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابتك السكوت فإن كلمته فرجت عنه ... وإن خليته كمدا يموت (¬1) قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي - رضي الله عنه -: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وألا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى. وقال الحسن: اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم. وقال معاوية لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه. وسب رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أشهد أنك من الفاسقين. فقال: ليس تقبل شهادتك. وعن علي بن الحسين بن علي -رضي الله عنهم- أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة ¬

_ (¬1) ديوان الشافعي 52.

علاج الغضب

كانت عليه وأمر له بألف درهم. وقال رجل لجعفر بن محمد: إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركي له ذل. فقال جعفر إنما الذليل الظالم. وقال الخليل بن أحمد: كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته. وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم ولكنني أتحلم. وقال وهب بن منبه: من يرحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطيء، ومن يحرص على الشر لا يسلم، ومن لا يدع المراء يشتم، ومن لا يكره الشر يأثم، ومن يكره الشر يعصم، ومن يتبع وصية الله يحفظ، ومن يحذر الله يأمن، ومن يتول الله يمنع، ومن لا يسأل الله يفتقر، ومن يأمن مكر الله يخذل، ومن يستعن بالله يظفر. وقال رجل لمالك بن دينار بلغني أنك ذكرتني بسوء. قال: أنت أكرم علىَّ من نفسي، إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي. وقال بعض العلماء: الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به. وقال رجل لبعض الحكماء: والله لأسبنك سبا يدخل معك في قبرك. فقال: معك يدخل لا معي. ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرا فقال لهم خيرا فقيل له: إنهم يقولون شرا وأنت تقول خيرا؟ فقال: كل ينفق مما عنده. وقال لقمان: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه. علاج الغضب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على

ومن الوسائل النبوية لعلاج الغضب

رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره في أي الحور العين شاء" [رواه الترمذي]. ومن الوسائل النبوية لعلاج الغضب: 1 - تغيير العادة: روى أن أبا ذر - رضي الله عنه -: كان يسقي على حوض فجاء قوم فقال أحدهم: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه، فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه (كسره) وكان أبو ذر قائما، فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" [رواه أحمد]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: "إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم تتوقد، ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم ذلك فليجلس" أو قال: "فليلصق بالأرض" [رواه أحمد] (الأوداج: العروق المحيطة بالعنق). 2 - الوضوء: كان عروة بن محمد السعدي رجلا صالحا من التابعين، وفي يوم من الأيام كان يتحدث مع الناس، فقام إليه واحد منهم، وكلمه كلاما قبيحا، فغضب عروة حتى احمر وجهه، ولم يرد على الكلام القبيح بكلام قبيح مثله، بل صبر وتحلى بالحلم والأناة، وترك المجلس، وذهب فتوضأ، ثم رجع ثانية إلى المجلس، وقد هدأ، وذهب عنه الغضب، ثم قال لمن حوله: حدثني أبي عن جدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" [رواه أبو داود]. 3 - السكوت في حالة الغضب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا غضب أحدكم فليسكت" [رواه أحمد]. 4 - التعوذ بالله من الشيطان الرجيم: عن سليمان بن صرد قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل أحدهما تحمر عينه وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد:

الغضب المحمود

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال الرجل: وهل ترى بي جنونًا [رواه مسلم]. الغضب المحمود هناك فرق بين الغضب المذموم والغضب المحمود، فالغضب المذموم هو أن تغضب لنفسك، والغضب المحمود أن تغضب إذا انتهكت حرمات الله. عن عائشة رضي الله عنها أن قوما من قريش أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجتريء عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه أسامة، فقال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه"، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" [رواه البخاري]. غضب عمر لله عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله بالجعرانة (منصرفه من حنين وهي تقع شمال مكة بتسعة وتسعين ميلا) وفي ثوب بلال فضة ورسول الله يقبض منها يعطي الناس، فأتي رجل فقال: يا محمد اعدل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ويلك! من يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ الله! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميَّة" (يخرجون من الدين خروج السهم) [رواه مسلم]. عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يصبر إذا انتهكت أمامه الحرمات، فقد اعتدى على مقام النبوة والرسالة، فما كان من الفاروق إلا أن أسرع قائلا: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق، هذا هو رد عمر أمام من ينتهكون قدسية النبوة والرسالة. الغضب لفلسطين طارد الإنجليز محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر عام 1920 م، وكان يغضب لله تبارك وتعالى، وتولى رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وكان أول من نبه إلى خطر

تكاثر اليهود في فلسطين بعد وعد بلفور، وقد جاء بلفور مع المندوب السامي البريطاني عام 1925 م، يريدان زيارة الحرم المقدس فمنع دخولهما، ولم تقم حركة وطنية في فلسطين أو من أجلها إلا وكان مدبرها في الخفاء أو في العلن، وتوالت أعمال الجهاد غضبا لله، وقد حاولت السلطات البريطانية اعتقاله عام 1937 م فنجا إلى لبنان ثم هاجر متخفيا إلى إيران ومنها إلى ألمانيا. إنه الغضب من أجل تحرير فلسطين، فيجب على كل مسلم أن يبذل ما يستطيع من جهد لتحرير المسجد الأقصى. ***

التواضع

التواضع التواضع صفة من صفات المؤمنين؛ قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] هونا: المشي بسكينة وتواضع. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له، وتقبله ممن قاله. وقال أبو يزيد البسطامي في تعريف التواضع: هو ألا يرى لنفسه مقاما ولا حالا، ولا يرى في الخلق شرا منه. ويقول الجنيد: التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا ذلا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه" [رواه مسلم]. اركب يا أمير المؤمنين عن الحسن قال: خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في يوم حار واضعا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار فقال: يا غلام احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين. قال: كلا، اركب أنت وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت في المكان الخشن؟ فركب الغلام، فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه. جدد نيتك أخرج ابن سعد عن ثابت قال: كان سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أميرا على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام من بني تميم، معه حمل تبن، وعلى سلمان سراويل أعجمية وعباءة، فقال الرجل لسلمان وهو لا يعرفه: تعال احمل -يظنه حمالا- فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه، فقالوا: هذا الأمير.

شهادة عدي

فقال الرجل: لا أعرفك. فقال له سلمان: لا حتى أبلغ منزلك، قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك. فالمسلم يجدد نيته لله تبارك وتعالى في كل أعماله. شهادة عدي يقول عدي بن حاتم: ذهبت لرؤية محمد بن عبد الله، وكنت أظن أني سألقي ملكا في المدينة، دخلت عليه وهو في المسجد فسلمت عليه فقال: من الرجل؟ فقدت: عدي ابن حاتم، فقام، وانطلق بي إلى بيته فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف طويلا تكلمه في حاجتها قال: فقلت: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي حتى إذا دخل بي إلى بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إليَّ فقال:"اجلس على هذه"، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: "بل أنت"، فجلست عليها وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأرض. وقال: قلت في نفسي والله ما هذا بأمر ملك. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كريما مع ضيوفه وينزل الناس منازلهم؛ وهذه هي الدعوة إلى الله. مواقف رائعة كان القاضي يحيى بن أكثم في ضيافة المأمون، فقام الخليفة المأمون لإحضار ماء له، فاندهش يحيى من ذلك، فكيف يأتي له أمير المؤمنين بالماء ويخدمه وهو جالس في مكانه، فلما رأى المأمون علامات الاستفهام على وجه يحيى قال له: سيد القوم خادمهم (¬1). وقال رجل لأحمد بن حنبل: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فتغير وجهه وقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرا، من أنا وما أنا؟ من أنا وما أنا؟ تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... على طبقات الجو، وهو وضيع ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 45.

الفرق بين التواضع والمهانة

وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب اشترى من السوق لحما بدرهم، فحمله في ملحفته، فقال له أحد أصحابه: أحمل عنك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل. ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله. وروي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف، وكان يكتب، فكاد السراج يطفأ، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه. قال: أفأنبه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها، فقام عمر وملأ المصباح زيتا. فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء، وخير الناس من كان عند الله متواضعا. الفرق بين التواضع والمهانة يقول ابن القيم: التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته، وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه يحب التواضع، ويبغض

تواضع الفاروق

الضعة والمهانة (¬1). تقول أم المؤمنين عائشة: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات: التواضع. تواضع الفاروق هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يأتيه رجل من أشجع يحمل بشرى نصر المسلمين بقيادة سلمة بن قيس بفتح الأهواز، يقول الرجل: نشدت أمير المؤمنين فوجدته واقفا يغدي المسلمين وهو متكيء على عصاه كما يصنع الراعي، وكان يدور على القصاع وهو يقول لغلامه "يرفأ": يا يرفأ، زد هؤلاء لحما، يا يرفأ، زد هؤلاء خبزا، يا يرفأ، زد هؤلاء مرقا، فلما أقبلت عليه، قال: اجلس، فجلست، في أدنى الناس، وقدم لي الطعام فأكلت فلما فرغ الناس من طعامهم قال: يا يرفأ، ارفع قصاعك، ثم مضى فاتبعته. فلما دخل داره استأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو جالس على رقعة من شعر، متكيء على وسادتين من جلد محشوتين ليفا، فطرح لي إحداهما فجلست عليها وإذا خلفه ستر فالتفت نحو الستر، وقال: يا أم كلثوم غداءنا. فقلت في نفسي: ماذا عسى أن يكون طعام أمير المؤمنين الذي خص به نفسه؟ فناولته خبزة بزيت عليها ملح لم يدق، فالتفت إلي وقال: كل، فامتثلت وأكلت قليلا، وأكل هو، فما رأيت أحدا أحسن منه أكلا، ثم قال: اسقونا، فجاءوه بقدح فيه شراب من سويق الشعير، فقال: أعطوا الرجل أولا، فأعطوني فأخذت القدح فشربت منه قليلا، إذ كان سويقي أطيب منه وأجود، ثم أخذه فشرب منه حتى روي، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا فاشبعنا، وسقانا فآوانا (¬2). أريد أن أعرفها نفسها يقول محمد بن عمر المخزومي عن أبيه: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس، وكبروا، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه. ¬

_ (¬1) الروح 313. (¬2) خير القرون (2/ 74 - 75).

تقدير الموتى

ثم قال: أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي وأي يوم!! ثم نزل. فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمأت -عبت- نفسك. فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها. وفي رواية: إني وجدت في نفسي شيئا فأردت أن أطأطيء منها. ونهى الإسلام عن الكبر، قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: التقى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- على المروة فتحدثا، ثم مضى عبد الله بن عمرو، وبقي عبد الله بن عمر يبكي، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا -يعني عبد الله بن عمرو- زعم أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار" [رواه أحمد]. تقدير الموتى عن عروة بن الزبير قال: رأيت عمر بن الخطاب على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها. وعن أنس بن مالك قال: خرجت مع عمر يوما، حتى دخلت حائطا فسمعته يقول -وبيني وبينه جدار وهو في جوف حائط-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ! والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك. وعن جبير بن نقير أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلا أقضى بالقسط، ولا أقوَل للحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله.

الرسول قدوتنا

فمال عوف بن مالك: كذبتم، والله لقد رأينا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا: من هو؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي -يعني قبل أن يسلم- لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين. وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء، ولا يقتصر على الأحياء منهم ولكنه يعم منهم الموتى كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكرهم، ويظل ذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب أهله أو وفاتهم. الرسول قدوتنا في مؤتمر الطب الذي انعقد بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938 م، خطب الإمام الشهيد فتحمس أحد الإخوة من الطلاب فهتف بحياة حسن البنا، وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف إلا أن الأستاذ المرشد وقف صامتا لا يتحرك برهة، فاتجهت إليه الأنظار في تطلع، ثم بدأ حديثه في غضب فقال: أيها الإخوان، إن اليوم الذي يهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتي أبدا، إن دعوتنا إسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد، فلن تحيد عنه، أيها الإخوان، لا تنسوا في غمرة الحماسة الأصول التي آمنا بها، وهتف بها (الرسول قدوتنا): {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. ***

القناعة

القناعة علامات القانع لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، ويستوي عنده المدح والذم، ويأنس بالله والطاعة وحلاوة القلب ومحبة الدنيا ومحبة الله كالماء والهواء. ويقول الفضيل بن عياض: جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. اجعل همومك في الآخرة عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" [رواه ابن ماجه]. ازهد في الدنيا عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" [رواه ابن ماجه]. الزاهد الحقيقي الزاهد الحقيقي من أتته الدنيا ولم تشغله عن ربه بل استصغرها في عينيه ولا يتصور الزهد من الفقير المعدم. قيل لابن المبارك: يا زاهد. قال: الزاهد عمر بن عبد العزيز؛ إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، أما أنا ففيم زهدت؟

أتخاف الفقر ومعك الملك؟!

أتخاف الفقر ومعك الملك؟! قيل لابن حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس. وقيل له ذات يوم: أما تخاف الفقر؟ فقال: أنى أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثري؟! وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزينه، ويزين قوله وعمله في عينه" [رواه الطبراني]. أزمتنا معنوية لا مادية الوهن والضعف والقصور الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية اليوم مرده إلى الإفراط في محبة الدنيا إلى حد العبادة حتى أضحى المسلم خائر القوى مهزوز الشخصية ضعيف الإرادة لا يحرك ساكنا وإن أقيمت الدنيا من حوله، أو هزت الأرض من تحت قدمه. نعم لقد ديست كرامتنا وغصبت أراضينا وأهينت مقدساتنا واسترخصت دماؤنا وضاعت قدسنا، فماذا فعلنا، أو ما عسانا نفعل بهذه الآلاف المؤلفة التي استولى عليها اليأس ووقر في ذاكرتها أنه لا أحد يجرؤ أو يستطيع -مهما حاول- أن يعيد قدسنا ويرد كرامتنا ويسترجع هيبتنا؟. ولعل سائلا يقول معترضا: ولكن أين السلاح؟ أين الصواريخ المتطورة والقنابل الذرية .. ؟ إننا نملك الكثير ولكننا لا نملك القوة التي تستعمل تلك الأجهزة؟ لأن أزمتنا معنوية قبل أن تكون مادية، وإيمانية قبل أن تكون ذرية، لقد بعث الله في قلوبنا الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، حتى أصبح المسلم يبيع دينه بعرض من الدنيا، يسترخص كرامته لا حياته، ويبذل كل شيء مقابل أن يعيش مهما كانت هذه المعيشة، ولقد عالج

وصف الدنيا

القرآن هذا النفوس الضعيفة الحائرة بقوله: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس معه فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا لكان عيبا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" [رواه مسلم]. قال سفيان: خذ من الدنيا لدينك وخذ من الآخرة لقلبك .. يا راقد الليل مسرورا بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا أفنى القرون التي كانت منعمة ... كر الجديدين إقبالا وإدبارا كم قد أبادت صروف الدهر من ملك ... قد كان في الدهر نفاعا وضرارا يا من يعانق دنيا لا بقاء لها ... يمسي ويصبح في دنياه أسفارا هلا تركت من الدنيا معانقة ... حتى تعانق في الفردوس أبكارا إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها ... فينبغي لك ألا تأمن النارا وصف الدنيا قال رجل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا. قال: وما أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب، وفي مباحها العتاب؟! وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها. عجبا لك قال البعض: عجبا لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح؟ وعجبا لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك؟ وعجبا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها؟ وعجبا لمن

العقلاء ثلاثة

يعلم أن القدر حق كيف ينصب؟ العقلاء ثلاثة قال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة: من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها، فأصبحت كالعروس الجلية، العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئن إليها فذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، ودها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل، فهل على الدواء من دليل؟ وهل إلى الطبيب من سبيل؟ فتدعي لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى، ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، فبكى إخوانك، وقيل لك هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك. انتبه! اعلم أن الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيرا عنيفا ومرتحلة ارتحالا سريعا، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائه، ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن؛ متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة.

الناس نيام!

ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصرى قال: أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع الناس نيام! قال يونس بن عبيد: ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذا انتبه. فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية ومشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال لها: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب، أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول الله عز وجل: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. ما لي وللدنيا؟! عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي وللدنيا، وإنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها" [رواه الترمذي]. وعن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم مال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافق صلاة الفجر مع رسول الله، فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين! " فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: "أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسها فتهلككم كما أهلكتهم" [متفق عليه]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" [رواه مسلم]. سيبقى عملك عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان

هذه هي الدنيا

ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله ويبقى عمله [متفق عليه]. هذه هي الدنيا عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" [رواه مسلم]. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فاستقبلنا أحُدًا، فقال: "يا أبا ذر"، قلت: لبيك يا رسول الله فقال: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي عليَّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا شيئًا رصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا -عن يمينه وعن شماله وعن خلفه- ثم سار فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا -عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- وقليل ما هم" ثم قال لي: "مكانك لا تبرح حتى آتيك"، ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى فسمعت صوتا قد ارتفع فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي فأردت أن آتية فذكرت قوله: "لا تبرح حتى آتيك" فلم أبرح حتى أتاني فقلت: لقد سمعت صوتا تخوفت منه فتذكرت له فقال: "هل سمعته؟ " قلت: نعم، قال: "ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وسرق؟ فقال: وإن زنى وإن سرق" [متفق عليه]. انظروا إلى من هو أسفل منكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم" [متفق عليه]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض" [رواه البخاري]. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [رواه البخاري].

ماذا ترك رسولك للدنيا؟

ماذا ترك رسولك للدنيا؟ عن عمرو بن الحارث - رضي الله عنه - قال: "ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة" [رواه البخاري]. هذا هو مصعب عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله تعالى فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير - رضي الله عنه - قتل يوم أحد وترك نمرة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها (يقطعها). [متفق عليه]. الحصير أثر في جنبه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: "ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم لي راح وتركها" رواه الترمذي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" [رواه الترمذي]. ما أخرجكما من بيوتكما؟ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال:"ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوع يا رسول الله، قال: "وأنا -والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما"، فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله: "أين فلان؟ " قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله وصاحبيه ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم ضيفا مني، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر (تمر النخل) وتمر ورطب فقال: كلوا، وأخذ المدية، فقال له رسول الله: "إياك

اقعد فاشرب

والحلوب" .. فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" [رواه مسلم]. ويقال إن هذا الأنصاري هو أبو الهيثم بن التيهان. اقعد فاشرب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد حجرا على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي ثم قال: "أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي فدخلت فوجد لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي"، قال: وأهل الصفة أضياف الاسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟! ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: "أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله قال: "خذ فأعطهم"، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ثم يرد على القدح حتى انتهيت إلى اللبن وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت، فقال:" اشرب" فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا، قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. [رواه البخاري].

الغنى غنى النفس

الغنى غنى النفس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" [متفق عليه]. اليد العليا خير من اليد السفلى عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال:" يا حكيم؛ إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى" قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعذ النبي حتى توفي. [متفق عليه] (يرزأ: يأخذ من أحد شيئا). هؤلاء هم الرجال عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا من الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو برد: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره؟ قال: كأنه كره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه. [متفق عليه]. لا تسأل الناس شيئا عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا الله، وأسر كلمة خفية .. ولا تسألوا الناس شيئا" .. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه. [رواه مسلم].

الرفق

الرفق حث الإسلام على الرفق، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق" [رواه أحمد]. عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" [رواه الترمذي]. وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" [رواه مسلم]. أنواع الرفق الرفق في الدين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" [رواه البخاري]. قال ابن حجر: والمشادة بالتشديد: المغالبة، يقال: شاده مشادة إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. الدلجة: السير من أول الليل، والغدوة: الخروج أول النهار، والروحة: الخروج آخر النهار. عن عائشة رضي المته عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرفق لا يكون في شىء إلا زانه ولا يترع من شىء إلا شأنه" [رواه مسلم]. اعلم أخي الحبيب أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، فلا تضغط على نفسك في البداية في العبادة ثم تتوقف نهائيا، ولكن عليك بالتدرج، ابدأ بقراءة جزء يوميا من القرآن ثم اجتهد في الزيادة مع الدوام.

الرفق في التبليغ: كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فرد عليه تلميذ النبوة بجواب مليء بفقه الدعوة: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا" [رواه البخاري]. يخاف السآمة على جيل التابعين فكيف بجيل القرن العشرين؟! ولا ينفرد ابن مسعود بهذا الفقه دون الصحابة، بل إن ذلك سمة بارزة فيهم -رضوان الله عليهم جميعا- فهذا عمر - رضي الله عنه - يقول على المنبر: أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده. فقيل: كيف ذاك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصا فيطول على الناس حتى يبعض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدهم إماما فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه. وهذا ابن عباس يقول: حدث الناس كل جمعة، فإن أكثرت فمرتين، فإن أكثرت فثلاثا، ولا تمل الناس من هذا القرآن ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم، وقال: أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وإياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلونه. وإذا أخذت بأقوال الصحابة وفقههم فإنك في مأمن من أن تكون من النفر الستة الذين ذكرهم ابن عبد البر حين قال: كان يقال: ستة إذا أهينوا فلا يلومون إلا أنفسهم: - الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها. - وطالب الفضل من اللئام. - والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه. - والمستخف بالسلطان. - والجالس مجلسا ليس له بأهل. - والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه ولا يصغى إليه (¬1). ¬

_ (¬1) المصفى من صفات الدعاة (1/ 38، 39).

الرفق مع الجهلة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بال أعرابي في المسجد فثار الناس إليه ليقعوا به، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه وأريقوا على بوله ذَنوبا من ماء أو سَجلا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" [رواه البخاري]، السجل بفتح السين وإسكان الجيم، وهي الدلو الممتلئة ماء. إنها قمة من قمم الرفق لا يبلغها إلا من اتصل بمشكاة النبوة اتصالا لا يعرف الملل، وذلك نابع من استشعار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا التصرف الشاذ لا ينتج إلا من جاهل، ولنا أن نسأل أنفسنا: هل سيكون لنا نفس الموقف الذي وقفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأعرابي إذا ما شاهدنا يوما تصرفا شاذا من أحد الناس؟ وهل نرفق به ولا نعنفه وننصحه بهدوء أن يقلع عن ذلك؟ أم أننا نسيء الظن فيه، ونحسبه قد تعمد ذلك ونثور كما ثار الصحابة رضوان الله عليهم في بداية الأمر؟! (¬1). الرفق مع المبتديء: عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (زجرني وعبس في وجهي) ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبر وقراءة القرآن" [رواه مسلم]. يقول الحاج أحمد أبو شادي: حدث أن أحد الإخوان كان في طبعه حدة وعصبية فكان يثور دائما لأوهى الأسباب، ويسبب بثورته ضيقا في نفوس الإخوان ويحاول بعضهم أن يقضي على ثورته الجامحة ويهديء من روعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكان الإمام كثيرا ما يتدخل في ثورة هذا الأخ العصبي فتهدأ نفسه إلى حين ثم يعود بعدها إلى ثورة جديدة. ¬

_ (¬1) المصفى في صفات الدعاة (1/ 40).

ولما طفح الكيل وضاق الإخوان وأستاذهم ذرعا بهذا الأخ الذي لا يتورع عن إيذاء الإخوان وتجريحهم انتفض الأستاذ غاضبا، وطلب إليه أن يخرج من دار المركز العام إلى بيته، فما كان من الأخ الثائر إلا أن قال للأستاذ: لن أخرج من هذه الدار، إنها ليست داركم ولكنها دار الإخوان المسلمين، فما كان من الأستاذ إلا أن سيطر على غضبه ولم يندفع في ثورته على هذا الأخ فأجابه في هدوء وسكينة: صدقت في قولك يا أخي إنها ليست داري وإنما دار الإخوان، لكن لا تنس أنني أبو هؤلاء الإخوان جميعا، وإننا جميعا مستاءون من تصرفاتك معنا وثورتك المستمرة علينا، وأوعز الأستاذ للإخوان بمقاطعته فقاطعوه ولم يكلموه ولم يردوا عليه، وترك الأستاذ الإمام مكانه في الغرفة وخرج الإخوان معه كلهم في صورة احتجاج ومقاطعة لهذا الأخ، وظل هذا الأخ في الغرفة وحيدا حزينا يفكر في موقفه الذي ساقته إليه ثوراته وجمحاته وشطحاته، وظل هكذا وحيدا يفكر فيما جنت يداه على نفسه، وعلى إخوانه، وعلى مرشده، واغرورقت عيناه بالدموع، دموع الندم والتوبة. وبعد فترة قصيرة من الوقت دخل عليه الأستاذ فوجده على هذه الحال، فما رآه الأخ حتى سارع إلى تقبيل يده، والاعتذار إليه وإلى الإخوان الذين أساء إليه هم مرارا، فما كان من الأستاذ إلا أن ضمه إليه ضمة الحب والرحمة والإشفاق، وقبله قبلة الأخ الرحيم والمربي الحكيم، وأقبل عليه الإخوان يصافحونه، ويعانقونه بعد أن اعتذر إليهم، فما كان منه إلا أن استقام أمره، ولم يعد إلى ما كان منه من جمحات وشطحات. وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعالج مشكلة هذا الأخ الجامح، فلم يعالجه بالشدة والغلظة والزجر والثورة، وإنما عالجه باللين والرفق، ناهجا في ذلك نهج النبي الكريم والمربي العظيم الذي كان يقول: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" [البخاري] (¬1). يقول سيد قطب: فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يشق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ومن يحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء، ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة 161 - 163.

وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الرفق في الدعوة: من مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة فعله مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى الله عز وجل فلم يسلموا، فجاء الطفيل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أن دوسا قد عصت وأبت، وطلب أن يدعو عليهم، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ورفع يديه فقال الناس: هلكوا، فقال: "اللهم اهد دوسا، وائت بهم، اللهم اهد دوسا وائت بهم" [رواه أحمد]. فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي وهو بخيبر فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتا من دوس، ثم لحقوا بالنبي بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين. كن رفيقا في تعليم الناس: كان عبد البديع صقر -رحمه الله- إذا دخل بيتا ووجد فيه تمثالا كسره أو رماه أو شوه وجهه دون موافقة صاحب البيت، وقد يكون صاحب البيت حديث عهد بالإخوان أو بالدعوة فيصيبهم نفور من عبد البديع، وكثرت الشكوى من تصرفه هذا، وبلغت الإمام الشهيد حسن البنا -رحمه الله- فقال لعبد البديع: لا نريد منك أن تحطم أصنام الناس، ولكننا نريدك أن تجعلهم يحطمونها بأيديهم!! وهكذا رسم له طريق الدعوة الصحيح، وبين له المهمة الأساسية للداعية (¬2). الرفق بالمساكين: يقول محمد إقبال: جاء سائل فطرق بابنا بعنف، فضربته بعصا على رأسه، فتناثر ما جمعه، فتألم والدي وسال الدمع من عينيه، وقال: يا بني، غدا تجتمع أمة خير البشر أمام ¬

_ (¬1) الظلال (1/ 501). (¬2) حكايات عن الإخوان 58، 59.

مولاها، ويحشر أهل الملة البيضاء حكماؤها والشهداء والعلماء، والعصاة، ويأتي هذا السائل المسكين صائحا شاكيا، فماذا أقول إذا قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أودعك شابا مسلما، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانا، فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه؟ يا ولدي كن برعما في غصن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكن وردة من نسيج ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب (¬1). الرفق بالوالدين: ذكر العلماء أن رجلا كان عنده والد كبير، فتأفف من خدمته ومن القيام بأمره، فأخذه وخرج إلى الصحراء ليذبحه، فلما وصل إلى صخرة أنزله هناك قال: يا بني ماذا تريد أن تفعل بي؟ قال: أريد أن أذبحك، قال: يا بني هذا جزاء الإحسان؟ قال الابن: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، فقال الأب: يا بني إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند الصخرة التالية ولا تذبحني هنا؛ فتعجب الابن وسأل: وما الفرق بين هنا أو هناك؟ قال: يا بني إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند الصخرة التالية فلقد ذبحت أبي هناك ولك يا بني مثلها (¬2). الرفق بالعصاة: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، وكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" [رواه أبو داود]. وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: من عدي بن أرطأة .. أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قبلي أناسا من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل مالاً ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 253. (¬2) قصص وعبر- محمود المصري (2/ 45).

الرفق بالحيوان

عظيما، لست أرجو استخراجه من أيديهم، إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين -أصلحه الله- أن يأذن لي في ذلك أفعل. فأجابه عمر أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر ما قامت عليه بينة عدول، فخذه بما قامت عليه البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله، وايم الله، لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم، والسلام (¬1). احرص على أن تكون رفيقا بالعصاة واعلم أن الخواتيم بيد الله، ونسأل الله حسن الخاتمة. الرفق بالحيوان: عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوما بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ فقال: نفقت السوق، قال: لا ولكنك أتعبته، أرحه ثلاثة أيام. الحصان ليس من الإخوان من طرائف الذكريات قصة رحلة الإمام البنا إلى مدينة بنها في مناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، وتحدث الأستاذ في هذه الذكرى حديثا شرح الصدور وشفى النفوس، وأمتع الحاضرين من العامة والخاصة والشباب والشيوخ بما في الإسراء والمعراج من معجزات ومشاهد ومواقف وتوجيهات، وبعد انتهاء هذه المحاضرة الغراء انصرف المستمعون إلا قليلا منهم ممن أدركوا أن وراء هذه الكلمات دعوة وداعية وليست مجرد كلمات ومواعظ، فاستأجر بعض الإخوان للأستاذ عربة حنطور ليركب فيها إلى محطة بنها ليعود إلى القاهرة في آخر قطار، وذلك بعد أن جلس هؤلاء القلائل من المستمعين للمحاضرة حول الإمام يسألونه في كل ما يهمهم من أمر هذه الدعوة التي يحملها إليهم ويبحث عن رجال ينهضون بها، ويفدونها بأرواحهم ¬

_ (¬1) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين 301 بتصرف.

وأموالهم، وجلس هؤلاء مع الإمام ساعات طوالا ثم انصرف الأستاذ ومعه بعض هؤلاء يودعونه حتى محطة بنها وقد اكتظت العربة بمن فيها من الراكبين حوله في العربة، وقد رجا الأستاذ إخوانه أن ينصرفوا مشكورين إلى بيوتهم، وعليهم أن يرحموا هذه العربة المكتظة، فطمأنه أحد الراكبين بقوله: لا تقلق يا أستاذنا من هذا الازدحام على العربة فإن صاحب العربة وسائقها من الإخوان! فأجاب الإمام هذا الأخ بقوله: ليكن صاحب العربة من الإخوان ولكن الحصان الذي يجر العربة ليس من الإخوان! ***

الرحمة

الرحمة الرحمة خلق من أخلاق المسلمين، ومعناها الشفقة واللين والعطف، وصف الله بها نفسه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] وأرسل بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ووصف بها الصحابة: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. والرحمة وإن كانت رقة القلب والنفس ولكنها ليست مجرد عاطفة نفسية لا أثر لها، بل إن لها مظاهر حقيقية منها العفو عن المؤمنين ومساعدة الفقراء. وإليك بعض أنواع الرحمة وهي: رحمة الله، ورحمة الرسول بأمته، والرحمة بالأطفال، والرحمة باليتامى، والرحمة بالحيوانات، والرحمة بأهل الذمة، والرحمة بالجيران، والرحمة بالوالدين، والرحمة بالخالة، والرحمة بالمحتاجين، والرحمة بالعصاة، والرحمة بالرعية .. ونسأل الله أن يرحمنا في الدنيا والآخرة. 1 - رحمة الله بعباده: قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبى" [رواه البخاري]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى عن ربه عز وجل قال:"أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت، فقد غفرت لك" [رواه مسلم] أي: إذا كان هذا دأبه، يذنب الذنب فيتوب منه، ويستغفر ولا يصر عليه ويندم، فإن الله يغفر له.

من مظاهر رحمة الله

فسارع أخي الحبيب إلى التوبة والاستغفار، واعلم أن الله غفور رحيم، يغفر الذنوب جميعا. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار" قلنا: لا وهي أقدر على أن تطرح، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" [رواه البخاري]. من مظاهر رحمة الله منها الرحمة العامة؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" [رواه البخاري]. ومنها إذا تاب العبد بدل الله سيئاته حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]. ومن رحمته إرسال الرسل إلى الناس ليأخذوا بأيديهم إلى الصواب مبشرين ومنذرين، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 5 - 6]. ومن رحمته إنزال الكتاب المبين، قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 2 - 3]. ومن رحمته إباحة المحظور، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. ومن رحمته إنجاؤه للمؤمنين حين يأخذ الكفار بالعذاب، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]. إذا منع الله عبده رزقا فهو من رحمته؛ قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]. فالناس في نظر الله كالمرضى يعطيهم الدواء على قدر الداء، فإذا أعطى الفقر أو المرض للإنسان فقد أعطاه دواء مرا في باطنه الرحمة، فالمرارة نعمة، فقد يمنع

إلهي!

الإنسان ولده المريض عن أكل اللحم والحلوى، وهو كله رحمة بولده، وقد يمسك الوالد ولده بيده، ويقدمه للطبيب ليجري له عملية جراحية والولد يتألم والوالد كله رحمة بابنه. وما من سيف لقمع ظالم أو سلاح لقهره رفع إلا وهو رحمة بالمجتمع الإنساني، وأكثر رحمته تتجلى في القصاص، فإن وجب القتل على إنسان فقُتل كان ذلك رحمة بالمجتمع لعدم انتشار الفوضى. بل إنك إذا نظرت إلى النار بعين الاعتبار، وجدت في باطنها رحمة، ولولا النار ما عرف القهار للكفار الفجار (¬1). إلهي! يا رحمن الوجود، يا من وسعت كل شيء رحمة وعلما، ظهرت رحمتك في كل ذرات الوجود فلا نرى شيئا إلا ونقرأ من آيات رحمتك ما يجذبنا إليك، وتطمئن قلوبنا بواسع حنانك. رحمتك بالعوالم دلتنا على سعة الحنان فاطمأنت قلوبنا بأنك الرحيم بجميع الأكوان، وأنت تحب الرحمة لأنها صفتك، ونحن المستحقون لها لأن عيوبنا كثيرة، فانشر علينا رحمتك يا أرحم الراحمين. الله يقسم رحمته كيف يشاء، ويدخل في رحمته من يشاء، والرحمة من الله إنعام وفضل، ونحن لا نكاد نرى آثار رحمة الله لكثرتها، وذلك بأن نعم الله لا تحصى، ولكننا نحسها إن أمسك الله بعض رحمته ونشعر وكأنها تنزع نزعا، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9] ومن المبشرات أن الله جعل الرحمة قريبة من المحسنين قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. وقفة قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. يقول سيد قطب: وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض، وفي ابتلائه في أثناء الخلافة، وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف، ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله، فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها ¬

_ (¬1) النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى- الرحمن الرحيم.

2 - رحمة الرسول بأمته

صدرا، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه، ومن شأن هذا التصور -فضلا عما يسكن في القلب من راحة وطمأنينة وأنس- أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه وهو يحس أنها داخلة في طوقه، ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه، فإذا ضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء، ما دام داخلا في مقدوره، وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق، فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته، فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه (¬1). 2 - رحمة الرسول بأمته: عن ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله قال:"زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطيت الكنزين الأصفر أو الأحمر والأبيض (يعني الذهب والفضة) وقيل لي: إن ملكك حيث زوي لك، وإني سألت الله عز وجل ثلاثا: ألا يسلط على أمتي جوعا، فيهلكهم به عامة، وألا يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض، وأنه قيل لي: إذا قضيت قضاء فلا مرد له، وإني لن أسلط على أمتك جوعا فيهلكهم، ولن أجمع عليهم من بين أقطارها، حتى يفني بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا. وإذا وضع السيف في أمتي، فلن يرفع عنهم إلى يوم القيامة، وإن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين، وستعيد قبائل من أمتي الأوثان، وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين" [رواه ابن ماجه]. وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة بأمته بل أمن الله المشركين من العذاب في الدنيا ما دام فيهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك مع استعجالهم له فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] مع أنهم طلبوا العذاب قائلين: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32]. 3 - الرحمة بالمؤمنين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" [رواه الترمذي]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي" [رواه الترمذي]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي -رضي الله عنهما- ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 1/ 344.

4 - قصة الأم الحقيقية

وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال - صلى الله عليه وسلم -:" من لا يرحم لا يُرحم" [رواه البخاري]. وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا: "اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه"، فالتفت فإذا هو رسول الله فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار" أو "لمستك النار". وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه" [رواه البخاري]. الحسين بن علي وهو طفل صغير رأى الفاروق على المنبر فقال له: انزل من على منبر أبي واصعد على منبر أبيك. فقال له الفاروق: إن أبي لم يكن له منبر، ثم أخذ الحسين وأقعده معه (¬1). فالرحمة بالأطفال تكون بعدم ضربهم على الخطأ في المرة الأولى، ويجب التبسم عند لقائهم ومداعبتهم. 4 - قصة الأم الحقيقية جاءت امرأتان إلى نبي الله سليمان، تحتكمان إليه في أمر وقع بينهما، فقد كان لكل امرأة طفل رضيع، فجاء الذئب في غفلة منهما وأخذ طفلا فأكله، فلما رأت أمه ذلك، أخذت الطفل الآخر وادعت أنه ابنها، وحينما جاءت أمه الحقيقية لتأخذه رفضت أن تعطيها طفلها، فاستمع نبي الله سليمان إلى دعواهما، وكل منهما تدعي أنه ابنها، ففكر في حيلة يعرف بها الأم الحقيقية، فقال لأصحابه: ائتوني بسكين لنشق الولد نصفين، ونعطي كل واحدة منهما نصف الطفل، فرضيت إحداهما، أما الأخرى فصاحت وقالت: لا تفعلوا به هذا ولتأخذه هي ولا تقتلوه، فعلم سليمان أنها الأم الحقيقية، لأنها رفضت أن يذبح ابنها فأعطاها الطفل. فالأم بطبيعتها تحن على أبنائها، ولكنها في بعض اللحظات عند الغضب تدعو عليهم بالشقاء، وهذا لا يصح، لأنها قد تصادف ساعة إجابة، ويجب الدعاء لهم بالرحمة والهداية. ¬

_ (¬1) حياة الصحابة (2/ 438).

ارحمي أولادك!

ارحمي أولادك! علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن جماعة من التجار جاءوا إلى المدينة، وأنهم مقيمون بالمسجد، فخرج ومعه عبد الرحمن بن عوف لحراسة التجار طوال الليل، ووسط الليل سمع عمر بكاء صبي، فتوجه نحوه، وقال لأم الصبي: اتقي الله وأحسني إلى صبيانك، ثم عاد إلى مكانه، وتكرر هذا الأمر مرة ثانية، وفي آخر الليل سمع عمر بكاء الصبي، فذهب إلى أمه وقال لها: ويحك: إني لأراك أم سوء، ما لي أرى ابنك لا يقر (يهدأ)، فغضبت الأم من كلامه -وهي لا تعرفه- وأخبرته أنها تستعجل فطام ابنها، حتى يكون له نصيب مما يعطيه عمر للمسلمين من بيت المال، فإن عمر لا يعطي الرضيع، فتأثر عمر بما سمع وبكى كثيرا، حتى إن الناس لم تسمع قراءته في صلاة الفجر من شدة بكائه، ولما انتهى من الصلاة قال: يا بؤسا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديا ينادي: ألا لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. سارع -أخي الحبيب- بعد هذه الكلمات بتقبيل أطفالك، وإظهار الحنان لهم. وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنا أو حسينا فتقدم رسول الله فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، فلما قضى رسول الله الصلاة، قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: "كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" [رواه النسائي]. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ جاء الحسن والحسين -رضي الله عنهما- عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال - صلى الله عليه وسلم - "صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" [رواه الترمذي]. من الرحمة بالأطفال مداعبتهم، فقم بعمل لعبة معهم، حتى تدخل عليهم السرور والفرحة.

5 - الرحمة بالفقراء

5 - الرحمة بالفقراء: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا أسود أو امرأة كان يكون في المسجد يقم المسجد، فمات ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموته فذكره ذات يوم فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟ " قالوا: مات يا رسول الله، قال:"أفلا آذنتموني؟ " فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته- قال: فحقروا شأنه- قال: "فدلوني على قبره"، "فأتى في قبره فصلى عليه [رواه البخاري]. 6 - الرحمة باليتامى: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال: "كالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر" [رواه البخاري]. وتوفي أبو سلمة - رضي الله عنه - تاركا زوجته أم سلمة وأولاده الأربعة: عمر وسلمة وزينب وبرة. فأشفق النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها ورق لحال أبنائها اليتامى فقرر أن يتزوجها إكراما لها، وحفاظا على أبنائها، وبعد أكثر من أربعة أشهر أرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب ليخطبها له، فقالت: أخبر رسول الله أني امرأة غيرى (شديدة الغيرة على زوجي) وأني امرأة مصبية (لي أولاد كثيرون) وليس أحد من أوليائي شاهدا (لا يوجد أحد من أهلي ها هنا) فعاد عمر فأتى رسول الله فذكر ذلك، فقال له - صلى الله عليه وسلم -:"ارجع إليهما فقل لها: أما قولك إني امرأة غيرى فسأدعو الله لك فيذهب غيرتك، وأما قولك إني امرأة مصيبة فستكفين صبيانك (سوف أتكفل برعايتهم) وأما قولك أن ليس أحد من أوليائك شاهدا فليس أحد من أوليائك شاهدا ولا غائبا يكره ذلك"، فقالت لابنها: يا عمر قم فزوج رسول الله، فزوجه [رواه النسائي]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا [رواه البخارى]. الرحمة باليتامى تكون برعايتهم وكفالتهم وإطعامهم والعطف عليهم ومساعدتهم في أمورهم. 7 - الرحمة بالحيوانات: يروي المؤرخون أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه

8 - الرحمة بأهل الذمة

فاتخذت من أعلاه عشا، وحين أراد عمرو الرحيل، رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه الفسطاط فتركه، وتكاثر العمران من حوله. ورأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال: ويلك! قدها إلى الموت قودا جميلا. الإسلام شديد المؤاخذة لمن تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وقد بين أن الإنسان على عظم قدره يدخل النار في إساءة يرتكبها مع دابة عجماء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" [رواه البخاري]. كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب، ولو بكلب، ففي رواية أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف (يدور) ببئر، قد أدلع (أخرج) لسانه من العطش، فنزعت لها بموقها (خفها) فغفر لها [رواه مسلم]. وعن المسيب بن دارم قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب جمالا، ويقول: حملت ما لا يطيق، وأعلن عمر أنه مسئول عن بغلة تعثر في العراق لم يسو لها الطريق. واشتهى الفاروق سمكا طريا فأخذ يرفأ -مولاه- راحلة فسار ليلتين مقبلا وليلتين مدبرا، واشترى مكتلا فجاء به، وقام يرفأ إلى الراحلة يغسلها من العرق فنظر إليها عمر فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر، والله لا يذوق عمر ذلك. وتقدم عمر إلى جمل تبدو عليه مظاهر الإعياء والمرض فقال له: إني لخائف أن أسأل عنك. الرحمة بالحيوان تكون بإطعامه، وعدم اللعب به وتعذيبه، وعدم ضربه، أو إحراقه بالنار، وإذا رأيت من يعذب حيوانا انهه عن ذلك. 8 - الرحمة بأهل الذمة: كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسير في طريق من طرق المدينة النورة فرأى شيخا قد شاب شعره، وانحنى ظهره، يسير مستندا على عصاه، يسأل الناس أن يتصدقوا عليه؛ لم يكن الرجل مسلما بل كان من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين تحميهم دولة

9 - الرحمة بالجيران

الإسلام، وترعاهم، وتأخذ من القادرين منهم مبلغا زهيدا (الجزية) نظير ما يقدم لهم من خدمة ورعاية، ولما علم أمير المؤمنين بأمر الرجل رق له، وشعر بالرحمة والشفقة نحوه، وقال: ما أنصفناك! أخذنا منك الجزية في شبيبتك (شبابك) ثم ضيعناك في كبرك، وأصدر أوامره بإسقاط الجزية عن الرجل، وأمر أن يصرف له مبلغ شهري من المال يكفي لقضاء حوائجه، فانصرف الرجل وهو سعيد برحمة المسلمين به. وذات يوم كان صلاح الدين يتفقد أحوال جنده فرأى امرأة من الصليبيين تبكي وتضرب على صدرها فسألها عن قصتها، فقالت: دخل المسلمون في خيمتي وأخذوا ابنتي الصغيرة، فنصحني الناس أن أذهب إليك، وقالوا: إن السلطان صلاح الدين رجل رحيم، فدمعت عينا صلاح الدين، وأمر أحد الجنود أن يبحث عن الصغيرة وعمن اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، ففرحت الأم فرحا شديدا وشكرت صلاح الدين على مروءته وحسن صنيعه (¬1). 9 - الرحمة بالجيران: أراد رجل أن يحج فأعطاه خاله عشرة آلاف درهم، وقال له: إذا قدمت المدينة فابحث عن أفقر بيت فأعط أهله هذا المبلغ، فلما وصل الرجل إلى المدينة سأل عن أفقر بيت فدلوه على بيت فذهب إليه، وطرق الباب، فأجابته امرأة، وقالت له: من أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل بغداد، معي أمانة وأمرت أن أسلمها إلى أفقر أهل بيت بالمدينة، وقد دلوني عليكم، فخذوها، فقالت المرأة: إن جيراننا أفقر منا فادفعها إليهم، فذهب إلى البيت الجاور، فأجابته امرأة فذكر لها القصة، فقالت: نحن وإياهم في الفقر سواء فاقسمها بيننا وبينهم، فقسم الرجل المبلغ بين الجارين. شفاعة أبي حنيفة حتى ولو كان الجار مؤذيا نكون رحماء به. كان للإمام أبي حنيفة النعمان جار يلهو ويغني طول الليل يزعج جيرانه ويقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 57.

موقف صعب

وكان أبو حنيفة يتضايق من أذى جاره، ولا يستطيع أن يقوم الليل ويصلي بسبب صوت جاره وغنائه، ورغم ذلك كله، فقد كان صابرا عليه. وذات يوم كان رجال الشرطة يمرون فسمعوا صوت هذا الجار، فأخذوه ووضعوه في الحبس، فلم يسمع أبو حنيفة صوت جاره كالعادة، فسأل عنه فقيل له: إن الشرطة قد حبسته فأسرع أبو حنيفة في الصباح إلى بيت الحاكم عيسى بن موسى، واستأذن في الدخول عليه، وقال له: أصلح الله الأمير، جار لي أخذه عسس الأمير (الشرطة) ليلة كذا، فوقع في حبسك، سمع عيسى بن موسى شفاعة أبي حنيفة لجاره، فأمر بإطلاق سراح ذلك الجار إكراما لأبي حنيفة، فخرج الجار من السجن، وشكر أبا حنيفة، فقال له أبو حنيفة: هل أضعناك يا فتى؟ فقال الجار: لا والله، ولم يعد مرة ثانية إلى اللهو والغناء، وكف عن إزعاج جيرانه. موقف صعب كان لعبد الله بن المبارك جار فقير، اضطرته ظروف الحياة أن يبيع داره، فقيل له: بكم تبيع؟ فقال الرجل: بألفين. فقيل له: هي لا تساوي إلا ألفا. فقال الرجل: صدقتم، ولكني أريد ألفا للدار، وألفا لجوار عبد الله بن المبارك. ولما علم عبد الله بن المبارك بذلك، أرسل إليه، وأعطاه ثمن الدار، وقال له: ابق فيها ولا تبعها. والرحمة بالجار تكون بكف الأذى وتحمل أذاه، وملاحظة داره في غيبته، والتلطف مع أولاده، وعدم النظر إلى أهله، ومساعدته إن كان محتاجا، وعدم إلقاء القمامة أمام بابه -أو من الشباك عليه- وعدم إزعاجه باللعب أو برفع صوت المذياع، ومشاركته في الأفراح والأحزان، وإعارته الأطباق والملح والزيت والسكر وغيرها، وملء الماء له إن كانت المياه لا تصل إليه. 10 - الرحمة بالوالدين: جاء أن رجلا من النساك كان كل يوم يقبل قدم أمه فأبطأ يوما على إخوانه فسألوه

احتضن أنبوبة البوتاجاز لينقذ أمه!

عن تأخيره فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة؟ فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات. والأبوان المشركان لهما حق البر كالمسلمين، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. احتضن أنبوبة البوتاجاز لينقذ أمه! في واقعة إنسانية تعتبر مثالا للرحمة بالوالدين لقي ابن مصرعه بعد أن احتضن أنبوبة بوتاجاز مشتعلة وخرج بها بعيدا عن الشقة لينقذ أمه من الحريق، استيقظ نبيل محمد أحمد (25 سنة) -وهو سائق تاكسي- من نومه مبكرا ودخل المطبخ ليعد وجبة الإفطار له ولأمه التي كانت في صالة الشقة، وعندما أشعل الثقاب اكتشف أن الأنبوبة بها تسرب، واشتعلت النيران بالأنبوبة، وشاهدت أمه النيران فصرخت .. وقال الابن قبل وفاته إنه عندما شاهد الأنبوبة مشتعلة خاف على أمه من الحريق فاحتضن أنبوبة البوتاجاز وخرج بها من الشقة (¬1). ومن الرحمة بالوالدين: إكرامهما وعدم رفع الصوت عليهما، وعدم مقاطعتهما أثناء الكلام، وعدم الخروج من الدار إلا بإذنهما، وتقبيل أيديهما، ومخاطبتهما بلطف، والنهوض لهما إذا دخلا عليه، وعدم إزعاجهما إذا كانا نائمين، وعدم تفضيل الزوجة والولد عليهما، وعدم مد اليد إلى الطعام قبلهما، وعدم النوم وهما جالسان إلا إذا أذنا بذلك، وعدم مد الرجلين أمامهما، وعدم المشي أمامهما، وإكرام أصحابهما في حياتهما وبعد موتهما، وعدم مصاحبة إنسان غير بار بوالديه، والدعاء لهما. 11 - الرحمة بالأقارب: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلا أتى النبي فقال: إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي توبة؟ فقال: "هل لك من أم؟ " قال: لا، فقال: "هل لك من خالة؟ " قال: نعم، فقال: "فبرها إذًا" [رواه الترمذي]. وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد ¬

_ (¬1) جريدة الأخبار 9/ 7/ 2000.

12 - الرحمة بالمحتاجين

الله بن عمر رضي الله عنهما: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإنى سمعت رسول الله يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل وفى أبيه" [رواه مسلم]. فيجب صلة الرحم وإكرامهم ومساعدتهم في الشدائد، ومشاركتهم في الأفراح والأحزان. 12 - الرحمة بالمحتاجين: وجاءت امرأة إلى أبي حنيفة بثوب من الحرير لتبيعه له فقال لها: كم ثمنه؟ قالت: ثمنه مائة درهم. فقال: كلا إنه يساوي أكثر من مائة درهم، فتعجبت المرأة من هذا المشتري الذي يرفع السعر الذي يشتري به، وأخذت تزيد في الثمن مائة بعد مائة، حتى قالت: إذن فخذه بأربعمائة درهم. فقال: إن ثمنه أكثر من ذلك. فقالت: أتهزأ بي؟ قال: هات رجلا يقدر لنا ثمنه، فذهبت وأحضرت رجلا، فقال لها: هو بخمسمائة درهم، فاشتراه أبو حنيفة بهذا الثمن. رحمة عمر بن عبد العزيز دخلت فاطمة على عمر بن عبد العزيز فوجدته واضعا خده على يده جالسا في مصلاه ودموعه تسيل على خديه، فقالت: ما بالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة! لقد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد، فخشيت ألا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت. فتذكر إخوانك المحاصرين في أرض فلسطين، لا يجدون طعاما ولا شرابا، اسأل الله لهم النصر على أعدائهم.

لا تسبوه

لا تسبوه مر أبو الدرداء - رضي الله عنه - بجماعة قد تجمهروا على رجل وجعلوا يضربونه ويشتمونه فأقبل عليهم وقال: ما الخبر؟ قالوا: رجل وقع في ذنب كبير. قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منها؟ قالوا: بلى. قال: لا تسبوه ولا تضربوه وإنما عظوه وبصروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي. فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته (¬1). الرحمة بالعصاة تكون بتبصيرهم بأخطائهم والدعاء لهم بالهداية. 13 - الرحمة بالرعية: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتوخى الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغرروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزل هلكة، وكتب عمر لرجل من بني أسلم كتابا يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر في حجر أبيهم يقبلهم، فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما قبلت ولدا لي قط. فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملا، ورده عمر فلم يستعمله. وغزت بعض الجيوش بلاد فارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر، فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أن أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولم يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة، فقال: يالبيكاه يالبيكاه! وبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه. ... ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 212.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى للناشر 1428 هـ - 2007 م رقم الإيداع: 24181/ 2006 الترقيم الدولي: I.S.B.N 8-006-441-977 مركز السلام للتجهيز الفني عبد الحميد عمر 0106962647 مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة 10 ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط القاهرة ت: 5326610 محمول: 0102327302 - 0101175447 WWW.Iqraakotob.com Email:[email protected]

إهداء إلى كل من علمني حرفًا من القرآن وأرشدني إلى طريق الإيمان إلى أمي التي سهرت على راحتي إلى أبي الذي تعب في ترييتي إلى زوجتي التي ساعدتني إلى ابنتي واسأل الله أن يبارك فيها إلى كل من كان له فضل عليَّ ياسر عبد الرحمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشجاعة

الشجاعة الشجاع هو: الجريء المقدام، الجمع شجعان، وشجع شجاعة: قوي قلبه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" [متفق عليه]. أنواع الشجاعة: خالد بن الوليد في مؤتة: في غزوة مؤتة استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاتفق المسلمون على أن يتولى خالد بن الوليد، فلما تولى في القيادة فكر في حيلة لينجو بالجيش، لأنه لا يمكنه التغلب على قوات الروم الكثيرة بهذا العدد القليل من المسلمين، فغير أماكن الجنود، وأمر بعض الكتائب أن تبتعد عن ساحة القتال، ثم يأتون مندفعين أثناء المعركة وهم يكبرون، ويثيرون التراب بخيولهم، وفي الصباح، فوجيء جنود الروم بوجوه جديدة من الجنود المسلمين لم يروها من قبل في الأيام الماضية، ثم جاءت الكتائب الأخرى فظنها الروم مددا لجيش المسلمين، فدب الرعب في قلوبهم، وفي الليل سحب خالد جيشه من المعركة تدريجيا حتى لا يلاحقهم الروم، وهكذا استطاع أن ينقذ جيش المسلمين. من الشجاعة عدم الخوف من كثرة الباطل فإنه غثاء. أشجع الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أيها الناس، أخبرونى من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين. قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟

الدفاع عن الدين

قال: أبو بكر - رضي الله عنه - أنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشا، فقلت: من يكون مع رسول الله لا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرا السيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس. شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا قال: فتلقاهم النبي على فرس لأبي طلحة عري وهو متقلد سيفه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لم تراعوا لم تراعوا" [رواه البخاري] (الزوع الخوف والفزع). شجاعة الصحابة في غزوة الخندق نادى عمرو بن ود على المسلمين ليخرج إليه من بينهم من يبارزه فقام علي - رضي الله عنه - فقال: أنا يا رسول الله، فقال: "اجلس" ثم الثانية ثم الثالثة فقال: "يا على إنه عمرو بن عبد ود" فقال: وإن كان عمرا. فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك فغضب فنزل فسل سيفه كأنه شعلة نار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم أعن عليًا عليه"، وكان علي قد دعاه إلى الإسلام، فرفض وبدأت المبارزة وهجم علي عليه كالصقر فقتله ثم كبر، فكبر معه المسلمون فرحا. الدفاع عن الدين إن المواقف الصادقة والأحاديث الصريحة والعمل الجاد ومواجهة المشكلات بجرأة وثبات وصمود أمام التحديات كانت السمة البارزة للأستاذ عمر التلمساني، ففي حديث مفتوح للرئيس أنور السادات بمدينة الإسماعيلية حضره الأستاذ عمر التلمساني، بناء على دعوة وجهت إليه، وبث في الإذاعة والتليفزيون على الهواء مباشرة، اتهم السادات التلمساني بالفتنة الطائفية وساق أنواعا من التهم، فما كان من الأستاذ التلمساني إلا أن انبرى واقفا يرد على السادات بقوله: "الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع على من أي

حرق أعصاب الظالم

جهة أن أشكو صاحبه إليك، بصفتك المرجع الأعلى للشاكين -بعد الله- وهأنذا أتلقى الظلم منك، فلا أملك إلا أن أشكوك إلى الله" وما إن سمع السادات مقولة التلمساني حتى أصابه الذعر والرعب وناشد التلمساني أن يسحب شكواه، فقال التلمساني بقوة وأدب: إني لم أشكك إلى ظالم، وإنما شكوتك إلى رب عادل يعلم ما أقول. حرق أعصاب الظالم يقول الأستاذ التلمساني: كنت في سجن مصر، ودخل علينا شخصية كبيرة من الحكومة في الزنزانة، فقمت تلبية (الشخطة العسكري) انتباه، أما الأستاذ الهضيبي فلم يتحرك من مكانه، وكأنه لم ير أحدا ولم يسمع صيحة الشاويش، فقال له رجل الحكومة: لو كنت على حق لنصرك الله علينا. فرد عليه وهو في جلسته الهادئة: إن المسلمين هزموا في موقعة أحد، وهم على الحق. فلم يرد رجل الحكومة وانصرف ساكتًا، وبعد خروج هذا الشخص لامني فضيلته على قيامي وعلمني أن الظالم لا يحرق أعصابه إلا عدم اهتمام الناس بمظهره وقوته الجوفاء (¬1). هكذا كانوا أقبل حذيفة بن محصن على رستم في هيئة تشبه هيئة ربعي، السفير السابق، حتى وصل إلى أقرب بساط، قال له أتباع رستم: انزل من على فرسك. قال: ذلك لو جئتكم في حاجة خاصة بي فقولوا لملككم، أله حاجة أم لا؟ فإن قال: لا، فقد كذب ورجعت وتركتكم، فإن قال: نعم لم آتكم إلا على ما أحب. فقال رستم: دعوه، فدخل حذيفة راكبا فرسه، حتى وقف على رستم وهو على سريره، فقال له رستم: انزل. قال: لا أفعل وأبى، فلما رآه رستم مصرا على الركوب تركه وشأنه، ثم وجه له سؤالا: ما بالك جئت ولم يجيء صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي. قال رستم: ما جاء بكم؟ ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين 80، 81.

ما حجتك عند الله؟

فقال حذيفة: إن الله عز وجل منَّ علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه، وكنا منكرين، ثم أمرنا بدعوة الناس، إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزية ونمنعكم إن أجبتم إلى ذلك، أو المنابذة. فقال رستم: أو الموادعة إلى يوم ما. قال حذيفة: نعم، ثلاث من أمس، فلما لم يجد رستم عنده إلا ذلك طلب منه العودة إلى أصحابه، فانصرف عائدا إليهم. وأقبل رستم على قواده لعلهم يقبلون مصالحة المسلمين، فقال لهم: ويحكم! ألا ترون إلى ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم وأقام فرسه على فرشنا وربطه به، فهو في يمن الطائر، ذهب بأرضنا ومن فيها إليهم، من فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا، فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا (¬1). ما حجتك عند الله؟ مر والي البصرة بمالك بن دينار متبخترا بمشيته فصاح به: أقل من مشيتك هذه، فهمَّ خدمه به، فقال: دعوه، ما أراك تعرفني. فقال له مالك: وما أعرف بك مني، أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة، فنكس الوالي رأسه ومشى (¬2). استحضر هيبة الله كان العز بن عبد السلام شجاعا مقداما، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟ واستطرد الشيخ قائلا: نعم تباح الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون. ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق 199، 200. (¬2) المصفى (1/ 78).

بين منذر بن سعيد وعبد الرحمن الناصر

فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم. فقال الشيخ: يا بني، رأيت السلطان في تلك العظمة، فأردت أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه. قال التلميذ: أما خفته؟ قال العز: والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى فلم أخف منه (¬1). بين منذر بن سعيد وعبد الرحمن الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر عمل في بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة، وجلس فيها، ودخل الأعيان، فجاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة كما قال لمن قبله: هل رأيت أو سمعت أن أحدا من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر، ثم قال: والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان -لعنه الله- يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن يمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين، حتى ينزلك منازل الكافرين. فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال: انظر ما تقول، وكيف أنزلتني منزلتهم؟ قال: نعم، أليس الله تعالى يقول: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] إلى قوله: َ {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف:33 - 35]. فنكس الناصر رأسه طويلا ودموعه تتساقط، ثم قال: جزاك الله عنا خيرا وعن المسلمين، والذي قلت هو الحق، وأمر بنقض سقف القبة (¬2). ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 121. (¬2) من يظلهم الله (1/ 244، 245).

الترفع عن الذلة

أبو العتاهية وهارون الرشيد وضع هارون الرشيد طعاما وزخرف مجالسه وزينها، وأحضر أبا العتاهية، وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا. فقال أبو العتاهية: عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال: يسعى إليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور فقال: حسن، ثم ماذا؟ فقال أبو العتاهية مندفعا: فإذا النفوس تقعقعت ... في ظل حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور فبكى الرشيد، فزجر أحد الحاضرين أبا العتاهية لأن المقام مقام فرح وسرور، فقال الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا منه (¬1). الترفع عن الذلة كما حدث في غزوة أحد فعندما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة، وقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجيبوه"، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجيبوه"، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجيبوه" ثم التفت إلى أصحابه فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه فقال. كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان، اعل هبل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجيبوه"، فقالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل"، قال أبو سفيان: لنا العزى، ولا عزى لكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم"، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 49.

شجاعة المعتصم

وتجدون مثله لم آمر بها ولم تسؤني، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله ياعمر، أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر؛ لقول ابن قمئة لهم: إني قد قتلت محمدا. كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم، لأن في علمهم أنهم أهل الإسلام، وبهم قام صرحه، وأركان دولته، وفي موتهم يعتقد المشركون أنه لا يقوم الإسلام بعدهم، وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيرا له، حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة (¬1). شجاعة المعتصم كان المعتصم بالله شجاعا، كتب إليه ملك الروم يهدده، فأمر أن يقرأوا له رسالته، فلما قرئت أمر برميها، وقال للكاتب: اكتب: أما بعد فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42] (¬2). لطمة على وجه اليهودي دخل أبو بكر - رضي الله عنه - المدراس (مكان يتلو فيه اليهود التوراة) فوجد فيها ناسا قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم فوالله إنك تعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله. ¬

_ (¬1) عمر بن الخطاب، للصلابي 48، 49. (¬2) أعلام المسلمين 51.

الشيخ الإنباني

فذهب فنحاص إلى رسول الله فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعت؟ ". فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه، وتصديقا لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]. ونزل في أبي بكر الصديق وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] (¬1). الشيخ الإنباني يوم تسلط الاستعمار الإنجليزي على مصر، وطأطأ الكثيرون رءوسهم وقف علماء الأزهر يشمخون برءوسهم استعلاء أمام جبروت المستعمر. وأراد اللورد (كرومر) -جبار مصر وحاكمها آنذاك- أن يستعطف علماء الأزهر، عسى أن يخففوا من معارضتهم للاستعمار، فجمع من حوله بعض المارقين من المتعاونين معه، ومضى بهم يريد زيارة العالم المؤمن الشيخ الإنباني، شيخ الجامع الأزهر يوم ذاك، وعندما دخل كرومر على الشيخ، وجده جالسا فانتظر اللورد كرومر قليلا، عسى أن يقف العالم المؤمن لاستقباله، لكنه لم يفعل فتقدم كرومر من الشيخ مادًّا يده للسلام عليه، وهو يحسب أن الشيخ سيضطر للوقوف له لرد السلام عليه، لكن الشيخ المؤمن بقى جالسا، ومد يده باستخفاف يرد على الجبار الإنجليزي تحيته، فثارت ثائرة كرومر وكاد يأمر بالفتك بالعالم المؤمن الذي تحدى سلطانه وجبروته، لكنه سرعان ما أدرك أن أي إساءة للشيخ -وهو رمز الأزهر كله- ستفتح عليه أبوابًا جديدة من المتاعب لا قبل له بها، فتصنع الهدوء وانحنى أمام العالم المؤمن يسأله بمودة مصطنعة: ألست تقف للخديوي إذا دخل عليك، أيها الشيخ الجليل؟ ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء101.

شجاعة غلام

فأجابه الشيخ: بلى، إني أرد تحيته بمثلها أو بأحسن منها. فيقول كرومر بخبث: فلماذا لم تقم لي أيها الشيخ؟ فيأتيه جواب الشيخ شواظا من نار، يجسد كل ما يمثله الأزهر وشيخه وعلماؤه من رمز رافض للاستعمار البريطاني وأعوانه: أيها اللورد، إن الخديوي مسلم منا، لذلك أرد عليه تحيته، أما أنت فلست منا، إنك عدونا، فكيف أقوم لك؟ (¬1). شجاعة غلام: بينما الحجاج جالس وعنده وجوه أهل العراق، أتى بصبي، فلما أدخل عليه لم يعبأ بالحجاج ولم يكترث به وإنما صار ينظر إلى البناء وما فيه من العجائب، ويلتفت يمينا وشمالا، ثم اندفع يقول: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: 128 - 129]. وكان الحجاج متكئا فاستوى في مقعده، وقال: يا غلام، إني أرى لك عقلا وذهنا، حفظت القرآن؟ قال الغلام: أو خفتُ عليه من الضياع حتى أحفظه وقد حفظه الله تعالى؟ قال: أجمعت القرآن؟ قال الغلام: أو كان مفرقا حتى أجمعه؟ قال: أفأحكمت القرآن؟ قال: أليس الله أنزله محكما؟ قال الحجاج: أفأستظهرت القرآن؟ قال: معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري. فقال الحجاج وقد ثار غضبا: ويلك! قاتلك الله، ماذا أقول؟ قال الغلام: الويل لك ولقومك، قل: أوعيت القرآن في صدرك؟ فقال الحجاج: فاقرأ شيئا. فاستفتح الغلام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء86.

نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا. فقال الحجاج: ويحك! إنهم يدخلون، فرد عليه الغلام قائلا: كانوا يدخلون أما اليوم فقد صاروا يخرحون. فقال الحجاج: ولم؟ قال الغلام: لسوء فعلك بهم. قال الحجاج: ويلك يا غلام! وهل تعرف من تخاطب؟ قال الغلام: نعم، شيطان ثقيف: الحجاج. قال الحجاج: ويلك! من رباك؟ قال الغلام: الذي زرعني. قال الحجاج: فمن أمك؟ قال الغلام: التي ولدتني. قال الحجاج: فأين ولدت؟ قال الغلام: في بعض الفلوات. قال الحجاج: فأين نشأت؟ قال الغلام: في بعض البراري. قال الحجاج: أمجنون أنت فأعالجك؟ قال الغلام: لو كنت مجنونا لما وصلت إليك ووقفت بين يديك، كأنني ممن يرجو فضلك أو يخاف عقابك. قال الحجاج: فما تقول في أمير المؤمنين؟ قال الغلام: رحم الله أبا الحسن - رضي الله عنه -، وأسكنه جنان خلده. قال الحجاج: ليس هذا عنيت، إنما أعني عبد الملك بن مروان. قال الغلام: الفاسق الفاجر. قال الحجاج: ويحك! بم استحق اللعنة أمير المؤمنين؟

قال الغلام: أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماء والأرض. قال الحجاج: وما هي؟ قال الغلام: استعماله إياك على رعيته، تستبيح أموالهم، وتستحل دماءهم. فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: ما تشيرون في هذا الغلام؟ قالوا: اسفك دمه، فقد خلع الطاعة، وفارق الجماعة. فقال الغلام: يا حجاج! جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك، حيث قالوا لفرعون عن موسى عليه السلام وأخيه: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] وهؤلاء يأمرون بقتلي، إذن والله تقوم عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين ومذل المستكبرين. فقال له الحجاج: هذب ألفاظك، وقصر لسانك، فإني أخاف عليك بادرة الأمر، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. فقال الغلام: لا حاجة لي بها، بيض الله وجهك، وأعلى كعبك. فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: "بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ ". قالوا: الأمير أعلم. قال: أراد بقوله: "بيض الله وجهك" العمى والبرص، وبقوله: "أعلى كعبك" التعليق والصلب. ثم التفت إلى الغلام وقال له: ما تقول فيما قلت؟ قال الغلام: قاتلك الله، ما أفهمك! فاستشاط الحجاج غضبا، وأمر بضرب عنقه، وكان الرقاشي حاضرا، فقال: أصلح الله الأمير، هبه لي. قال الحجاج: هو لك، لا بارك الله لك فيه. فقال الغلام: والله لا أرى أيكما أحمق من صاحبه؟ الواهب أجلا قد حضر، أم المستوهب أجلا لم يحضر؟ فقال الرقاشي: استنقذتك من القتل وتكافئني بهذا الكلام؟

فقال الغلام: هنيئا لي الشهادة إن أدركتني السعادة، والله إن القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أرجع إلى أهلي صفر اليدين. فأمر له الحجاج بجائزة وقال: يا غلام قد أمرنا لك بمائة ألف درهم، وعفونا عنك، لحداثة سنك وصفاء ذهنك، وحسن توكلك على الله، وإياك والجرأة على أرباب الأمر، فتقع مع من لا يعفو عنك. فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، ولا جمع الله بيني وبينك ... ثم همَّ بالخروج فابتدره الغلمان، فقال الحجاج: دعوه، فوالله ما رأيت أشجع منه قلبا، ولا أفصح منه لسانا، ولعمري ما وجدت مثله قط، وعسى هو أن يجد مثلي، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره. ***

الاعتدال

الاعتدال دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى الاعتدال في أمور الدين والدنيا، كما حث على عدم الغلو، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" [رواه البخاري]. الدلجة: السير أول الليل. فسددوا: أي توسطوا في العمل، وقاربوا: أي دون إفراط ولا تفريط، فالإفراط هو مجاوزة الحد والغلو فيه، والتفريط هو التقصير في الشيء وتضييعه. ومن دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر" [رواه مسلم]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ ". قلت: بلى يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -:"فلا تفعل وصم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا" [رواه البخاري]. الاعتدال في العبادة فالإسلام لا يدعو إلى الرهبنة والانقطاع للعبادة، وإنما يدعو إلى الوسطية بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، فهو القائل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وهو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9 - 10]. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في الدين وهو المغالاة والتعسير على النفس والتشديد

ومن أمثلة الاعتدال في العبادة

عليها، مما يؤدي إلى الملل، وترك الواجبات، وترك ما أحل الله تعالى لعباده، وإلزام الإنسان نفسه بما لا يلزمه به الشرع، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا، والمتنطعون: أي المتشددون في غير موضع التشدد [رواه مسلم]. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم. أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" [رواه البخاري]. ومن أمثلة الاعتدال في العبادة: عدم الإطالة بالناس في صلاة الجماعة، لما في ذلك من مشقة على المصلين، لأن فيهم الضعيف، والشيخ، وذا الحاجة، أما إذا صلى منفردا فليطل كما شاء. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فيها. قال: فما رأيت النبي قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: "أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الكبر والضعيف وذا الحاجة" [رواه البخاري]. ويقول جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كنت أصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات، فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا (والقصد ما بين الطول والقصر) [رواه مسلم]. كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال في قيام الليل، وكانت من سنته أن يصلي أقل من ثلثي الليل، أو نصفه أو ثلثه، فعن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال: "من هذه؟ " فقلت: امرأة لا تنام (تصلي) قال: "عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا" [رواه مسلم]. كما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم، رحمة بأمته، ولأن المؤمن القوي خير وأحب إلى

الله من المؤمن الضعيف، ولأن الإسلام في حاجة إلى رجال أقوياء أشداء يستطيعون رد أعدائه ونشر الإسلام في بقاع الأرض، فعندما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أصحابه يصلون الصيام باليومين والثلاثة قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والوصال، إياكم والوصال! " قيل: إنك تواصل قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" [رواه البخاري]. كما يجب التوسط في كل مجالات الإنفاق الدنيوية، فلا يكون بخيلا يبغصه من حوله، ولا يكون مسرفا يضيع من حوله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. وقواما أي: وسطا. ***

النصيحة

النصيحة النصيحة لغة: من "نصح الشيء نصحا ونصوحا ونصاحة". ويقال: نصحت توبته: خلصت من شوائب العزم على الرجوع، ونصح قلبه: خلا من الغش، ونصح لفلان الود أو المشورة: أخلص، ونصح فلانا ونصح له: أرشده إلى ما فيه صلاحه فهو ناصح، والناصح: الخالص من كل شيء. ويقال: امرؤ ناصح الجيب: لا غش عنده، والنصح: إخلاص المشورة، والنصيحة: قول فيه دعوة إلى صلاح ونهي عن فساد. معنى النصيحة يقول المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا أصفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، أو مشتقة من النصح وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم بالمنصحة، ومنه التوبة النصوح: كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. ويقول الإمام أبو عمر بن الصلاح: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا. النصيحة ليست كلمة عابرة يلقى بها إلى الآخر، ظاناً بذلك أنه قد فعل ما يأمره به دينه، بل النصيحة أدب إسلامي له أهميته الكبرى. أهمية النصيحة 1 - وظيفة الرسل والأنبياء: قال تعالى على لسان نوح: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وعلى لسان هود: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 86] وعلى لسان صالح: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] وعلى لسان شعيب: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} [الأعراف: 93].

طلب النصيحة

2 - نوع من الجهاد: قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. أي لا حرج ولا سبيل على هؤلاء الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله من أجل الجهاد مع النبي ولا يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه من دابة- لا حرج عليهم في حالة واحدة هي أن ينصحوا لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الدين النصيحط قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" [رواه مسلم]. 3 - من أحب الأعمال إلى الله: سئل. ابن المبارك: أي الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله (¬1). ويقول الحسن البصري: قال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده، إن شئتم لأقسمن لكم بالله إن أحب عباد الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة (¬2). طلب النصيحة كان الوزير نظام الملك يكثر من إدخال أحد الفقهاء عليه، فسئل في ذلك، فقال: هذا الفقيه يدخل عليَّ فلا يطريني، ولا يغرني، بل يذكرني بذنوبي وتقصيري فيخرج من عندي، وقد غسلت نفسي من الكبر، ثم هو لا يقبل مني عطاء ولو اجتهدت في إقناعه، أما غيره فأشعر حين يخرجون من عندي أن نفسي تغر ويعتريها غفلات (¬3). أين من ينصحك؟ طلب عمر بن عبد العزيز من مولاه مزاحم قال له: إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعلا لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه، وطلب -رحمه الله- الطلب نفسه من عمرو بن مهاجر وقال له: يا عمرو ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم 83. (¬2) المصدر نفسه 82. (¬3) حطم صنمك 156.

وجوب النصيحة

إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يديك في تلابيبي، ثم هزني، ثم قل لي: ماذا تصنع؟ بل الأعجب من ذلك أنه لما استخلف -رحمه الله- قال لمن حوله: انظروا رجلين من أفضل ما تجدون، فجيء برجلين فكان إذا جلس مجلس الإمارة أمر فألقي إليهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس شر وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلي، فإذا رأيتما مني شيئا لا يوافق الحق، فخوفاني وذكراني بالله عز وجل (¬1). وجوب النصيحة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استنصحك فانصح له" [رواه أحمد]. وقال أيضا - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أذى فليمطه عنه" [رواه الترمذي]. ويقول مصطفى مشهور: "نحن بشر، وكلنا فيه نقص وعيوب، وواجب المسلمين أن يبصر بعضهم بعضا بما فيهم من نقص أو عيوب، فالمؤمن مرآة أخيه، ومن صفات المؤمنين أنهم يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، فالواجب ألا تحول مواقع المسئولية مهما تدرجت دون تبادل هذه النصائح (¬2). ويقول عبد الله ناصح علوان: ولا يمكن أن تكون -يعني الأخوة- كذلك حتى يكون الأخ مرآة أخيه المؤمن، فإن رأى أحدهما من الآخر خيرا شجعه عليه وطلب منه المزيد، وإن رأى منه نقصا أو خللا نصحه سرا وطلب منه أن يتوب إلى الله ويرجع إلى الهدى ودين الحق، وفي ذلك تعاون كبير على التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وسعي حثيث لتكون الشخصية المتآخية على أسس الإسلام وميزان الشريعة وإلى هذه النصيحة الخالصة لله بايع النبي أصحابه عليها ليكونوا في المجتمع دعاة حق، وهداة خير، ورجال دعوة حيثما حلوا، وأينما ارتحلوا (¬3). الفرق بين الغيبة والنصيحة يقول ابن القيم: والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد، فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق. به أحد، كما قال النبي لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية ¬

_ (¬1) حطم صنمك 15. (¬2) القائد القدوة على طريق الدعوة. (¬3) الأخوة الإسلامية 18، 19.

نصيحة في السجن

وأبي جهم، فقال: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضح عصاه عن عاتقه". فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين، فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات، وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه، والغض منه لتضع من منزلته في قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب (¬1). نصيحة في السجن يقول الشيخ عبد البديع صقر: لقيني الأستاذ الهضيبي في السجن الحربي ذات مرة أمام دورة المياه، فقال لي: في كم تختم القرآن؟ قلت: كل 15 يوما، قال: وما يمنعك أن تختم كل ثلاثة أيام؟ اقرأ جزءين بعد كل صلاة وأنت على وضوء، هذه فرصة لن تتكرر (¬2). نصيحة مؤثرة يقول أحد الشباب: خرجت ذات يوم بسيارتي لقضاء بعض الأعمال، وفي أحد الطرق الفرعية الهادئة قابلني شاب يركب سيارة صغيرة، لم يرني، لأنه كان مشغولا بملاحقة بعض الفتيات في ذلك الطريق الخالي من المارة. كنت مسرعا فتجاوزته، فلما سرت غير بعيد قلت في نفسي: أأعود فأنصح ذلك الشاب؟ أم أمضي في طريقي وأدعه يفعل ما يشاء؟ وبعد صراع داخلي دام عدة ثوان فقط اخترت الأمر الأول. عدت ثانية، فإذا به قد أوقف سيارته وهو ينظر إليهن ينتظر منهن نظرة أو التفاتة، فدخلن في أحد البيوت. أوقفت سيارتي بجوار سيارته، نزلت من سيارتي واتجهت إليه، سلمت عليه أولا، ثم نصحته فكان مما قلته له: تخيل أن هؤلاء الفتيات أخواتك أو بناتك أو قريباتك فهل ترضى لأحد من الناس أو يؤذيهن؟ كنت أتحدث إليه وأنا أشعر بشيء من الخوف، فقد كان شابا ضخما ممتليء الجسم، كان يستمع إلي وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة. وفجاة التفت إلي، فإذا دمعة قد سالت على خده، فاستبشرت خيرا، وكان ذلك دافعا لي لمواصلة النصيحة، لقد زال الخوف مني تماما، وشددت عليه في الحديث حتى رأيت أني قد أبلغت في النصيحة. ثم ودعته، لكنه استوقفني، وطلب مني أن أكتب له رقم ¬

_ (¬1) الروح 292، 293. (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين 111.

آداب الناصح

هاتفي وعنواني، وأخبرني أنه يعيش فراغا نفسيا قاتلا، فكتبت له ما أراد. وبعد أيام جاءني في البيت، لقد تغير وجهه وتبدلت ملامحه، فقد أطلق لحيته وشع نور الإيمان في وجهه. جلست معه، فجعل يحدثني عن تلك الأيام التي قضاها في التسكع في الشوارع والطرقات وإيذاء المسلمين والمسلمات، فأخذت أسليه، وأخبرته بأن الله سبحانه واسع المغفرة، وتلوت عليه قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. فانفرجت أسارير وجهه، واستبشر خيرا، ثم ودعني وطلب مني أن أرد الزيارة، فهو في حاجة إلى من يعينه على السير في الطريق المستقيم، فوعدته بالزيارة. مضت الأيام، وشغلت ببعض مشاغل الحياة الكثيرة، وجعلت أسوِّف في زيارته. وبعد عدة أيام، وجدت فرصة وذهبت إليه، طرقت الباب فإذا بشيخ كبير يفتح الباب، وقد ظهرت عليه آثار الحزن والأسى، إنه والده. سألته عن صاحبي، أطرق برأسه إلى الأرض، وصمت برهة ثم قال بصوت خافت: يرحمه الله ويغفر له، ثم استطرد قائلا: حقا إن الأعمال بالخواتيم. ثم أخذ يحدثني عن حاله وكيف أنه كان مفرطا في جنب الله بعيدا عن طاعة الله، فمنَّ الله عليه بالهداية قبل موته بأيام، لقد تداركه الله برحمته قبل فوات الأوان. فلما فرغ من حديثه عزيته ومضيت، وقد عاهدت الله أن أبذل النصيحة لكل مسلم (¬1). آداب الناصح 1 - عدم كتمان النصيحة: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "حق المسلم على المسلم ست"، قيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" [رواه مسلم]. 2 - أن يكون قدوة: كتب رجل إلى صديق له: أما بعد فعظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك، واستح من الله بقدر قربه منك، وخفه بقدر قدرته عليك، والسلام. ¬

_ (¬1) توبة رجال مشاهير 5: 10.

آداب المنصوح

3 - أن تكون النصيحة سرا: قال الشافعي: تغمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينصح أحد الحاضرين يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ما بال أحدكم يفعل كذا"، وقيل: النصح ثقيل فلا تجعله جبلا، ولا ترسله جدلا. فالنفس البشرية لا تقبل أن يطلع الناس على عيبها، فلو نصحت أخاك سرا كان ذلك أرجى لقبوله النصيحة، أما إذا نصحته علنا أمام الناس، فقد يظن أنك تشهر به، وتظهر الفضل والعلم عليه، وقد يمنعه ذلك من تقبل النصيحة، بل قد يرفضها في الحال إنكارا لفعلك مع اقتناعه بالنصيحة. يقول البنا: "إن النصيحة إذا ساءت انقلبت إلى فضيحة، ومن واجبنا أن نجعل النصيحة خالصة لوجه الله ومهذبة، وكان رسول الله إذا أتى أحد في مجلسه شيئا منافيا يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا ويفعلون كذا". آداب المنصوح 1 - تقبل النصيحة بصدر رحب: دون ضجر أو تكبر، وقد قيل: تقبل النصيحة على أي وجه، وقدمها على أحسن وجه. 2 - عدم الإصرار على الباطل: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]. 3 - شكر الناصح: يجب على المنصوح أن يقدم الشكر لمن نصحه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أحب الناس إلي من أهدى إليَّ عيبا. ***

بر الوالدين

بر الوالدين ذكر الوالدان في القرآن في 14 موضعا، وذكر البر في 8 مواضع والأبرار في 6 مواضع منها: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]. ووصف الله نفسه بالبر في قوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] جعل الإحسان للوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها: أنهما سبب وجود الولد، فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين، وإن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثوابا، وإنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وكذلك الوالدن. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ثلاث آيات مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها؛ قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، والثانية قوله تعَالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20] فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، والثالثة قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]. وهذه الآية جامعة ومشتملة على جميع الحالات التي يكون عليها الآباء والأبناء. ووصف الله تعالى يحيى بن زكريا قبل ولادته بقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14] وذكر عيسى عليه السلام الصفات الكبرى التي أنعم الله عليه فذكر منها بره بوالدته: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. الأدب مع الوالدين بر الوالدين واجب ولو كان الأبوان كافرين أو فاسقين، غير أنه لا يطيعهما في معصية الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي

طاعة لأمي

الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]. نصح إبراهيم أباه بأسلوب عذب رقيق تبدأ كل جملة فيها بكلمة يا أبت: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 41 - 47]. طاعة لأمي عن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ألف درهم. قال: فعمد أسامة بن زيد إلى نخلة فعقرها (قطعها) فأخرج جمارها (قلب النخلة) فأطعمه أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها. أحمد بن حنبل لما بلغ الخامسة عشرة من عمره، جاء إلى بغداد عالم كبير، وأقام في الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة، وارتفع ألموج حتى أدرك قصر الرشيد، فتركه إلى قصر بعيد، ولكن طلاب العلم هرعوا إلى الضفة الأخرى في الزورق، وأبى أحمد بن حنبل حين دعاه زملاؤه إلى العبور قائلا: أمي لا تدعني أركب الماء في هذا الفيضان، وترك العبور وعاد إلى أمه لتطمئن عليه. وكم كان أحمد بارا لأمه! لقد أبى الزواج ليتفرغ لخدمة أمه، فما تزوج إلا بعد أن ماتت وكان قد بلغ أكثر من ثلاثين عاما، لكيلا يدخل على الدار سيدة، أبى أن تنازع أمه السيادة على الدار. لقد أدرك منذ نشأ أن أمه في سبيل توفير حياة كريمة له رفضت الخطاب من أجله، فحرص أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدروس حتى حصل علوما ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. رأى أمه تبيع حليها، لتعينه على طلب العلم فأقسم بينه وبين نفسه أن يعمل على

موعظة

مساعدتها، وكان حريصا على أن يوجد له عملا يساعد به على الإنفاق، وقد وفق كثيرا في ذلك. هل فكرت يوما في رد الجميل لأمك؟ موعظة أيها المضيع لبر الوالدين، بر الوالدين عليك دين، وأنت تتعاطاه باتباع الشياطين، تطلب الجنة بزعمك، وهي تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كانها تسع حجج، وأرضعتك من لبنها،، وآثرتك بالغذاء على نفسها، فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، لو خيرت بين حياتك وموتها، لطلبت حياتك بأعلى صوتها، ومع هذا كم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعت وهي جائعة، وقدمت عليها أهلك وأولادك، قد هجرتها وما لها سواك، هذا مولاك قد نهاك على التافف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في الدنيا بعقاب البنين، وفي الآخرة بالبعد من رب العالمين (¬1). البَر من أسماء الله الحسنى البر {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] ومعناه البار المحسن غزير الإحسان لعباده فهو سبحانه واسع يمنّ بعطائه على عباده دنيا ودينا. إلهي، أنت البر الرحيم، وصل برك إلى العاصي والمستقيم، وتوالي عطاؤك للأقوياء والضعفاء، وتجليت لعيون الروح فشاهدت أنوارك في الأرض وفي السماء، اجعل لنا حظا وافرا من نور اسمك البر، ويسر لنا بفضلك كل أمر، وأعنا على تقديم البر للوالدين والأقارب، وإفاضة الإحسان إلى الجيران والأجانب، وامنحنا قوة إلهية نقوم بها ببر سيدنا محمد خير من هلل وكبر (¬2). مفاهيم تتصل ببر الوالدين حق الأم في البر أكثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:"أمك"، قال: ثم من؟ قال:"أمك"، قال: ثم من؟ قال: " ¬

_ (¬1) الكبائر للذهبي 31، بتصرف. (¬2) النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، البر.

من صور البر

أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك" [رواه البخاري]. قال القرطبي: فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب وذلك لصعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاعة. وجاء عن مالك أن رجلا قال له: إن أبي في السودان، وقد كتب لي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعص أمك. وقال المحاسبي في كتاب الرعاية: لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع. من صور البر أبصر أبو هريرة - رضي الله عنه - رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال أبو هريرة: لا تسمه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله. وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال: لا تقوم إلى خدمتهما وأنت كسلان، ولا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما شزرا، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا. ومن البر: إكرامهما، وعدم رفع الصوت عليهما وعدم مقاطعتهما أثناء الكلام، وعدم الخروج من الجدار إلا بإذنهما، وتقبيل أيديهما، ومخاطبتهما بلطف، والنهوض لهما إذا دخلا عليه، وعدم إزعاجهما إذا كانا نائمين، وعدم تفضيل الزوجة والولد عليهما، وعدم مد اليد إلى الطعام قبلهما، وعدم النوم وهما جالسان إلا إذا أذنا بذلك، وعدم مد الرجلين أمامهما، وعدم المشي أمامهما، وإكرام أصحابهما في حياتهما وبعد موتهما، وعدم مصاحبة إنسان غير بار بوالديه، والدعاء لهما. عن أبي غسان قال: خرجت أمشي مع أبي بظهر الحرة فلقيني أبو هريرة فقال: من هذا؟ قلت: أبي. قال: لا تمش بين يدي أبيك ولكن امش خلفه، أو إلى جانبه، ولا تدع أحدا يحول بينك وبينه، ولا تمش فوق سطح أبيك، ولا تأكل عرقا قد نظر أبوك إليه لعله قد اشتهاه.

رجل يخاف من عقوق الوالدين

رجل يخاف من عقوق الوالدين قال رجل لعلي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: لقد علمناك من أبر الناس بأمك فلماذا لا تأكل معها في صفحة واحدة؟ فقال له: لأني أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق عيناها إليه فأكون قد عققتها. ورأي عمر بن عبد العزيز أحد أبنائه في يوم عيد، وعليه ثوب خلق -أي قديم بال- فدمعت عيناه، فرآه ولده فقال له: ما يبكيك يا أمير المؤمين؟ قال: يا بني أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق. فقال له ابنه: يا أمير المؤمنين إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضيا عني برضاك (¬1). موقف إسماعيل مع أبيه سيدنا إسماعيل لم يقل لأبيه: وما ذنبي؟ وهل تطاوعك نفسك أن تذبحني بيدك؟ أو ما جوابك لأمي؟ إنه غلام حليم كما وصفه الله عز وجل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. البر مفتاح الفرج عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق (أقدم في الشراب) قبلهما أهلا ولا مالا فنأي بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه، قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلى فأردتها على نفسي فامتنعت مني حتى ألم بها سنة ¬

_ (¬1) بدائل الحج والعمرة 58، 59.

صور من العقوق

من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت فلما قعدت بين رجليها، قالت. اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهى أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، فقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلى أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي فقلت: لا أستهزيء بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون" [متفق عليه]. صور من العقوق من العقوق أن يعتبر الولد نفسه مساويا لأبيه، وأن يتعاظم عن تقبيل يدي والديه، ومن العقوق أن يستحي أن يُعرف بأبيه لاسيما إذا كان الولد في مركز مرموق، ومن العقوق ألا يقوم بحق النفقة على أبويه الفقيرين، ومن العقوق أن يرفع الولد صوته على أبيه. جريج العابد لا يخفى على أحد أن دعاء الوالدين مستجاب ولو كانا كافرين، وكانت أم جريج تنادي على ابنها جريج فلم يجبها فدعت عليه قائلة: اللهم أر جريجا الفاسقات، وكانت بنو إسرائيل إذا ذكر جريج بينهم يثنون عليه، لكثرة عبادته، فسمعت امرأة فاسقة ما يقولون فقالت: إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا، فجاءت إليه لتفتنه فلم يلتفت إليها، فخرجت من عنده غاضبة، وذهبت إلى راع ففعلت معه الفاحشة، فحملت وولدت غلاما، فقال الناس لها: ممن هذا الغلام؟ قالت: من جريج، فأتوه فاستنزلوه فشتموه وضربوه، وهدموا صومعته فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك فعلت الفاحشة بهذه المرأة فولدت غلاما، قال: وأين هو؟ قالوا: ما هو ذا، فقام وصلى، ثم انصرف إلى الغلام فضربه على بطنه، فقال له: يا غلام من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي، فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وقالوا أنبني صومعتك من ذهب، قال: لا حاجة لي في ذلك، ابنوها من طين كما كانت.

افعل ما شئت كما تدين تدان

افعل ما شئت كما تدين تدان يروى أن ولدا عاقا أتى إليه أبوه يطلب منه معروفا فتطاول عليه هذا الولد بالسب والضرب حتى أمسك بقدميه وهو ملقى على ظهره وظل يزحف به الأرض حتى وصل به إلى عتبة باب الدار ليرمي به خارج الدار فوجد أحد الجيران فلم يكمل وعاد إلى الداخل، وبعد هذه الإهانة خرج الأب وهو يبكي، وتمر الأيام ويكبر الابن ويكبر أبناؤه ويأتي ابن له يعاتبه في أمر من الأمور، وإذا بهذا الابن يتطاول عليه بالسب والضرب ثم يمسك بقدميه وهو مستلق على ظهره ليسحبه خارج البيت حتى وصل إلى عتبة الباب وهنا قال الأب لابنه: كفى هذا يا بني لقد وصلت بأبي إلى هذا الحد ولو زدت أنت عن هذا فمعناه أن غضب الله عليّ شديد. قصة شاب يقول الشاب: ذهبت إلى الخارج، وتعلمت وحصلت على شهادات عالية ثم رجعت إلى بلدي وتزوجت من فتاة غنية كانت سببا في تعاستي لولا عناية الله. ويقول: مات والدي وأنا صغير فأشرفت أمي على رعايتي، عملت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها، أدخلتني المدرسة وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية .. كنت بارا بها وجاءت بعثتي إلى الخارج فودعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطع عني من أخبارك، أرسل إلي رسائل حتى أطمئن على صحتك. أكملت تعليمي بعد مضي وقت طويل ورجعت شخصا آخر قد أثرت فيه الحضارة الغربية، رأيت في الدين تخلفا ورجعية، وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية. وتحصلت على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها، وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة، ولكني أبيت، وتزوجت تلك الفتاة الغنية الجميلة لأني كنت أحلم بالحياة معها، وخلال ستة أشهر من زواجي كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت والدتي، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي، فسألتها عن السبب فقالت: شوف .. يا أنا يا أمك في هذا البيت لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.

الجزاء

جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب، فخرجت وهي تبكي، وتقول: أسعدك الله يا ولدي!! وبعد ذلك بساعات خرجت أبحث عنها ولكن بلا فائدة، رجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيتي تلك الأم الفاضلة الغالية. انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أصبت خلالها بمرض خبيث دخلت على أثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي، وقبل أن تدخل عليّ طردتها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا، اذهبي عنا. رجعت أمي من حيث أتت. وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل انتكست فيه حالتي النفسية وفقدت الوظيفة والبيت وتراكمت علي الديون وكل ذلك بسبب زوجتي .. فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة، وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميلة وقالت: ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريدك، طلقني. كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعت على رأسي، وطلقتها بالفعل، فاستيقظت من السبات الذي كنت فيه. خرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها ولكن أين وجدتها؟ كانت تقبع في أحد الأربطة تأكل من صدقات المحسنين، دخلت عليها وجدتها قد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مرا، فما كان منها إلا أن شاركتني البكاء. بقينا على هذه الحالة حوالي ساعة كاملة بعدها أخذتها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعا لها، وقبل ذلك أكون متبعا لأوامر الله ومجتنبًا لنواهيه. وها أنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر: أمي حفظها الله، وأسأل الله أن يديم علينا الستر والعافية (¬1). الجزاء غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعل بما أسدى إليك وتنهل ¬

_ (¬1) العائدون إلى الله 24، 25.

تذكر أمك الحنون

إذا ليلة نابتك بالشجو لم أبت ... لبلواك إلا ساهرا أتململ فلما بلغت السن والغاية التي ... إليهما مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل شر ما يصيب المجتمع هو التفكك وضعف الروابط بين أبنائه، وذلك بغلبة الأنانية على أنفسهم، فيذكر المرء نفسه، وينسي أخاه، ويقول كل واحد: نفسي نفسي، ولا يبالي أن يجعل من الناس قرابين تقدم لإله أطماعه وشهواته. شر ما يصيب المجتمع أن يقول كل فرد فيه: لي، ولا يقول: علي، أن تتضخم الأنا في نفسه على حساب غيره. فينظر إلى نفسه نظرة استعلاء واستكبار، وإلى الناس نظرة الازدراء والاحتقار (¬1). تذكر أمك الحنون عندما كنت في سن سنة هي أطعمتك وحمتك، أنت كافأتها بالبكاء طوال الليل. عندما كنت في سن سنتين، هي دفعتك إلى المشي، أنت كافأتها بالهرب منها عندما تناديك. عندما كنت في سن 3 سنوات قامت بإعداد وجباتك الغذائية بكل رضا أنت كافأتها بإلقاء الطعام من فمك على الأرض. عندما كنت في سن 4 سنوات قامت بإهدائك مجموعة من الطباشير، أنت كافأتها بتلوين طاولة غرفة الطعام. عندما كنت في سن 6 سنوات، قامت بتوجيهك إلى المدرسة أنت كافأتها بالصراخ: لن أذهب. عندما كنت في سن 8 سنوات قامت بإعطائك آيس كريم، أنت كافأتها بإلقائه على ملابسك. عندما كنت في سن 10 سنوات اشترت لك كرة، وأنت كافأتها برميها على منزل الجار المقابل وكسرت نافذته. ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة 194.

عندما كنت في سن 24 سنة قامت بإعطائك أثاث شقتك الأولى أنت كافأتها بإخبار أصدقائك بأنه أثاث بشع. عندما كنت في سن 26 سنة قامت بمساعدتك في مصاريف زواجك، وبكت الدموع، وأخبرتك عن مدى حبها لك، أنت كافأتها بالرحيل والسكن إلى أبعد منطقة في البلاد. عندما كنت في سن 30 سنة قامت بمناداة طفلك وتوجيهه ببعض النصائح، أنت كافأتها بقولك: الأمور تغيرت الآن. عندما كنت في سن 40 سنة قامت بالاتصال بك لتذكرك بمرض أحد أقاربك، أنت كافأتها بقولك: بجد .. الآن مشغول جدا. عندما كنت في سن 50 سنة أصابها مرض، واحتاجت وجودك للاعتناء بها، أنت كافأتها بالشكوى المستمرة من أعبائك وأعباء أسرتك. وبعد ذلك وفي يوم من الأيام، ماتت بهدوء، والشيء الوحيد الذي لم تقم به من قبل، قد أتى وقته يدوي مثل الرعد، بدأت تذرف الدموع لأن الحياة بدونها بلا معنى، بدأ ضميرك يشعرك بالندم لأنك لم تعطها حقها (¬1). قال الحسن البصري: ما يعدل بر الوالدين شيء من التطوع لا حج ولا جهاد (¬2). وبكى إياس بن معاوية -رحمه الله- حين ماتت أمه فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأُغلق أحدهما. احرص أخي الحبيب ألا تنام ليلة من الليالي وأحد والديك غضبان عليك وبالأخص أمك. وكان من بر طلق بن حبيب أحد التابعين: أنه يقبل رأس أمه وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته إجلالا لها (¬3). إياك أن تعق والديك، فإن عققتهما فبادر بالتوبة والاستغفار كما بادر ابن عونة -رحمه الله- حين عن والدته فكفر عن ذلك العقوق بعتق رقبتين حيث قال: نادتني أمي ¬

_ (¬1) مجلة الزهور العدد 22، ص 61. (¬2) الوقت عمار أو دمار: 61. (¬3) الوقت عمار أو دمار 63.

أفعال تتنافى مع بر الوالدين

يوما فأجبتها، فعلا صوتي على صوتها فأعتقت رقبتين. أفعال تتنافى مع بر الوالدين 1 - كقول الابن لوالديه: أف أو (أوه) بمدها أو إهانتهما بالشتم أو رفع الصوت عليهما أو التلفظ بالألفاظ السيئة أو التذمر منهما أو رفض أوامرهما. 2 - كأن يحرك الابن يده قاصدا إهانتهما أو بمعنى اسكتوا فيضع إصبعه على فمه مثلا، أو يضربهما بيده أو قدمه أو يجلس أمام والديه ويمد قدمه جهة وجههما .. وهكذا. 3 - كأن ينظر الابن إلى والديه نظرة احتقار أو إهانة أو ينظر إليهما بطرف عينه، أو لا ينظر إليهما أثناء حديثهما إليه، أو ينظر إليهما بتكبر وغيرها من النظرات. 4 - كأن يطلب الابن من والديه الفقيرين أكثر من طاقتهما ويلزمهما بتسليمه المصروف المالي وهما لا يملكان فلا ينفق عليهما، أو أن يطلب الأبوان منه المال فيرفض إعطاءهما. 5 - من العقوق بعد الوفاة: عدم الاستغفار والدعاء لهما بالرحمة والعفو ودخول الجنة، وعدم الصدقة للوالدين، وعدم صحلة أقاربهما وأصدقائهما، وذكرهما بما يسوؤهما (¬1). ... ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار (2/ 64، 65).

الشورى

الشورى الشورى: هي التعاون على تبادل الرأي ومداولته في أمر من أمور المؤمنين على أسس وقواعد. قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] فقد ذكر المولى عز وجل الشورى بين فرضين عظيمين هما الصلاة والزكاة، وهذا دليل على أهمية الشورى في الإسلام. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "المستشار مؤتمن" [رواه الترمذي]. والشورى مصطلح إسلامي له معناه المستقل في الإسلام كمصطلحات الصلاة والزكاة .. وأشكاله متنوعة ومتطورة. وأهل الشورى يتقربون إلى الله بهذا العمل ويلتقون جميعا للوصول إلى الحق. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. حتى في الأمور الخاصة كان الصحابة يستشيرون النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أمورهم الخاصة، كما رأينا حين استشارته فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- في أمر زواجها، وقد أبدى الرغبة فيها رجلان: معاوية وأبو جهم، فقال لها: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له" [رواه مسلم] واقترح عليها أن تتزوج أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. لابد أن يستشير المسلم إخوانه عند الزواج بامرأة، وكذلك المرأة، فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار.

تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب

تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتخاب اثني عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عليهم في تنفيذ بنود هذه البيعة. فقال للقوم: "أخرجوا إلىَّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومكم بما فيهم" فتم انتخابهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ولما تم انتخاب هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسئولين، قال لهم: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي" -يعني المسلمين-، قالوا: نعم. مجلس عسكري استشاري عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجلسا عسكريا استشاريا بعد أن أستشار الجند فخافوا، قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} [الأنفال: 5 - 6]. أما قادة الجيش فقام أبو بكر وأحسن وقام عمر وأحسن، فقام المقداد بن عمرو وقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهؤلاء القادة الثلاثة من المهاجرين -وهم أقلية في الجيش- وأراد أن يعرف رأي قادة الأنصار لأنهم أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيكون على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فنظر إليهم قائلا: "أشيروا علي أيها الناس"، ففطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أجل"، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم".

الحباب خبير عسكري

وقد أجمع المسلمون على أن الشورى في كل ما لم يثبت نص ملزم فيه من كتاب أو سنة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله، أما ما ثبت فيه نص من كتاب أو حديث من السنة أبرم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكمه، فلا شأن للشورى فيه ولا ينبغي أن يقضي عليه بأي سلطان. الحباب خبير عسكري تحرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجيشه فنزل أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - كخبير عسكري، وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لقد أشرت بالرأي"، فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أمته مبدأ الشورى وقبول الاقتراحات من الرعية، ولم يتكبر عليهم مع أنه الرسول الذي يوحى إليه. في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ كلام، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، إنا الأمراء، وأنتم الوزراء، نحن أوسط العرب دارا، وأعربهم أحسابا، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، وأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فرضي الله عن عمر، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يبدأ بالبيعة لأحد من الأنصار فتحدث فتنة عظيمة،

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير

لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر بعد الشورى إخمادا للفتن، وقال للأنصار: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله أمر أبا بكر أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر، ثم بادر - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر: ابسط يدك نبايعك. وكانت الشورى في اختيار خليفة المسلمين سببا في توحيد الكلمة، ووحدة الأمة، فليجتمع الحكام وليتشاوروا فيما بينهم لإنشاء سوق عربية مشتركة لمواجهة التكتلات العالمية، وإظهار وحدة العرب والمسلمين. الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير استشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في قضية الأسرى، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية وعسى أن يهديهم الله، فقال رسول الله: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل بن أبي طالب وتمكن حمزة من فلان أخيه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله: "للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء. فقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة -شجرة قريبة- قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] والكتاب الذي سبق من الله هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فقيه الإذن بأخذ الفدية من الأسرى ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من أولئك المجرمين، الذين لم يكونوا أسرى حرب فقط، بل كانوا مجرمي حرب لا يتركهم قانون الحرب الحديث إلا ويحاكمهم، ولا يكون الحكم في الغالب إلا بالإعدام أو بالحبس حتى الموت، واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن

رؤيا رسول - صلى الله عليه وسلم -

عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا تعلموا فهو فداؤه. ما أجمل أن تجلس مع أولادك وتستشيرهم في أمور البيت حتى يشاركوك في همومك! واستمع إلى مقترحاتهم، وشجعهم على التعبير عن آرائهم وإن كانت تخالفك .. رؤيا رسول - صلى الله عليه وسلم - رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يوم أحد قالها لأصحابه: "إني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا يذبح، ورأيت في ذباب سيفى ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة"، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة، ثم قدم رأيه إلى أصحابه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون في الطرقات، والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا كبار السن وفرح عبد الله بن أبي بن سلول بهذا الرأي، وأشارت جماعة من أفاضل الصحابة الذين لم يخرجوا في بدر- أشاروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج قائلين: يا رسول الله كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم. ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، ورفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه أمام رأي الأغلبية، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بالناس وحثهم على الجهاد، ثم صلى العصر ثم دخل بيته فتقلد سيفه فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير للشباب: لقد استكرهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا على ما صنعوا فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته -وهي الدرع- أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه"، وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه إلى ثلاث كتائب ثم سار إلى العدو مع ألف مقاتل. وتمرد عبد الله بن أبيّ -وكان على مقربة من العدو فقد كان يراهم ويرونه- فانسحب بثلث الجيش ثلاثمائة مقاتل قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ متظاهرا بالاحتجاج على ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرأيه وإطاعة غيره، وكان هدفه هو إحداث بلبلة واضطراب في جيش المسلمين وإضعاف معنويات من بقي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكاد ينجح؛ فقد همت طائفتان -بنو حارثة بن الأوس وبنو سلمة من الخزرج- أن تفشلا ولكن

بيت المقدس

تولاهما الله فثبتهما بعد أن هما بالانسحاب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وحاول عبد الله بن حرام -والد جابر بن عبد الله- تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167]. يقول سيد قطب: لقد كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها، وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها، نقول كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة مستندا إلى رؤياه الصادقة، وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة، ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة، أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد، ولكنه -وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه، وذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتعلم كيف تتحمل تبعة الرأي، وتبعة العمل، لأن هذا في تقديره - صلى الله عليه وسلم - وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنب الجماعة تلك التجربة المريرة، فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية (¬1). بيت المقدس بعد الانتصار الذي أيد الله به المسلمين على أعدائهم الروم في أجنادين، حاصر جيش المسلمين الروم في بيت المقدس وضيقوا عليهم حتى وافقوا على الصلح فأرسل ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (1/ 532).

مفاوضات

أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قائد الجيش الإسلامي إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخبره بأن يحضر، فلما وصل الخبر إلى أمير المؤمنين اجتمع مع الصحابة، واستشارهم في أمر الخروج إلى بيت المقدس، فأشاروا عليه بالخروج، فأخذ عمر برأيهم وتوجه إلى الشام فاستقبله أمراء المسلمين. اجلس مع المسئولين في العمل، وعليك بالشورى، ولا تكن مستبدا. مفاوضات في غزوة الخندق أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيس غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرف بقومه، ويستعد المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة بقريش، فاستشار - صلى الله عليه وسلم - السعدين (سعد بن عبادة وسعد بن معاذ) رضي الله عنهما، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه؟ لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف يا رسول الله، فقال لهما: "إنما هو شىء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة". إذا قابلتك محنة فاستشر أهل الخير. استشارة أم سلمة لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المعاهدة، قال: "قوموا فانحروا" فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعو حالقك. فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. أخي الزوج، لا تتكبر على زوجتك واستشرها في أمورك الخاصة، واستمع إلى آرائها ومقترحاتها ولا تسمع لمن يقول "شاوروهن وخالفوهن" فهو قول غير صحيح.

جمعية عمومية

جمعية عمومية جعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موسم الحج جمعية عمومية ليلتقي فيه بزوار بيت الله الحرام والعمال وأصحاب المظالم، فكان موسما عاما للمراجعة، ولا يكتفي عمر بأهل الخبرة، بل إذا أعياه الأمر دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم، وإنه لإلهام في فن الاستشارة. الشورى البناءة قالت بلقيس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} [النمل: 32 - 35] وبمثل هذه المثاورة البناءة تمكنت ملكة سبأ أن تجنب قومها الدخول في حرب خاسرة بل دخلت في دين سليمان. الإسلام لا يحب أن يؤم رجل الناس في صلاة الجماعة وهم له كارهون، فكيف يقبل أن يقود رجل أمة كلها في شئونها العامة، وهي له كارهة. عدم الاستقلال بالرأي أحجم الناس عن الخروج إلى دولة الفرس، لما في نفوسهم من عظمتها وشوكتها القديمة، ولكن المثنى بن حارثة الشيباني وقف في المدينة المنورة وقال: أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعدها. وكان أول من استجاب للخروج أبو عبيد بن مسعود الثقفي، فأمَّره عمر بن الخطاب على الجيش فسار بالمسلمين إلى أرض العراق، بعد ما أوصاه عمر أن يسمع من أصحاب رسول الله ويشركهم في الأمر، وألا يتسرع. بعث رستم بهمن جاذويه إلى أبي عبيد، وقال له: إما أن تعبر النهر -نهر الفرات- إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم، فنهى الناس أبا عبيد عن العبور فترك الرأي والمشورة، وقال أبو عبيد: لا يكونوا أجرأ على الموت منا، فعبروا إليهم فاقتتلوا، وكان مع الفرس فيلة، فلما رأتها خيل المسلمين لم تتقدم نحوها وتراجت، ففرقت الفيلة

جمع القرآن الكريم

خيل المسلمين، فاشتد الأمر بالمسلمين، فترجل أبو عبيد والناس، ثم مشوا إلى الفرس حتى صافحوهم بالسيوف، ولكن الفيلة ما حملت على جماعة إلا دفعتهم، فقال أبو عبيد: قطعوا الفيلة، ووثبت هو على فيل أبيض فوقع عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه. وأهوى فيل على أبي عبيد فضربه بالسيف فقطع خرطومه، ولكن الفيل ضرب أبا عبيد، فوقع أبو عبيد ووطئه الفيل وقام عليه، فلما بصر به الناس تحت الفيل، خشعت أنفسهم، وتتابع على أخذ اللواء سبعة أنفس من ثقيف فقاتلوا حتى الشهادة، فأخذ اللواء المثنى بن حارثة الشيباني ولكن بعد أن ذهبت ريح المسلمين، وانكشف أمرهم وبعد بدء تراجعهم على الجسر إلى ضفة الفرات الغربية. ولما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه، وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه كي لا يتراجع أحد، وقال: يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم. وحصر الفرس المسلمين إلى الجسر وقد انقطع، فتواثب المسلمون إلى الفرات، ولكن المثنى وفرسانا من المسلمين حمى من بقي منهم. ولما بلغت الهزيمة عمرقال: اللهم إن كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم. واقتص المسلمون من الفرس فيما بعد في معركة البويب، وكان النصر، ولكن بعد أن تعلموا أن الاستقلال بالرأي من أسباب الهزيمة. جمع القرآن الكريم كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر - رضي الله عنه - بمشاورة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري، قال زيد بن ثابت: أرسل إلي أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (كثر) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم

شوري أبي بكر

يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. وهكذا كان الصحابة يجتهدون في جو من الهدوء والشورى يسوده الود والاحترام، هدفهم الوصول إلى ما يحقق المصلحة العامة لجماعة المسلمين، وأنهم كانوا ينقادون إلى الرأي الصحيح، وتنشرح قلوبهم له بعد الإقناع والاقتناع، فإذا تشاوروا واقتنعوا دافعوا عنه كما لو كان رأيهم منذ البداية. شوري أبي بكر جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضا سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم، فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتابا، وأشهد عمر -وليس في القوم- فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه يهنأ بعيرا له (يطليه بالهناء أي القطران) فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟ فقال: أنا على الحال الذي تريان، فإن شئتما فاقرأ وإن شئتما فانظرا حتى أفرغ، فاقرأ عليكما، قالا: بل نقرأ، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا، وقالا مقالة سيئة فقال: إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: لا بل هو لو شاء، فجاء عمر وهو مغضب، فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء

استخلاف الصديق للفاروق

الذين حولي فأشاروا علي بذلك. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا. فقال أبو بكر: قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني. هذه الواقعة دليل لا يقبل الشك أن حكم الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين كان يقوم على الشورى، فهي تظهر لنا خليفة رسول الله حريصا على استشارة المسلمين في الصغيرة والكبيرة، وما كان ليبرم أمرا دون مشورة إخوانه. استخلاف الصديق للفاروق لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتًا لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا بعدي، وتشاور الصحابة -رضي الله عنهم- وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله، لدينه، ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: هو -والله- أفضل، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال: أنت أخبر به، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك؟ يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه .. وكذلك استشار سعيد بن زيد وعددا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريبا كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفونني؟! خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته، فقال: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما عليه. ثم كتب عهدا مكتوبا يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجناد. إنها صورة للشورى الحقيقية المنضبطة مع أوامر الله، مع الحلال والحرام، لا الشورى

اختيار الولاة

المزيفة التي تجري تحت قباب مجالس لم تجن من ورائها الشعوب إلا المرارة والاستبداد والظلم والضياع. اختيار الولاة كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكبار الصحابة، فقد قال لأصحابه يوما: دلوني على رجل إذا كان في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير، فأشاروا إلى الربيع بن زياد، وقد استشار عمر بن الخطاب فيمن يولي على أهل الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة ومن تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم عفيفا استضعفوه، وإن استعملت عليهم قويا فجروه، ثم قال: أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي، وآخر قوي مشدد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتكلم المغيرة بن شعبة قال: يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوي المشدد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك، فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة، وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين. شورى خامس الخلفاء الراشدين جاء أن عمر بن عبد العزيز جمع قراء الشام والفقهاء وقال: إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في يد أهل بيتي، فما ترون فيها؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن ذلك أمر كان في غير ولايتك، وإن وزر هذه المظالم على من غصبها. فلم يرتح إلى ما قالوه، فالتفت إليه أحدهم ممن كان يرى غير رأيهم، وقال: ابعث يا أمير المؤمنين إلى عبد الملك، فإنه ليس دون من دعوت علما، فلما دخل عليه عبد الملك قال له عمر ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمنا من الناس ظلما؟ وقد حضر أصحابها وجعلوا يطلبونها، وقد عرفنا حقهم فيها؟ فقال: أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها، وإنك إن لم تفعل، كنت شريكا للذين أخذوها ظلما. فانبسطت أسارير عمر، وارتاحت نفسه، وزال عنه ما أهمه، بفضل الشورى (¬1). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 86.

التعاون

التعاون لا يمكن لأي إنسان مهما آتاه الله من أسباب، أن يعيش على الأرض منفردًا فهذا ضد طبيعته وإمكاناته وما جبل عليه ابن آدم، فالفرد يحتاج للناس والناس تحتاج إليه، حتى تسير الحياة للجميع بأفضل صروة وهذا هو "التعاون". وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتعاون شرط أن يكون على البر والتقوى، ونهاهم أن يكون تعاونهم على الإثم والعدوان. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم. قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان: مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: "تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره" [رواه البخاري]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر عل أذاهم". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: "الدال على الخير كفاعله". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" [رواه البخاري]. وللتعاون على البر والتقوى وفعل الخيرات صورًا كثيرة نذكر منها: 1 - التعاون مع إخوانك أحس شيخ كبير بقرب أجله، فجمع أولاده الثلاثة، ليوصيهم بوصية تنفعهم في

حياتهم، فأعطاهم حزمة كبيرة من الحطب، وطلب من كل منهم أن يكسرها بمفرده، فحاول كل واحد أن يكسرها، لكنه، لم يستطع لشدة قوتها وصلابتها. أخذ الأب الحزمة، وفكها إلى أعواد، وأعطى كل واحد منهم عودًا، فكسره بسهولة فقال الأب لأبنائه: إنكم يا أبنائي مثل هذه الحزمة إذا اتحدتم وكنتم يدًا واحدة فلن يستطيع أحد مهما بلغت قوته أن يغلبكم، وإن تفرقتم فسوف يصيبكم لضعفكم، ويتمكن عدوكم منكم، فعليكم يا أولادي بالتعاون في قضاء أموركم فإن في التعاون قوة. الوزير النبي: طلب سيدنا موسى -عليه السلام- من ربه أن يكون أخوه مساعدًا له يتعاون معه على تبليغ رسالته فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} [طه: 29 - 35]. وهكذا لا يستطيع الداعية أن يؤثر في الناس بمفرده لابد أن يتعاون مع إخوانه في دعوة الآخرين بشتى الطرق. حفر الخندق كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشترك مع الصحابة في حفر الخندق، يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: رأيته - صلى الله عليه وسلم - ينقل تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها. لم يتكبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بل تعاون معهم في أشد اللحظات وأصعب الأمور، وما أعظمه من قائد! تعاون في بناء المسجد الأول كانت أول خطوة خطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة هي إقامة المسجد النبوي، ففي

المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة هل تشارك إخوانك في أمورهم الخاصة والعامة؟ مساعدة المسئول دعا عمر بن الخطاب سعيد بن عامر إلى مساعدته وقال: يا سعيد إنا مولوك على أهل حمص، فقال: يا عمر نشدتك الله ألا تفتني فغضب عمر وقال: ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني!! والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص وقال: ألا نفرض لك رزقًا؟ قال: وما أفعل به يا أمير المؤمنين؟! فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي، ثم مضى إلى حمص (¬1). إذا كنت جنديًا فاحرص على مساعدة مسئولك في إنجاز مهمته بما يرضي الله. لا تمنع أخاك روى مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيي المازني عن أبيه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك، لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخرًا ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخرًا وهو لا يضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر بن الخطاب أن يمر به، ففعل الضحاك، وكان هذا قياسًا من عمر على حديث أبي هريرة الذي قال فيه إن النبي قال: "لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره" ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم. تعاون الصغار يقول الإمام الشهيد البنا في مذكراته: ونحن طلاب في المدرسة الإعدادية كنا ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة: 21.

2 - تعاون بين الزوجين

نصلي الظهر في المسجد المجاور للمدرسة، وذات يوم مر إمام المسجد فرأى كثيرًا من التلاميذ، زاد على ثلاثة صفوف أو أربعة فخشي الإسراف في الماء، والبلى للحصير، فانتظر حتى أتم المصلون صلاتهم، ثم فرقهم بالقوة مهددًا ومنذرًا ومتوعدًا، فمنهم من فر، ومنهم من ثبت، وأوحت إلى خواطر التلمذة أن أقتص منه ولابد، فكتبت إليه خطابًا ليس في إلا هذه الآية: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] وبعثت الخطاب بالبريد، ثم عرف الشيخ ممن جاءته هذه الضربة، فقابل الوالد شاكيًا، فأوصاه بالتلاميذ خيرًا، وكانت له معنا مواقف طيبة بعد ذلك، واشترط علينا أن نملأ صهريج المسجد بالماء قبل انصرافنا وأن نعاونه في جمع تبرعات للحصر، فأعطيناه ما شرط (¬1). هل تتعاون مع إمام السجد لمصلحة المسلمين؟ 2 - تعاون بين الزوجين على الزوجة أن تعاون زوجها كما فعلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما زوجة الزبير بن العوام قالت أسماء -رضي الله عنها-: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس وكنت أسوسه، وأقوم عليه، وكانت رضي الله عنها تعلفه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ. فعلى الزوجة أن تتحمل زوجها، وتقف بجانبه في أوقات الشدة. 3 - تعاون الملائكة في بدر في غزوة بدر يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صدقت، وذلك هدد من السماء الثالثة"، وجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح (الذي انحسر الشعر عن جانب رأسه) من أحسن الناس وجها ¬

_ (¬1) مذكرات الدعوة والداعية 56 - 57.

4 - قضاء حوائج الناس

على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اسكت فقد أيدك الله بملك كريم" [رواه أحمد]. 4 - قضاء حوائج الناس قالت السيدة خديجة -رضي الله عنها- عندما عاد إليها من غار حراء بعد أن نزل عليه الأمين جبريل بالوحي: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل (الثقل) وتُكسب المعدوم (الفقير) وتعين على نوائب الحق [رواه البخاري]. مساعدة الناس تكون سببًا في النجاة من المحن فلا تبخل على إخوانك بالمساعدة فيما وهبك الله واحتسب أجرك عند الله. مشروع زواج كان أحد الصحابة قد انقطع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخدمه ويبيت عنده ليلي أمره إذا نزلت بالرسول حاجة فقال له رسول الله: "ألا تتزوج"؟ فقال: يا رسول الله إني فقير لا شيء لي، وانقطع عن خدمتك، فسكت ثم عاد ثانيًا، فأعاد الجواب ثم فكر الصحابي وقال: والله لرسول الله أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي، وما يقربني إلى الله، ولئن قال لي الثالثة لأفعلن، فقال له الثالثة: "ألا تتزوج"؟ فقال يا رسول الله زوجني، فقال: "اذهب إلى بني فلان، فقل: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم" فقال يا رسول الله: لا شيء لي (أي لا يملك شيئا) فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب"، فجمعوا له وذهبوا إلى القوم فزوجوه، وجمع له أصحابه شاة للوليمة. هل فكرت في يوم من الأيام في مساعدة إنسان فقير على الزواج ولو بجزء يسير من وقتك أو من مالك أو من جهدك؟ التعاون في أمور الزواج قال أبو وداعة: كنت ألازم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلبًا اللعلم، وكنت أداوم على حلق سعيد بن المسيب وأزاحم الناس عليها بالمناكب، فتغيبت عن حلقة الشيخ أيامًا، فتفقدني، وظن أن بي مرضًا، أو عرض لي عارض، فسأل عني من حوله، فلم يجد عند أحد منهم خبرًا فلما عدت إليه بعد أيام حياتي، ورحب بي وقال: أين كنت يا أبا

وداعة؟ فقلت: توفيت زوجتي، فاشتغلت بأمرها، فقال: هلا أخبرتنا يا أبا وداعة فأواسيك، ونشهد جنازتها معك، ونعينك على ما أنت فيه، فقلت: جزاك الله خيرًا، وهممت أن أقوم، فاستبقاني حتى انصرف جميع من كان في المجلس، ثم قال لي: أما فكرت في استحداث زوج لك يا أبا وداعة؟ فقلت له يرحمك الله، ومن يزوجني ابنته وأنا شاب نشأ يتيمًا، وعاش فقيرًا، أنا لا أملك غير درهمين، أو ثلاثة دراهم، فقال: أنا أزوجك ابنتي، فانعقد لساني وقلت: أنت؟! أتزوجني ابنتك بعد أن عرفت من أمري ما عرفت؟! فقال: نعم، فنحن إذا جاءنا من نرضى دينه وخلقه زوجناه، وأنت عندي مرضي الدين والخلق، ثم التفت إلى من كان قريبًا منا، وناداهم، فلما أقبلوا عليه وصاروا عنده، حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد وعقد لي على ابنته، فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرج، ثم قصدت بيتي، وكنت يومئذ صائمًا، فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة، ما الذي صنعت بنفسك؟! ممن تستدين؟! وممن تطلب المال؟! وظللت على حالي هذه حتى أُذن للمغرب، فأديت المكتوبة، وجلست إلى فطوري، وكان خبزًا وزيتًا، فما أن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع، فقلت: من الطارق؟ فقال: سعيد، فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب، ذلك لأنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ففتحت الباب، فإذا بي أمام سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: يا أبا محمد؟! هلا أرسلت إلينا فآتيك، فقال: بل أنت أحق بأن آتي إليك اليوم، فقلت: تفضل علي، فقال: كلا، وإنما جئت لأمر، فقلت: وما هو يرحمك الله؟ فقال: إن ابنتي أصبحت زوج لك بشرع الله منذ الضحى، وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك، فكرهت أن تبيت أنت في مكان وزوجتك في مكان آخر، فجئتك بها، فقلت: ويحي جئتني بها؟! فقال: نعم، فنظرت، فإذا هي قائمة بطولها، فالتفت إليها وقال: ادخلي إلى بيت زوجك يا بنتي على اسم الله وبركته، فلما أرادت أن تخطو، تعثرت بثوبها من الحياء حتى كادت تسقط على الأرض، أما أنا فقد وقفت أمامها ذاهلاً لا أدري ما أقول، ثم إني بادرت فسبقتها إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فنحيتها من ضوء السراج حتى لا تراها، ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران، فأقبلوا علي وقالوا: ما شأنك؟ فقلت: عقد لي سعيد بن المسيب على ابنته اليوم في المسجد، وقد جاءني بها

5 - تعاون الأبناء مع الأباء

الآن على غفلة، فتعالوا آنسوها حتى أدعو أمي، فهي بعيدة الدار فقالت عجوز منهن: ويحك أتدري ما تقول؟! أزوجك سعيد بن المسيب ابنته، وحملها لك إلى البيت بنفسه؟! وهو الذي ضن بها على الوليد بن عبد الملك، فقلت: نعم، وها هي ذي عندي في بيتي، فهلموا إليها، وانظروها، فتوجه الجيران إلى البيت، وهم لا يكادون يصدقونني، ورحبوا بها، وآنسوا وحشتها، كما وجه إلينا سعيد بن المسيب مبلغًا وفيرًا من المال لنستعين به على حياتنا (¬1). وهكذا تعاونوا فيما بينهم لتيسير أمور الزواج فعلى أولياء الأمور التيسير على الشباب في أمور الزواج فالسعادة ليست في كثرة المهور والتفاخر بها، وإنما في طاعة الله عز وجل. ذو القرنين كان يأجوج ومأجوج أناسًا لهم أشكال مخيفة، يفسدون في الأرض لا يصلحون، وكان في زمانهم ملك يسمى ذو القرنين، آتاه الله ملكا عظيمًا ومنحه القوة والسلطان، وفي يوم من الأيام، وصل ذو القرنين بجيشه إلى المكان الذي يعيش فيه هؤلاء القوم، وكان يسكن في المكان نفسه قوم ضعاف، فلما رأوا ذا القرنين، استنجدوا به حتى يحميهم من يأجوج ومأجوج، واقترحوا عليه أن يصنع لهم سدًا يمنع عنهم شرهم، فوافق ذو القرنين على بناء السد، وطلب منهم أن يعاونوه ويساعدوه، حتى يتمكن من إنجاز هذا العمل الضخم، وتعاون القوم في صنع السد، وكان سدًا قويًا متينًا من سبيكة الحديد والنحاس، وعاش القوم بها في أمان وسلام. 5 - تعاون الأبناء مع الأباء أمر الله تعالى نبيه إبراهيم -عليه السلام- أن يبني الكعبة، ليحج إليها الناس ويزوروها من كل مكان وفي كل زمان، فاخبر إبراهيم -عليه السلام- ولده إسماعيل -عليه السلام- بذلك، فوافق على الفور، وتعاون مع أبيه في هذا العمل العظيم، فذهب ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين: 203 - 205.

6 - التعاون من أجل مصلحة الوطن

إلى المكان المخصص لبناء البيت، وكان يجمع الحجارة، وكان أبوه يقوم بعملية البناء، حتى ارتفع البناء، وكان إبراهيم وولده يدعوان ربهما أن يتقبل منهما هذا العمل الصالح بقولهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فتقبل الله منهما دعاءهما. 6 - التعاون من أجل مصلحة الوطن - عقد الشهيد حسن البنا مؤتمرًا وطنيًا كبيرًا بمدينة طنطا واصطحب معه أحد الأقباط المتخصصين ليتحدث عن قضية قناة السويس واسمه "نصيف ميخائيل" ليؤكد معنى التضامن بين المسلمين والمسيحيين. - وكان الأستاذ "لويس فانوس" وهو من زعماء الأقباط المرموقين يواظب على حضور حديث الثلاثاء للإمام حسن البنا بالمركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية يوم الثلاثاء من كل أسبوع ويجلس بين إخوانه المسلمين بكل حب وإخاء، وكان صديقًا حميمًا للأستاذ البنا، وفي إحدى المرات رشح الشيخ حسن البنا نفسه في البرلمان المصري وكان وكيله في إحدى اللجان قبطيًا. - وكانت اللجنة السياسية المركزية من تسعة أعضاء برئاسة وكيل الجماعة وعضوية سكرتير الجماعة وعضو من مكتب الإرشاد، وثلاثة أعضاء أقباط هم "وهيب بك دوس" والأستاذ "لويس فانوس" عضو مجلس النواب، والصحفي الكبير "كريم ثابت"، وأرسل حسن البنا إلى توفيق دوس باشا تهنئة بمناسبة انتخابه عضوًا بمجلس الشيوخ رد عليها دوس بتهنئة بمناسبة صدور جريدة الإخوان المسلمين وأشاد بنزعة الإخوان المسلمين القومية. - وحينما هاجم "سلامة موسى" الإخوان بأنهم يثيرون الفتنة الطائفية في إحدى مقابلات الصحف، رد عليه المسيحي "توفيق غالي" بكل قوة قائلاً: إن الإخوان المسلمين أشرف الجماعات مقصدًا وأمثلهم خلقًا. - ويوم قُتل حسن البنا أيام الملك فاروق منعت الحكومة السعدية برئاسة إبراهيم عبد الهادي جثمانه من أن يشيع في جنازة، لم يمش وراء نعشه إلا اثنان هم والده، ومكرم عبيد باشا السياسي المسيحي الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويستشهد دائمًا بآياته

تعاون مرفوض

في خطبه البليغة (¬1). تعاون مرفوض: قال أبو عبد الله: لا أعرف كيف أروي هذه القصة التي عشتها منذ فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها، والحقيقة أنني لم أقرر أن أكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسئولية تجاه الله، ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف اسمه الحب. كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعجب، كلا بل أربعة، فقد كان الشيطان رابعنا. فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة، وهناك يفاجأن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس، هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع، في المخيمات والسيارات على الشاطئ، إلى أن جاء اليوم الذي لا أنساه. ذهبنا كالمعتاد للمزرعة كان كل شيء جاهزًا، الفريسة لكل واحد منا، الشراب الملعون .. شيء واحد نسيناه هو الطعام وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة السادسة تقريبًا عندما انطلق ومرت الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسيارتي أبحث عنه وفي الطريق؛ وعلى البعد رأيت سيارة ينبعث منها دخان كثيف، وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي والنار تلتهمها وهي مقلوبة على أحد جانبيها، أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة وذُهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تمامًا لكنه كان ما يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض. وبعد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي النار النار فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك: لا فائدة لن أصل. ¬

_ (¬1) وعرفت الإخوان: 24.

سبب إسلامه

فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي وفوجئت به يصرخ: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ نظرت إليه بدهشة وسألته: من هو؟ قال بصوت كأنه قادم من بئر عميق: الله. أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ولفظ آخر أنفاسه ومضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل لا تزال تتردد في ذهني وهو يصرخ والنار تلتهمه .. ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ ووجدت نفسي أتساءل: وأنا ماذا سأقول له؟ فاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة، أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني إلى طريق النور والهداية، فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات وأديت الصلاة ومن يومها لم يفتني فرض. وأحمد الله الذي لا يحمد سواه لقد أصبحت إنسانًا آخر وسبحان مغير الأحوال وبإذن الله أستعد للذهاب لأداء العمرة وإن شاء الله الحج فمن يدري فالأعمار بيد الله. - ثبتنا الله على الحق ولن نقول لكل شاب إلا الحذر الحذر من صحبة من يعينوك على تعدي حدود الله وفيما قرأت عبرة وعظة فهل من معتبر (¬1)؟ سبب إسلامه: أستاذ الصحافة المسلم "مارك شيلفر" أستاذ علم الصحافة بجامعة نيويورك من أسرة مسيحية كاثوليكية، سافر إلى المغرب يقول: "تعثرت قدمي في حفرة ذات يوم حينما خرجت لأول مرة إلى مكان شعبي بمدينة الرباط، وعلى الفور وجدت عددًا من المغاربة يسارعون إليَّ لمساعدتي على النهوض، ويسألونني في لهفة عما إذا كنت قد أصبت بسوء!! ". ثم أردف هذا الموقف بما حدث أثناء فترة مرضه قائلا: "ومرضت ذات مرة فوجدت ¬

_ (¬1) مائة قصة وقصة، الهندي: 84 - 85.

عشرات من جيراني ومعارفي يأتون زيارتي، ويحاول كل منهم أن يصنع لي شيئًا، فدهشت لهذا السلوك الإنساني الذي لم أجد له نظيرًا في بلدي أمريكا، حيث الكل لا يهتم إلا بنفسه، وطابع الحياة المادية البحتة هناك يصبغهم جميعًا بالأنانية". وبينما أنا أقلب ترجمة معاني القرآن الكريم إذا بي أطالع تفسير الآيتين الكريمتين: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 103 - 104]. عندئذ لم أتمالك نفسي، ووجدت الدموع تنهمر من عيني، ومن ثم أيقنت أن هذه إشارة صريحة من الله عز وجل ترشدني إلى الإسراع في اعتناق الدين الإسلامي، واللحاق بركب الموحدين، وعلى الفور، حزمت حقائي، وسافرت إلى أمريكا حيث أشهرت إسلامي أنا وزوجتي وولدي بالمسجد الكبير في نيويورك (¬1). ... ¬

_ (¬1) الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء: 1/ 135.

صلة الرحم

صلة الرحم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره (أجله: أي يظل ذكره حتى بعد وفاته) فليصل رحمه" [رواه البخاري] والمقصود بالزيادة في الرزق أي زيادة البركة والزيادة في العمر بالتوفيق إلى الطاعة أو بقاء ذكره الجميل بعد وفاته. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" [متفق عليه]. طريق الجنة عن أبي أيوب أن أعرابيًا عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو زمامها ثم قال: يا رسول الله -أو يا محمد- أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني عن النار، قال: فكف النبي ثم نظر في أصحابه، ثم قال: "لقد وفق" أو "لقد هدي، قال: كيف قلت؟ قال: فأعادها، فقال النبي: "تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة" وفي رواية: "وتصل ذا الرحم" فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة" [رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم]. من ثمارها عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم". قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "بصلتهم أرحامهم" رواه الطبراني.

وصية

وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" رواه البخاري ومسلم. وعن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة" رواه الترمذي. وصية عن أبي ذر - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ستفتحون مصر، هي أرض يسمى فيها القراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما" رواه مسلم. والرحم كون هاجر أم إسماعيل منهم، والذمة المراد منها المصاهرة لأن مارية أم إبراهيم ابن النبي- صلى الله عليه وسلم - منهم. تدفع ميتة السوء عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة المكروه والمحذور" رواه أبو يعلي. تيسير الحساب وتدخل صاحبها الجنة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسرا وأدخله الجنة برحمته"، قالوا: وما هي يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: "تعطى من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك يدخلك الله الجنة" [رواه البزار والطبراني والحاكم]. ترفع الدرجات يوم القيامة عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك" [رواه البزار والطبراني]. ليس الواصل بالمكافيء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الواعل بالمكافيء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" رواه البخاري. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني،

احذر قطيعة الرحم

وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل (الرماد) ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك" رواه مسلم. وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يقول الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسما من أسمائي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" [رواه أبو داود والترمذي]. احذر قطيعة الرحم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك (المستجير بك) من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اقرأوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 22 - 23] [رواه البخاري ومسلم]. وعن أبي محمد جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم؛ أي لا يدخلها أبدا إن أنكر وجود صلة الرحم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أعمال بى آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم" رواه أحمد. وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخر من البغي وقطيعة الرحم" رواه الترمذي. مثل شائع خاطيء الأقارب عقارب، هذا مثل أحمق مضلّ يحض على قطيعة الرحم التي أمر الله أن توصل، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].

العدل

العدل يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. القسط هو العدل، تقول: أقسط الرجل فهو مقسط، إذا عدل. أما إذا قلت: قسط الرجل فهو قاسط أي ظالم وجائر، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]. قال الفراء: هم الجائرون الكفار، فالمقسط عكس القاسط. فالعدل ليس صفة كمالية أو ترفا حضاريا، وإنما هو فريضة ربانية ومطلب بشري. لذلك جاءت الرسالات كلها تأمر الناس بالقسط، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. ومن الحكم المشهورة: العدل ليس في نص القانون، وإنما هو في ضمير القاضي. من أنواع العدل العدل الاجتماعي: وهو العدل في توزيع الثروة، وإتاحة الفرص المتكافئة لأبناء الأمة الواحدة، وإعطاء العاملين ثمرة أعمالهم وجهودهم دون أن يسرقها القادرون أصحاب السلطة، فمن لم يطعم المسكين كان من أهل الجحيم {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر: 43 - 44] ولا يكفي أن تطعم المسكين، بل يجب أن تدعو إلى إطعامه {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} [الماعون: 1 - 3]. والمجتمع الجاهلي مذموم لضياع الفئات الضعيفة فيه وانشغال الأقوياء بأكل المال: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 17 - 20]. على الدولة أن تتخذ الوسائل لمساعدة الفقراء ولو كانوا من غير المسلمين ..

عدل عمر مع أهل الذمة

عدل عمر مع أهل الذمة مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك. ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه، ويقول عمر: لو مات جمل ضياعا على شط الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنه. والإسلام يأمر بالعدل مع النفس بأن يوازن بين حق نفسه، وحق ربه، وحقوق غيره، قال رسول الله لعبد الله بن عمرو حين جار على حق نفسه بمداومة صيام النهار وقيام الليل: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا" متفق عليه. يأمر الإسلام بالعدل في القول فلا يخرجه الغضب عن قول الحق ولا يدخله الرضا في قول الباطل قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. العدل في الشهادة: {قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]. العدل في الحكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. يقول سيد قطب: وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائما بالقسط وهو العدل، فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر، لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس، وبينه في كتابه، وإلا فلا قسط ولا عدل، ولا استقامة ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع. وها نحن نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية، والتأرجح بين هذا وذاك، والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله، وحكم في حياة الناس كتاب الله، وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر، لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما

عدل الرسول

لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة، أو ظلم جيل لجيل، وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (¬1). عدل الرسول في غزوة بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استو يا سواد" -بعد أن ضربه ضربة خفيفة برمح كان معه- فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله عن بطنه، فقال: "استقدد"، قال: فاعتنقه فقبل بطنه فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟ " قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر عهدي بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير. ويضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نفسه نموذجا في القصاص. عدل الصحابة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال له: لم أبعثك جابيا، آخذا جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فتردها على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة (نصفها) فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر، فقال معاذ: ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئًا. لقد انتصر الإسلام على الفقر في ظل العدل الإسلامي في توزيع الزكاة على الفقراء، فإذا أردنا القضاء على الفقر فعلينا بتطبيق شرع الله في الأرض. العبد الصالح في يوم من الأيام كان فيروز الديلمي داخلا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (1/ 379).

ضربة وحجة

فزاحمه فتى من قريش يريد أن يدخل قبله، فرفع فيروز يده، وضربه على أنفه، فدخل الفتى على عمر، والدم يسيل من أنفه، وحكى له ما حدث. فقال عمر لفيروز: ما هذا يا فيروز؟ فأجره فيروز بما حدث، فأمر عمر بالقصاص. فجلس فيروز على ركبتيه فقام الغلام ليقتص منه، فطلب إليه عمر أن يتمهل، وقال له: سمعت رسول الله ذا غداة، يقول: "قُتل الليلة الأسود العنسي الكذاب؛ قتله العبد الصالح فروز الديلمي" فلما سمع الفتى أن الرسول قال عن فيروز أنه عبد صالح، عفا عنه، فأعطاه فيروز سيفه وفرسه وثلاثين ألفا، فقال عمر للقرشي: يا أخا قريش، عفوت مأجورا وأخذت مالا. إنه العدل العمري الذي تعلمه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ضربة وحجة ذات يوم خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى سوق المدينة يتفقد أحوال الرعية، وفي يده درته، فرأى سلمة بن الأكوع يسير في وسط الطريق، فضربه عمر ضربة خفيفة بالدرة فأصابت طرف ثوبه وأمره أن يسير في جانب الطريق، فلما كان العام التالي قابله عمر في نفس الموضع، فقال له: يا سلمة أتريد الحج؟ فقال سلمة: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ عمر بيده، وانطلق به إلى منزله، فأعطاه ستمائة درهم، وقال له: استعن بها على حجك، واعلم أنها بالخفقة (الضربة الخفيفة) التي خفقتك بها العام الماضي. قال سلمة: يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها. قال عمر: وأنا ما نسيتها. عمر يتذكر موقفه يوم القيامة وحساب الله فيسارع إلى العدل وإرضاء الآخرين، انظر ماذا ستفعل إذا كنت مسئولا عن الرعية؟ موقف رائع حمى عمر أرضا قرب المدينة لترعى فيها دواب المسلمين -ومعنى حمايتها أي جعلها ملكا عاما بين الجميع- ولكنه لم يكتف بذلك، فجعل هذا الحمى لمصلحة الطبقة الفقيرة،

عدل يفوق الخيال

وذوي الدخل المحدود قبل كل شيء، ليكون هذا المرعى المجاني مصدرا لزيادة ثروتهم الحياتية، وزيادة دخلهم منها، ليستغنوا بذلك عن طلب المعونة من الدولة، وهذا الهدف واضح في وصية عمر للذي ولاه على هذا الحمى للإشراف عليه، فقد قال له: اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة، وأدخل رب الصُّريمة والغنيمة (الصريمة: الإبل القليلة، الغنيمة: الغنم القليلة) ودعني من نعم ابن عفان، ونعم ابن عوف (أي إبل الأثرياء وغنمهم) فإنهما إن أهلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع (أي لهم ثروات ومصادر أخرى للدخل) وإن هذا المسكين (أي رب الصريمة والغنيمة) إن هلكت ماشيته جاءني ببنيه، يصرخ: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالكلأ أيسر علي من الذهب والورق (النقود الفضية). فتجب عناية الدولة الإسلامية بذوي المال القليل والدخل الضئيل، وإتاحة الفرصة ليكسبوا ولو كان ذلك بالتضييق على ذوي الثروات الكبيرة وحرمانهم مما يتيح للفئات الضعيفة من وسائل الكسب، وكل إنسان في كنف الدولة الإسلامية من حقه إن هلك مصدر دخله وضاع مورد رزقه أن يصرخ في وجه الحاكم المسئول مطالبا بحقه وحق بنيه في خزانة الدولة والسياسة الراشدة هي التي تعمل على توفير مصادر الدخل للفقراء لتستغني بجهدهم عن طلب المعونة، وتكليفها عبء الإنفاق عليهم من خزانتها. هل تحرص على العدل بين الموظفين في العمل، وبين أولادك في المنزل؟ عدل يفوق الخيال في أثناء الفتوح الإسلامية حاصر جيش المسلمين مدينة سمرقند وكانت مدينة حصينة ومنيعة، يصعب على أي جيش أن يدخلها مهما كان قويًا بسبب حصونها وقلاعها، ولما طال الحصار فكر قائد جيش المسلمين قتيبة بن مسلم في خطة ليدخل المدينة، وبدأت الخطة بأن دخل عدد من جنود المسلمين الشجعان في هيئة تجار يبيعون سلعًا وبضائع، وبعد أن صاروا داخل المدينة هاجموا الحصون والقلاع واستولوا عليها، ثم فتحوا الأبواب، فدخل بقية جيش المسلمين، واستسلم عندئذ أهل سمرقند وسقطت المدينة في أيدي المسلمين. واجتمع أهل سمرقند عند كبير الكهنة، وسألوه النصيحة، فقال لهم: "سأطالب

بمحاكمة قائد جيش المسلمين". قال أحدهم: "ومن سيوافقنا على محاكمة قائد جيش المسلمين وهم المنتصرون؟!! ". فأجاب كبير الكهنة: "خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز فهو رجل عادل". وأرسل كبير الكهنة أحد أعوانه إلى الشام، وقابل الخليفة عمر بن عبد العزيز، فأحسن استقباله، واستمع إليه جيدًا، وقال له: "اطمئن واهدأ بالاً، فالإسلام لا يعرف غير العدل" وأعطاه خطابًا إلى الوالي حاكم المسلمين في سمرقند، وذهب كبير الكهنة بالخطاب إلى حاكم سمرقند المسلم فقرأه فوجد الخليفة يأمره بأن يختار أحد القضاة المسلمين ليحكم في الشكوى التي قدمها كهنة سمرقند واختار الوالي قاضيًا يثق فيه، وحدد موعدًا للمحاكمة. استمع القاضي إلى كبير الكهنة الذي تكلم عن أهل سمرقند وقال: "نحن نعرف أن دينكم قد حدد ثلاثة أمور لنشر دعوته أولها: الدعوة إلى الدخول في الإسلام، فمن لم يقبل فعليه دفع الجزية مقابل توفير الأمن والدفاع عنه وهذا هو الثاني، فإن رفض الدخول في الإسلام ورفض دفع الجزية يأتي دور الحرب والقتال، ولكن جيشكم لم يفعل هذا ودخل مدينتنا بالخديعة". فسأل القاضي قائد المسلمين: "هل هذا ما حدث؟ ". أجاب القائد المسلم: "أصلح الله القاضي! إن الحرب خدعة وهذا البلد أنقذه الله على أيدي جنودنا وهداه إلى طريق الحق والنور". فقال القاضي: "وهل خيرتم أهله بين واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية، وإلا فالحرب؟ ". قال القائد: "لا أيها القاضي". عندئذ أصدر القاضي المسلم أعجب حكم في التاريخ قال: "قد حكمت على جيش المسلمين بأن يخرج من سمرقند ويسلم البلاد إلى أهلها، ثم يعرض عليهم الدخول في الإسلام، فإن لم يقبلوا فالجزية، وإلا فيعلق عليهم الحرب والقتال".

عدل المسلمين

وتم تنفيذ الحكم، وانسحب جيش المسلمين من سمرقند، وعادت المدينة إلى أهلها، ودهش الجميع أمام هذا الحكم الذي يدل على عدالة الإسلام، وكانت النتيجة أن دخل أهل سمرقند في الإسلام، وعاد جنود المسلمين إليها، ليسوا جنودًا محاربين بل إخوة متحابين يعانق كل واحد منهم أخاه من أهل سمرقند، ويهنئه بالدخول في الإسلام تحت راية الحب والسلام!! عدل المسلمين اختلف علي بن أبي طالب - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مع رجل يهودي فذهبا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليحكم بينهما، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للإمام علي: اجلس يا أبا الحسن إلى جوار خصمك؟. فجلس علي وقد بدت على وجهه علامات التأثر والألم، وبعد أن حكم أمير المؤمنين عمر بينهما بالحق وانصرف اليهودي راضيًا التفت إلى علي وقال له: هل أسأت إليك بطلبي الجلوس إلى جوار خصمك؟ قال علي: لا والله، وإنما أسأت لأنك قلت لي: يا أبا الحسن وفي هذا إكبار لي أمام خصمي، فخشيت أن يشعر هذا اليهودي بأنه لا يوجد عدل بين المسلمين. المساواة من العدل لما تولى أبو بكر - رضي الله عنه - الخلافة خطب فيهم قائلا:"أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" إنه يوضح منهج العدل من أول يوم في خلافته. قال عمر بن الخطاب يوما: ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟ يعني أتكفي شهادته في إقامة الحد عليها؟ فقال له علي بن أبي طالب: يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن المسلمين. إنها المساواة بين الجميع فلا فرق بين الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرءوس إلا بالتقوى.

عبادة بن الصامت

عبادة بن الصامت لقد كان عبادة بن الصامت من الصحابة الأجلاء، أسود اللون، وكان رئيس الوفد الذي أرسله عمرو بن العاص لمفاوضة المقوقس عظيم القبط، فضاق به المقوقس لسواده وبسط جسمه، وطلب من الوفد أن يتكلم غيره فردوا عليه: إن هذا أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، وقد أمره الأمير علينا فلا نخالف أمره. فعجب المقوقس، كيف يكون الأسود أفضلهم؟ فردوا عليه بأن الألوان ليست ما يقاس به الرجل. إن الإسلام لا يعرف في تقييم البشر إلا الخلق والمواهب الفاضلة. عمر والعدل كان جبلة بن الأيهم آخر أمراء بني غسان، من قبل هرقل، وإن الغساسنة يعيشون تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائما على غزو الجزيرة العربية، خاصة بعد نزول الإسلام، ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام تعلن إسلامها فبدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضا، فأسلم وأسلم ذووه معه، وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بها زمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطيء إزاره رجل من بني فزارة فحله، فغضب الأمير الغساني لذلك، وهو حديث عهد بالإسلام، فلطمه لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حل به، وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟ فأجاب بأنه قد ترفق كثيرا بهذا البدوي (وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه عيناه) فقال له عمر: لقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقتص منك، وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري، وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟ فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما، فقال الأمير الغساني، لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل اقتصصت منك. فقال جبلة: إذن أتنصر.

رد المظالم

فقال عمر: إذا تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك. وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام، وفر إلى القسطنطينية فوصل إليها متنصرا، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم. وفي هذه القصة نرى حرص الإسلام على مبدأ المساواة؛ فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولابد لهذه المساواة أن تكون واقعا حيا ليس مجرد كلمات توضع على الورق. رد المظالم تولى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الخلافة فأمر مناديا ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها إلى أمير المؤمنين. وذات يوم كان عنده العباس بن الوليد بن عبد الملك، فدخل عليه رجل نصراني من أهل حمص، أبيض الرأس واللحية، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بكتاب الله عز وجل. قال عمر: وما ذاك؟ فأخبره الرجل أن العباس بن الوليد بن عبد الملك أخذ أرضه واغتصبها. فقال عمر للعباس: ما تقول؟ فأخبره العباس أن أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك كان قد أعطاها له، وكتب له بها عقدا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي.؟ قال الذمي: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد ابن عبد الملك، فاردد يا عباس أرضه، فردها العباس عليه. اشتري مظلمته لما رجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليعرف أخبار رعيته فمر بعجوز في خباء لها فقال: ما فعل عمر؟ قالت: أقبل من الشام سالما. فقال: ما تقولين فيه؟

رجل يضرب الأمير

قالت: يا هذا، لا جزاه الله عني خيرا. قال: ولم؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين دينارا ولا درهما. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله، والله ما ظننت أحدا يولى على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر وقال: واعمراه! كل الناس أفقه منك حتى العجائز يا عمر، ثم قال لها: يا أمة الله بكم تبيعين ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله. فقال عمر: لست أهزأ بك، ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينار. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فوضعت العجوز يدها على رأشها وقالت: واسوءتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه. فقال لها عمر: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا بخمسة وعشرين دينارًا، فما تدعي عليه عند وقوفه في الحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود". ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي (¬1). رجل يضرب الأمير عن عمر بن شيبة قال: قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لرجل من تجيب: يا منافق. فقال التجيبي: يا أمير المؤمنين، إن عَمْرًا نفَّقني، ولا والله ما نافقت منذ أسلمت، فكتب عمر -رضوان الله عليه- إلى عمرو، وكان إذا غضب كتب: إلى العاصي بن العاصي: أما بعد، ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء24، 25.

قميص عمر

فإن فلانا التجيبي ذكر أنك نفقته، وقد أمرته إن أقام عليك شاهدين، أن يضربك أربعين -أو قال سبعين- فقام فقال: أنشد الله رجلا سمع عَمْرًا نفقني إلا قام فشهد، فقام عامة من في المسجد، فقال له حنتمة: أتريد أن تضرب الأمير؟ وعرض عليه الأرش "دية الجرح" فقال: لو ملأت لي هذه الكنيسة ما قبلت، فقال له حنتمة: أتريد أن تضربه؟ قال: ما أرى لعمر هاهنا طاعة، فلما ولما قال عمرو: ردوه، فأمكنه من السوط، وجلس بين يديه، فقال: أتقدر أن تمتنع عني بسلطانك؟ قال: لا، فامض لما أمرت به، قال: فإني قد عفوت عنك (¬1). قميص عمر جاءت إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقمشة من اليمن، فأعطي كل رجل من المسلمين قطعة تكفي ثوبا واحدا، ثم أخذ نصيبه ونصيب ولده عبد الله وخاطه ولبسه. فلما صعد عمر المنبر ليخطب في الناس، وقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، قام إليه رجل من المسلمين، وقال: لا سمعا ولا طاعة، فقال عمر: ولم ذلك؟ قال: لأنك استأثرت علينا، قال عمر: بأي شيء؟ قال الرجل: لقد أعطيت كلا منا قطعة من القماش، تكفي ثوبا واحدا، وأنت رجل طويل، وهذه القطعة لا تكفيك ثوبا، ونراك قد خيطه قميصا تاما، فلابد أنك أخذت أكثر مما أعطيتنا، فالتفت أمير المؤمنين إلى ابنه عبد الله، وقال: يا عبد الله أجبه عن كلامه، فقال عبد الله: لقد أعطيته من كسائي ما أتم به قميصه، قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة. الأمير لا يستأثر على الرعية بأموال لا تحل له من المال العام. مجلس القضاء كان بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما خصومة فذهبا إلى زيد بن ثابت ليحكم بينهما، فرحب بهما زيد، وأدخلهما ووسع لعمر ليجلسه في مكان متميز، وقال: اجلس ما هنا يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: هذا أول جور (ظلم) جرت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي. وجلس الخصمان معا أمام زيد، فادعى أبي شيئا وأنكر عمر، وفي مثل هذه الحال، على المدعي أن يأتي ببينة، وعلى من أنكر أن يقسم، عندئذ قال زيد لأبي: أعف أمير ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 118).

الرسالة

المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره، ولكن عمر رفض وحلف اليمين، ثم قام غاضبا لأن القاضي يفرق بينه وبين خصمه، وأقسم ألا يتولى زيد القضاء، حتى يكون عمر ورجل من عموم المسلمين عنده سواء، لا فرق بينهما. إذا أخطأ الأمير مع بعض الرعية، فلابد أن يقدم إلى التحقيق والقضاء، بلا تفريق بينهما، حتى ينتشر العدل، ويشعر الجميع بالأمان. الرسالة دخل أعرابي على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - غاضبا، وألقى في حجره لفافة من الشعر، فقال عمر: ما هذا؟ قال الأعرابي: جئت أشكو إليك فقد ظلمني الوالي أبو موسى الأشعري، قال عمر: وماذا فعل؟ قال الأعرابي: لم يعطني حقي كاملا، فرددته إليه، فغضب، وجلدني عشرين سوطا، وقص شعري، وهو في هذه اللفافة التي ألقيتها إليك. فتألم عمر وأرسل إلى أبي موسى الأشعري يأمره أن يجلس أمام جماعة من المسلمين ليجلده الأعرابي عشرين سوطا، ثم يحلق له شعر رأسه. فلما قرأ أبو موسى رسالة عمر قام إلى الأعرابي وقال له: تقدم ونفذ ما أمر به عمر، ثم أعطاه سوطا ليجلده، وقدم إليه رأسه ليحلقه، فتأثر الأعرابي، وعفا عنه، وقال: لن يظلم أحد وعمر أمير المؤمنين. لا يظلم أحد أبدا في ظل تطبيق شريعة الله، فلنحرص على تطبيقها في أنفسنا تطبق على أرضنا. دعوة المظلوم مستجابة ادعت أروى بن أويس على سعيد بن زيد - رضي الله عنه - أنه أخذ شيئا من أرضها، فخاصمته (شكته) إلى مروان بن الحكم، وقالت: إنه أخذ حقي، فترك سعيد ما ادعت المرأة من الأرض، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها. فجاء سيل من الماء فأظهر عن ضفتها (حدود الأرض) فإذا حقها من الأرض خارجا عن حق سعيد، فذهب إلى مروان وأخبره عما رأى، وعلم مروان والناس أن المرأة ظلمت سعيدا، وبعد فترة عميت المرأة، وسقطت في بئرها، فماتت استجابة لدعوة سعيد. فتذكر -أخي المسلم- أن دعوة الظلوم مستجابة، فلا تظلمن أحدا مهما كنت مسئولاً.

القاضي شريح وابنه

القاضي شريح وابنه يحكى أن ابنا لشريح القاضي قال لأبيه إن بيني وبين قوم خصومة فانظر في الأمر، فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي الحق لم أخاصمهم، ثم قص قصته عليه فقال شريح: انطلق إليهم فخاصمهم فخاصمهم ابنه أمام أبيه القاضي، فقضى شريح على ابنه! فقال ابنه له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك بطلب النصح لم ألمك .. فضحتني! فقال شريح: يا بني، والله لأنت أحب إليَّ من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز علي منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم على مال فتذهب ببعض حقهم! بين شريح وعلي بن أبي طالب لما توجه عليّ - رضي الله عنه - إلى صفين، افتقد درعًا له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة، أصاب الدرع في يد يهودي، فقال لليهودي: الدرع درعي، لم أبع ولم أهب. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. فقال: نصير إلى القاضي. فتقدم عليّ، فجلس إلى جنب شريح، وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أصغروهم من حيث أصغرهم الله". فقال شريح: قل يا أمر المؤمنين. - فقال: نعم. هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي، لم أبع ولم أهب. فقال شريح: أيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي. فقال شريح: ألك بينة، يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحسن والحسين سيدا أهل الجنة" فحكم القاضي بالدرع إلى اليهودي.

الراعي والرعية رحمة وعدل

فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني على قاضيه، وقاضيه قضى عليه! أشهد أن هذا هو الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن الدرع درعك. الراعي والرعية رحمة وعدل كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحدٌ من الناس -إذا خرج- كتابًا إلا حمهل. فخرج بريد من مصر، فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتابًا تذكر فيه أن لها حائطًا قصيرًا، وأنه يقتحم عليها منه، فيسرق دجاجها، فكتب إليها عمر: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح. بلغني كتابك وما ذكرت من قصر حائطك، وأنه يُدخل عليك فيه، فيُسرق دجاجك، فقد كتبت لك كتابًا إلى أيوب بن شُرحبيل -وكان أيوب عماله على صلاة مصر وحربها- آمره أن يبني لك ذلك حتى يُحصنه لك مما تخافين إن شاء الله، والسلام. وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت إلي ذكر قصر حائطها، وأنه يسرق دجاجها، وتسأل تحصينه لها. فإذا جاءك كتابي هذا؛ فاركب أنت بنفسك إليه حتى تُحصنه لها. لما جاء الكتاب إلى أيوب؛ ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين فيها، وحصنه لها. عدل وثبات كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد. فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أُخرجها من يده إلا ببينة. فكلتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد. فكلتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجنها من يد التاجر إلا بحق. فلما جاءه الكتاب، قال: ملأته، والله، عدلاً، وصار قُضاتي تردني إلى الحق. **

الولاء والبراء

الولاء والبراء كل مرة ذكر فيها حزب الله في القرآن إنما ذكرت بجانب الولاء مقيدة فيه، مما يدل على أن الولاء هو الميزان الذي يوزن إيمان الإنسان به، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. فهاتان الآيتان بينتا أنه لا يكون الإنسان من حزب الله إلا إذا حرر ولاءه ومودته، فلم يعطهما لعدو الله مهما كان نوعه، بل يعطيهما لله ورسوله والمؤمنين، وهذه هي الصفة الأولى للمؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71]. والولاء في اللغة: الموالاة؛ أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه، ووالى فلان فلانا إذا أحبه. واصطلاحا: الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا. البراء لغة: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] أي إعذار وإنذار. واصطلاحا: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار. حكم الإسلام إن الله يأبى علينا أن نعطي ولاءنا إلا بجامع الإيمان والإسلام: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

كل أنواع الموالاة على أي آصرة من الأواصر غير الإسلام باطلة ومخرجة لصاحبها عن الإسلام. إن الله حرم على المسلم أن يعطي ولاءه على أي أساس غير أساس العقيدة السليمة الصحيحة، قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] أي أن هذا غير ممكن لأَن عباد الله لا يوالون أحدا من دون الله فكيف يوالون أعداء الله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16] والوليجة في اللغة البطانة والخاصة. إن الله عز وجل حرم على المؤمن أن يعطي ولاءه للكافرين ولا المنافقين، ومتى أعطى المؤمن ولاءه للكافرين فقد صار منهم، وهذه نصوص قطعية لا تحتمل جدلا، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 57 - 58]. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. يقول سيد قطب: إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل، ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا انبتّت وشيجة العقيدة، والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل، وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالد والولد، والزوج والزوجة، إذا انقطع بينهما حبل العقيدة، فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة، والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة، إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا، إنما هي هؤلاء حين

مظاهر الولاء للكفار

تجمعهم عقيدة واحدة، وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين، إنما هي مجموعات من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، وهذا هو التصور الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني، وكتاب الله الكريم (¬1). مظاهر الولاء للكفار 1 - من أول مظاهر الولاء النصرة -طاعة الله في الكافرين- وربط المصير بالمصير ونأخذها من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11]. 2 - من مظاهر الولاء إعطاء الكافرين أسرار المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قال ابن كثير: كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن حاطبا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم. فلما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها العهد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتجهز لغزوهم وقال: "اللهم عمِّ عليهم خبرنا"، فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا، فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله استجابة لدعائه، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها. فإخبار الكافرين بأسرار المؤمنين لدفع خطط المؤمنين، أو لتوقي الكافرين من المؤمنين ولاء يخرج من الإيمان، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146]. 3 - ومن مظاهر الولاء المحبة والمودة، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. قال ابن مسعود: لو عبد الله بين الحجر والمقام سبعين عاما لم يحشره الله إلا مع من ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (1/ 113).

أحب. فكونك تجد إنسانا عواطفه مع الكافرين والمنافقين يميل إليهم ويحبهم، ويتمنى انتصارهم، فذلك ولاء من أعظم الولاء، فمن مال بقلبه إلى قوم يعملون بالمعاصي، ورضي أعمالهم كان منهم وعليه مثل وزرهم، وإن كان بعيدا عنهم، جاء في الحديث: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها (أنكرها) كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضعيها كان كمن شهدها" [رواه أبو داود]. 4 - من مظاهر الولاء مجالسة الكافرين والمنافقين اختيارًا وسماع كلامهم القبيح مع الاستمرار في الجلسة دون الرد أو الغضب أو الخروج قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] هكذا (إنكم إذًا مثلهم) فمن كثر سواد قوم فهو منهم. 5 - من مظاهر الولاء الطاعة، فمن أطعته فقد توليته، ومن كلام إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45]. وولاية الشيطان طاعته والاستجابة له: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] وقد بين الله عز وجل أصناف الكافرين والمنافقين حتى لا نكون منهم، وجعل طاعتهم ردة: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 25 - 26]. وقد فصل القرآن في أصناف من لا تجوز طاعته تفصيلا كثيرا حتى لا نهلك. فقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]. {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} [القلم: 8 - 15]. {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] أي وكان أمره تقدما على الحق ونبذا له وراء ظهره. {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 151 - 152].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} [آل عمران: 149 - 150]. 6 - من مظاهر الولاء التشبه، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1). فمن تشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه فقد والاهم وهو منهم، ومن تشبه بالكافرين فهو منهم، وفرض الله علينا أن نعطي ولاءنا للمؤمنين: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. إنه ما لم نعط المؤمنين ولاءنا نأثم، وإعطاؤنا الولاء لغيرهم ضلال، وليس عندنا في الإسلام حياد مقبول عند الله، فمن لم يكن مع المسلمين فليس منهم، ولكن لا يعتبرونه ضدهم حتى يقاتل أو يظهر العداء، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90] ولكن إذا لم نعتبرهم ضدنا فكذلك لا نعتبرهم منا، وليس هذا بنافعهم شيئا عند الله يوم القيامة ما لم يسلموا فيكونوا منا. 7 - الرضا بكفر الكافرين أو الشك في كفرهم، ويتضح هذا الأمر في كونه ولاء للكفار أنه يسعدهم ويسرهم أن يروا من يوافقهم على كفرهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. 8 - التحاكم إليهم دون كتاب الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] وإن من الإيمان ببعض ما هم عليه: فصل الدين عن الدولة والقول بأنه لا توجد علاقة للإسلام بالسياسة. 9 - الركون إليهم، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. 10 - مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] والمداهنة والجاملة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، ¬

_ (¬1) أبو داود (3512)، كتاب اللباس.

من قصص الولاء والبراء

وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم، حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة والقدوة، وصدق الرسول حيث قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه" قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " (¬1). 11 - اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. لا يألونكم خبالا: لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد (¬2). من قصص الولاء والبراء عثمان بن مظعون قال ابن إسحاق: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أحباب رسول الله من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله لا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت إليك جوارك، فقال له: يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فرد عليّ جواري علانية كما أجرتك علانية. قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليَّ جواري، قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. ¬

_ (¬1) البخاري (3197) كتاب أحاديث الأنبياء- باب ما ذكر عن بني إسرائيل. (¬2) الولاء والبراء للقحطاني 186: 189، بتصرف.

قال عثمان: صدقت. قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل. قال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن رليعة: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه من سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى كثر أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة. قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، إني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال: لا (¬1). براءة إبراهيم من الكافرين قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم: 41 - 49]. يقول سيد قطب: إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء138، 139.

البشرية، وتصطدم من ثم بالتصورات والأوضاع المخالفة كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولابد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة. وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها، ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم، وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة، وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة. إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم، وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له، وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة، أن نظن أن لنا وإياهم طريقا واحدا نسلكه للتمكين للدين، أما الكفار والملحدون، فهم مع الكفار والملحدين، إذا كانت المعركة مع المسلمين (¬1). سيدنا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فلم يؤمن معه إلا القليل، ولقد أبى ابنه أن يستجيب لدعوته، وكان من الغارقين. لقد استعلى نبي الله على العاطفة ورضي بحكم الله فلا لجاجة ولا التواء، ولا معذرة ولا تأويل، بل تسليم مطلق واتباع لما يحب الله ويرضى، وإعراض عما يكره ويبغض، وولاء لمن يحب الله، وبراء وعداء لمن حاد الله ولو كان أقرب قريب، ولم يكن شأن نبي الله نوح هذا ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 909، 910).

مقصورا على هذا الابن الكافر، بل أيضا مع زوجته، ويا له من امتحان عظيم مع الزوجة والابن قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]. على أن مما يجب التنويه عنه هنا أن هذه الخيانة في الدين وليست في الفاحشة، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء عليهم السلام. الفتية أصحاب الكهف فتية تركوا الأهل والولد والوطن والعشيرة حين علموا أنه لا طاقة لهم بمواجهة ومجابهة قومهم فنجوا بأنفسهم إلى ذلك الكهف الذي تجلت فيه معجزة عظيمة يسوقها الله لنا عبرة وعظة في حفظه لعباده الصالحين: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} [الكهف: 13 - 16]. أبو بكر وطئ أبو بكر - رضي الله عنه - في مكة يوما بعد ما أسلم، وضرب ضربا شديدا، ودنا منه عتبة ابن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ثم نزل على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري إن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، فقالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم،

قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما ولا شرابًا أو آتي رسول الله، فأمهلهما حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكيء عليهما حتى أدخلوه على رسول الله. يا لله! رجل مضروب مثخن بالجراح لا يتناول حتى شربة الماء -وهو أشد ما يكون حاجة إليها- حتى يرى رسول الله. سعد بن أبي وقاص قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] نزلت قي سعد بن أبي وقاص قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمك .. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول لما بلغه ما كان من أبيه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالديه مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". وذكر عكرمة أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله ابن أبي على باب المدينة، واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله ابن أبي قال له ابنه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟! قال: والله لا تجوز من ما هنا حتى يأذن لك رسول الله. فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال الابن: والله يا رسول الله لا يدخلنها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله فقال: أما إذ أذن لك رسول الله فجز الآن.

أبو عبيدة بن الجراح انطلق أبو عبيدة - رضي الله عنه - يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى فهابه المشركون، ويجول جولة من لا يحذر الموت، فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه، لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه، فكان أبو عبيدة ينحرف عن طريقه ويتحاشى لقاءه ولجَّ الرجل في الهجوم، وأكثر أبو عبيدة من التنحي، وسد الرجل على أبي عبيدة المسالك، ووقف حائلا بينه وبين قتاله لأعداء الله. فلما ضاق به ذرعا ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين، فخر الرجل صريعا بين يديه .. لا تحاول أيها القارئ الكريم، أن تخمن من يكون هذا الرجل الصريع، أما قيل لك: إن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين، وجاوز خيال المتخيلين، ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة. لم يقتل أبو عبيدة أباه، وإنما قتل الشرك في شخص أبيه. إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان، والانحياز التام للصف المتميز. عبد الله بن سهيل هاجر إلى الحبشة بعد إسلامه تخلصا من أذى قريش، ثم شاء الله أن تصل أخبار كاذبة إلى مهاجري الحبشة، بأن قريشا قد أسلمت، وأن المسلمين باتوا يعيشون بين أهليهم بسلام، فعاد فريق منهم إلى مكة، وكان في جملة العائدين عبد الله بن سهيل، لم يكد أقدام عبد الله تطأ أرض مكة، حتى أخذه أبوه وكبله بالقيود، وألقى به في مكان مظلم من بيته، وجعل يتفنن في تعذيبه، ويلج في إيذائه، حتى أظهر لهم ارتداده عن دين محمد، وأعلن رجوعه إلى ملة آبائه وأجداده، فسري عن سهيل بن عمرو وقرت عينه، وشعر بنشوة النصر على محمد. ثم ما لبث المشركون أن عزموا على منازلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر فخرج معهم سهيل بن عمرو مصحوبا بابنه عبد الله، متشوقا لأن يرى فتاه يشهر السيف في وجه محمد، بعد أن كان واحدًا من أتباعه، ولكن الأقدار كانت تخبيء لسهيل ما لم يكن يقع له في حساب، إذ ما كاد يلتقي الجمعان على أرض بدر حتى فر الفتى المسلم المؤمن إلى صفوف المسلمين، ووضع نفسه تحت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وامتشق حسامه ليقاتل به أباه ومن معه من أعداء الله (¬1). ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق 151.

العزة

العزة ذلة العباد لربهم ذلة بالحق لا بالباطل، أما ذلة العبد للعبد فباطل، فقد حرم الإسلام الكبر وحرم على المسلم أن يكون مستضعفا أو ذليلا، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. إن اعتزاز المسلم بدينه هو من كبرياء إيمانه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. الأذان في أوله: الله أكبر، لكي يوقن المسلم بأن كل من تكبر بعد الله فهو صغير وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير، ولذلك اختار الله من أسمائه العظيم والأعلى ليكررها المسلم في ركوعه وسجوده. العزة حق يقابله واجب، فإذا كلفت بعمل ما فأديته على أكمل وجه فلا سبيل لأحد عليك. عزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: دخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال:"بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متم وإن حييتم"، قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن -وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - (على ما يبدو) قد رأى أنه آن الأوان للإعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن تدفع عن نفسها، فأذن بالإعلان- وخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفين، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة، فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق. من تهيب الموت وتحمل العار طلبا للبقاء في الدنيا على أية صورة فهذا حمق، فإن

كن عزيزا

الفرار لا يطيل الأجل والإقدام لا ينقص عمرا قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. كن عزيزا خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة فنزل عنها، وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فقال عمر أوِّه لو قال ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. وفي رواية قال: يا أمير المؤمنين تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزة بغيره. العزة ليست في كثرة الأموال واعتلاء المنصب، وإنما بقدر اتصالك بالله. فالله هو المعز المذل، هو الذي يؤتي الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء، قال تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. وهو المعز لمن أطاعه المذل لمن عصاه وهو المانح للعز، {وَللهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ومن أعزه الله فهو العزيز {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. عزة ربعي بن عامر طلب رستم وفدا من سعد بن أبي وقاص في القادسية فأرسل سعد ربعي بن عامر، فدخل على رستم، وقد زينوا مجلسه بالنمارق، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآليء الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بترس وفرس قصير، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد،

فزع رستم

وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها. فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي ذلك قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى، فخلص رستم برؤساء أهل فارس، فقال: ما ترون؟ هل رأيتم كلاما أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة. ثم كان أن أبى الفرس دعوة الإسلام، واختاروا المناجزة، فنصر الله المسلمين، وهزموا فارس وسبوهم، وكان يزدجرد ملك فارس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشا أوله في منابت الزيتون -أي الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول، فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم، وتعيش في ظلهم وظل عدلهم. فزع رستم لما نزل رستم النجف بعث عينا إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى موقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدا منهم يأكل شيئا إلا أن يمصوا عيدانا لهم حين يمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا، وفي يوم أذن مؤذن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فرآهم يتهيأون للنهوض فنادى في أهل فارس أن

خوف قيصر ملك الروم

يركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم بالنهوض لكم، قال أحدهم: إنما نهوضهم للصلاة، فقال رستم: أكل عمر كبدي. شعر الأعداء بالرعب من سنة واحدة وهي السواك فكيف لو تمسك المسلمون بالسنن كلها خوف قيصر ملك الروم في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، سلام مودع لم يقض منك وطرا وهو عائد، فلما عزم على الرحيل من الشام، التفت إلى بيت المقدس، وقال: وعليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده، ثم سار هرقل إلى القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلا ممن اتبعه، كان قد أسر مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم. فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار رهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأكلوا عليه، فقال. لئن كنت صدقتني ليملكُن موضعي قدمي هاتين. لن نشعر بالعزة إلا عندما نتمسك بقيام الليل وصلاة الفجر ما أعزكم آل الخطاب! في ذات سنة قدم سليمان بن عبد الملك مكة حاجا، فلما أخذ يطوف طواف القدوم، أبصر سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يجلس في الكعبة في خضوع، فلما فرغ الخليفة من طوافه، توجه إلى سالم فأفسح له الناس الطريق حتى أخذ مكانه بجانبه، وكاد يمس بركبته ركبته، فلم ينتبه له سالم ولم يلتفت إليه، لأنه كان مستغرقا فيما هو فيه، مشغولا بذكر الله عن كل شيء، وطفق الخليفة يرقب سالما بطرف خفي يلتمس فرصة يتوقف فيها عن التلاوة، فلما واتته الفرصة مال عليه وقال: السلام عليك يا أبا عمر ورحمة الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الخليفة بصوت خفيض: سلني حاجة أقضها لك يا أبا عمر، فلم يجبه سالم

العز بن عبد السلام وعزة العلماء

بشيء، فظن الخليفة أنه لم يسمعه، فمال عليه أكثر من ذي قبل وقال: رغبت بأن تسألني حاجة لأقضيها لك. فقال سالم: والله إني لأستحي أن أكون في بيت الله، ثم أسأل أحدًا غيره، فخجل الخليفة وسكت، لكنه ظل جالسا في مكانه، فلما قضيت الصلاة نهض سالم يريد المضي إلى رحله، فلحقت به جموع الناس، هذا يسأله عن حديث من أحاديث رسول الله، وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين، وثالث يستنصحه في شأن من شئون الدنيا، ورابع يطلب منه الدعاء. وكان في جملة من لحق به خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك، فلما رآه الناس، وسعوا له حتى حاذي منكبه منكب سالم بن عبد الله، فمال عليه وهمس في أذنه قائلا: ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد، فسلني حاجة أقضها لك. فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فارتبك الخليفة وقال: بل من حوائج الدنيا. فقال له سالم: إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها، فكيف أطلبها ممن لا يملكها؟ فخجل الخليفة منه وحياه، وانصرف عنه وهو يقول: ما أعزكم آل الخطاب بالزهادة والتقى! بارك الله عليكم من آل بيت (¬1). هل تفكر دائما في الآخرة أم في متطلبالت الدنيا وكمالياتها؟ العز بن عبد السلام وعزة العلماء كان الشيخ الجليل عز الدين بن عبد السلام قد تولى منصب قاضي القضاة، وما إن تولى هذا المنصب حتى لاحظ أن أمراء البلاد وقادة الجيش ليسوا من أهل مصر وليسوا أحرارا على الإطلاق، بل هم مجلوبون اشتراهم السلطان من بيت المال وهم صغار، فتعلموا اللغة العربية وعلوم الدين والفروسية والحرب، وعندما شبوا عينهم في مناصبهم فهم أمراء مماليك عبيد، إذن فليس لهم حقوق الأحرار ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء، وليس لهم أن يبيعوا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد. ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين (380 - 381).

بلغ الأمراء ذلك فعظم الخطب فيهم واحتدم الأمر واشتد، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا وتعطلت مصالحهم بذلك. وكان منهم نائب السلطان فاستشاط غضبا فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقالوا له: ماذا تريد؟ فقال الشيخ: نعقد لكم مجلسا وينادي عليكم للبيع لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث السلطان إليه فلم يرجع عن قوله، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار وأركب عائلته على حمير أخرى ومشى خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا الشام، فلم يصل إلى نصف ما يريد حتى لحقه غالب المسلمين ولم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل يتخلف ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار. بلغ السلطان الخبر وقيل له: متى راح الشيخ ذهب ملكك، فركب السلطان نفسه ولحقه واسترضاه وطيب خاطره، فرجع الشيخ واتفق على أن ينادى على الأمراء لبيعهم، فأرسل إليه نائب السلطان بالملاطفة فلم يقبل الشيخ ولم تفد الملاطفة معه فانزعج نائب السلطان وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، وركب بنفسه -نائب السلطان- في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وحكى له ما رأى، فما اهتم الشيخ بذلك ولا تغير وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله. ثم خرج وكان قضاء الله قد نزل على نائب السلطان، فحين وقع بصر الشيخ على النائب يبست يد النائب وارتجف وسقط السيف من يده وارتعدت مفاصله وبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال: يا سيدي الشيخ خير أي شيء تعمل؟ قال: أنادي عليكم، قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: فمن يقبضه، قال: أنا. فوافق وتم للشيخ ما أراد ونادى على الأمراء واحدا واحدا وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير، وهذا لم يسمع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى - رضي الله عنه - (¬1). ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء13، 14.

إن الذي يمد رجليه لا يمد يده

إن الذي يمد رجليه لا يمد يده وكان الشيخ سعيد الحلبي -عالم الشام في عصره- في درسه مادًّا رجليه فدخل عليه إبراهيم باشا، ابن محمد علي حاكم مصر، فلم يتحرك له، ولم يقبض رجليه، فتألم الباشا، ولكنه كتم ألمه، ولما خرج بعث إليه بصرَّة فيها ألف ليرة ذهبية، فردها الشيخ وقال للرسول الذي جاءه بها: قل للباشا: إن الذي يمد رجليه لا يمد يده. طاوس والخليفة لما آلت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك كانت لطاوس بن كيسان معه مواقف مشهورة منها أنه أتى بطاوس بن كيسان ودخل على هشام بن عبد الملك بعد أن آلت إليه الخلافة، فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية بساطه، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين وخاطبه باسمه دون أن يكنيه، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس، فاستشاط هشام غضبا حتى بدا الغيظ في عينيه، ذلك أنه رأى في تصرفه ذلك اجتراء عليه، ونيلا من هيبته أمام جلسائه، فقال لطاوس: ما حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعته؟ فعاد إلى الخليفة غضبه وغيظه، وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، وسميتني باسمي ولم تكنني، ثم جلست من غير إذني. فقال طاوس بهدوء: أما خلع نعلي بحاشية سلطانك فأنا أخلعهما بين يدي ربي كل يوم خمس مرات فلا يعاتبني ولا يغضب علي، وأما قولك أني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين، لأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كاذبا إذا دعوتك بأمير المؤمنين. وأما ما أخذته علي من أني ناديتك باسمك، ولم أكنك فإن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم فقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وأما قولك إني جلست قبل أن تأذن لي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله

هذا الشبل من ذاك الأسد

قوم قيام بين يديه. فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عد من أهل النار! فأطرق هشام إلى الأرض خجلا (¬1). هذا الشبل من ذاك الأسد جاء أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاوس بن كيسان، ومالك بن أنس لزيارته وهما من العلماء التابعين، فلما دخلا عليه، وأخذا مجلسيهما عنده، التفت الخليفة إلى عبد الله بن طاوس وقال: ارو لي شيئا مما كان يحدثك به أبوك. فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل الجور في حكمه. قال مالك بن أنس: فلما سمعت مقالته هذه ضممت علي ثيابي خوفا من أن يصيبني شيء من دمه، بيد أن أبا جعفر توقف ساعة لا يتكلم ثم صرفنا بسلام (¬2). نحن في ظل الله بعد أن اعتمد مكتب الإرشاد العام الصياغة التي أعدت بها مذكرة تقليدية لوزارة الدكتور ماهر بعد حريق القاهرة سنة 1952 وكلف الأستاذ الهضيبي بالتوقيع عليها وجد في نهاية الرسالة جملة "في ظل جلالة الملك المعظم" فضرب بقلمه على هذه العبارة غير ملتفت بأن مكتب الإرشاد قد اعتمدها، ولا إلى كون هذه العبارة تقليدية وإلى أن خلو الكتاب منها يثير نقمة في القصر الملكي، مجيبا على ذلك بقوله: احذفوها على مسئوليتي، وحسبنا والملك والوزارة أن نكون في ظل الله وحده. يسرني أن أكون آخرهم كان مدير السجن الحربي في صحراء الهايكستب يتودد للأستاذ الهضيبي ويتظاهر بالأسف لاعتقاله والمسارعة فيما يسره، ومن ذلك أنه أبلغه يوما عن مسعى يقوم به لتزويد غرفته بأدوات التدفئة والراحة تقديرا لمقامه وسنه، فأجابه المرشد -رحمه الله-: إني بأتم الراحة والدفء، وإذا كان باستطاعتك أن تقدم هذه المزايا لجميع الإخوان المعتقلين ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 293، 294. (¬2) صور من حياة التابعين 297.

دعهم لا يرون منا إلا البشاشة

فيسرني أن أكون آخرهم، وإلا فوفر على نفسك المساعي وأنت مشكور. غير أن مدير السجن الذي عرف إباء الرجل ومثالية إيثاره اغتنم فرصة إخلائه الغرفة في لحظات الفسحة اليومية فحمل مدفأة مكتبه الخاص وتركها مشتعلة في زنزانة الهضيبي الذي ما كاد يدخل الزنزانة ويفاجأ بنعمة الدفء ثم يلمح المدفأة في زاوية من زنزانته حتى أقبل على باب الزنزانة من الداخل يوسعه طرقا بكلتا يديه، إلى أن سمع الحارس فأسرع يفتح باب الزنزانة، ليفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيده، وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء. وأدرك زبانية الحكام أن الهضيبي الذي حسبوه فانيا سريع الاستسلام، ما هو إلا معين إباء وجلد تسري جوارحه شمما ومنعة في نفوس المسلمين فيثبت الواهن، ويضاعف من عزيمة الثابت. دعهم لا يرون منا إلا البشاشة وقد تفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة، نقلوا بها الأستاذ الهضيبي إلى زنزانة ملحقة بمكاتب الإدارة تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان، بحيث لا يرونه إلا في ساعة الفسحة من هذا البعد، لا يكلمهم ولا يكلمونه. ولفت أنظار الإخوان أن المرشد يقضي ساعة فسحته في الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطا في القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو في شبابه. ولما سأله البعض عن غرابة هذه الحركات الرياضية، وهذه الملابس الزاهية، على مقامه وسنة، قال: دعهم لا يرون منا إلا البشاشة وارتفاع الروح المعنوية، حتى يتحققوا أن سهامهم طاشت ولم يبلغوا منا ما يريدون. إن الناس يذلون أنفسهم ويقبلون الدنية في دينهم ودنياهم، إما خوفا من نقص في الأرزاق أو في الآجال والغريب أن الله قطع سلطان البشر عن الآجال والأرزاق جميعا. والنالس من خوف الذل في ذل، ومن خوف الفقر في فقر. قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21].

الشهيد سيد قطب

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله" الطبراني. الشهيد سيد قطب ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة، وعاش حياته سيدا، وغادر الدنيا سيدا، رافعا رأسه، وعاش حياته قطبا، وغادرها قطبا في الدعوة والجهاد، ونتوقف عند ساعاته الأخيرة في الدار الفانية، وقد طلب إليه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله، رعندما طلب منه كتابة كلمات يسترحم بها عبد الناصر، قال: إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفا يقر به حكم طاغية، وقال أيضا: لماذا أسترحم؟ إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل، فانا أكبر من أن أسترحم الباطل. وفي إحدى الجلسات اقترب أحد الضباط منه، وسأله عن معنى كلمة شهيد، فرد عليه -رحمه الله- شهيد يعني أنه شهد أن شريعة الله أغلى عليه من حياته. أخالف البروتوكول يقول الاستاذ عمر التلمساني: في أكتوبر 1952 دعا رجال الانقلاب الأستاذ الهضيبي وأعضاء مكتب الإرشاد إلى عشاء في سلاح المهندسين في الحلمية، فدعاهم فضيلته بعد ذلك إلى عشاء في بيته، وكنت أحضر ذلك العشاء، وجلست كعادتي على مقربة من الباب وجاء عبد الناصر وقدم لي التحية فقبلتها، وكنت أضع رجلا على رجل. وكان منتهى اللياقة أن أقف أو أن أزيل ساقي عن وضعها والرجل يقف أمامي، وفي ثوان دارت معركة في خاطري: إن ظللت جالسا فقد خالفت قواعد البروتوكول، وإن وقفت فقد يظن البعض أني أقف لرئيس الوزراء نفاقا لا لياقة، فآثرت أن أكون مخالفا لقواعد اللياقة على أن يظن بي أني منافق، وبقيت على حالتي، وما أظن عبد الناصر قد نسى ذلك (¬1). الهضيبي وفاروق توجه كريم ثابت باشا المستشار الصحفي للملك فاروق إلى منزل المستشار حسن الهضيبي وأخبره بأن الملك فاروق يطلب منه الحضور في 21/ 11/ 1951 إلى قصر القبة ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين 147، 148.

لمقابلته والتحدث. معه، فأخبره الهضيبي أنه لا يستطيع أن يوافق على ذلك إلا بعد عرض الأمر على مكتب الإرشاد، ووافق مكتب الإرشاد، وهنا طلب كريم ثابت من الهضيبي ضرورة ارتداء بدلة الردنجوت عند مقابلة الملك، فأخبره الهضيبي أنه لا يملك بدلة ردنجوت، فأرسل كريم ثابت باشا إلى الهضيبي في منزله بدلتين ردنجوت لارتداء إحداهما، ولكن حسن الهضيبي أصر أن يقابل الملك بملابسه العادية حتى ولو أدى الأمر إلى إلغاء المقابلة، فأذعن كريم ثابت لرأي الهضيبي مكرها، وتمت المقابلة بقصر القبة واستغرقت خمسا وأربعين دقيقة ونشرت الصحف هذا الخبر، ولم يصرح فضيلته للصحف بأي شيء عن هذه المقابلة علما بأن هذه أول مرة يقابل فيها الملك شخصا لا يرتدي الردنجوت. وحضر الملك إلى مكتب السكرتارية وسلم عليه الهضيبي معتدل القامة شامخا، وأخذه الملك من يده مصطحبا إياه إلى غرفة مكتبه، وجلس الهضيبي على كرسي وأخذ الملك يرحب بالهضيبي ووجه إليه الحديث قائلا: لا أدري لماذا يسيء الإخوان المسلمون الظن بي؟ فلم يرد عليه الهضيبي، وعاد الملك يقول: إنني مسلم وأحب الإسلام وأتمنى له الخير، وقد أمرت بإنشاء مساجد كذا وكذا فلماذا يكرهني الإخوان؟ ولم يرد الهضيبي أيضا. وعاد الملك يقول: إن الإخوان قد فهموا خطأ أنني أنا الذي أمرت بحلهم واعتقالهم، وباغتيال الشيخ حسن البنا، وهذا -والله العظيم- خطأ ولم أفعل من هذا شيئا، والذي فعل ذلك هم السعديون، النقراشي وإبراهيم عبد الهادي وفي اللحظة التي تمكنت فيها أقلت إبراهيم عبد الهادي، وأمرت الوزارة التي عينتها بالإفراج عن الإخوان، واستمر الملك في استعراض تاريخه وما عمله من خير ونسب كل عمل سيئ لغيره، وبين لحظة وأخرى يقول: لماذا يكرهني الإخوان إذن؟! والهضيبي لا يرد، وقال الهضيبي: إنني سهوت عن نفسي وتنبهت فوجدت نفسي في وضع عجيب. وجدتني جالسا على الفوتيل واضعا إحدى رجلي على الأخرى!! ففكرت في الرجوع إلى الجلسة المناسبة ولكنني قررت ألا أغير هذا الوضع وظللت كذلك حتى انتهاء المقابلة .. حين سأله الملك: ما رأيكم يا حسن بك في كل ما قلته، وفي أنني على استعداد أن أعمل للإسلام؟ فرد عليه الهضيبي قائلا: إنني سأعرض ذلك على الإخوان ونسأل الله التوفيق، ثم قام الملك وصافحه وأوصله حتى باب مكتبه حيث تلقاه كبار رجال القصر حتى رجع إلى

حمية العرب في الجاهلية

المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية. وقال الأستاذ الهضيبي وهو يقص أحداث هذه المقابلة بعد سنوات طويلة إنه كان يشعر وهو يجلس مع الملك أنه أمام طفل صغير ولم يشعر نحوه برهبة أو حتى احترام (¬1). حمية العرب في الجاهلية المهلهل بن ربيعة الذي اشتهر عند الناس باسم الزير سالم، كان رجل شهوات في حياته، رجل كأس وطاس، وزير نساء، ولكن حينما قتل أخوه كليب أبى إلا أن يطلِّق هذه الأمور كلها، وأن يعيش لشيء واحد أن يثأر لأخيه المقتول وقال في ذلك قولته: ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل النهار ولم يخلع درعه ولا سيفه حتى أخذ بثأر أخيه وانتقم من بني بكر، وفي يوم من الأيام قتل أحد كبرائهم فقال بعضهم: يكفيك هذا بكليب، قال: هذا يبوء بشسع نعل كليب. هذه حمية العرب في الجاهلية. وهذا عمرو بن كلثوم كان عند ملك الحيرة عمرو بن منذر -أو عمرو بن هند- وكانت معه أمه فأرادت أم الملك أن تستخدمها في بعض الأشياء فأمرتها أن تأتي لها ببعض الأشياء فكبر ذلك عند المرأة أم الفارس عمرو بن كلثوم، وأخبرت بذلك ابنها فثار وقال قصيدته الشهيرة، قصيدة عمرو بن كلثوم التي قالوا فيها إنها كانت حوالي ألف بيت وما بقي منها هو ما حفظه الرواة، ومنها: وأنا المانعون إذا غضبنا ... وأنا المانحون إذا رضينا وأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا إذا بلغ الفطام لنا رضيع ... تخر له الجبابر ساجدينا وكانت أن قامت معركة بعد ذلك بينه وبين عمرو بن هند وقد قتل عمرو بن هند ملك الحيرة. ¬

_ (¬1) وعرفت الإخوان 67، 68.

الأخ حافظ

هؤلاء هم العرب لا يقبلون الذل، ويقول عنترة في شعره: لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلة لجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل هكذا كان القوم، وفي أول الإسلام حين هزمت قريش في معركة بدر الكبرى، قتل منهم سبعون من الصناديد وأسر منهم سبعون، وكان أبو سفيان بن حرب لا يزال مشركا وكان يعتبر زعيم القوم في ذلك الوقت، خصوصا بعد أن مات من مات من الصناديد والكبار في بدر، فآلى على نفسه ألا يمس بدنه ماء من غسل الجنابة -يعني لا يعاشر امرأته- وحرمت قريش على نفسها أن يبكي أحد بكاء نوح، أي بكاء بأصوات، يكتمون ذلك في أنفسهم حتى لا ينفسوا عن أنفسهم ليظل هذا الغضب مكبوتا إلى أن يأخذوا بثأرهم، وفي يوم من الأيام سمع بعض الناس. أنه أبيح لهم أن يبكوا وأن يشعروا وأن يعبروا عن أنفسهم، فلما خرج سأل فقالوا له: هذا رجل ضل بعيره، فهو يبكي بعيره الذي ضاع (¬1). الأخ حافظ استدعى المسيو سولنت باشمهندس القنال ورئيس قسم السكسيون الأخ حافظ ليصلح له بعض أدوات النجارة في منزله وسأله عما يطلب من أجر فقال: 130 قرشا، فقال المسيو سولنت بالعربي: أنت حرامي، فتمالك الأخ نفسه، وقال له بكل هدوء: ولماذا؟ فقال: لأنك تأخذ أكثر من حقك، فقال له: لن آخذ منك شيئا ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرءوسيك فإن رأى أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل مجانا، وإن رأى أنني طلبت أقل مما يصلح أن أطلب فسأسامحك في الزيادة. واستدعى الرجل فعلا مهندسا وسأله فقدر أن العمل يستوجب 200 قرش، فعرف المسيو سولنت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل، فقال له: سأفعل ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر وأن تسحب كلمتك، فاستشاط الرجل غضبا وغلبه الطابع الفرنسي الحاد، وأخذته العزة بالإثم وقال: تريد أن أعتذر لك؟ ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما ¬

_ (¬1) الجهاد اليوم فرض عين- القرضاوي 18: 24.

اعتذرت له، فقال حافظ في هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام، فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو السائر الحائر، وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له: افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال: الأمر هين سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولا ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكو إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريقة، فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع أفوكاتو لا نجار! ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس فكيف تتصور أني أعتذر لك؟ فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ثم تعود إلينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا؟ فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ ... وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى. وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات الثائر وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول: أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي، فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال: متشكر يا مسيو سولنت. وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت 150 قرشا فأخذ منها 130 قرشا ورد له العشرين. فقال له: خذها بقشيشا، فقال: لا، لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فكون حرامي، فدهش الرجل وقال: إني مستغرب لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت "فاميلي محمد" فقال حافظ: يا مسيو سولنت كل المسلمين "فاميلي محمد" ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلا: متشكر، متشكر كتر خيرك وفيها الإذن بالانصراف (¬1). ¬

_ (¬1) مذكرات الدعوة والداعية 85: 87.

وقفة قرآنية

أصبرًا على مس الهوان وأنتمو ... عديد الحصى، إني إلى الله راجع يقول سيد قطب: وما يعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله، وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين وإلا فإن الله غني عن العالمين (¬1). وقفة قرآنية يقول تعالى في صفات المؤمنين: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. يقول سيد قطب: فهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء .. ولهذه الخصائص هنا موضع، إنها ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس، إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين، إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم، ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين، ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى، وبغلبة قوة الله على تلك القوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية، فهم الأعلون حتى وهم منهزمون في بعض المعارك، في أثناء الطريق الطويل (¬2). الرنتيسي يقول الشهيد الرنتيسي -أثناء اعتقاله- قام مدير عام المعتقل وهو صاحب رتبة عسكرية رفيعة ويدعي "شلتئيل" يطلب عقد لقاء مع ممثلي المعتقلين، ولقد اجتمع ممثلون عن مختلف الفصائل في خيمة من خيام المعتقل في أحد أقسامه لتدارس الأمر قبل انعقاد اللقاء مع الإدارة، وأحب المعتقلون أن أرافقهم وقد فعلت، وأثناء لقائنا في الخيمة سمعت بعض الشباب يحذر من "شلتئيل" ويضخم من شأنه ويخشى من غضبه، فشعرت بأن له هيبة في نفوس بعض الشباب وهذا لم يرق لي ولكني لم أعقب ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (2/ 780). (¬2) المصدر نفسه (2/ 919).

بشيء، ثم جاءت حافلة في يوم اللقاء لتقلنا إلى ديوان "شلتئيل" وأخذت وأنا في الحافلة أفكر في استعلاء هذا الرجل وهيبته في نفوس الشباب وكيفية انتزاع هذه الهيبة من نفوسهم، ولقد وطنت نفسي على فعل شيء ما ولكني لا أعلمه، ولكن كان لدي استعداد تام أن أتصدى له إذا تصرف بطريقة لا تليق، ووصلت الحافلة ودخلنا ديوانه فكان عن يميننا داخل القاعة منصة مرتفعة حوالي 30 سنتيمترا عن باقي الغرفة، وعليها عدد من الكراسي، وعن شمالنا كانت هناك عدة صفوف من الكراسي المعدة لنا، فجاء رؤساء الأقسام المختلفة وجميعهم من الحاصلين على رتب عسكرية في الجيش، ومن بينهم مسئول أحد الأقسام قد كان في الماضي نائب الحاكم العسكري لمدينة "خان يونس" وكان يعرفني مسبقا، وكان نائب "شلتئيل" أيضا يجلس على المنصة مع رؤساء الأقسام، وجلس المعتقلون المملثون لكل الفصائل على الكراسي المعدة لهم وجها لوجه مع رؤساء الأقسام تفصلنا عنهم مسافة لا تزيد على مترين، ولقد جلست في الصف الأول في الكرسي الأول الأقرب إلى باب الديوان، ثم بعد وقت قليل دخل "شلتئيل" وكان رجلا طويل القامة ضخم الجثة فالتفت بطريقة عسكرية وأشار بيده فوقف الشباب وبقيت جالسا، وكان هذا اللقاء هو اللقاء الأول بيني وبينه فلا يعرفني، فاقترب مني وقال: لماذا لا تقف؟ فقلت له: أنا لا أقف إلا لله وأنت لست إلها ولكنك مجرد إنسان وأنا لا أقف للبشر. فقال: يجب عليك أن تقف، فأقسمت بالله يمينا مغلظا ألا أقف، فأصبح في حالة من الحرج الشديد ولم يدر ما يفعل، حاول التدخل أحد قادة فتح في المعتقل -وهو العقيد "سامي أبو سمهدانة"- ليخبره أنني إذا قررت لا أتراجع، فرفض الاستماع إليه وأصر على موقفه، ولكني أبيت بشدة، فقال نائبه: يا دكتور هنا يوجد بروتوكول يجب أن يحترم. فقلت له: ديني أولى بالاحترام ولا يجيز لي الإسلام أن أقف تعظيما لمخلوق. فقال: وما الحل؟ فقلت: إما أن أبقى جالسا أو أعود إلى خيمتي.

من الطرائف

فقال "شلتئيل": عد إذن إلى خيمتك، فخرجت من الديوان ولم يخرج معي إلا الأخ المهندس "إبراهيم رضوان" والأخ "عبد العزيز الخالدي" وكلاهما من حماس (¬1). من الطرائف يقول الشهيد الرنتيسي: من الطرائف التي حدثت في فترة اعتقالي أن شرطيا يهوديا رآني أحمل القرآن وأتصفحه، فسألني: يا دكتور، ماذا في كتابكم؟ فقلت: أمور كثيرة. قال: ماذا يقول إنكم فاعلون بنا؟ قلت له: يقول إننا سنذبحكم بعد أن تتجمعوا في بلادنا. فقال: متى يكون ذلك؟ فقلت: لا أدري ربما يكون خلال أربعين سنة -وكنا في عام 1990 - فأخذ يحسب ثم همهم قائلا: ليس مهما بالتأكيد سأكون ميتا. فقلت له: وماذا تقول التوراة؟ فقال: نفس الشيء فتجمعنا هنا نهايته الذبح، ثم استدرك قائلا: ولكن عندما نفسد. فقلت: سبحان الله كأنكم لم تفسدوا بعد! (¬2). ... ¬

_ (¬1) مذكرات الرنتيسي 39، 40. (¬2) المصدر نفسه 47.

الذكاء

الذكاء المسلم يتميز بسرعة البديهة، والعقل الراجح، والعلم الواسع، والقدرة على الاجتهاد، وحسن النظر، والحكمة والذكاء، والعلم والفطنة. وهذه بعض مواقف الأذكياء ليتعلم منها المسلم الفطنة وحسن التصرف مع الأمور. دار الأرقم في بداية الدعوة إلى الإسلام، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًّا، حذرًا من قريش التي كانت متعصبة للشرك، وكانت تضطهد كل من يؤمن بالدعوة الجديدة. لذلك اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بن أبي الأرقم ليجتمع بها مع أصحابه الكرام، فلم يكن أحد من قريش يعلم أن الأرقم كان قد أسلم، ولن يخطر على بال قريش أن يتم اللقاء في داره، وكان الأرقم من بني مخزوم الذين كانوا يحملون لواء التنافس على سيادة قريش ضد بني هاشم، وكان بعيدًا عن ذهن قريش أن يجتمع محمد وأصحابه في قلب ديار بني مخزوم. كما أن الأرقم كان في هذا الوقت صغير السن، لا يتجاوز عمره السادسة عشرة، وكان من المستبعد أن يجتمع المسلمون في منزل هذا الفتى الصغير. المناظرة بين خليل الله والنمرود كان النمرود بن كنعان حاكما لبلاد كنعان التي كان يعيش فيها نبي الله إبراهيم. فدعاه إبراهيم إلى الإيمان بالله بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن النمرود لم يستمع إلى دعوة الخير، وادعى أنه إله ودار بين إبراهيم والنمرود حوار طويل، لجأ فيه إبراهيم إلى الدليل العقلي، فقال له: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فقال النمرود: أنا أحي وأميت، فأنا أستطيع أن آتي برجلين قد حُكم عليهما بالقتل، فأقتل أحدهما وأعفو عن الأخر فأحييه، هنا فكر إبراهيم في حجة قوية لا يستطيع النمرود إنكارها مهما عاند واستكبر، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] فلم يستطع النمرود أن يرد على هذا الدليل القاطع الحاسم.

طريق اليمن في الهجرة

إذا تحدثت مع أي إنسان فلا تجادل ولكن عليك بالدليل الواضح. طريق اليمن في الهجرة في بداية هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، سار نحو الجنوب عكس اتجاه المدينة، ثم عاود السير تجاهها ليجعل الكفار يعتقدون أنه توجه إلى اليمن وليس إلى المدينة، كذلك كلف النبي عامر بن فهيرة أن يتعرف على ما يقال بمكة، ثم يأتيه بالخبر في الليل، ويحلب لهما الأغنام، ثم يصبح ويسرح مع الناس، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت معهما في الغار، ثم يذهب إلى مكة في الفجر، فيصبح مع قريش كأنه بات في مكة، ويسمع ما يقال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، ثم يعود إليهما بالأخبار في الليل. كن فطنًا في التعامل مع الأعداء ولا تترك دليلاً على أفعالك. الإبل المذبوحة في غزوة بدر، أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقة استطلاع مكونة من علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم- إلى بدر ليستطلعوا أخبار العدو، فوجدوا اثنين من قريش يملآن قِرَب الماء ويحملانها على ظهور الإبل ليسقوا جيش المشركين، فأسروهما وأخذوهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى الأسيرين سألهما: "كم القوم؟ " فقال أحدهما: كثير، قال: "ما عدتهم؟ " قال: لا ندري. فسألهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن عدد الإبل التي يذبحونها كل يوم، فأخبراه أنهم ينحرون في يوم تسعة إبل، وفي يوم عشرة إبل، فقدر الرسول أن كل ناقة يأكلها مائة من الرجال، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"القوم فيما بين التسعمائة والألف" وكانت معرفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدد جيش قريش أول خطوة من خطوات النصر في بدر. الحجر الأسود قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب مكة سيل شديد، فتهدمت بعض أجزاء من الكعبة الشريفة، واجتمعت قريش وقرروا بناءها من جديد، وتسابقت القبائل لتنال شرف الاشتراك في إعادة بناء الكعبة، فلما تم البناء، وأرادوا إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، تشاجر زعماء القبائل لنيل هذا الشرف، حتى كادت الحرب تقع بينهم، فرأى الحكماء

حيلة يوسف

منهم أن يحتكموا إلى أول من يدخل عليهم، وشاءت إرادة الله أن يكون القادم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فارتضوه حكمًا، وحكوا له القصة، فخلع النبي - صلى الله عليه وسلم - رداءه، ووضعه على الأرض، ثم أخذ الحجر الأسود ووضعه على الرداء، وطلب إلى زعماء القبائل أن يمسك كل واحد منهم بطرف من الرداء، ثم يحملوا الحجر إلى مكانه، ففعلوا. فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، ووضعه في مكانه، وبذلك ساهموا جميعًا في حمل الحجر الأسود، ونالوا ذلك الشرف. حيلة يوسف جاء إخوة يوسف إلى مصر لشراء القمح والطعام، فلما دخلوا على أخيهم -الذي كان وزيرًا للبلاد- عرفهم ولم يعرفوه، وأعطاهم ما أرادوا، ووعدهم أنه سيزيد لهم في العطاء في المرة الثانية، إن أحضروا معهم أخاهم من أبيهم، فإن لم يحضروه فلن يعطيهم شيئًا. فلما جاءوا في المرة الثانية أحضروا معهم أخاهم، ففكر يوسف في حيلة ليحجز أخاه، ويستبقيه إلى جواره، فأمر رجاله أن يضعوا مكيال الملك الذهبي الذي يكيل به في أمتعة أخيه، ثم أعلن أن المكيال قد سرق. فنفى إخوة يوسف أن يكونوا قد سرقوا المكيال، فسألهم يوسف عن جزاء من يسرق في شريعتهم؛ حتى يطبق ذلك الحكم عليه إذا وجد المكيال مع أحدهم، فأخبروه أن السارق يؤخذ رهينة أو أسيرًا، مقابل ما يسرق، فأمر يوسف بالتفتيش، فوجدوا المكيال في متاع أخيه، ونجحت حيلة يوسف في أن يأخذ أخاه. داود وسليمان كان لرجل قطيع من الأغنام، وذات يوم دخلت هذه الأغنام حقل رجل آخر، فأكلت ما به من حرث وثمار وأفسدت الزرع، فذهب صاحب الحرث إلى نبي الله داود ليحكم في أمره، فحكم داود لصاحب الحقل أن يأخذ الأغنام نظير ما أُفسِد من حرثه، فلما علم ابنه سليمان بذلك قال: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا، فدعاه داود وسأله: كيف تقضي بينهما؟ فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الحرث الأغنام فينتفع بما تلد وما تنتج من ألبانها، ويأخذ صاحب الأغنام الأرض فيزرعها ويصلحها حتى تعود كما كانت عليه أول مرة، فإذا ما أعطاها كما كانت ردت إليه أغنامه، وأخذ صاحب الحرث أرضه،

قصة الرجل الحكيم

ورغم أن حكم داود كان صحيحًا ولكنه أعجب برأي ابنه سليمان. قصة الرجل الحكيم كان الفاروق عمر بن الخطاب جالسًا ذات يوم مع بعض أصحابه، وكان فيهم جرير بن عبد الله، فشم ريحًا كريهة، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح أن يقوم فيتوضأ، لكن جرير أراد ألا يتعرض من أخرج الريح للحرج، وفضل أن يقوم المسلمون جميعًا فيتوضأوا، فقال: يا أمير المؤمنين، أو يتوضأ القوم جميعا، فأعجب عمر بحكمة جرير وفطنته، وقال له: رحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية! ونعم السيد أنت في الإسلام! الفطنة لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا ومعه صاحبه أبو بكر سلكا طريقًا غير الذي اعتاد الناس السفر منه إلى المدينة، فاتجها نحو الساحل في الطريق المؤدي إلى اليمن، وأخذ أبو بكر يسير أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خشي أن يهجم عليه عدو من خلفه سار وراءه، حتى وصلا إلى المدينة سالمين. وكان أبو بكر تاجرا معروفًا، يطوف البلاد، ويتعامل مع الناس، فكان إذا لقيه الناس عرفوه، وسألوه عن الرجل الذي يسير معه، وكان أبو بكر لا يريد أن يخبر أحدًا بحقيقة صاحبه قبل وصوله إلى المدينة، وكان لا يحب أن يكذب، فكان يقول: هاد يهديني، يقصد الهداية في الدين، بينما يحسبه السائل دليلاً يدله على الطريق. هل تتصرف في أمورك الصعبة بحكمة وفطنة؟ خالد بن الوليد في مؤتة في غزوة مؤتة، استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاتفق المسلمون على أن يتولى خالد بن الوليد، فلما تولى خالد القيادة فكر في حيلة لينجو بالجيش؛ لأنه لا يمكنه التغلب على قوات الروم الكثيرة بهذا العدد القليل من المسلمين، فغير أماكن الجنود، وأمر بعض الكتائب أن تبتعد عن ساحة القتال، ثم يأتوا مندفعين أثناء المعركة وهم يكبرون، ويثيرون التراب بخيولهم، وفي الصبح فوجيء جنود الروم بوجوه جديدة من الجنود المسلمين لم يروها من قبل في الأيام الماضية، ثم جاءت الكتائب الأخرى فظنها

في غزوة الأحزاب

الروم مددًا لجيش المسلمين، فدب الرعب في قلوبهم، وفي الليل سحب خالد جيشه من المعركة تدريجيًا حتى لا يلاحقهم الروم. وهكذا استطاع أن ينقذ جيش المسلمين. في غزوة الأحزاب حاصر المشركون المدينة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان إلى معسكر المشركين، ليعرف أخبارهم، وما يتآمرون به ضد المسلمين، فتسلل حذيفة في الظلام حتى وصل إلى جيش المشركين، واندس بينهم، وبينما هم يتحدثون ويدبرون مكائدهم، أراد قائدهم أبو سفيان بن حرب أن يطمئن إلى أن مجلسهم لم يتسلل إليه أحد من المسلمين، فأمرهم أن يتعرف كل واحد منهم على من يجلس إلى جواره. شعر حذيفة بحرج شديد، وخشي أن ينكشف أمره، فأسرع وأمسك بيد الجالس إلى جواره، وبادره بالسؤال: من الرجل؟ فقال الرجل المشرك: فلان بن فلان، وهكذا استطاع حذيفة بحسن تصرفه وذكائه أن يشغل من إلى جواره عن معرفته، وعاد إلى معسكر المسلمين سالمًا بفضل الله تعالى. حيلة أبي بصير كان من شروط صلح الحديبية بين المسلمين وقريش أنه إذا أتى المسلمين المشرك مسلمًا ردوه لقريش، وإذا أتى المسلم مشركًا لا ترده قريش للمسلمين. فكان ممن أسلم في هذا الوقت رجل يسمى أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية رده رسول الله -حسب المعاهدة- إلى قريش التي بعثت تطلبه، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. فانطلق حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه المشركان اللذان جاءا ليأخذاه فقال أبو بصير لأحدهما: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه. قال: انظر إن شئت، فأستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله وفر الآخر سريعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه فلحقه أبو بصير، وقال للرسول: يا رسول الله، وفت ذمتك

الصنم والكلب

وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بدني أن أفتن فيه أو يعبث بي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ويل أمه محشى (مشعل) حرب لو كان معه رجال". فلما بلغ المستضعفين بمكة قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -:"محشى حرب لو كان معه رجال " إذا بهم يتبعونه بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قوافل قريش إلى الشام وكانوا سبعين رجلاً، فقطعوا الطريق على قريش وعمدوا إلى كل قرشي أو قافلة تمر فيقتلونهم، حتى كتبت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم بهم، فآواهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقدموا عليه المدينة. الصنم والكلب كان لعمرو بن الجموح صنم يعبده، فلما أسلم ابنه معاذ فكر في حيلة يهدي بها أباه، ويثبت له أن الأصنام لا تضر ولا تنفع. وذات ليلة، انتظر هو وصديقه معاذ بن جبل حتى نام أبوه، وأخذا الصنم ووضعاه في حفرة قذرة، وفي الصباح، لم يجد عمرو صنمه، فغضب وظل يبحث عنه، حتى وجده في الحفرة، فأحضره وغسل عنه النجاسة، وكرر معاذ في الليالي التالية ما فعله بالصنم، فضاق عمرو بما يحدث لصنمه، فأحضر سيفه وعلقه على الصنم، حتى يدافع به نفسه إن كان يستطيع ذلك، وجاء المعاذان ليلاً وأخذا الصنم، وربطاه في كلب ميت، وألقياهما في بئر مليئة بالقاذورات، وفي الصباح، لم يجد عمرو صنمه، فبحث عنه، فوجده في البئر مربوطًا في الكلب، فعلم أنه لا يضر ولا ينفع، وانشرح صدره للإسلام فأسلم. الفتى الذكي كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرب الصحابة الذين حاربوا في غزوة بدر من مجلسه، وكان يجلس معهم عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فتضايق بعض القوم من ذلك لصغر سن ابن عباس فأراد عمر أن يعرفهم علم ابن عباس ومنزلته، فدعاه ذات يوم إلى مجلسه، وأدخله على كبار القوم، وقال لهم: ماذا تقولون في تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت الباقون. فقال عمر: أكذلك تقول يا ابن عباس؟

صديق الوالي

فقال: لا. فقال عمر: وماذا تقول؟ قال ابن عباس: هو أجل رسول الله أعلمه الله له. فالله عز وجل يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، فعلم القوم قدر ابن عباس. صديق الوالي أودع رجل عقدًا ثمينًا أمانة عند عطار، فلما طلب منه أنكر العطار، فشكاه الرجل إلى الخليفة العباسي عضد الدولة، فقال له الخليفة: اذهب واقعد أمام دكان العطار، ولا تكلمه، وافعل ذلك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع سأمر عليك أنا وبعض رجالي، وسأنزل عن فرسي، وأسلم عليك، فرد علي السلام وأنت جالس، وإذا سألتك سؤالاً أجب علي ولا تزد شيئا، وإذا انصرفت ذكر العقاد بالعقد. وفي اليوم الرابع مر الخليفة على الرجل، ونزل عن فرسه، وسلم عليه، وقال له: لم أرك من مدة؟! فقال الرجل: سأمر عليك قريبًا. فلما انصرف الخليفة، نادى العطار الرجل، وقال له: صف لي العقد الذي تتحدث عنه، فوصفه الرجل فقام العطار وفتش دكانه، وأحضر العقد، فأخذه الرجل، وذهب إلى الخليفة، فأحضر الخليفة العطار، وعاقبه على خيانته. بيت أبي تمام دخل الشاعر أبو تمام على الخليفة العتصم، وقال له قصيدة يمتدحه فيها، وشبهه في أحد أبياتها بعمرو بن معد يكرب في الشجاعة، وحاتم الطائي في الكرم، والأحنف بن قيس في الحلم، وإياس بن معاوية في الذكاء، وهؤلاء يضرب بهم المثل في هذه الصفات، فقال: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس فأراد بعض الحاضرين أن يوقعوا بين المعتصم وأبي تمام، فقالوا: لقد شبهت أمير المؤمنين بصعاليك العرب. فقال أبو تمام:

الشاعر واللص

لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شرودًا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس فأسكتهم أبو تمام بذكائه، فقد وضح لهم أن تشبيهه للمعتصم لا ينقص من قدره، فالله عز وجل قد شبه نوره بنور مصباح في مشكاة. الشاعر واللص أراد أحد الشعراء أن يسافر لأداء أمانة إلى صديق له، وكان للشاعر ابنتان، فقال لهما: إذا قدر الله، وقُتلت في الطريق، فخذا بثأري ممن يأتيكم بالشطر الأول من هذا البيت. ألا أيها البنتان إن أباكما ... قتيل خذا بالثأر ممن أتاكما وبينما الشاعر في الطريق قابله أحد اللصوص، وهدده بالقتل، وأخذ ما معه من أموال، فقال له الشاعر: إن هذا المال أمانة، فإذا كنت تريد مالاً فاذهب إلى ابنتيّ، وقل لهما: ألا أيها البنتان إن أباكما وسوف يعطيانك ما تريد، ولكن اللص قتله، وأخذ ما معه، ثم ذهب إلى بلدة الرجل، وقابل البنتين، وقال لهما: إن أباكما يقول لكما: ألا أيها البنتان إن أباكما فقالت البنتان: قتيل خذا بالثأر ممن أتاكما. وصاحتا، فتجمع الجيران وأمسكوا باللص القاتل، وذهبوا به إلى الحاكم، وهناك اعترف بجريمته، فقتله الحاكم جزاء فعله. الخياط الأعور كان أحد الشعراء يسير في شوارع الكوفة، يبحث عن خياط ليخيط له ثوبًا، وبينما هو في الطريق، قابله الأصمعي فأخذه إلى خياط أعور يسمى زيدًا، فقال الخياط للشاعر: والله لأخيطنه خياطة لا تدري أعباءة هو أم قميص. فقال الشاعر: والله لو فعلت لأقولن فيك شعرًا لا تدري أمدح هو أم هجاء، فلما أتم الخياط الثوب أخذه الشاعر، ولم يعرف أيلبسه على أنه عباءة أم قميص فقال في الخياط شعرًا: خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعًا ... أمديح أم هجاء

القارب العجيب

فلم يدر الخياط أيدعو عليه الشاعر بالعمى، أم يدعو أن يشفى الله عينه المريضة. القارب العجيب تحدى أحد الملحدين -الذين لا يؤمنون بالله- علماء المسلمين في أحد البلاد، فاختاروا أذكاهم ليرد عليه، وحددوا لذلك موعدًا. وفي الموعد المحدد ترقب الجميع وصول العالم، لكنه تأخر. فقال الملحد للحاضرين: لقد هرب عالمكم وخاف؟ لأنه علم أني سأنتصر عليه، وأثبت لكم أن الكون ليس له إله! وأثناء كلامه حضر العالم المسلم واعتذر عن تأخره، ثم قال: وأنا في الطريق إلى هنا، لم أجد قاربًا أعبر به النهر، وانتظرت على الشاطئ، وفجاة ظهر في النهر ألواح من خشب، وتجمعت مع بعضها بسرعة ونظام حتى أصبحت قاربًا، ثم اقترب القارب مني، فركبته وجئت إليكم. فقال الملحد: إن هذا الرجل مجنون، فكيف يتجمع الخشب ويصبح قاربًا دون أن يصنعه أحد؟! وكيف يتحرك بدون وجود من يحركه؟! فتبسم العالم، وقال: فماذا تقول عن نفسك وأنت تقول: إن هذا الكون العظيم الكبير بلا إله؟! فبهت الملحد. المال الضائع يروى أن رجلاً جاء إلى الإمام أبي حنيفة ذات ليلة، وقال له: يا إمام، منذ مدة طويلة دفنت مالاً في مكان ما، ولكني نسيت هذا المكان، فهل تساعدني في كل هذه المشكلة؟ فقال له الإمام: ليس هذا من عمل الفقيه؛ حتى أجد لك حلاً، ثم فكر لحظة وقال له: اذهب، فصل حتى يطلع الصبح، فإنك ستذكر مكان المال إن شاء الله تعالى. فذهب الرجل، وأخذ يصلي، وفجأة، وبعد وقت قصير، وأثناء الصلاة، تذكر المكان الذي دفن المال فيه، فأسرع وذهب إليه فأحضره. وفي الصباح جاء الرجل إلى الإمام أبي حنيفة، وأخبره أنه عثر على المال، وشكره، ثم سأله: كيف عرفت أني سأتذكر مكان المال؟! فقال الإمام: لأني علمت أن الشيطان لن يتركك تصلي، وسيشغلك بتذكر المال عن صلاتك.

العاطس الساهي

العاطس الساهي كان عبد الله بن المبارك عابدًا مجتهدًا، وعالمًا بالقرآن والسنة، يحضر مجلسه كثير من الناس؛ ليتعلموا من علمه الغزير، وفي يوم من الأيام، كان يسير مع رجل في الطريق، فعطس الرجل، ولكنه لم يحمد الله. فنظر إليه ابن المبارك؟ ليلفت نظره إلى أن حمد الله بعد العطس سنة على كل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن الرجل لم ينتبه. فأراد ابن المبارك أن يجعله يعمل بهذه السنة دون أن يحرجه، فسأله: أي شيء يقول العاطس إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله، عنذئذ قال له ابن المبارك: يرحمك الله. الرجل المجادل في يوم من الأيام، ذهب أحد المجادلين إلى الإمام الشافعي، وقال له: كيف يكون إبليس مخلوقًا من النار، ويعذبه الله بالنار؟! ففكر الإمام الشافعي قليلا، ثم أحضر قطعة من الطين الجاف، وقذف بها الرجل، فظهرت على وجهه علامات الألم والغضب، فقال له: هل أوجعتك؟ قال: نعم، أوجعتني. فقال الشافعي: كيف تكون مخلوقا من الطين ويوجعك الطين؟! فلم يرد الرجل وفهم ما قصده الإمام الشافعي، وأدرك أن الشيطان كذلك: خلقه الله تعالى من نار، وسوف يعذبه بالنار. الشكاك جاء أحد الموسوسين المتشككين إلى مجلس الفقيه ابن عقيل، فلما جلس، قال للفقيه: إني أنغمس في الماء مرات كثيرة، ومع ذلك أشك: هل تطهرت أم لا، فما رأيك في ذلك؟ فقال ابن عقيل: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، فتعجب الرجل وقال له: وكيف ذلك؟ فقال ابن عقيل: لأن النبي قال: "رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ" ومن ينغمس في الماء مرارا مثلك ويشك هل اغتسل أم لا، فهو بلا شك مجنون.

الخليفة والقاضي

الخليفة والقاضي طلب أحد الخلفاء من رجاله أن يحضروا له الفقيه إياس بن معاوية، فلما حضر الفقيه قال له الخليفة: إني أريد منك أن تتولى منصب القضاء. فرفض الفقيه هذا المنصب، وقال: إني لا أصلح للقضاء للخليفة، فقال له غاضبًا: أنت غير صادق. فرد الفقيه على الفور: إذن فقد حكمت علي بأني لا أصلح. فسأله الخليفة: كيف ذلك؟ فأجاب الفقيه: لأني إن كنت كاذبًا -كما تقول- فأنا لا أصلح للقضاء، وإن كنت صادقًا فقد أخبرتك أني لا أصلح للقضاء. براءة تزوجت امرأة، وبعد ستة أشهر ولدت طفلاً -والمعروف أن المرأة غالبًا ما تلد بعد تسعة أشهر أو سبعة أشهر من الحمل- فظن الناس أنها لم تكن مخلصة لزوجها، وأنها حملت من غيره قبل زواجها منه. فأخذوها إلى الخليفة ليعاقبها، وكان الخليفة حينئذ هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فلما ذهبوا إليه وجدوا الإمام عليًا موجودًا عنده، فقال لهم: ليس لكم أن تعاقبوها لهذا السبب، فتعجبوا وسألوه: وكيف ذلك؟ فقال لهم: لقد قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أي أن الحمل وفترة الرضاعة ثلاثون شهرًا، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أي أن مدة الرضاعة سنتان. إذن فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل يمكن أن يكون ستة أشهر. القاضي والحلوى حدث خلاف بين أحد الأمراء وزوجته حول نوعين من الحلوى؛ أيهما أطيب طعامًا؟ وذات يوم، زار أحد القضاة الأمير، فدعاه إلى تناول الطعام، وذكر له قصة خلافه مع زوجته حول نوعي الحلوى، وطلب منه أن يحكم بينهما، فقال القاضي مداعبًا: أنا لا أحكم على غائب! فأحضر الخدم نوعي الحلوى، ووضعوهما أمام القاضي، فأكل من الحلوى التي يحبها الأمير، وهو يقول: نوع جميل وطيب، ثم اقترب من الحلوى التي تحبها زوجة الأمير، وأخذ يأكل منها، وهو يقول: نوع جميل وطيب، وأخذ يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة، حتى شبع. ثم قال: أيها الأمير، ما رأيت أعدل وأفصح منهما، كلما

ما تقول في المسكر؟

أردت أن أحكم لأحدهما قدم الآخر حجته وأدلته، فضحك الحاضرون. ما تقول في المسكر؟ جاء رجل إلى إياس بن معاوية وقال له: ما تقول في المسكر؟ قال: حرام، قال: وما وجه حرمته، وهو لا يزيد عن كونه ثمرًا وماء غليا على النار، وكل ذلك مباح لا شيء فيه؟ فقال: أفرغت من قولك؟ أبقى لديك ما تقوله؟ فقال الرجل: بل فرغت، فقال إياس: لو أخذت كفا من ماء وضربتك به أكان يوجعك. قال: لا، فقال: ولو أخذت كفًا من تراب فضربتك به أكان يوجعك؟ قال: لا، فقال: ولو أخذت كفا من تبن فضربتك به أكان يوجعك؟ قال: لا، فقال: فلو أخذت التراب ثم طرحت عليه التبن، وصببت فوقهما الماء ثم مزجتها مزجا، ثم جعلت الكتلة في الشمس، حتى يبست، ثم ضربتك بها أكانت توجعك؟ قال: نعم، وقد تقتلني، فقال: هكذا شأن الخمر، فهو حين جمعت أجزاؤه وخُمر، حرم (¬1). الفراسة عن عبد الله بن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: صاحبة موسى التي قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وصاحب يوسف حيث قال: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21]، وأبو بكر حين استخلف عمر. السارق الحقيقي ذهب بعض الناس إلى قاض، وقالوا له: لقد سُرق أحد التجار، وأمسكنا هذين الرجلين، ونشك فيهما، ولا نعرف أيهما السارق، فأمر القاضي الجميع بالانتظار بحجة أنه يريد أن يشرب الماء، وطلب من خادمه أن يحضر زجاجة ماء، ولما أحضرها أخذها القاضي ورفعها إلى فمه، وبدأ يشرب، وفجأة ترك القاضي الزجاجة، فسقطت على الأرض وانكسرت، وأحدثت صوتًا مفزعًا، واندهش الحاضرون من تصرف القاضي المفاجئ، بينما أسرع القاضي نحو أحد الرجلين، وأمسكه، وقال له: أنت السارق، وأصر على ذلك، حتى اعترف الرجل ثم سأله: كيف عرفت أنني السارق؟ فقال القاضي: لأنك ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 74.

قمة في حسن التخلص

لم تفزع عند سقوط الزجاجة على الأرض، واللصوص قلوبهم قاسية جامدة، أما زميلك فقد خاف وارتعد، عندئذ عرفت أنك السارق. قمة في حسن التخلص اقتحم الخوارج مسجد الكوفة، وهم يقتلون المسلمين ويبيحون دماءهم وأموالهم وأحاطوا بحلقة أبي حنيفة وقد جردوا سيوفهم. واتجهوا إلى رأس الحلقة أبي حنيفة، وكان رابط الجأش كأن لم يحدث شيء، في الوقت الذي فزع الناس من حوله، فأشار أبو حنيفة إلى جلسائه بالثبات، فثبتوا، وقال رئيس الخوارج مخاطبًا أبا حنيفة: ما أنتم؟ فأجاب أبو حنيفة في سرعة: نحن مستجيرون. فقال أمير الخوارج: دعوهم وأبلغوهم مأمنهم واقرأوا عليهم القرآن، وكان الخوارج عباد نصوص، يقرأونها ولا يفهمون روحها، فهم نظروا إلى ظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] وقد فطن أبو حنيفة إلى ذلك فأجابهم بما يعلم أنه يقنعهم وينجي نفسه وأصحابه من شرهم. عجباً لأولئك الخوارج الذين روعوا الآمنين، يقتلون المسلمين ويتركون المشركين المستجيرين، فلا بأس على أبي حنيفة حين يقول لهم: نحن مستجيرون (¬1). هل تستطيع التخلص من المواقف الصعبة بحكمة؟ مروءة وذكاء لما حج "المنصور" عرض عليه جوهر ثمين نفيس له قيمته فعرفه وقال: هذا كان لهشام بن عبد الملك بن مروان فانتقل إلى ابنه "محمد بن هشام" وما بقى من بني أمية غيره، ولا بد لي منه، ثم التفت إلى حاجبه "الربيع" وقال: إذا صليت بالناس غدًا في المسجد الحرام واجتمع الناس كلهم فأغلق الأبواب كلها ووكل بها جماعة من الثقات وافتح بابًا ¬

_ (¬1) أبو حنيفة 315.

اتصال

واحدًا وقف عليه ولا تخرج أحدًا حتى تعرفه، فإذا ظفرت بمحمد بن هشام فأت به .. فلما كان الغد فعل "الربيع" ما أمره به "المنصور" وكان "محمد بن هشام" في المسجد فعرف أنه المطلوب وأيقن أنه مأخوذ مقتول فتحير وارتاب واضطرب، فبينما هو على تلك الحال إذ أقبل "محمد بن زيد بن علي بن الحسين" فرآه متحيرا -وكان لا يعرفه- فتقدم إليه وقال: يا هذا ما بالك؟ فقال: لا شيء. فقال: خبرني ولك الأمان إن شاء الله على نفسك. قال "محمد بن هشام": فمن أنت؟ قال: أنا "محمد بن زيد بن علي بن الحسين" فزاد خوفه وطار عقله وتحقق من الموت، فقال له: لا تجزع فلست قاتل أبي ولا جدي وليس لي عليك ثأر، وأنا أجتهد في خلاصك إن شاء الله، ولكن تعذرني فيما أنا صانع بك من مكروه وقبيح خطاب، فقال له: افعل ما شئت، فطرح رداءه على وجهه وغطى به رأسه وجذبه وسحبه إلى أن قرب من "الربيع" حاجب "المنصور" وهو على الباب، فلما وقعت عين "الربيع" عليهما لطمه "محمد بن زيد" لطمات على رأسه وجاء به إلى "الربيع" وقال: يا "أبا الفضل" إن هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة أكراني جمالاً فلما دفعت له الكراء هرب مني وذهب، فأكرى جماله لبعض أهل "خراسان" ولي عليه شهور، وأريد منك من يوصله معي إلى القاضي ويُمسك جماله عن الذهاب مع الخراسانيين، فدفع إليه اثنين ليوصلاه إلى القاضي، و"محمد" قابض على الرداء وقد استتر وجهه به، فخرجوا جميعا من المسجد، فلما بعدوا عن "الربيع" قال له "محمد": اذهب إلى حال سبيلك فقبل "محمد بن هشام" يده ورأسه وقال: {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ثم خرج له جواهر قيمتها عظيمة، وقال: بالله يا بن بنت رسول الله شرفني بقبول هذا. فقال له: اذهب بمتاعك فنحن أهل البيت لا نقبل على اصطناع المعروف مكافأة، واحترس على نفسك من هذا الرجل إلى أن تخرج فإنه مجد في طلبك. اتصال اتصل بالأستاذ الهضيبي كبيران من أعوان الملك يسألانه موعدًا لزيارته، فما إن حدد

مباحث

لهما موعدا -وكان بعد ثلاثة أيام- حتى أخبراه بأنهما سيحضران معهما صورة الملك لتعليقها في دار الإخوان. وقبل الموعد ببعض ساعة هتف إلى من بداره يكلفه بصرف الرجلين إذا سألا عنه، ولما ذكر له بأن رد مثلهما بهذه البساطة سيورطه في أزمة صارخة، أعلم بألا مفر من ردهما بأية وسيلة لأنهما سيطلبان تعليق صورة الملك بالمركز العام، وهذا لا يفعله ولو قطعت يمينه، وألهم الله أخاه أن قال له: سأرسل إليك بالمنزل ولا داعي لهذا الجفاء، وما عليك إلا أن تعتذر لهما بأن الإخوان قوم متزمتون يحرمون التصوير، وسأبادر الآن إلى رفع صور الإمام الشهيد من غرف المركز العام، حتى يستقيم الاعتذار، وما إن سمعها حتى قال: يرحم الله أباك! وأنا لهما في الانتظار. مباحث يقول حسن البنا: أذكر أننا في إحدى الرحلات وقفنا بالقرب من ديرب نجم على مفترق طرق زراعية متشابهة لم ندر أيها نسلك، وتلفتنا لنجد أحدًا نسأله فلم نجد في الحقول ولا على رءوس هذه الطرق أحدًا، وأخيرًا تذكر أحدنا وهو الأخ الأمباشي محمد شلش -وكان بقسم روض الفرض إذ ذاك وقد رغب أن يصاحبنا في هذه الرحلة- أن معه صفارة البوليس فأخرجها ونفخ فيها فتسارع الخفراء من كل مكان، وجاء أقربهم فأخذ التعظيم العسكري ببندقيته وسأل مين يا فندم؟ فقال له الأخ شلش: مباحث، وأسر في أذنه كلامًا ثم قال له: أين الطريق؟ فدلنا الخفير عليه بكل أدب، وأخذنا وجهتنا إلى حيث نريد. وقلت للأخ شلش: لماذا تكذب؟ فابتسم، وقال: ما كذبت فإنما نحن مباحث عن الحق وعن الخير وعن الدين ولو قلت غير ذلك لما رضى إلا بأن نصحبه إلى العمدة، ومن يدري كيف يتصرف معنا العمدة؛ فقد نحجز عنده إلى الصباح ونحن لا وقت عندنا لهذا كله. وكانت نكتة طريفة وتخلصا أشد طرافة (¬1). ¬

_ (¬1) مذكرات الدعوة والداعية: 97.

فطنة في الإجابة

فطنة في الإجابة طالب بكلية الطب أثناء حديث الثلاثاء في المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية سأل المرشد سؤالاً: يا فضيلة المرشد هل الحب حلال أم حرام؟ فأجابه -رحمه الله- قائلاً: الحب الحلال حلال والحب الحرام حرام، ودُهش الطالب لهذا الرد البليغ وانضم إلى الإخوان المسلمين على الفور (¬1). ... ¬

_ (¬1) وعرفت الإخوان: 65.

سلامة الصدر

سلامة الصدر يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر" [رواه أبو داود]. وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من خلق الله رثى له ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة راضيًا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى. ونظرة الإسلام إلى القلب خطيرة -فالقلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة ويطمس بهجتها ويعكر صفوها. أما القلب المشرق فإن الله يبارك في قليله وهو إليه بكل خير أسرع. عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" [رواه ابن ماجه]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" [رواه الترمذي]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم" [رواه الترمذي].

تحذيرات

تحذيرات قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" [رواه مسلم]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس" [رواه ابن ماجه] (المكس: الضريبة والجباية والإتاوة التي تؤخذ بغير حق). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يبلغ عن أصحابه ما يسوؤه، قال: "لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" [رواه أبو داود]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا: رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان" [رواه ابن ماجه]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس: فيغفر الله عبد وجل لكل عبد لا يشرك به شيئًا إلا المتشاحنين، يقول الله للملائكة: ذروهما حتى يصطلحا" [رواه أحمد]. ابن الحنفية وأخيه الحسن هذا محمد ابن الحنفية (محمد بن علي بن أبي طالب ولكن شاع نسبه إلى أمه) تحدث بينه وبين أخيه الحسن بن علي جفوة، فأرسل إليه يقول: إن الله فضلك عليَّ، فأمك فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمي امرأة من بني حنيفة، وجدك لأمك رسول الله وصفوة خلقه، وجدي لأمي جعفر بن قيس، فإذا جاءك كتابي هذا فتعال إليَّ وصالحني حتى يكون لك الفضل عليَّ في كل شيء، فما بلغت رسالته الحسن حتى بادر إلى بيته وصالحه (رضوان الله عليهما) (¬1). التغافر خير من العتاب من جميل ما روى أن ابن السماك الواعظ المعروف وقع بينه وبين أحد إخوانه شيء فقال له أخوه: الميعاد بيني وبينك غدًا نتعاتب. فقال له ابن السماك: بل بيني وبينك غدًا نتغافر. ¬

_ (¬1) الطراز الرباني: 77.

الحسد

وكتب أحد الشعراء لإخوانه في مثل هذا: من اليوم تعارفنا ... ونطوي ما جرى منا فلا كان ولا صار ... ولا قلتم ولا قلنا وإن كان لابد ... من العتب فبالحسنى (¬1) الحسد الحسد لا يكون إلا بسبب نعمة أنعم الله بها على الإنسان، فمن كره تلك النعمة أحب أن تزول عن أخيه المسلم فهو حاسد. تعريف الحسد: أن تكره النعمة التي أنعم الله بها على غيرك، وتحب زوالها، ولو تمكنت من إزالتها لأزلتها، فإذا لم تكرهها ولم تحب إزالتها، ولكنك تشتهي مثلها فإن هذا يسمى غبطة: "لا حسد إلا في اثنتين" والغبطة والمنافسة محمودتان، والحسد مذموم. إلا إذا كانت النعمة في يد فاجر أو فاسق فإن حب زوال النعمة الآن ليس من أجل النعمة وإنما من أجل الفساد المترتب عليها. قال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول تعالى في بعض كتبه: "الحسود عدو نعمتي، يتسخط لقضائي، غير راض بقسمتي". أعطيت كل الناس من نفسي الرضا ... إلا الحسود فإنه أعياني ما إن لي ذنبًا إليه علمته ... إلا تظاهر نعمة الرحمن وأبى فما يرضيه إلا ذلي ... وذهاب أموالي وقطع لساني قال الأحنف بن قيس: لا راحة لحسود، ولا وفاء لبخيل، ولا صديق لملول، ولا مروءة لكذوب، ولا سؤدد لمن ليس له خلق. عاقبة حاسد ورد أن رجلاً ترك ولدين بعد مماته، وخلف لهما مالاً لا بأس به، فاقتسماه وتصرف كل منهما في حقه، فاستغله الابن الأصغر في التجارة، وأخلص لله في عمله، وكان كثير ¬

_ (¬1) الطراز الرباني: 78.

لا تحسد أخاك

التصدق، لا يبخل على عباد الله بنعمة، فنمت تجارته، وزاد ماله، وأصبح ذا ثروة طائلة، ولم يكن له أعداء. أما الابن الآخر، فقد سلك طريق الغواية حتى أهلك ثروته في الخمر والميسر والزنا، فنفدت أمواله، حتى صار فقيرًا، لا يجد ما يقتات به، ومع ذلك كان أخوه كثير العطف عليه، يؤويه ويقدم له ما يحتاج إليه. لكن كان هذا الشرير يحسد أخاه على ما آتاه الله من فضله، وفكر في طريقة يضيع بها ثروة أخيه حتى يسير مماثلاً له في الفقر، وبذلك يطمئن قلبه، فلا يعايره الناس بفقره، فصار يجتهد في الوصول إلى حيلة ينفذ بها غرضه الدنيء حتى اهتدى إلى رجل حسود، اشتهر بحسده، وقليل من الناس من ينجو من الحسد. ولكن هذا الحاسد ضعيف البصر، لا يكاد يرى إلا عن قرب، فذهب الأخ الأكبر إلى هذا الرجل المشهور بحسده وطلب منه حسد أموال أخيه، مقابل أجر يدفعه عند هلاك ثروته، وأخذه إلى طريق كانت تمر به تجارة أخيه، فنبه الأخ الأكبر الرجل الحسود إليها (التجارة) قائلاً: استعد فقد قربت تجارة أخي وصارت على بعد ميل واحد منا. فقال الرجل الحسود: يا لقوة بصرك! أتراها على هذا البعد يا ليت لي بصر قوي مثل بصرك! فشعر الرجل بألم في رأسه وأظلمت عيناه، وعمي في الحال، ومرت تجارة أخيه سالمة لم يمسها سوء. لا تحسد أخاك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أو قال: "العشب" [رواه أبو داود]. اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله النار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله وقال الحسن: يا ابن آدم: لا تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه الله لكرامته عليه فلِمَ تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك، فلِمَ تحسد من مصيره إلى النار؟

رجل من أهل الجنة

والحاسد يعتبر ساخطًا على قضاء الله تعالى في تفضيل بعض عباده على بعض. يا حاسدًا لي على نعمتي ... أتدري على من أسأتَ الأدب أسأتَ على الله في حكمه ... لأنك لم ترض لي بما وهب فأخزاك ربك بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب رجل من أهل الجنة عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى. فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعه عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤوني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار (استيقظ من نومه) وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا. فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثمَّ، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرار:"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق [رواه أحمد]. المصابون بالحسد من أوصاف اليهود الحسد لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال تعالى:

فرق بين الحسد والغبطة والمنافسة

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]. وإبليس هو أول من حسد، وأول من عصى بهذا الذنب: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. وقابيل حسد أخاه هابيل، لما خصه الله من النعم. وهؤلاء إخوة يوسف حسدوا أخاهم يوسف لعدم قدرتهم على أن يكون لهم ما عند أخيهم. فرق بين الحسد والغبطة والمنافسة قد جاء في المنافسة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد (غبطة أو منافسة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" [رواه البخاري]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل هذه الأربعة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا فهو يخبط (يصرفه في شهوات نفسه) في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علمًا ولا مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهما في الوزر سواء" [رواه ابن ماجه]. فالمنافسة في الخير محمودة، وهي طلب التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم. الغبطة: يتمنى المؤمن أن يكون لديه ما لدى أخيه المسلم من خير وفضل، دون تمني زوال هذا الخير أو هذا الفضل من عند أخيه صاحب هذه النعمة. نهاية مؤلمة يروى أن رجلاً كان يجالس أحد الحكام ويصاحبه وينصحه، فحسده رجل شرير على ذلك المقام عند الحاكم، فذهب إلى الحاكم وقال له: إن هذا الذي يجالسك، ويقول ما يقول من كلام جميل، يزعم أنك أبخر (أي لفمك رائحة كريهة) فقال له الحاكم وهو

ساخط: وكيف أتأكد من ذلك؟ قال له الرجل الحاسد: تدعوه إليك، فإنه إن دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر منك، فقال له الحاكم: انصرف حتى أنظر، فخرج الحاسد من عند الحاكم، وذهب إلى الرجل جليس الحاكم الذي وشى به عنده ودعاه إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم كثير، ثم خرج ذلك الرجل وذهب كعادته إلى الحاكم وجلس بجواره لينصحه، فقال: أيها الحاكم أحسن إلى المحسن بإحسانه، أما المسيء فستكفيه إساءته، فقال له الحاكم: ادن مني. فدنا منه، فوضع الرجل يده على فمه مخافة أن يشم الحاكم منه رائحة الثوم، فقال الحاكم في نفسه: ما أرى فلانا إلا قد صدق. وكان الحاكم لا يكتب بخطه إلا صلة أو جائزة، فكتب للرجل كتابًا بخطه إلى عامل من عماله يقول فيه: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه. فأخذ الرجل جليس الحاكم الكتاب، وخرج به، فلقيه الرجل الواشي الذي حسده. فقال له: ما هذا الكتاب؟ فقال: خط الحاكم لي كتابًا فيه جائزة. فقال له: هبه لي. قال: هو لك. فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال له العامل: في كتابك أن أذبحك، فقال له الرجل الحاسد بفزع: إن الكتاب ليس لي، فالله الله في أمري حتى تراجع الحاكم وتخبره بأمري. فقال العامل: ليس لكتاب الحاكم مراجعة، فذبحه. ثم عاد الجليس الطيب إلى الحاكم كعادته، فتعجب الحاكم، وقال له: ما فعلت بالكتاب؟ فقال الرجل الطيب: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له. قال الحاكم له: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر. قال الرجل الطيب: ما قلت ذلك. قال الحاكم: فلم وضعت يدك على فمك؟ قال: لأنه أطعمني طعامًا فيه ثوم فكرهت أن تشمه، عندئذ قال الحاكم لهذا الرجل

علاج مرض الحسد

الطيب الحكيم: صدقت. ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته. علاج مرض الحسد يكون العلاج بالرضا بالقضاء والقدر وأخذ النفس باللوم والمجاهدة. روى هشام بن عروة بن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه أو دخل حائطًا (بستانًا) من حيطانه، قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. موقف عظيم قال الملك العادل يومًا للعز بن عبد السلام: اجعلني في حل. فأجابه العز قائلاً: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله ولا يكون على الناس (¬1). مثل شائع خاطيء امسك الخشب، خمسة في عينك، خسمة وخميسة. مثل هذه الأقوال، لن تدفع حسدًا ولن تغير من قدر الله شيئًا، بل هو من الشرك، ولا بأس من التحرز من العين والخوف مما قد تسببه من الأذى، فإن العين حق، ولها تأثير، ولكن لا تأثير لها إلا بإذن الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العين حق، ولو كان شىء سابق القدر سبقته العين" [رواه مسلم]. والتحرز من العين لا يكون إلا بالرقية الشرعية، عن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله؟ قال: بلى، قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم رب الناس مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا" [رواه البخاري]. ولا يجوز الاعتقاد بأن الخشب بذاته أو الخمسة والخميسة تدفع الضر من دون الله، فالله هو النافع والضار. الاعتذار عند الخطأ يقول أحد الإخوان: غاضبت الإمام الشهيد البنا مرة وانصرفت، وشعرت بخطئي ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار (2/ 66).

كيف تصلحان غيركما؟

فعدت في اليوم التالي معتذرًا، فلم يقبل، وأمرني بالرجوع من حيث أتيت!! فعدت كاسف البال، ولكن لست ناقمًا، وما راعني إلا أني بعد عودتي إلى منزلي، أجد باب المنزل يدق، وإذا به الإمام الشهيد ومعه أحد الإخوان ويقول: جئنا نتغدى عندك! (¬1). كيف تصلحان غيركما؟ يقول الأستاذ عمر التلمساني: كان الأستاذ الهضيبي -رحمه الله- صارمًا يحملك على ترك الجدال في حضرته، فإذا تخاصم لديه أخوان، بادرهما بعبارته المعروفة عنه: إذا كنتما عاجزين عن إصلاح ذات بينكما فكيف تصلحان ذات بين الآخرين (¬2). إذا كنت تغضب من أخيك فكيف ستصلح بين الناس؟! الصلح بين عائلتين انتُدب الأستاذ التلمساني لإجراء صلح بين عائلتين كبيرتين، ببلدة دمهوج بمركز قويسنا - منوفية. وكانت إحدى العائلتين من الإخوان، والأخرى غير إخوانية، وبعد استعراض مسببات الخصام وأحداثه، تبين بشكل قاطع أن الحق إلى جانب العائلة الإخوانية، وحسب توجيهات فضيلة المرشد ضرب مثلاً عمليًا لأخلاق الإسلام التي يعيشها الإخوان، فطلب من العائلة الإخوانية التنازل عن كل حقوقها، وأن يذهب رؤوس العائلة الإخوانية لزيارة العائلة الأخرى في منازلهم، ليتعلم الناس كيف يعالج الإسلام الخصومات بين الناس، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] (¬3). ما أراد إلا الحسد قال الشعبي: أنفذني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أيامًا كثيرة حتى استحببت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب، فهمس بشيء، فدُفعت إليّ رقعة، وقيل لي: إذا أديت الرسائل عند وصولك إلى صاحبك أوصل إليه هذه الرقعة. ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين: 69. (¬2) المصدر نفسه 112. (¬3) المصدر نفسه: 134.

لفتة طيبة

قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك، ونسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار، إذ بدأت بالخروج تذكرتها فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئًا قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددت، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. قال: اقرأها، فقرأتها فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره؟ فقلت له: والله لو علمت ما فيها ما حملتها، وإنما قال ذلك لأنه لم يَرَك. قال: أفتدري لِمَ كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك. قال: فبلغ ذلك ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال (¬1). تذكر أخي الحبيب أن أعداء الإسلام يبذلون كل ما في وسعهم من أجل التفريق بين المؤمنين. لفتة طيبة يقول الأستاذ عمر التلمساني: كان الإمام الشهيد إذا آخذ يؤاخذك في رفق، يشعرك بالخطأ دون أن يحرجك، في ساعات الرضا كان يناديني باسمي المجرد يا عمر، فإذا كان هناك ما يستدعي المؤاخذة ناداني: يا أستاذ عمر، فأشعر على الفور بأن هناك ما لا يرضيه فأسرع قائلاً: ليه هو حصل حاجة؟ ما هو أنا عمر برضه، فتنفرج شفتاه عن البسمة التي تسترضي كل غاضب، ثم يبدأ في المؤاخذة بعتاب محبب إلى النفوس (¬2). اجعل عتابك لإخوانك برفق وبحب، وكن سليم الصدر، فهدفك توحيد الجهود وتجميع الأمة ونشر الإسلام. ¬

_ (¬1) الإمام أبو حنيفة: 28. (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين: 68.

أمثلة رائعة

أمثلة رائعة صعد معاوية المنبر وشرع في خطبته، وكان قد حبس عن الناس عطاياهم شهرين، فناداه أبو مسلم وقال: يا معاوية، إن هذا المال ليس بمالك ولا مال أبيك وأمك، فبأي حق تحبسه عن الناس؟! فبدا الغضب على وجه معاوية وجعل الناس يترقبون ما عسى أن يكون منه، فما كان منه إلا أن أشار إلى الناس: أن امكثوا في أماكنكم ولا تبرحوها، ثم نزل عن المنبر وتوضأ، وأراق على نفسه شيئًا من الماء ثم صعد المنبر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: إن أبا مسلم قد ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا مال أبي وأمي، وقد صدق أبو مسلم فيما قال، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" [رواه أبو داود] أيها الناس: اغدوا علي أعطياتكم على بركة الله عز وجل. جزى الله أبا مسلم الخولاني خير الجزاء، فقد كان مثلاً فذًا في الصدع بكلمة الحق، ورضي الله عن معاوية بن أبي سفيان أجزل الرضا، فقد كان نموذجًا رائعًا في الانصياع لكلمة الحق. سلامة الصدر عند قبول النصيحة قال قتادة: خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من المسجد ومعه الجارود، فإذا امرأة بارزة على الطريق، فسلم عليها، فردت عليه -أو سلمت عليه- فرد عليها. فقالت: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ تصارع الصبيان فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت. فبكى عمر، فقال الجارود: هيه، لقد تجرأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه؟ هذه خولت بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سماواته، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها (¬1). هل تقبل النصيحة من إخوانك بصدر رحب، وإن كانت ممن هو أقل منك وأصغر؟ ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق: 331.

حتى مع الخصوم

حتى مع الخصوم كان صلاح الدين الأيوبي يقف بجوار خصمه أمام القضاء دون أن يرى في ذلك حرجًا أو غضاضة؛ لأن الحق في نظره أحق أن يتبع، وقد حدث أن ادعى تاجر يدعى (عمر الخلاطي) على صلاح الدين أنه أخذ منه أحد مماليكه ويدعى (سنقر)، واستولى على ما كان لهذا المملوك من ثروة طائلة بدون وجه حق، وعندما تقدم التاجر المدعي بظلامته إلى القاضي ابن شداد، أظهر صلاح الدين حلمًا كبيرًا ورضى أن يقف موقف الخصم من صاحب الدعوى، وأحضر كل من الطرفين من لديه من شهود، وما لديه من أدلة يثبت بها رأيه، حتى اتضح في النهاية -عند القاضي- كذب الرجل وادعاؤه الباطل على صلاح الدين، ومع كل هذا رفض صلاح الدين أن يترك المدعي يخرج من عنده خائنًا فأمر له بخلعة ومبلغ من المال، ليدلل على كرمه في موضع المؤاخذة مع القدرة (¬1). احرص على قلوب إخوانك قبل حصولك على حقك. من شيم الكرام أوقع أعداء الإسلام بين ابن تيمية وسلطان مصر والشام، فنُقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة، فحكموا عليه بالحبس سنة ونصفًا في القلعة، ثم أخرجوه من السجن، وعقدوا جلسة مناظرة بينه وبين منافسيه وخصومه، فكسب ابن تيمية المناظرة، ورغم ذلك لم يتركه الخصوم، فنفي إلى الشام، ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحُبس، ثم نقل إلى الإسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر، واستمرت محنة "ابن تيمية" واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون براءته من التهم الموجهة إليه، وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا السبب في عذابه واضطهاده، لكن الإمام ابن تيمية فضل أن يعفو عنهم!! وهكذا تكون شيم الكرام (¬2). ¬

_ (¬1) صلاح الدين الأيوبي عبد الله ناصح علوان: 112. (¬2) أعلام المسلمين: 125.

خلق رفيع

خلق رفيع يقول الحاج أحمد أبو شادي: حدث أن كنت عائدًا من دورة المياه بعد أن قضيت حاجتي، فلمحت الأستاذ عمر متجهًا إلى الدورة وهو يسرع الخطى، فألقيت عليه التحية فلم أتلق منه ردًا، وفسرت الأمر بأنه لم يسمعني بالتأكيد، ولما عدت إلى العنبر بعد أكثر من ساعة أخبرني رفاقي أن الأستاذ عمر جاء يسأل عني أكثر من مرة، وأنه كان يبدو قلقًا، وأكد عليهم إبلاغي في أول فرصة، وما أن علمت برغبته حتى سارعت إلى لقائه، وأشد ما كانت دهشتي حين رآني وكان جالسًا فنهض واقفًا يضمني إلى صدره ويعتذر في حياء جم دونه حياء العذارى، مؤكدًا لي أنه لم يتمكن من رد التحية بسبب هجمة البول التي كانت كثيرًا ما تهاجمه، ورحت بدوري أهون عليه الأمر ذاكرًا أنني والله ما ظننت به إلا خيرًا، ولا أتصور أن مثله تفوته هذه البديهة، أو أنه قطعًا لم يسمعني، ولكن الرجل ظل ولفترة طويلة كلما لقيني يبادرني معتذرًا (¬1). ... ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة: 267.

حفظ اللسان

حفظ اللسان عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" [رواه الترمذي]. عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يتكفل بي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له الجنة" [رواه الترمذي]. وعن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، فقال: "قل ربي الله ثم استقم" قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف على فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "هذا" [رواه الترمذي]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" [رواه الترمذي]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [رواه البخاري]. ومن الآثار: كان أبو بكر الصديق يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام. ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وقال طاووس: لساني سبع إن أرسلته أكلني. وقال سفيان الثوري: لأن ترمي إنسانًا بسهم أهون من أن ترميه بلسانك، فإن السهم قد يخطئه، واللسان لا يخطئه. وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تتكلم.

آفات اللسان

ويقول الحسن البصري: إن لسان المؤمن من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه، ولم يتدبره بقلبه. وقيل لبكر بن عبد الله المزني: إنك لتطيل الصمت؟ فقال: إن لساني سبع، إن تركته أكلني. قد أفلح الساكت الصموت ... كلامه قد يعد قوت ما كل نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت آفات اللسان 1 - الكلام فيما لا يعنيك: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيها [رواه الترمذي]. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، قل خيرًا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، إن من شأن الساعي إلى الكمال على الطريق أن يقبل على كل أمر ينفعه، فالسبل المفضية إلى ما رامه وأمله، يجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبى بنفسه عن كل ما من شأنه أن ينزل قدره، ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، فتراه مترفعًا عن اللهو واللغو، قد شغل نفسه بما يفيدها في حياته؛ إن رأى أمرًا من اللغو أعرض عنه وأكرم نفسه عنه، إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للهو أو للغو مهين. ورحم الله بشار يوم قال متحدثًا بنعمة الله عليه: منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن أعتذر عنها. مجالسهم مثل الرياض أنيقة ... لقد طاب منها اللون والريح والطعم وقال مالك بن ضيغم: جاء رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا: هو نائم، فقال: أنوم في هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم، ثم ولى منصرفًا، فاتبعناه رسولاً، فقلنا: قل له: ألا نوقظه لك؟ قال: فأبطأ علينا الرسول، ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جدًا، فهل قلت له؟ قال: هو كان أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركته وهو يدخل

المقابر، وهو يعاتب نفسه، ويقول: قلت: نوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليك؟ ينام الرجل متى شاء، وقلت: هذا وقت نوم؟ وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيك، وتتكلمين بما لا يعنيك، أما إن لله عليَّ عهدًا لا أنقضه أبدًا ألا أوسدك الأرض لنوم حولاً، إلا لمرض حائل أو لذهاب عقل زائل، سوءة لك، أما تستحيين؟ كم توبخين؟ وعن غيك لا تنتهين؟ قال: وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني، فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته (¬1). 2 - فضول الكلام من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع. قال مجاهد: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: خمس لهن أحب إلي من الدُّهُم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر. - ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا. - ولا تمار حليمًا ولا سفيهًا. - واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به. - واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإساءة. 3 - التفحش وبذاءة اللسان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش" [رواه أحمد]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" [رواه البخاري]. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يلعن الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" [رواه البخاري]. قال أبو الدرداء: إن ناقدت الناس ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، فالعاقل من وهب نفسه وعرضه ليوم فقره، وما تجرع مؤمن جرعة أحب إلى الله ¬

_ (¬1) خير القرون (2/ 304).

عز وجل من غيظ كظمه، فاعفوا يعزكم الله، وإياكم ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام. وقال عبد الله بن مسعود: أعظم الخطايا الكذب، وسب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن صبر على الرزية يعقبه الله خيرًا منها (¬1). 4 - اللعن عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: قال رسول الله:"لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم" [رواه الترمذي]. وعن عمران بن حصين قال: بينما رسول الله في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة" قال عمران: فكأني أراها تمشي في الناس وما يعرض لها أحد [رواه مسلم]. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" [رواه مسلم]. واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى. واللعن ثلاث مراتب: الأولى: اللعن بالوصف العام، قولك: لعنة الله على الكافرين والفاسقين. الثانية: اللعن بأوصاف أخص، قولك: لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس والظلمة وآكلي الربا. الثالثة: اللعن للشخص المعين وفيه خطر كبير كقولك: لعنة الله على زيد أو هو كافر إلا ما ثبتت لعنته شرعًا كفرعون وأبي جهل. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" [رواه البخاري]. ¬

_ (¬1) بحر الدموع: 69.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا" [رواه البخاري]. 5 - الغيبة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه" [رواه مسلم]. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: إذا أردت أن تذكر عيوب أخيك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: تبصر القذى في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عين نفسك. الغيبة هى ذكرك أخاك بما يكرهه لو بلغه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته" [رواه مسلم]. الغيبة لا تقتصر على اللسان عن أبي حذيفة أن عائشة رضي الله عنها حكت امرأة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت قصتها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "قد اغتبتيها" [رواه أحمد]. ومن ذلك المحاكاة يمشي متعرجًا فهو أشد من الغيبة. جاء في صحف إبراهيم عليه السلام: على العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه. وعن مالك بن دينار -رحمه الله- أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك، أو وهنًا في بدنك، أو حرمانًا في رزقك، فأعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك. وقال لقمان لابنه: يا بني من رحم يُرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يفعل الخير يغنم، ومن فعل الشر يأثم، ومن لم يملك لسانه يندم (¬1). ويروى أن رجلاً اغتاب الحسن البصري، فما كان منه إلا أن أرسل إليه بطبق من ¬

_ (¬1) بحر الدموع: 146.

احذروا الغيبة

الحلوى قائلاً له: بلغني أنك نقلت حسناتك إلى ديواني وهذه مكافأتك (¬1). احذروا الغيبة كان الأستاذ الهضيبي لا يصرح برأيه في جمال عبد الناصر، وكان يحسب للغيبة ألف حساب، وكان يحذر من الخوض في أعراض الناس ويقول: هل نسيتم أن الغيبة من الكبائر؟ (¬2). ومر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - على بغل ميت قد انتفخ، فوقف عليه وقال: والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ جوفه خير من أن يغتاب أخاه. ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: من أكل لحم أخيه في الدنيا، قُرب إليه لحمه في الآخرة، فقيل له: كله ميتًا، كما أكلته حيًا، فيأكله وينضج ويصيح ويكلح. وقال سفيان الثوري: إياك والغيبة، إياك والوقوع في الناس، فيهلك دينك. قصة مؤثرة في عهد الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- كانت امرأة مغسلة تغسل امرأة ميتة، وبينما هي تصب الماء عليها إذا بها وهي تمرر يدها عليها تقول: كثيرًا ما زنى هذا الفرج، فماذا حدث؟ لقد التصقت يد المغسلة بجسد المرأة الميتة، وكان بينه وبين يد تلك المرأة مغناطيسية شديدة الجذب. فماذا تفعل المرأة المغسلة؟ وماذا يفعل من حولها؟ إنهم يريدون أن يدفنوا الميتة، فما كان منهم إلا قاموا باستشارة العلماء، فمن قائل: تقطع يد المغسلة؛ لأن حرمة الميت كحرمة الحي، ومن قائل: نقطع شيئًا من جسد الميتة فالحي أولى من الميت، واضطربت الآراء، لكنهم قالوا: كيف نفتي وإمامنا مالك بين أظهرنا؟! ثم ذهبوا إلى الإمام مالك، فقال لهم: قولوا للمغسلة: ماذا قلت في حق الميتة؟ فقالت المغسلة: قلت: كثيرًا ما زنى هذا الفرج. فقال الإمام: هذا قذف، وأرى أن تجلد المرأة المغسلة ثمانين جلدة من وراء حجاب، ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين: 21. (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين: 109.

الأعذار المرخصة في الغيبة

وبالفعل جلدوا المغسلة فانفصلت يدها عن جسد الميتة (¬1). إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر، وإن لم تستطع أن تنفع الناس فأمسك شرك عنهم، وإن كنت لا تستطيع الصوم، فلا تأكل لحوم الناس. وقال كعب الأحبار: قرأت في كتب السابقين: أن من مات تائبًا من الغيبة كان آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرًا عليها كان أول من يدخل النار (¬2). ومر عيسى مع الحواريين على جيفة كلب. فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا؟! فقال عيسى: ما أشد بياض أسنانه! (يعظهم وينهاهم عن الغيبة). الأعذار المرخصة في الغيبة 1 - غيبة أهل الفساد: تقص السيدة عائشة رضي الله عنها موقفًا يدل على جواز غيبة أهل الفساد فتقول: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائذنوا له، بئس أخو العشرة أو ابن العشيرة" فلما دخل الرجل ألان له الكلام. قالت عائشة: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟ فقال: "أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه" [رواه البخاري]. 2 - ذكر مساويء الزوج: تقول فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن أبا جهم، ومعاوية خطباني، فقال: "أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد"، فكرهته، ثم قال: "أنكحي أسامة بن زيد" فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا [رواه مسلم]. 3 - الغيبة عند الاستفتاء والتظلم: هند بنت عتبة زوج أبي سفيان - رضي الله عنه -قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، فاحتاج أن آخذ من ماله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" [رواه البخاري]. ¬

_ (¬1) مواقف إيمانية للنساء: 296. (¬2) تنبيه للغافلين: 124.

فقد ذكرت هند صفة ذميمة في شخص زوجها في غيبته، ولم ينكر عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنها في الحكم الشرعي لذلك. 4 - موقف أهل البدع: قال الحسن البصري: ليس في أصحاب البدع غيبة. وقال سفيان بن عيينة: ثلاث ليس لهم غيبة: الإمام الجائر، الفاسق المعلن بفسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته. وجمع ابن أبي شر في هذه الستة في بيتين من الشعر: الذم ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر والمظهر فسقًا ومستفت ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر كفارة الغيبة: "اللهم اغفر لنا وله". جاء أن رجلاً قال للحسن البصري: بلغني أنك تغتابني؟ فقال: ما بلغ قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. 5 - إفشاء السر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة" [رواه الترمذي]. يقول ابن الجوزي: رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به، فواعجبًا كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا ثم لاموا من أفشاه، ولعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء، وترى بإفشائه راحة، خصوصًا إذا كان مرضًا أو همًا أو عشقًا، وهذه الأشياء في إفشائها قريبة، إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضًا، فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه، فإذا ظهر بطل ما يراد أن يفعل، ولا عذر لمن أفشى هذا النوع، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا ورى بغيره (¬1). 6 - الوعد الكاذب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى ¬

_ (¬1) صيد الخاطر: 322 - 323.

وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان" [رواه أحمد]. 7 - الكذب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك به مصدق وأنت أول به كاذب" [رواه أبو داود]. فليحذر المسلم من الكذب مهما كان حتى لا يدخل في دائرة النفاق. ومن أنواع الكذب: كذب الحكام على الشعوب مثل أن يذكر بعض الحكام بأن هناك تنمية اقتصادية كبيرة، وأنه قد تم القضاء على الفقر، وسيتم توفير فرص العمل لكل الشباب و ... ثم لا يجد الشعب شيئًا من هذه الأمور وينخدعون بما يقال. الكذب في دين الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" [رواه البخاري]. فعلى كل مسلم أن يتأكد من صحة أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم -. الكذب على الأطفال لا تكذب على أولادك بحجة إسكاتهم أو ترغيبهم، فإن ذلك يعودهم على الكذب عن طريق المحاكاة والقدوة السيئة. عن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وما أردت أن تعطيه؟ " قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة" [رواه أبو داود]؛ لأن الإسلام يوصي أن نغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة" [رواه أحمد]. علِّم أولادك عدم التفريق بين أنواع الكذب، فتقول: هذه كذبة بيضاء لا تؤثر، وألا

يضحك زملاءه بنكتة كاذبة يسخر فيها من أحد، ويتعلم الاعتراف بالخطأ فلا يكذب على المدرس مثلاً إن لم يقم بعمل الواجب ويقول: عندي واجبات كثيرة أو يقول: كنت أذاكر لإخوتي الصغار. من المقولات الخاطئة إن الله يحب عبده الفشار، ويكره عبده المكار. أو يكذب الناس ويقولون: كذبة إبريل. ومن الناس من يعود أبناءه على الكذب فيجلس في البيت وإذا سأل عليه شخص قال لابنه: اذهب فقل له: إن أبي غير موجود بالمنزل، وبهذا يتعود الطفل الكذب. الكذب في المدح المدح مدرجة إلى الكذب؛ عن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله فقال: "ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك" ثم قال: "من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه" [رواه البخاري]. الكذب في الموعد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدس الكلمة التي يقولها، وذلك إشارة إلى الرجولة الكاملة فعن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة، فجئت فإذا هو في مكانه فقال:"يا فتى لقد شققت عليّ!! أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك" (وكان يأتي في الموعد المضروب بينهما) [رواه أبو داود]. فإذا أعطيت موعدًا فلابد أن تكون صادقًا في الالتزام به حفاظًا على أوقات الآخرين، ولا تعتذر إلا لضرورة ويكون الاعتذار مسبقًا. الكذب في البيع والشراء قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن التجار هم الفجار" فقيل: يا رسول الله، أليس الله قد أحل البيع؟ قال: "بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون" [رواه أحمد]. وعن أبي ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره" [رواه مسلم].

ومن مظاهر الكذب في البيع والشراء في الأسواق: الإعلانات التي تعطي معلومات غير صادقة، والأيمان المغلظة بأن السلعة ممتازة ولا يوجد أفضل منها أو بعدم وجود عيوب بها. الكذب عند الضحك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح مع أصحابه ولا يقول إلا صدقًا، جاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له الرسول: "إني حاملك إلا على ولد الناقة" فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! انصرف ذهنه إلى الصغير، فقال: "وهل تلد الإبل إلا النوق؟ " [رواه الترمذي]. الكذب في الشهادة من ينتخب شخصًا في الانتخابات وهو لا يستحق فقد كذب في الشهادة، قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، والحيف في الشهادة من أشنع الكذب. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قلنا: بلى، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت [رواه البخاري]. لأن شهادة الزور تؤدي إلى الفساد الاجتماعي والاقتصادي، ولقد انتشرت شهادة الزور في الواقع المعاصر، حتى أصبحت تجارة أمام المحاكم، يأتي الظالم برجلين من عملاء الزور، ويقول لهما: اشهدا بكذا وأنا أعطيكما كذا وكذا، ويذهب الرجلان ويقفان أمام القاضي ويقسمان بأنهما سيقولان الحق، ثم يشهدان زورًا، ومن نماذج شهادة الزور في عصرنا: شهادات توثيق الميلاد أو الخبرة المزورة، وشهادات التوصية للعمل أو الترقية المزورة، والتزوير في الانتخابات وفواتير البيع والشراء المزورة. جواز الكذب يقول ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواضع خير من الصدق. وعن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث:"الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها" [رواه أحمد].

8 - النميمة قال بعض الحكماء: النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك، فقد نقل عنك، والساعي بالنميمة كاذب لمن يسعى إليه، وخائن لمن يسعى به. وقال الشاعر: احفظ لسانك لا تؤذ به أحدًا ... من قال في الناس عيب قيل فيه بمثله يقول ابن الجوزي: اتق الله، واشتغل بعيوبك عن عيوب الناس، ولا تكن كمثل الذباب الذي لا يعرج على المواضع السليمة من الجسد، ولا ينزل عليها، وإنما يقع على القروح فيدميها. فمن بحث عن مساويء الناس، واتبع عوراتهم، واشتغل بعيب غيره، وترك عيبه، سلط الله تعالى عليه من يبحث في عيبه، ومساوئه ليشهرها، ويتبع عوراته ويبديها وينشرها. عن أبي برزة السلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" [رواه أحد]. الصمت نفع والكلام مضرة ... فلرب صمت في الكلام شفاء فإذا أردت من الكلام شفاء ... لسقام قلبك فالقرآن دواء يقول صاحب الإحياء: كل من حُملت إليه نميمة وقيل له: إن فلانًا قال فيك كذا وكذا فعليه ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه؛ لأن النمام كذاب وفاسق، وهو مردود الشهادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبحه؛ لقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17].

الثالث: أن يبغضه في الله لأنه بغيض عند الله ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. الرابع: ألا تظن بأخيك الغائب سوءًا لقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث للتحقق، اتباعًا لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. السادس: لا ترضى لنفسك ما نهيت الناس عنه، ولا تحك نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نمامًا ومغتابًا، وتكون قد أتيت لما عنه نهيت. وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدًا. ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى، إنه كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" [رواه البخاري]. قال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حيًا. وقال أحد الحكماء: لا تأمن من كذاب لك، أن يكذب عليك، ومن اغتاب عندك غيرك، أن يغتابك عند غيرك. وقال عبد الرحمن بن عوف: من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها. وقال الحسن: من نم لك نم عليك، وهذه إشارة إلى أن النمام يجب أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة؟ وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]. وجاء عن علي أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت، فإن

شر النمام عظيم

كنت صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك. فقال: أقلنا يا أمير المؤمنين. وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. شر النمام عظيم وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى. قال حماد بن سلمة: باع رجل عبدًا وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة. قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أيامًا ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتزوج عليك، فخذي الموسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وترى أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين. ***

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله أول داع إلى الله هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45 - 46]. جميع الرسل دعوا إلى الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، هذه الآية الكريمة أفادت أمرين: أولا: خيرية هذه الأمة. ثانيا: أنها حازت هذه الخيرية لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف بخلاف المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]. المكلف بالدعوة كل مسلم ومسلمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. وتؤدى الدعوة بصورة فردية وبصورة جماعية، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "المقصود أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه". وأشار أبو حنيفة إلى ضرورة التجمع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه الجهود الجماعية لتحقيق هذا المقصود. مهمة المسلم يقول البنا: إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك وتعالى في آية واحدة في كتابه، ورددها القرآن الكريم بعد ذلك في عدة آيات، فأما تلك الآية التي اشتملت على مهمة المسلم في الحياة فهي قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ

نصيحة

فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 77 - 78]. هذا كلام لا لبس فيه ولا غموض، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لواضح كالصبح ظاهر كالنور، يملأ الآذان، ويدخل على القلوب بغير استئذان، أفلم يسمعه المسلمون قبل الآن؟ أم سمعوه ولكن على قلوبهم أقفالاً لا تعي ولا تتدبر؟ يأمر الله المسلمين أن يركعوا ويسجدوا وأن يقيموا الصلاة التي هي لب العبادة وعمود الإسلام وأظهر مظاهره، وأن يعبدوا الله لا يشركون به شيئا، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا، وهو حين يأمرهم بفعل الخير ينهاهم بذلك عن الشر، وإن من أول الخير أن تترك الشر، فما أوجز وما أبلغ! ورتب لهم على ذلك النجاح والفلاح والفوز وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم التي يجب أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة (¬1). نصيحة يقول البهي الخولي: اعلم أن مثل الداعية القوي المؤمن كمثل السيل المنحدر من شواهق الجبال .. فيه منه قوة الاندفاع، وفيه منه للناس سر الانتفاع، ولكن السيل لا يعجل إلى العقبات أو الهضاب فيمزقها، بل يدور حولها ويحيط بأطرافها، ويمضي إلى ما خلفها، ويتركها معزولة عما عداها، ثم يعلو ماؤه ويغزر فيضه، فيرتفع على جوانبها بالتدريج حتى يغطي قممها، ويخضع لسلطانه برءوسها الشامخة. فرسالتك أيها الداعية قد نزلت من الماء لا من الجبل، وأنت سر اندفاعها وانتفاع قلبها، وأنت الذي يجب أن تسبح بدعوتك في كل مكان، فإذا صادفتك عقبة من قانون عتيد، أو شخصية طاغية، فلا تعرض لها بغير ما يعرض لها السيل، ادعها بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تقف عندها فذلك خرق وجهل، بل افعل ما يفعل السيل؛ در حولها، وامض في سبيلك إلى ما وراءها، وادع الناس إلى جانبك حتى تغدو منعزلة عما عداها، ويقنعها الواقع بقوة أمر الله، أو يغيبها الله عن النظار (¬2). ¬

_ (¬1) الرسائل: 41. (¬2) تذكرة الدعاة، بتصرف 253.

الأعداء يخططون

الأعداء يخططون يقول المبشر تكلي: يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيرا من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية، وتعلم اللغات الأجنبية. ويقول زويمر زعيم المبشرين النصارى: ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلابد أن ننشيء لهم المدارس العلمانية، ونسهل التحاقهم بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب (¬1). الفعل قبل القول يقول سيد قطب: الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، فهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشاهدون فعلا قبيحا، فتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفيء في قلوبهم النور الذي يشعله الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعدما فقدوا ثقتهم برجال الدين (¬2). يقول أبو العتاهية: يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذا عبت منهم أمورا أنت تأتيها تعيب دنيا وناسا راغبين لها ... وأنت أشد منهم رغبة فيها كالملبس الثوب من عري وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها (¬3) الرسول قدوة في الدعوة روى ابن إسحاق أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلام خديجة رضي الله عنها، فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي: "دين الله الذي ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة 140. (¬2) الظلال (1: 68). (¬3) أخلاق الدعاة 121.

حب الخير للناس

اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده وإلى عبادته، وتكفر باللات والعزى". فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله أن يفشي عليه سره، قبل أن يستعلن أمره، فقال له: "يا علي، إذا لم تسلم فاكتم"، فمكث عليّ تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله، حتى جاءه فقال: ما عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد"، ففعل علي وأسلم، ومكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم إسلامه، ولم يظهر به. وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب، مستخفيا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، يصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ فقال: "أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله رسولا إلى العباد وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني وأعانني عليه"، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت (¬1). حب الخير للناس يقول الحاج أحمد أبو شادي: لعب الأخ إبراهيم دورا غاية في الذكاء .. دور المسلم الذي يتمنى الخير للناس جميعا، كيف وقد ذاق حلاوة الإيمان في ظل الجماعة أن يبخل على رفيق عمره بهذه المحنة؟ إنه يعلم مدى إتقاني لتلاوة القرآن الكريم وانتهزها فرصة ليصعد بي إلى المنصة، فأسر إلى الأخ المشرف على تنظيم الحفل بشيء، وبعدها انبعث صوت الميكروفون: القرآن الكريم من الأخ أحمد أبو شادي .. أخ .. وكانت مفاجأة .. إيه الورطة دي يا عم إبراهيم؟ فكلمة أخ كانت إذ ذاك ثقيلة على نفسي وسبحان الله بعد أن من الله علي بهذه الدعوة صارت هذه الكلمة وساما أفخر به ولا أود أن لي بها ألقاب سلاطين الدنيا .. ولم أر مفرا من الإذعان، وقمت متثاقلا واعتليت المنصة وشرعت في ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب، للصلابي (1/ 39، 40).

بائع أشرطة الفيديو

تلاوة صدر سورة الأنفال وفيها ذكر غزوة بدر، حتى أتيت قول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} [الأنفال: 5 - 6] وأحسست أنني من الفريق الكاره الذين {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] (¬1). بائع أشرطة الفيديو: قصة يرويها صاحبها فيقول: أنا شاب أردني، قدمت إلى السعودية (تبوك) بحثا عن عمل، ولم أكن آنذاك مسلما حقيقيا، وإنما كنت مسلما بالوراثة كحال كثير من المسلمين في هذا الزمن العصيب. في البداية عملت في أحد المطاعم، ثم طلب مني صاحب المطعم أن أعمل في محل له لبيع أشرطة الفيديو، وما أدراك ما أشرطة الفيديو! وما فيها من الخلاعة والمجون، وفي إحدى الليالي، دخل علي شاب مشرق الوجه، بهي الطلعة، تبدو عليه علامات الصلاح والالتزام. وعجبا، ماذا يريد هذا الشاب؟ قلتها في نفسي. مد هذا الشاب يده وصافحني بحرارة، وقد علت محياه ابتسامة رائعة، تأسر القلب، وتزيل الوحشة، وتحطم الحواجز النفسية التي كثيرا ما تقف حائلا تمنع وصول الخير إلى من هم في أمس الحاجة إليه، ثم نصحني نصيحة موجزة، وحذرني من عاقبة مثل هذا العمل، وما يترتب عليه من إفساد للمجتمع، ونشر للرذيلة بين أفراده، وأن الله سيحاسبني على ذلك يوم القيامة، وبعد أن فرغ من حديثه، أهدى إلي شريطا عن "كرامات المجاهدين" .. كنت أسكن بمفردي، وأعاني من وحدة قاتلة، وقد مللت سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام، فدفعني الفضول للاستماع لذلك الشريط .. وما إن انتهيت من سماعه حتى انتابني شعور بالخوف والندم، واكتشفت حقيقة حالي وغفلتي عن الله، وتقصيري تجاه خالقي سبحانه فانخرطت في البكاء، بكيت بكاء مرا كما يبكي الطفل الصغير من شدة الندم، لقد تحدث الشيخ عن كرامات المجاهدين وبطولاتهم وقد باعوا أنفسهم لله، وحملوا أرواحهم على أكفهم ليقدموها رخيصة في سبيل الله، فعقدت مقارنة بينهم وبين من ينشر الرذيلة والفساد، ويعيش كما تعيش البهائم لا هم له إلا إشباع شهواته البهيمية، الأدهى من ذلك أنني لم أركع لله ركعة واحدة منذ اثني عشر عاما مضت من عمري الحافل بالضياع ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة 37، 38.

تفسير آية

والمجون، لقد ولدت تلك الليلة من جديد، وأصبحت مخلوقا آخر لا صلة له بالمخلوق السابق، وأول شيء فكرت فيه: التخلص من العمل في ذلك المحل، والبحث عن عمل شريف يرضي الله عز وجل، ولكن، أأنجو بنفسي وأدع الناس في غيهم وضلالهم؟ فرأيت أن أعمل في محل الفيديو سنة أخرى ولكنها ليست كالسنوات السابقة، لقد كنت في تلك السنة أنصح كل من يرتاد المحل بخطورة هذه الأفلام، وأبين لهم حكم الله فيها، راجيا أن يغفر الله لي، ولم تمض الأيام حتى جاء شهر رمضان .. هذا الشهر الذي لم أشعر بحلاوته إلا في هذه السنة؛ فقد أقبلت على قراءة القرآن، أما العمل فقد كان بجوار محل الفيديو الذي كنت أعمل فيه، تلك تسجيلات لبيع الأشرطة الإسلامية وما إن مضت السنة الخامسة حتى انتقلت إلى تلك التسجيلات الإسلامية .. وشتان بين العملين .. أما صاحب المحل السابق محل الفيديو فقد قمنا بنصحه وتذكيره بالله ونحمد الله أنه استجاب وترك المحل لوجه الله (¬1). تفسير آية جلس الحسن البصري ذات يوم في مسجد البصرة الكبير يفسر قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] ثم وعظ الناس وعظا بليغا حتى أَبكاهم وكان من بينهم شاب يقال له عتبة، فقام وقال: أيها الشيخ، أيقبل الله تعالى الفاسق الفاجر مثلي إذا تاب؟ فقال الحسن: نعم يقبل توبتك عن فسقك وفجورك، فلما سمع الشاب ذلك صاح صيحة وخر مغشيا عليه، فلما أفاق دنا الحسن البصري منه وقال له: أيا شاب لرب العرش عاص ... أتدري ما جزاء ذوي المعاصي سعير للعصاة لها زفير ... وغيظ يوم يؤخذ بالنواصي فإن تصبر على النيران فاعصه ... وإلا كن عن العصيان قاصي وفيم قد كسبت من الخطايا ... رهنت النفس فاجهر في الخلاص ¬

_ (¬1) مائة قصة وقصة، الهندي 32، 33.

أليس لها ثمن؟

فخر الشاب مغشيا عليه، ثم أفاق، فسأله الحسن: هل يقبل الرب الرحيم توبة لئيم مثلي؟ فقال الحسن: هل يقبل توبة العبد الجافي إلا الرب المعافي؟ ثم رفع رأسه، ودعا له، فأصلح الله حال الشاب (¬1). أليس لها ثمن؟ ذات يوم كان يسير عبد البديع صقر مع حسن البنا في سكة راتب باشا، فمال الإمام حسن البنا على تاجر البطيخ، وطلب واحدة وقال: كم تريد؟ فقال: خمسة عشر قرشا، فدفعها على الفور. فقال له: يا فضيلة الأستاذ .. هذا الرجل غشاش، إنها بعشرة قروش فقط. فنظر إليه مبتسما وقال: والدعوة .. أليس لها ثمن (¬2). يقول عبد البديع صقر: إنه عندما كان يعمل معاونا في الدار، كانوا يدعون الناس لحفلة شاي، فيجتمع ما لا يقل عن مائة من الناس، ويقدمون لهم الشاي، ويقوم أحد الإخوان، مبينا أهمية الترابط والتآخي، فيخرج الجمع وقد تأثر بالدعوة عدد لا بأس به، والحفلة لم تتكلف أكثر من جنيه واحد، بفضل جهود وتعاون الإخوان (¬3). تعرف على الآخرين قدم إلى الأستاذ البنا أكثر من مائة كارنيه بأسماء شباب الجوالة في إحدى المحافظات لتوقيعها، فراح يمعن النظر في صورة كل جوال ويحفظ اسمه، ولما توجه بعد أكثر من سنة لزيارة بعض قرى هذه المحافظة، كان يلتقي بالإخوان ويناديهم بأسمائهم، ولم يكن قد التقى بهم من قبل، فكان ذلك مثار دهشة الجميع (¬4). هل تتعرف على كل من تلقاه حتى وإن لم يطلب منك ذلك؟ رجل الدعوة جاء أحد كبار ضباط السلطة يشكو للناظر من هذا المدرس (أحمد ياسين عندما كان ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين 23 - 24. (¬2) حكايات عن الإخوان (2/ 56). (¬3) حكايات عن الإخوان (2/ 59). (¬4) رحلتي مع الجماعة الصامدة 351.

وصايا غالية

مدرسا للغة العربية والتربية الدينية) لأنه يجمع الأولاد في المسجد، وهو ما لم يتعود الناس عليه، فقال له الناظر: أنا سعيد جدا بهذا المدرس وسأقدم له كتاب شكر على ذلك، فأين لنا المدرس الذي يدرس الدين عمليا في المسجد؟ وحبذا لو كان في كل مدرسة في القطاع مدرس مثله! ولقد جاء طبيب للناظر وقال: يا عمي قبلنا أن يصلي الولد، وقبلنا أن يذهب للمسجد، أما أن يصوم اثنين وخميس من كل أسبوع فهذا أمر صعب ولا نقبل به. وكانت إجابة الناظر نفس الإجابة الأولى في الموقف السابق (¬1). وصايا غالية يقول البنا: آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه، والاستناد إليه، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه، وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات، وكونوا أقوياء بأخلاقكم، أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الأتقياء الصالحين. وأقبلوا على القرآن تتدارسونه، وعلى السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين، فإذا هدى الله قوما ألهمهم العمل، وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين. واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم، وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده، والفرصة آتية لا ريب فيها {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 4 - 5] (¬2). فن الدعوة إلى الله 1 - البعد عن مواضع الخلافات: يتحدث المسلم إلى الناس في الأمور المتفق عليها حتى لا يتعرض للدخول في جدال ¬

_ (¬1) شهيد أيقظ أمة 19. (¬2) الرسائل: 110، 111.

لا طائل تحته، واحذر فضول الكلام، حدث محمد بن سوقة جماعة من زواره قال: ألا أسمعكم حديثا لعله ينفعكم كما نفعني؟ قالوا: بلى، قال: نصحني عطاء بن أبي رباح ذات يوم قال: يا ابن أخي: إن الذين من قبلنا كانوا يكرهون فضول الكلام، فقلت: وما فضول الكلام عندهم؟ فقال: كانوا يعدون كل كلام فضولا ما عدا كتاب الله عز وجل أن يقرأ ويفهم، وحديث رسول الله أن يروى، أو أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، أو علما يتقرب به إلى الله، أو أن تتكلم بحاجتك ومعيشتك التي لابد لك منها، ثم حدق إلى وجهي وقال: أتنكرون {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الانفطار: 10 - 11] وأن مع كل منكم ملكين {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 17 - 18] ثم قال: أما يستحي أحدنا لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره، فوجد أكثر ما فيها ليس من أمر دينه، ولا أمر دنياه؟! (¬1) 2 - البدء بالأهم: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن، فقال له: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموالهم" (لا تأخذ أفضلها عندما تجمع زكاة أموالهم). [مسلم]. 3 - الرفق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يترع منه إلا شانه" [مسلم]. وروى عن عروة بن الزبير أنه رأى رجلا يصلي صلاة خفيفة، فلما فرغ من صلاته دعاه إليه وقال له: يا ابن أخي، أما كانت لك عند ربك جل وعز حاجة؟ والله إني لأسأل ربي في صلاتي كل شيء حتى الملح (¬2). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 14: 16. (¬2) صور من حياة التابعين 43.

4 - مخاطبة الناس على قدر عقولهم: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله. علمني الحلاق: نفع الله عز وجل بعلم عطاء بن أبي رباح طوائف كثيرة من الناس، منهم أهل العلم المتخصصون، ومنهم أرباب الصناعات المحترفون، ومنهم غير ذلك، حدث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسه قال: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة فعلمنيها حلاق؛ وذلك أني أردت أن أحلق لأخرج من الإحرام، فأتيت حلاقا، وقلت: بكم تحلق لي رأسي، فقال: هداك الله، النسك لا يشارط فيه، اجلس وأعط ما تيسر لك، فخجلت وجلست، غير أني جلست منحرفا عن القبلة، فأومأ إلي بأن أستقبل القبلة، ففعلت، وازددت خجلا على خجلي، ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال: أدر شقك الأيمن، فأدرته، وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت أنظر إليه وأعجب منه، فقال لي: ما لي أراك ساكتا؟ كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، فقال: أين تريد؟ فقلت: أريد أن أمضي إلى رحلي، فقال: صل ركعتين، ثم امض حيث تشاء، فصليت ركعتين، وقلت في نفسي: ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجام إلا إذا كان ذا علم. فقلت له: من أين لك ما أمرتني به من المناسك؟ فقال: لله أنت، لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله، فأخذته عنه، ووجه إليه الناس (¬1). 5 - عدم اليأس: قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، روى أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة، قال: رأيت رسول الله بسوق المجاز يتخللها ولقول: "أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إلى رسول الله. ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 16، 17.

حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هداية عمه: روى البخاري عن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه أخبره: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. [البخاري]. دعوة على فراش الموت: روى البخاري عن عمر بن ميمون قال: جاء شاب إلى عمر بعدما طعن، وعرف الناس أنه ميت، فقال له رجل: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ثم شهادة، فقال عمر: وددت أن ذلك كفاف، لا عليَّ ولا لي، فلما أدبر فإذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا على الغلام، فقال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك. (البخاري). 6 - التدرج: الدعوة تحتاج إلى تدرج، حتى يتمكن الآخرون من الاستجابة لها، فلا تكون الدعوة مباشرة وجامدة حتى لا تكون ثقيلة على القلوب فينفر منها، وقد تدرجت الشريعة الإسلامية في الدعوة إلى تحريم الخمر .. وقد نزل القرآن مفرقا، ولم ينزل جملة واحدة قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. 7 - القدوة الحسنة: قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

وقال الشاعر يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم 8 - ابدأ بأهلك: حدث ميمون بن مهران وزير عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فوجدته يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك يعظه فيها وينصحه، ويبصره ويحذره، وينذره ويبشره، وكان مما جاء فيها قوله: أما بعد، فإن أحق من وعى عني وفهم قولي لأنت، وإن الله قد أحسن إلينا في صغير الأمور وكبيرها، فاذكر يا بني فضل الله عليك وعلى والديك، وإياك والكبر والعظمة، فإنها من عمل الشيطان، وهو للمؤمنين عدو مبين، واعلم أني لم أبعث إليك بكتابي هذا لأمر بلغني عنك، فما عرفت من أمرك إلا خيرا، غير أني بلغني عنك شيء من إعجابك بنفسك، ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلى ما أكره، لرأيت مني ما تكره. قال ميمون: ثم التفت إليَّ عمر وقال: يا ميمون، إن ابني عبد الملك قد زين في عيني، وإني أتهم نفسي في ذلك، وأخاف أن يكون حي له قد غلب علي علمي به وأدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أولادهم، فسر إليه، وانظر هل ترى ما يشبه الكبر والفخر، فإنه غلام حدث، ولا آمن عليه الشيطان. قال ميمون: فشددت الرحال إلى عبد الملك حتى قدمت عليه فاستأذنت فدخلت، فإذا غلام في مقتبل العمر .. فرحب بي، ثم قال: لقد سمعت أبي يذكرك بما أنت أهل له من الخير، إني لأرجو أن ينفع الله بك. فقلت له: كيف تجد نفسك؟ فقال: بخير من الله عز وجل ونعمة غير أني أخشى أن يكون قد غرني حسن ظن والدي بي، وأنا لم أبلغ من الفضائل كل ما يظن، وإني لأخاف أن يكون حبه لي قد غلبه على معرفته بي، فأكون آفة عليه. فعجبت من اتفاقهما، ثم قلت له: أعلمني من أين معيشتك؟ فقال: من غلة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه، ودفعت ثمنها من مال لا شبهة

أمنية

فيه، فاستغنيت بذلك عن فيء المسلمين. قلت: فما طعامك؟ فقال: ليلة لحم، وليل عدس وزيت، وليلة خل وزيت، وفي هذا بلاغ. فقلت له: أفما تعجبك نفسك؟ فقال: قد كان في شيء من ذلك، فلما وعظني أبي بصرني بحقيقة نفسي، وصغرها عندي، وحط من قدرها في عيني، فنفعني الله عز وجل بذلك، فجزاه الله من والد خيرا .. فقعدت ساعة أحدثه، وأستمتع بمنطقه، فلم أر فتى أجمل منه (¬1). 9 - الإخلاص: لما بايع أهل العقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا إلى قومهم، فدعوهم إلى الإسلام سرا، وتلوا عليهم القرآن، وبعثوا إلى رسول الله معاذ بن عفراء ورافع بن مالك: أن ابعث إلينا رجلا من قبلك فليدع الناس بكتاب الله، فإنه قَمِنٌ أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله مصعب بن عمير، فلم يزل يدعو آمنا ويهدي الله تعالى الناس على يديه، حتى قل دار من دور الأنصار إلا قد أسلم أشرافهم، فأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم، وكان المسلمون أعز أهل المدينة، فرجع مصعب إلى رسول الله وكان يدعي المقرئ. أمنية هذا أخ مؤذن يأسف ويحزن حزنا شديدا، إذ بلغه أن برج ساعة بيج بن الشهيرة في لندن قد مال وأنه مهدد بالانهيار، فلما سئل عن سر أسفه وحزنه قال: ما زلت أؤمل أن يعز الله المسلمين، ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه (¬2). دعوة صادقة خرجت أخت مسلمة من بيتها وليس لها هم سوى أن يجعلها الله سببا لهداية من حولها، وفجأة وجدت فتاة تلبس "الاسترتش" فأشفقت عليها من النار، فتقدمت وقالت ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 90. (¬2) علو الهمة: محمد إسماعيل المقدم.

لها بكل عطف ورحمة: إنني أستأذنك أن تأتي معي إلى الجنة، فاستجابت الفتاة وقالت: وأين هي الجنة؟ قالت: في بيت من بيوت الله، فاستجابت لها الفتاة ودخلت معها المسجد فوجدت أن الكل ينظر إليها نظرة عجيبة، فأشفقت عليها (هدى) وأسرعت إلى خارج المسجد واشترت لها حجابا، وقالت لها: البسي هذا الحجاب حتى لا ينظر إليك أحد، وبعد المحاضرة انزعيه إن شئت .. فقامت الفتاة وارتدت الحجاب لأول مرة، بل وأزالت المساحيق من على وجهها وتوضأت لأول مرة، وصلت المغرب واستمعت إلى الدرس (وكان عن وصف الجنة والنار) ثم صلت العشاء، ولما كان وقت الانصراف قالت لها هدى: الآن تستطيعين أن تنزعي الحجاب إن شئت، فقالت لها الفتاة: والله لقد ذقت حلاوة الإيمان فلن أخلع الحجاب أبدا ولن أترك الصلاة، بل سكون داعية إلى الله وسأجعل حياتي وقفا لله عز وجل. وما هي إلا لحظات حتى خرجت من المسجد فصدمتها سيارة فماتت، وسالت الدماء الشريفة التي تحركت لدين الله واحترقت شوقا للقاء الله فرزقها الله حسن الخاتمة بعد أن كانت منذ ساعة واحدة ممن قال فيهن رسول الله: "صنفان من أهل النار لم أرهما ... "، وذكر منهما "ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها". [مسلم] (¬1). 10 - حب الدعوة: راحتي في الدعوة إلى الله تعالى: يقول الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله: أعرف أخا يعيش في ألمانيا، أحسبه -والله حسيبه- مجتهدا في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد، حتى لا يكاد يذوق طعاما لراحة، وقد استحوذت الدعوة على كل كيانه، حتى أرهق نفسه، وشغل عن بيته وأهله وولده، فرأى إخوانه أن يمنح عطلة إجبارية، وذهبوا به بصحبة أسرته إلى منتجع ناء لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف فيه أحدا، كي يهنأ ببعض الراحة، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلتهم بالدين، ¬

_ (¬1) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين 140.

طرفة غالية

ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى طاعة الله سبحانه، وألف بينهم، وأقاموا مسجدا كان فيما بعد منطلقا للدعوة إلى الله في تلك البلدة. إنها الحركة سر شيوع دعوة الإسلام المباركة في أرجاء الدنيا، ينطلق بها جنود لا يعلمهم إلا الله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] (¬1). طرفة غالية ويلفتنا الأستاذ محمد أحمد الراشد إلى ميزان غريب نقيس به تلك الحركة الحياتية فيقول: وقد كنت في الأيام الخوالي ألاطف إخواني فأفتش عن أحذيتهم ليس على نظافتها، وصبغها، ورونقها، كالتفتيش العسكري، بل على استهلاكها، وتقطعها، والغبار الذي عليها، وأقلبها فأرى النعل، فمن كان أسفل حذائه متهرئا تالفا فهو الناجح، وأقول له: شاهدك معك، حذاؤك يشهد لك أنك تعمل، وتغدو في مصالح الدعوة وتروح، وتطبق قاعدة: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] وبكثرة حركتك تلف حذاؤك، فأنت المجتاز المرضي عندي. قال صباح أحد زملائه: قد -والله- بعد عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه، وأتذكر ذاك التفتيش. كلمتان خفيفتان على اللسان وها هو رجل بسيط لم يتعلم العلم الشرعي، ولكن قلبه قد امتلأ بحب الله والرغبة في نصرة دين الله، فحضر يوما درسًا لأحد الدعاة وفي أثناء الدرس قال الشيخ: قال رسول الله: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم". [البخاري]. فتحرك قلب هذا الرجل البسيط لهذه الكلمات وخرج بعد انتهاء الدرس وقد عزم على أن يدعو إلى الله بهذا الحديث فبدأ يدخل على البقال ويقول له: "كلمتان خفيفتان على اللسان .. " ثم يدخل على الجزار .. إلى أن أصبح همه كله أن يعلم الناس جميعا هذا الحديث. ¬

_ (¬1) علو الهمة 283، 284.

أكبر همه

وفي يوم من الأيام يصاب هذا الرجل بمرض خطير .. ويدخل غرفة العمليات ليجري له الدكتور عملية جراحية خطيرة، وكان هذا الدكتور لا يصلي ولا يعرف طريق المسجد. وفجأة قام الرجل بعد إجراء العملية ولم يفق بعد من المخدر فقال: يا دكتور، فقال له الدكتور: هل تريد شيئا؟ فقال له الرجل: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" ثم مات الرجل. فتعجب الدكتور من هذا الرجل الذي قام وهو تحت تأثير المخدر ليقول له هذا الحديث العظيم. فتاب هذا الدكتور بسبب تلك الحادثة، وذهب ليطلب العلم الشرعي حتى أصبح الآن من الدعاة، وكل ذلك في ميزان هذا الرجل البسيط الذي لم يتعلم العلم الشرعي ولكنه أخلص في الدعوة إلى الله بحديث واحد تعلمه وذهب يدعو به الناس إلى الله تعالى. فيا ليت أهل العلم يتحركون لنصرة دين الله بدلا من أن يكون هذا العلم حجة عليهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى (¬1). أكبر همه كانت الدعوة إلى الله أكبر هم الشيخ أحمد ياسين وشغله الشاغل، يقول أحد تلامذته: شاهدته مرة يودع أحد الطلاب الذين يدرسون في جامعات مصر، فبعد أن سلم عليه سأله الطالب إن كان يحتاج شيئا من مصر فيرسله له، شكره الشيخ وأوصاه بتقوى الله وقال له: نريد عملا جادا للإسلام، ونريد حركة دائبة لتغيير هذا الواقع المؤسف للأمة الإسلامية (¬2). يدعو وهو مريض يقول أحمد عيد: دخلت عليَّ إحدى الممرضات، وأنا أصلي، وقد كنت في اللحظات الحرجة، أصلي نائما فوق السرير، فقالت بأعلى صوتها: أووه إنت موش ¬

_ (¬1) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين 612، 613. (¬2) شهيد أيقظ أمة 29.

مسلم!! ولما فرغت من صلاتي، وقد كانت واقفة تتأملني وكان الوقت فجرا، وهي تنتظر حتى تقيس ضغط الدم وخلافه، فسألتها: لماذا قلت إنني لست مسلما؟ قالت: لأنك تصلي صلاة على غير ما تعودناه من المسلمين، فأفهمتها أن صلاتي الآن تقبل بهذه الكيفية، لأنني لا أستطيع الوقوف، فقالت: وغير ذلك فهناك أسباب أخرى كثيرة، فقد تعودنا منك أحسن المعاملة، وأجمل المشاعر، فكنت حديثنا دائما ونحن في سكننا، أما كنت ترى الكثير من الممرضات، اللاتي كن تحضرن لرؤيتك، وكنت تدعوهن جميعا إلى الدخول، وتصر على ذلك وتحرص على إعطائهن الحلوى والهدايا والورود، مما كان لديك، كنا دائما نتحدث كثيرا عنك حين نعود من عملنا. فعرفتها أنني مسلم، وأن أخلاق المسلمين هي أن أكون معكن، كما تذكرين. فقالت: ولكن الجميع معاملتهم ليست على طريقتك، وعلى كل حال، أريد أن تعرفني إسلامك، فسألتها ما ديانتك؟ فقالت: بوذية، ومنذ فترة أبحث عن الحقيقة وأريد الوصول إليها، حتى رأيتك، وكنت في انتظار أن تتحسن حالتك، وأتحدث معك فيما أريد، والآن حانت الفرصة وأطلب أن تحدثني عن الإسلام، وطلبت من زوجتي أن تحضر كتاب "مبادئ الإسلام بالإنجليزية للمودودي"، فأحضرت نسختين فأعطيتهما إياها وقبل أن تفرغ من قراءتها وتعرف شيئا عن الإسلام، طلبت من الأخ الفاضل الأستاذ كامل الهلباوي أن يحضر بعض المطبوعات عن الإسلام بالكورية، فأحضر لي مجموعات متكاملة بالكورية والإنجليزية وخلافه، من الندوة العالمية للشباب الإسلامي، فنظمت منها مجموعة وناولتها إلى الممرضة. وبعد أيام جاءتني وقالت: أريد أن أسلم، فماذا أفعل؟ ومعي تسع ممرضات كلهن قرأن ويردن الإسلام، وأطلب لهن كتابا من الكتب التي أعطيتني إياها، فكونت تسع مجموعات، وطلبت مجموعة عاشرة لترسلها إلى والدها في كوريا، فأحضرت لها ما أرادت، وكانت تحضر للتدارس معي بعض الأمور في كيفية الطهارة والصلاة، وكان مما قالت: الصلاة يقرأ فيها القرآن فما هو القرآن؟ فأشرت لها إلى المصحف، ثم أحضرت لها نسخة مترجمة بالإنجليزية، فأخذتها، وبعد عدة أيام قالت: لقد نسيت كل شيء حولي وانتقلت إلى عوالم أخرى لم أكن أدري عنها شيئا وأنا الآن أعيش فقط، مع القرآن، وطلبت نسخا منه للممرضات اللاتي أخذت مني لهن مجموعات الكتب، فأخبرتها بتعذر ذلك، فعادت

حال الجامعة

وطلبت نسخة لوالدها على الأقل، فأعطيتها إياها وأسلمت "كيم" وحسن إسلامها وانتظمت في الصلاة، وتلاوة القرآن وأخبرتني بإسلام زميلاتها كذلك وانتظامهن أيضا في الصلاة، وسط دهشة باقي الممرضات في سكنهن أيضا، فعرفتها بالانتظام وعدم المبالاة بما يلقين حتى يمكن الله لدينه (¬1). حال الجامعة كانت الجامعة في بداية عهدها خالية من الإعلان بمظاهر الإسلام، حتى الصلوات كانت تؤدي تحت الأرض وفي أماكن بالية وعلى استحياء، فقال الإمام لأحد الطلاب: أذن للظهر في مكان مرئي بأعلى صوتك، واصبر، ففعل الطالب، فدهش الطلاب والفراشون، والموظفون، وكانت إحدى العجائب، فصلى السنة، ثم أقام الصلاة وصلى وحده، والجموع حوله تتعجب، وفعل في اليوم التالي مثل ما فعل بالأمس، وبعد أيام قلائل زاد العدد واحدا بعد الآخر، وهكذا لما جاء الحق وصمد زهق الباطل وفر (¬2). شبهات وردود 1 - أنه غير مكلف لأنها وظيفة العلماء فقصد: يقول الرازي في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] أن "من" ها هنا ليست للتبعيض لدليلين: الأول أن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة. والثاني أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بقول الرسول: "من رأى منكم منكرا فليغيره" وأنها للتبيين كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. 2 - من شروط الدعوة العلم: ولكن العلم يتجزأ، فالإنسان عالم بشيء وجاهل بشيء آخر؛ ولذا يتوافر شرط وجوب الدعوة إلى ما علمه. 3 - فهم خاطيء: وهم تسرب إلى البعض في زمن الصديق فخطب فيهم: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ¬

_ (¬1) مواقف إيمانية: أحمد عيد 83: 85. (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين 47.

ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم بعقاب". 4 - انتشار الباطل: وقد حصلت هذه الشبهة لأقوام سالفين قص الله لنا من أخبارهم: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} [الأعراف: 164 - 165]. والآية الكريمة تشير إلى أن أهل القرية صاروا ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المعاصي، وفرقة أنكرت عليهم ووعظتهم، وفرقة سكتت عنهم فلم تفعل ولم تنته. 5 - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها: يتعلل البعض بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبا لا يستطيع تحمله، وهذه حجة الضعفاء رقيقي الدين، فالتعب ينال العبد في حصوله على ربح مادي، فأولى بهم أن يتحملوا شيئا من التعب في الدعوة إلى الله {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] وقد جاء أن أبا سفيان ومن معه من المشركين عزموا على الخروج إلى المدينة من غزوة أحد، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن ينادي أن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال أمس. فخرج سعد بن معاذ من داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جرحى. وخرج أسيد بن حضير وبه سبع جراحات، وقال: سمعا وطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وخرج من بني سلمة أربعون جريحا، وخرج الطفيل بن عمرو وبه ثلاثة عشر جرحا، وبالحارث بن الصمة عشر جراحات، فقال الرسول: "اللهم ارحم بني سلمة". 6 - ليس عندي وقت: الدعوة ليس لها وقت محدد بل في كل الأوقات كقول نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)} [نوح: 5]. وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة؛ إذ لقى في الطريق بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا .. ويوسف عندما دخل السجن لم يشغله سجنه عن الدعوة إلى الله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].

7 - البعض يترك الدعوة لعدم استجابة الناس: المطلوب الدعوة وليس الاستجابة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18] يمدح الله نبيه إسماعيل بقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} [مريم: 55] وهو غير مكلف باستجابة الآخرين. يجب استمرار الدعوة وإن لم يستجب أحد .. نوح لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. يقول الإمام النووي: لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ويقول السيوطي: وجوب الاستمرار على الدعوة إلى الله وحرمة اليأس، واحتمال الإجابة، لأن الأمور بيد الله وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلا يستطيع الداعي أن يقطع بعدم إجابة فيجب عليه الاستمرار بالدعوة والوعظ في الإرشاد حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. أجر الداعي على الله لا على العباد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" الدال على الخير كفاعله". مسلم. وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم". [البخاري]. وقال أيضا: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجوره شيئا". [مسلم] (¬1). وقال أيضا:"من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا". [مسلم]. لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد. ¬

_ (¬1) الظلال (1: 68).

يقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]. ويقول سيد قطب: إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله، ولو كان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه من أمر الله وحده. فهذه القلوب من صنعه، ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله، وما على الرسول إلا البلاغ. فأما الهدي فهو بيد الله، يعطيه من يشاء ممن يعلم سبحانه أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه، وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لابد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده، ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم، وبعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدى وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد (¬1). ويقول الراشد: يا من اعتزل بزهده مع جهله، تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم، واقربوا مني، قد قعدتم في خلوتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا، خرب صومعتك أيها الهارب الذي ترزح تحت نير الأفكار الأرضية وآراء طواغيت القرن العشرين، وخذ مكانك في صفوف دعاة دعوة الإسلام (¬2). ... ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 314). (¬2) المنطلق 115،114.

الفهم

الفهم الإسلام دين شامل ولا يحبذ عزل الجانب الاجتماعي عن الأخلاقي عن التعبدي، فالمجتمع الذي تجد فيه تضخم الجانب التعبدي على الجانب الأخلاقي فتلك آفة العصر لا آفة الدين، إن الدين الإسلامي ليس بعقيدة فحسب ولكنه برنامج تفصيلي لحياة الإنسان كلها، فإن بترت الرجلين واليدين من جسم رجل وقلعت عينيه وقطعت أذنيه ولسانه واستخرجت معدته وكليته ونزعت رئتيه، وأخرجت المخ وأبقيت على القلب فهل سيمكن لهذا الجزء الباقي من الجسم أن يحيا وينبض؟! وهكذا الحال مع الإسلام فالعقيدة منه بمنزلة القلب، والعبادات أعضاؤه وجوارحه، ونظم الإسلام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بمنزلة المعدة والكلية. الحرب على الإسلام والمسلمين مستمرة، وباتت ثمرتهم قريبة المنال بعد أن أغرقوا الشعوب الإسلامية في مستنقع الجهل، وتفسخت الأخلاق، وتلاشت القيم، ونسي الله، وهم يعملون ليل نهار على تشويه صورة الإسلام، وتقديم مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين، مما أثر على بعض المسلمين في فهمهم لدينهم، فأخذوا يعبدون الله على جهل أو خطأ؛ ومن هنا كانت أهمية فهم الإسلام فهمًا شاملاً لكل نواحي الحياة، وأهمية فهم فقه الأولويات وترتيب الأعمال في الإسلام، حتى لا نهتم بالسنن على حساب الواجبات، ولا بالنوافل مع إهمال الفروض. صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتركون دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم -وكلنا يعرف مكانته في قلوبهم- من أجل اختيار خليفة للمسلمين؛ لأنهم تربوا في مدرسة النبوة على كيفية ترتيب أولوياتهم، فوجود المسلمين بدون خليفة أخطر على الإسلام من تأخير دفن الرسول، فلما انتهوا من اختيار أبي بكر خليفة للمسلمين سارعوا بدفن الرسول دون أن يخرج من بينهم صوت يندد بفعلتهم، فالكل يفهم الإسلام جيدًا، ويعرف سلم الأولويات وترتيب الدرجات معرفة صحيحة (¬1). ¬

_ (¬1) من فقه الأولويات في الإسلام:9.

القرآن يصحح المفاهيم

القرآن يصحح المفاهيم قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 19 - 22]. وعن النعمان بن بشير الأنصاري - رضي الله عنه - قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي ألا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام. وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، قال: ففعل فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ... } [التوبة: 19] الآية. فهم خاطيء يقول ابن كثير: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى فرقه فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول الله وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت الهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. [رواه الترمذي]. فهم الرسول يوم أن بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت مئات الأصنام صفوفًا داخل الكعبة وحولها، لم

فهم الأولويات

يهدمها الرسول إلا في العام الحادي والعشرين من البعثة أي قبل وفاته بعامين، فلقد حرص الرسول أن يهدم الأصنام الموجودة داخل النفس البشرية قبل تحطيم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة وعلى سطحها، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - طاف وأصحابه حول الكعبة في عمرة القضاء والأصنام لا تزال موجودة داخل وحول الكعبة (¬1). صلاة الجمعة فرضت في العهد المكي ولكن الرسول لم يجمع بالمسلمين في مكة وذلك مخافة بطش المشركين بهم، وفي الوقت نفسه جمع أسعد بن زرارة بالمسلمين في المدينة قبل قدومه. يقول الإمام القرطبي: قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة .. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم، فهذه أول جمعة في الإسلام (¬2). فهم الأولويات في صلح الحديبية أرسل المشركون سهيل بن عمرو ممثلاً عنهم ليكتب بينهم وبين المسلمين كتابًا بالصلح، فلما جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا النبي الكاتب وكان الكاتب عليًا - رضي الله عنه - فيما رواه مسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب: باسمك اللهم"، ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد ابن عبد الله، فقال رسول الله: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب: محمد بن عبد الله"، وفي رواية لمسلم فأمر عليًا أن يمحوها، فقال علي: لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله: "أرني مكانها" فمحاها، فقال له النبي: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف فيه"، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام القادم. وليس مع المسلمين إلا السيوف في قرابها فقال سهيل: وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاء منكم لم نرده عليكم، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ والتفتوا إلى رسول الله يسألونه: ¬

_ (¬1) من فقه الأولويات في الإسلام: 99. (¬2) الجامع لأحكام القرآن: (9/ 6577).

أنكتب هذا يا رسول الله؟ قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا وخرجًا" رواه مسلم. وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ألست نبي الله حقًا؟ قال: "بلى"، قلت: ألست على حق وعدونا على باطل؟ قال: "بلى"، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى"، قلت: ففيم نعطي الدنية في ديننا إذن؟! قال: "إني رسول الله ولست، أعصيه وهو ناصري"، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف فيه؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ " قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به"، فلم يصبر عمر بن الخطاب حتى أتى أبا بكر فسأله مثل ما سأل النبي فقال له: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يعصي ربه ولن يضيعه الله أبدًا .. فما هو إلا أن نزلت سورة الفتح على رسول الله فأرسل إلى عمر فأقرأه إياها، فقال: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: "نعم"، فطابت نفسه [البخاري ومسلم]. لقد كانت بنود الصلح في ظاهرها، وكما ينظر الإنسان بعقله القاصر كأنها في مصلحة المشركين، ولا تحقق مصلحة للمسلمين، ولكنها في حقيقتها وآثارها كانت في مصلحة المسلمين، يقول سيد قطب: كان فتحًا في الدعوة، يقول الزهري: فما فتحٌ في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد في الاسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تلك السنين (بين صلح الحديبية وفتح مكة)، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف، وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وكان فتحًا في الأرض، فقد أمن المسلمون شر قريش، فاتجه رسول الله إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام، وقد فتحها الله على المسلمين، وغنموا منها غنائم ضخمة جعلها الرسول فيمن حضر الحديبية دون سواهم. وكان فتحًا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها،

أولوية الأعمال

فلقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما، واعتبرت النبي والمسلمين أندادًا لها، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن (¬1). أولوية الأعمال قد يكون العمل المعين أفضل منه في حق غيره. فالغنى الذي بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شيء منه فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة. والشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته، وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح. وولي الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده جلوسه ساعة للنظر في المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم وإقامة الحدود ونصر المحق وقمع المبطل، أفضل من عبادة سنين من غيره. ومن غلبت عليه شهوة النساء فصومه أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته. وتأمل تولية النبي لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله وترك تولية أبي ذر بل قال له: "إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمره وغيره بالصيام وقال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له" رواه أحمد، وأمر آخر بأن "لا تغضب" وأمر ثالثًا "بأن لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله". ومتى أراد الله بالعبد كمالاً وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له كالمريض الذي يشكو وجع البطن مثلاً إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه، فالشح المطاع مثلاً من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (6/ 3316).

رجل يفهم رسالته

في العلم والذكر والزهد وإنما يزيله إخراجه من القلب بضده، ولو قيل أيهما أفضل: الخبز أم الماء؟ لكان الجواب: أن هذا في موضعه أفضل، وهذا في موضعه أفضل (¬1). رجل يفهم رسالته سأل صحفي الإمام الشهيد حسن البنا عن نفسه، وطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس فقال -رحمه الله-: أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف. أنا متجرد أدرك سر وجوده، فنادى: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، هذا أنا فمن أنت؟ (¬2). فهم مشقات الطريق يقول حسن البنا: في صباح يوم من الأيام وأنا في طريقي إلى الفصل لإلقاء الدرس الأول أو الثاني رأيت ناظر المدرسة -وكان إذ ذاك "الأستاذ أحمد عبد الهادي سابق"- على باب حجرته ينظر إليَّ نظرات فيها غرابة فدلفت إليه وقلت: السلام عليكم ورحمة الله. فابتسم وقال: وعليكم السلام، في لهجة فهمت أن وراءها شيئًا فقلت: خيرًا إن شاء الله. فقال: خير خير. فقلت: إيه الحكاية؟ لازم فيه حاجة. فقال: حاجة!! محكمة الجنايات يا أستاذ حسن .. محكمة الجنايات يا حبيبي وكلنا كده إن شاء الله بربطة المعلم. فقلت: .. لماذا؟ فقال: عريضة من رئيس الوزراء إلى وزير المعارف تقول إنك شيوعي ضد النظام القائم وضد الملك وضد الدنيا كلها. ¬

_ (¬1) عدة الصابرين: 104، 105. (¬2) حكايات عن الإخوان (1/ 76).

دعوتنا لكل الناس

فقلت: بس كده؟!! الحمد لله رب العالمين والله يا بك إذا كنا برآء فاسمع قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] وإذا كنا نخدع الناس بهذا الجهاد في سبيله وهذه الدعوة إلى دينه فإن محكمة الجنايات وجهنم قليل على الذين يخدعون الناس عن الدنيا بلباس الدين، فلا تهتم ودعها لله وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أقسم لك أنه لن يكون إلا الخير، عن إذنك فقد مضى بعض وقت الحصة وهذه مخالفة لا أحبها، وتركت الرجل في مكانه مستغربًا هذه الردود، وانصرفت إلى الدرس وكلي ثقة وطمأنينة بأن هذا عبث أطفال ولن ينتهي إلا إلى النتيجة المحتومة لمثله: إهمال ونسيان (¬1). دعوتنا لكل الناس زار الإمام الشهيد البنا محافظة سوهاج، وبعد انتهاء المؤتمر دعي إلى مائدة، وجلس بجوار أحد الإخوة، وكان هذا الأخ يتمنى أن تتاح له هذه الفرصة ليهمس في أذن الإمام الشهيد بأمر مهم، فقال له: يا أستاذ، إن الدعوات لا تقاس بالكم وإنما بالكيف، فماذا لو وضعنا ضوابط للذين يريدون الانتساب، كأن نحدد لهم قدرًا من الثقافة الإسلامية يدرسونه، ويظلون زمنًا في إطار الانتساب وتحت الاختبار، ثم ينقل الصالح منهم إلى العضوية العاملة؟ فابتسم الإمام الشهيد، وقال: يا فلان، هل تريدون مني ما لم يرده الله من أنبيائه ورسله وهم صفوة خلقه؟! إننا دعوة لكل الناس وليست لفئة محدودة، يتربى فيها كل من يريد أن يخدم الإسلام مهما كانت مكانته وثقافته .. وكل ميسر لما خلق له، ومن يدري فلعل هذه الدعوة تواجه محنًا عاتية، تعدون فيها الرجال على الأصابع .. وجاءت المحن العاصفة، وثبت كثير من الذين كنا نحسبهم بسطاء في مكانتهم وثقافتهم. ولكنهم تخلقوا بمقومات الرجولة فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسقط آخرون من أصحاب الثقافة الواسعة، والشخصيات اللامعة، ولله في خلقه شئون. ابحثوا عن لافتة أخرى عندما ثارت فتنة التكفير إثر محنة 1965 م انزلق العديد من السجناء في هذا المنعطف تحت وطأة التعذيب الوحشي والاضطهاد للدعوة الإسلامية وغيرها من الأسباب. ¬

_ (¬1) مذكرات الدعوة والداعية: 99.

نعمة كبيرة

حينئذ بادر الأستاذ الهضيبي وعلماء الإخوان لإخماد الفتنة، وكانت مناقشات ومحاضرات .. فرجع الكثير عن هذا الفكر، ولم يبق إلا قلة شاذة، وجددت البيعة .. فقال بعض الشواذ: نبايع على كل شيء في الجماعة ما عدا (مسألة التكفير) فتترك للاجتهاد الشخصي، فأجاب الأستاذ بحسم: بل كل شيء حتى مسألة التكفير. ومن لم يبايع فليبحث له عن لافتة أخرى غير الإخوان المسلمين (¬1)، الدين الحنيف لا يوجد فيه عنف ولا قسوة، ومن اختل فهمه للإسلام انحرف عن طريق الجادة. نعمة كبيرة يقول البنا: اذكروا جيدًا أن الله قد منَّ عليكم، ففهمتم الإسلام فهما نقيًا صافيًا، سهلاً شاملاً، كافيًا وافيًا، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم، ويجلب السعادة للناس، بعيدًا عن جمود الجامدين وتحلل الإباحيين وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمدًا من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين استمدادًا منطقيًا منصفًا، بقلب المؤمن الصادق، وعقل الرياضي الدقيق، وعرفتموه على وجهه: عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وقلب ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون، واعتقدتموه على حقيقته: دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. تربية واعية عن ابن عباس قال: أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي فقال له الطاغية: تنصر وإلا ألقيتك في البقرة -لبقرة من نحماس-. قال: ما أفعل .. فدعا بالبقرة النحاس فملئت زيتًا وغليت ودعا برجل من أسرى المسلمين فعرض عليه النصرانية، فأبى فألقاه في البقرة فإذا عظامه تلوح، وقال لعبد الله: تنصر وإلا ألقيتك. قال: ما أفعل، فأمر به أن يلقى في البقرة فبكى، فقالوا: قد جزع، قد بكى. قال: ردوه، قال: لا ترى أني بكيت جزعًا مما تريد أن تصنع بي ولكني بكيت حيث ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين: 104.

تأخير الصلاة بعذر

ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعرة في، ثم تسلط علي فتفعل بي هذا. قال: فأعجب منه وأحب أن يطلقه، فقال: قبل رأسي وأطلقك. قال: ما أفعل، قال: تنصر وأزوجك بنتي وأقاسمك ملكي. قال: ما أفعل، قال: قبل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين. قال: أما هذه فنعم، فقبل رأسه وأطلق معه ثمانين من المسلمين، فلما قدموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبل رأسه، قال: فكان أصحاب رسول الله يمازحون عبد الله فيقولون: قبلت رأس علج، فيقول لهم: أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين (¬1). تأخير الصلاة بعذر عند فتح مدينة تستر ببلاد الفرس حاصر صحابة رسول الله ومن معهم من جموع المسلمين المدينة أشهرًا، وشددوا الحصار، وأشرقت نذر الاقتحام والنصر، وأصبحت الفرصة مواتية للظفر قبل الفجر، إلا أنهم لو أقدموا على اقتناصها لفاتتهم صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فكان اجتهاد الصحابة أن يقتنصوا الفرصة، واقتحموا الحصن، وفتحت تستر -بفضل الله ورحمته- لتصبح إحدى قلاع الإسلام، ومدائنه الشهيرة في آسيا، وصلى المسلمون الصبح يومها بعد أن طلعت الشمس وأشرقت الأرض بنور ربها (¬2). وقد ذكر البخاري هذه الواقعة في (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو). قال أنس: حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصلينا ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. الإسلام والأديان المعاصرة يقول الدكتور زغلول النجار: في مطلع الخمسينيات -وكنت لا أزال شابًا وقتها- ¬

_ (¬1) من فقه الأولويات في الإسلام: 134 - 135. (¬2) المصدر السابق 135.

وكنت في بريطانيا؛ للحصول على الدكتوراه، فدعيت إلى محاضرة عن "الإسلام والأديان المعاصرة" وكانت في مقر اتحاد للطلبة هناك، كانوا يلتقون ليلة الجمعة من كل أسبوع في حوار مفتوح على أي قضية من القضايا، فسمعوا أن هناك شابًا مسلمًا قد أتى للحصول على الدكتوراه، فدعوني لهذه المحاضرة، وبعد أن تحدثت عن الإسلام وعلاقته بالأديان الأخرى، قامت رئيسة ذلك النادي، وقالت: يا سيدي، يبدو أن مستوى دراستك في الأديان أعلى من مستوانا جميعًا، لذلك فنحن لن نستطيع مناقشتك، فهل لديك مانع في تأجيل الحوار للأسبوع القادم، حتى نتمكن من دعوة أحد القساوسة الكاثوليك، الذي قد عاش في الشرق لسنوات طويلة، وله معرفة جيدة باللغة العربية، حتى يكون الحوار به شيء من التكافؤ؟ فقبلت ذلك، وتم تأجيل الحوار للأسبوع التالي، وذهبت إلى هناك في الأسبوع التالي، وقابلت ذلك الرجل، فإذا برجل قد جاوز الستين من عمره، وقد عاش فترة طويلة في مصر والعراق وليبيا وكثير من الدول العربية. وبدأ الحوار بيننا، والذي استمر أكثر من ساعة ونصف، قامت بعدها المرأة أيضًا قائلة له: يا سيدي يبدو أن هذا الشاب أكثر تمكنًا منك في قضية الأديان، لذلك فأنا أعتذر اليوم مرة أخرى، وأدعو لاستمرار الحوار في الأسبوع القادم وأقوم بدعوة "البيشوب" -وهو رئيس الكنيسة في منطقة مجاورة-. وأتى هذا الرجل في الأسبوع التالي، وقامت المدينة باحتفال كبير لاستقباله، حضره الكثير من رجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون، ثم التقيت به في حوار طال أكثر من ساعة، قامت بعدها هذه السيدة قائلة: لقد مارست الكاثوليكية مدة خمسة وعشرين عامًا، ولكنني أعترف أمام الجميع أنني ما شعرت يومًا بمعنى الألوهية كما يشعر بها هذا الشاب، ثم تركت القاعة وخرجت، ثم علمت بعد ذلك أنها أسلمت، وحسن إسلامها، وأبلت بلاء حسنًا في الدعوة إلى الله في بريطانيا (¬1). هذا ما دفع بعض قياداتهم -وهو أحد العلماء الأمريكيين- يوم وقف أمام جمع من المسلمين قائلاً: يا أيها المسلمون، إنكم لن تستطيعوا أن تسايروا الغرب تقنيًا ولا علميًا ولا اقتصاديًا ولا سياسيًا ولا عسكريًا، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا هذا ¬

_ (¬1) الذين هدى الله: 53 - 55.

فهم رائع

الغرب المتجبر المتعالي يجثو على ركبه أمامكم في الإسلام، ثم يضيف قائلاً: أعطوني أربعين شابًا ممن يحسنون فهم هذا الدين فهمًا دقيقًا، ويحسنون تطبيقه على أنفسهم تطبيقًا دقيقًا، ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر، وأنا أكفل لكم أن أفتح لهم الأمريكتين. حقًا -والله الذي لا إله غيره- فهذا هو السلاح الوحيد الذي بقى بأيدينا الآن، أن نفهم الإسلام، ونطبقه على أنفسنا، ثم نقوم بعرضه على الناس (¬1). فهم رائع ومن المواقف الرائعة في التاريخ الإسلامي التي تبين -بما لا يدع مجالاً للشك- أهمية فهم المسلمين لدينهم فهمًا صحيحًا، وأنه قد تضطرهم الظروف فيتركون واجبًا في سبيل تحقيق واجب أهم منه، ما حدث للمسلمين في بيروت عندما أرادوا أن يستنقذوا إخوانهم المحاصرين في عكا من قبل الصليبيين فحلقوا لحاهم وتزيوا بزي الصليبيين وعلقوا الصلبان ووضعوا الخنازير على سطح السفينة التي تحمل الطعام لإخوانهم المحاصرين واستطاعوا أن يخدعوا الصليبيين وأن يمروا من بينهم دون أن يشكوا في أمرهم (¬2). هكذا كان عبد الله بن المبارك خرج عبد الله بن المبارك إلى الحج، فاجتاز بعض البلاد فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على المزبلة، فخرجت جارية من دار قريته، فأخذت الطائر الميت، ولفته، وأسرعت به إلى الدار، فلما سألها: لم أخذت الميتة؟ قالت إنها وأخاها فقيران لا يجدان شيئًا، ولا يعلم بهما أحد. فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، قال: أبق منها عشرين دينارًا، وأعط باقي الألف إلى الجارية، وعد بنا إلى مرو، فهذا أفضل من حجنا هذا العام، ورجع ولم يحج (¬3). ¬

_ (¬1) الذين هدى الله 57 - 59. (¬2) فقه الأولويات في الإسلام: 145 - 146. (¬3) مائة موقف من حياة العظماء: 128.

فهم علم من أعلام السلف

فهم علم من أعلام السلف جاء رجل إلى بشر بن الحارث الزاهد -المعروف ببشر الحافي- وقال له: عزمت على الحج (تطوعًا) أفتأمرني بشيء؟ قال له: كم أعددت للنفقة؟ قال له: أعددت ألفي درهم، فقال له بشر: فماذا تريد بحجك هذا: تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت الحرام، أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: بل ابتغاء مرضاة الله، قال له بشر: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: فاذهب فأعط هذا المال لعشرة أنفس: مدينًا يقضي دينه، وفقيرًا ترم شعثه، ومعيلاً (صاحب عيال) يغني عياله، ومُربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدًا فافعل، فإن إدخال السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان وكشف الضر، وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الفريضة، قم فأخرجها كما أمرناك (¬1). إمكانيات أعدائك ماذا أعددت لها كشفت النشرة الدولية لأبحاث التنصير في العالم أن المبالغ التي تلقتها المنظمات التنصيرية كمعونات عام 1996، بلغت 193 مليار دولار، والجدير بالذكر أن عدد هذه المنظمات 22 ألفا و 350 منظمة تمتلك 3200 محطة إذاعة وتلفاز خاصة بها .. إلى غير ذلك من الإمكانات. فأين أعمال المسلمين لنجدة إخوانهم وتقديم النفع لهم؟ يقول البنا: من ظن أن الدين -أو بعبارة أدق الإسلام- لا يعرض للسياسة، أو أن السياسة ليست من مباحثه، فقد ظلم نفسه، وظلم علمه بهذا الإسلام، ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وجميل قول الإمام الغزالي: اعلم أن الشريعة أصل وأن الملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع .. فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها، كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبغلها وتقويها (¬2). ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (3/ 397). (¬2) الرسائل: 317.

لا أنقد حكومتي خارج وطني

لا أنقد حكومتي خارج وطني يقول الأستاذ عمر التلمساني: كان مراسلو الصحف والإذاعات يأتون إليَّ لإجراء أحاديث، والظاهرة العجيبة في كل تلك الأحاديث، أن المراسلين كانوا يحاصرونني بأسئلة دقيقة رغبة منهم في أن يحصلوا مني على انتقاد أو هجوم على الحكومات القائمة، وكنت أفسد عليهم هذه المحاولات، حتى قال لي أحد المراسلين في لندن: إنك تتهرب من الإجابات عن أسئلة واضحة، فكان جوابي: إن التهرب ليس من خلقي، ولكن طباعي تأبى علي أن أنقد حكومتي خارج وطني، ولا أشنع عليها في الخارج، بل أوجه مآخذي إليها مباشرة داخل مصر، وهو مبدأ وليس سياسة (¬1). ... ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين 149.

العمل للإسلام

العمل للإسلام العودة إلى الإسلام أمنية عظيمة لا نصل إليها بالكلام والدعاوي، وإنما لابد من العمل، فأعداء الإسلام يعملون ليل نهار لنشر باطلهم، فالأولى بأهل الحق أن يعملوا لنشر دعوتهم وتبليغها للناس، وليحتسبوا أجرهم عند الله، وهذه قصص من المخلصين في العمل للإسلام، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. الأعداء يعلمون لإنجاح مخططهم يقول الشيخ أحمد القطان عن توبته: إن في الحياة تجارب وعبرًا ودورسًا، لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلبة حائرة، لقد درست التربية الإسلامية في مدارس التربية ولا تربية -ثمانية عشر عامًا وتخرجت بلا دين-، وأخذت ألتفت يمينًا وشمالاً: أين الطريق؟ هل خلقت هكذا الحياة عبثًا؟ أحس فراغًا في نفسي وظلامًا وكآبة، وحدي في الظلام لعلي أجد هناك العزاء، ولكني أعود حزينًا كئيبًا وتخرجت في معهد المعلمين سنة 1969 م، وفي هذه السنة والتي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغيوم، إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم، والنفخ فيها، وأخذوا يفسرون العبارات والكلمات بزخرف من القول يوحي بعضهم إلى بعض .. حتى نفخوا فيَّ نفخة ظننت أنني أنا الإمام المنتظر، وما قلت كلمة إلا وطبلوا وزمروا حولها .. وهي حيلة من حيلهم، إذا أرادوا أن يقتنصوا ويفترسوا فردًا، ينظرون إلى هويته وهوايته، ماذا يرغب؟ ثم يدخلون عليه من هذا المدخل. رأوني أميل إلى الشعر والأدب فتعهدوا بطبع ديواني ونشر قصائدي، وعقدوا لي الجلسات واللقاءات الأدبية الساهرة .. ثم أخذوا يدسون السم في الدسم، يذهبون بي إلى مكتبات خاصة ثم يقولون: اختر ما شئت من الكتب بلا ثمن فأحمل كتبًا فاخرة .. أوراقًا مصقولة .. طباعة أنيقة عناوينها "أصول الفلسفة الماركسية" "المباديء الشيوعية" وهكذا بدأوا بالتدريج يذهبون بي إلى المقاهي الشعبية، فإذا جلست معهم على طاولة قديمة تهتز .. أشرب الشاي بكوب قديم وحول العمال .. فإذا مر رجل بسيارته الأمريكية الفاخرة قالوا: انظر،

هذا يركب السيارة من دماء آبائك وأجدادك .. وسيأتي عليك اليوم الذي تأخذها منه بالثورة الكبرى التي بدأت وستستمر .. إننا الآن نهيئها في "فارط" ونعمل لها، وإننا نهيئها في الكويت ونعمل لها، وستكون قائدًا من قوادها، وبينما أنا أسمع هذا الكلام أحس أن الفراغ في قلبي بدأ يمتليء بشيء .. لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان، فالقلب كالرحى .. يدور .. فإن وضعت به دقيقًا مباركًا أخرج لك الطحين الطيب .. وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى، ويقدر الله بعد ثلاثة شهور أن نلتقي برئيس الخلية الذي ذهب إلى مصر وغاب شهرًا ثم عاد. وفي تلك الليلة أخذوا يستهزئون بأذان الفجر .. كانت الجلسة تمتد من العشاء على الفجر .. يتكلمون بكلام لا أفهمه مثل "التفسير المادي للتاريخ" "والاشتراكيون والشيوعية في الجنس والمال"، ثم يقولون كلامًا أمرره على فطرتي السليمة التي لا تزال .. فلا يمر .. أحس أنه يصطدم ويصك .. ولكن الحياء يمنعني أن أناقش فأسكت، ثم بلغت الحالة أن أذن المؤذن لصلاة الفجر .. فلما قال "الله أكبر" أخذوا ينكتون على رسول الله، وهنا بدأ الانفعال الداخلي والبركان الإيماني الفطري يغلي، وإذا أراد الله خيرًا بعبده بعد أن أراه الظلمات يسر له أسباب ذلك .. إذ قال رئيس الخلية: لقد رأيت الشيوعية الحقيقية في لقائي مع ( ... ) بمصر هو الوحيد الذي يطبقها تطبيقًا كاملاً، فقلت: عجبًا .. ما علامة ذلك؟!! قال: إذا خرجنا في الصباح الباكر عند الباب فكما أن زوجته تقبله تقبلني معه أيضًا، وإذا نمنا في الفراش فإنها تنام بيني وبينه .. وهكذا يقول .. والله يحاسبه يوم القيامة .. فلما قال ذلك نزلت ظلمة على عيني وانقباض في قلبي، وقلت في نفسي: أهذا فكر؟!! أهذه حرية؟!! أهذه ثورة؟!! لا ورب الكعبة إن هذا كلام شيطاني إبليسي!! ومن هنا تجرأ أحد الجالسين فقال له: يا أستاذ ما دمت أنت ترى ذلك، فلماذا لا تدع زوجتك تدخل علينا نشاركك فيها؟ قال: إنني ما أزال أعاني من مخلفات البرجوازية وبقايا الرجعية وسيأتي اليوم الذي نتخلص فيه منها جميعًا .. ومن هذه الحادثة بدأ التحول الكبير في حياتي إذ خرجت أبحث عن رفقاء غير أولئك الرفقاء .. فقدر الله أن ألتقي بإخوة في "ديوانية" كانوا يحافظون على الصلاة .. وبعد صلاة العصر يذهبون إلى ساحل البحر ثم يعودون .. وأقصى ما يفعلونه أنهم يلعبون "الورقة"، ويقدر الله أن يأتي أحدهم إليَّ ويقول: يا أخ أحمد، يذكرون أن شيخًا من مصر اسمه "حسن أيوب" جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ قالها من باب حب

الاستطلاع .. فقلت: هيا بنا .. وذهبت معه .. توضأت .. ودخلت المسجد .. وجلست .. وصليت المغرب .. ثم بدأ يتكلم .. وكان يتكلم واقفًا لا يرضى أن يجلس على كرسي .. وكان شيخًا كبيرًا شاب شعر رأسه ولحيته، ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته؛ لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيف من خشب، وبعد أن فرغ من خطبته أحسست أني خرجت من عالم إلى عالم آخر .. من ظلمات إلى نور .. ولأول مرة أعرف طريقي الصحيح .. وأعرف هدفي في الحياة .. ولماذا خُلقت، وماذا يراد مني، وإلى أين مصيري. وبدأت لا أستطيع أن أقدم أو أؤخر إلا أن أعانق هذا الشيخ وأسلم عليه، ثم عاد هذا الأخ يسألني عن انطباعي؟ فقلت له: اسكت وسترى انطباعي بعد أيام .. عدت في الليلة نفسها واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ .. وأخذت أسمعها إلى أن طلعت الشمس .. ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأرده .. ثم طعام الغداء .. وأنا أسمع وأبكي بكاء حارًا .. وأحس أني قد ولدت من جديد .. ودخلت عالما آخر .. وأحببت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وصار هو مثلي الأعلى وقدوتي .. وبدأت أنكب على سيرته قراءة وسماعًا .. حتى حفظتها من مولده إلى وفاته، فأحسست أنني إنسان لأول مرة في حياتي .. وبدأت أعود فاقرأ القرآن، فأرى كل آية فيه تخاطبني أو تتحدث عني {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. نعم .. لقد كنت ميتًا فأحياني الله .. ولله الفضل والمنة .. ومن هنا انطلقت مرة ثانية إلى أولئك الرفقاء الضالين المضلين .. وبدأت أدعوهم واحدًا واحدًا .. ولكن {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] أما أحدهم فقد تاب بإذن الله وفضله، ثم ذهب إلى العمرة .. فانقلبت به السيارة ومات وأجره على الله. وأما رئيس الخلية فقابلني بابتسامة صفراء وقال: يا أستاذ أحمد .. إنني أحسدك لأنك عرفت الطريق الآن .. أما أنا فاتركني .. فإن لي طريقي ولك طريقك .. ثم صافحني وانصرف .. وظل هو كما هو حتى الآن، وأما البقية فمنهم من أصبح ممثلاً، ومنهم من أصبح شاعرًا يكتب الأغاني وله أشرطة "فيديو" يلقي الشعر وهو سكران .. وسبحان الذي يخرج الحي من الميت .. من تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين (¬1). هكذا الأعداء يعملون ليل نهار لنشر دعوتهم الباطلة، فأين أنت منهم؟ ¬

_ (¬1) مائة قصة وقصة- الهندي: 55 - 60.

احرص على العمل

احرص على العمل عرفت الإسماعيلية صغيرها وكبيرها حسن البنا والإخوان المسلمون، فلما انتقلت الدعوة إلى القاهرة حدث الإمام الشهيد بهذه الطرفة فقال: جاء أحد إخوان الإسماعيلية لزيارتي .. فلما نزل من القطار في محطة مصر سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين، وهو يظن أنه يسأل عن أحد معالم القاهرة، فاعتقدوا أنه شخص ساذج .. وقالوا له: اتجه من هذا الطريق .. ثم اسأل هناك، فاتجه ثم سأله .. وهكذا، حتى قابل الإمام الشهيد قدرًا وقد جاوز المركز العام بمسافة، فأخذه الأستاذ ورجع به المسافة، وقص على الأستاذ القصة وقال: كل من سألته صدقني إلا صاحب هذا المحل (وأشار على محل على بعد أمتار لا تتجاوز الخمسين مترًا) إذ قال لي: امش إلى نهاية هذا الشارع (شارع الناصرية) فستجد ميدان السيدة زينب فاسأل هناك، ضحك الأستاذ المرشد، وفهم أن الدعوة حتى بعد انتقالها إلى القاهرة بثلاث سنوات ما زالت مجهولة حتى أن الجيران لا يعرفونها (¬1). قال طبيب ألماني -قبل أن يسلم- لزميله المسلم: إذا سُئلت غدًا -كما تقول- عن سؤال القبر وحساب يوم القيامة سأقول: إن رسالة محمد لم تصلني تفصيلاً، ولم أطلع عليها بحثًا، إن أتباع محمد لم يبلغوني رسالته، ولم يدلوني على الطريق القويم، فهم يشاركونني في التقصير. ماذا ستقول لربك غدًا إذا سُئلت عن تبليغ الإسلام؟ من الذين هدى الله الشاب النصراني إبراهيم يوسف الذي صار من دعاة الإسلام المخلصين، أخذ يدعو الدعاة إلى عدم الاكتفاء بالدعوة من فوق المنابر فقط، حيث لا ينبغي أن تحصر على المنابر والمساجد، وإنما على الداعية أن ينزل إلى التجمعات البشرية حيثما وجدت بعد أن يلم بظروفها ومعتقداتها؛ كي يمكنه الرد على أي استفسار يوجه إليه، كما يدعو المسلم إلى ممارسة الدعوة إلى الله حيث إن الدعوة مسئولية المسلمين جميعًا، عامتهم وخاصتهم (¬2). ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين: 45. (¬2) مجلة الفيصل يناير 1992 (السر الخفي وراء إسلام هؤلاء: 2/ 50).

إسلام المغول

يقول الدكتور زغلول النجار: هذه طبيبة في جيش القوات الأمريكية برتبة رائد، أسلمت، ثم علمت بعد قراءتها أنها لا يحل لها أن تحيا مع زوجها غير المسلم، فأتت وقالت: أنا متزوجة وعندي أطفال، وأنا حريصة على أسرتي، فماذا أفعل؟! فنصحها الإخوة بالاتصال بزوجها، عن طريق إرسال بعض الكتيبات والأشرطة عن الإسلام، ففعلت، ولكنه لم يسلم، فجاءت تشكو، فقالوا لها: ناقشيه على الهاتف. وبالفعل بدأت تحاوره على الهاتف، لكنه لم يسلم أيضًا، فقالت: ماذا أفعل؟! فقالوا لها: ناقشيه، ونحن بجوارك نجيب عن تساؤلاته، وتمت المناقشة على الهاتف، حتى نطق الرجل بالشهادتين على الهاتف. ثم بعد أن عادت إلى بلادها، أرسلت خطابًا لأحد الإخوة الذين كانوا يقومون بالدعوة هنا تقول له فيه: والله لقد أصبح هذا الرجل زوجًا مثاليًا ومحبًا وأكثر حرصًا على بيته آلاف المرات منه قبل أن يسلم. هذه بعض القيادات التي أتت إلى هنا لتنصير المسلمين فعادت بالإسلام .. وهذا هو الإسلام، وهذا هو واجبنا تجاهه. إسلام المغول كان بركة خان أول من أسلم من أمراء المغول، وكان رئيسًا للقبيلة الذهبية في روسيا، وقيل في سبب إسلامه: إنه تلاقى يومًا مع عير للتجار آتية من بخارى، ولما خلا بتاجرين منهما سألهما عن عقائد الإسلام، فشرحاها له شرحًا مقنعًا انتهى إلى اعتناقه هذا الدين والإخلاص له. وقيل: إن إسلام (تغلق تيمور خان) ملك كاشغر كان على يد رجل من أهل بخارى، يقال له: الشيخ جمال الدين، وكان معه جماعة من التجار، وكانوا قد اعتدوا على الأراضي التي خصصها ذلك الأمير للصيد، فأمر بأن توثق أيديهم وأرجلهم، وأن يمثلوا بين يديه، ثم سألهم في غضب: كيف جرؤوا على دخول هذه الأرض؟ فأجاب الشيخ بأنهم غرباء، ولا يعلمون أنهم يجوسون أرضًا محرمة، ولما علم أنهم من الفرس قال: إن الكلب أغلى من أي فارسي، فأجاب الشيخ: نعم قد كنا أخس من الكلب وأبخس ثمنا منه لو أننا لم ندن بالدين الحق. وراع الأمير ذلك الجواب، وأمر بأن يقدم إليه ذلك الفارسي الجسور عند عودته من

إخلاص وعمل

الصيد، ولما خلا به سأله: ماذا يعني بهذه الكلمات؟ وما ذلك الدين؟ فعرض عليه الشيخ قواعد الإسلام في غيرة وحماس، انفطر لها قلب الأمير، حتى كاد يذوب كما يذوب الشمع. قال: ولكني اعتنقت الإسلام الآن، فلن يكون من السهل أن أهدي رعاياي إلى الصراط المستقيم .. فلتمهلني قليلا، فإذا ما آلت إلي مملكة أجدادي فعد إليَّ، وقد كان، ودخل التتار في الإسلام (¬1). كن متفائلاً ونشيطًا في دعوة الناس، والعمل لدين الله. إخلاص وعمل يقول عمر التلمساني: كنت يومًا أجلس في حديقة السلاملك الصغيرة، ومعي زوجي وأطفالي والكتاكيت تقفز من حولنا، وجاء خفير العزبة يقول: اثنان أفندية يريدان مقابلتك، قلت: من أنبأهما أنني هنا؟ قال: كنت جالسًا وبعض فلاحي العزبة فمرا علينا وألقيا علينا السلام، وقال أحدهما: هل يقيم في هذه العزبة أحد من أصحابها؟ قلنا: نعم. قالا: وفيم يعمل؟ قلنا: محاميًا أهليًا. قالا: هل يصلي؟ قلنا: نعم، قالا: فاستأذن لنا عليه. قلت: أحضرهما. وحضرا وسلما وجلسا، وعرفاني بنفسيهما، ورغم تجردهما من المؤهلات الدراسية، فقد كان مستوى حديثهما يفوق مستوى كثير من ذوي المؤهلات العلمية، ولم يضيعا وقتًا، ولكنهما بدءا الحديث عما جاءا من أجله. سألني أحدهما: ماذا تفعل خارج مهنتك؟ وبدا السؤال في نظري بعيدًا عن مألوف اللياقة. فقلت ساخرًا: أربي كتاكيب كما ترى. فاستمر في أسلوبه بعد أن كساه شيئًا من الجدية. قال: وهل مسلم مثلك يضيع أوقاته في تربية الكتاكيت، وهناك من هو أولى باهتمامك؟ قلت مستفسرًا: ومن هو ذلك الأولى؟ ¬

_ (¬1) الدعوة الفردية: 20 - 22.

قال: وقد ازداد حماسة وجدية: إخوانك في العقيدة. قلت: أولئك يتولى الأزهر أمرهم والحكومة معه. قال: وهل تقوم الحكومة والأزهر بتحقيق ما تقول؟ فسكت. ولكنه ألح علي في شيء من الخشونة .. مالك لا تجيب؟ فراوغ قائلاً: ماذا تريدان مني؟ دعوني وشأني. فقال الآخر متلطفًا: إنك محق في ظاهر الأمر، فلتطلب منا أن ندعك وشأنك، ولكن هل ترضى لنفسك وقد منحك الله علمًا وإقبالاً عليه .. هل ترضى لنفسك ألا تهتم بشأن المسلمين؟ قلت: وقد أحسست بشيء من التجاوب: عندي الرغبة، ولكني غير متبين معالم الطريق. قال: لا عليك في هذا .. ضع يدك في أيدينا ندلك على الطريق. قلت: بلا روية ولا استعداد ولا تفكير. قال: وهل حال المسلمين اليوم يرى تريثًا بعد ما ترى من سوء حالهم؟ قلت جانحًا للتعاون معهما: من أنتما؟ وما طريقة عملكما؟ وما دعوتكما؟ قالا معًا: نحن جماعة الإخوان المسلمين. قلت: لم أسمع عن هذه الجماعة من قبل. قالا: ما أنت قد سمعت، فما عساك فاعل؟ قلت: أعرف المنهاج. قالا: كتاب الله وسنة رسوله. قلت: وكيف أتصل بهذه الجماعة؟ قالا: سنزورك غدًا إن شاء الله. وفي الغد جاءا إلى المكتب وكأنهما قد أمسكا بصيد. وقال أحدهما: ما قرارك؟

الفهم الجيد للإسلام

قلت: خيرًا .. إني لمست في كلامكما جدية ما لي بها من عهد، ورأيت فيما تدعوانني إليه خيرًا كثيرًا لي أولاً وللمسلمين ثانيًا. قال: إذن سأحدد لك موعدًا تلقى فيه فضيلة المرشد العام. وأفاض فضيلته في شرح أهداف الدعوة ووسائلها المشروعة، وكان يتكلم في صدق المخلصين وأسى المحزونين على ما يصيب المسلمين في أنحاء الأرض. ولما أنهى حديثه سألني: هل اقتنعت؟ وقبل أن أجيب قال في حزم: لا تجب الآن .. وأمامك أسبوع تراود فيه نفسك، فإني لا أدعوك لنزهة، ولكني أعرضك لمشقات، فإن شرح الله صدرك فتعال الأسبوع القادم للبيعة، وإن تحرجت فيكفعني منك أن تكون صديقًا للإخوان المسلمين. وعدت في الموعد .. وبايعت .. وتوكلت على الله (¬1). يقول فتحي يكن: إن الداعية الحق هو الذي يعيش لسواه لا لنفسه، ويكون ديدنه الدوران حول مجتمعه وحول المسلمين وليس حول ذاته، وهو الذي يعمل على توفير الراحة للآخرين، ولو على حساب راحته .. فإذا قامت الوشائج بين الداعية والناس تحقق الوصال والاتصال، وتحقق التأثر والأثر، ونجحت المهمة، وآتت الدعوة أكلها بإذن ربها، وإن كان غير ذلك لم تكن دعوة ولا داعية (¬2). الفهم الجيد للإسلام عبد الله بن المبارك كان يرابط في سبيل الله بثغر من ثغور المسلمين يُبعث برسالة إلى أخيه الفضيل بن عياض يعاتبه فيها لأنه ترك الرباط في سبيل الله، وانقطع لعبادة الله في المسجد الحرام يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الطيب ¬

_ (¬1) الدعوة الفردية بين النظرية والتطبيق: 23 - 26. (¬2) الاستيعاب: 64.

العزيمة القوية

يقول الأستاذ البهي الخولي في "تذكرة الدعاة": ولقد كتب ابن المبارك هذا الكلام لصديقه في وقت لم يكن فيه الجهاد فرض عين، ومع هذا وصف عبادته بأنها لعب، وهي عبادة تقع في أشرف بقعة على ظهر الأرض، ترى ماذا كان يقول ابن المبارك لصديقه لو أن الجهاد فرض عين؟ وماذا كان يقول عن العبادة لو أنها كانت في غير المسجد الحرام؟! العزيمة القوية حدث أكثر من مرة أن قاد صلاح الدين وهو مريض، وأخذ ينظم جيوشه ويقاتل أعداءه، وهو يعاني آلام المرض، وابن شداد يتعجب من ذلك فيرد عليه صلاح الدين قائلاً: إذا ركبت يزول عني ألمها. يقول فتحي يكن: "الداعية لا تكون دعوته بحمل الأفكار والنظريات المجردة إلى من حوله .. قبلوها أم رفضوها، وإنما أن يعيش هذه الأفكار معهم، ويترجمها لهم على أرض الواقع أفعالاً وأخلاقًا وممارسات، والداعية لا تكون دعوته بمفاصلة الناس وإقامة الحجة عليهم، وإنما بأخذ كل الأسباب التي تؤدي إلى هدايتهم. فهو من موقع الحب لهم، والغيرة عليهم، والرحمة بهم يكابد من أجل استنقاذهم من حمأة الجاهلية وشقوتها إلى نعيم الإسلام، ولذلك فهو لا يسارع إلى مدابرتهم ومقاطعتهم ومفاصلتهم، وهذا كله يحتاج منه إلى حلم ورفق. إن على الداعية أن يعتبر نفسه مربيًا للناس ومعلمًا لهم، وإن عليه ليكون ناجحًا في تربيته وتعليمه ألا يعاملهم كأنداد، وألا يتعامل معهم كند، وهو إن فعل ذلك أصبح مثلهم، وفقد عنصر القوامة عليهم، يقول الراشد: ولا يكون داعية اليوم إلا من يفتش عن الناس ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجئ الناس إليه في مسجده أو بيته فإن الأيام تبقيه وحده، ويتعلم فن التثاؤب (¬1). ¬

_ (¬1) المنطلق: 126.

لو خرجنا بواحد لكفى

لو خرجنا بواحد لكفى يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله: ذهبت مع الإمام الشهيد مرة إلى مدينة طوخ بالقليوبية، وكان الحفل حاشدًا، والهتافات عالية، وفي الطريق سألني فضيلته: ما رأيك في الحفل؟ قلت: إن الصخب شديد، والأصوات العالية لا تطمئنني كالطبل الأجوف، قال: اسمع، نحن على قدم رسول الله، كان يعرض نفسه على الناس في الأسواق، فلا يلقى إلا السخرية والإيذاء، فهلا نصبر على بطء الاستجابة، إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط، فذلك خير من الدنيا وما فيها (¬1). ... ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين: 43.

الجهاد

الجهاد معنى الجهاد لغة: هو استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل. وفي الاصطلاح: بذل المسلم طاقته وجهده في نصرة الإسلام ابتغاء مرضاة الله. ويقول الاستاذ سعيد البوطي: الجهاد هو بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله. والقتال نوع من أنواعه، وأما غايته فهي إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة. الجهاد في كتاب الله يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]. ويقول سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]. ويقول عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95 - 96]. ويقول تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} [النساء: 95]. وبقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13]. وآيات الجهاد كثيرة.

جهاد النفس

ومن أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - نذكر منها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" [متفق عليه]. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" [متفق عليه]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أُجرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأُجري عليه رزقه، وأمن الفتان" [رواه مسلم]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" [رواه البخاري]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله [رواه الترمذي]. وقال - صلى الله عليه وسلم -:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم" [متفق عليه]. جهاد النفس كان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ومر حسان بن أبي سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عما لا يعنيك؟ لأعاقبنك بصيام سنة فصامها. وقال محمد بن المنكدر إنني خلفت زياد بن أبي زياد وهو يخاطب نفسه في المسجد، يقول: اجلسي، أين تريدين أن تذهبي؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان، ودار فلان؟ قال: وكان يقول لنفسه: مالك من الطعام يا نفسي إلا هذا الخبز والزيت، ومالك من الثياب إلا هذان الثوبان، ومالك من النساء إلا هذه العجوز، أفتحبين أن تموتي؟

الجهاد بالمال

فقالت: أنا أصبر على هذا العيش. هل تحرص على تدريب نفسك على تناول أطعمة لا تحبها، وتقلل من المشروبات المفضلة لديك؟ الجهاد بالمال دعم أبو بكر الدعوة بالمال والرجال والأفراد، فراح يشري العبيد والإماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات، فقد أعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا، فقال أبو بكر: كل يا أم فلان، فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. وقال: قد أخذتهما وهما حرتان أرجعا إليها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما. وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام منهما ذلك، مع أن له يد عليهما يد بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا تفضلاً، إلا أن تفرغا منه، وترداه إليها. ومر الصديق بجارية بني مؤمل -حي من بني عدي بن كعب- وكانت مسلمة، وعمر ابن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك يضربها، حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا عن ملال فتقول: فعل الله بك. فابتاعها أبو بكر فأعتقها (¬1). تحويل شيك للمجاهدين أرسلت وزارة الثقافة بدولة الإمارات دعوة للأستاذ عمر التلمساني عام 1982 م فلبى الدعوة، وألقى محاضرة في النادي الثقافي بأبي ظبي حيث جاء جمع غفير ملأ القاعة لم يأت قبله مثله. وعقد التليفزيون عدة ندوات مع الأستاذ المرشد وكذلك جريدة الاتحاد. ¬

_ (¬1) أبو بكر الصديق للصلابي: 48.

الجهاد التعليمي

وفي نهاية الزيارة قدمت الوزارة تحية لضيفها الكبير شيكًا بخمسة وثلاثين ألف درهم، فشكر الأستاذ عمر لهم هذا الصنيع الكريم. ثم قال للأستاذ جابر رزق في الحال: حوِّل هذا الشيك إلى المجاهدين الأفغان (¬1). هل أنت على استعداد أن تصرف حافزًا من حوافز عملك لإخوانك في فلسطين؟ الجهاد التعليمي قال البخاري: لما طَعَنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المقمرة، وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب. وقال: وما وضعت في كتابي الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت البخاري يقول: خرجت إلى آدم بن أبي إياس، فتخلفت عني نفقتي، حتى جعلت أتناول الحشيش، ولا أخبر بذلك أحدًا، فلما كان اليوم الثالث، أتاني آت لم أعرفه، فناولني صرة دنانير، وقال: أنفق على نفسك. وقال البخاري: احفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الفريري: أملى البخاري يومًا عليَّ حديثًا كثيرًا، فخاف ملالي، فقال: طب نفسًا، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجارتهم، وأنت مع النبي وأصحابه. وقال حاشد بن إسماعيل وآخر: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة، وهو غلام، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنما أكثرتما علي وألححتما، فأعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا، وأضيع عمري؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين: 136.

الجهاد السياسي

احرص على طلب العلم ونشره ابتغاء وجه الله. الجهاد السياسي عالم أزهري والخديو إسماعيل لما وقعت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزائم على مصر، لوقوع الخلاف بين قوادها وجيوشها، ضاق صدر الخديو لذلك، فركب يومًا مع شريف باشا، وهو محرج فأراد أن يفرج عن نفسه فقال لشريف باشا: ماذا تصنع حينما تلم لك مُلمة تريد أن تدفعها؟ فقال: يا أفندينا، إن الله عودني إذا حاق بي شيء من ذلك أن ألجأ إلى صحيح البخاري، يقرؤه لي علماء أطهار الأنفاس، فيفرج الله عني. قال: فكلم الخديو شيخ الأزهر -وكان الشيخ العروسي- فجمع له صلحاء العلماء يتلون صحيح البخاري أمام القبة القديمة في الأزهر. قال: ومع ذلك ظلت الهزائم تتوالى، فذهب الخديو ومعه شريف إلى العلماء، وقال محنقًا: إما إن هذا الذي تقرأونه ليس صحيح البخاري، أو أنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح، فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئًا. فوجم العلماء، وابتدره شيخ من آخر الصف يقول له: منك يا إسماعيل، فإنا روينا عن النبي أنه قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم، فلا يستجاب لهم" فزاد وجم الشيوخ، وانصرف الخديو ومعه شريف، ولم ينبسا بكلمة، وأخذ العلماء يلومون القائل ويؤنبونه، فبينما هم كذلك إذا بشريف باشا قد عاد يسأل: أين الشيخ القائل للخديو ما قال؟ فقال الشيخ: أنا، فأخذه وقام، وانقلب العلماء بعد أن كانوا يلومون الشيخ يودعونه وداع من لا يأمل أن يرجع، وسار شريف بالشيخ إلى أن دخلا على الخديو في قصره، قاعد في البهو، وأمامه كرسي أجلس الشيخ عليه، قال له: يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر؟ فأعاد عليه الشيخ كلمته، وردد الحديث وشرحه، فقال له الخديو: وماذا صنعنا حتى ينزل بنا البلاء. قال له: يا أفندينا أليست المحاكم المختلطة فتحت بقانون يبيح الربا؟ أليس الزنا

جهاد الأعداء

برخصة؟ أليس الخمر مباحًا؟ أليس؟ أليس؟ وعدد له منكرات تجري بلا إنكار، وقال: كيف تنتظر النصر من السماء؟ فقال الخديو: وماذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه هي مدنيتهم؟ قال الشيخ: إذن ما ذنب البخاري؟ وما حيلة العلماء؟ ففكر الخديو مليًّا، وأطرق طويلاً ثم قال له: صدقت، صدقت (¬1). هل تجهر بكلمة الحق لإعلاء دين الله، وتصحيح المفاهيم الخاطئة؟ جهاد الأعداء عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة. فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقى على كبده. (الطبراني). وعن أبي السائب: أن رجلاً من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدًا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله؟ والله! ما لنا من دابة نركبها، وما أنا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله، وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وعن ابن عمر قال: أمَّر رسول الله في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعًا وتسعين من ضربة ورمية، ليس منها شيء في دبره. ستار القدرة يقول سيد قطب: إن المؤمنين ستار القدرة، يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء: 45 - 46.

وقفة

يختاره بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين (¬1). وقفة قال البنا: إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة. واعلموا أن الموت لابد منه، وأنه لا يكن إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدًا قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]. فاعملوا للموتة الكبرى تظفروا بالسعادة الكاملة. عزاء والد الشهيد يقول الأستاذ عمر التلمساني: لقد أحيا الإمام الشهيد البنا روح الجهاد في نفوس أبناء هذا الجيل، وتأثر الإمام، وتأثر الشباب، وتأثر آباؤهم وكانت مواقف رائعة. استشهد أحد أبناء الإخوان في فلسطين، فذهب الإمام إلى والد الشهيد ليعزيه، فسمع الناس ورأوا درسًا باهرًا، وقال الوالد للإمام: إن كنت جئت معزيًا فارجع أنت ومن معك. وأما إن كنت جئت لتهمئني فمرحبًا بك وبمن معك، لقد علمتنا الجهاد وبينت لنا ما فيه من عزة ورفعة في الدنيا، وأجر كريم في الآخرة فجزاك الله خيرًا، وإني لحريص على ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (1/ 270).

الرحمة في الجهاد الإسلامي

مضاعفة الأجر، فها هو ولدي الثاني، أقسمت عليك لتصحبنه إلى ميادين الجهاد، فانهمرت الدموع، وعلا النشيج، وتصاعدت الزفرات (¬1). الرحمة في الجهاد الإسلامي لما كانت الغاية في الجهاد الإسلامي أنبل الغايات، كانت وسيلته كذلك أفضل الوسائل، فقد حرم الله العدوان، قال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وأمر بالعدل حتى مع الأعداء والخصوم، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وأرشد المسلمين إلى منتهى الرحمة. فهم حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون، ولا يمثلون ولا يسرقون، ولا ينتهبون الأموال، ولا ينتهكون الحرمات ولا يتقدمون بالأذى، فهم في حربهم غير محاربين كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين. عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرَّ الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال:"اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا" [رواه مسلم]. كما ورد النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والإجهاز على الجرحى، وإهانة الرهبان ومن لا يقاتل من الآمنين، فأين هذه الرحمة من غارات المتمدينين الخانقة وفظائعهم الشنيعة؟ وأين قانونهم الدولي من هذا العدل الرباني الشامل؟ اللهم فقَّه المسلمين في دينهم، وأنقذ العالم من هذه الظلمات بأنوار الإسلام. من جهاد الأبطال لقد اعتقل يوسف طلعت وإخوانه عام 1949م وهم في ميدان الجهاد في فلسطين، وأقيم له معسكر اعتقال بإشراف الجيش المصري، ثم نقلوا إلى معتقل الطور، وحين خرج من المعتقل لم يهدأ، بل ظل يهاجم الإنجليز في المعسكرات بقناة السويس مع أخيه محمد فرغلي والإخوان المجاهدين، حتى إن الانجليز وضعوا جائزة قيمة لمن يعثر عليه أو على أخيه الشيخ فرغلي حيًّا أو ميتًا، فما كان منه إلا أن خرج أمامهم متنكرًا في هيئة شيخ كبير السن يحمل طفلاً رضيعًا، فلم يتعرضوا له لما يتمتع به من هدوء الأعصاب، والقدرة ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين:56 - 66.

المسلمون = جهاد

على تجاوز الصعاب دون أدنى خوف أو وجل (¬1). يقول نجل الشهيد عبد العزيز الرنتيسي -قبيل وفاة أبيه-: أستيقظ أبي واغتسل وتعطر، وأخذ ينشد -على غير عادته- نشيدًا إسلاميًا مطلعه: أن تدخلني رب الجنة هذا أقصى ما أتمنى، وأضاف: التفت إلى والدتي وقال لها: إنها أفضل الكلمات التي أحبها في حياتي، وحينها شعرت بالقلق (¬2). المسلمون = جهاد كلمة المسلمين "معرفة ونكرة" وردت في القرآن 41 مرة، وكذلك كلمة الجهاد بمشتقاتها وردت 41 مرة في القرآن الكريم، وفي هذا إشارة إلى أن المسلمين = جهاد، أي لا مسلمون بلا جهاد ولا جهاد بلا مسلمين، فكأن الجهاد المقدس لا يصدر إلا من مسلم، وليس هناك مسلم إلا ويجاهد لرفعة دينه (¬3). حب الشهادة في إحدى معارك 1948 م بفلسطين يقول أحمد عيد: كانت ذراع أحدهم تنزف بغزارة، تقدمت منه وحاولت أن أثنيه عن عزمه بجذبه أو هزه؛ لعله في غيبوبة فيفيق منها فنظر إليَّ بعينين براقتين، وقال: ليتها كانت القاضية يا أخي، إنني أشم رائحة الجنة فكيف تحرمني من هذا النعيم؟ دعني أمضي في سبيلي، فلم أر مناصًا من موافقته على ما أراد، وأذعن لمشيئته، ومضينا صعودًا والنيران تنهمر كأفواه القرب، غزارة ثم طيشًا، إلى غير هدف كأن أيدي خفية تصدها عنا، وتحمينا من لظاها، وكنا كلما اقتربنا من خط العدو انفرجت أساريرنا وزاد حماسنا. فجأة ظهرنا بمجموعاتنا كاملة، وفي أيدينا خناجر، تلمح وتضيء، فتمزق أستار الليل، وتمزق جنود العدو الهارب. ورحنا نتنادى ونتعارف، الله أكبر ولله الحمد، والمواقع تنهار، وكأنها الهشيم، وسكن ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية: 555. (¬2) مذكرات الشهيد الرنتيسي: 12. (¬3) إيقاظ الغافلين: 198.

نموذج المجاهد

الكون إلا عن صدى النداء المعظم "الله أكبر"، بحثت عن الأخ الجريح، فوجدت مشهدًا مؤثرًا بالغ الروعة، وجدته مرتميًا فوق جثة أحد الصهاينة ويداه مطبقتان على عنقه والصهيوني جاحظ عيناه، قد فارق الحياة. جذبت الأخ برفق فإذا خنجره في صدره، لقد صمم على الشهادة فنالها، وأراد سبيل الله فمضى فيها. وبصعوبة بالغة استطعت أن أنزع يديه عن عنق الصهيوني، وكأنهما أصبحا قطعة واحدة (¬1). نموذج المجاهد يقول البنا: أستطيع أن أتصور المجاهد شخصًا قد أعد عدته وأخذ أهبته، وقلَّب عليه الفكر فيما هو فيه نواصي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبدًا، إن دُعي أجاب، أو نودي لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وسر دفين، وما تفيض به نفسه من عزم صادق وهمة عالية وغاية بعيدة. أما المجاهد الذي ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، يقضي وقته لاهيًا عابثًا ماجنًا، فهيهات أن يكون من الفائزين أو يكتب في عداد المجاهدين. خطبة ثورية خطب الشيخ الشهيد أحمد ياسين ذات مرة، وكان يبدو منفعلاً فجاءت كلماته رصاصًا في قلب الأعداء، بردًا وسلامًا على قلوب الأحباب والإخوان، قال رحمه الله: والآن وقد بدأت الصحوة الإسلامية في الشرق وفي الغرب، وفي كل مكان فلابد لكل مسلم أن يسأل نفسه: ما هو دوري في هذه الصحوة؟ وما هو دوري في معركة الإسلام؟ أين أقف الآن؟ وما هو موقفي؟ إنه ليس من الحكمة أن نقف -فقط- ونلعن الظلام، بل لابد أن نضيء الشموع لنطرد الظلام ونبدد الحلكة. إن دعوة الله أمانة وهي بين أيدينا، فعلينا أن نبلغها للناس ¬

_ (¬1) مواقف إيمانية، أحمد عيد: 50 - 51.

حزن عميق

بالسلوك الحميد واللمحة الطيبة والمعاملة الحسنة، علينا أن نبلغها بالدفاع عنها بالفكر والجهاد والقلم واليد واللسان، حتى تصل إلى الناس جميعًا، وحتى نؤدي واجب هذه الدعوة (¬1). حزن عميق والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لما حل بأمة الإسلام لمحزونون!! أهذه هي الأمة التي زكاها ربها، وكرمها في قرآنه حين قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. أهذه هي الأمة التي زكاها ربها بالاعتدال والوسطية، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالألفة والوحدة، فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. ألا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعي منك في ظلم الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك الفلالي الخوف من الله دفعه للشهادة ثابت بن قيس رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم هلعًا جزعًا ترتعد فرائصه خوفًا وخشية، فقال له: "ما بك يا أبا محمد؟! " فقال: أخشى أن أكون قد هلكت يا رسول الله. قال: "ولم؟! " قال: لقد نهانا الله عز وجل عن أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الزهو، فما زال الرسول صلوات الله وسلامه عليه يهديء من روعه حتى قال: "يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة؟ " فأشرق وجه ثابت بهذه البشرى، وقال: بلى يا رسول الله، بلى يا رسول الله، فقال الرسول: "إن لك ذلك". فأقبل ثابت على الجهاد، لطلب الشهادة ودخول الجنة، ومضى به الأجل إلى حروب الردة ضد مسيلمة الكذاب ومدعي النبوة، وفيها تحنط ثابت وتكفن ووقف على رءوس ¬

_ (¬1) شهيد أيقظ أمة: 85.

يا فلسطين

الأشهاد وقال: يا معشر المسلمين، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله؛ بئس ما عودتم أعداءكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لهم، ثم رفع طرفه على السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء من الشرك -يعني مسيلمة وقومه-، وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء -يعني المسلمين-. ثم هب هبة الأسد الضاري كتفًا لكتف مع الغر الميامين: البراء بن مالك الأنصاري، وزيد بن الخطاب أخو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم وغيرهم من المؤمنين السابقين، وأبلى بلاء عظيمًا ملأ قلوب السلمين حمية وعزمًا، وشحن أفئدة الشركين وهنًا ورعبًا. وما زال يجالد في كل اتجاه، ويضارب بكل سلاح حتى أثخنته الجراح، فخر صريعًا على أرض المعركة، قرير العين بما كتب الله له من الشهادة التي بشره بها حبيبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلوج الصدر بما حقق الله على يديه للمسلمين من النصر. ولم يقف بهم الشوق إلى الشهادة لنيل الجنة إلى هذا الحد، ولكنهم وجدوا ريح الجنة في مكان نيلها، وهم أحياء قبل الشهادة (¬1). يا فلسطين كيف أبدي بأحرف ما أريد ... وبماذا تراه يحكي القصيد كل يوم تدق بابي عظات ... ويهز الفؤاد خطب جديد لك الله يا شعب فلسطين، صراخ وعويل وأنين، وقتل وتشريد للمدنيين، هتك عرض، ونهب أرض، وهدم بيوت، وأنفس تقتل وتموت، وآلاف المعتقلين بالسجون، وجرحى ومصابون، وآخرون مشوهون ومعاقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬2). كيف ننام ملء جفوننا، ونحن نرى صور الأمهات الثكالى، وهن ينتحبن بجوار جثث أبنائهن وأزواجهن. نساء ضعيفات عجائز كبيرات يرمقن الجنائز بعين الأسى والحسرة. إلى متى تلك المجازر يا بني ... قومي أما اهتزت لكم أعراق أوليس من قُتلوا ومن صُلبوا ... لنا أهلاً فأين البر والإشفاق ¬

_ (¬1) خير القرون: (2/ 206 - 207). (¬2) عندما ينطق الحجر: 8.

البطل الليبي

إن لم يكن دين فكل فضيلة ... هدر وليس لكافر ميثاق واضيعة الإسلام في أوطانه ... ضاقت به وبأهله الآفاق في كل ناحية أنين ثواكل ... وأرامل تغلي بها الأعماق أرثي لأوطاني ومن باتوا ... على غفلاتهم والغافلون أفاقوا فمتى سينقشع الظلام ويرتقي ... علم الجهاد الظافر الخفاق البطل الليبي البطل الليبي "عمر المختار" الذي حارب الاستعمار الإيطالي، وجيوشه المجهزة بأحدث أسلحة عصره، بالقلة المؤمنة العزلاء، أو شبه العزلاء من جنده؛ وقف يحارب الطائرة بالحصان، والمدفع بالسيف، واستطاع أن ينزل بأعدائه ضربات موجعة، ولم يرض بالتسليم ساعة ما، رغم نفاد قوته المادية كلها، ولكنه ظل يقول للطليان: لئن كسر المدفع سيفي، فلن يكسر الباطل حقي. وكان مريضًا بالحمى، تهز رعدتها جسده، وترتعد بها فرائصه، ورغم هذا قال لجنوده: اربطوني على ظهر جوادي بالحبال حتى لا أتخلف عن القتال معكم. وحين ظفر به الجيش المستعمر وحكموا عليه بالإعدام تقبل الحكم برحابة صدر، وابتسامة سخرية، وقال له بعضهم -قبل تنفيذ الحكم-: اطلب العفو ونحن نطلق سراحك، فأجابهم بكل إباء وشمم: لو أطلقتم سراحي لعدت لمحاربتكم من جديد (¬1). اللهم احشرني من حواصل الطير عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميرًا على الجيش في بعض الغزوات فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس إلى الغزو ورغبتهم في الثواب، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثم تفرق الناس وركبت فرسي وسرت إلى منزلي فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس تُنادي: يا أبا قدامة، فقلت: هذه مكيدة من الشيطان. فمضيت ولم أجب. فقالت: ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إلى رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية. فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها مكتوب: إنك دعوتنا إلى الجهاد ورغبتنا في الثواب، ولا ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة: 275.

قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما في، وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك، لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي. فلما كانت صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل فتقدمت إليه وقلت: يا فتى أنت غلام غر راجل ولا أمن أن تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا. فقال: أتأمرني بالرجوع؟ وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15 - 16]. فحملته على هجين كان معي فقال: يا أبا قدامة ثلاثة أسهم. فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلح علي حتى قلت بشرط: إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك. قال: نعم. فأعطيته ثلاثة أسهم فوضع سهمًا في قوسه وقال: السلام عليك يا أبا قدامة. ورمى به فقتل روميًا. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك يا أبا قُدامة فقتل روميًا. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك سلام مودع. فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس (¬1) سرجه. فتقدمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم ولكن لي إليك حاجة: إذا دخلت المدينة فأت والدتي وسلم خرجي إليها وأخبرها فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، وسلم عليها فإنها العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي ثم مات. فحفرت له ودفنته. فلما هممنا بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها. فقال أصحابي: إنه غلام غر ولعله خرج بغير إذن أمه. فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا. فقمت وصليت ركعتين ودعوت الله عز وجل فسمعت صوتًا يقول: يا أبا قدامة أنزل ولي الله. ¬

_ (¬1) قربوس: الجزء المرتفع من مقدمة السرج.

صور أخرى

فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته، فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته فلما قرعت الباب خرجت أخته إلي فلما رأتني عادت وقالت: يا أماه هذا أبو قدامة ليس معه أخي، فقد أُصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي. فخرجت أمه إلي فقالت: أمعزيًا أم مهنئًا؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان مات فعزني، وإن كان استُشهد فهنئني. فقلت: لا بل مات شهيدًا. فقالت: له علامة فهل رأيتها. قلت: نعم لم تقبله الأرض ونزلت الطيور فأكلت لحمه وتركت عظامه فدفنتها. فقالت: الحمد لله. فسلمت إليها الخرج ففتحته فأخرجت منه مسحًا وغلاً من حديد. وقالت: إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح وغل نفسه بهذا الغُل وناجى مولاه، وقال في مناجاته: اللهم احشرني من حواصل الطيور. فقد استجاب الله دعاءه. صور أخرى وذكر البنا رحمه الله صورًا وألوانًا أخرى للجهاد فقال: 1 - من الجهاد في الإسلام أيها الحبيب: عاطفة حية قوية تفيض حنانًا إلى عز الإسلام ومجده، وتهفو شوقًا إلى سلطانه، وتبكي حزنًا على ما وصل إليه المسلمون من ضعف، وما وقعوا فيه من مهانة، وتشتعل ألمًا على هذه الحال التي لا ترضي الله ولا ترضي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان 2 - من الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن يحملك هذا الهم الدائم والجوى اللاحق على التفكير الجيد في طريق النجاة، وتلمس سبيل الخلاص، وقضاء وقت طويل في فكرة عميقة تمحص بها سبل العمل وتتلمس فيها أوجه الحيل لعلك تجد لأمتك منفذًا أو تصادف منقذًا، ونية المرء خير من عمله، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. 3 - ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك، وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام والمسلمين، فإن كنت قائدًا ففي مطالب القيادة تنفق،

وإن كنت تابعًا ففي مساعدة الداعين تفعل، وفي كل خير قال تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. 4 - ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تأمر بالعروف وتنهى عن المنكر وأن تنصح لله ورسوله وكتابه ولأئمة السلمين وعامتهم، وأن تدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وما ترك قوم التناصح إلا ذلوا، وما أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا خذلوا، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79] [المائدة: 78]. 5 - ومن الجهاد في سبيل الله: أن تتنكر لمن تنكر لدينه، وأن تقاطع من يعادي الله ورسوله، فلا يكون بينك وبينه صلة، ولا مؤاكلة ولا مشاربة .. وفي الحديث: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" [رواه أبو داود]. 6 - ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تكون جنديًا لله تقف له نفسك ومالك لا تبقى على ذلك من شيء، فإذا هدد مجد الإسلام وديست كرامته ودوى نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام كنت أول مجيب للنداء، وأول متقدم للجهاد. وبذلك يتحقق ما يريد الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعًا. 7 - ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تعمل على إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق، وإنصاف الظلوم والضرب على يد الظالم، مهما كان مركزه وسلطانه، جاء في الحديث: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان أو أمير جائر" الترمذي، وجاء أيضًا: "سيد الشهداء حمزة بن عبد الطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" الطبراني. 8 - ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى: إن لم توفق إلى شيء من ذلك كله أن تحب المجاهدين من كل قلبك، وتنصح لهم بمحض رأيك، وقد كتب الله لك بذلك الأجر وأخلاك من التبعة، ولا تكن غير ذلك فيطبع الله على قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة. ***

التضحية

التضحية لا جهاد بلا تضحية، فمن ظن أنه يستطيع أن يجاهد في سبيل الله وينتصر دون تضحية فقد خاب ظنه، والتضحية ألوان متعددة: بالمال، والوقت، والجهد، والأهل، والعشيرة، بل والنفس في سبيل نشر الدعوة، وإقامة الدين وحفظه، وهكذا أقيم المجتمع المسلم الأول على أكتاف رجال ضحوا بكل شيء. إن أهل الباطل يتفانون في الدفاع عن باطلهم، ويغتنمون الفرص المناسبة للهجوم علي المعتقدات التي يرون أنها تهدد وجود باطلهم الذي يتوقف وجودهم عليه، قال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} [ص: 5 - 8] فأين أهل الحق من التضحية من أجل دينهم؟! من أنواع التضحية 1 - تضحية بالعلاقات الاجتماعية قال ابن إسحاق: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما قدمنا المدينة نزلت مع عياش بن أبي ربيعة في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي بيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها. وهكذا ندرك كيف يبذل دعاة الضلال من وقتهم وجهدهم وأموالهم في سبيل نصرة باطلهم، ومحاولة إخماد دعوة الحق، حيث خرج أبو جهل وأخوه من مكة إلى المدينة وتحملا عناء السفر من أجل محاولة فتنة فرد واحد عن دينه، أفلا يتحمل المسلمون مثل هذا الجهد أو أفضل منه من أجل دعوة الناس إلى الرشد واتباع الحق؟!

لقد حاول أبو جهل أن يدخل على عياش من الجانب المؤثر عليه، حيث ذكر وضع أمه ليكسب موافقته على العودة، وهو يعلم أن عياش من أهل البر والصلة. قال عمر: يا عياش، إنه والله إن يريد القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو آذي أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت. فقال عياش: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه، وهنا وقع عياش في شباك عاطفة القرابة، فقال عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبي عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبي إلا ذلك قال: قلت له: أما إذ قد فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانجُ عليها. وهذه تضحية كبيرة من عمر حيث تنازل لعياش عن نصف ماله وعن ناقته، والمال من أعز المحبوبات لدي الإنسان. قال عمر: فخرج عليها -يعني علي ناقة عمر- معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظ عليَّ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلي، قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن. قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا. وفي ذلك عبرة للمسلمين حتى لا يأمنوا الكفار، وإن أظهروا لهم المودة وقدموا لهم المعونة، إن ذلك نوع من الطعم الذي يصطادون به المسلمين، قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]. محاولة اغتيال فاشلة روي ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يومًا، ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند المقام فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطًا، وتصايح الناس حتى ظنوا أنه مقتول، فأقبل أبو بكر يشتد، حتى أخذ

بضبعي رسول الله من ورائه وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. ثم انصرفوا عن النبي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلي، فلما قضي صلاته مر بهم -وهم جلوس في ظل الكعبة- فقال: يا معشر قريش: "أما والذي نفس محمد بيده: ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، وأشار بيده إلى حلقه" فقال له أبو جهل: ما كنت جهولاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت منهم". وتحمل الرسول الكثير من الإيذاء من أجل دعوة الناس إلى الخير، فلا تجزع من أول بلاء وتذكر تضحية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. إيذاء شديد: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم (هو عقبة بن أبي معيط)، فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقته عنه، وأقبلت تسبهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" ثم سمى: "اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشية بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد" قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب -قليب بدر- ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"وأتبع أصحاب القليب لعنة". احذر المعوقات يقول فتحي يكن: لقد اختارت القيادة مجموعة من الإخوة لحرب الإنجليز المحتلين في القناة سنة 1951 م، وعند السفر قال لهم أخ: أمهلوني يومًا واحدًا حتى أعود إلي المنزل أرتب أموري فحذروه، ولكنه استأذن، فغاب عنهم خمسة عشر يومًا، فلما لحق بهم سألوه، فقال لهم: لقد أحسَّت بي زوجتي فكانت كلما هممت بالخروج (صوَّتت) وجمعت على العائلة .. حتى تغفلتها وهربت.

يقول الأستاذ فتحي يكن: أعرف أخًا كان قبل زواجه مقدامًا معطاء، ولقد نكب بزوجة سيئة وضعت الموت والفقر بين عينيه، فكانت كلما رزق بغلام ذكرته بحقه (المادي) عليه، وأن عليه مضاعفة السعي من أجله .. ولما تكاثرت ذريته -وامرأته على الشاكلة- سقط في الامتحان، وأصبح عبدًا للدنيا بعد أن أصبح عبدًا للزوجة (¬1). 2 - التضحية بالوقت والجهد هاجر مصعب بن عمير من مكة إلى المدينة بأمر من الرسول، فترك الوطن والأهل والمال وبذل كل وقته سعيًا بين الأوس والخزرج داعيًا إلي الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فمهد لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان خير سفير، وعاد باثنين وسبعين رجلاً وامرأتين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن آمنوا، وكذلك جعفر بن أبي طالب وإخوانه الذين هاجروا معه إلى الحبشة، والأمثلة كثيرة من أصحاب الهمم العالية. 3 - التضحية بالمال قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. يأتي أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ماله في غزوة تبوك؛ أربعة آلاف درهم، ويسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أبقيت لأهلك شيئًا؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله. لا تبخل علي إخوانك المحتاجين. هذا لا يأخد أجرًا انتدب الأزهر الأستاذ عمر التلمساني لإلقاء بعض المحاضرات في الشريعة والقانون بالجامعة، وكان ذلك أيام الدكتور عبد الحليم محمود، فلما جاء كشف صرف المكافآت للسادة الأساتذة المحاضرين المنتدبين، إذا بالدكتور عبد الحليم محمود يجد اسم الأستاذ عمر التلمساني مدرجًا بالكشف فقال للمسئول: ارفع اسم الأستاذ عمر من الكشف، هذا لا يأخذ أجرًا (ده مش بتاع كده) ودار حوار، ولم يرفع المسئول اسم الأستاذ عمر. ولما كان وقت صرف المكافآت، ذهب المسئول بالكشف للأستاذ عمر ليوقع، فأبى. ¬

_ (¬1) المتساقطون على طريق الدعوة: 84.

فذهب المسئول للدكتور عبد الحليم محمود، فقال الدكتور عبد الحليم محمود: ألم أقل لك أن الأستاذ عمر لا يأخذ أجرًا. باع الجاموسة أيام حرب فلسطين 1948 م سجل فلاح من الإخوان -اسمه حسن الطويل- اسمه في كتائب المتطوعين، وترك أهله وأرضه وكل شيء، بل باع (جاموسته) ليشتري بثمنها سلاحا، فقال له الحاج أحمد البس: يا حسن دع الجاموسة لأولادك وحسبك أنك تطوعت بنفسك، وعلى غيرك ممن لم يجاهد بنفسه أن يجاهد بماله، فرد عليه حسن قائلا: هل قال الله تعالى: وجاهدوا بأنفسكم فقط، أم قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]؟ هل اشترى منا النفس وحدها، أم النفس والمال ليعطينا الجنة؟ أم تريدون أن نتسلم (البضاعة) دون أن ندفع الثمن. 4 - التضحية بالنفس عن أم حارثة بن سراقة -رضي الله عنها- أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة -وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غَرب (لا يعرف راميه) - فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" [رواه البخاري]. إن القلب ليطير فرحًا مع هذا الصحابي الذي نال الفردوس الأعلى، ألا تشتاق أن تكون معه في جنة عرضها السماوات والأرض تحت عرش الرحمن، فسارع من الآن قبل فوات الأوان. تضحية ضمرة استمع الصحابي ضمرة بن جندب - رضي الله عنه - إلي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء: 97 - 98]. فحين استمع إلى هذه الآيات وكان بمكة لم يهاجر بعد، وكان مسنًا لا يقوي على احتمال السفر، قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدى إلى

أين التضحية؟!

الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهًا إلى المدينة، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: "اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك علي ما بايعك عليه رسولك"، فمات حميدًا، فلما بلغ خبره أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان أتم أجرًا، وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب، فنزلت الآية: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]. أنها التضحية الصادقة مع الله، فرزقه الله الشهادة، فهل أنت صادق في حبك للإسلام، وعلي استعداد للتضحية من أجل نصرته؟ وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر علينا أبا عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - نتلقى بعيرًا لقريش، وزودنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة؛ نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط (ما يسقط من ورق الشجر) ثم نبله بالماء فنأكله. [رواه أبو داود]. أين التضحية؟! عن ابن عمر قال: بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- يأكل ألوان الطعام، فقال لمولى له يقال له يرفأ: إذا علمت أنه قد حضر طعامه فأعلمني، فلما حضر غداؤه جاء فأعلمه، فأتى عمر فسلم واستأذن فأذن له، فدخل فجاء بلحم فأكل عمر معه منه، ثم قرب شواء فبسط يده وكف عمر يديه ثم قال عمر: الله يا يزيد بن أبي سفيان: أطعام بعد طعام، والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم. عليك بالتضحية بوجبة من وجباتك لإخوانك الفقراء، وليكن طعامك في هذا اليوم خشنًا، للتعود على جهاد النفس، فهو الطريق للتضحية بالنفس في سبيل الله دون تخاذل. فهم خاطيء عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة

أريد أن أطأ بعرجتي في الجنة

بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين، على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحنا وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. إن البشر إلى فناء، وإن العقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته، فإذا كان العمر مكتوبًا، والأجل مرسومًا، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟ ولتنظر نفس ماذا تريد؟ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصل همها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، فالخوف والهلع والحرص لا تطيل أجلاً، والشجاعة والثبات والإقدام لا تقصر عمرًا، فلا نامت أعين الجبناء. أريد أن أطأ بعرجتي في الجنة كان عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا، فلما توجهوا إلى أحد أراد أن يتوجه معهم، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل يوم أحد شهيدًا. كم كان مشتاقًا إلى دخول الجنة بالعمل لا بالقول فحسب، فالتضحية بالنفس تكون بالدعاء ليل نهار أن يرزقك الله الشهادة، وتتصف بصفات المجاهدين، وتضحي بنفسك كما فعل سحرة فرعون.

تضحية علباء بن جحش

قال تعالى على لسان السحرة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [طه: 72 - 73]. فلتعذب الأجساد ولتزهق الأرواح، وتقطع الأيدي والأرجل من خلاف، ولتصلبنا في جذوع النخل، فافعل ما تشاء. وهكذا أصحاب العقيدة يضحون بكل ما يملكون؛ لا يذلون ولا يهنون، ولا يضعفون مهما لاقوا من وسائل التعذيب، بل يظلون أوفياء للفداء، شرفاء عند الابتلاء، أقوياء يتحدون جبروت الأعداء، ومهما تكرر الوعيد أمامهم فإنهم يعتصمون بحبل الله القوي المتين قائلين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]. تضحية علباء بن جحش في موقعة القادسية برز رجل من المجوس أمام صفوف بكر بن وائل فنادى: من يبارز؟ فخرج له علباء بن جحش العجلي فضربه علباء في صدره، وشق رئتيه، وضربه الآخر فأصاب علباء في بطنه وانتثرت أمعاؤه، وسقطا معًا على الأرض، أما المجوسي فمات من ساعته، وأما علباء فلم يستطع القيام، وحاول أن يعيد أمعاءه إلى مكانها فلم يتأت له، ومر به رجل من المسلمين فقال له علباء: يا هذا أعني على بطني، فأدخل له أمعاءه، ثم زحف نحو صف العجم دون أن يتلفت إلى المسلمين وراءه، فأدركه الموت على ثلاثين ذراعًا من مصرعه وهو يقول: أرجو بها من ربنا ثوابا ... قد كنت ممن أحسن الضرابا من منا يستطيع أن يثبت في هذا الموقف، ويضحي بنفسه في سبيل الله؟! وفاة خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجي عندي بعد "لا إله إلا الله" من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس، والسماء تنهل عليَّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفًا، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، لقد

في وقعة البويب

طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. أخي الحبيب، احرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تجزع عند ملاقاة الأعداء. في وقعة البويب قال مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين لجنده: إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم، وأصيب مسعود وقواد من المسلمين، ورأي مسعود تضعضع من معه لإصابته، وهو ضعيف قد ثقل من الجراح فقال: يا معسكر بكر بن وائل ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرع أخي فإن مصارع خياركم هكذا، وقاتل أنس بن هلال النميري حتى أصيب، فحمله المثني وحمل أخاه مسعودًا وضمهما إليه، والقتال محتدم على طول الجبهة، ولكن القلب بدأ ينبعج في غير صالح الفرس، وأوجع قلب المسلمين في قلب المجوس. لا تفعل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مر رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشعب -فيه عيينة- تصغير عين من ماء عذبة فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله، فذكر ذلك لرسول الله فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة -هو ما بين الحلبتين من الوقت- وجبت له الجنة" [الترمذي]. احذر النكوص عن الجهاد في سبيل الله بحجة العبادة، فالتضحية بالنفس عبادة ثوابها الجنة. أستاذ جديد في فن التضحية إنه خبيب بن عدي - رضي الله عنه - صلبه المشركون وبدأت الرماح تنوشه والسيوف تنهش لحمه، واقترب منه أحد زعماء قريش، وقال له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك؟ وهنا انتفض خبيب وقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة. وكانت كلماته هذه إيذانًا للرماح أن تبلغ من جسد البطل غايتها، وكان خبيب قد يمم وجهه شطر السماء وابتهل إلى ربه العظيم قائلا: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسلك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ونزل جثمان خبيب حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمه تحت ثراها الطيب.

عز الدين القسام

عز الدين القسام هو المجاهد عز الدين عبد القادر القسام نشأ في بيئة إسلامية بعد مولده في سوريا عام 1871 م، وكان والده شيخًا لزاوية في مدينته، ثم درس بالأزهر حيث كانت مصر تموج بروح الثورة والتغير، وبذلك تتلمذ على أيدي علماء أفذاذ منهم الشيخ محمد عبده، ثم عاد إلى موطنه يحمل رسالة التعليم والثورة فكان معلمًا حاذقًا وخطيبًا مفوهًا، وواعظًا ومأذونًا للأنكحة ومجاهدًا حيث جاهد الفرنسيين الذين احتلوا سوريا حتى حكم عليه بالإعدام في اللاذقية، وواصل كفاحه في فلسطين وقام بإنزال ضربات موجعة بالإنجليز واليهود. حتى جعلوا مكافأة خمسمائة جنيه لمن يدل عليه، واستشهد في أولي عمليات الثورة 1935 م بعد أن حاصرته قوات الاحتلال هو وأصحابه. ومن مقولته التاريخية: "إنه جهاد نصر أو استشهاد" فكتب للدنيا وثيقة وعهدًا وأبى أن يوقع إلا بالدم. الشيخ أحمد ياسين وهو الشيخ أحمد إسماعيل ياسين، نشأ على حب الجهاد في الجنوب من قطاع غزة عام 1938 م، أصابه شلل بجميع أطرافه، وكان خطيباً ومدرسًا بمسجد غزة، أصبح رئيسًا للمجمع الإسلامي بغزة، وقد اعتقل عام 1985 ثم أنشأ حماس "حركة المقاومة الإسلامية" عام 1987؛ مما أسخط عليه قوات الاحتلال فاعتقلته عام 1989م وتم تقديمه للمحاكمة العسكرية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، إضافة إلى خمسة عشر عامًا أخرى، ولكنه أفرج عنه عام 1997 م لأسباب صحية وقد أدت ظروف الاعتقال السيئة من تعذيب وتنكيل إلى فقدانه لبصره في العين اليمني وضعف باليسرى والتهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتين، وانتقل للمستشفى أكثر من مرة. يحيى عياش هو يحيى عبد اللطيف عياش ولد في مارس 1966 م غرب مدينة نابلس درس في مجال الهندسة الكهربائية بعد حصوله على درجة البكالويوس من جامعة بيروت بالضفة، وجعلته الأحداث التي تمر في فلسطين رجلاً من رجال الحركة الإسلامية حيث التحق بصفوفها عام 1987م، وانضم لكتائب عز الدين القسام، وفي فجر يوم الجمعة 15/ 1/ 1996 م استشهد رمز الجهاد وشيع جنازته نحو نصف مليون في غزة وحدها، وترك لنا صفحات من النضال قبل أن يتجاوز الثلاثين من عمره.

إن فلسطين ثغر الأمة ورباط الحراسة المستمرة، إنها جراح تنزف، وتحتل منزلة خاصة فهي قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول الكريم. صلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمامًا بالأنبياء بالمسجد الأقصى. إن رسول الله سيسألك ماذا قدمت لإخوانك؟ ماذا فعلت لتنقذ المسجد الأقصى؟ ماذا فعلت لدماء الشهداء وآهات اليتامى وبكاء الثكالى ودموع الأرامل؟ إن التعاطف وحده لا يكفي، وإن ذرف الدموع لا يشفع لك عند ربك حتى تترجم هذا التعاطف والإحساس إلى عمل جاد، وإنجاز فعال. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنه لا سبيل لتحرير فلسطين واسترداد المسجد الأقصى وعودة اللاجئين إلا بالجهاد والتضحية، وهو علامة حب لله ولرسوله. ***

الثبات

الثبات قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. يقول سيد قطب: الثبات أحد تكاليف الإيمان، والإيمان ليس كلمة تقال، إنما هي حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر واحتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتن، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صفية عناصرهم وخالصة قلوبهم. صور الثبات 1 - الثبات أمام الشبهات: الشبهات سلاح قديم يشهره الباطل في وجه الحق لبلبلة الفكر وإثارة الشك واهتزاز الثقة، وقد رأينا قذائف الشبهات على مر التاريخ تطلق في كل اتجاه وتسقط في كل ميدان. فالتشكيك في العقيدة مثلاً: رأينا أبي بن خلف يأخذ عظامًا نخرة فيفتها ويذروها في الهواء قائلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فيرد عليه بلسان الواثق الموقن: "نعم يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك النار" ونزل قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 78 - 79] وذلك تأكيدًا على حرص القرآن على رصد الشبهات ودحضها. وللتشكيك في مصدر القرآن قال المشركون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] قاصدين بذلك غلامًا أعجميًا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما يجلس إليه يكلمه فنزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. وللتشكيك في الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] فنزل قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ

الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. وللتشكيك في الأحكام قالوا عن الذبائح: ما قتلتم أنتم بأيديكم تحلونه وما قتله الله تحرمونه؟! فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. 2 - الثبات في وجه المغريات: وهي كذلك من أسلحة الباطل المعروفة التي لا تؤثر في رجال باعوا أنفسهم وأموالهم لله، ووقفوا حياتهم لنصرة دينه ومنهجه، وأحبوا الحق وذابوا فيه فصغرت الدنيا في أعينهم بمناصبها وأموالها، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد على قومه وقد أغروه بالمال والجاه لترك دعوته: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". خالد بن سعيد بمجرد أن أسلم خالد بن سعيد - رضي الله عنه - تعرض للبلاء الشديد، فلما علم أبوه بإسلامه أرسل إليه مولاه رافعًا أخويه أبان وعمرًا، فرأوه يصلي فامتلأت قلوبهم نورًا لهذا المشهد المهيب الذي رأوه، وعاد معهم خالد إلى أبيه فلما علم بإسلامه أمره أن يترك هذا الدين العظيم فأبى خالد بكل عزة. فقال له أبوه: إذن أحرمك من رزقي، فقال له خالد: الله خير الرازقين. فطفق والده يضربه ضربًا شديدًا حتى سالت الدماء الشريفة من هذا الجسد الطيب المبارك ثم أوثقه وزج به في غرفة مظلمة ومنع عنه الطعام والشراب ثلاثة أيام. ثم جاءه في اليوم الرابع نفر من أهله وقالوا: كيف أنت يا خالد؟ فقال: إني أتقلب في نعم الله عز وجل. فقالوا: أما آن لك أن تثوب إلى رشدك، وتطيع أباك؟! فقال: أما رشدي فما فارقني وما فارقته، وأما أبي فلا أطيعه فيما يعصى الله به عز وجل، فقالوا: قل لأبيك كلمة ترضيه في اللات والعزى يفرج عنك، فقال: إن اللات والعزى حجران أصمان أبكمان، وإني لا أقول فيهما إلا ما يرضي الله ورسوله، وليفعل بي ما يشاء. شد "أبو أُحيحة" وثاق خالد، وأمر أتباعه أن يخرجوا به كل يوم عند الهاجرة إلى بطحاء مكة وأن يلقوه بين الحجارة حتى تصهره الشمس، فكان كلما أخرجوه وألقوه في

الهاجرة يقول: الحمد لله الذي أكرمني بالإيمان، وأعزني بالإسلام، إن ذلك أهون علي من لحظة عذاب في جهنم التي أراد أن يلقيني فيها "أبو أحيحة". ثم حانت لخالد فرصة، فتفلت من سجن أبيه، ومضى إلى نبيه، ثم ما لبث أن لحقه أخواه عمرو وأبان، وانضما معه إلى موكب الخير والنور، عند ذلك أُسقط في يدي "أبي أحيحة". وقال: واللات والعزى لأعتزلن بمالي بعيدًا عن مكة، فذلك خير لي، ولأهجرن أولئك الصباة الذين يعيبون آلهتي أربابي، ثم انتقل إلى قرية قريبة من الطائف، وظل فيها حتى مات كمدًا على الشرك. ولما أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم -لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة نجا إليها خالد بن سعيد بن العاص ومعه زوجته أمينة بنت خلف الخزاعية .. وقد أقام فيها بضع عشرة سنة داعيًا إلى الله، ولم يغادرها إلى المدينة إلا بعد أن فتح الله على المسلمين خيبر فسر الرسول بمقدمه أبلغ السرور، وقسم له من غنائم خيبر كما قسم للمحاربين، ثم ولاه اليمن فظل واليًا عليها إلى أن لحق الرسول الكريم بجوار ربه (¬1). 3 - الثبات أمام بطش الظالمين: أسلوب البطش من حيل المجرمين المفلسين حين لا تجدي الوسائل السالفة فيفقدون صوابهم ويثورون على أهل الحق لتمزيق أجسادهم إن استطاعوا حتى تغيب عن أعينهم رموز الصلابة، ويعتبر أسلوب البطش من أكثر أساليب الباطل شيوعًا وتكرارًا على مر التاريخ. فهذا بلال بن رباح - رضي الله عنه - يجرد من ثيابه ويلقى على نار البطحاء ويثبت مستخفًا بالظالمين، متحديًا لهم، مصرًا على مبدئه، معتزًا به مهما لاقى في سبيله. وهذا خباب بن الأرت - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلقونه على فحم ملتهب ويضعون الصخرة عليه حتى لا يستطيع فكاكًا من حريقه. وهذا أفلح -مولى لبني عبد الدار- كانوا يربطونه من رجليه ويجرونه على الأرض. وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يلفه عمه في حصير ثم يدخن عليه ليختنق بداخله. ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 455 - 457.

الإمام أحمد بن حنبل عندما امتحن بالفتنة المشهورة في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وهي القول بخلق القرآن الذي تزعمه المعتزلة، ثبت على موقفه الحق وأصر على رأيه الصريح، ولم يغير من جوابه الذي يردده كلما أفاق من إغماءة التعذيب والتنكيل، يقول: هو كلام الله غير مخلوق، ولبث في السجن عامين ونصف العام، ولما يئسوا من إخضاعه لما يريدون، ودالت دولة الباطل، أخرج من السجن واهي القوة مريضًا مثخنًا بالآلام، ولقد كان باستطاعته أن يتجنب هذا كله لو وافقهم على ما قالوا بلسانه فقط كما فعل كثير من العلماء في عصره لينجو بنفسه، ولكن بنظرته الثاقبة وأفقه الواسع وتأييد الله له رأى الناس من حول ينتظرون إجابته، ففضل المصلحة العامة -وهي الثبات على الحق والجهر به كي لا يفق الناس- على مصلحته الخاصة، وإن أدى ذلك إلى موته .. قال له أحد تلامذته: يا إمام، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فقال: اخرج فانظر أي شيء ترى. فقال: فخرجت إلى رحبة دار الخلاقة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال الغلام: مكانكم، فدخل إلى الإمام أحمد، فقال: رأيت أقوامًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبون. فقال: أفأضل هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء. يقول سيد قطب: آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الجاد! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون!! وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة! لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائنًا حيًا يدب على وجه الأرض في صورة بشر! كذلك لا وجود لشخص -في هذا المجال- لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص (¬1). ثبات في محنة سيق الأخ الشيخ "عبد المقصود حجر" إلى السجن الحربي عام 1965 م فاستقبله العقيد شمس بدران -مع زفة من الضرب بالكرابيج والإهانات- وسأله شمس بدران: ¬

_ (¬1) أفراح الروح: 25 - 26.

أنتم عاوزين تلبسوا النسوان طرح؟ قال الشيخ عبد المقصود: نعم وهذا واجب شرعي. قال شمس بدران: هي النسوان بتوعكم أحسن من كل النسوان؟ قال الشيخ عبد المقصود: نعم. قال شمس بدران: وما الفرق؟ قال الشيخ عبد المقصود: لأن نسوانا حاجة ثانية! فثار شمس بدران وأمر العسكري أن ينتف ذقن الشيخ بالكماشة!! وبعد هذا خلعوا ملابس الشيخ وأمروه أن يغطس في باكبورت المياه القذرة!! وكلما حاول الامتناع أشبعوه ضربًا حتى كرر عملية الغطس أكثر من مرة، وبعد ذلك نظر الشيخ إلى شمس بدران -عتل السجن الحربي- وقال له: وآدي غطسة كمان عشان خاطرك يا سعادة البيه. وبعد ذلك أخرجوه من الباكبورت وألقوه على الأرض وسلطوا عليه الكلاب المتوحشة .. يقول الشيخ عبد المقصود: إن الكلاب لم تقرب منه لشدة قذارته وفظاعة رائحته، وتذكر الشيخ عبد المقصود المثل الذي يقول عند عامة الناس (دا تقرف منه الكلاب)!! (¬1). رد بكل قوة المجاهد عز الدين القسام، قام بتوعية الجيل والأمة بمخاطر هجرة اليهود إلى فلسطين، وقام بتأليف القلوب، ونشر المحبة، وإزالة الخصومات، ونبذ الأحقاد، وتعميق الوازع الديني، وكان على يقين بالنصر أو الشهادة في سبيل الله، وأرسل إليه حاكم حيفا يقول له: يا شيخ، إنك متحرك، وذو نشاط مناويء لنا، فرد عليه الشيخ بكل يقين وقد أخرج المصحف من جيبه: "هذا الكتاب العظيم يأمرنا بالجهاد ولا نخالفه". واستجابت جموع الشباب لصحبة الشيخ الجليل، وابتدأت المنطقة تشهد أعمالاً بطولية عظيمة، وهوجمت معسكرات البريطانيين، وحاصرت قوات الاحتلال عرين البطل يوم 27 من نوفمبر عام 1935 م، وانتهت المعركة باستشهاده وهو فرح مسرور على يقين ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان: (1/ 13 - 14).

بدخول الجنة، وذهب القسام إلى ربه شهيدًا يزفه عرس الشهداء، فجدد في النفوس معنى اليقين، وقوى من عزائم شعب فلسطين برغم قلة العتاد وضآلة الزاد. فكتب للدنيا وثيقة صحوة، وأبى إلا أن يوقع بالدم. فسلام على القسام مع الشهداء في الخالدين. ونحن على يقين بأن تحرير المسجد الأقصى قريب، ولكن علينا بالعمل الجاد المخلص. الشيخ أحمد ياسين يقول الشيخ أحمد ياسين: كنت في بيت، وكان منع التجول مفروضًا من الساعة التاسعة إلى الفجر حيث كان يخرج العمال إلى العمل، فميعاد منع التجول كان يبدأ بالساعة التاسعة -بالضبط- بيتي قبلها كان ممتلئًا بالناس، فشاء الله أن ينطلقوا ويعودوا إلى بيوتهم، فوجدت الساعة خمس دقائق بعد التاسعة، وإذا بقوات الجيش الإسرائيلي تحيط بالبيت، منهم من تسلق الأسوار، ومنهم من بقى في السيارة -يعني ربما كتيبة كاملة جاءت للقبض على الشيخ أحمد ورجال المخابرات دخلوا علي -فدخلت أرتدي ملابسي، وطبعًا أنا كنت أجلس على الكرسي المتحرك وكنت جاهزًا، فقالوا لي: أين ابنك؟ قلت لهم: ها هو، قالوا: دعه يأتي معك حتى يساعدك، ثم أخذوني. كان ابني عبد الحميد هو الذي يرافقني، كان في ذلك الوقت عمره ستة عشر عامًا، وكان لم يحصل على هويته بعد، فأخذوه وأوصلوني إلى السجن، وأجلسوني ثم بدأوا مباشرة سبًا وشتائم، بصق في الوجه وضرب على الوجه. يعني بدأوا بالإهانة والتعذيب بشكل لا تتصوره، بصق في الوجه .. يحضرون صينية ويدقون بها فوق رأسي، كنوع من الإزعاج، يمسكون بعروق الرقبة ويجذبونها إلى أعلى بشكل سيئ ولم يكتفوا وأنا كما ترى، والضرب على صدري حتى صار صدري أزرق من شدة الضرب والتعذيب، ولم يكتفوا بذلك وإنما قاموا بإحضار الولد الذي أحضروه لخدمتي، وبطحوه أمامي في الغرفة، وركبوا عليه أربعة أخذوا يخنقونه ويضربونه، والولد يصرخ تحتهم، أعطوا له أمامي علقة ساخنة من الضرب والتعذيب، ثم أصبحوا يقولون لي: حرام عليك، ارحم ابنك، اعترف، خلاص القضية انتهت، حركة حماس انتهت، وأنت ليس هناك فائدة من إنكارك، اعترف وقل ما عندك حتى ترحم ابنك من الضرب والتعذيب، قلت لهم: أنا ليس عندي شئ لأقوله، فغابوا

ساعتين ثم أحضروا الولد مرة أخرى وبدأوا بتعذيبه أمامي، فبطحوه أرضًا، وركبوا فوقه وخنقوه، ومن شدة التعذيب على الولد الضعيف الصغير فوجئت به يثور ويقفز فجأة ويطرح الرجال الأربعة على الأرض -وهذا من شدة التعذيب يعني حرارة الروح- كان الولد يموت تحتهم، كان يختنق، بعدها أخذوه مرة أخرى من عندي (¬1). ثبات ووفاء ظل الأخ محمد الصوابي الديب متخفيًا عن أعين الظالمين بعد أن أزهقت أرواح المجاهدين منهم تحت التعذيب حتى شهر ديسمبر عام 1954 م حين ذهب الساعة الثالثة ظهرًا، وطرق باب منزل العلامة الشيخ حسنين مخلوف -مفتي الديار المصرية- الذي يقع في شارع نجيب بكوبري القبة بالقاهرة. وحين فتح الخادم الباب عاد إلى الشيخ؛ ليخبره عن الطارق فيقول: إنه شاب طليق اللحية، رث الثياب، ويريد مقابلتك. يقول الشيخ مخلوف: تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل .. دخل الشاب المنزل، ولم أقابله في البداية، بل أعد له الخادم طعام الغداء فأكله بشهية كأنه لم يأكل منذ مدة طويلة .. بعد الغداء ظننت أنه سينصرف، إلا أنه أصر على مقابلتي وألح في ذلك، فذهبت إليه وما إن رأيته حتى ظننت أنه سيطلب صدقة، فقد كان رث الثياب تبدو عليه شدة التعب، بدأ حديثه بأن عرفني على نفسه: محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة الأزهر .. ولقد اهتز بدني وأصبت برعشة عندما قال لي: "إنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين والقناة" فقد كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت -عام 1954 م- في أوج محنتهم، وكانت كلمة الإخوان المسلمين تترادف معها كلمات الاعتقال، السجن، التعذيب، المحاكمات .. إلخ. نظر الشاب إليَّ في هدوء -والحديث للشيخ مخلوف- وقال بصوت منخفض ولكنه قوي: أنا في محنة وأحتاج إليك، فأنا مطلوب القبض عليّ، وقد مكثت أكثر من شهر هاربًا متخفيًا في المقابر نهارًا، ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام، لقد كرهت الحياة بين الموتى وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني؟ ¬

_ (¬1) شهيد أيقظ أمة: 44 - 46.

يقول الشيخ مخلوف: سيطر الذهول على نفسي تمامًا، ولم أفق إلا عندما قال الشاب: ما رأيك؟ استأذنت منه وذهبت إلى ابني الدكتور علي وابنتي زينب، والذهول ما زال مسيطرًا على نفسي .. لاحظ ولداي ذلك على الفور فسألاني: ما لك يا أبي؟ حصل إيه؟ أخبرتهما بالقصة، وفجأة وجدت نفسي أردد قائلاً: إنه صادق، إنه صادق، إنه صادق. قلت لولديَّ: إنني متأكد أن هذا الشاب ليس من الشرطة أو من المباحث جاء ليختبرنا، بل إنني موقن أنه يقول الصدق فهو صادق .. وأضفت: إنني لا أستطيع أن أرد مستجيرًا في هذه المحنة، وأنا موقن أنه مظلوم، وقد قررت قبوله، ولكن الذي يقلقني هو ما ستفعله بكم أجهزة المباحث والدولة كلها إذا اكتشفوا وجوده بيننا، حيث هناك قانون أو فرمان جمهوري صدر في ذلك الوقت، يعاقب كل من يتستر على أي من الإخوان المطلوب القبض عليهم بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة، قال ابني علي -بعد فترة صمت-: افعل ما تراه من الناحية الإسلامية والله يتولانا جميعًا، ويضيف الشيخ مخلوف فيقول: خرجت مع ابني علي إلى الشهيد الصوابي، وعرفته بابني علي، وأخبرته بأننا قررنا قبوله عندنا، وأنه يشرفني. ذلك ارتسمت أمارات الراحة والطمأنينة على وجه الشهيد. وسيطرت الدهشة على وجه الشهيد عندما قال له ابني الدكتور علي: لابد من أن تولد من الآن بشخصية جديدة وتدفن شخصيتك الحالية، ويضيف الدكتور علي مخلوف الذي يعمل رئيس قسم أمراض النساء والولادة بطب عين شمس: كان في اعتقادي أنه لا يمكن إخفاء الشهيد محمد الصوابي الديب، وبخاصة في منطقتنا التي كانت تشتهر بكثرة ضباط البوليس الذين يسكنونها فكان الحل أنه لابد أن يولد الشهيد الديب بشخصية جديدة تمامًا وأن أحسن طريقة لإخفاء أي شخصية هي أن تظهرها بشخصية جديدة، وتكون جميع تصرفاته طبيعية، أما الهروب والإخفاء عن أعين الشرطة والناس، فإنها طريقة فاشلة ينكشف أمرها دائمًا، عاجلاً أو آجلاً. اتفقنا على أن يعمل الشهيد سكرتيرًا لوالدي الذي كان فعلاً في حاجة إلى سكرتير؛ فقد كان مفتيًا للديار المصرية في ذلك الوقت، وكانت ترد إليه استفسارات دينية كثيرة، بالإضافة إلى أنه يكثر من تأليف الكتب، واحترنا في الاسم الذي نطلقه عليه، وأخيرًا قال والدي للشهيد: أنت صادق في جميع تصرفاتك وأفعالك، فاسمك منذ الآن صادق

أفندي. وضحكنا جميعًا. وفي اليوم التالي كان الشهيد محمد الصوابي الديب شخصًا آخر تمامًا، نظيف المظهر، حليق الذقن، وهو أبيض اللون، واسع العينين، متوسط الطول، نحيف الجسم. ويقول الشيخ مخلوف: إن الخطة التي تم وضعها لإخفاء الشهيد نجحت تمامًا، فقد أعلنا على كل أفراد الأسرة أنه جاء لي سكرتير جديد اسمه صادق أفندي، ولم يعرف بالسر سوى أربعة أشخاص: أنا وابني الدكتور علي وابنتي الدكتورة زينت، وزوجة ابني الدكتورة سعاد الهضيبي، التي لم تتردد في الترحيب بالشهيد رغم أن والدها المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي وجميع إخوتها في السجن. ويضيف الشيخ مخلوف: إن الشهيد محمد الصوابي الديب، أو صادق أفندي، كان فعلاً سكرتيرًا ممتازًا، وعاونني كثيرًا في عملي، وبخاصة في الكتب التي أخرجتها في ذلك الوقت، وكان الشهيد يصحبني دائمًا في كل مكان أذهب إليه، وقد اعتبرته فعلاً سكرتيري الخاص. عاش صادق أفندي لمدة ثمانية أشهر مع أفراد أسرة الشيخ حسنين مخلوف كأنه واحد منهم، يأكل معهم ويعيش معهم، حيث كان الشيخ يطلب منه دائمًا الإجابة عن الاستفسارات الدينية الكثيرة التي ترد إليه باعتباره مفتيًا للديار المصرية، وكان الشهيد يسكن في حجرة منفصلة بحديقة المنزل بها صالون ومكتبة كبيرة وغرفة نوم وحمام خاص، تم تخصيصها لصادق أفندي. يقول الشيخ حسنين مخلوف: وفي أحد أيام صيف 1955م، جاءني صادق أفندي وقال لي إنه يريد السفر إلى السعودية ليعمل هناك، وحاولت أن أثنيه عن ذلك، ولكنه أصر وأخبرني أن هناك شخصًا قد أعد له الرحلة بالباخرة عن طريق السويس إلى جدة. إن قلبي لم يطمئن واستعنت بابني الدكتور علي لإقناعه بعدم السفر، ولكن دون جدوى، وقال: إنه يريد أن يكون نفيه هناك، ويستريح من القلق الذي يعانيه كهارب، رغم إجادته لشخصية صادق أفندي، وغادرنا الشهيد البطل بعد أن وعدنا بأن يرسل لنا برقية فور وصوله إلى السعودية لكي نطمئن، وأرسلت إلى المرحوم محمد سرور الصبان مستشار الملك سعود ليهيئ له عملاً عند وصوله إلى هناك، ولقد مضى على سفر الشهيد حوالي الشهر، ولم تصل أي برقية تفيد بوصوله هناك.

يقول الدكتور علي حسنين مخلوف: كانت الأسرة كلها قلقة، وربما أنني أكثرهم هدوءًا، فقد حاولت دائمًا أن أطمئنهم، ولكن دون جدوى، وضاع هدوء أعصابي في أحد الأيام عندما أخبرتني زوجتي الدكتورة سعاد الهضيبي أنها سمعت من إذاعة لندن أنه تم القبض على اثنين من الإخوان المسلمين في باخرة السويس، وهما في طريقهما إلى جدة، ولم تذكر الإذاعة أسماء، ولكننا شعرنا أن الشهيد محمد الصوابي الديب كان أحدهما. ويروي الأخ وهبي الفيشاوي الذي عمل مديرًا لمطبعة مصر أن الشهيد محمد الصوابي الديب سجن معنا بعد القبض عليه في السجن رقم 4 بالسجن الحربي، وكان زبانية السجن الحربي يعذبون الشهيد تعذيبًا وحشيًا، حيث وضعوه في زنزانة تسمى "زنزانة الركن" وهي مخصصة للتعذيب الشديد، وكانوا لا يتركونه ينام أبدًا، وكان الشهيد أشدنا تعذيبًا، لا يرحمه مجرمو السجن حتى في أوقات الراحة. وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي: ذهبت يومًا إلى السجن الحربي لكي أسلم والدي بعض الحاجات، وعقب خروجي من مكتب مدير السجن الحربي حمزة البسيوني، شاهدت الشهيد محمد الصوابي الديب وهم يقومون بتصويره لعمل بطاقة اتهام، وكتمت صرخة كادت تنطلق منى، وأسرعت إلى المنزل وأخبرت زوجي بما شاهدته، فصاح قائلا: رحنا في داهية، وأعد زوجي د. علي حقيبته التي سيأخذها معه إلى السجن، فقد كنا نتوقع في كل لحظة أن تأتي الشرطة العسكرية والمباحث العامة للقبض علينا. ويقول الدكتور علي: كنت خائفًا على والدي الشيخ حسنين مخلوف، فهو قد تجاوز الستين من عمره، ولا يستطيع أن يتحمل أهوال السجن الحربي، ولذلك كنت أنا وزوجتي لا نفارقه ليلاً أو نهارًا، متوقعين في أي لحظة مداهمة الشرطة لمنزلنا. يقول الشيخ مخلوف: لم ممن أتوقع أبدًا أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب هذا التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي، لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي، حقًّا هذه هي تربية الإسلام الحق. وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي: تعجبنا جميعًا عندما مرت الأيام ولم تداهم الشرطة منزلنا كما كنا نتوقع، وفي أحد الأيام ذهبت لزيارة أبي بالسجن الحربي، وسألته عن محمد الصوابي الديب -الذي كان يعرفه لأنه من الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى أن بلدته "شبين

القناطر" مجاورة لبلدة أبي وهي عرب الصوالحة بالقليوبية- فهز والدي رأسه بطريقة تدل على الأسى، وأخبرني أنه من الشهداء، وأضاف أبي قائلاً: لقد تعجبنا له لأن الذين كانوا يقومون بتعذيبه لا يسألونه إلا سؤالأ واحدًا فقط وهو: أنت كنت فين؟ فلا يجيب إلا بآيات من القرآن الكريم، حتى كسروا عموده الفقري وبرزت عظامه وضلوعه، وكان ممرض السجن "التمرجي" يخرج من مكان تعذيبه في يده (صفيحة) مليئة بالدم. ويقول الأخ وهبي الفيشاوي: إن بعض الإخوة المسجونين الذين كانوا يقومون بتوزيع الطعام علينا كانوا يخبروننا بأحوال السجن والمعذبين فيه، وفي أحد الأيام أخبرني أحدهم أن جراح الأخ محمد الصوابي الديب فادحة جدًا ومتقيحة، وأن حالته ساءت لدرجة أن الحشرات تسري بين جروحه، وأنه قد امتنع عن الطعام بعد أن منع عنه الماء، ولم تمض سوى أيام قليلة على هذا الحديث حتى أطفئت أنوار السجن الحربي كلها في إحدى الليالي، وشاهدت من ثقب زنزانتي حراس السجن الحربي يحملون شخصًا ملفوفًا داخل بطانية ويضعونه داخل سيارة جيب مغلقة. وعرفت أنه الشهيد محمد الصوابي الديب، وقلت في نفسي: استرحت وفزت بالجنة إن شاء الله. ويختم الشيخ مخلوف حديثه عن الشهيد البطل قائلاً: إذا كانت تربية الشهيد من تربية الإخوان المسلمين، فأنا أضم صوتي بقوة إلى علماء الأزهر في المطالبة بعودة الإخوان المسلمين فتربيتهم هي خير تربية (¬1). 4 - الثبات مع كر الزمان: فقد يفرط المرء في مبدئه وتسترخي قبضته على الحق الذي معه لا لشيء إلا لتوالي الأيام والليالي، وقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. ويعتبر كر الزمان من أخطر الأسباب الصارفة عن الطريق حيث لا يوجد عدو ماثل أمامك يريد استلاب دينك وعقيدتك فيفجر فيك طاقة التصدي والتحدي، ومن ثم اعتبر القرآن من يتصفون بهذه الصورة من صور الثبات صفوة المؤمنين فقال تعالى: {مِنَ ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية: 559 - 565.

الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. ويقول البنا عن ركن الثبات: وأريد بالثبات أن يظل الأخ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنون والأعوام حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحسنيين: إما الغاية أو الشهادة في النهاية، والوقت عندنا جزء من العلاج والطريق طويلة المدى متعددة المراحل كثيرة العقبات ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر والمثوبة. 5 - الثبات أمام الضغوط والتقلبات الحياتية: فهناك الهواتف الشاغلة من قبل النفس والأهل والمال والولد. وقد يؤدي الاسترسال معها والاستغراق فيها إلى التخفف من أعباء الدعوة أولاً، ثم الانصراف عنها كلية بعد ذلك، ونسأل الله العافية والثبات، وفي هذا الهلاك المبين قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] لقد نزلت هذه الآية فيمن حدثتهم أنفسهم بالقعود في أموالهم لإصلاحها بعد ضياع، وذلك بعد أن مكن الله لدينه .. وهذا الأمر هو السبب في اعتبار الأزواج والأولاد أعداء -وهم أقرب الناس منا وأحبهم إلينا- وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. هل تثبت على دعوتك وعقيدتك مهما كانت التقلبات والظروف الحياتية؟ 6 - الثبات عند تأخر النصر: فقد يتسلل اليأس إلى بعض النفوس حين يتأخر النصر فينصرفون عن الطريق أو يتشككون فيه، وغاب عن هؤلاء أننا نحاسب على العمل ولن نحاسب على النتائج، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. ثبات على المبدأ قدم أبو بصير بن أسيد الثقفي مسلمًا مهاجرًا فاستأجر الأخنس بن شريق رجلاً

كافراً من بني عامر بن لؤي ومولى معه وكتب معهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله الوفاء -أي أن يرد إليهم من جاءه مسلمًا- فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا للنبي: العهد الذي جعلت لنا فيه، فدفعه رسول الله إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك يا فلان هذا جيدًا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله: "لقد رأى هذا ذعراً" فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد -والله- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم [رواه أحمد]. 7 - الثبات عند الزحف: حين تتقابل الصفوف والرايات في ساحة من الساحات يكون الثبات أول ما يطلب من جند الحق امتثالاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]. ومن هنا نرى ثبات جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - في مؤتة فلم تسمح نفسه الأبية بتنكيس الراية حتى بعد قطع كلتا يديه، فما كان منه إلا أن احتضنها بعضديه فكان جزاؤه من مثل عمله حين أبدله الكريم عوضًا عنهما جناحين في الجنة، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]. الجهاد قاد يوسف طلعت معركة "دير البلح" التي استشهد فيها اثنا عشر من مجاهدي الإخوان المسلمين، وحين عقدت الهدنة لتسليم الجثث وحضرها قائد إنجليزي تفقد الجثث، فوقف مذهولاً لأنه لاحظ أن جميع الإخوان مصابون في صدورهم، ودار نقاش علم منه الإنجليزي أن من صفات المؤمنين أن يقبلوا في المعارك ولا يولوا الأدبار، فقال القائد الإنجليزي: "لو أن عندي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم الدنيا" (¬1). ¬

_ (¬1) من أعلام الحركة الإسلامية 551.

8 - الثبات عند توافر أسباب النصر: فقد تتوافر أسباب النصر المادية الظاهرة بزيادة العدد أو قوة العتاد، وهنا قد يركن هؤلاء إلى هذه الأسباب بل قد يداخلهم الشعور بالخيلاء والغرور ويترجم هذا الشعور عبارة (لن نغلب اليوم من قلة) كما حدث في غزوة حنين فأتي الناس من هذا الباب وكان درسًا قاسيًا أفاقهم من غشاوتهم وردهم إلى جميل التوكل على الله، وعندئذ انقلبت الموازين وتحقق النصر المبين، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الموقف في قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25]. وفي سورة الأنفال مع عظمة مناسبة يوم الفرقان ولكن الله افتتح السورة بالمعاتبة على هذه الزلة وإقالة هذه العثرة وذلك قبل سرد روائع الغزوة فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. يقول سيد قطب: إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر، ويكون سببًا فيه، وهذا صحيح، ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت، معنى التثبيت على النصر وتكاليفه، فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الحق والضلال. فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر، وفي عدم التراخي بعده والتهاون، وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء، فصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر (¬1). 9 - الثبات أمام أساليب مواجهة الدعوة: من هذه الأساليب: أ- السخرية: قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (6/ 3289).

إن المشركين يواجهون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويخاطبونه باستهزاء وتهكم، فيخبره الله بما كان مع الرسل من قبله، قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10]. ويقال في سبب نزول الآية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزأوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من أمرهم، ولما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفًا لقريش قال أبو جهل متهكمًا ساخرًا: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقمًا (أي نبتلعها) فأنزل الله قوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]. وهذا أسلوب مستمر بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن. وعلى المسلم ألا يهتم بنقيق الضفادع، وعواء الكلاب، وخوار البقر، ورغاء الجمال، وُيعار التيوس. ب- الاتهام بالكذب: قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] وما زلنا نسمع تهمًا تكال للدعاة إلى الله. ج- الاتهام بالجنون: قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويجتمع الطغاة جميعًا على مر العصور على وصف الدعاة بالجنون. د- الاتهام بالسفاهة والضلالة: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] هذا هو منطق الفراعنة في كل زمان ومكان، منطق الطواغيت مع الرسل وأتباع الرسل. هل الذي ينادي بتحكيم شرع الله يتهم بالسفاهة؟ هل الذي يدافع عن أرضه في فلسطين يتهم بالضلال؟ هـ- الاتهام بالسحر: قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]. و- التهديد بالضرب والرجم: قال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ

الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] وهذا أبو جهل يحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من السجود عند الكعبة وقال له: ألم أنهك عن هذا؟ ز- التهديد بالسجن: إن أولياء الشيطان من ذوي الجاه والسلطان تدفعهم قوتهم لتهديد أولياء الرحمن وتخويفهم بالسجن، مثل تهديد فرعون لموسى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ولقد أجمعت قبائل قريش على محاصرة المؤمنين في شعب أبي طالب ومعهم بنو هاشم، ثلاث سنوات، لا يتواصلون معهم، ولا يبيعونهم ولا يشترون منهم حتى أدرك المؤمنين عناء شديد، كما سجن يوسف عليه السلام ظلمًا. ح- التهديد بالنفي: فهؤلاء قوم قوم شعيب قالوا له: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] ويقف لوط ينهى قومه عن الفاحشة: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]. ط- التهديد بالقتل: قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، لقد اجتمعت قريش لقتل الرسول ليلة الهجرة. ى- التهديد في الرزق: قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] وهذا الأسلوب يظهر في عصرنا واضحًا. ك- الإغراء بالمال والجاه والسلطان. حاول ملك الروم إغراء عبد الله بن حذافة بالملك، فقال له وهو أسير عنده: تنصَّر أشركك في ملكي، فأبى - رضي الله عنه -. ولقد حاول اليهود إغراء السلطان عبد الحميد بمبالغ طائلة للدولة العثمانية وتسديد الديون مقابل التخلي عن فلسطين فرفض. ل- إلحاق الأذى الجسماني، مثل: التعذيب بالنار: وكان خباب بن الأرت يلقى في النار ليرتد عن دينه. التعذيب بالخنق: فقد خنق الرسول خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حيث أخذ بمنكبه

سنة الدعوات

وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]. إلقاء القاذورات: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسجد ويلقي المشركون عليه القاذورات. الضرب: فعند ذهاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف استقبله أهلها بالحجارة حتى أدموا جسمه الشريف. نزع اللحم عن العطم والنشر بالمنشار فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسر الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" [رواه البخاري]. التغطيس في الماء: فقد لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - عماراً وهو يبكي، فجعل يمسح عينيه ويقول: أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا وكذا، فإن عادوا فقل ذاك لهم. البصق في الوجه: طلب أبي بن خلف من عقبة بن أبي معيط -وكان قد أعلن كلمة التوحيد تأثرًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبصق في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال له: وجهي من وجهك حرام إن لم تكفر به وتتفل في وجهه. الربط بالحبال: كان أمية بن خلف يربط برجْل أبي فكيهة حبلاً ويجره في الرمضاء. م- مصادرة الأموال: استغل المشركون رغبة صهيب الرومي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخذوا منه المال فنزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] وكم من شاب حُرِمَ حق العمل في الوظائف الحكومية وغيرها لأنه يدعو إلى الله (¬1). سنة الدعوات يقول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب الابتلاء والمحن لمحمد عبد القادر أبو فارس.

يقول سيد قطب: إنها سنة العقائد والدعوات، لابد من بلاء ولابد من أذى في الأموال والأنفس، ولابد من صبر ومقاومة واعتزام. إنه الطريق إلى الجنة، وقد حفت الجنة بالمكاره. بينما حفت النار بالشهوات. ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها. طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال. وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة. ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون. وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال. فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال. وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة، فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها، والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذة القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق، وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة. وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، وحقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مباديء دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال! ثم لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لابد فيها من خير، ولابد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون، فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها أفواجًا في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات، وما يصبر على ما فيها من مشقة، ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء، ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد .. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء.

ننتصر على الغرب بثباتنا

يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال، من أهل الكتاب من حولها، ومن المشركين أعدائها .. ولكنها سارت في الطريق، لم تتخاذل ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها .. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت، وأن توفية الأجور يوم القيامة، وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف، وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو، والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان، والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها، وتتوالى القرون والأجيال، وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال .. والقرآن هو القرآن (¬1). ننتصر على الغرب بثباتنا يقول الشهيد الرنتيسي -عندما كان في مرج الزهور-: في خيمة جلس صحفي محبب إلى قلوبنا وعقد معي لقاء صحفيًا، ولقد أذهلني عندما توجه إليّ في نهاية اللقاء متسائلاً: هل أنت نبي؟ فقلت: لا، فقال: هي يتنزل عليكم وحي من السماء؟ فقلت: لا، ثم أنهى اللقاء. وتوجهت اليه متسائلاً بعد نهاية اللقاء: لماذا سألتني هذه الأسئلة الغريبة؟ فقال: أنا أخاطب المجتمع الأمريكي، وهناك خواء روحي عجيب، وكثير منهم يعتقد أن ثباتكم بين الصخور والثلوج لا يمكن أن يكون إلا بوحي، ويعتقدون أنك نبي جديد، ولذا أردت أن أبين لهم الحقيقة. وقال لي: لو قلت إنك نبي لوجدت أعدادًا كبيرة دخلوا في هذا الدين الجديد (¬2). ... ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: (1/ 639 - 540). (¬2) مذكرات الرنتيسي 59 - 60.

الأخوة في الله

الأخوة في الله هي منحة قدسية، ونعمة إلهية يقذفها الله عز وجل في قلوب المخلصين من عباده، والأصفياء من أوليائه، والأتقياء من خلقه، فالله تعالى يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. لا أخوة بدون إيمان ولا إيمان بدون أخوة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - بحديث يرفعه قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" [رواه مسلم]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى"، قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله بينهم على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" [رواه أبو داود]. الأخوة طريق الجنة قال ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يطيعك، فاجعل ذلك قربة لي إليك. وقال الفضيل في بعض كلامه: هاه تريد أن تسكن الفردوس وتجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ بأي عمل عملته؟ بأي شهوة تركتها؟ بأي غيظ كتمته؟ بأي رحم قُطعت وصلتها؟ بأي زلة لأخيك غفرتها؟ بأي قريب باعدته في الله؟ بأي بعيد قاربته في الله؟. وقال عبد الله بن سهل: سمعت يحيى بن معاذ يقول: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثًا:

أمر إلهي

إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. وقال أبو سليمان الداراني: كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهرًا، ويقال: إنما الأخ الذي تعظك رؤيته قبل أن يعظك بكلامه. ويقول البنا: إن ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة، ويفر بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون، وكلهم شوق إليه وحب له وسرور بمقدمه، وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم حيلة، وما ربطهم به وشيجة من صهر أو عمومة، وما دفعتهم إليه غاية أو منفعة. وإنما هي عقيدة الإسلام جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به، ويعدونه جزءًا من أنفسهم، وشقيقًا لأرواحهم، وما هو إلا أن يصل المسجد حتى يلتف حوله الغر الميامين من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويؤثره على نفسه، ويفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع، حتى روى الإمام البخاري: "ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة". وحتى خلد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر، فما زال يبدو غرة مشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. أمر إلهي يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]. يقول سيد قطب: "هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائمًا .. وهو هنا يذكرهم بهذه النعمة، يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية أعداء، وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهما الحيان العربيان في يثرب، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعًا، ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه، فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام، وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا

حقوق الأخوة الخاصة

حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانًا (¬1). حقوق الأخوة الخاصة 1 - في المال يقول أبو حامد الغزالي في الإحياء: والحقوق في المال على ثلاث مراتب: أدناها: أن تنزله منزلة خادمك فتقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة وعندك فضل عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة. الثانية: أن تنزله بمنزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك وتسمح له بمشاطرته في المال. الثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه مرتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين، ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا. وجاء رجل إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال: إني أريد أن أؤاخيك في الله. فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال: لا. قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودراهمك مني. قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد. قال: فاذهب عني. وقال علي بن الحسين للرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه وكيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال: فلستم بإخوان. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له، وقال أيضًا: إني لألقم اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن الكريم: (1/ 442).

موقف مؤثر

ولله در علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين الوفاة قال: يا بني! إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة عانك، واصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى سيئة سدها، صاحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إن قلت صدق قولك، وإن حاولتما أمرًا أمرك، وإن تنازعتما آثرك. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم. وقال يزيد بن عبد الملك: إني لأستحي من الله عز وجل أن أسأل الجنة لأخ من إخواني وأبخل عليه بدينار أو درهم. وقال أحد الصالحين: وددت أن جميع إخواني أتوني فشاركوني في معيشتي حتى يكون عيشنا عيشًا واحدًا، ولوددت أن جميع إخواني أتوني في حوائجهم، وإني لأستحي من الله عز وجل أن ألقى الأخ من إخواني فأدعو له بالجنة وأبخل عليه بالدنيا، والدنيا أصغر وأحقر من أن يقال لي يوم القيامة: كنت كذابًا، لو كانت الدنيا بيدك كنت بها أبخل. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لعشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إليّ من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين. وجاء فتح الموصلي إلى صديق له يقال له: عيسى التمار فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أخرجي إليّ كيس أخي، فأخرجته له فأخذ درهمين، وجاء عيسى إلى بيته فأخبرته الخادمة بمجيء فتح وأخذه الدرهمين، فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت. وعن الأعمش: أن خيثمة بن عبد الرحمن ورث مائتي ألف فأنفقها على إخوانه. موقف مؤثر بيعت عيادة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في المزاد العلني؛ لأنه رفض دفع ضرائب للاحتلال، وهذا من شجاعته لرفضه مبدأ الاحتلال، وقدر الله سبحانه أن يشتري محتويات العيادة رجل فاضل وهو ابن الداعية والمحسن الكبير الحاج "صادق الزيني"، فلما علم أنها له اتصل به ورد محتويات العيادة إليه، وأقسم أيمانًا مغلظة ألا يأخذ البلغ الذي دفعه للمزاد،

وفعلاً لم يأخذ شيئًا رغم الإلحاح الشديد من الدكتور (¬1). هل تؤثر إخوانك على نفسك؟ 2 - الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض إخوانه فجاء بهدية فقال: ما هذا؟ قال: لما أسديته لي. فقال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى. وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله، فكانوا ما يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت؟ هل لكم ملح؟ هل لكم حاجة؟ وكان يقوم بها حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها (¬2). عن بسطام التيمي قال: رأيت طلحة بن مصرف يخرج من زقاق ضيق في التيم، فقلت: من أين يجيء طلحة؟ قالوا: يأتي أم عمارة بن عمير يبرها بالنفقة والكسوة والصلة، قال: وذلك بعد موت عمارة ببضع عشرة سنة. وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك، أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقًا بسبب قيامك بها. وعن الحسن بن كثير قال: شكوت إلى محمد بن علي الحاجة وجفاء إخواني. ¬

_ (¬1) مذكرات الشهيد الرنتيسي 33 بتصرف. (¬2) من يظلهم الله (1/ 365).

فقال: بئس الأخ أخ يرعاك غنيًا ويقطعك فقيرًا، ثم أمر غلامه فخرج كيسًا فيه سبعمائة درهم فقال: استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني. وكان رحمه الله يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، فتقول له مولاته سلمى: ما تصنع؟ فيقول لها: يا سلمى ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والإخوان؟ ولقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما -بعدما قتل الزبير- فقال: كم ترك أخي عليه من الدين؟ قال: ألفي ألف. قال: عليّ منها ألف ألف. قال الحسن: كنا نعد البخيل الذي يقرض أخاه!! وقال: ليس من المروءة أن يربح الرجل على صديقه. وجاء رجل من السلف الصالح إلى بيت صديق له، فخرج إليه فقال: ما جاء بك؟ قال: علي أربعمائة درهم، فدخل الدار فوزنها، ثم خرج فأعطاه، ثم عاد إلى الدار باكيًا، فقالت زوجته: هلا تعللت عليه، إذا كان إعطاؤه يشق عليك؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله، فاحتاج أن يقول ذلك. وقال علي: لئن أجمع نفرًا من أصحابي على صاع أو صاعين من طعام أحب إلي من أن أخرج إلى سوقكم فأعتق نسمة (¬1). ولله در أبي سليمان الداراني حين يقول، لو أن الدنيا كلها لي في لقمة، ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فيه. ودخل مالك بن دينار ومحمد بن واسع منزل الحسن وكان غائبًا، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن فجعل يأكل، فقال له مالك: كُفْ يدك حتى يجيء صاحب البيت، فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقًا، فدخل الحسن وقال: هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضًا حتى ظهرت أنت ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 360) بتصرف.

وأصحابك، وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة، كيف وقد قال تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] وقال: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد. وكان أبو جعفر محمد بن علي يدعو نفرًا من إخوانه كل جمعة فيطعمهم الطعام الطيب، ويطيبهم، ويبخرهم، ويروحون إلى المسجد من منزله. ولله در الإمام أحمد بن حنبل حين يقول: لو أن الدنيا جمعت في مقدار لقمة، ثم أخذها المرء المسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفًا. وقال عبد الله بن عثمان شيخ البخاري: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تمت وإلا قمت له بمالي، فإن تمت وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تمت وإلا استعنا له بالسلطان. ودخل علي بن زين العابدين بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده، فبكى ابن أسامة، فقال له: ما يبكيك؟ قال: عليّ دين. قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال: هي عليّ. وقال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق إلى الحسن بن حسين فأخبره أنه ليس عنده شيء، فقام الحسن فأخرج ستة دراهم، وأخبره أنه ليس عنده غيرها. فقال: سبحان الله ليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة. قال ابن رجب في لطائف المعارف: كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم، اغتنامًا لأجر ذلك: منهم: عامر بن عبد قيس، وعمرو بن عتبة بن فرقد، مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما، وكذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان.

وكان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره، فيشترط عليهم أن يخدمهم، فكان إذا رأى رجلاً يريد أن يغسل ثوبه، قال له: هذا من شرطي، فيغسله. وروى أن جيشًا من المسلمين كان بينه وبين عدوه نهر، فأمرهم القائد أن يخوضوه فلبوا الأمر وخاضوا النهر، والعدو يشهدهم من بعيد، وفي وسط النهر سقط إناء أحدهم فصاح: قعبي قعبي، فقال الذي عن يمينه: قعبي قعبي، وقال الذي عن شماله: قعبي قعبي، حتى أخذ الجيش كله يردد: قعبي قعبي، فخاضوا جميعًا في جوف النهر ليبحثوا عن إناء أخيهم، فعرف العدو ذلك، فألقى الله الرعب في قلوبهم وقالوا: إذا كانوا يفعلون ذلك من أجل إناء سقط من أحدهم، فماذا يفعلون لو قتلنا منهم نفسًا. 3 - في اللسان قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العثرات. وقال عيسى عليه السلام للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا وقد كشف الريح ثوبه عنه؟ قالوا: نستره ونغطيه. قال: بل تكشفون عورته! قالوا: سبحان الله من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولاً، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه. الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم. ويقول أحمد بن حنبل: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله تعالى.

فقال له ابنه عبيد الله: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال الإمام أحمد: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف؟ وعن أبي عبد الله بن الخطيب قال: كان لأبي حمدون (أحد القراء المشهورين) صحيفة مكتوب فيها ثلاثمائة من أصدقائه، قال: وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركه ليلة فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون! لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة؟ قال: فقعد وأسرج وأخذ الصحيفة، فدعا لواحد واحد حتى فرغ. وقال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد بن حنبل: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرًا. وكان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح أهلك يقتسمون ميراثك، ويتنعمون مما خلفت، وهو منفرد بحزنك، مهتم بما قدمت وما صرت إليه، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى. 4 - الوفاء والإخلاص ومعنى الوفاء الثبات على الحب وإدامته إلى الموت، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة. يقال: ما تآخى اثنان في الله فتفرق بينهما إلا بذنب يرتكبه أحدهما. وكان بشر يقول: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل الوفاء له المخالفة. فقد كان الشافعي آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه، ويقول: ما يقيمني بمصر غيره، فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال: مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من جزعي عليه وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه وظن الناس من فرط محبته أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في

علته التي مات فيها: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله؟ فاستشرف له محمد بن عبد الحكم، وهو عند رأسه ليوميء إليه، فقال الشافعي: سبحان الله أيشك في هذا، أبو يعقوب البويطي؟ فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمدًا كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن البويطي كان أفضل وأقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة. يفول ابن عباس: أكرم الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليّ، لو استطعت ألا يقع الذباب عليه لفعلت، وفي رواية: "إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني" (¬1). 5 - التخفيف وترك التكلف قال علي: شر الأصدقاء من تكلف لك، ومن أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار. وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يزور أحدهما أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه. وقالوا: من سقطت كلفته دامت ألفته، ومن خفت مؤنته دامت مودته. وقال جعفر الصادق: أثقل إخواني علي من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم عليَّ قلبي من أكون معه كما أكون وحدي. وقال آخر: لا تصحب إلا من يتوب عندك إذا أذنبت، ويعتذر إليك إذا أسأت، ويحمل مؤنة نفسك ويكفيك مؤنة نفسه، وهذا منتهى الكمال وهو نادر وقليل. وقال رجل للجنيد: قد عز الإخوان في هذا الزمان، أين أخ لي في الله؟ فأعرض الجنيد حتى أعاده ثلاثًا فلما أكثر قال له الجنيد: إن أردت أخًا يكفيك مؤنتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإن أردت أخًا في الله تحمل أنت مؤنته وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أعرفهم لك فسكت الرجل. وقال بعضهم: إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به: أكله عنده، ودخول الخلاء، والصلاة، والنوم. ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة: 128.

هل تحرص على عدم التكلف مع إخوانك؟ 6 - أخبره بحبك عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر رجل به، فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعلمته؟ " قال: لا، قال - صلى الله عليه وسلم -:" أعلمه" فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له [رواه أبو داود]. وعن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا (يلمع بياضًا في مقدمة أسنانه) إذ الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن قوله، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان من الغد هجَّرت (بكرت) فسبقني بالتهجير، ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه ثم قلت: والله إني لأحبك فقال: ألله؟ فقلت: الله: فقال: ألله؟، فقلت: الله، فقال: ألله؟، فقلت: الله، فأخذ بحبوة ردائي فجذبني إليه (ملتقى طرفيه من الصدر) فقال: أبشر، فإنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال تبارك وتعالى: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ" [موطأ مالك]. 7 - إذا لقى الأخ أخاه فليبادر إلى مصافحته قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا" [أبو داود]. إذا لقى الأخ أخاه فليطلق وجهه عند اللقاء: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" [رواه مسلم]. 8 - إذا فارق الأخ أخاه فليطلب منه الدعاء في ظهر الغيب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمرة فقال: "أي أخي أشركنا في دعائك ولا تنسنا" [رواه الترمذي]. 9 - أن يكثر من زيارة أخيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن رجلاً زار أخًا له في الله، فأرصد الله على مدرتجه (طريقه) ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل

لك من نعمة تربُّها، قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" [رواه مسلم]. وقال محارب بن دثار سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: لقد أحببت في الله عز وجل ألف أخ كلهم أعرف اسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته، وأعرف مكان داره. وقال أبو سليمان الداراني: قد يعملون بطاعة الله عز وجل، ويعاونون على أمره، ولا يكونون إخوانًا حتى يتزاوروا ويتباذلوا. وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر، سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. وروى الخطيب البغدادي أنه قال: بلغني أن بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاء في يوم وحل وطين، فقال له: كيف أشكر هاتين الرجلين اللتين تعبتا إليَّ في مثل هذا اليوم لتكسباني الثواب؟ ثم قام بنفسه فاستقى له الماء، وغسل رجليه!. 10 - أن يبدي له اهتمامًا في قضاء حوائجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" [رواه مسلم]. وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عِشرة إلا وفي أحدهما صفة من الآخر، فإن أجناس الناس كأجناس الطير .. ولا يتفق نوعان من الطير إلا لمناسبة، وفي ذات يوم رأى غرابًا مع حمامة فعجب من ذلك وقال: اتفقا وليسا من شكل واحد ثم طارا فإذا هما أعرجان، فقال: من هنا اتفقا. عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني. 11 - حفظ السر أفشى بعضهم سرًا له إلى أخيه ثم قال له: حفظت؟ فقال: بل نسيت. وقال أبو سعيد الثوري: إذا أردتَ أن تؤاخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من يسأله عنك، وعن أسرارك، فإن قال خيرًا وكتم سرك فاصحب.

12 - عدم الهجر قال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه، فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدًا. وحكى عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان عليَّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده، وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه. والقريب ينبغي ألا يهجر من أجل معصيته، حتى يقام له بواجب النصيحة، وذلك لأجل قرابته، قال الله تعالى لنبيه في عشيرته: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، ولم يقل: إني بريء منكم، مراعاة لحق القرابة ولحمة النسب، لهذا أشار أبو الدرداء لما قيل: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ فقال: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي، وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة. وسأل الفاروق عمر - رضي الله عنه - عن رجل كان قد آخاه ثم خرج إلى الشام، فقالوا له: ذاك أخو الشيطان، إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر، فكتب إليه عمر: "من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو إليه المصير، ثم قال لأصحابه: ادعوا لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب عمر - رضي الله عنه - جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه حتى بكى، ثم نزع (أي تاب) فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخًا لكم زل زلة فسددوه ووثقوه (أي افتحوا له باب الأمل والثقة) وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه. 13 - حسن الظن قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً.

وقال أبو بكر الكتاني: يحبني رجل وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت له شيئًا بنية أن يزول ثقله من قلبي فلم يزل، فلخوت به يومًا وقلت له: ضع رجلك على خدي فأبى، فقلت له: لابد من ذلك، ففعل ذلك فزال ما كنت أجد في باطني. وعن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عُذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه. وقال الربيع بن سليمان: دخلت على الشافعي وهو مريض، فقلت له: قوى الله ضعفك، فقال: لو قوى ضعفي قتلني، فقلت: والثه ما أردت إلا الخير، قال: أعلم أنك لو شتمتني لم تُرد إلا الخير. وقال أبو معاوية السود: إخواني كلهم خير مني. قيل: وكيف ذلك؟ قال: كلهم يرى لي الفضل عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه، وهذا في عموم المسلمين مذموم. هل تحسن الظن بأخيك؟ 13 - النصيحة روى أحد التابعين: سمعني شريح القاضي وأنا أشتكي بعض ما غمني لصديق، فأخذني من يدي وانتحى بي جانبًا، وقال: يا ابن أخي، إياك والشكوى لغير الله عز وجل، فإن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقًا فتحزنه، وإما عدوًا فيشمت بك، ثم قال: انظر إلى عيني هذه -أشار إلى إحدى عينيه-، فوالله ما أبصرت بها شخصًا ولا طريقًا منذ خمس عشرة سنة، ولكني ما أخبرت أحدًا إلا أنت في هذه الساعة، أما سمعت قول العبد الصالح: {إنًّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، فاجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك، فإنه أكرم مسئول وأقرب مدعو. وقد رأى ذات يوم رجلاً يسأل آخر شيئًا فقال له: يابن أخي من سأل إنسانًا حاجة فقد عرض نفسه على الرق، فإن قضاها له المسئول فقد استعبده بها، وإن

رده عنها رجع كلاهما ذليلاً (¬1). احرص على تقديم النصيحة لإخوانك سرًا وبرفق. نصح واثلة كان واثلة بن الأسقع واقفًا في سوق، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال واثلة: إن بخفها نقبًا -يعني جرحًا- قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد الرجل فردها، فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: أفسدت عليَّ بيعي رحمك الله، فقال واثلة: إنا بايعنا رسول الله على النصح لكل مسلم (¬2). وقالت أم الدرداء رضي الله عنها: من وعظ أخاه سرًا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه. وقال سفيان: قلت لمسعر بن كدام: تحب أن يخبرك رجل بعيوبك؟ قال: أما أن يجيء إنسان فيوبخني بها فلا، وإما أن يجيء ناصحًا فنعم. ويقول أحد السلف: أخوك من عرفك العيوب، وصديقك من حذرك من الذنوب. 15 - قبول الدعوة زار الإمام الشهيد البنا إحدى قرى الصعيد، وأقام الإخوان احتفالاً كبيرًا في هذا اليوم، وبعد انتهاء الحفل ألح أحد الفلاحين على الإمام الشهيد أن يزوره في بيته، وكان عدد الإخوان كثيرًا، وكان هناك مواعيد ولقاءات، فقبل الإمام الشهيد أمام الإصرار الشديد على الزيارة، بشرط أن يكون وحده، وألا تتجاوز الزيارة فنجان شاي، وتوجها إلى البيت، وكانت الفرحة، وطلب الرجل من زوجته إعداد فنجان شاي بسرعة، وسُر الرجل، وجعل الإمام الشهيد يشرب الشاي، وكلما أخذ رشفة تبسم وآنس الرجل، ثم ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 119 - 120. (¬2) الإمام أبو حنيفة: 278.

عاد إلى إخوانه المنتظرين وودعه الرجل بكل حفاوة، ثم رجع إلى بيته مسرعًا، وتناول فنجان الشاي، ليحظى بسؤره وما تبقى منه، فلم يجد سوى الأثر، ولكنه وجد عجبًا، فوجيء بأن الشاي قد أضيف إليه الملح بدل السكر (¬1). 16 - مراعاة الذوقيات يقول الأستاذ عمر التلمساني: كان الإمام الشهيد البنا يتحسس في رقة ودقة كل ما يرضى الإخوان في الحدود المشروعة، في ذات يوم زاره الأخ الشاعر عمر الأميري أحد قادة الإخوان في سوريا؛ ليستأذنه في الذهاب إلى الإسكندرية مع والده في القطار الذي يغادر القاهرة غدًا في السابعة صباحًا، وذهب عمر الأميري مع والده وقبل أن يتحرك القطار بدقيقة أو دقيقتين، إذ بعمر يرى الإمام الشهيد وهو يسرع الخطى على رصيف القطار، يحمل باقة من الورود الناضرة، يقدمها تحية لوالد عمر الأميري، وكان لهذا الموقف تأثير عميق في نفس الأميري الشاعر الكبير (¬2). هل تحرص على تقديم الهدية لإخوانك؟ ويقول الندوي: حدثني بعض الثقات المعمرين الذين أدركوا عهد الأشراف في الحجاز، أن تجار مكة كانوا في ذلك العهد على جانب عظيم من المواساة لزملائهم، والنظر في مصالحهم، والإخلاص والإيثار لهم، قال: كان بعض التجار إذا أتاه زبون في آخر النهار وقد باع ما يكفيه لقوت يومه وما حدده من الربح والوارد، ولم يكن زميله الجار سعيد الحظ في ذلك اليوم، قال له في لطف وهدوء: دونك هذا الدكان الذي هو بجواري! تجد عنده ما تجده عندي، وقد لاحظت قلة الزبائن عنده هذا اليوم، فهو أحق أن تشتري منه. ويتحدث الأستاذ محمد أسد النمساوي عن مدينة إسلامية عربية كبيرة (دمشق) فيذكر انطباعاته كما يلي: وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين 58 - 59. (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين 64.

نقاتل أعداءنا بالحب

يُرى في الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعامل بها بعضهم بعضًا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا ينادون على المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف، والحسد، حتى إن صاحب دكان منهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كلما دعته حاجة إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونًا يقف أمام دكان غاب عنه صاحبه يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع، أم ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائمًا -للتاجر المزاحم- ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة -لا بضاعته هو- بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده. هل في أوروبا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة (¬1). نقاتل أعداءنا بالحب روى أنه بعد الاتفاق على صلح الحديبية وقبل أن يدون في عقد، تمكن الصحابي الشاب أبو جندل بن سهيل بن عمرو من الفرار من سجن أبيه وقومه، حتى لحق بالمسلمين في الحديبية، ففرح به المسلمون وتلقوه وآووه، فأمسك به أبوه سهيل بن عمرو وهو المفاوض باسم قريش في هذا الصلح، وأخذ بتلابيبه وجعل يضرب وجهه بغصن شوك ويجره إليه، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني عن ديني؟ فزاد ذلك المسلمين شرًا وحزنًا، وجعلوا يبكون لكلام أبى جندل، وهنا قال رجل من الكفار واسمه حويطب بن عبد العزى لرجل آخر اسمه مُكرز بن حفص: ما رأيت قومًا قط أشد حبًا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لحمد، وبعضهم بعضًا، أما إني أقول: لا نأخذ من محمد نصفنا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة (أي لن تنال منه شيئًا حتى يدخل مكة بالقوة) فقال مكرز: وأنا أرى ذلك. والشاهد أن مشاعر الحب والأخوة بين المسلمين في هذا الموقف هي التي جعلت اثنين من الكفار يقرران نهاية الصراع لصالح المسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) الإيمان والحياة: 236 - 237. (¬2) عدة المجاهدين:87.

يقول البنا: الأخوة الإسلامية جعلت كل مسلم يعتقد أن كل شبر من الأرض، فيه أخ يدين بدين القرآن الكريم، قطعة من الأرض الإسلامية العامة التي يفرض الإسلام على كل أبنائه أن يعملوا لحمايتها وإسعادها، فكان من ذلك أن اتسع أفق الوطن الإسلامي، وسما عن حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية إلى وطنية المباديء السامية، والعقائد الخالصة الصحيحة، والحقائق التي جعلها الله للعالم هدى ونورًا، والإسلام حين يشعر أبناؤه بهذا المعنى، ويقرره في نفوسهم يفرض عليهم فريضة لازمة لحماية أرض الإسلام من عدوان المعتدين، وتخليصها من غصب الغاصبين، وتحصينها من مطامع المعتدين (¬1). ... ¬

_ (¬1) الرسائل: 52.

الثقة

الثقة الثقة من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. أنواع الثقة: 1 - الثقة في كلام الله قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فألقت أم موسى ابنها في اليم وهو عين الثقة بالله تعالى، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف. إن المسلم يوقن بأن الله لن يتركه ولن يضيعه إذا ما تخلي الجميع عنه، فثقته ويقينه بما عند الله أكبر من يقينه بما في يده، لذلك تراه دائمًا هاديء البال، ساكن النفس، إذا ما ادلهمت عليه الخطوب وازدادت الغيوم، فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه. وعندما فر سيدنا موسى بمن معه من فرعون فأتبعهم فرعون فأصبح البحر أمامه وفرعون خلفه، فقال له بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} [الشعراء: 61] ولكنه بيقين قال {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وفي الهجرة عندما اقترب المشركون من غار ثور قال أبو بكر: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" [رواه البخاري]، ونزل قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَة

اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: 39 - 40]. لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - على يقين بأن الله سينجيه من الكفار، فاستشعر معية الله سبحانه وتعالى. عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 1 - 5]، وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]. فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ -وذلك قبل تحريم الرهان- فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، قالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ اقسم بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، قالوا: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت ست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، قال: فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين لأن الله قال: في بضع سنين ولم يقل في ست سنين، فأسلم عند ذلك ناس كثير [رواه الترمذي]. كان أبو بكر على يقين بما قاله الله تبارك وتعالى، فتواعد مع الكفار على موعد محدد. الله قال هذا؟! عن أبي عبد الله مردنيش المغربي أنه أغار يومًا فغنم غنائم كثيرة، واجتمع عليه من الروم كثر من ألف فارس، فقال لأصحابه وكانوا ثلاثمائة فارس: ما ترون؟ فقالوا: نشغلهم بترك الغنائم، قال: ألم يقل الله {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65]، فقال أصحابه: يا رئيس، الله قال هذا؟ فقال: الله يقول هذا وتقعدون عن لقائهم؟! قال: فثبتوا فهزموا الروم.

المسلمون تذكروا الآية الكريمة، فَعَلَتْ همتهم وزاد يقينهم بأن النصر حليفهم، فقاتلوا بكل شجاعة وبسالة. 2 - الثقة بالثواب قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120 - 121]. عن عمرة بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا، فأمر به، قال ثعلبة: لأنا أنظر إليه حين قطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار [رواه ابن ماجه]. إنه على يقين بأن الله غفر له وأجزل له الثواب، فالمسلم الذي يبذل مجهودًا لنشر دين لا بد أن يكون علي يقين بالثواب الجزيل من الله طالما أنه أخلص نيته. 3 - الثقة في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال الكفار لأبي بكر - رضي الله عنه -: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟! فقال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: إن قال ذلك فقد صدق، فقالوا: قد صدقته أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم إني لأصدقه مما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء غدوه ورواحه. لم يسبقنا أبو بكر بصلاة ولا صيام، وإنما سبقنا بشيء وقر في صدره .. هذا الشيء اسمه اليقين. اسقه عسلاً عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: "سقه عسلاً"، ثم أتي الثانية فقال: "سقه عسلاً"، ثم أتي الثالثة، فقال: "سقه عسلاً"، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: "صدق الله وكذب بطن أخيك .. اسقه عسلاً"، فسقاه، فبرأ [رواه البخاري].

العسل شفاء من كل داء، ونحن علي يقين بما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن رب العالمين، فاحرص على تناوله وأنت على يقين بالشفاء من مرضك إن شاء الله. شهادة رجل بشهادتين النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسًا من أعرابي واستتبعه ليقبض ثمن فرسه، فأسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبطأ الأعرابي، وطفق الرجال يتعرضون للأعرابي فيسومونه بالفرس (أي يزيدون في ثمن الفرس بعد استقرار البيع) وهم لا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه حتى زاد بعضهم في السوم على ما ابتاعه به منه، فنادي الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع نداءه فقال: "أليس قد ابتعته منك"، قال: لا والله ما بعتكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد ابتعته منك" فطفق الناس يلوذون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأعرابي وما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدًا يشهد أني قد بعتكه، قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته، قال: فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال: "بم تشهد؟ " قال: بتصديقك يا رسول الله، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين [النسائي]. هل أنت على يقين بكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن النصر لمن يتمسكون بالإسلام؟! وعن أم عمار قالت: اشتكى عمار - رضي الله عنه - فقال: لا أموت في مرضي هذا، حدثني حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني لا أموت إلا قتيلاً بين فئتين مؤمنتين. وجاء معاوية إلى عمار يعوده، فلما خرج من عنده قال: اللهم لا تجعل منيته بأيدينا! فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقتل عمار الفئة الباغية" [رواه مسلم]. ولما حضر أبا ذر الموت بكت امرأته، فقال: لا تبكي، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنفر أنا منهم:" ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين"، وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الذي أموت بفلاة، فأبصري الطريق وأول ركب يمر بكم فقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعينونا على دفنه، وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق. فقالوا له: هذا أبو ذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعينونا علي دفنه، فاستهل عبد الله يبكي، ويقول: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك" ودفنوه.

وسمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - بعض الممارين في الدين يتكلمون في الحوض، فقال لقد تركت عجائز خلفي ما تصلي واحدة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. إنهم كانوا على يقين بوجود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك أكثر من مرة وكان من دعائه له: "اللهم ارزقه مالاً وولدًا، وبارك له"، وقد استجاب الله سبحانه دعاء نبيه، فكان أنس أكثر الأنصار مالا، وأوفرهم ذرية، حتى إنه رأي من أولاده وحفدته ما يزيد على المائة، وقد بارك الله له في عمره حتى عاش قرنًا كاملاً وفوقه ثلاث سنوات، وكان أنس شديد الرجاء لشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - له يوم القيامة، فكثيرًا ما كان يقول: إني لأرجو أن ألقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم القيامة فأقول له: يا رسول الله، هذا خويدمك أنس. (¬1) لقد كان على يقين في البركة في رزقه وأولاده، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له بذلك. بشره بالجنة: عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط (بستان) من حيطان المدينة، وجاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، على بلوي تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله ثم قال: الله المستعان [رواه البخاري]. وبالفعل كانت خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مليئة بالفتن، وقتل شهيدًا في نهاية حياته. ثقة عمر كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيُقتل، وسيلقي الله شهيدًا، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحد وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 14 - 16.

فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان" [رواه البخاري]. هل أنت على يقين بأن الله سيغفر للشهيد ذنوبه مع أول دفعة من دمه؟ فهل تتمني الشهادة وتعمل لها؟ ما احترق جاء رجل إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - فقال: يا أبا الدرداء احترق بيتك. قال: ما احترق. ثم جاء آخر فقال: يا أبا الدرداء انبعثت النار حتى انتهت إلي بيتك وطفئت. قال: قد علمت أن الله عز وجل لم يكن ليفعل. قال: يا أبا الدرداء! ما ندري أي كلامك أعجب؟ قولك: ما احترق، أو قولك: قد علمت أن الله لم يكن ليفعل ذلك. قال: ذاك كلمات سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قالهن حين يصبح لم تصبه مصيبة حتى يمسي: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش الكريم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم" [البيهقي]. حافظ أخي على هذا الدعاء، وكن على ثقة ويقين بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -. إنه سيعود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني محتاج، وعلى عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " فقلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني

فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه كذبك وسيعود"، فرصدته الثالثة. فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود! فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنها لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ما هي؟ " فقلت: قال لي: إذا أويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قلت لا، قال: "ذاك شيطان" [رواه البخاري]. صدقت نبوءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنه سيعود؛ ولذلك تربص به أبو هريرة، فاعلم بأن الشيطان سيعود إليك دائمًا ويوسوس لك، لتفعل المعاصي فهل تتربص به، وتنتبه لوساوسه؟ 4 - الثقة في القيادة رأينا أعداء الإسلام يستخدمون سلاح التشكيك في القيادة في كل وقت، كما حدث بعد أن أمر الرسول بإحراق نخل يهود بني النضير، فقالوا: يا محمد، قد كنت تنهي عن الفساد وقطع الشجر، فما بالك تفعله؟ فحاك ذلك في صدور بعض المسلمين فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] (¬1). وكان صلح الحديبية 6 هـ على خلاف أكثر الآراء والأهواء والرغبات، ولكن القيادة ذات الرؤية (الأبعد والأثقب) رأت إنفاذه، فكان من الجنود السمع والطاعة والالتزام ¬

_ (¬1) ابن كثير (4/ 333).

والانضباط، وإن كانت هناك (تساؤلات) أو (ضيق قلبي) فلا بأس بشرط ألا يكون لهما آثار بعد (القرار). وهذه الثقة في القيادة هي التي عصمت -بفضل الله- حذيفة بن اليمان في غزوة الأحزاب من خطأ (الاجتهاد الفردي)، حيث أمره الرسول بعبور الخندق واستطلاع أخبار الأحزاب وقال: "لا تحدث شيئًا"، وفي رواية "لا تذعرهم علينا"، أي لا تهيجهم ولا تثرهم، وهناك رأي أبا سفيان -قائد جيش الكفار في هذا الوقت- يكشف ظهره ويستدفيء بالنار، فهم أن يرميه بسهم، ولكنه تذكر أمر الرسول فأعاد السهم موضعه. وما أعظمه من درس! فالمسلمون في ساعة حرب، وأبو سفيان (محارب)، بل قائد المحاربين، ويستحق وقتها القتل، وهو صيد سمين سيؤثر في نفوس جيشه لو قتل .. إلخ، ولكن (المصلحة العليا) والقيادة قررت غير ذلك! (¬1) 5 - الثقة في الجنود أرسل عمر بن الخطاب إلي عمرو بن العاص مددًا فيه أربعة رجال وقال له: أرسلت إليك أربعة رجال الواحد فيهم بألف. وكان خالد بن الوليد يقول لقادة الروم والفرس: "جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة". ولما استعصي فتح الحديقة على المسلمين في معركة اليمامة ضد مسليمة الكذاب قال خالد للبراء بن مالك: إليهم يا فتى الأنصار، فكان على يديه بإذن الله. (¬2) 6 - الثقة في الأخوة فزع أهل الأندلس من حملات النصارى عليهم والتهامهم بلدًا بعد الآخر، فذهب الفقهاء والعلماء والأعيان إلي المعتمد بن عباد ليري لهم حلاً فعقد مجلسًا للشوري، فاقترح بعضهم الاستعانة بيوسف بن تاشفين زعيم (المرابطين) في المغرب، فاعترض بعض الحاضرين، ومنهم الرشيد بن المعتمد الذي قال لأبيه: يا أبت أتستبدل عدواً بعدو؟! ¬

_ (¬1) عدة المجاهدين 80 - 81. (¬2) عدة المجاهدين 81 - 82.

لا تتعجل النصر

فقال المعتمد كلمته الرائعة المتجردة لله: والله، يا بني لا ينقص الإسلام وأنا حي؛ فألعن على مقابر المسلمين، ولأنْ أكون راعي إبل في أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في الأندلس (أي لو ضاع ملكي على يد يوسف وأخذني أسيرًا أرعي عنده الإبل خيرًا من ضياعه على يد الصليبيين) ثم أجمعوا رأيهم على الاستفادة بالأخوة الإسلامية، فعبر المغاربة البحر وكونوا مع الأندلسيين جيشًا عظيمًا تحت راية الإسلام، فحققوا نصرًا مبينًا في معركة الزلاقة (974 هـ) حتى لقد جمعوا جماجم القتلي وصعدوا عليها وأذنوا للصلاة، وبعدها رجع يوسف بن تاشفين بجيشه إلى المغرب، وما أخذوا حتى الغنائم! (¬1). هل أنت على ثقة بإخوانك في الإسلام؟ 7 - الثقة في نصر الله عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - يقول: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاث" قال: فقلت: إني على دين، فقال: "أنا أعلم بدينك منك"، وقال: "إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما تبعته ضعفه الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة (المرأة في السفر) من الحرة تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسري بن هرمز"، قال: قلت: كسري بن هرمز؟ قال: "نعم، كسري بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد"، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة تطوف في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسري بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قالها [رواه أحد]. إنه يقين بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن الإسلام سينتصر مهما فعل أعداء الإسلام، فلا يجوز أن يصاب المسلم بالهزيمة النفسية، ويقعد عن نصرة دين الله، فكن على يقين كامل بأن الله سينصر دينه، ولكن عليك بالأخذ بكل الأسباب الممكنة. لا تتعجل النصر وجاء خباب بن الأرت - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال ¬

_ (¬1) عدة المجاهدين 83 - 84.

سؤال

له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" [رواه البخاري]. وسأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فمن الأخطاء الشائعة أن نظن أن النصر يأتي بدون ابتلاء. فالنصر قادم لا محالة، ولكن الله قد حدد له موعدًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، والمهم، أين المسلمون الذين سيستقبلون هذا النصر، ويحافظون عليه؟! وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حِلَق، قال: فأخرج منه كتابًا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله نكتب، إذ سُئل رسول الله أي المدينتيين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل أولاً يعني قسطنطينية [رواه أحمد]. ورومية هي روما عاصمة إيطاليا الآن والقسطنطينية هي استانبول، ويفهم من السؤال أن الصحابة قد علموا قبل ذلك أن الإسلام سيفتح المدينتين، ولكن يريدون أن يعرفوا: أي المدينتين تسبق الأخرى، فأجابهم أن مدينة هرقل -القسطنطينية- ستفتح أولاً. وقد تحقق ذلك علي يد الفاتح العثماني الطموح (محمد بن مراد) ابن الثالثة والعشرين، الذي عرف في التاريخ باسم (محمد الفاتح)، وفتحت مدينة هرقل في القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي بالتحديد عام 857 هـ/ 1453 م. سؤال تسمع من يقول: ماذا نفعل ونحن مجردون من الأسباب المادية؟! إنه تبرير الأذلاء وحجة الضعفاء، وكأن الأسباب المادية هي التي تأتي بالنصر. فماذا

كان يملك نوح عليه السلام من الأسباب المادية عندما وقف أمام قومه وقال لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. ونفس الموقف يتكرر مع هود عليه السلام يقف وحده أمام قومه ويتحداهم قائلاً: {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] فإني لا أخشاكم ولا أبالي بكم، فمعي قوة لا تقهر ومعي نصير لا يغلب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وأنتم أيها الغلاظ الشداد ما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربي بناصيتها، فما خوفي إذًا منكم؟ إنها حقيقة الألوهية عندما تتجلي في قلوب الصفوة المؤمنين، عندها يهتف القلب على الفور: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. ***

الجدية والانضباط

الجدية والانضباط الجدية: هي إنفاذ التكاليف الشرعية والدعوية في وقتها، مع المثابرة وتسخير الإمكانات المتاحة، والتغلب على الصعاب والعقبات، وقد حث الإسلام على الجدية والانضباط فقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وظهرت الجدية في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خلال ثباته على الحق وقال لعمه: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" (¬1) وإليك مظاهر الجدية والانضباط: الجدية في طلب العلم: قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس. وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم، وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة. ويقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: كنت أنا وجار لي من الأنصار وهو أوس بن خولى الأنصاري في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناول النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، لماذا نزل فعل مثل ذلك. وحان الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول: أثقل الساعات علي: ساعة آكل فيها. وكان عثمان الباقلاوي دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج! لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وقال عمار بن رجاء: سمعت عبيد بن يعيش يقول: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (1/ 265)، بتصرف.

الجدية في تحمل المسئولية

وكان داود الطائي يستف الفتيت، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية. ويخرج من نفس المشكاة قول الإمام الجليل ابن عقيل: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات كلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفر على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها. بل إن أحدهم ليحزن ويصيبه المرض إذا فاته شيء من العلم، فقد ذكروا لشعبة حديثا لم يسمعه، فجعل يقول: واحزناه! وكان يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني، فأمرض. عن عبد الرحمن بن تيمية قال عن أبيه: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع (¬1). هل تلزم نفسك بالقراءة اليومية في العلوم الشرعية وفي مجال تخصصك؟ الجدية في تحمل المسئولية كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأتي إلى مجزرة الزبير بن العوام -وكانت الوحيدة بالمدينة- ومعه الدرة، فإذا رأى رجلا اشترى لحما يومين متتابعين ضربه بالدرة، وقال له: ألا طويت بطنك لجارك وابن عمك؟! ورأى عمر سائلا يسأل، وعلى ظهره جراب مملوء طعاما، فأخذ الطعام ونثره لإبل الصدقة، ثم قال له: الآن سل ما بدا لك. واهتم الخليفة عمر بصحة الرعية، فكان يحذرهم من مغبة السمنة ومخاطرها، ويدعوهم إلى تخفيف أوزانهم لما فيه من القوة على العمل، والقدرة على أداء الواجبات، فكان يقول: أيها الناس، إياكم والبطنة عن الطعام، فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مورثة للسقم، وإن الله عز وجل يبغض الحبر السمين، ولكن عليكم بالقصد في قوتكم فإنه أدنى من الصلاح وأبعد من السرف، وأقوى على عبادة الله، ولن يهلك عبد ¬

_ (¬1) علو الهمة: محمد إسماعيل المقدم.

تنفيذ الأوامر

حتى يؤثر شهوته على دينه. ويذكر ابن الجوزي: أن عمر رأى رجلا عظيم البطن فقال: ما هذه؟ قال: بركة من الله، فقال: بل عذاب من الله (¬1). تنفيذ الأوامر استدعى أبو موسى الأشعري مجزأة بن ثور السدوسي -رضي الله عنهما- فقال له: أعني برجل من قومك له عقل وحزم، وقدرة على السباحة، فقال مجزأة: اجعلني ذلك الرجل أيها الأمير، فطلب منه أبو موسى الذهاب مع دليل فارسي لمعرفة منفذ لفتح تستر، ثم أوصاه أن يحفظ الطريق، وأن يعرف وضع الباب، وأن يحدد مكان الهرمزان، وأن يتثبت من شخصه، وألا يحدث أمرا غير ذلك. مضى مجزأة بن ثور تحت جنح الظلام مع الدليل الفارسي، فأدخله في نفق تحت الأرض يصل بين النهر والمدينة، فكان النفق يتسع تارة حتى يتمكن من الخوض في مائه وهو ماش على قدميه، ويضيق تارة أخرى حتى يحمله على السباحة حملا، وكان يتشعب ويتعرج مرة، ويستقيم مرة أخرى، وهكذا حتى بلغ به المنفذ الذي ينفذ منه إلى المدينة، وأراه الهرمزان قاتل أخيه، والمكان الذي يتحصن فيه، فلما رأى الهرمزان هم بأن يرديه بسهم في نحره، لكنه ما لبث أن تذكر وصية أبي موسى له بألا يحدث أمرا، فكبح جماح هذه الرغبة في نفسه، وعاد من حيث جاء قبل بزوغ الفجر. أعد أبو موسى ثلاثمائة من أشجع جند المسلمين قلبا، وأشدهم جلدا وصبرا، وأقدرهم على العوم، وأمر عليهم مجزأة بن ثور وودعهم وأوصاهم وجعل التكبير علامة على دعوة جند المسلمين لاقتحام المدينة، أمر مجزأة رجاله أن يتخففوا من ملابسهم ما استطاعوا حتى لا تحمل من الماء ما يثقلهم، وحذرهم من أن يأخذوا معهم غير سيوفهم، وأوصاهم أن يشدوها على أجسادهم تحت الثياب، ومضى بهم في الثلث الأول من الليل .. ظل مجزأة بن ثور وجنده البواسل نحوا من ساعتين يصارعون عقبات هذا النفق الخطير، فيصرعونها تارة وتصرعهم تارة أخرى، ولما بلغوا المنفذ المؤدي إلى المدينة وجد مجزأة أن النفق قد ابتلع مائتين وعشرين رجلا من رجاله وأبقى له ثمانين، وما إن وطئت أقدام مجزأة وصحبه أرض المدينة حتى جردوا سيوفهم، وانقضوا على حماة الحصن، ¬

_ (¬1) عمر بن الخطاب، للصلابي 163، 164.

طاعة بعد الموت

فأغمدوها في صدورهم، ثم وثبوا إلى الأبواب وفتحوها وهم يكبرون، واستشهد مجزأة وأسر الهرمزان (¬1). طاعة بعد الموت مر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله لو قعدت في بيتك لا تؤذين الناس، فقعدت فمر بها رجل -بعد ذلك بزمن- فقال: إن الذى نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: والله ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا. العزيمة لما لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وآلت الخلافة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وارتدت بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب مع المرتدين، جهز خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشا لحرب مسيلمة، وإعادة قومه بني حنيفة إلى دين الله، فقال وحشي بن حرب في نفسه: هذه والله، فرصتك يا وحشي فاغتنمها، ولا تدعها تفلت من يديك. يقول: ثم خرجت مع جيوش المسلمين، وأخذت معي حربتي التي قتلت بها حمزة بن عبد المطلب، وآليت على نفسي أن أقتل بها مسيلمة أو أظفر بالشهادة، فلما اقتحم المسلمون على مسيلمة وجيشه حديقة الموت، والتحموا باعداء الله، جعلت أترصد مسيلمة فرأيته قائما والسيف في يده، ورأيت رجلا من الأنصار يتربص به مثلما أتربص به كلانا يريد قتله، فلما وقف منه موقفا أرضاه، هززت حربتي حتى إذا استقامت في يدي دفعت بها نحوه فوقعت فيه (¬2). فورية التنفيذ أعد أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - جيشا لفتح مناذر من أرض الأهواز بناء على أمر الخليفة، وجعل في الجيش الربيع بن زياد وأخاه المهاجر. ولما رأى المهاجر أخو الربيع بن زياد أن القتل قد كثر في صفوف المسلمين عزم على أن يشري (يبيع) نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتحنط وتكفن وأوصى أخاه، فمضى ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 163: 165. (¬2) صور من حياة الصحابة 346.

إذن ننشيء له مدرسة

الربيع إلى أبي موسى وقال: إن المهاجر قد أزمع أن يشري نفسه وهو صائم، والمسلمون قد اجتمع عليهم من وطأة الحرب، وشدة الصوم ما أوهن عزائمهم، وهم يأبون الإفطار، فافعل ما ترى، فوقف أبو موسى الأشعري، ونادى في الجيش: يا معشر المسلمين، عزمت على كل صائم أن يفطر، أو يكف عن القتال، وشرب من إبريق كان معه ليشرب الناس بشربه، فلما سمع المهاجر مقالته جرع جرعة من الماء وقال: والله ما شربتها من عطش ولكنني أبررت عزمة أميري (أمضيت قسم أميري) ثم امتشق حسامه وطفق يشق به الصفوف، فلما أوغل في جيش الأعداء أطبقوا عليه من كل جانب، وتعاورته (تداولته) سيوفهم حتى خر صريعا، ثم إنهم اجتزوا رأسه ونصبوه على شرفة مطلة على ساحة القتال، فنظر إليه الربيع وقال: طوبى لك، وحسن مآب! والله لأنتقمن لك ولقتلى المسلمين إن شاء الله، فلما رأى أبو موسى ما نزل بالربيع من الجزع على أخيه، وأدرك ما ثار من الحفيظة في صدره على أعداء الله، تخلى له عن قيادة الجيش، ومضى إلى السوس يفتحها (¬1). إذن ننشيء له مدرسة في مغاغة مدرسة خاصة تملكها جمعية قبطية، وكان ناظر المدرسة من الإخوان، وقد خدم في هذه المدرسة ثمانية عشر عاما، ولكن الإدارة بيتت أمرا خبيثا، فقد فاجأته بالاستغناء عنه قبل انتهاء الإجازة الصيفية بقليل، وقد استوفت كل المدارس حاجتها من المدرسين والنظار، فوصل الخبر للإمام الشهيد، فقال لإخوان مغاغة وهو يبتسم بثقة وطمأنينة: لا بأس إذن ننشيء له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها. فتعجب الناس؟ إذ لم يبق على بدء الدراسة إلا أقل من شهر ولا يوجد رأس مال، فوضع الإمام الشهيد خطة، وأصدر الأوامر، ووزع الأعمال، وتحقق الأمل، وأنشئت المدرسة بفضل الله وعونه (¬2). تسخير الإمكانات شهد اليرموك ألف من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بينهم نحو من مائة شهدوا بدرا، وكان معاذ بن جبل يصحبه ابنه عبد الرحمن، وقبل أن يحتدم القتال كان معاذ بن جبل يطوف بين صفوف المسلمين يحرضهم على القتال، ويذكرهم بأيام الله، ويمنيهم بالجنة ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة 435. (¬2) الإخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ (1/ 226: 262).

ونعيمها، وكان أحد قادة الروم يرقب معاذا. فلما بدأ القوم ينادي بعضهم بعضا للنزال، خرج هذا الرومي، ينادي بالمسلمين: ليخرج إليَّ فارسكم ذاك وهو يوميء بسيفه إلى معاذ، ويتقدم معاذ بن جبل من قائده أبي عبيدة ليستأذنه بالخروج لمنازلة ذلك الرومي، فيقول له أبو عبيدة: يا معاذ، سألتك بحق رسول الله أن تلزم رايتك، فوالله إن لزومك الراية أحب إلي من قتلك لهذا العلج. وينزل معاذ عند رأي قائده، وينادي في الناس: يا معشر المسلمين، من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل الله فهذا فرسي، وهذا سلاحي فليأخذهما، وما كاد معاذ ينهي كلامه حتى كان عبد الرحمن يقف أمامه ويقول: يا أبتاه، إني خارج إلى هذا العلج، فإن صبرت فإن المنة لله، وإن قتلني، فالسلام عليك يا أبتاه، وإن كان لك إلى رسول الله حاجة فأوصني بها. هنالك أطرق معاذ، وبدأت تحتدم في نفسه معركة بين عاطفة الأبوة التي تغريه بمنع ولده من المخاطر، وعاطفة الإيمان التي تغريه بأن يخلي بين ولده وبين ما يريد من ابتغاء مرضاة الله. ثم لم يلبث أن يحسم الأمر، فيربت على كتف ولده وهو يقول: يا بني، دونك وما عزمت عليه، فإن رزقك الله الشهادة، ولحقت برسول الله فأقرئه مني السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرا يا رسول الله. وينطلق عبد الرحمن بن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- نحو علج الروم، فيناوشه ويصاوله، ثم يضربه ضربة سيف كادت تجندله، لولا أن الرومي قفز بعيدا فاختل توازن عبد الرحمن، فعالجه الرومي بضربة من سيفه قطعت عمامته، وشجت رأسه، وظن الرومي أنه قتل عبد الرحمن، فتراجع عنه فانكفأ عبد الرحمن إلى المسلمين، فاستقبله أبوه معاذ بن جبل يقول له: ما بك يا بني؟ فيقول عبد الرحمن: قتلني العلج يا أبتاه، فيقول معاذ: وما الذي تريد من الدنيا يا بني، وليس بينك وبين الجنة إلا خطوات؟ عد إلى العلج فقاتله. ويتحامل عبد الرحمن على جرحه العميق وينطلق من جديد ليقاتل الرومي، لكن مشيئة الله تسبق به إلى الجنة قبل أن يصل إلى الرومي (¬1). هل تعمل على تسخير إمكاناتك لنصرة دين الله حتى ولو كانت التضحية بابنك؟ ¬

_ (¬1) مواقف بطولة من صنع الإسلام 31: 33، بتصرف.

الالتزام بالعبادة

الالتزام بالعبادة ذهب الإمام الشهيد البنا إلى مؤتمر بالمنزلة - دقهلية، وبعد الفراغ من المؤتمر، والذهاب إلى النوم، توجه الإمام وفي صحبته الأستاذ عمر التلمساني إلى حجرة بها سريران، ورقد كل على سريره، وبعد دقائق قال الأستاذ: أنمت يا عمر؟ قال: لا، وتكرر السؤال وتكرر الرد، وقال الأخ عمر في نفسه إذا سأل فلن أرد، وظن الأستاذ أن الأخ قد نام، فتسلل على أطراف أصابعه، وخرج من الحجرة، وأخذ نعليه في يديه، وذهب إلى دورة المياه حافيا، حيث جدد وضوءه، ثم اتجه إلى آخر الصالة، وفرش سجادة، وأخذ يتهجد (¬1). هل تحافظ على قيام الليل مهما كانت الأعذار؟ قطع شجرة الرضوان بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن قوما يأتون شجرة الرضوان فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت. فهذا موقف لأمير المؤمنين عمر في حماية التوحيد والقضاء على موارد الفتن، حيث قام أولئك التابعون بعمل لم يعمله الصحابة، فهو أمر مبتدع، وقد يؤدي بعد ذلك إلى عبادة، فأمر بها فقطعت. إلغاء الرحلة أعلن الإمام الشهيد عن رحلة إلى الإسماعيلية فجاء الإخوان المشتركون في الموعد المحدد، وجاء الأتوبيس، وكان عدد الإخوان أكثر من عدد المقاعد، فلما أذن الأستاذ بصعود الأتوبيس، إذ بمجموعة من الشباب تسارع وتزاحم ليحجز كل واحد مقعدا يجلس عليه، فلما رأى الأستاذ هذا المشهد ألغى الرحلة، وكان درسا عمليا في مراعاة النظام، والتدريب على الإيثار واحترام الكبار (¬2). محاسبة النفس عاش محمد بن واسع حياته كلها في وجل من ذنوبه وإشفاق من العرض على ربه، فكان إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة المرشدين 11. (¬2) المصدر نفسه 56.

الانضباط المالي

أجاب قائلا: أصبحت قريبا أجلي، بعيدا أملي، سيئا عملي، فإذا رأى شيئا من الدهشة يبدو على ملامح سائليه قال: ما ظنكم برجل يقطع إلى الآخرة كل يوم مرحلة. هل تحاسب نفسك وتستعد للآخرة؟ الانضباط المالي يروي أحد الشعراء "دكين بن سعيد الدارمي" قال: امتدحت عمر بن عبد العزيز يوم كان واليا على المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة من كرائم الإبل، كرهت أن أمضي بهن وحدي، ولم تطب نفسي ببيعهن، وفيما أنا كذلك، قدمت علينا رفقة تبتغي السفر نحو ديارنا في نجد، فسألتهم الصحبة، فقالوا: مرحبا بك، ونحن نخرج الليلة، فأعد نفسك للخروج معنا، فمضيت إلى عمر بن عبد العزيز مودعا، فلما هممت بالانصراف قال: يا دكين إن لي نفسا تواقة، فإن عرفت أنني بلغت أكثر مما أنا فيه الآن، فأتني ولك مني البر والإحسان، فقلت: اشهد لي بذلك أيها الأمير، فقال: أشهد الله تعالى على ذلك، فقلت: ومن خلقه، فقال: هذين الشيخين اللذين في مجلسي، فأقبلت على أحدهما وقلت: بأبي أنت وأمي، قل لي ما اسمك حتى أعرفك؟ فقال: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فالتفت إلى الأمير وقلت: لقد ظفرت بشاهد مسموع الكلمة، ثم نظرت إلى الشيخ الآخر، وقلت: ومن أنت جعلت فداك؟ فقال: أبو يحيى مولى الأمير، فقلت: وهذا شاهد من أهله، ثم حييت وانصرفت بالنوق إلى ديار قومي، ثم دارت الأيام وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، ودخلت عليه فنظر إلى مولاه أبي يحيى نظرة طويلة، ثم التفت إليه وقال: يا أمير المؤمنين إن عندي لهذا البدوي شهادة عليك، فقال عمر: أعرفها، ثم التفت إلي وقال: ادن مني يا دكين، فلما صرت بين يديه مال علي وقال: أتذكر ما قلته لك في المدينة من أن نفسي ما نالت شيئا قط إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: وهأنذا قد نلت ما في الدنيا وهو الملك، فنفسي تتوق إلى غاية ما في الآخرة وهو الجنة، وتسعى إلى الفوز برضوان الله تعالى، ولئن كان الملوك يجعلون الملك سبيلا لبلوغ عز الدنيا، فلأجعلنه سبيلا إلى بلوغ عز الآخرة، ثم قال: يا دكين، إني -والله- ما أخذت شيئا من مال السلمين منذ وليت هذا الأمر، وإنني لا أملك إلا ألف درهم فخذ نصفها واترك نصفها لي. فأخذت المال الذي أعطانيه، فوالله ما رأيت أعظم منه بركة (¬1). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين 326: 330، بتصرف.

القوة

القوة نصح الله قوم هود فأرشدهم إلى أسباب القوة الصحيحة، وكانوا عمالقة جبارين، فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]. وأراد نبي الله أن يزين الطاعات للناس، وأن يغريهم بأدائها، وأن يشرح لهم عظمة الإنسان عندما يفعل الخير ويراغم الشيطان ويسمو إلى الملأ الأعلى. القوة في الحق من عناصر القوة أن يكون المسلم صريحا، يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ معروفة، ولا يصانع على حساب الحق بما يغض من كرامته وكرامة أنصاره، بل يجعل قوته من قوة العقيدة التي يمثلها ويعيش لها، ولا يحيد عن هذه الصراحة أبدا في تقرير حقيقة ما. وقد كره الإسلام أن يضعف الرجل أمام العصاة من الكبراء، وأن يناديهم بألفاظ التكريم، ومن فضائل القوة أن تكون قوى العزم للوصول إلى هدفك بالوسائل الصحيحة. والتردد في الأمور من صفات الضعيف، وليس من خلق المسلم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. ولو شاء الله لهزمهم بالكلام وبحفنة من التراب كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض طبيعة الإيمان إذا تغلغل، إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، إذا تكلم كان واثقا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخا في عمله، وإذا اتجه كان واضحا في هدفه، وما دام مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تغمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل لا عليه أن يقول لمن حوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ

استحضار نية الجهاد

يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)} [الزمر: 39 - 40]. استحضار نية الجهاد أقبل ثابت بن قيس على الجهاد، لطلب الشهادة ودخول الجنة، ومضى به الأجل إلى حروب الردة ضد مسيلمة الكذاب ومدعى النبوة، وفيها تحنط ثابت وتكفن ووقف على رءوس الأشهاد وقال: يا معشر المسلمين، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله، بئس ما عودتم أعداءكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لهم، ثم رفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء من الشرك -يعني مسيلمة وقومه- وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء -يعني المسلمين- ثم هبَّ هبة الأسد الضاري كتفا لكتف مع البراء بن مالك وزيد بن الخطاب، وما زال يجالد حتى خر صريعا. قوة بدنية فائقة وهذا أبو أيوب الأنصاري يبلغ ثمانين سنة، ولم يمنعه ذلك من الخروج مع جيش المسلمين لفتح القسطنطينية تحت قيادة يزيد بن معاوية، لكن لم يمض غير وقت قليل على منازلة العدو حتى مرض أبو أيوب مرضا أقعده عن مواصلة القتال، فجاء يزيد ليعوده ويسأله: ألك حاجة يا أبا أيوب؟ فقال: اقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم: يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية، وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية. ولفظ أنفاسه المطهرة. استجاب جند المسلمين لرغبة أبي أيوب، وكروا على جند العدو الكرَّة بعد الكرة، حتى بلغوا أسوار القسطنطينية وهم يحملون أبا أيوب معهم، وهناك حفروا له قبرا وواروه فيه، رضي الله عنهم جميعا (¬1). قوة في الرمي أقبل وهب بن قابوس ومعه ابن أخته الحارث بن عقبة بغنم لهم من مزينة فوجدا المدينة خالية، فسألا: أين الناس؟ فقالوا: بأحد، خرج رسول الله يقاتل المشركين فقالا: لا ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق 243.

قوة لرد الحق لأهله

نسأل أثرا بعد عين، فأسلما ثم خرجا، فأتيا النبي بأحد، فإذا الدولة للمسلمين، فأغارا مع المسلمين في النهب، وقاتلا أشد القتال، وكانت قد انفرقت فرقة من المشركين، فقال النبي: من لهذه الفرقة؟ قال وهب: أنا، فرماهم بالنبل حتى انصرفوا، ثم رجع فانفرقت أخرى، فقال النبي: من لهذه؟ فقال المزني: أنا، فقام فذبها بالسيف حتى ولوا ورجع المزني، ثم طلعت كتيبة أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا، فقال: قم وأبشر بالجنة. فقام المزني مسرورا يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فجعل يقوم فيها فيضرب بالسيف حتى يخرج من أقصاهم، حتى قتلوه ومثلوا به، ثم قام ابن أخته الحارث، فقاتل كنحو قتاله حتى قتل، فوقف عليهما رسول الله، وهما مقتولان فقال: "رضي الله عنك فإني عنك راض -يعني: وهبا- ثم قام على قدميه وقد ناله ما ناله من الجرح، وإن القيام ليشق عليه، فلم يزل قائما حتى وضع المزني في لحده، فكان عمر وسعد بن مالك يقولان: ما حال نموت عليها أحب إلينا من أن نلقى الله على حال المزني (¬1). قوة لرد الحق لأهله نهب أحد الأمراء المماليك وجنوده دارا لأحد المصريين، فذهب الناس يشكون أمرهم إلى الشيخ الدرديري فنادى فيهم: أنا معكم وغدا نجمع الشعب من كل مكان في الحارات والضواحي وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم، وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم. وبالفعل أمر بدق الطبول إيذانا بالاستعداد للقتال، وأسرع الناس نحو الأزهر ملبين للجهاد، ولما علم الأمير إبراهيم بك أرسل نائبه يعتذر للشيخ الدرديري ويطلب منه قائمة بما نهبه الأمراء لردها فوافق الشيخ (¬2). الكلوب الخطير دعى الإمام الشهيد إلى حفل في مدينة الزقازيق، وكانت الإضاءة بواسطة الكلوبات، فهوى أحدها إلى الأرض محشرجا مدخنا، يكاد ينفجر، ولو انفجر لدمر السرادق، ولكان الحريق مروعا، وهرول الناس مبتعدين عن هذا الكلوب الخطر، وفي كل بساطة، وثقة، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 250. (¬2) مائة موقف من حياة العظماء131.

الجلوس المتعب

وشجاعة، وهدوء، ترك الإمام المنصة، وأخرج مدية الجوالة من جيبه، وتقدم إلى الكلوب في غير هرولة، وفصله عن السقف وحمله خارج السرادق، وعاد الهدوء والأمن واستكمل الحفل على خير وجه. الجلوس المتعب أثناء محاكمة المرشد الهضيبي، وقف ليواجه الاتهامات، فأشار إليه رئيس المحكمة قائد الجناح جمال سالم أن يجلس فأبى الرجل إلا أن يظل واقفا قرابة 6 ساعات قاصدا بذلك رفع الروح المعنوية للإخوان، كرر رئيس المحكمة عرضه، فأصر المرشد على أنه يستريح واقفا رغم تخطيه سن الستين. فلم يجد رئيس المحكمة بدا من إعلان فترة استراحة ربما ليستريح هو وهيئة المحكمة، ولما استؤنفت الجلسة وجه جمال سالم إلى المرشد كلامه قائلا: لعلك استرحت! فكان الرد البديهي أن يقول المرشد: الحمد لله كتر خيرك، لكن الرجل القائد فاجأ الجميع بما لم يكن في الحسبان، قال وكاهله ينوء بـ 65 عاما ختمت بأيام عصيبة تربو على مصاعب الستين: هيه .. الظاهر لما الواحد بيقعد بيحل عليه التعب (¬1). نماذج للأقوياء قتل علي بن أبي طالب وهو شاب في يوم بدر شيبة بن ربيعة، واشترك في قتل الوليد بن عتبة، وقتل بعدهما في بدر: العاص بن سعيد، وعامر بن عبد الله، وطعيمة ابن عدي، وزمعة بن الأسود، ونوفل بن خويلد، وعقيل بن الأسود، والنضر بن الحارث، وعمير بن عثمان، ومسعود بن أمية، وأبا القيس بن الفاكه، وحاجب بن السائب، وعبد الله بن المنذر، والعاص بن منبه، وأوس بن معير، خمسة عشر رجلاً قتلهم علي في يوم بدر. وفي يوم أحد يقتل علي: أبا أمية بن أبي حذيفة وعبد الله بن حميد بن زهير. وفي يوم الأحزاب يقتل عمرو بن عبد ود، فارس قريش في يوم الأحزاب "كبش الكتيبة" (¬2). ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة 62. (¬2) من يظلهم الله (1/ 268).

أسامة بن زيد

أسامة بن زيد في سن مبكرة، لم تجاوز العشرين، أمرَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد على جيش، بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر، وسرت همهمة بين نفر من المسلمين لتعاظمهم الأمر، واستكثروا على الفتى الشاب إمارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين، فقال رسول الله: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله لقد كان خليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا لن أحب الناس إلي بعده" البخاري. بعث رسول الله أسامة على جيش المسلمين إلى حيث قتل أبوه والصحابة، وأمره أن يغير على "أُبنى" بالسراة ناحية البلقاء، وقيل إلى"آبل الزيت" بالجهة نفسها وعقد له لواء في آخر يوم من صفر سنة 11هـ، ولكن مرض الرسول مرضه الذي قبضه الله إليه فيه، فتأخر خروج الجيش حتى هلال ربيع الآخر سنة 11 هـ، وسار أسامة بجيشه "ثلاثة آلاف" يسرع السير على طريق ذي المروءة ووادي القرى في اتجاه "أبنى" و"آبل الزيت" من نواحي مؤتة، حتى إذا توسط مواطن قضاعة توقف يسيرا، وبعث فرسانه لينهضوا الثابتين منهم على إسلامهم، ويعينهم على من ارتاب، وهرب المرتدون إلى مكان بعيد .. إلى دومة الجندل من أهداف جيش أسامة، ولا على طريقه، فما إن عادت إلى خيوله، حتى مضى بجيشه إلى "الحمقتين" فأغار عليها، وكان بها بنو الضبيب من جذام، وبنو خليل من لخم فهزم من هناك حتى "آبل" في إغارة شديدة سريعة، وسبى وحرق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلهم، حتى صارت أعاصير من الدخان، وأجال الخيل في نواحيهم، وقضى يومه في تعبئة ما أصابوا من غنائم، ثم لم يقم وإنما كر راجعا من مساء يومه، حتى قدم وادي القرى في تسع ليال، ثم قدم المدينة سالما غانما، وقد غاب عنها خمسة وثلاثين يوما، وقيل: غاب شهرين وأياما، عاد الجيش بلا ضحايا وقال عنه المسلمون يومئذ: "ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة" (¬1). مواقف بطولية قال محمد بن سيرين: إن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين، فجلس البراء - رضي الله عنه - على ترس فقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم، فرفعوه ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (273، 274).

في وقعة الجسر

برماحهم فألقوه من وراء الجدار، فأدركوه قد قتل عشرة منهم. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيت عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر! أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر! هلم إلي! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تتذبذب وهو يقاتل أشد القتال. وفي غزوة الطائف أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حنظلة بن الربيع - رضي الله عنه - إلى أهل الطائف يعرض عليهم الإسلام، فلما ذهب حنظلة إليهم ظل يدعوهم من خارج حصنهم فلم يستجيبوا له، واعتدوا عليه، واختطفوه، وحاولوا أن يدخلوه الحصن، فلما علم الرسول بالأمر طلب من الصحابة أن يذهب أحدهم ليخلص حنظلة من أيدي الأعداء، قال: من لهولاء، وله مثل غزاتنا هذه؟ فلم يقم إلا العباس بن عبد المطلب فذهب إليهم، ولحق بحنظلة وهو في أيديهم، وقد كادوا يدخلون به الحصن، فاحتضنه واختطفه من أيديهم، ولم يخش ما يقذف به من الحجارة، ورجع العباس ومعه حنظلة فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يزال يدعو لهما بالنجاة. في وقعة الجسر أرسل رستم جيشا كثيفا وأمر عليه ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسرى لملاقاة المسلمين في موقعة الجسر، ووصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه الجسر، فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة آلاف، وقد جاء الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة، ورشقهم الفرس بالنبل فنالوا منهم خلقا كثيرا، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إليهم والفيلة تجوس فلالهم، فترجل أبو عبيد وترجل الناس معه، وتصافحوا معهم بالسيوف، وفقد المسلمون خيلهم فأصبحوا رجالة يقاومون سلاح الفيلة والفرسان والمشاة من الفرس إلى جانب الرماة

فتح مصر

الذين أضروا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم فلا تندفع، فكان موقفا صعبا أظهر المسلمون فيه من البسالة والتضحية ما يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوقهم عليهم في كل وسائل القتال، وكانت الفيلة أشد سلاح واجهه المسلمون، وبدأ هو بالفيل الأبيض فتعلق بحزامه وقطعه ووقع الذين عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرت في الهجوم لأنها كانت مدربة، وهجم أبو عبيد على الفيل الأبيض، ولكن الفيل أطاح به وقتله. من الشجاعة ابتكار أساليب لمواجهة بطش الباطل. فتح مصر أرسل عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفا، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة. وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كمينا للأعداء في الجبل وأقام كمينا آخر على النيل قريبا من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقض على الروم فاختل نظامهم وانهزموا، وقابلهم الكمين الآخر فتفرق جيشهم، وهكذا كسب المسلمون المعركة. هناك رجال في الإسلام يعد الرجل منهم بألف رجل .. هل أنت منهم؟ عبد الله بن الزبير في السادسة والعشرين من عمره، يقتل ابن الزبير ملك إفريقية "جرجير"، فقد شهد ابن الزبير فتح إفريقية أيام عثمان بن عفان تحت لواء عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان الفتح على يديه.

سير عثمان بن عفان ابن الزبير في جماعة إلى إفريقية، سنة ست وعشرين هجريا، ليأتيه بأخبار الفتح، فسار مجدا حتى وصل إلى المسلمين هناك وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير ملك إفريقية عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففت ذلك في عضده، ورأى عبد الله قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر، فلما أذن سمع منادي جرجير، يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار، وأزوجه ابنتي. فخاف عبد الله على نفسه، فحضر ابن الزبير عند عبد الله بن سعد وقال له: تأمر مناديا ينادي: من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته، واستعملته على بلاده، ففعل فصار "جرجير" يخاف أشد من عبد الله بن سعد، ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة، وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن نجد أن ينضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة، فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر ابن سعد جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوا على ذلك. وفي صباح الغد نفذ ابن سعد خطة ابن الزبير هذه، فأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا، وهمَّ الروم بالانصراف على العادة، لم يتركهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم هو والمسلمون، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا .. عند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحًا من شجعان المسلمين، وقصد الروم، فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون، ونظر عبد الله فرأى "جرجير" وقد خرج من عسكره فأخذ جماعة من المسلمين وقصده فقتله (¬1). ¬

_ (¬1) من يظلهم الله (1/ 282 - 284).

أضرار عدم ممارسة الرياضة

أضرار عدم ممارسة الرياضة يقول مؤلف كتاب "المؤمن القوي": من أضرار عدم ممارسة الرياضة: 1 - تؤدي قلة الحركة إلى زيادة الوزن الذي يصبح عبئا ثقيلا على أجهزة الجسم المختلف والمفاصل والأربطة. 2 - ضمور العضلات ونقص حجمها مما يجعلها غير قادرة على العمل بكفاءة. 3 - ظهور آلام الظهر والخشونة في المفاصل والعمود الفقري. 4 - يصبح القلب أصغر حجما وأقل كفاءة، فضلا عن احتمال ظهور أمراض القلب مثل ارتفاع أو انخفاض ضغط الدم. 5 - حدوث أمراض كثيرة مثل القرحة وعسر الهضم والقلق المزمن والتوتر. 6 - ينقص مخزون الطاقة الكيميائية لذلك يصبح الجسم أقل مقدرة على مواجهة المتطلبات البدنية. 7 - يقل عدد ساعات إنتاج الفرد إثر أي مجهود يقوم به. 8 - يزداد عدد ضربات القلب وكذلك سرعة التنفس عند بذل أي مجهود بدني. 9 - يصاب الفرد بالإجهاد والتعب لأي مجهود يبذله. 10 - يصبح الفرد أكثر اكتئابا وانطواء لعدم ممارسته الرياضة. 11 - تقل قدرة الجسم على امتصاص الأكسجين عنه في الفرد الرياضي مما يعني انخفاض مستوى الكفاءة البدنية. 12 - تنخفض المرونة والقوة العضلية وبالتالي يقل تحمل الفرد ومقاومته عن الفرد الرياضي. 13 - زيادة نسبة الدهون في الجسم مما يجعلها عبئا على الجسم والأجهزة الحيوية. 14 - زيادة نسبة الكوليسترول في الدم، مما يصيب الفرد بتصلب الشرايين ويجعل الجسم معرضًا للمخاطر. 15 - تدلي البطن (الكرش) الذي يؤدي إلى مشكلات عديدة معقدة (مشكلة الهضم- آلام أسفل الظهر- تقوس المنطقة السفلية من الظهر - الضغط على

نصائح لقوة الجسم

الحجاب الحاجز). 16 - مشاكل في الجهاز التنفسي مثل احتقان الرئة -انسداد الشعب الهوائية- صعوبة في التنفس. 17 - اختلال وظيفة كل من المثانة والأمعاء والكبد وأجهزة الجسم الحيوية. 18 - زيادة نسبة السكر في الدم مما يؤدي إلى إصابة الشخص بأمراض كثيرة. 19 - عموما يصاب الجسم بالضعف العام وعدم الشعور بالحيوية والشباب. نصائح لقوة الجسم: 1 - عمل كشف دوري عام كل سنة، يشمل تحاليل، وأشعات للاطمئنان المبكر على الحالة الصحية للجسد. 2 - المسارعة بالعرض على الطبيب عند المرض، والالتزام بالعلاج. 3 - عدم الاعتماد على الصيدلي في وصف العلاج، وعدم الاعتماد على نصائح المجربين في تناول الأدوية وندعوك لرفض المثل القائل: اسأل مجرب، ولا تسأل طبيبا. 4 - عدم الإسراف في استخدام الدواء إلا بتوجيه الطبيب. 5 - استعمال السواك وفرشاة الأسنان ثلاث مرات يوميا على الأقل. 6 - الالتزام بأداب الإسلام في الطعام والنوم. 7 - التعود على صيام يومين في كل أسبوع، أو ثلاثة كل شهر، والإفطار على طعام خفيف غير ثقيل. 8 - القيام قبل صلاة الفجر، ففي ذلك فوائد صحية كثيرة، وخاصة للجهاز التنفسي، لوجود نسبة عالية من الأوزون في الجو. 9 - لا تهمل وجبة الإفطار، وقلل في وجبة العشاء. 10 - عدم الإسراف في شرب الشاي والقهوة. ***

قادر على الكسب

قادر على الكسب إن كل إنسان في مجتمع الإسلام مطالب أن يعمل، وأن يكون قادرًا على الكسب ومأمور أن يمشي في مناكب الأرض ويأكل من رزق الله. قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. يقول الدكتور القرضاوي: إن الإسلام يفتح أبواب العمل أمام المسلم على مصراعيها، ليختار منها ما تؤهله له كفايته وخبرته وميوله، ولا يفرض عليه عملاً معينًا إلا إذا تعين ذلك لمصلحة المجتمع. كما لا يسد في وجهه أبواب العمل إلا إذا كان من ورائه ضرر لشخصه أو للمجتمع -ماديًا كان الضرر أو معنويًا- وكل الأعمال المحرمة في الإسلام من هذا النوع. الحث على العمل قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحث على التجارة: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" [الترمذي]. وقال- صلى الله عليه وسلم - في الحث على الزراعة: "ما من مسلم يزرع زرعًا، أو يغرس غرسًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" [البخاري]. وحث على الصناعات والحرف فقال: "ما أكل أحد طعامًا قط ضر من أن يأكل من عمل يده" [البخاري]. وقرن الله بين العمل والجهاد، فقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. سُئل إبراهيم النخعي أحد أئمة التابعين عن التاجر الصدوق: أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة؟ فقال: التاجر الصدوق أحب إليّ، لأنه في جهاد، يأتيه الشيطان من طريق المكيال

فهم خاطيء

والميزان، ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده. وكان الشيخ الشعراني -وهو من دعاة التصوف- يفضل الصناع على العباد؛ لأن نفع العبادة مقصور على صاحبها، أما الحرف فنفعها لعامة الناس .. وكان يقول: ما أجمل أن يجعل الخياط إبرته سبحته، وأن يجعل النجار منشره سبحته! يقول الراشد: شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ (فؤاد سزكين) طالبًا بمعهده في فرانكفورت، ومعهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ سزكين أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يوميًا، ثم أراني الأستاذ سزكين من بُعد عددًا من الطلاب اليابانيين في معهده، وقد انكبوا على المخطوطات العربية يدرسونها ويبعثونها إلى الحياة وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل (¬1). وهذا أديسون يعمل 18 ساعة يوميًا فاخترع المصباح الكهربائي بعد (9000) تسعة آلاف تجربة .. ثم واصل هذا الكفاح عشر سنوات أخرى ينفق فيها ثلاثة ملايين دولار ليخترع بطارية السيارة بعد تجارب وصلت إلى (50000) خمسين ألف تجربة (¬2). فهم خاطيء قيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ قال أحمد: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي: "جُعل رزقي تحت ظل رمحي". وقال عمر بن الخطاب: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة. إن التوكل على الله لا ينافي العمل والأخذ بالأسباب، وشعار المسلم ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي ترك الناق سائبة -متوكلاً على الله- فقال له: "اعقلها وتوكل" [الترمذي]. وعن الزبير بن العوام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس، أعطوه أم منعوه" [البخاري]. ¬

_ (¬1) صناعة الحياة: 111. (¬2) إيقاظ الغافلين: 270.

انتبه

وكان داود زرادًا (يصنع الزرد والدروع)، وكان آدم حراثًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان موسى راعيًا. (الحاكم). والرجل غير القادر على الكسب لا تستطيع أن تستشيره. يقول الشافعي: لا تشاور من ليس في بيته دقيق فإنه مولَّه العقل (¬1). وروي أن شقيق البلخي أحد الصالحين ذهب في رحلة تجارية يضرب في الأرض، ويبتغي من فضل الله، وقبل سفره ودع صديقه الزاهد المعروف إبراهيم بن أدهم. حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق، ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجبًا: ما الذي عجل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجبا، فعدلت عن الرحلة. قال إبراهيم: خيرًا وماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه فوجدت به طائرًا كسيحًا أعمى، وعجبت فقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر بحمل له الطعام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطير في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي. فقال إبراهيم: عجبًا لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض لها أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه، وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟!! فقام شقيق إلى إبراهيم وقبل يده وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق! (¬2) انتبه لا يجوز التكاسل عن العمل بحجة أخذ الصدقات لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي" [الترمذي]. ومعنى المرة: القوي، والسوي: السليم الأعضاء. ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة: 178. (¬2) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام: 39 - 40.

اجتهاد الإمام أحمد

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سألاه أن يعطيهما من الزكاة: "لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب" [أحمد]. ويقول القرضاوي: لم يجعل الرسول لمتبطل كسول حقًا في صدقات المسلمين، وذلك ليرفع القادرين إلى العمل والكسب الحلال. اجتهاد الإمام أحمد قال ابن الجهم: كان لنا جار، فأخرج لنا في يوم من الأيام كتابًا، فقال: أتعرفون هذا الخط؟ قلنا: هذا خط أحمد بن حنبل، فكيف كتب ذلك؟ قال الجار: كنا بمحلة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمد بن حنبل أيامًا، ثم جئنا لنسأل عنه، فإذا الباب مردود عليه، فقلنا: ما خبرك؟ قال: سرقت ثيابي. فقلت: معي دنانير، فإن شئت أخذت، وإن شئت أقرضتك، فرفض، فقلت: هل تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت دينارًا، فقال لي: اشتر لي ثوبًا، واقطعه نصفين (يعني إزارًا ورداء) وجئني بورق، فكتب لي هذا. وقال ابن خزيمة: كنا مع أبي عبد الله في الكتاب، فكان النساء يبعثن إلى المعلم: ابعث إلينا بابن حنبل ليكتب جواب كتبهم، وكان نظير أجر زهيد، فكان إذا دخل إليهن لا يرفع طرفه أبدًا، ولا ينظر إلى امرأة منهن أبدًا. وروي أنه اقترض من بعض الصالحين نقودًا، وذهب إليه يردها فقال له الرجل: يا أبا عبد الله! ما دفعتها إليك أنا أنوي أن آخذها منك، فاحتفظ بهذا المال لك. فقال أحمد بن حنبل: أنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها عليك، فخذ مالك وشكرًا لله ثم لك. ويقول عبد الرزاق: قدم علينا أحمد بن حنبل ها هنا سنتين إلا قليلاً يطلب العلم، فقلت له: يا أبا عبد الله خذ هذا الشيء فانتفع به، فإن أرضنا ليست بأرض ولا بكسب.

معنى العبادة الشامل

فقال أحمد: أنا بخير، ولم يقبل منه. قال الواسطي: قدم علينا أحمد بن حنبل ومعه جماعة، فنفدت نفقاتهم فبررتهم فأخذوا، وجاءني أحمد بن حنبل بفروة، فقال: قل لمن يبيع هذه، ويجيئني بثمنها فأتسع به؟ قال: فأخذت صُرة دراهم فمضيت بها إليه، فردها، فقالت امرأتي: هذا رجل صالح، لعله لم يرضها، فضاعِفْها، فضاعَفَها، فلم يقبل، وأخذ الفروة مني وخرج. معنى العبادة الشامل قال أيوب السختياني: الزم سوقك، فإنك لا تزال كريمًا على إخوانك ما لم تحتج إليهم (¬1). ويقول أبو سليمان الدارانى: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يفت لك، ولكن ابدأ برغيفك فأحرزه ثم تعبد، ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب يتوقع إنسانًا يجيئه يعطيه شيئًا. وروى أن سلمان الفارسي اشترى وسقًا من طعام، فلقيه زيد بن صوحان ومولاه سالم، فقال له زيد: يا أبا عبد الله، تفعل هذا وأنت صاحب رسول الله؟ قال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت وتفرغت للعبادة وشس منها الوسواس (¬2). مكتب محاماة بالقاهرة يقول الأستاذ عمر التلمساني: عرض عليَّ الإمام الشهيد أن أتخذ مكتبًا في القاهرة، فلم أقبل مبررًا رفضي بأني قد أنجح في المكتب ويدر على دخلاً وفيرًا، فيقول البعض: إن الإخوان هم الذين أوجدوا لي كيانًا في عالم المهنة، وهذا ما تأباه عليَّ أخلاقي ونشأتي وتربيتي. استغل الإجازات يقول حسن البنا: جاءت الإجازة الصيفية وكان لزامًا عليَّ أن أقضيها بالمحمودية، ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة: 179. (¬2) صفة الصفوة: (1/ 550).

هكذا كانوا

فلابد من إيجاد سبب للإقامة هناك طوال الإجازة، فعرضت على الوالد أن أذهب لأفتح دكانًا لنا هناك أعمل فيه بنفسي كساعاتي مستقل، لأتمرن تمرينًا عمليًا استقلاليًا على الصنعة، وسافرت، وفتحت الدكان، واشتغلت فعلاً بإصلاح الساعات، وكنت أجد سعادتين في هذه الحياة، سعادة الاعتماد على النفس والكسب من عمل اليد، وسعادة الاجتماع بالأخ أحمد أفندي وقضاء الوقت معه، ومع الحصافية، وقضاء الليالي معهم نذكر الله، ونتذاكر العلم في المسجد تارة، وفي المنازل تارة (¬1). هل تحرص على استغلال أوقات الفراغ في أعمال مفيدة؟ هكذا كانوا يروي بغية بن الوليد، يقول: دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه، فأتيته، فجلس، ثم قال: كلوا باسم الله. فلما أكلنا، قلت لرفيقه: أخبرني عن أشد شيء مر بك منذ صحبته. قال: كنا صيامًا، فلم يكن عندنا ما نفطر عليه، فأصبحنا، فقلت: هل لك يا أبا إسحاق أن نأتي الرستن (بلدة بالشام كانت بين حماة وحمص) فنكري (فنؤجر) أنفسنا مع الحصادين؟ قال: نعم، قال: فاكتراني رجل بدرهم، فقلت: وصاحبي؟ قال: لا حاجة لي فيه، أراه ضعيفًا. فما زلت بالرجل حتى اكتراه بثلثي درهم، فلما انتهينا، اشتريت من أجرتي طعامي وحاجتي، وتصدقت بالباقي، ثم قربت الزاد، فبكى إبراهيم وقال: أما نحن فاستوفينا أجورنا، فليت شعري، أوفينا صاحبه حقه أم لا؟ فغضبت، فقال: أتضمن لي أنا وفيناه، فأخذت الطعام فتصدقت به. حج هارون الرشيد ذات مرة، فسأله أحد أصحابه أن يدله على رجل يسأله، فدله على الفضيل، فذهبا إليه، فقابلهما الفضيل، وقال للرشيد: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا أناسًا من الصالحين فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء (يعني الحكم) فأشيروا عليَّ، فعد عمر الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فبكى الرشيد، فقال له صاحب الرشيد: ارفق بأمير المؤمنين. ¬

_ (¬1) مذكرات الدعوة والداعية: 51 بتصرف.

شيخ يعمل

فقال الفضيل: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا (يقصد أن عدم نصحه كقتله). فقال له الرشيد: زدني يرحمك الله. فأخذ يعظه وينصحه، ثم قال له: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة" متفق عليه. فبكى هارون وقال له: أعليك دين أقضيه عنك؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال: إنما أعني من دين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر لي أن أصدق وعده وأطيع أمره. فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادة ربك. فقال الفضيل: سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا، فخرج الرشيد وصاحبه (¬1). شيخ يعمل مر رجل على أبي الدرداء وهو يزرع، فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير؟ هذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عامًا. فقال أبو الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري (¬2). ويقول البنا: حرام على الأمة التي تقرأ في كتابها من الثناء على داود عليه السلام {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} [سبأ: 10 - 11]. وتقرأ {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80]، ثم لا يكون فيها مصنع للسلاح؟ ثم تقرأ في كتابها {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين: 170، 169. (¬2) الوقت عمار أو دمار: (2/ 33).

الزهد والتجارة

شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا (13)} [سبأ: 12 - 13]، ثم لا يكون فيها مسبك عظيم، ولا مصنع كامل للأدوات المعدنية. ثم تقرأ {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ثم تهمل ما عندها من هذا المعدن هذا الإهمال، وهو من أجود الأنواع، ويكفي العالم مائتي عام كما قدر الخبراء .. حرام هذا كله!! (¬1) الزهد والتجارة قال محمد بن الحسين لابنه: يا بني إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، إنك إن كسلت لم تؤد حقًا وإن ضجرت لم تصبر على حق (¬2). وأتى رجل عبد الله بن المبارك، وهو يظن أن الزهد والتجارة لا يجتمعان قائلاً لعبد الله: أنت تأمرنا بالزهد، ونراك تأتي بالبضائع من "خراسان" إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًا إلا سارعت إليه حتى أقوم به. وكان عبد الله بن المبارك لا يبخل على أحد بماله، بل كان كريمًا سخيًا ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة ألف درهم (¬3). وعاش أحمد بن حنبل عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره (¬4). كن أميناً في كسبك قال بعض السلف الصالح: دخلت على مريضى وقد نزل به الموت، فجعلت ألقنه ¬

_ (¬1) الرسائل: 348. (¬2) صفة الصفوة: (1/ 395). (¬3) أعلام المسلمين: 164. (¬4) أعلام المسلمين: 99.

دعابة

الشهادة، ولسانه لا ينطق بها! فلما أفاق قلت له: يا أخي، مالي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها؟! قال: يا أخي، لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها. فقلت له: بالله أكنت تزن ناقصًا؟! قال: لا والله ولكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني. فهذا حال من لا يختبر صحة ميزانه، فكيف حال من يزن ناقصًا (¬1). وقال علي بن أبي طالب: جعت مرة بالمدينة جوعًا شديدًا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرًا، فظننتها تريد بله (المدر: الطين اليابس، تريد بله: يعني الماء) فأتيتها فقاطعتها (اتفقت معها على أجرة) كل ذنوب (دلو) على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبًا، حتى مجلت يداي (أي تورمت من العمل) ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت بكفي هكذا بين يديها (يعني بسطهما وضمهما) فعدت لي يست عشرة تمرة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، فأكل معي منها. في هذا الخبر بيان لشدة الحال التي مر بها علي بن أبي طالب في المدينة، ونأخذ منه صورة من السلوك المشروع في مواجهة الشدائد، حيث خرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس منتظرًا ما تجود به أيدي المحسنين. وصورة أخرى من قوة التحمل حيث قام بذلك العمل الشاق وهو يعاني من شدة الجوع مما يضعف قوته. وصورة أخرى من إيثار الأحبة والوفاء لهم، فهو مع ما به من شدة الجوع وبالرغم مما قام به من ذلك العمل الشاق فقد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكل معه (¬2). دعابة كان الأستاذ البنا يحسن إصلاح الساعات، وتجليد الكتب، فكان يفتخر بأنه عامل، وكثيرا ما كان يداعب الإخوان ويهددهم، بأنه سيتركهم، ويفتح محلاً، ويقول مبتسمًا: صنعة في اليد أمان من الفقر (¬3). ¬

_ (¬1) الكبائر: 219 - 220. (¬2) علي بن أبي طالب للصلابي: (1/ 98 - 99). (¬3) مواقف إيمانية أحمد عيد: 30.

التوازن

التوازن عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر الصديق تاجرًا إلى بصرى (قرية بالشام) في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما منع أبا بكر حبه لملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - حبه لقرب أبي بكر عن ذلك (أي عن الخروج) لمحبتهم في التجارة (¬1)، وللحرص على التوازن كان عمر يتناوب النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وجار له من الأنصار كما ثبت في البخاري ويقول القرضاوي: ورأينا كثيرًا من علماء الإسلام المشاهير أصحاب حرف، بل إنهم نسبوا إليها وعرفوا بها، ولم يعرفوا بأسمائهم ولا أسماء آبائهم، وذلك مثل البزار والزجاج والحزاز والخواص والجصاص والصبان والقطان .. إلخ (¬2). بين الدنيا والآخرة قال الإمام ابن عساكر حضرت مجلس يزيد بن هارون فأملى ثلاثين حديثًا فحفظتها، فجئت إلى منزلي أعلق، فعلقت منها ثلاثة، فجاءت الجارية وقالت: مولاي: فنى الدقيق، فنسيت سبعة وعشرين وبقيت ثلاثة (¬3). ... ¬

_ (¬1) الطراز الرباني: 102. (¬2) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام: 41. (¬3) أخلاق الدعاة: 171.

سليم العقيدة

سليم العقيدة العقيدة الصحيحة هي أساس الإيمان العميق، وكثرة الشبهات تؤثر سلبًا على عقيدة المسلم، تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] والإيمان يصنع المعجزات .. وإليك صور من سلامة العقيدة: صبر علي عقيدته لما وجد الفتي المؤمن عبد الله المزني أن صبره قد طال، وأن عمه بعيد عن الإسلام، وأن المشاهد مع رسول الله تفوته واحدًا بعد آخر، حزم أمره غير غافل عن عواقب ما أقدم عليه وأقبل على عمه، وقال: يا عم، لقد انتظرت إسلامك طويلاً حتى نفد صبري، فإن كنت ترغب في أن تسلم ويكتب الله لك السعادة، فنعم ما تصنع، وإن كانت الأخرى فأذن لي بأن أعلن إسلامي بين الناس. ما كادت كلمات الفتى تلامس أذني عمه حتى استشاط غضبًا وقال: أقسم باللات والعزى لئن أسلمت لأنزعن من يدك كل شيء كنت أعطيته لك، ولأسلمنك للفاقة، ولأتركنك فريسة للعوز والجوع، فلم يحرك هذا التهديد في الغلام المؤمن ساكنًا، ولم يفتت من عزمه شيئًا، فاستعان عمه عليه بقومه، فهبوا يرهبونه ويرغبونه، وطفقوا يهددونه ويتوعدنه، فكان يقول لهم: افعلوا ما شئتم، فأنا والله متبعٌ محمدًا، وتارك عبادة الأحجار، ومنصرف إلى عبادة الواحد القهار، وليكن منكم ومن عمى ما يكون، فما كان من عمه إلا أن جرده من كل ما أعطاه، وقطع عنه رفده، ولم يترك له غير يحاد يستر به جسده. مضى الفتي المزني مهاجرًا بدينه إلى الله ورسوله، مخلفًا وراءه مغاني الطفولة ومراتع الصبا، معرضًا عما في يد عمه من الثراء والنعمة، راغبًا فيما عند الله من الأجر والمثوبة، وجعل يحث الخطي نحو المدينة تحدوه إليها أشواق باتت تفري فؤاده فريًا. فلما غدا قريبًا من "يثرب" شق بجاده شقين، فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر.

الإيمان الحق

ثم مضى إلى مسجد الرسول وبات فيه ليلته تلك، فلما انبلج الفجر وقف قريبًا من باب حجرة النبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يترقب -في لهف وشوق- طلعة الرسول الأعظم من حجرته. فما أن وقع بصره عليه حتى تهللت على خديه دموع الفرح، وشعر كان قلبه يريد أن يقفز من بين جنبيه لتحيته والسلام عليه. ولما قضيت الصلاة، قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على عادته يتصفح وجوه الناس فنظر إلى الفتى المزني، وقال: ممن أنت يا فتى؟ فانتسب له، فقال له: ما اسمك؟ فقال: عبد العزى، فقال له: بل عبد الله، ثم دنا منه وقال: انزل قريبًا منا وكن في جملة أضيافنا، فصار الناس منذ ذلك اليوم ينادونه عبد الله. ولقبه الصحابة الكرام "بذي البجادين" بعد أن رأوا بجاديه، ووقفوا على قصته. (¬1) الإيمان الحق أخرج ابن عساكر عن أنس -رضي الله عنه - قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد والحارث بن مالك راقد، فحركه برجله وقال: ارفع رأسك فرفع رأسه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمنًا حقًا، قال: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة ما تقول؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، وأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة وهم يتزاورون، وإلى أهل النار يتعاوون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت امرؤ نوَّر الله قلبك، عرفت فالزم" رواه البيهقي والحاكم. هل نظرت إلي حقيقة إيمانك وحاسبت نفسك قبل أن تحاسب؟ رجل من أهل خيبر جاء أن عبدًا حبشيًا لرجل من أهل خيبر كان يرعى غنمًا لهم، عمد بغنمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه رسول الله ما شاء الله أن يكلمه، فقال الرجل: ماذا تقول وماذا تدعو إليه؟ قال: "أدعوك إلى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وألا تعبد إلا الله. قال العبد: وماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله تعالى؟ قال رسول الله: "لك الجنة على ذلك". فأسلم العبد، وقال: يا رسول الله، إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، ¬

_ (¬1) صور من حياة الصحابة: 379.

إبليس الملعون

منتن الريح، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال: "عم"، قال: يا رسول الله، إن هذه الغنم عندي أمانة فكيف بها؟ فقال رسول الله: "أخرجها من العسكر وارمها بالحصا، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك"، ففعل، وأعجب رسول الله كلمته، فخرجت الغنم تشد كأن سائقًا يسوقها، حتى دخلت كل شاة إلى أهلها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم، ثم تقدم العبد الأسود الصف، فأصابه سهم فقتله ولم يصل سجدة قط، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم فقال رسول الله: "أدخلوه الفسطاط"، فأدخلوه حتى إذا فرغ رسول الله دخل عليه ثم خرج فقال: "لقد حسن إسلام صاحبكم، وإن عنده لزوجتين من الحور العين، ولقد حسن الله وجهه، وطيب ريحه، وكثر ماله، ولقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينزعان جبته، وينفضان التراب عن وجهه ويقولان: ترب الله من تربك، وقتل من قتلك". أي عقيدة هذه التي جعلت العبد الأسود، الذي هو قبيح، نتن الرائحة لا مال له، جعلته وليًا لله لم يسجد لله سجدة، ورزق الشهادة. (¬1) إبليس الملعون جاء إبليس إلى عيسى، فقال له: ألست تعلم أنه لا يصيبك إلا ما كتب الله لك؟ قال عيسي: بلى. فقال ابليس: فارم بنفسك من هذا الجبل، فإنه إن قدر لك السلامة تسلم. فقال عيسى: يا ملعون، إن الله عز وجل يختبر عباده، وليس لعبد أن يختبر الله عز وجل. آية ربانية تروي إحدى الأخوات المسلمات .. فتقول: قبض على زوجي وسيق إلى الاعتقال وترك وراءه أربعة من الأطفال. وذات مساء مرض ابني الصغير (بالحمي) ووقعت في ذهول ليس لي حيلة ولا صلة وثيقة بالجيران. فاستعنت بالله أدعوه وألح في الدعاء أن ينقذني ويرحم ضعفي وغربتي .. ولم تمض ساعة أو يزيد .. حتى طُرق الباب ففتحت فإذا ¬

_ (¬1) الناطقون بالحق: 249 بتصرف.

عاقبة الخوف من الله

الذي أمامي طبيب .. جاء يسأل عن المريض!! وبعد أن أتم الكشف وقدم بعض الدواء الذي يكون معه عادة، نزل بعد أن أدرك حالة الأسرة وظروفها. وحين عاد الطبيب إلى منزله دق التليفون ليستعجلوا الطبيب. فتعجب الطبيب وقال: لقد عدت من عندكم لتوي الآن. وتبين للطبيب بعد ذلك أن السكن الذي كان يقصده في نفس المنزل يقع أمام التي طرق عليها الباب خطأ. فسبحان من له الكون كله يسيره حيث يشاء. فاعتبروا يا أولي الألباب؟ (¬1). عاقبة الخوف من الله دخل ثابت بن النعمان إحدى المزارع، وكان جائعًا متعبًا، فشدته نفسه لأن يأكل وبدأت المعدة تقرقر، فأطلق عينيه في الأشجار فرأي تفاحة، فمد يده إليها ثم أكل نصفها ثم شرب من ماء النهر بجانب المزرعة، لكن انتبه بعد ذلك من غفلته بسبب الجوع وقال لنفسه: ويحك كيف تأكل من ثمار غيرك دون استئذان، وأقسم ألا يرحل حتى يدرك صاحب المزرعة ويطلب منه أن يحلل له ما أكل من هذه التفاحة، فبحث حتى وجد داره فطرق عليه الباب، فلما خرج صاحب المزرعة استفسر عما يريد، قال ثابت: دخلت بستانك الذي بجوار النهر وأخذت هذه التفاحة وأكلت نصفها، ثم تذكرت أنها ليست لي وأريد منك أن تعذرني في أكلها، وأن تسامحني عن هذا الخطأ. فقال الرجل: لا أسامحك، ولا أسمح لك أبدًا إلا بشرط واحد. قال ثابت: وهو ثابت بن النعمان: وما هو هذا الشرط؟ قال صاحب المزرعة: أن تتزوج ابنتي. قال ثابت: أتزوجها. قال الرجل: ولكن انتبه! إن ابنتي عمياء لا تبصر، خرساء لا تتكلم، وصماء لا تسمع. وبدأ ثابت بن النعمان يفكر ويقدر ماذا يفعل؟ ثم علم أن الابتلاء بهذه المرأة وتربيتها وخدمتها خير من أن يأكل الصديد في جهنم جزاء ما أكله من التفاحة. وما الأيام وما الدنيا إلا أيام معدودات، فقبل الزواج على مضض وهو يحتسب الأجر ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان (1/ 23).

يؤثرون على أنفسهم

والثواب من رب العالمين. وجاء يوم الزفاف وقد غلب الهم صاحبنا، كيف أدخل على امرأة لا تتكلم ولا تبصر ولا تسمع، فاضطرب حاله وتمنى أن لو تبتلعه الأرض قبل هذه الحادثة، ولكنه توكل على الله وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ودخل عليها يوم الزفاف، فإذا بهذه المرأة تقوم إليه وتقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فلما نظر إليها تذكر ما يتخيله عن الحور العين في الجنة. قال بعد صمت: ما هذا؟ إنها تتكلم وتسمع وتبصر، فأخبرها بما قال عنها أبوها. قالت: صدق أبي ولم يكذب. قال: اصدقيني الخبر. قالت: أبي قال عني إنني خرساء لأنني لم أتكلم بكلمة حرام، ولا تكلمت مع رجل لا يحل لي، وإنني صماء لأنني صماء ما جلست في مجلس في غيبة ونميمة ولغو، وإنني عمياء لأني لم أنظر إلى أي رجل لا يحل لي. فانظر واعتبر بحال هذا الرجل التقي، وهذه المرأة التقية وكيف جمع الله بينهما. (¬1) يؤثرون على أنفسهم كان شيخ كريم، فقير في حاله، لكنه لا يرد سائلاً قط، ولطالما لبس الجبة أو الفروة، فلقي بردان يرتجف، فنزعها فدفعها إليه، وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ الطعام من بين أولاده ليعطيه للسائل، وفي يوم من أيام رمضان وقد وضعت المائدة انتظارًا للأذان فجاءه سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له، وأعطاه الطعام كله، فلما رأت ذلك امرأته صرخت وأقسمت من الغضب أنها لا تبقي عنده، بينهما هو ساكت، ولم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب وجاء من يحمل أطباقًا فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا هو أحد الأغنياء كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألا يأكل أحد من الطعام، وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ الفقير الكريم. ¬

_ (¬1) قصص وعبر (2/ 19 - 21).

توقف مع القرآن

أخي الحبيب: أنفق ولا تخش الفاقة، قد قال جل وعلا: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ: 39] (¬1). توقف مع القرآن يقول الدكتور زغلول النجار: هذا أستاذ مصري للقانون، يعمل بإحدى الجامعات الأمريكية .. يقول: كنا في حوار قانوني، وكان معنا أحد أساتذة القانون من اليهود، فبدأ يتكلم، ثم بدأ يخوض في الإسلام وتندر بالإسلام والمسلمين، فأردت أن أسكته، فسألته: هل تعلم حجم قانون المواريث في الدستور الأمريكي؟ قال: نعم، أكثر من ثمانية مجلدات. فقلت له: إذا جئتك بقانون للمواريث فيما لا يزيد علي عشرة سطور، فهل تصدق أن الإسلام دين صحيح؟ قال: لا يمكن أن يكون هذا. فأتيت له بآيات المواريث من القرآن الكريم، وقدمتها له، فجاءني بعد عدة أيام يقول لي: لا يمكن لعقل بشري أن يحصي كل علاقات القربى بهذا الشمول الذي لا ينسى أحدًا، ثم يوزع عليهم الميراث بهذا العدل الذي لا يظلم أحداً. ثم أسلم هذا الرجل. فكانت آيات المواريث وحدها سبيلاً إلي اقتناع هذا الرجل اليهودي بالإسلام (¬2). ويقول أيضاً: التقيت بشاب بريطاني، كان يعمل بجامعة الملك فهد، يقول: ظللت ثلاثة عشر عامًا، وأنا أقرأ عن الإسلام، ومع ذلك ما كنت قادرًا على اتخاذ القرار بشأن إشهار إسلامي وإعلان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بسبب الضغوط الاجتماعية والمعيشية، والمجتمع العام، ومشاكل الحياة المختلفة. يقول: إنه في يوم تطهر وأوي إلي فراشه، ودعا ذلك الخالق العظيم أن يلهمه الصواب، وأن يشرح صدره للطريق الصحيح يقول: وإذا بمنادٍ يناديه في المنام: "يايها الذين آمَنوا آمِنوا بالله الواحد، الذي خلقكم وخلق هذا الكون وكل ما فيه" فقام من ¬

_ (¬1) قصص وعبر (2/ 18 - 19). (¬2) الذين هدى الله (48، 49).

احذر المعصية

منامه منتفضًا، وهو يبكي ويقول: هذه علامة من الله أنه هو الطريق الصحيح، ولم ينم حتى اتصل بالمركز الإسلامي بأوكسفورد، وأعلن إسلامه على الفور. (¬1) احذر المعصية ذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم، وقد كان من أطباء القلوب، وقال له: إني مسرف على نفسي، فأعرض على ما يكون زاجرًا لها. فقال له إبراهيم: إن قدرت على خمس خصال لن تكون من العصاة. فقال الرجل -وكان متشوقًا لسماع موعظته-: هات ما عندك يا إبراهيم. فقال: الأولى: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل شيئا من رزقه، فتعجب الرجل ثم قال متسائلا: كيف تقول ذلك يا إبراهيم، والأرزاق كلها عند الله؟ فقال: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه. قال: لا، يا إبراهيم هات الثانية. فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصى الله فلا تسكن بلاده، فتعجب الرجل أكثر من تعجبه السابق ثم قال: كيف تقول ذلك يا إبراهيم؟ والبلاد كلها ملك الله. فقال له: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تسكن بلاده وتعصيه؟ قال: لا، يا إبراهيم هات الثالثة. فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فانظر مكانًا لا يراك فيه فاعصه فيه. قال: كيف تقول ذلك يا إبراهيم؟ وهو أعلم بالسرائر ويسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. فقال له إبراهيم: إذا كنت تعلم ذلك فهل يجدر بك أن تعصيه؟ قال: لا، يا إبراهيم هات الرابعة. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (49 - 50).

زيادة الإيمان بالتفكر

فقال إبراهيم: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني إلي أجل معدود. فقال الرجل: كيف تقول ذلك يا إبراهيم؟ والله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. فقال له: إذا كنت تعلم ذلك فكيف ترجو النجاة. قال: نعم. هات الخامسة يا إبراهيم. فقال: إذا جاءتك الزبانية -وهم ملائكة جهنم- ليأخذوك إلي جهنم فلا تذهب معهم، فما كاد الرجل يستمع إلى هذه الخامسة حتى قال باكيًا: كفى يا إبراهيم، أنا أستغفر الله وأتوب إليه، ولزم العبادة حتى فارق الحياة. (¬1) زيادة الإيمان بالتفكر في إيران أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي أتت منها. ونهر الأمازون يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه، فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي. وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض، فتبقي مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها، ولكثرة ملحها، وتعلو مياه المحيط لخفتها ... وكل في مجراه، وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقيان، بل تشكلان بحرين متلاصقين فوق بعضهما البعض، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو البحر الأبيض، لأنها أخف ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل، متجهة نحو البحر الأسود لأنها أثقل. (¬2) التجرد لله دعا الإمام البنا أحمد محمد حسنين باشا رئيس الكشافة المصرية لحضور استعراض لكشافة الإخوان المسلمين، فحضر الرجل وشاهد الاستعراض، ولاحظ وجود تشكيلة ¬

_ (¬1) قصص وعبر (1/ 40 - 42). (¬2) دعوة للتأمل 51 - 52.

لا تحزن والله معك

من الشباب والرجال والعجائز وذوي اللحى وكان عددهم كبيرًا يتقدمهم حملة المصاحف الكبرى. فقال أحمد حسنين باشا للشيخ حسن البنا: بالله عليكم كيف جمعتم كل هؤلاء من أقصي البلاد؟ إننا في الكشافة المصرية نقدم لهم كل التسهيلات والملابس والنفقات، ومع ذلك لا يجتمعون علينا إلا بشق النفس، فماذا فعلت مع كل هؤلاء؟ فضحك الإمام البنا وقال لرئيس الكشافة المصرية: شيء يسير جدًا .. قلنا لهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فجاءوا وعلى نفقتهم الخاصة .. فسكت الرجل. (¬1) يقول البنا: لقد آمنا إيمانًا لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي، وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة، وترشد الإنسانية الحائرة، وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يضحي في سبيل إعلانها والتبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال، وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه، ولا شر معه، ولا ضلال لمن اتبعه {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، علي الإسلام ترتكز، ومنه تستمد، وله تجاهد، وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل، لا تعدل بالإسلام نظامًا، ولا ترضي سواه إمامًا، ولا تطيع لغيره أحكامًا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. لا تحزن والله معك قال محمد بن أبي عمران: سأل رجلٌ حاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: - علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأنت به نفسي. ¬

_ (¬1) مائة موقف من حياة العظماء: 108.

صلاح الدين

- وعلمت أن عملي لن يعمله غيري فأنا مشغول به. - وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره. - وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحيي منه. (¬1) وعن عبد الله بن سهل قال: سمعت حاتم الأصم يقول: اختلفت إلى شقيق ثلاثين سنة، فقال لي يومًا: أي شيء تعلمت؟ فقدت: رأيت رزقي من عند ربي فلم أشتغل إلا بربي، ورأيت الله تعالى وكل بي ملكين يكتبان عليَّ كل ما تكلمت به فلم أنطق إلا بالحق، ورأيت أن الخلق ينظرون إلى ظاهري والرب تعالي ينظر إلى باطني، فرأيت مراقبته أولي وأوجب فسقطت عني رؤية الخلق، ورأيت أن الله مستحثًا يدعو الخلق إليه فاستعددت له. (¬2) صلاح الدين كان صلاح الدين سليم العقيدة، متوكلاً على الله، حذره المنجمون يومًا من أن فتح القدس سيؤدي -حسب زعمهم وتنجيمهم- إلى فقد إحدى عينيه فقال: رضيت أن أعمي وتفتح القدس، ففتحها بعد أن كانت بأيدي الفرنج أكثر من تسعين سنة، وأبطل تخرصات المنجمين. (¬3) ذاك هو الله سأل رجل أحد السلف عن الله، فقال له: ألم تركب البحر؟ قال: بلي. قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بك الريح عاصفة؟ قال: نعم. قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم. ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (2/ 360). (¬2) المصدر نفسه (2/ 360). (¬3) عدة المجاهدين: 73.

التمسك بالعقيدة الصحيحة

قال: فهل خطر ببالك وانفتح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم. قال: فذاك هو الله. (¬1) التمسك بالعقيدة الصحيحة يقول سيد قطب: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشدد مع أصحابه في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شئون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة كشئون الزرع، وخطط القتال، وأمثالها في المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان .. وفرق بين هذا وذلك بيِّنٌ، فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجربيية والتطبيقية شيء آخر. والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة. روي الإمام أحمد قال: جاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة. ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله، قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا تري ما وجه رسول الله؟ قال عمر: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً. قال: فسُري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسي عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين". هؤلاء هم أهل الكتاب، وهذا هو هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور، أو بالشريعة والمنهج .. ولا ضير -وفق روح الإسلام وتوجيهه- من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة علمًا وتطبيقًا .. مع ربطها بالمنهج الإيماني: من ناحية الشعور بها، وكونها من تسخير الله للإنسان. ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية، وتوفير الأمن لها والرخاء. ¬

_ (¬1) دعوة للتأمل: 54.

دخل في الإسلام حديثا

وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوي والطاقات الكونية .. شكره بالعبادة، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية. فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني، وفي تفسير الوجود، وغاية الوجود الإنساني، وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضًا .. أما التلقي في شيء من هذا كله فهو الذي تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأيسر شيء منه. وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته. وهي الكفر الصراح (¬1). دخل في الإسلام حديثًا رئيس الأساقفة التنزاني "جون موايبوبو" الذي أقنع خمسة آلاف شخص بالدخول في الإسلام من الذين كانوا يترددون على الكنيسة، وسمي نفسه أبو بكر، وحدث أن قام بعض المتطرفين النصارى بإحراق منزله، وراح ضحية لهذا الحريق طفلاه التوءم. كما تعرض منزله لحريق آخر تم خلاله إحراق جميع الأشرطة التي سجل عليها مراحل حياته من الرهبانية إلى الإسلام، وتعرض للموت أكثر من ثلاث مرات، ومع ذلك يردد قائلا: "أنا أشعر براحة واطمئنان، لأنني أشعر -الآن- أن الله معي". (¬2) أسلم بعقيدة سليمة الدبلوماسي الألماني السفير د. مراد هوفمان سفير ألمانيا في الجزائر بدأت فطرة الحق التي فطر الله عز وجل الناس عليها تستيقظ داخل نفسه، وتاقت إلى الإيمان الصحيح بالله عز وجل، ولاسيما أنه يذكر حادثين مؤثرين، أحدهما: عندما كان يعمل في قنصلية بلاده في الجزائر عام 1961 .. فبينما كانت شوارع العاصمة الجزائرية تموج بطلقات الرصاص لتخمد المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، فاجأت آلام المخاض زوجته، فخرج مهرولاً ليبحث عن سيارة تقل زوجته إلى المستشفي، واليأس يعصر نفسه، كيف سيجد سيارة إسعاف وسط هذا الجو الملبد بدخان البنادق وطلقاتها، وأجساد القتلى والجرحى. غير أنه يذكر أن هاتفًا كان يصرخ داخله: ثق بالله .. ثق بالله، ولم يصدق نفسه وهو يري أمامه سيارة إسعاف، وكأنما أرسلتها العناية الإلهية لإنقاذ زوجته التي كتبت لها حياة ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (1/ 439 - 440). (¬2) صحيفة المسلمين 19/ 6/ 1992 السر الخفي وراء إسلام هؤلاء (1/ 158).

اعتراف الغرب

جديدة من حيث لا يدري. والحادث الآخر: وقع في العام نفسه في أثناء سيره في أحد شوارع الجزائر يرافقه شخص فرنسي، إذ انطلق فجأة وابل من الرصاص نحوهما سقط رفيقه على إثره غارقًا في دمائه في حين لم يصب هو بأي أذي. وبالفعل عزم على إعلان إسلامه عام 1980. (¬1) المسلم على يقين دائم بأن الله سينصره وسيدافع عنه، وسيقف معه في وقت المحن، فلا يحزن ولا يخاف. اعتراف الغرب يقول سميث أحد الباحثين الغربيين المنصفين: تكمن قوة الإسلام في قوة العقيدة التي يمنحها، فالمسلم يعتقد في إله واحد، وتتردد صدي الإعلان المؤثر عن الإيمان في الدعوة إلى الصلاة "الله أكبر". الله ينتقم لدينه تقول صحيفة "جسكياتاف كوبو" النيجيرية العدد رقم 4007 في الصفحة الاولى، إن واعظًا مسيحيًا من المكذبين بالقرآن وقف ساخرًا من القرآن في تحدٍ سافر فقال: "إن كان القرآن والدين الإسلامي حقًا فأنا أسأل الله ألا أرجع إلى بيتي حياً" ويشاء رب العالمين أن يثبت له أن القرآن ودينه الإسلامي الذي ارتضاه لعباده حق وصدق، حيث حدث بمجرد خروجه من الكنيسة وبينما هو في طريقة إلى بيته إذ عثر برخام قناة صغيرة حينما أراد أن يعبرها، فوقع ميتًا في القناة الصغيرة، وحينما تدخل رجل لإنقاذه مات هو الآخر في اليوم التالي مباشرة، والغريب حين حمله أتباعه وأشياعه بعد الحادث وذهبوا به إلى المستشفى، وهناك أخبرهم الطبيب بأنه مات، فلم يقتنعوا بتشخيصه، فأخذوه إلى مستشفى آخر، فأخبروهم بأنه مات بالفعل، فلم يصدقوا، وأخيرا انتهي بهم المطاف إلي مستشفى خاص بالجماعة التنصيرية، حيث أثبت الأطباء المنصرون بأنه قد مات فعلا، وبمجرد انتشار الخبر في ولاية "جونجولي" شمالي نيجيريا اعتنق سكان أربع قرى الإسلام. ... ¬

_ (¬1) السر الخفي وراه إسلام هؤلاء (1/ 36).

صحيح العبادة

صحيح العبادة لابد من تصحيح المفاهيم الخاطئة عن العبادة، ومطاردة الأفكار الضالة، ومعرفة معنى العبادة، وهي الخضوع والذل، يقال: طريق معبد، والتعبيد بمعنى التذليل، ولذا فالعبادة هي الإذعان الكلي والخضوع الكامل، والطاعة المطلقة لله تبارك وتعالى. الفهم الشامل يقول البنا: قد يرى الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعًا متبتلاً يبكي ويتذلل، وبعد قليل يكون هو بعينه واعظًا مدرسًا يقرع الآذان بزواجر الوعظ، وبعد قليل تراه نفسه رياضيًا أنيقًا يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص. هذه مظاهر قد يراها الناس متنافرة لا يلتئم بعضها ببعض، ولو علموا أنها جميعًا يجمعها الإسلام ويأمر بها الإسلام ويحض عليها الإسلام لتحققوا فيها مظاهر الالتئام ومعاني الإنسجام (¬1). روح الصلاة كان الإمام حسن البنا في رحلة في صعيد مصر، وفي المساء جاء وقت العشاء، قال البنا للشيخ إسماعيل حمدي: "إحنا تعبانين وعاوزينك تصلي بنا" فتقدم الشيخ إسماعيل للصلاة ولكنه صلى بالسور القصيرة فلما انتهت الصلاة قال له حسن البنا: كيف تصلي بنا بالسور القصيرة؟ قال: لأن فضيلتكم قلت: إننا تعبانين، ولهذا رأيت أن أخفف عنكم. قال الأستاذ البنا: يا أخي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال - رضي الله عنه -: "أرحنابها يا بلال" ولم يقل: أرحنا منها يا بلال (¬2). ¬

_ (¬1) الرسائل: 123. (¬2) حكايات عن الإخوان (1/ 78).

الخوف من فساد الأعمال

الخوف من فساد الأعمال كان أكثر كلام الحسن في خواطر القلوب، وفساد الأعمال، ووساوس النفس، والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس، وقد قيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك، فمن أين أخذته؟ قال: من حذيفة بن اليمان، وقيل لحذيفة: نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال: خصني به رسول الله: كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه (¬1). العلم طريق الوصول عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب قلت لشاب من الأنصار: يا فلان، هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ولنتعلم منهم، فإنهم كثير. قال: العجب لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله؟ قال: فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، وتتبع أصحاب رسول الله، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله، فأجده قائلاً (راقدًا في وقت القيلولة) فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله: مالك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله، فأحببت أن أسمعه منك. قال: فيقول: أنا أحق أن آتيك. فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله واحتاج الناس إليَّ فيقول: كنت أعقل مني (¬2). قال إسماعيل بن يحيى المزني: قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم به مثلما تنعمت به أذناي. قيل له: فكيف حرصك عليه؟ ¬

_ (¬1) الإحياء (1/ 131). (¬2) أخلاق الدعاة: 99.

العبادة الصحيحة

قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. قيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره (¬1). يقول البنا: نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة، تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتنارل الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف. والقرآن الكريم ينطق بذلك كله، ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعه، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] (¬2). العبادة الصحيحة كان علي بن الحسين يقول: إن قومًا عبدوا الله عز وجل رهبة؛ فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة؛ فتلك عبادة التجار، وقومًا عبدوا الله شكرًا؛ فتلك عبادة الأحرار (¬3). ويقول البنا: هل رأيت منشورًا عسكريًا في كتاب مقدس يتلى في الصلاة والذكر والعبادة والمناجاة كهذا المنشور الذي يبتديء بالأمر المنجز في قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74] ثم يبين الجزاء بعد ذلك {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء74] ثم يتلو ذلك باستثارة أنبل العواطف في النفوس، وهي استنقاذ الأهل والوطن فيقول: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. ثم يوضح لهم شرف غايتهم، ودناءة غاية عدوهم، ليبين لهم أنهم يجودون بثمن ¬

_ (¬1) أخلاق الدعاة: 99 - 100. (¬2) الرسائل: 119. (¬3) صفة الصفوة: (1/ 386).

ومن أنواع العبادات

غال هو الحياة، على سلعة غالية تستحقه وتربو عليه، وهي رضوان الله، على حين يقاتل غيرهم لغير غاية، فهو أضعف نفوسًا وأخزى أفئدة، فذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. ثم يندد بالذين جبنوا عن أداء الواجب، وأخذوا التكاليف السهلة وتركوا تكاليف البطولة، ويبين لهم خطأ موقفهم هذا، وأن الإقدام لن يضرهم شيئًا بل سيكسبون به الجزاء الأكبر، والإحجام لا يغنيهم شيئًا، فالموت من ورائهم لا محالة، فيقول بعد الآيات السابقة مباشرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77 - 78]. بربك أي منشور عسكري في هذه القوة، وفي هذا الوضع يبعث في نفس الجندي كل ما يريد القائد من همة وعزة وإيمان؟ وإذا كان قوام الحياة العسكرية في عرفهم أمرين، هما النظام والطاعة، فقد جمعهما الله في آيتين في كتابه، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، كما قال تعالى: {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 20 - 21] (¬1). ومن أنواع العبادات: العدل عبادة مشى عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - مرة في سكك المدينة، فإذا بصبية تطيش هزالاً، تقوم مرة وتقع أخرى، فقال عمر: أي حوبتها! يا بؤسها! من يعرف هذه منكم؟ فقال ابنه عبد الله: أما تعرفها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: هذه إحدى بناتك! قال عمر: وأي بناتي هذه؟ قال: هذه فلانة بنت عبد الله بن عمر (أي ابنته). ¬

_ (¬1) الرسائل: 279 - 280.

فقال عمر: ويحك وما صيَّرها إلى ما أرى؟ قال له ابنه: منعك ما عندك. فقال عمر: إنك والله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو أعجزك! هذا كتاب الله بيني وبينكم (¬1). غض البصر عبادة قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] مِنْ للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح. وكره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا!! وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرم نظر شهوة يرددها (¬2). وخرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة، ومعهم أصحاب لهم حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلاً. فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجاتهم، وبقي عطاء قائمًا في المنزل يصلي، فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة، فأوجز في صلاته، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قال: ما هي؟ قالت: قم فأصب مني. فقال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار. ونظر إليها فوجدها امرأة جميلة، فجعلت تراوده عن نفسه، وتأبى إلا ما تريد. وظل عطاء يبكي ويقول: ويحك! إليك عني، واشتد بكاؤه، فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه، فجعل يبكي والمرأة بين يديه تبكي. فبينما هو كذلك جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي، والمرأة بين يديه تبكي في ناحية البيت، بكى لبكائهما لا يدري ما أبكاهما، وجعل أصحابهما يأتون رجلاً ¬

_ (¬1) من روائع حضارتنا: 51 - 52. (¬2) تفسير القرطبي: (7/ 292).

الحلم عبادة

رجلاً كلما أتاهما رجل فرآهما يبكيان جلس يبكي لبكائهما، لا يسألهما عن أمرهما حتى كثر البكاء وعلا الصوت. فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت وهي نادمة تائبة (¬1). هل تحرص على غض البصر؟ الصبر عبادة روى ابن شداد أن صلاح الدين كان له ابن اسمه (إسماعيل)، فجاءه خبر وفاته فتجلد وصبر واحتسب، ولم يحدث أحدًا، ولم يظهر عليه شيء من الألم سوى دمعة ذرفت من عينيه، يقول ابن شداد: فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب، وإلى أي غاية بلغ هذا الرجل، اللهم إنك ألهمته الصبر والاحتساب، ووفقته فلا تحرمه ثوابه يا أرحم الراحمين (¬2). الحلم عبادة يروي ابن شداد أنه حدث أثناء الصراع بين صلاح الدين وريتشارد حول يافا أن عصى بعض عساكر صلاح الدين الأوامر، وانصرف كالمغضب حتى خُيل لمن رآه أنه قاتل جماعة من العساكر في ذلك، لما أتوه من أعمال وأقوال، ولم يزل صلاح الدين سائرًا حتى وصل إلى قيادته وحوله الأمراء يرعدون خيفة، وكل منهم يعتقد أنه مسخوط عليه، حتى ابن شداد مع عظم مكانته عند صلاح الدين، يقول ابن شداد: لم تحدثني نفسي بالدخول عليه خيفة منه حتى استدعاني، فلما دخل ابن شداد على صلاح الدين طلب منه أن يجمع الأمراء ليشاركوه في أكل كمية من فاكهة كانت قد وصلته من دمشق، فحضر الأمراء وهم خائفون، فوجدوا من بشره وانبساطه ما أحدث لهم الطمأنينة والأمن والسرور، وانصرفوا على عزم الرحيل للقتال كأن لم يحدث شيء أصلاً (¬3). الصدق عبادة روى ابن عيينة عن رجل قال: كلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء، فقال له: كذبت، فقال عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه. ¬

_ (¬1) غض البصر: 75 - 76. (¬2) صلاح الدين الأيوبي- عبد الله ناصح علوان: 115. (¬3) صلاح الدين علوان: 116 - 117.

الورع عبادة

الورع عبادة عن وهب بن الورد قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز اتخذ دارًا لطعام المساكين والفقراء وابن السبيل. وتقدم إلى أهله وقال: إياكم أن تصيبوا من هذه الدار شيئًا من طعامها، فإنما هي للفقراء والمساكين وابن السبيل. فجاء يومًا فإذا مولاة له معها صحفة فيها غرفة من لبن فقال لها: ما هذا؟ قالت: زوجتك فلانة حامل كما قد علمت، واشتهت غرفة من لبن، والمرأة إذا كانت حاملاً فاشتهت شيئًا فلم تؤت به تخوفت على ما في بطنها أن يسقط، فأخذت هذه الغرفة من هذه الدار. فأخذ عمر بيدها فتوجه بها إلى زوجته وهو عالي الصوت وهو يقول: إن لم يمسك ما في بطنها إلا طعام المساكين والفقراء فلا أمسكه الله. فدخل على زوجته فقالت له: مالك؟ - قال: تزعم هذه أنه لا يمسك ما في بطنك إلا طعام المساكين والفقراء، فإن لم يمسكه إلا ذلك فلا أمسكه الله. قالت زوجته: رديه ويحك، والله لا أذوقه. قال: فردته. هل تحرص على المال الحلال في رزقك؟ التقوى عبادة كان عمر بن عبد العزيز يقول: ليس تقوى الله بصيام النهار، وقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك. ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا، فهو خير إلى خير. وقال القرشي: وحدثني محمد بن يزيد الآدمي قال: قال عمر بن عبد العزيز: معادن التقوى قلوب المؤمنين، وخير معادنها أتقاها لله عز وجل، وأتقاها لله أحسنها عقلاً. تقديم النصيحة عبادة جاء أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية، فرآه يتصدر مجلسًا من مجالسه العامرة. وقد حف به رجال دولته، وقادة جيشه، ووجوه قومه، ورأى الناس يبالغون في إعظامه

طلب العلم عبادة

وإجلاله، فخشي عليه من ذلك أشد الخشية، وبادره قائلاً: السلام عليك يا أجير المؤمنين. فالتفت إليه الناس وقالوا: أمير المؤمنين يا أبا مسلم، فلم يأبه لهم وقال: السلام عليك يا أجير المؤمنين. فقال الناس: أمير المؤمنين يا أبا مسلم، فلم يعرهم سمعه، ولم يرم نحوهم بطرفه وقال: السلام عليك يا أجير المؤمنين. فلما هم الناس بمراجعته؛ التفت إليهم معاوية وقال: دعوا أبا مسلم، فهو أعلم بما يقول. فمال أبو مسلم إلى معاوية وقال له: إنما مثلك بعد أن ولاك الله أمر الناس كمثل من استأجر أجيرًا وأوكل إليه أمر غنمه، وجعل له الأجر على أن يحسن رعيها، ويحفظ أبدانها، ويوفر أصوافها وألبانها، فإن هو قام بما عهد إليه حتى تكبر الصغيرة وتسمن العجفاء، وتصح السقيمة أعطاه أجره، وزاده، وأن هو لم يحسن رعيها وغفل عنها، حتى هلكت عجافها، وهزلت سمانها، وضاعت أصوافها وألبانها منع الأجر عنه، وغضب عليه وعاقبه، فاختر لنفسك ما فيه خيرك وأجرك. فرفع معاوية رأسه وكان مطرقًا إلى الأرض، وقال: جزاك الله عنا وعن الرعية خيرًا يا أبا مسلم، فما علمناك إلا ناصحًا لله ولرسوله، ولعامة المسلمين (¬1). طلب العلم عبادة حفظ أحمد بن حنبل القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس. ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير. وكان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث (¬2). ¬

_ (¬1) صور من حياة التابعين: 354. (¬2) أعلام المسلمين: 100 - 101.

النهي عن المنكر عبادة عن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره، وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به قام إليه، وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له: أجل أفعل، ثم نهض وقام. فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حاجة لغيرك. وقد قضيناها، فما حاجتك أنت؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف (¬1). حوار حول اللحية كان الإمام الشهيد البنا راكبًا الترام ذات مرة عائدًا إلى بيته، فحرص أحد الشباب الذين يهزأون بالسنيين والملتحين من الدعاة والوعاظ، أن يكون جلوسه إلى جانب الإمام الشهيد. وبدأ الشاب في استئذانه بسؤال محرج، ورجا الأستاذ أن يجيبه معتذرًا عن هذا السؤال! فأجاب الإمام الشهيد مرحبًا كل الترحيب بما يسأل الشاب، ووعده ألا يكون لسؤاله من أثر في نفسه غير الرضا والارتياح. فبدأ الشاب سؤاله بقوده: لماذا أطلقت لحيتك يا أستاذ؟ فأجاب الاستاذ: اسمح لي أن أقول لك بأن سؤالك ليس في موضعه، وما كان لك أن تسأل هذا السؤال، وإنما الذي من حقه هذا السؤال هو أنا: لماذا حلقت لحيتك أنت يا أخي؟ وهكذا تحول الأستاذ من موقع المدافع إلى موقف المهاجم! ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (3/ 345).

رد الجميل عبادة

فعجب الشاب من براعة الأستاذ في إجابته التي لم يكن يتوقعها من المشايخ والوعاظ، وأجاب الشاب: إني أحلق لحيتي لأني أعتبرها قذارة يجب التخلص منها. فقال الأستاذ: ولماذا لا تحلق بقية شعرك؟ شعر الرأس والحاجبين والشارب ما دام الشعر في نظرك قذارة؟ فأجاب الشاب: لا يا أستاذ ليس كل الشعر في مستوى واحد، فأنا أحلق شعر عانتي وإبطي بحكم الشرع الشريف باعتباره قذارة. فقال الإمام: الحمد لله .. فقد اعتبرت لحيتي من نوع شعر الرأس والشارب، وأما لحيتك فقد اعتبرتها من نوع عانتك!! وهكذا كان هذا الجواب البارع صفعة أخرى لهذا الشاب الساخر، ما كان ينتظرها، وشعر بالخزي والخجل، وقال: حقًا إنك أظرف سُني رأيته في حياتي .. لقد أردت أن أسخر منك فسخرت أنت مني. فأجابه الأستاذ قائلاً: إن الإسلام قضيته أكبر من اللحية التي تتكلم عنها، وأنتم معشر الشباب لا تفهمون من الإسلام إلا اللحية والصلاة والصيام، ولكن الإسلام رسالة عامة، تتناول الدين والدنيا، ونظام الحياة، ومنهاجها الكامل في كل شئون الحياة .. وتحدث له الأستاذ عن عظمة الإسلام وآفاقه العليا بصورة موجزة .. فأعجب الشاب من هذا التصوير الجديد (¬1). رد الجميل عبادة كان من نعم الله عز وجل على عليَّ بن أبي طالب، وما وضع الله له، وأراد به من الخير أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله للعباس عمه -وكان من أيسر بني هاشم- يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس في هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه واحدًا وتأخذ واحدًا، فنكفيهما عنه. فقال العباس: نعم .. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة: 160 - 161.

ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله عليًّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا - رضي الله عنه - فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع رسول الله حتى بعثه الله نبيًا، فاتبعه عليّ، فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. ونلاحظ أن الرسول أراد أن يرد الجميل والمعروف لعمه أبي طالب الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب (¬1). ... ¬

_ (¬1) علي بن أبي طالب للصلابي (1/ 38).

الانتفاع بالوقت

الانتفاع بالوقت إن الإحساس بالوقت يلدغ الذين توهموا الخلود في الأرض وربطوا مصيرهم بترابها، ولكنه إحساس مخدوع مضلل لمن مرت به الأيام والشهور والدهور وغدا وراح، وتعب واستراح، ومع ذلك فهو في غفلة عن يومه وغده، ظل يعبث ويسترسل في عبثه حتى إذا استرخت أجفانه على عينيه، ودخل ظلام الموت تيقظ بعنف، وهيهات!! لقد صحا بعد فوات الأوان. إن من الخداع أن يحسب المرء نفسه واقفا والزمن يسير، إنه خداع النظر كما يخيل لراكب القطار أن الأشياء تجري من حوله وهو جالس، والواقع أن الزمن يسير بالإنسان إلى مصيره المحتوم. صديق ودود أو عدو لدود إن عمرك رأس مالك الضخم، ولسوف تسأل عن إنفاقك منه لقول رسول الله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " [رواه الترمذي]. ومن الحكم التي تغيب عن بال الناس:" الواجبات أكثر من الأوقات" الزمن لا يقف محايدا فهو إما صديق ودود أو عدو لدود. جريمة سرقة من المؤسف أن العوام لا يبالون بإضاعة أوقاتهم سدى ويضمون إلى هذه الجريمة السطو على أوقات الآخرين لإراقتها على التراب، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" [رواه الترمذي]. ومن وسائل الإسلام لاستغلال الوقت الحث على مداومة العمل وإن كان قليلاً، وكراهيته للكثير المنقطع، وذلك أن استدامة العمل القليل مع اطراد الزمن وسيره المتواصل يجعل من التافه الضئيل زنة الجبال من حيث لا يشعر المرء.

البركة في البكور

البركة في البكور ومن محافظة الإسلام على الوقت حثه على التبكير ورغبته في أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطا طيب النفس مكتمل العزم، فإن الحرص على الانتفاع من أول اليوم يستتبع الرغبة القوية في ألا يضيع سائره سدى. ونظام الحياة الإسلامية يجعل ابتداء اليوم من الفجر، ويفترض اليقظة الكاملة قبل طلوع الشمس، ويمنع السهر الذي يؤخر صلاة الصبح عن وقتها المسنون، وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم بارك لأمتي في بكورها" [رواه أبو داود]. وعن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجعة متصبحة، فحركني برجله، ثم قال: "يا بنيد قومي فاشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس" [رواه البيهقي]. نظرة خاطئة والناس ينظرون إلى الأحداث ويذهلون عن مرسلها، ويذوقون السراء والضراء، ويجهلون من يذيقهم طعومها، فإذا ضاقوا ذرعا بأمرها لعنوا الأيام، وذلك ضرب من الجهل بالله والغفلة عن أقداره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" [رواه أبو داود]. والسفهاء من الناس تمر بهم الأحوال الحسنة والسيئة، فلا يستفيدون من اختلافها شيئًا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير، عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم يدر لم أرسلوه" [رواه أبو داود]. وطبيعة البشر أن يعرفوا ربهم ساعة الشدة وأن يلجأوا إليه عندما تستحكم الأزمات قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12]. الوقت في القرآن يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] أي جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، فمن فاته عمل في

خصائص الوقت

أحدهما، حاول أن يتداركه في الآخر، وأقسم الله تعالى في مطالع سور عديدة من القرآن المكي بأجزاء معينة من الوقت مثل: الليل والنهار والفجر والضحى والعصر .. ومن المعروف لدى المفسرين أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه فذلك ليلفت أنظارهم إليه. خصائص الوقت 1 - سرعة انقضائه: فهو يمر مر السحاب ويجري جري الريح، سواء أكان زمن مسرة وفرح أم كان زمن اكتئاب وترح، وإن كانت أيام السرور تمر أسرع، وأيام الهموم تسير ببطء، لا في الحقيقة ولكن في شعور صاحبها، ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا فهو قصير، ما دام الموت هو نهاية كل حي، ورحم الله الشاعر الذي قال: وإذا كان آخر العمر موتا ... فسواء قصيره والطويل ويحكي عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام أنه جاءه ملك الموت ليتوفاه بعد أكثر من ألف سنة عاشها قبل الطوفان وبعده، فسأله: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان؛ دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر. يا من باع الدرر واشترى الخزف! يقول ابن الجوزي: كأنك بالموت وقد خطف ثم عاد إلى الباقي وعطف، فتنبه لنفسك يا ابن النطف، فقد حاذى الرامي الهدف، إلى كم تسير في أسف؟ ليت هذا العزم وقف، تؤخر الصلاة ثم تسيئها كالبرق إذا خطف، أتجمع سوء كيلة مع حشف؟ الجسد أتى والقلب انصرف، يا من باع الدرر واشترى الخزف، ابسط بساط الحزن على رماد الأسف، عليك حافظ وضابط، ليس بناس ولا غالط، يكتب الألفاظ السواقط، وأنت في ليل الظلام خابط. 2 - أن ما مضى منه لا يعود ولا يعوض: قال الحسن البصري: "ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة". ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب

الزمان أنصح المؤدبين، وأفصح المؤذنين، فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه. 3 - أنفس ما يملك الإنسان: يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته، حيث لا ينفع الندم. الموقف الأول: ساعة الاحتضار {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10] وكان الرد على هذه الأمنية الفارغة قاطعا: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]. الموقف الثاني: في الآخرة حيث توفى كل نفس ما عملت {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وانقطعت حجتهم بهذا السؤال التقريعي: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]. إذا كان عمر الإنسان ستين عاما فانظر كيف نقضي بعضها: النشاط الوقت الكلي في 60 عام ربطة الأحذية ... 8 أيام انتظار إشارات المرور ... شهر الوقت الذي تقضيه عند الحلاق ... شهر ركوب المصاعد في المدن الكبرى ... 3 شهور تنظيف الأسنان بالفرشاة ... 3 شهور انتظار الحافلات في المدن ... 5 شهور الوقت الذي تقضيه في الحمام ... 6 شهور قراءة الكتب ... سنتان وقت الأكل ... 4 سنوات اكتساب الرزق ... 9 سنوات النوم ... 20 سنة سواء اتفقنا على هذا الجدول أم لم نتفق إلا أننا ندرك جيدا أن الوقت يمر سريعا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب: كيف تدير وقتك؟

من علامات المقت إضاعة الوقت

من علامات المقت إضاعة الوقت يقول أحدهم: من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون، ويقول ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي! وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم، وقال الشاعر: إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى ... ولم أستفد علما فما ذاك من عمري جريمة انتحار ما يدري هؤلاء المساكين أن من قتل وقته فقد قتل في الحقيقة نفسه، فهي جريمة انتحار ترتكب على مرأى ومسمع من الناس، ولا يعاقبهم عليها أحد، وكيف يعاقب عليها من لا يشعر بها ولا يدري مدى خطرها؟ انتبه! الفراغ لا يبقى فراغا أبدا، فلابد أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح! وويل لمن ملأه بالشر والفساد! ويقول بعض الصالحين: فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قيادة الشهوات، شوش الله عليه نعمة قلبه، وسلبه ما كان يجد من صفاء قلبه. البدار البدار: قال الشاعر: ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل ... إلى غد، إن يوم العاجزين غد!! أمر القرآن الكريم باستباق الخيرات والمسارعة إليها {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] ويقول معقبا على أهل الكتاب وما أنزل عليهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48] وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] وأثنى الله على بعض أنبيائه بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

الاعتبار بمرور الأيام

[الأنبياء: 90] ومدح الصالحين من أهل الكتاب بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] وذم الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وعن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"بادروا بالأعمال سبعا: هى تنظرون إلا غنى مطغيا، أو فقرا منسيًا، أو مرضا مفسدا، أو هرما (الضعف بسبب الكبر) مفندا أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟! " (مفندا: موقعا في الفتنة وهو كلام المخرف) [رواه الترمذي]. الاعتبار بمرور الأيام في كل يوم يمر بل في كل ساعة تمضي بل في كل لحظة تنقضي تقع في الكون والحياة أحداث شتى، منها ما يرى ومنها ما لا يرى، من أرض تحيا، وحبة تنبت، ونبات يزهر، وزهر يثمر، وثمر يقطف، وزرع يصبح هشيما تذروه الرياح، أم من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشب، وشاب يكتهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت! لكل وقت عمله جاء في وصية أبي بكر - رضي الله عنه - لعمر حين استخلفه: اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار. وليس المهم -إذن- أن يعمل الإنسان أي شيء في أي زمان، بل المهم أن يعمل العمل المناسب في الوقت المناسب، ولذلك وقَّت الله الكثير من العبادات والفرائض بمواقيت محددة، لا يجوز التقدم عليها، ولا التأخر عنها ليعلمنا بذلك أن الشيء لا يقبل قبل أوانه، ولا بعد أوانه، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وفي الصوم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وفي الزكاة: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وفي الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. فضل الله بعض الأيام على بعض فكما فضل الله بعض الأشخاص على بعض، وبعض الأنواع على بعض، وبعض الأمكنة على بعض، فضل كذلك بعض الأزمنة على بعض: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] وقال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق، وعن أبي حارثة الخشني قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن من ورائكم أياما، الصبر

احذر هؤلاء

فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله "، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم" [رواه الترمذي]. احذر هؤلاء عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" [رواه البخاري]. كم عمرك؟ يقول القرضاوي: العمر الحقيقي للإنسان ليس هو السنوات التي يقضيها من يوم الولادة إلى يوم الوفاة، إنما عمره الحقيقي بقدر ما يكتب له في رصيده عند الله من عمل الصالحات وفعل الخيرات. فقد تجد إنسانا عاش أكثر من مائة سنة، ولكن رصيده من تقوى الله ونفع عباده صفر أو ما دون الصفر، أي أن رصيده مدين إذا تحدثنا بلغة المصارف. وقد يموت إنسان آخر شابا، ولكن رصيده في سنينه القلائل بعد سن التكليف حافل عامر بجلائل الأعمال، وإذن يستطيع الإنسان أن يطيل عمره بمقدار ما يوفق إليه من عبادة الله تعالى، والإحسان إلى خلقه، وكلما توافر لعمله الإخلاص والإتقان كان فضله وأجره كبيرًا، وعلى قدر ما يكون لعمله من الفائدة والتأثير في حياة الآخرين تكون قيمته ومنزلته، كأن يدلهم على هدى أو ينقذهم من ردى، أو يفرج عنهم كربة أو يرفع عنهم ظلما، أو يدفع عنهم عدوا أو غير ذلك من الأعمال التي يتعدى نفعها إلى أفراد أو جماعات من الناس أو إلى أمة بأسرها ومن هنا كان عمل مثل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله في قمة الأعمال مكانة عند الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) الوقت في حياة المسلم.

ماذا فعلت لما بعد الموت؟

ماذا فعلت لما بعد الموت؟ يستطيع الإنسان الذي رزق التوفيق في إنفاق وقته أن يطيل عمره، ويمد حياته إلى ما شاء الله بعد موته، فيحيا وهو ميت، ويؤدي رسالة الأحياء وهو مقبور، وإنما يكون ذلك إذا ترك وراءه ما ينتفع الناس به بعده من علم نافع أو عمل صالح أو أثر طيب أو سنة حسنة اقتدى بها أو مؤسسة خيرية ظلت تؤتي ثمارها من بعده أو ذرية صالحة أحسن تربيتها فكانت امتدادًا لحياته وحسن سيرته، عن أبي هريرة عن النبي قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" [رواه مسلم]. دقات قلب المرء قائلة له: ... إن الحياة دقائق وثوان فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمر ثان وقفة فرق كبير بين من يموت والقلوب عليه ولهى، والأعين عليه باكية، والألسنة كلها تثني عليه بالخير وتدعو له بالرحمة، ومن يموت ولا تبكي عليه عين، ولا يحزن لفراقه قلب، ولا يترحم عليه إنسان، شأن الذين عاشوا في الحياة سلبيين، أو ظالمين متجبرين، كذلك الذي قال فيه الشاعر: فذاك الذي إن عاش لم ينتفع به ... وإن مات لم تحزن عليه أقاربه وإذا كان من سن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فإن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وإذا كان من ترك علما نافعا لم ينقطع عمله الصالح، فإن من ترك أثرا سيئا وفكرا مضللاً لم ينقطع أيضا عمله الطالح. طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، وويل لمن يموت وذنوبه باقية من بعده. هكذا استغلوا أوقاتهم نقل عن ابن الجوزي أن براية أقلامه التي كتب بها الحديث جمعت فحصل منها شيء كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك فكفت وفضل منها.

تربية الأبناء

وهذا ابن تيمية، كان لا يفوت ساعة من وقته دون تعليم أو تأليف أو عبادة، حتى بلغت مؤلفاته المئات، بل لم يمكن حصرها. وقال ابن شاكر: إن تصانيفه تبلغ ثلاثمائة مجلد، وقال الذهبي: وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد. قال ابن القيم: وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه، وإقدامه، وكتابته، أمرا عجبا فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، قال ابن العطار تلميذ النووي: ذكر لي شيخي -رحمه الله تعالى- أنه كان لا يضيع له وقتا، لا في ليل ولا في نهار، إلا في الاشتغال بالعلم حتى في الطريق يكرر أو يطالع، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد عشاء الآخرة، ويشرب شربة واحدة عند السحر، ويمتنع عن أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم. أما الإمام الفقيه مكتشف الدورة الدموية ابن النفيس فقال عنه الإمام برهان الدين إبراهيم الرشيدي: كان العلاء بن النفيس إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط، ويأخذ في التصنيف إملاء من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا انحدر، فإذا كلَّ القلم وحفي رمى به وتناول غيره، لئلا يضيع عليه الزمان في بري الأقلام. أخي الحبيب: هكذا كانت الهمم العالية في استغلال أوقاتهم فأين همتك؟! (¬1) تربية الأبناء قال عبد الملك بن مروان -رحمه الله-: كنا مع أبينا في موكبه فقال: سبحوا حتى تأتوا تلك الشجرة، فنسبح حتى نأتيها، فإذا رفعت لنا شجرة أخرى، قال: كبروا حتى تأتوا تلك الشجرة، فكان يصنع ذلك بنا. وروى في مقدمة ابن خلدون أن هارون الرشيد -رحمه الله- لما دفع ولده الأمين إلى المؤدب قال له: "أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره ¬

_ (¬1) يا شباب، الوقت هو الحياة 28: 30.

أنت والمصحف

بمواقع الكلام، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته". ثم قال له موجها: "ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه". أنت والمصحف يقول صاحب القصة: طفلي الصغير صحته ليست على ما يرام، عندما عدت مساء هذا اليوم من عملي قررت الذهاب به إلى المستشفى، رغم التعب والإرهاق، إلا أن التعب لأجله راحة. حملته وذهبت، لقد كان المنتظرون كثيرًا .. ربما نتأخر أكثر من ساعة .. أخذت رقما للدخول على الطبيب وتوجهت للجلوس في غرفة الانتظار. وجوه كثيرة مختلفة .. فيهم الصغير وفيهم الكبير .. الصمت يخيم على الجميع، يوجد عدد من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الإخوة. أجلت طرفي في الحاضرين .. البعض مغمض العينين لا تعرف فيم يفكر، وآخر يتابع نظرات الجميع، وآخرون تحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار. يقطع السكون الطويل صوت المنادي برقم كذا، الفرحة على وجه المنادى عليه يسير بخطوات سريعة، ثم يرجع الصمت للجميع. لفت نظري شاب في مقتبل العمر لا يعنيه أي شيء حوله، لقد كان معه مصحف جيب صغير يقرأ فيه، لا يرفع طرفه .. نظرت إليه ولم أفكر في حاله كثيرًا لكني عندما طال انتظاري لساعة كاملة تحول مجرد نظري إليه إلى تفكير عميق في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت. ساعة كاملة من عمري ماذا استفدت منها وأنا فارغ بلا عمل ولا شغل، بل انتظار ممل. أذن المؤذن لصلاة المغرب .. ذهبنا للصلاة. في مصلى المستشفى حاولت أن أكون بجوار صاحب المصحف .. بعد أن أتممنا الصلاة، سرت معه وأخبرته مباشرة بإعجابي به من محافظته على وقته.

إضاعة الوقت

وكان حديثه يتركز على كثرة الأوقات التي لا نستفيد منها إطلاقا وهي أيام وليال تنقضي من أعمارنا دون أن نحس أو نندم. قال: إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنة واحدة فقط عندما حثه صديق له على المحافظة على الوقت. وأخبرني أنه يقرأ في الأوقات التي لا يستفاد منها كثيرا أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل، بل إن قراءته في المصحف -زيادة على الأجر والمثوبة إن شاء الله- تقطع عليه الملل والتوتر، وأضاف محدثي قائلا: إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد على الساعة والنصف. وسألني: متى ستجد ساعة ونصفًا لتقرأ فيها القرآن؟ تألمت كم من الأوقات تذهب سدى! كم لحظة في حياتك تمر ولا تحسب لها حسابًا! بل كم من شهر يمر عليك ولا تقرأ القرآن! أجلت نظري .. وجدت أني محاسب والزمن ليس بيدي .. قطع تفكيري صوت المنادي .. ذهبت إلى البيت. أريد أن أحقق شيئا الآن، بعد أن خرجت من المستشفى، أسرعت إلى المكتبة، اشتريت مصحفا صغيرًا، قررت أن أحافظ على وقتي .. فكرت وأنا أضع المصحف في جيبي. كم من شخص سيفعل ذلك، وكم من الأجر العظيم للدال على ذلك! (¬1) إضاعة الوقت يقول ابن الجوزي: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة ¬

_ (¬1) مائة قصة وقصة 282 - 284.

ليس لدي فراغ

الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة (¬1). ليس لدي فراغ سئل الشيخ أحمد ياسين يوما: كيف تقضي وقتك؟ فأجاب: طوال عمري في العمل حتى حينما أكون في بيتي فأنا في العمل، ليس لدي ساعة فراغ واحدة، يأتيني المسلم يشكو من شيء فأسعى لحل شكواه، يأتيني الفقير يشكو، ويأتيني أبو السجين أو أهله يشكون، تأتيني المطلقة تشكو شكواها، فبيتي مفتوح لكل الناس، وعلى كل مستوياتهم، للأرملة والفقير والتعبان والمريض والذي يريد العلاج، والذي لديه مشكلة، والذي يريد أن يزور منطقة، والذي يبحث عن عمل .. العمل يأخذ كل وقتي. ... ¬

_ (¬1) صيد الخاطر 190.

النظام

النظام يقول تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]. هل فكرت يوما في هذه السيارات المنطلقة، أعني هذه الكواكب، التي تخترق أعماق الجو والتي تلتزم مدارا واحدا ولا تنحرف عنه؟ أليس هذا من تنظيم الله لهذا الكون؟ والله قد نظم لنا كيفية الموازنة بين الدنيا والآخرة فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. خلية النحل انظر إلى خلية النحل الذي هو مخلوق صغير ضئيل من مخلوقات الله الكثيرة الجميلة، ستجد نظاما جميلا، فيصنع هذا المخلوق الصغير أشكالا جميلة من الشمع، من علّمه هذا؟ إنه الله، ولو علمت كيف يقوم النحل داخل الخلية بالعمل لوجدت أن كل نحلة تقوم بواجبها من أجل نظافة الخلية وإنتاج العسل الشهي، والدفاع عنها، ستعرف أن الله أبدع ونظم كل شيء فيالدنيا حتى خلية النحل الصغيرة، يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 68 - 69]. النمل ربما لم تتمكن من رؤية النحل ولكنك بالتأكيد رأيت النمل، أرأيت كيف يتحرك النمل في نظام وخطوط شبه مستقيمة؟ كل نملة تعرف دورها وتعمل بنظام من أجل جمع الغذاء وتخزينه لفصل الشتاء، فيخرج النمل في فصل الصيف يبحث عن غذائه ثم يأتي النمل في نظام وترتيب عجيب فيحمل الغذاء ويتعاون معا عندما يكون الغذاء كبير الحجم يحتاج لمجهود مجموعة كبيرة من النمل، وتستمر جماعات النمل المنظمة حتى ينتهي فصل الصيف ويدخل الشتاء فينعم النمل بحصيلة ما جمعه طوال الصيف، ألا يدل ذلك

الله يحب النظام

على أن الله يريد أن يعلمنا أنه بالنظام والعمل الجاد تستطيع مخلوقات الله أن تعيش. من علم النملة الفرق بين الصيف والشتاء؟ ومن علمها أن تحسب حاجاتها في الصيف وتدخرها في الشتاء؟ ومن علمها أن تستكشف أماكن الطعام؟ ومن علمها أن ترتب حركتها وهي تنقل الطعام؟ إننا نتعلم من هذا المخلوق الصغير النظام والادخار (¬1). الله يحب النظام والنظام يبدو في الصفوف، ومن الصفوف التي يحبها الله صفوف القتال المتراصة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] وصفوف الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} [الصافات: 165] أي المصففين للطاعة. هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - - انظر إلى التخطيط الدقيق من النبي - صلى الله عليه وسلم - للهجرة: * جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر حتى لا يراه أحد. * إخفاء شخصيته أثناء مجيئه فقد جاء الرسول ملثما. * أمر أبا بكر أن يُخرج مَن عنده. * لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه. * كان الخروج ليلا. * كان الخروج من باب خلفي في بيت أبي بكر. * اتخذا طرقا غير مألوفة للقوم. * استعان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمشرك عبد الله بن أريقط لأنه كان واثقا منه وعلى خلق، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها. * انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة وكلها ترتبط برباط القرابة. * وضع كل فرد من الأفراد في عمله المناسب: عبد الله بن أبي بكر صاحب ¬

_ (¬1) تربية الأبناء على التخطيط والنظام 24، 25.

في غزوة بدر

المخابرات الصادقة، وأسماء بنت أبي بكر حاملة التموين من مكة إلى الغار، وعامر ابن فهيرة الراعي البسيط يبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كي لا يتفرسها القوم. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعد كل الأسباب، ولكنه في الوقت نفسه يدعو ربه فانصرف القوم عن الغار، ورسخت فرس سراقة في الأرض. اعلم أخي الحبيب أننا إذا أخذنا بكل الأسباب لنصرة دين الله فإن الله سينصرنا لا محالة. فكرة نوم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في فراشه فكرة جيدة ضللت القوم، فلقد ظلت أبصارهم معلقة بفراش الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما كانوا يشكون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما زال نائما، والنائم هو علي بن أبي طالب. هل تقوم بتنظيم شئون حياتك؟ في غزوة بدر دفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض وقسم جيشه إلى كتيبتين: 1 - كتيبة المهاجرين، وأعطي علمها علي بن أبي طالب. 2 - كتيبة الأنصار، وأعطي علمها سعد بن معاذ. وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو، وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة وظلت القيادة العامة في يده - صلى الله عليه وسلم - كقائد أعلى للجيش (¬1). كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعدل الصفوف في غزوة بدر، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: "استو يا سواد"، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال:" استقد"، فاعتنقه سواد، وقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟ " قال: ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم 195.

في غزوة أحد

يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير (¬1). وانظر إلى حرص الرسول على النظام وتسوية الصفوف. في غزوة أحد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه إلى ثلاث كتائب: 1 - كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري. 2 - كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير 3 - كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحباب بن المنذر. في اليرموك خرج خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بأسلوب جديد لم يستخدمه العرب من قبل ذلك هو الكراديس فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى أربعين ورتب جيشه كالتالي: فرقا: وفيها من عشرة إلى عشرين كردوسا ولها قائد وأمير. كراديس: ألف مقاتل وله قائد وأمير. وقسم جيشه إلى أربعين كردوسا كما يلي: فرقة القلب مؤلفة من 18 كردوسا بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو. فرقة الميمنة مؤلفة من 10 كراديس بقيادة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة. فرقة الميسرة مؤلفة من 10 كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان. فرقة الطليعة (المقدمة) من الخيالة. فرقة المؤخرة مؤلفة من 5000 مقاتل (5 كراديس) بقيادة سعيد بن زيد ومهمتها قيادة (الأمور الإدارية) وكان القاضي (أبو الدرداء)، وعبد الله بن مسعود مهمته تأمين ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم 204.

عدم النظام من عوامل الهزيمة

أمور الإعاشة وجمع الغنائم، والمقداد بن الأسود يدور على الناس ويقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد لرفع المعنويات، وخطيب الجيش أبو سفيان بن حرب وهو يطوف على الصفوف يحث الجند على القتال. إنه النظام المحكم قبل المعركة (¬1). عدم النظام من عوامل الهزيمة خالف بعض المسلمين النظام وأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك في غزوة أحد عندما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعد أرض المعركة لقتال الكفار، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من الرماة بأن يظلوا فوق جبل أحد ويرموا الكفار بالنبال وألا يتركوا أماكنهم مهما كانت الأسباب حتى يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنزول، ماذا حدث؟ لم يلتزم بعض الرماة بالنظام وعصوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا من فوق الجبل وتركوا أماكنهم لجمع ما تركه الكفار وهم يفرون من المعركة، واستغل خالد بن الوليد الفرصة -وكان يومها لا يزال مشركا- وهاجم المسلمين من الخلف، وخسر المسلمون وأصيب الرسول بسبب أن بعض المسلمين خالفوا النظام الذي وضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المعركة. نظام أبي بكر انظر إلى سيرة أول الخلفاء الراشدين الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -؛ عندما تولى الخلافة وجد أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية قد ارتدت أو قررت منع الزكاة بسبب أن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، وكان أبو بكر مثالا في النظام قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وأرسل أبو بكر الجيوش لقتال المرتدين ومانعي الزكاة للمحافظة على نظام وأحكام الإسلام. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عبقرية فذة في الإدارة والنظام، فقد استطاع أن يبني دولة إسلامية منظمة، ودوَّن الدواوين. ووضع التقويم الهجري ليكون للمسلمين تاريخهم الذي يحسبون به السنين بدءا من الهجرة. لا تخف من الفشل، كثير من الناس يتجنب التخطيط ووضع الأهداف مخافة الفشل، ولو حاولوا لنجحوا، بل إن من يحاول تزداد خبرته ولو لم ينجح، فالمعرفة والخبرة التي ¬

_ (¬1) أبو بكر الصديق للصلابي 439، 440.

الأسقف الأمريكي الذي أسلم بسبب النظام

ستكتسبها في سعيك لتحقيق هدف ما يمكن أن تساعد على تحقيق هدف ربما أكبر من السابق. الأسقف الأمريكي الذي أسلم بسبب النظام كان مسئولا عن إعداد برامج التوجيه الديني في ولاية نيوجرسي .. يقول: حين حضرت إلى مصر في شهر رمضان شاهدت المجتمع المصري منتظما في أسلوب حياته القائم على أساس من الدين فالناس يذهبون إلى المسجد عند سماع الأذان، ويتطهرون بماء الوضوء ثم يقفون في صفوف منتظمة، وعند الإفطار تخلو الشوارع من المارة، وظننت في بداية الأمر أن هناك قانونا يقضي بحظر التجوال بعد الغروب، ولكنني عرفت السبب بعد ذلك. فالجتمع إذن منظم على أساس الدين، يكفي أنه قد شد انتباهي الأمن والأمان السائدان في شوارع القاهرة، فالناس يسيرون في أمان في حين أن عندنا في نيويورك مثلا يوجد كل يوم ثمانية قتلى في الشوارع، مع أن الأمريكيين لا يسيرون في الشوارع ليلا خوفا على حياتهم. إنه برغم اقتناعي الكامل بالإسلام كدين خاتم يجب أن يؤمن به الناس جميعا، فإنني ترددت أربعة أشهر قبل أن أعلن إسلامي، لأنه من الصعب على الإنسان أن يغير دينه. وفي نبرة سعادة خفية قال: وفي لحظة اعتناقي للإسلام شعرت أنني أدخل عالما نورانيا يسمو بالروح والنفس وذلك حينما تسلمت شهادة إشهاري للإسلام، فقد شعرت بأنني حصلت على أعلى شهادة في الدنيا وأحسست في الوقت ذاته أنني ألقي عن كاهلي عبئا ثقيلا من الهموم والقلق والشكوك والشقاء .. نعم شعرت بسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل (¬1). انضباط في المواعيد في عام 1953 م زار الأستاذ الهضيبي طهطا بسوهاج وكان في البرنامج زيارة المعهد الديني، وكان موعد حضور السيارة الساعة الثامنة صباحا، وفي تمام الثامنة كان الأستاذ المرشد عند البوابة، فقال الإخوان: إن السيارة لم تأت يا أستاذ، فأجاب: هيا إلى المعهد، وسار على قدمه مع كبر سنه ليحضر في موعده (¬2). ¬

_ (¬1) صحيفة اللواء الإسلامي 27/ 10/ 1988: الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء (1/ 150). (¬2) مائة موقف من حياة المرشدين 113، 114.

هكذا كانوا

هكذا كانوا أبو بكر بن الأنباري قال: كان أبو عبيد القاسم بن سلام يقسم الليل ثلاثا: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتاب ثلثه. وكان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. خط رسول الله الخندق وجعل لكل عشرة أربعين ذراعا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا، فقال رسول الله: "سلمان منا أهل البيت". آفات قاتلة للنظام الغفلة: يدين القرآن أولئك الذين يهتمون بظاهر العلم دون حقيقته فيقول تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 6 - 7]. التسويف: لأنك لا تضمن أن تعيش إلى غد .. دعا أحد الأمراء رجلا إلى الطعام فاعتذر بأنه صائم فقال الأمير: أفطر وصم غدا، قال: وهل تضمن لي أن أعيش إلى الغد؟ تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من سليم مات من غير علة ... وكم من سقيم عاش حينا من الدهر وكم من فتى يمسي ويصبح آمنا ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري إياك والعقوق! اعلم أن لكل وقت واجباته. قيل لعمر بن عبد العزيز وقد بدا عليه الإرهاق من العمل: أخر هذا إلى الغد، فقال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين؟! واعلم أخي الحبيب أن العمل هو مهمة الإنسان الحي فالمرء الذي لا يعمل لا يستحق الحياة.

فن الراحة

نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ... ولو نطق الزمان بنا هجانا يقول الحسن البصري: أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه، وقال حكيم: من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله (ورثه) أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. فن الراحة من تنظيم الوقت أن يكون فيه جزء للراحة والترويح، فإن النفس تسأم بطول الجد، والقلوب تمل كما تمل الأبدان، فلابد من قدر من اللهو والترفيه المباح كما قال علي: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلب إذا أكره عمي. ينبغي للإنسان المؤمن أن ينظم وقته بين الواجبات والأعماق المختلفة، دينية كانت أو دنيوية، حتى لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على الأهم، ولا غير الموقوت على الموقوت، فما كان مطلوبا بصفة عاجلة يجب أن يبادر به ويؤخر ما ليس له صفة العجلة، وما كان له وقت محدد يجب أن يعمل في وقته. وأحوج الناس إلى تقسيم الوقت وتنظيمه هم المشغولون من الناس من أصحاب المسئوليات، لتزاحم الأعباء عليهم، حتى إنهم ليشعرون أن الواجبات أكثر من الأوقات. ولا يحسن بالإنسان أن يرهق نفسه بالعمل إرهاقا يضعف من قوته، ويحول دون استمرار مسيرته، ويحيف عن حق نفسه، وحق أهله، وحق مجتمعه، ولو كان هذا الإرهاق في عبادة الله تعالى صياما وقياما وتنسكا وزهدا. حوار مع لحظة جلست يوما بين يدي الله تعالى نادما على أوقات قد سلفت من عمري واستدعيت لحظة من لحظات حياتي .. فقلت لها: أريدك أن ترجعي إلي حتى أستغلك بالخير. قالت: إن الزمان لا يقف محايدا أبدا.

كيف تنظم وقتك

قلت: يا لحظة، أرجوك ارجعي إلي حتى أنتفع بك، وأعوض تقصيري فيك. قالت: وكيف أرجع وقد غطتني صفحات أعمالك. قدت: افعلي المستحيل وارجعي، فكم من اللحظات قد ضيعتها بعدك؟ قالت: لو كان الأمر بيدي لرجعت، ولكن لا حياة لمن تنادي، وقد طويت صحائف أعمالك، ورفعت إلى الله تعالى. قلت: وهل يستحيل رجوعك إلي وأنت تخاطبينني؟ قالت: إن اللحظات في الحياة إما صديقة ودودة تشهد لصاحبها وإما عدوة لدودة تشهد عليه، وأنا من اللحظات التي هي من أعدائك والتي تشهد عليك يوم القيامة، فكيف يجتمع الأعداء؟ قلت: يا حسرتي على ما ضيعت من عمري من لحظات! ولكنني أرجوك ارجعي إلي حتى أعمل فيك صالحا فيما تركت .. وسكتت اللحظة. فقلت: يا لحظة، ألا تسمعينني؟ أجيبي أرجوك. قالت: يا غافلا عن نفسه، يا مضيعا لأوقاته، ألا تعلم أنك الآن من أجل إرجاع لحظة قد ضيعت لحظات من عمرك، فهل عساك أن ترجعها كذلك، ولكن لا أقول إلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فبادر يا ... واعمل واجتهد واتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن (¬1). كيف تنظم وقتك 1 - ضع خطتك الأسبوعية في متناول يدك وأنت تعد قائمة أعمالك اليومية. 2 - ضع قائمتك في نفس الوقت من كل يوم .. اقض بضع دقائق بعد نهاية اليوم أو قبل ابتداء العمل في اليوم التالي في وضع القائمة. 3 - لا تضع أكثر من قائمة، قائمة واحدة فقط تكفي واجعل القائمة صغيرة يمكن ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار، ج 2.

نصائح لتنظيم مكان العمل

الاحتفاظ بها في جيبك. 4 - الصيغة التي تكتب بها القائمة لا تهم كثيرا، المهم إعداد القائمة. 5 - يجب أن تحتوي القائمة على كل مهامك التي تريد إنجازها. 6 - قسم وقتك على مهامك اليوم حسب الأولية. 7 - خصص لكل مهمة وقتا محددا لإنجازها. 8 - راجع مهامك اليومية مرة أخرى بإلغاء غير الضروري وتفويض ما يمكن تفويضه. 9 - لا تجدول كل دقيقة في وقتك، لابد أن تكون خطتك مرنة. 10 - تعامل جيدا مع الأمور الطارئة. 11 - اترك وقتا في برنامجك اليومي للراحة والاسترخاء. 12 - تذكر في النهاية، لا تفرط كثيرا في التنظيم، أنت تضع القائمة لتحافظ على وقتك لا لتضيعه. نصائح لتنظيم مكان العمل 1 - حافظ على تنظيم جيد للحجرة لا تضع على مكتبك إلا ما تقوم به الآن أو ما ستحتاجه خلال اليوم. 2 - حافظ على إضاءة جيدة فوق مكتبك. 3 - تأكد من ترتيب الكتب بشكل جيد في مكتبتك. 4 - رتب أدواتك في أماكنها. 5 - رتب خزانتك جيدا. 6 - سلة المهملات مهمة جدا للتخلص من أي شيء ليس له أهمية ولن تحتاجه بعد ذلك. ***

نفع الآخرين

نفع الآخرين حث الإسلام على تقديم النفع للآخرين، وجعله قربة لله عز وجل، وإرضاء له، وبلوغ أعلى المنازل في الجنة، بهذا أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان معتكفًا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبًا حزينًا؟ فقال: نعم يابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، فقال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ قال: إن أحببت، قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ -يقصد الاعتكاف- قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب -ودمعت عيناه- يقول: "من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرًا من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ما بين الخافقين" [البيهقي]. أحب الناس إلى الله عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشى مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا السجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجته حتى يقضيها له، ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام" [الأصبهاني]. وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل على أهل بيت من السلمين سرورًا لم يرض الله له ثوابًا دون الجنة" [الطبراني]. وقال - صلى الله عليه وسلم -:"من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآ خرة، ومن ستر مسلمًا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" [رواه مسلم].

الرسول قدوة

الرسول قدوة عندما نزل الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعاد إلى السيدة خديجة وقال لها: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة ابن نوفل. هل تحرص على صلة الرحم، ومساعدة الضعيف، والإحسان إلى الفقراء؟ الصديق يحلب للحي: كان أبو بكر - رضي الله عنه - يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف -أي أصبح خليفة للمسلمين - قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، وكانت عادة العرب أن يحلب الرجال الأغنام وغيرها، ويرون عيبًا أن يحلب النساء. هجرة أبي بكر قالت عائشة -رضي الله عنها-: خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد فلقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخُرج، ولا يخُرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. لفتات طيبة في يوم تلقى الأستاذ البنا برقية من أحد الإخوان يخبره فيها بأنه رزق بمولودة بعد عقم دام سنين، وأنه يرغب من الأستاذ في اختيار اسم لها، وقرأ الأستاذ البرقية على أعضاء مكتب الإرشاد فقال بعض الحاضرين: احنا فاضيين للكلام ده. فما كان من الإمام إلا أن قال: هذا من صميم دعوتنا. ثم تناول ورقة وقلمًا وحرر برقية نصها: الأخ فلان بارك الله لك في مريم وأنبتها نباتًا حسنًا وأمر بإبلاغها على الفور (¬1). ¬

_ (¬1) رحلتي مع الجماعة الصامدة (350، 351).

فكرة للأستاذ مصطفى أمين حول الأستاذ الهضيبي

هل تحرص على الوقوف مع إخوانك وقت الشدة والفرح؟ اجعل منصبك لنفع الناس جميعًا. فكرة للأستاذ مصطفى أمين حول الأستاذ الهضيبي عرفت الأستاذ حسن الهضيبي أول ما عرفته في عام 1939 وكنت رئيسًا لتحرير مجلة آخر ساعة، وأرسلت المفوضية الألمانية بالقاهرة خطابًا إلى وزير الخارجية تحتج عليَّ لأنني كتبت مقالا قلت فيه: إن هتلر ديكتاتور، وإن هذه إهانة للفوهرر، وقانون العقوبات المصري يمنع مهاجمة رؤساء الدول الأجنبية، وطلب الوزير الألماني تقديمي إلى محكمة الجنايات، واتصل وزير الخارجية بوزير العدل، واتصل وزير العدل بالنائب العام، وقرر النائب العام تكليف رئيس النيابة الأستاذ الهضيبي بمقابلتي، واستقبلني رئيس النيابة مقابلة ودية لم أتعود أن ألقاها من رؤساء النيابة الذين يحققون معي في قضايا الصحف. وبدأ حديثه وسألني عن أي نوع من القهوة أود أن أشرب، وطلبت "قهوة مضبوط" فطلب لي رئيس النيابة القهوة، ثم طلب واحد ليمون وبعد ذلك قال لي: أنت متهم بأنك أهنت الهر أدولف هتلر رئيس دولة ألمانيا، قالها بهدوء، وبنفس النبرة التي طلب بها واحد قهوة وواحد ليمون، وكأنه يقول: أهلا وسهلا وحشتنا وآنستنا، قلت له: أنا لم أهن هتلر، أنا قلت عنه الحقيقة. قال الهضيبي: أنت قلت إنه ديكتاتور وطاغية وأنه قضى على حقوق الإنسان في ألمانيا؟ وسألت رئيس النيابة: وهل هو ديكتاتور أم لا؟ قال ضاحكًا: المفروض أنني أنا الذي أسألك لا أنت تسألني! قلت: المفروض أن يقول وزير ألمانيا المفوض أنني نسبت إلى هتلر أنه قضى على حرية الصحافة بينما أن الصحافة حرة في ألمانيا، وأنه ملأ بلاده بالمعتقلات، وأنشأ المحاكم الاستثنائية بينما الحقيقة أنه لا معتقلات هناك ولا محاكم استثنائية. قال الأستاذ الهضيبي: اطمئن إنني لن أقدمك لمحكمة الجنايات لأنني أعتقد معك أنه ديكتاتور، وذمتي لا تقبل أن أقدم بريئًا إلى المحاكمة، وكل المطلوب منك أن تقول في التحقيق أنك لا تقصد إهانة هتلر. وأمر الأستاذ حسن الهضيبي بفتح المحضر، وسألني هذا السؤال وأملى على كاتب

من المواقف المؤثرة

التحقيق الإجابة، وأمرني بالانصراف ولم يطلب مني أن أدفع كفالة كما طلب النائب العام. ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام، نتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق، هادئ، فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد، قوي الملاحظة، ثم عرفته بعد ذلك في سجن ليمان طره. حيث كانت زنزانته بجوار زنزانتي. جذبني صموده وقوة احتماله، يقابل البطش بابتسامة سخرية، ويرد على الظلم بالإيمان، يناقشك بهدوء، لا يغضب، ولا يحتد ولا يشكو، حرموه عدة شهور من أن يتلقي أي خطاب من زوجته وبناته، وكان أولاده مسجونين في سجن آخر، وكلفت إحدى تلميذاتي أن تتصل بابنته المدرسة بكلية طب القصر العيني لتقول لها: إن والدها بخير، وهذه هي الرسالة الوحيدة التي رضي أن أحملها لأسرته (¬1). من المواقف المؤثرة كان ذلك عام 1945 قبل عيد الفطر بأسابيع، إذ تقدم أخ فقال لإخوانه: أيكم يحتاج إلى أي شيء بمناسبة العيد؟ فقال له الأخ: أنا أحتاج إلى بدلة وأريد أن ترشدني إلى ترزي يفصل لي بدلة بالتقسيط، فقال له الأخ: غدا أرشدك، ثم ذهب الأخ المسئول إلى ترزي له صلة بالإخوان وقال له: إن الأخ سوف يأتيك كي تقوم بتفصيل بدلة له، فلا تأخذ منه أي شيء، وسوف أقوم أنا بتسديد قيمة البدلة لك، ولى الأخ البدلة في العيد، وسأله الإخوان من أين اشتريت القماش ومن الذي قام بالتفصيل، فيقول: من عند الترزي فلان، فيذهب الإخوان لهذا الترزي ويطلبون مثل ما طلب الأخ، ولكنهم يكتشفون أن هذا الترزي لا يفصل بالتقسيط، وأن الأخ المسئول قام بدفع القيمة كاملة ثم أخذ من الأخ المبلغ على دفعات دون أن يعرف حقيقة الأمر، وكانت هذه القصة دليلاً صارخًا على أسمى معاني الحب والإيثار (¬2). فهل تحرص على إيثار إخوانك بمالك؟ كريم رغم الفقر كان العز بن عبد السلام رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكي أنه لما كان بدمشق، ¬

_ (¬1) حكايات عن الإخوان (2/ 17 - 19)، والأخبار 12 يونيو 1986 م. (¬2) حكايات عن الإخوان (1/ 24) بتصرف.

مساعدة عاجلة

وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشتر لنا بثمنه بستانًا نصيف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه. فقالت: جزاك الله خيرًا (¬1). مساعدة عاجلة يقول أحد تلامذة الشيخ أحمد ياسين (د. عبد الله محمد): كنت أزوره في بيته يومًا مع بعض الزملاء، وقد كان مجلسه ممتلئًا بالضيوف كالعادة، يطرقون بابه باستمرار لزيارته أو استشارته في أمورهم الخاصة والعامة أو الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من مسائل، واستمرت الجلسة إلى ساعة متأخرة من الليل، وقد بدا على الشيخ التعب والإرهاق، فهو يستقبل الناس من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد منتصف الليل أحيانا، وإذا بالباب يطرق بشدة ويدخل بعض الأشخاص يستنجدون بالشيخ أن يساعدهم لأن قريبًا لهم في حاجة إلى عملية جراحية عاجلة، وليس لهم إلا الشيخ ليتوسط لدى الطبيب المختص الموجود في مدينة خان يونس، ويستأذن الشيخ من الحضور ويذهب معهم ليطمئنهم ويواسيهم، وكان بإمكانه أن يرسل معهم ورقة توصية للطبيب أو أن يدعو لهم ويتركهم يذهبون وحدهم، وهو المريض الذي يحمله أصحابه للركوب في السيارة أو النزول منها. ... ¬

_ (¬1) أعلام المسلمين: 121.

الخاتمة ويوم القيامة

الخاتمة ويوم القيامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" [البخاري]. وكان أئمة السلف يخافون من مكر الله تعالى بهم، ويسألونه حسن الخاتمة، ويستعيذونه من سوء الخاتمة. قال الحافظ ابن رجب: وكان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق. وقال سفيان الثوري لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال الرجل: تركني لا أفرح أبدًا. وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان. وكان مالك بن دينار يظل طول ليله قابضًا على لحيته ويقول: يا رب، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين دار مالك. وقال ابن القيم: أما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيروا إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته. وقوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يعص ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع الاغترار، فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة (¬1). فهذه رسالة مختصرة في حسن وسوء الخاتمة، ليعمل كل منا لآخرته، ونسأل الله أن يحسن خاتمتنا. ¬

_ (¬1) الفوائد: 214.

وفاة الرسول

وفاة الرسول: الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اللحظه الأخيرة يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، عندما خيره ملك الموت بين الدنيا وبين لقاء الله. وفاة أبي بكر الصديق: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما جاءه الموت بكت السيدة عائشة وأخذت تقول الشعر، فقال لها: ما هكذا يا بنيتي بل اقرئي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]. يعني يقدم النصيحة وقت موته. وفاة عمر بن الخطاب: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ضعوا خدي على التراب لعل رب عمر يرحم عمر، ويدخل شاب يجرجر ملابسه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك .. فنصحه عمر: يا بني ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأطهر لثوبك. وفاة عثمان بن عفان: رأى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - رؤيا قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أتحب أن تفطر عندنا الليلة، فقال: نعم يا رسول الله، فأصبح صائمًا ويموت وهو يقرأ القرآن. وفاة علي بن أبي طالب: استُشهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في صلاة الفجر وقال عن قاتله: أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن صححت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت. وفي رواية: إن مت فاقتلوه ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وفاة معاوية بن أبي سفيان: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يبكي ويقول: أتذكر الله الآن يا معاوية، اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي. وفاة معاذ بن جبل: لما حضرت معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الوفاة قال: اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك،

وفاة بلال بن رباح

اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند حلق الذكر. ولما اشتد به النزع قال: اللهم إنك تعلم أن قلبي يحبك. وفاة بلال بن رباح: لما حضرت بلال الوفاة: قالت امرأته: واحزناه. فقال: بل واطرباه! غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وصحبه. وفاة الأصيرم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش. قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه. فلما كان يوم خرج رسول الله إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه، فعدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراح. وقال: فبينا رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه ما جاء به؟ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي، فغدوت مع رسول الله، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله، فقال: "إنه لمن أهل الجنة". الله أكبر، ما جاء بك يا أصيرم؟ جاء بي أني أعلنت الحق وصرت جنديًا من جنوده، فجئت للموت في سبيله، فاستحق - رضي الله عنه - هذا الوسام من سيد الأولين والآخرين: "إنه لمن أهل الجنة". وفاة سعد بن أبي وقاص: سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عمًّر طويلاً وأفاء الله عليه من المال الشيء الكثير، لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال: كفنوني بها، فإني لقيت بها المشركين

وفاة عروة في الزبير

يوم بدر، وإني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضًا. وفاة عروة في الزبير: عاش عروة بن الزبير واحدًا وسبعين عامًا مترعة بالخير، حافلة بالبر، مكللة بالتقى، فلما جاءه الأجل المحتوم أدركه وهو صائم، ولقد ألح عليه أهله أن يفطر فأبى، لأنه كان يرجو أن يكون فطره على شربة من نهر الكوثر في قوارير من فضة بأيدي الحور العين. وفاة أبي هريرة: لما مرض أبو هريرة - رضي الله عنه - مرض الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكنني أبكي لبعد السفر وقلة الزاد، لقد وقفت في نهاية طريق يفضي بي إلى الجنة أو النار، ولا أدري في أيهما أكون. وقد عاده مروان بن الحكم، فقال له: شفاك الله يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي، وعجل لي فيه. فما كاد يغادر مروان حتى فارق الحياة. وفاة عبد الملك بن مروان: لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة نظر إلى غسال بجانب دمشق فقال عبد الملك: ليتني كنت غسالاً آكل من كسب يدي يومًا بيوم، ولم أل من أمر الدنيا شيئًا، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه، وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه. وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]. وفاة عمر بن عبد العزيز: لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ أبشر فقد أحيا الله بك سننًا وأظهر بك عدلاً! فبكى ثم قال: أليس أُوقف فأُسال عن أمر هذا الخلق، فوالله لو عدلت فيهم لخفت

وفاة هارون الرشيد

على نفسي ألا تقوم بحجتها بين يدي الله إلا أن يلقنها الله حجتها، فكيف بكثير مما ضيعناه، وفاضت عيناه. ولما قرب موته، قال: أجلسوني! فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت. ونهيتني فعصيت ثلاث مرات. وفاة هارون الرشيد: حكى عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند موته، وكان ينظر إليها ويقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه. وفاة المأمون: قال المأمون عندما حضرته المنية: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. وفاة ابن المنكدر: لما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكني أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم. وفاة عامر في عبد القيس: لما حضرت عامر بن عبد القيس الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكني أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء. وفاة الجنيد: قيل للجنيد: قل لا إله إلا الله. قال: ما نسيته فاذكره. قال الجريري واصفًا وفاة الإمام الجنيد: كنت واقفًا على رأس "الجنيد" في وقت وفاته وهو يقرأ القرآن فقلت له: ارفق بنفسك. فقال لي: يا أبا محمد، أرأيت أحدًا أحوج إليه مني في هذا الوقت، وها أنا ذا تطوى

وفاة أحد التابعين

صحيفتي وكان قد ختم القرآن الكريم ثم بدأ بالبقرة فقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله. وفاة أحد التابعين: أحد التابعين وهو يموت قال: وضئوني ثم نسوا خلخلة الماء في لحيته، وهي سنة، فقال: انتظروا وأتوني بالماء، وخلل الماء في لحيته ليحافظ على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل لبعض الصالحين عند موته: ما يبكيك؟ قال: إنما يتقبل الله من المتقين. وفاة أثناء السجود: توفى أبو الحسن علي بن مسلم بن محمد الفقيه وهو ساجد في صلاة الفجر في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. احرص على كثرة السجود لعل الله يكرمك فتموت بعدها أو خلالها. وفاة أثناء الصيام: قال أبو إسحاق النيسابوري لابنه إسحاق حين وفاته: يا إسحاق، ارفع الستر. قال: يا أبت الستر مرفوع. قال: أنا عطشان، فجاءه بماء. قال: غابت الشمس؟ قال: لا، قال: فردوه ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت روحه. احرص على صيام النوافل أحس باقتراب أجله روى أن أحد الصالحين حين أحس بدنو أجله قام فاغتسل وتطيب وصلى ركعتين، وما هي إلا برهة حتى دخلوا عليه فوجدوه قد مات مستقبل القبلة، وعند رأسه ورقة كتب فيها هذه الأبيات: قل لإخوان رأوني ميتًا ... فبكوني ورثوني حزنا أتظنون بأني ميتكم؟ ... ليس هذا الميت والله أنا أنا في الصور وهذا جسدي ... كان ثوبي وقميصي زمنا أنا عصفور وهذا قفصي ... طرت عنه وبقى مرتهنا أحمد الله الذي خلصني ... وبنى لي في المعالي سكنا لا تظنوا الموت موتًا ... إنه ليس إلا نقلة من ها هنا!

وفاة محمد في واسع

قال يونس بن محمد المؤدب: مات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد. رحم الله من كانت خاتمته في الصلاة في المسجد. وفاة محمد في واسع: لما مرض محمد بن واسع الأزدي مرض الموت، تكاثر الناس على عيادته حتى غص منزله بالداخلين عليه والخارجين، والقائمين في منزله والقاعدين، فمال بشقه على أحد خواصه وقال: أخبرني ما يغني عني هؤلاء إذا أخذنا غدًا بالنواصي والأقدام؟ وما ينفعوني إذا ألقيت في النار؟ ثم أقبل على ربه وجعل يقول: اللهم إني أستغفرك من كل مقام سوء قمته، ومن كل مقعد سوء قعدته، ومن كل مدخل سوء دخلته، ومن كل مخرج سوء خرجته، ومن كل عمل سوء عملته، ومن كل قول سوء قلته، اللهم إني أستغفرك من ذلك كله، فاغفره لي وأتوب لك منه، فتُبْ عليَّ، وألقى إليك السلام قبل أن يكون لزامًا، ثم فاضت روحه. خاتمة الصالحين: أبو شامة صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، توضأ ثم تشهد وهو جالس، وقال: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، لقنني الله حجتي وأقال عثرتي ورحم غربتي. ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتا. وقال أحدهم عند موته: يا سيدي أمهلني، أنا مأمور وأنتم مأمورون، ثم سمع المؤذن للعصر، فقلت: يا سيدي المؤذن يؤذن، فقال: اجلسوني، فجلس فأحرم بالصلاة، ووضع يده على الأخرى وصلى، ثم توفى من ساعته. وهذا الربيع بن زياد يتولى أمر خراسان بأمر معاوية بن أبي سفيان، وهو غير منشرح الصدر، وبعد إحدى المعارك يرسل إليه زياد بن أبيه أحد ولاة بني أمية كتابًا يقول: إن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان يأمرك أن تستبقي الأصفر والأبيض من غنائم الحرب لبيت مال المسلمين، وتقسم ما سوى ذلك بين المجاهدين. فكتب إليه يقول: إني وجدت كتاب الله عز وجل يأمر بغير ما أمرتني به على لسان أمير المؤمنين، ثم نادى في الناس: أن اغدوا على غنائمكم فخذوها، ثم أرسل الخمس إلى دار الخلافة في "دمشق".

ولما كان يوم الجمعة الذي تلا وصول هذا الكتاب، خرج الربيع بن زياد إلى الصلاة في ثياب بيض، وخطب الناس خطبة الجمعة، ثم قال: أيها الناس إني قد مللت الحياة، وإني داع بدعوة، فأمنوا على دعائي، ثم قال: اللهم إن كنت تريد بي خيرًا فاقبضني إليك عاجلاً غير آجل، فأمن الناس على دعائه، فلم تغب شمس ذلك اليوم حتى لحق الربيع ابن زياد بجوار ربه. وها هو الشيخ أحمد ياسين استشهد بعد أداء صلاة الفجر في المسجد جماعة بالرغم من مرضه الشديد والشلل الكامل، وهكذا رزقه الله حسن الخاتمة. وفي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة خرج السلطان مظفر الحليم الكجراتي على مصلى العيد للاستسقاء وتصدق، وتفقد ذوي الحاجة على طبقاتهم، وسألهم الدعاء، ثم تقدم للصلاة، وكان آخر ما دعا به: اللهم إني عبدك ولا أملك لنفسي شيئًا، فإن تكن ذنوبي حبست القطر عن خلقك فهذه ناصيتي بيدك! فأغثنا يا أرحم الراحمين، قال هذا ووضع جبهته على الأرض واستمر ساجدًا يكرر قوله: يا أرحم الراحمين، فما رفع رأسه إلا وهاجت ريح، ونشأت بحرية ببرق ورعد ومطر، ثم سجد لله شكرًا، ورجع من صلاته بدعاء الخلق له وهو يتصدق بالمال يمينًا وشمالاً. وكان رحمه الله يقول: نظرت فيما أوثر به أولي الاستحقاق من الإنفاق، فإذا أنا بين إفراط في صرف بيت المال وتفريط في منع أهله، فلم أدر إذا سئلت عنهما بم أجيب. وفي آخر أيامه وكان يوم الجمعة قال: أما صلاة الظهر فأصليها عندكم، وأما صلاة العصر فعند ربي في الجنة إن شاء الله تعالى، ثم أذن للحاضرين في صلاة الجمعة واستدعى مصلاه وصلى، ودعا الله سبحانه بوجه مقبل عليه وقلب منيب إليه، دعاء من هو مفارق القصر مشرف على القبر، ثم كان آخر دعائه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقام من مصلاه وهو يقول: أستودعك الله، واضطجع على سريره وهو مجتمع الحواس ووجهه يلتفت إلى القبلة وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفاضت نفسه والخطيب على المنبر يدعو له، وفي ذلك عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد (¬1). ¬

_ (¬1) من يظلهم الله: (1/ 226).

سوء الخاتمة

سوء الخاتمة عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان! فقال الرسول: "أما إنه من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه .. قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على نفسه، فقتل نفسه، فخرج الرجل رفيقه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال الرسول: "ما ذاك" قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وقد ارتد عن الإسلام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض من آمن، ومنهم عبيد الله بن جحش، الذي أسلم وهاجر إلى الحبشة مع أوائل من هاجروا، فارتد عن دينه، وتنصر ومات على نصرانيته. وربيعة بن أمية بن خلف وكان من عداد الصحابة، ثم شرب الخمر فحده عمر ثم نفاه إلى خيبر، ففر هاربًا إلى هرقل، وارتد عن دينه ودخل في النصرانية. وفاة مرتد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رجل نصرانيًا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعاد نصرانيًا فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه. فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه. [البخاري ومسلم].

خاتمة عبيد الله بن جحش

خاتمة عبيد الله بن جحش تقول أم المؤمنين أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه، ففزعت، فقلت: تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة، إني نظرت في الدين فلم أر دينًا خيرًا من النصرانية. فقلت: والله ما خير لك، وأخبرته بالرؤيا التي رأت له، فلم يحفل بها، وأكب على الخمر حتى مات، فأُري في النوم كان آتيًا يقول: يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله يتزوجني. وفاة العصاة قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: أنا كافر بما تقول ثم مات على ذلك. قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر. قيل لآخر: قل لا إله إلا الله فجعل يغني. ومن سنوات جرت حادثة في القصيم بالسعودية، وحاصلها أن رجلاً في حال احتضاره ظهر عليه من الاعتراض على ربه ما ظهر، فجاء بعض أصحابه ممن كان يصلي معهم في المسجد والله أعلم بما في القلوب، وقال: يا عبد الله، هذا المصحف الذي كنت تقرأ فيه، فاتق الله في نفسك، ولقنه كلمة التوحيد، فقال: أنا كافر بالمصحف وبلا إله إلا الله، وختم له على ذلك الحال. وفاة الزناة يقول راوي القصة: صحبنا على ظهر سفينة نجول بها حول البلدان طلبًا للرزق شاب صالح، نقي السريرة، طيب الخلق، كنا نرى التقوى في قسمات وجهه، والنور والبشر يرتسمان على محياه، لا تراه إلا متوضئًا مصليًا، أو ناصحًا مرشدًا، وإن حانت الصلاة أذن لنا وصلى بنا، فإن تخلف أحد عنها أو تأخر عاتبه وأرشده. وألقى بنا البحر إلى جزيرة من جزر الهند فنزلنا إليها، وكان مما تعود عليه البحارة أن يستقروا أيامًا يرتاحون فيه، ويستجمون بعد عناء السفر الطويل، يتجولون في أسواق

المدينة ليشتروا أغرب ما يجدون فيها لأهلهم وأبنائهم ثم يرجعون إلى السفينة في الليل، وكان منهم نفر ممن وقع في الضلال، يتيم بأماكن اللهو والهوى ومحال الفجور والبغاء، وكان ذلك الشاب الصالح لا ينزل من السفينة أبدا، بل يقضي هذه الأيام يصلح في السفينة ما احتاج منها إلى إصلاح، فيفتل الحبال ويلفها، ويقدم الأخشاب ويشدها ويشتغل بالذكر والقرآن والصلاة وعينه ترقرق بالدموع وتنحدر على لحيته. وفي إحدى السفرات وبينما كان الشاب منشغلاً بأعماله تلك إذا بصاحب له في السفينة ممن اتبع نفسه هواها وانشغل بطالح الأمور عن صالحها، وبسافل الأخلاق عن عاليها يهامسه ويقول: صاحي، لم أنت جالس في السفينة لا تفارقها؟ لم لا تنزل حتى ترى دنيا غير دنياك؟ ترى ما يشرح الخاطر ويؤنس النفس! أنا لم أقل لك تعال إلى أماكن البغاء وسخط الله، ولا إلى البارات وغضب الله، هيهات يا صاحبي، لكن تعال؛ فانظر إلى مُلاعب الثعابين كيف يتلاعب بها ولا يخافها، وإلى راكب الفيل كيف يجعل من خرطومه له سلمًا ثم يصعد برجليه ويديه حتى يقيمه على رجل واحدة، وآه لو رأيت من يمشي على المسامير أنى له الصبر، ومن يلقم الجمر كأنما هو تمر، ومن يشرب ماء البحر فيسيغه كما يسيغ الماء الفرات، يا أخي انزل وانظر الناس! فتحركت نفس الشاب شوقًا لما سمع، فقال: وهل في هذه الدنيا ما تقول. قال صاحب السوء: نعم، وفي هذه الجزيرة، فانزل تَرَ ما يسرك، ونزل الشاب الصالح مع صاحبه، وتجولا في أسواق المدينة وشوارعها حتى دخل به إلى طرق صغيرة ضيقة، فانتهى بهما الطريق إلى بيت صغير فدخل الرجل البيت وطلب من الشاب أن ينتظره وقال: سآتيك بعد قليل ولكن! إياك إياك أن تقترب من الدار. جلس الشاب بعيدًا عن الباب يقطع الوقت قراءة وذكرًا، وفجأة إذا به يسمع قهقهة عالية ليفتح الباب وتخرج منه امرأة قد خلعت جلباب الحياء والمروءة، أواه إنه الباب نفسه الذي دخل فيه الرجل. تحركت نفس الرجل فدنا من الباب ويصيخ سمعه لما يدور في البيت، إذا به يسمع صيح أخرى، فنظر من شق الباب ويتبع النظر أختها لتتواصل النظرات منه وتتوالى، وهو يرى شيئًا لم يألفه ولم يره من قبل، ثم رجع إلى مكانه ولما خرج صاحبه بادره الشاب مستنكرًا: ما هذا؟! ويحك، هذا أمر يغضب الله ولا يرضيه.

فقال الرجل: اسكت يا أعمى يا مغفل، هذا أمر لا يعنيك. ورجعا إلى السفينة في ساعة متأخرة من الليل، وبقى الشاب ساهرًا ليلته تلك، مشتغل الفكر فيما رآه، قد استحكم سهم الشيطان من قلبه، وامتلكت النظرة زمام فؤاده، فما إن بزغ الفجر وأصبح الصباح حتى كان أول نازل من السفينة، وما في باله إلا أن ينظر فقط، ولا شيء غير أن ينظر، وذهب إلى ذلك المكان، فما أن نظر نظرته الأولى وأتبعها الثانية، حتى فتح الباب وقضى اليوم كله هناك، واليوم الذي بعده كذلك، فافتقده ربان السفينة وسأله عنه: أين المؤذن؟ أين إمامنا في الصلاة؟ أين ذلك الشاب الصالح، فلم يجبه من البحارة أحد، فأمرهم أن يتفرقوا للبحث عنه فوصل إلى علم الربان ممن ذهب به إلى ذلك المكان فأحضره وزجره وقال له: ألا تتقي الله؟ ألا تخشى عقابه؟ عجل اذهب فأحضره، فذهب إليه مرة دون مرة ولكن دون جدوى، فلم يستطع إحضاره لأنه كان يرفض ويأبى الرجوع معهم، فلم يكن من قائد السفينة إلا أن أمر عدة رجال أن يحضروه قسرًا، فسحبوه بالقوة وحملوه إلى السفينة. وأبحرت السفينة راجعة إلى البلاد ومضى البحارة إلى أعمالهم، وأخذ ذلك الشاب في زاوية من السفينة يبكي ويئن حتى لتكاد نياط قلبه أن تتقطع من شدة البكاء، ويقدمون له الطعام فلا يأكل، وبقى على حاله البائسة هذه بضعة أيام، وفي ليلة من الليالي ازداد بكاؤه ونحيبه، ولم يستطع أحد من أهل السفينة أن ينام، فجاءه ربان السفينة وقال له: يا هذا اتق الله، ماذا أصابك؟ لقد أقلقنا أنينك فما نستطيع أن ننام، ويحك ما الذي بدل حالك؟ ويلك ما الذي دهاك؟ فرد عليه الشاب وهو يتحسر: دعني فإنك لا تدري ما الذي أصابني؟ فقال الربان: وما الذي أصابك؟ عند ذلك كشف الشاب عن عورته، وإذا الدود يتساقط من سوأته، فأنزعج ربان السفينة وارتعش لما رأى وقال: أعوذ بالله من هذا، وقام عنه الربان، وقبيل الفجر قام أهل السفينة على صيحة مدوية أيقظتهم وذهبوا إلى مصدرها فوجدوا ذلك الشاب قد مات وهو ممسك خشب السفينة بأسنانه، استرجع القوم وسألوا الله حسن الخاتمة، وبقيت قصة هذا الشاب عبرة لمن يعتبر.

وفاة أليمة

وفاة أليمة شاب كان يلهو مع أصدقائه فاكتشفوا أنهم نسوا الخمور، فقال لهم: أنا ذاهب لأحضرها، وتأخر كثيرًا، فذهب آخر فوجد الشاب في سكرات الموت بعد أن اصطدم بسيارته في حادث. ورجل على طائرة جاءته سكرات الموت، والراكب بجواره يقول له: قل لا إله إلا الله. فيرد عليه: هات الشنطة. فيقول ده: قل لا إله إلا الله فيكرر عليه نفس الرد، حتى صرخ فيه بعنف وقال له: قل لا إله إلا الله أنت تموت. قال: البتاعة دي مش عارف أقولها. وفاة مدخن قال محمد بن البرزنجي المدني الشافعي: رأيت من يشرب الدخان يقولون أمامه عند النزع أي عند الموت وخروج الروح: لا إله إلا الله. فيقول: هذا تتن حار!! والتتن: هو الدخان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أحسن ختامنا وتوفنا مسلمين (¬1). وعن محمد الفلاني المغربي: أن رجلاً في المدينة المنورة أخبره أن أخاه احتضر، فجعل يلقنه الشهادة، فقال له: يا أخي إن الملك أمسك بلسانك ويقول: لا أدعك تنطق بالشهادة، لأنك كنت تؤذيني بالتتن (السجائر). فاعمل أخي المدخن ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين (¬2). وفاة المفسدين في سنة 550 هـ كان أحمد بن الحريزي يعذب الناس بين يديه، يعلق الرجال بأرجلهم والنساء بأثدائهن، ويوميء إلى الجلاد: الرأس والوجه. فهذه هي أعماله السيئة، فقد كان في سباق إلى الشيطان، الذي يخطط له ويزين له ¬

_ (¬1) السيجارة مقبرة المدخنين: 34. (¬2) المصدر نفسه: 35.

أي موتة هذه؟

أعماله، فينفذ هذا الظالم تلك المخططات ويحسب أنه يحسن صنعًا، حتى توفي وفاة سيئة، وخسف الله بقبره. ودخل أحمد الحريزي الحمام فدخل عليه ثلاثة فضربوه بالسيف حتى قطعوه، فحمل إلى بغداد ودفن بها، فأصبح وقد خسف بقبره (¬1). أي موتة هذه؟ في الكويت كان شاب همه الكأس والغانية، ثم تطور حاله إلى الحشيش والمخدرات، فجاء اليوم الذي ودع فيه الحياة، فشرب في ذلك اليوم شربًا كثيرًا حتى سكر، فلم يكد يميز بين سماء أو أرض، وزاد في شربه حتى تناول المخدر، وأخذ يلتهم منه حتى تقيأ ما في بطنه كله، ومات بعد ذلك. فأي موتة هذه؟! (¬2) وجهه أسود شخصية كويتية دائمة السفر إلى بلاد جنوب آسيا كل صيف، وبالأخص إلى دولة "تايلاند" وقد كان متزوجًا ولديه أطفال، وعمره لم يناهز الثلاثين عامًا .. إلا أنه ما زال على عادته القديمة، لا يفكر إلا في شهوته وملذاته، سواء كانت في الحلال أم في الحرام .. لقد سافر من دولة الكويت ووجهه أبيض من بياض البيض، وكله شباب وقوة، وفي إحدى الليالي الساهرة هناك تعرف على راقصة عاهرة فرافقها إلى إحدى الشقق وكان بانتظاره "ملك الموت"، فما إن قرب منها وجاءت اللحظة الحاسمة. نادى المنادي: الرحيل .. الرحيل .. فقبضه ملك الموت ورجع إلى بلده محملاً بالتابوت، وفتح التابوت وإذا بالمفاجاة الكبرى .. وهي أن وجهه أصبح لونه أسود من سواد القار (¬3). وفاة تارك الصلاة قال أحد الفضلاء: كنا في رحلة دعوية إلى الأردن، وفي ذات يوم وقد صلينا الجمعة في أحد مساجد مدينة الزرقاء، وكان معنا بعض طلبة العلم، وعالم من الكويت، وبينما نحن جلوس في المسجد وقد انصرف الناس، إذا بقوم يدخلون باب المسجد بشكل غير ¬

_ (¬1) الوقت عمار أو دمار (2/ 88 - 89). (¬2) الوقت عمار أو دمار (2/ 90). (¬3) الوقت عمار أو دمار: (2/ 90، 91).

طبيعي، وهم يصيحون: أين الشيخ؟!! أين الشيخ؟!! وجاءوا إلى الشيخ الكويتي، فقالوا له: يا شيخ، عندنا شاب توفي صباح هذا اليوم عن طريق حادث مروري، وإننا عندما حفرنا قبره ووضعناه فيه إذا بنا نفاجأ بوجود ثعبان عظيم في القبر. ونحن الآن لم نضع الشاب وما ندري كيف نتصرف؟ يقول الراوي: فقام الشيخ وقمنا معه، وذهبنا إلى المقبرة، ونظرنا في القبر فوجدنا فيه ثعبانًا عظيمًا قد التوى رأسه من الداخل وذنبه من الخارج، عينه بارزة يطالع الناس. يقول الراوي: فقال الشيخ: دعوه، واحفروا له مكانًا آخر، يقول: فذهبنا إلى مكان آخر بعد القبر الأول بمائتين متر تقريبًا، فحفرناه، وبينما نحن في نهايته إذا بالثعبان يخرج، فقال الشيخ: انظروا القبر الأول، فذهبنا إلى الأول فإذا بالثعبان قد اخترق الأرض وخرج من القبر الأول مرة أخرى. قال الشيخ: لو حفرنا ثالثًا ورابعًا، سيخرج الثعبان، فما لنا حيلة إلا أن نحاول إخراجه. فجئنا بأسياخ وعصي فانحمل معنا، وخرج من القبر، وجلس على شفيره، والناس كلهم ينظرون إليه، وأصاب الناس ذعر وخوف، حتى إن بعضهم حصل له إغماء، فحملته سيارة الإسعاف. وحضر رجال الأمن ومنعوا الاتصال بالقبر إلا عن طريق العلماء وذوي الميت. يقول الراوي: وبينما جيء بالجنازة، وأدخلت القبر إذا بذلك الثعبان يتحرك حركة عظيمة ثار على أثرها الغبار، ثم دخل من أسفل القبر، فهرب الذين داخل القبر من شدة الخوف، والتوى الثعبان على ذلك الميت، بدأ من رجليه حتى وصل إلى رأسه، ثم اشتد عليه فحطمه، يقول الراوي: إنا كنا نسمع تحطيم عظامه كما تحطم حزمة الكراث. ثم لما هدأت العبرة وسكن الأمر جئنا لننظر في القبر، وإذا الحال كما هي عليه من تلوي ذلك الثعبان على الميت، وما استطعنا أن نفعل شيئًا، وقال الشيخ: اردموه، فدفناه، ثم ذهبنا إلى والده فسألناه عن حال ابنه الشاب؟ فقال: إنه كان طيبًا مطيعًا إلا أنه كان لا يصلي!! نعوذ بالله تعالى من سوء الخاتمة.

وفاة أثناء سماع الأغاني

وفاة أثناء سماع الأغاني قال الراوي: حدثني أحدهم قال: كنت مسافرًا في دراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كان شأني شأن كثير من الشباب الذين يقضون الليل في الملهى والرقص، وذات يوم كنا آيبين من لهونا وعبثنا، وتقدم بعضنا إلى الإسكان، أما واحد منا فقد استبطانأه وقلنا: لعله يأتي بعد سويعة، ولم نزل ننتظره لكنه لم يأت، فنزلنا نبحث عنه يمينًا وشمالاً، ثم قلنا أخيرًا: لابد أنه في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء، فدخلنا الموقف فوجدنا أن محرك السيارة ما زال مشتغلاً وصاحبنا ساكن لا يتحرك، والموسيقى لا تزال ترن منذ آخر الليل حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة، فتحنا الباب، ونادينا: يا أخانا، يا صاحبنا، فإذا به قد انقطع عن الدنيا منذ اللحظة التي وقفت فيها سيارته في ذلك الموقف، وكانت هذه النهاية المحزنة لذلك الشاب قد أشعلت في قلوب الكثير من أولئك الشباب يقظة وتوبة وإنابة إلى الله تعالى، فعادوا إلى الله تائبين وما شربوا بعدها وما فجروا، بل استكانوا وأنابوا بفضل الله ثم بتدبرهم لحال صاحبهم الذي مات على معصية الله، وكانت نهايته موعظة لمن يريد الاتعاظ. وفاة في سجدة باطلة وها هو شاب من أولئك المنحرفين الذين كانوا يسافرون إلى "بانكوك" للفسق والدعارة، بينما كان في سكره وغيه ينتظر خليلته، وقد تأخرت عليه فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجدًا لها تعظيمًا، ولم ينهض من تلك السجدة الباطلة إلا وهو محمول على الأكتاف قد فارق الحياة، فنعوذ بالله من سوء الخاتمة. وفاة في المرقص وها هم أربعة من الشباب، كانوا يعملون في دائرة واحدة، مضت عليهم سنين وهم يجمعون رواتبهم، فإذا سمعوا ببلد يفعل الفجور طاروا إليه، وبينما هو في ذات يوم جالسين إذ سمعوا ببلاد لم يذهبوا إليها، وعقدوا العزم أن يجمعوا رواتبهم هذه المرة ليسافروا إلى تلك البلاد التي حددوها، وجاء وقت الرحلة وركبوا طائرتهم ومضوا إلى ما يريدون، ومر عليهم أكثر من أسبوع في تلك البلاد وهم بين زنا وخمور، وفعال لا ترضي الرحمن، بينما هم في ليلة من الليالي، وفي ساعة متأخرة من الليل، يجاهرون الله تعالى بالمعصية والفجور، نعم بينما هم في غمرة اللهو والمجون إذا بأحد الأربعة يسقط مغشيًا عليه، فيهرع إليه أصحابه الثلاثة فيقول

سوء خاتمة رجل عاص

له أحدهم في تلك الليلة الحمراء، يقول له: يا أخي قل: لا إله إلا الله، فيرد عليه الشاب -عياذًا بالله- إليك عني، زدني كأس الخمر، تعالي يا فلانة، ثم فاضت روحه إلى الله على تلك الحال السيئة، نسأل الله تعالى السلامة والعافية. ثم كان حال الثلاثة الآخرين لما رأوا صاحبهم وما آل إليه أمره أنهم أخذوا يبكون، وخرجوا من المرقص تائبين، وجهزوا صاحبهم، وعادوا به إلا بلاده محمولاً في تابوت، ولما وصلوا المطار فتحوا التابوت ليتأكدوا من جثته، فلما نظروا إلى وجهه فإذا عليه كدرة وسواد. سوء خاتمة رجل عاص كان يقف رجل بإزاء داره، وكان باب داره يواجه باب الحمام، فمرت جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب. فدخلت الدار، ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه خدعها أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا. فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع، فوجدها قد خرجت وذهبت، ولم تخنه في شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي ويقول: يا رب قائلة يومًا وقد تعبت ... كيف الطريق إلى حمام منجاب فبينما هو يقول ذلك إذا بجارية أجابته: هلا جعلت سريعًا إذ ظفرت بها ... حرزًا على الدار أو قفلاً على الباب فازداد هيمانه واشتد، ولم يزل على ذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا، فعندما أتاه ملك الموت قيل له: قل: لا إله إلا الله، جعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب (¬1). نعوذ بالله من سوء الخاتمة ذكر ابن الجوزي: أن عبده بن عبد الرحيم كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة ¬

_ (¬1) الداء والدواء: 200 - 201.

عاقبة تأخير الصلاة

من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر، وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما أراع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم مشقة عظيمة، فما كان بعد مدة مروا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان، ما فعل القرآن معك؟! ما فعل صيامك؟! ما فعلت صلاتك؟! ما فعل قرآنك؟! ما فعل علمك؟! ما فعل جهادك؟! فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} [الحجر: 2 - 3]. وقد صار لي فيهم مال وولد!! توفي ذلك المرتد القبيح في سنة ثمان وسبعين ومائتين. عاقبة تأخير الصلاة يروي عمار بن دينار فيقول: كان رجل من أهل المدينة له أخت فماتت، فجهزها وحملها إلى قبرها، فلما دفنت ورجع إلى أهله، تذكر أنه نسى كيسًا كان معه في القبر، فاستعان برجل من أصحابه، فأتيا القبر، فنبشاه، فوجدا الكيس. فقال للرجل: تنح حتى أنظر على أي حال أختي؟ فرفع بعض ما على اللحد، فإذا القبر يشتعل نارًا، فرده، وسوى القبر، ورجع إلى أمه، فسألها عن حال أخته، فقالت: كانت تؤخر الصلاة عن وقتها، ولا تصلي فيما أظن بوضوء، وتأتي أبواب الجيران فلتقم أذنها أبوابهم، فتخرج حديثهم (¬1). احذر تأخير الصلاة عن وقتها، وخاصة صلاة الفجر. أهوال يوم القيامة يقول الغزالي في الإحياء: تفكر في ازدحام الخلائق واجتماعهم، حتى ازدحم على الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع من ملك وجن وشيطان ووحش وسبع وطير، فأشرقت عليهم الشمس وقد تضاعف حرها، وتبدلت عما كانت عليه من خفة ¬

_ (¬1) الكبائر: 23.

أرض المحشر

أمرها، ثم أدنيت من رءوس العالمين كقاب قوسين، فلم يبق على الأرض ظل إلا ظل رب العالمين، ولم يمكن من الاستظلال به إلا المقربون، فمن بين مستظل بالعرش وبين مضح لحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وغمه من وهجها، ثم تدافعت الخلائق ودفع بعضهم بعضًا لشدة الزحام واختلاف الأقدام، وانضاف إليه شدة الخجلة والحياء من الافتضاح والاختزاء عند العرض على جبار السماء، فاجتمع وهج الشمس وحر الأنفاس واحتراق القلوب بنار الحياء والخوف، ففاض العرق من أصل كل شعرة حتى سأل على صعيد القيامة، ثم ارتفع على أبدانهم على قدر منازلهم عند الله، فبعضهم بلغ العرق ركبتيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، وبعضهم يكاد يغيب فيه، قال ابن عمر: قال رسول الله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين، حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" (¬1)، وقال أبو هريرة: قال رسول الله: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين باعًا ويلجمهم ويبلغ أذقنهم (¬2) " ... واعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله -من حج وجهاد وصيام وقيام وقضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة في أمر بمعروف ونهي عن منكر- فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة ويطول فيه الكرب. ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرور لعلم أن تعب العرق في تحمل مصاعب الطاعات أهون أمرًا وأقصر زمانًا من عرق الكرب والانتظار في القيامة، فإنه يوم عظيمة شدته، طويلة مدته. أرض المحشر انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة على أرض بيضاء قاع صفصف، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 105 - 107]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها معلم لأحد" (¬3) وعفراء: بياضها غير ناصع، وقوله: كقرص النقي: أي النقي عن القشر والنخالة، والمعلم: هو البناء. ¬

_ (¬1) الكبائر: 23. (¬2) البخاري: 6532. (¬3) مسلم (17/ 134) صفة القيامة.

الحساب

من أسماء يوم القيامة: يوم القيامة ويوم الحسرة ويوم الزلزلة ويوم الواقعة ويوم القارعة ويوم الغاشية ويوم الراجفة ويوم الطامة ويوم الصاخة ويوم التلاق ويوم الجزاء ويوم الوعيد ويوم العرض ويوم الفصل و ... الحساب قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (¬1). الميزان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، تم يقول: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فيقول: أحضروه فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم" (¬2). الصراط قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: 85 - 86] من استقام في الدنيا على الصراط المستقيم خف على صراط الآخرة ونجا، ومن ثقلت أوزاره في الدنيا فسوف يتعثر على الصراط في الآخرة، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً! يا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً! يا ليتني كنت نسيًا منسيًا! ليت أمي لم تلدني. فتذكر هذه الأهوال واستعد لها من الآن. ... ¬

_ (¬1) مسلم (16/ 132). (¬2) الترمذي (10/ 107).

المراجع

المراجع القرآن وعلومه: 1) القرآن الكريم. 2) صفوة التفاسير- محمد علي الصابوني- دار الصابوني- الطبعة الأولى 1997. 3) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم- محمد فؤاد عبد الباقي- دار المعرفة بيروت- الطبعة الرابعة 1994. 4) المفردات في غريب القرآن- الأصفهاني- دار المعرفة بيروت- الطبعة الثانية 1999. هـ) تفسير القرآن العظيم- ابن كثير- مكتبة الصنادقية. 6) الجامع لأحكام القرآن- القرطبي- دار القلم. 7) في ظلال القرآن الكريم- سيد قطب- دار الشروق- الطبعة الرابعة والعشرون 1995. 8) التصوير الفني في القرآن- سيد قطب- دار الشروق- الطبعة العاشرة 1988. 9) تفسير سورة النور- المودودي- دار الاعتصام. 10) كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ - القرضاوي- دار الشروق- الطبعة الثالثة 2000. السنة وعلومها: 11) صحيح مسلم- النووي- المطابع الأميرية- 1996. 12) جامع العلوم والحكم- ابن رجب الحنبلي- دار التوزيع والنشر الإسلامية-1998. 13) إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية- محمد تاتاي- دار الوفاء- الطبعة الأولى 1998. 14) الأحاديث القدسية- المكتبة التوفيقية. 15) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين- محمد الشافعي- دار الفكر. 16) توجيهات نبوية- السيد محمد نوح- دار الوفاء- الطبعة التاسعة 1995. 17) رياض الصالحين- النووي- مكتبة الصنادقية. 18) الإعجاز العلمي في السنة النبوية- زغلول النجار- الطبعة الثالثة 2004. التاريخ السير والتراجم: 19) البداية والنهاية- ابن كثير- دار المنار- الطبعة الأولي 2001. 20) سير أعلام النبلاء- الإمام الذهبي- مكتبة الصفا- الطبعة الأولي 2003. 21) مائه موقف من حياة العظماء- محمد سعيد مرسي، قاسم عبد الله- دار اقرأ- الطبعة الأولي 2003. 22) كبرى المعارك والفتوحات الإسلامية- محمد سعيد مرسي- دار اقرأ- الطبعة الأولي 2003. 23) عظماء الإسلام- محمد سعيد مرسي- دار اقرأ- 2003. 24) كل شيء عن اليهود- محمد سعيد مرسي- دار اقرأ- 2003. 25) عبقرية عمر- العقاد- دار الشعب.

26) صور من حياة التابعين- عبد الرحمن رأفت الباشا- دار الأدب الإسلامي- الطبعة الخامسة عشرة -1997. 27) الرحيق المختوم- صفي الرحمن المباركفوري- الإيمان- الطبعة الأولي-1993. 28) السيرة النبوية- طى محمد الصلابي- دار الإيمان 2002. 29) أبو بكر الصديق- على محمد الصلابي- دار الإيمان-2002. 30) عمر بن الخطاب- على محمد الصلابي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولي- 2002. 31) عثمان بن عفان- على محمد الصلابي- دار الإيمان- 2002. 32) على بن أبي طالب- على محمد الصلابي- دار الفجر- الطبعة الأولى- 2004. 33) الحركة السنوسية في ليبيا- علي محمد الصلابي- دار الإيمان- 2004. 34) الدولة العثمانية- على محمد الصلابي- دار الإيمان- 2003. 35) قصص الأنبياء- محمد بكر إسماعيل- دار المنار- الطبعة الثانية 1997. 36) قصص الأنبياء- حسن أيوب- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 1997. 37) من ذاكرة الأمة- محمود سمير المنير- زهرة المدائن- الطبعة الأولى 2001. 38) رجال حول الرسول- خالد محمد خالد- دار المقطم- الطبعة الأولى 2003. 39) وقفات تربوية مع السيرة النبوية- أحمد فريد- المكتبة التوفيقية- 2000. 40) زاد المعاد في هدي خير العباد- ابن القيم- المكتبة القيمة. 41) أعلام النبوة- الماوردي- دار الفرجاني. 42) الانتصارات العربية العظمي في صدر الإسلام- محمد عبد الحليم أبو غزالة-1983. 43) صفة الصفوة- ابن الجوزي- دار ابن خلدون- الأولي- 1994. 44) ليس لليهود حق في فلسطين- جمال عبد الهادي، وفاء محمد رفعت- دار الوفاء. 45) الطريق إلي بيت المقدس (القضية الفلسطينية) - جمال عبد الهادي- وفاء محمد رفعت- دار التوزيع والنشر- الثانية- 2001. 46) فتح مصر- جمال عبد الهادي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 1999. 47) إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصا- أحمد رمضان أحمد- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1984. 48) الثمار والرياحين في قصص القرآن الكريم- أحمد بن محمد طاحون- دار هجر- الأولى 2001. 49) الثلاثون المبشرون بالجنة- مصطفي مراد- دار الفجر- الأولي 1999. 50) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ- إبراهيم شعوط- 1403 هـ. 51) مسلمون ثوار- محمد عمارة- دار الشروق- الطبعة الثالثة 1988. 52) الرسول- سعيد حوى- مكتبة وهبة. 53) قصص القرآن- سعد يوسف- دار الفجر- الطبعة الأولى- 1999. 54) فقه السيرة- محمد سعيد البوطي- دار الفكر- الطبعة السابعة- 1978. 55) السيرة النبوية- مصطفي السباعي- دار السلام- الطبعة الخامسة 2004.

تزكية وأخلاق وعقائد

56) هؤلاء أنزل الله فيهم قرآنا- حازم إسماعيل السيد- دار التقوي- الطبعة الأولى- 2001. 57) صلاح الدين الأيوبي- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الطبعة الثانية عشرة- 2002. 58) أعلام المسلمين- أطفالنا- 1998. 59) حياة الصحابة- حلمي عبد المنعم صابر. 60) سيدنا يوسف- عمرو خالد- دار أريج- الطبعة الأولى 2003. 61) فتح القسطنطينية- فتحي شهاب الدين- دار البشير- الأولى 1998. 62) عين جالوت- فتحي شهاب الدين- دار البشير- الأولى 1998. 63) فلسطين والقلب- أسامة جادو-2002. 64) القدس- عبد الحميد الكاتب- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1998. 65) رجال من التاريخ- على الطنطاوي- دار البشير- الطبعة الأولى 1998. 66) أبو حنيفة النعمان- حمزة النشرتي، عبد الحفيظ فرغلي، عبد الحميد مصطفى- المكتبة القيمة. 67) عمر بن عبد العزيز- القرضاوي- مكتبة وهبة- الأولى 2001. 68) حسن الهضيبي المرشد الثاني- نبيه عبد ربه- دار الضياء الأردن- الطبعة الأولى 1987. 69) الإسلام والداعية- أسعد سيد أحمد- دار الأنصاري بالقاهرة- الطبعة الأولى 1977. 70) الإخوان السلمون في حرب فلسطين- كامل الشريف ومصطفي السباعي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 1986. 71) من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة- المستشار عبد الله العقيل- مكتبة المنار الإسلامية- الطبعة الأولى 2001. 72) مذكرات الشهيد الدكتور الرنتيسي- عامر شماخ- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2004. 73) شهيد أيقظ أمة- عامر شماخ- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2004. 74) معارك الرسول مع اليهود- محمد على قطب- دار السيرة- الأولى 1984. تزكية وأخلاق وعقائد: 75) أسباب الرزق الحلال- محمود المصري- أولاد الشيخ. 76) مواقف من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين- محمود المصري- دار التقوى- 2000. 77) قصص وعبر- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الأولى 2002. 78) الطريق إلى حسن الخاتمة- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الأولى 2001. 79) اقتربت الساعة- محمود المصري- أولاد الشيخ- الأولى 1999. 80) قلب موصول بحب الرسول- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الطبعة الأولى 2004. 81) هل تريد بيتًا في الجنة؟ - محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الطبعة الأولى 2001. 82) تذكير الأمة المنصورة بالسنن المهجورة- محمود المصري- الطبعة الأولى 2001. 83) الوقت هو الحياة- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الطبعة الأولى- 2003.

84) 40 صفة ممن أخلاق النبي- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الطبعة الأولى 03 20. 85) في التكوين الفردي من خلال ركن العمل- محمد عبد الله الخطيب- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 1993. 86) القائد والمربي- محمد عبد الله الخطيب- دار المنار- طبعة 2003. 87) الشورى في الإسلام- محمد عبد الله الخطيب- دار التوزيع والنشر الإسلامية- طبعة 1999. 88) من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- محمد عبد الله الخطيب- دار المنار. 89) بحر الدموع- ابن الجوزي- مكتبة الإيمان. 90) المدهش- ابن الجوزي- المكتبة التوفيقية. 91) صيد الخاطر- ابن الجوزي- دار الفجر- الطبعة الأولى 2003. 92) المواعظ والمجالس- ابن الجوزي- مكتبة الإيمان- الطبعة الأولى 1986. 93) دمعة تائب- إبراهيم الدويش- مكتبة العلم- الطبعة الأولى 2003. 94) عندما ينطق الحجر- إبراهيم الدويش- مكتبة العلم 2002. 95) روائع الأسحار- إبراهيم الدويش- مكتبة العلم. 96) اتهم نفسك - إبراهيم الدويش- مكتبة العلم- الطبعة الأولى 2002. 97) الأماني والمنون- إبراهيم الدويش- مكتبة العلم 2002. 98) حين يجد المؤمن حلاوة الإيمان- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الثانية عشرة 2002. 99) دور الشباب في حمل رسالة الإسلام- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الطبعة الرابعة 1992. 100) الإسلام شريعة الزمان والمكان- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الطبعة السادسة 2002. 101) محاضرة تكون الشخصية الإنسانية عبد الله ناصح علوان دار السلام الطبعة السادسة 1996. 102) الأخوة الإسلامية- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- السادسة 1997. 103) حتى يعلم الشباب- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الطبعة التاسعة 1998. 104) الصبر والثبات على الطريق- أحمد جاد- زهرة المدائن- الطبعة الأولى 2002. 105) الطريق إلى الربانية- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 106) فقه الأولويات في الإسلام- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 1994. 107) ركائز الدعوة- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الثانية 1995. 108) حطم صنمك- مجدي الهلالي- دار اقرأ- 2004. 109) رسالة إلى أخي في الله- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر والإسلامية- 1993. 110) العودة إلى القرآن- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 111) الإيمان أولا- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية 2000. 112) أضواء على طريق الدعوة- مجدي الهلالي- دار البشير- 1990. 113) هلموا إلى ربكم- مجدي الهلالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2004.

114) الإيمان والحياة- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الثالثة عشرة 2002. 115) شمول الإسلام- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الثالثة 2003. 116) أولويات الحركة الإسلامية- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الرابعة 1992. 117) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام- مكتبة وهبة- الطبعة السادسة 1995. 118) الإسلام والفن- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1996. 119) حقيقة التوحيد- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة السابعة 1998. 120) المبشرات بانتصار الإسلام- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1996. 121) ظاهرة الغلو في التكفير- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الثالثة 1990. 22 1) أين الخلل؟ - القرضاوي- دار الرسالة- الطبعة السابعة 1993. 123) الرسول والعلم- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1999. 124) الحياة الربانية والعلم- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1995. 125) ملامح المجتمع المسلم- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1993. 126) مكانة المرأة في الإسلام- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1996. 127) الثقافة العربية والإسلامية بين الأصالة والمعاصرة- القرضاوي- مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1994. 128) العبادة في الإسلام- القرضاوي- مكتب وهبة- الطبعة الرابعة والعشرون 1995. 129) حول ركن الإخلاص- القرضاوي- دار التوزيع والنشر الإسلامية 1993. 130) حكمة الابتلاء- ابن القم- دار السلام- الطبعة الثانية 1984. 131) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين- ابن القيم- دار القلم. 132) الفوائد- ابن القيم- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2000. 133) كتاب الروح- ابن القيم- دار الفجر- الطبعة الأولى 1999. 134) الداء والدواء- ابن القيم- دار التقوى- الطبعة الأولى 2003. 135) مدارج السالكين- ابن القيم- دار الفجر. 136) ذم الهوى واتباعه- ابن القيم- دار ابن المبارك. 137) إغاثة اللهفان- ابن القيم- مكتبة الصفا- الطبعة الأولى 2001. 138) إيقاظ الغافلين- خالد عبد المعطي- مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة- 2004. 139) مواقف بكى فيها الرسول والصحابة- مجدي محمد الشهاوي- المكتبة التوفيقية. 140) الزيارة- اعتماد زغلول- سما للنشر- الأولى 1999. 141) التوهم- الحارث المحاسي- مكتبة القدس- الأولى- 1994. 142) باطن الإثم- محمد سعيد البوطي- دار الأسماء. 143) 33 سببًا للخشوع في الصلاة- محمد صالح المنجد. 144) مفهوم الحكمة في الدعوة- صالح بن عبد الله. 145) فضل الجهاد والمجاهدين- ابن باز- 1411 هـ.

146) أخلاقنا- وحيد الدين خان- الأولى 1992. 147) الإنفاق وأثره في بناء شخصية المسلم- أحمد عبد الخالق- القادسية- الأولى 2000. 48 1) قضية التوحيد- الحبر يوسف- دار النذير- الأولى 1987. 149) الخائفون من الإسلام لماذا؟ - محمد نعيم ياسين- دار الوفاء- الرابعة 1992. 150) من معجزات النبي- مصطفي العدوى- مكتبة الإيمان. 151) الله والعلم الحديث- عبد الرازق نوفل- الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998. 152) الجهاد الاقتصادي- حسين شحاتة- الطبعة الثالثة 2002. 153) شرعية العمل الجماعي- عصام البشير- دار النذير- الطبعة الأولى 1990. 154) الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية- صادق أمين- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 155) كيف تدير وقتك؟ - صلاح الدين محمود. 156) العائدون إلى الله- محمد بن عبد العزيز المسند- الطبعة الأولى 1412 هـ. 157) التفكير فريضة إسلامية- العقاد- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1998. 158) التدخين بين الطب والقرآن والسنة- محمد السيد أرناؤوط- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 159) المنطلق- محمد أحمد الراشد. 160) الدعاء المستجاب- أحمد عبد الجواد- مكتبة مصر. 161) صفات الداعية- زهرة المدائن- الأولى 1994. 162) على الطريق- على القرني- مكتبة أولاد الشيخ- الأولى 2000. 163) إدارة الأزمات الاقتصادية- حسين شحاتة- دار الكلمة- الأولى 2000. 164) الرشوة في ميزان الشريعة الإسلامية- حسين شحاتة- دار المنار- الطبعة الأولى 2002. 165) البعد الاقتصادي في حياة الرسول حسين شحاتة- دار الكلمة- الأولى 2002. 166) الاستدانة - عبد الخالق حسن الشريف- الأولى 2002. 167) الصدق- وجدي غنيم- دار المنار- الأولى 2000. 168) الأمانة- وجدي غنيم- دار المنار- 2002. 169) الوفاء- وجدي غنيم- دار المنار- 2002. 170) دعوة للتأمل- على القرني- مكتبة العلم- الأولى 2003. 171) العادة السرية- محمد صالح المنجد- مكتبة العلم. 172) هناك حيث يطفأ نور الإيمان- عبد الملك القاسم- دار القاسم- الأولى 1418 هـ. 173) الذوق سلوك الروح - عباس السيسي- دار التوزيع والنشر الإسلامية-1998. 174) احذر أقوالاً وأفعالاً واعتقادات خاطئة- طلعت زهران- دار العقيدة- الثانية 1998. 175) أختاه كيف تنفقين؟ - أحمد عبد الخالق- دار القادسية- الأولى 2000. 176) محرمات استهان بها الناس- محمد صالح المنجد- الثانية 1419 هـ. 177) إيقاظ الهمم قبل يوم الندم- عبد الحميد هنداوي- دار الهدي- الأولى 1997.

178) قواعد الدعوة إلى الله- همام عبد الحميد سعيد- دار الوفاء- الثالثة 1992. 179) فقه النصر والتمكين- على محمد الصلابي- دار الإيمان 2002. 180) في واحة الإسلام- على متولي. 181) فقه المراقبة- أحمد جاد- دار الكلمة- الأولى 1999. 182) فقه النصيحة- أحمد جاد- دار الكلمة- الأولى 1999. 183) ربانية لا رهبانية- أبو الحسن الندوي- الأولى 2000. 184) صلاة الفجر مصنع الرجال- عبد العظيم رمضان- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 2002. 185) مقاطعة اليهود- الشحات الطحان- دار الكلمة. 186) صناعة الحياة- محمد أحمد الراشد- الثالثة 1994. 187) نحو المعالي- محمد أحمد الراشد- دار البشير- الطبعة الثالثة 1994. 188) تقرير ميداني- محمد أحمد الراشد- دار البشير. 189) هو الله- ياسين رشدي- نهضة مصر. 190) صفات وسلوكيات تربوية- محمد عبد الحليم حامد- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 1998. 191) أهوال جهنم ونعيم أهل الجنة- علي الطهطاوي- دار الروضة 1996. 192) لقاء الجماهير- أكرم رضا- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الأولى 2001. 193) الدعوة في موكب الأنبياء- علي متولي- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 194) شخصية المسلم بين الفردية والجماعية- محمد السيد نوح- دار الوفاء- الطبعة الرابعة 1993. 195) المتغيرات الدولية- فتحي يكن- مؤسسة الرسالة- الطبعة الأولى 1993. 196) العالم الإسلامي والمكائد الدولية- فتحي يكن- مؤسسة الرسالة. 197) الحياء- فتحي عبد الستار- سما للنشر- الطبعة الأولى 2000. 198) الإسلام والعلم- أحمد عبد الحميد غراب- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 199) مع الله- حسن أيوب- دار الأنصار- الطبعة الخامسة 1982. 200) الإيجابية في حياة الداعية- عادل الشويخ- دار البشير- الطبعة الثانية 1993. 201) وهكذا أسلمن- وفاء سعداوي- دار الإبداع- الطبعة الثانية 2003. 202) صور من تسبيح الكائنات لله- زغلول النجار- نهضة مصر- الطبعة السادسة 2003. 203) معراج المؤمنين- علاء الدين محرم- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 2003. 204) معركة الوجود بين القرآن والتلمود- عبد الستار فتح الله- الطبعة السادسة 1415 هـ. 205) مبشرات النصر والتمكين- سيد العفاني- الطبعة الأولى 2000. 206) لا لن يمحى الأقصى- خيري مكاوي. 207) صلاة الصالحين وقصص العابدين- أحمد مصطفي الطهطاوي- دار الفضيلة. 208) مائة قصة وقصة في التوبة وحسن وسوء الخاتمة- محمد عبد الله الهندي- مكتبة الإيمان. 209) 100 قصة من ذكاء الصحابيات- منصور عبد الحكيم- المكتبة التوفيقية.

210) الوقت عمار أو دمار- جاسم محمد بدر المطوع- دار الوفاء- الطبعة السادسة 1992. 211) فن التعامل مع الآخرين- محمد سعيد مرسي- دار البشير- الطبعة الأولى 2001. 212) المصطفى من صفات الدعاة- عبد الحميد البلالي- دار الكلمة- الطبعة الأولى 2000. 213) عقيدة المسلم- محمد الغزالي- دار الدعوة- الطبعة الثالثة. 214) مختصر منهاج القاصدين- ابن قدامة المقدسي- دار التراث. 215) سمير الصالحين وأنيس المتقين- أحمد الشهاوي- سعد شرف الدين- المكتبة التوفيقية. 216) البحر الرائق في الزهد والرقائق- أحمد فريد- المكتبة التوفيقة. 217) تنبيه الغافلين- السمرقندي- مكتبة الصفا الطبعة الأولى 2002. 218) لطائف المعارف- ابن رجب الحنبلي- مكتبة الإيمان الطبعة الأولى 1999. 219) رحلتي مع الجماعة الصامدة- أحمد أبو شادي- دار التوزيع والنشر الإسلامية 1998. 220) حكايات عن الإخوان- عباس السيسي- دار التوزيع والنشر الإسلامية 1998. 221) الإعجاز العلمي في الإسلام- محمد كامل عبد الصمد- الدار المصرية اللبنانية- الطبعة الثالثة 1996. 222) الابتلاء والمحن- محمد عبد القادر أبو فارس- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 223) النور الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى- سليمان سامي- الطبعة الأولى 1995. 224) إحياء علوم الدين- أبو حامد الغزالي- دار الفجر- الطبعة الأولى 1996. 225) أصول الدعوة- عبد الكريم زيدان- مؤسسة الرسالة- الطبعة الثامنة 1998. 226) علو الهمة- محمد أحمد إسماعيل المقدم- المكتبة التوفيقية. 227) لا تحزن- عائض القرني- مكتبة البلد الأمين- الطبعة الثالثة 2000. 228) التضحية والفداء -جمعة أمين عبد العزيز- دار الدعوة- الطبعة الثانية 2001. 229) رياض الصائمين- عبد الرحمن البر- دار الوفاء- الطبعة الأولى 1994. 230) من مبادئ الإسلام- علي لبن- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 231) مداوة النفوس- ابن حزم- دار الصحابة- الطبعة الثانية 1992. 232) ومضات من النور- عصام أحمد خيري- الطبعة الأولى 1996. 233) مجالس الإيمان في رحاب القرآن- علاء الدين محرم- 2002. 234) زادنا في رمضان- منير جمعة. 235) رحلة البحث عن اليقين- خالد أبو شادي- دار الراية- الطبعة الأولى 2002. 236) الأرزاق بين بركة الطاعات ومحق السيئات- حسين شحاتة- دار النشر للجامعات- الطبعة الأولى 2000. 237) العبادات وأثرها في بناء الفرد والمجتمع- صلاح سلطان. 238) مواقف إيمانية للنساء- محمد عبد العاطي بحيري- المكتبة التوفيقية- 2002. 239) خير القرون (صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين) - مصطفي أبو المعاطي- شروق- الطبعة

الأولى 2002. 240) العقل والإيمان في الإسلام- صابر طعيمة- دار الجبل- الطبعة الأولى 1979. 241) الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام- مصطفي حلمي- دار الدعوة- الطبعة الثانية 1993. 242) المنافقون في القرآن الكريم- محمد يونس عبد بن حسن- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 243) الكبائر- الذهبي- مكتبة الصنادقية. 244) الولاء والبراء- سعيد القطحاني- المكتبة التوفيقية 2003. 245) تربيتنا الروحية- سعيد حوى- الطبعة الرابعة 1995. 246) تيسير العزيز الحميد- سليمان عبد الله. 247) الزهد- أحمد بن حنبل- دار عمر بن الخطاب. 248) منهاج المسلم- أبو بكر جابر الجزائري- مكتبة الدعوة- الطبعة الثامنة 1976. 249) السلوك الاجتماعي في الإسلام- حسن أيوب- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 250) حياة الصحابة- محمد يوسف الكاندهلوي- دار الكتاب الإسلامي. 251) الصحابة والصالحون على فراش الموت- مجدي فتحي السيد- المكتبة التوفيقية. 252) بر الوالدين- رضا المصري- دار الدعوة- الطبعة الأولى 2002. 253) ترطيب الأفواه بذكر من يظلهم الله- سيد حسين العفاني- دار العفاني- الطبعة السادسة 2003. 254) كيف نحب رسول الله؟ - نبيل حامد المعاز- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2001. 255) الطراز الرباني- نبيل حامد المعاز- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2001. 256) صفات ومقومات المسلم- محمد فوزي- دار المنار- الطبعة الأولى 2002. 257) مواقف بطولة من صنع الإسلام- زياد أبو غنيمة- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 258) عدة المجاهدين- نبيل حامد المعاز- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 259) رجل المحراب- جمال حامد- دار الكلمة- الطبعة الأولى 2001. 260) كونوا على الخير أعوانًا- محمد صالح المنجد- مكتبة العلم. 261) القرآن شرعتنا- موسي السعيد جبارة. 262) حقوق الإنسان في الإسلام- محمود غزلان- دار التوزيع والنشر الإسلامية 2002. 263) آفات على الطريق- السيد محمد نوح- دار الوفاء- الطبعة السادسة 1992. 264) تذكرة دعاة الإسلام- المودودي- دار الكنوز- الطبعة الأولى 1994. 265) الآفات العشرون- عبد القادر أحمد عبد القادر- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الثانية. 266) غض البصر- عبد العزيز الغزولي- دار المنار- 2001. 267) حب النبي ودلائله- عبد الرحيم عبد السلام- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2002. 268) التخطيط للهجرة- أحمد عبد العظيم- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 269) دروس تربوية من الهجرة النبوية- عبد الحي الفرماوي- دار الكلمة- الطبعة الأولى 2000.

270) كلكم راع- فؤاد الهجرسي- دار الكلمة- الطبعة الأولى 1999. 271) المؤمن القوي- طه الساعي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 2001. 272) التجرد- محمد الكاتب- دار الكلمة- الطبعة الأولى 2001. 273) رجل عفيف- جمال حامد- دار الكلمة- الطبعة الأولى 2001. 274) مراتع الخير- بلال وهب- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 275) قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله- عبد الودود يوسف- دار السلام- 1993. 276) وقبل الوداع كانت حقوق الإنسان- أحمد عبد الخالق- القادسية- الطبعة الأولى 2000. 277) كفالة اليتيم- محمد خلف يوسف- مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة- الطبعة الأولى 2004. 278) الإيجابية- أحمد عبد الخالق- دار القادسية- الطبعة الثانية 2002. 279) كيف تحافظ على صلاة الفجر؟ - راغب السرجاني- دار اقرأ 2004. 280) عداء اليهود للحركة الإسلامية- زياد أبو غنيمة- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 281) مقومات التصور الإسلامي- سيد قطب- دار الشروق. 282) الطريق إلى جماعة المسلمين- حسين بن محسن بن علي- دار الوفاء- الطبعة السابعة 2002. 283) ماذا يعني انتمائي للإسلام؟ - فتحي يكن- مؤسسة الرسالة- الطبعة الخامسة والعشرون 2003. 284) بروتوكولات حكماء صهيون- ترجمة محمد خليفة التونسي- دار التراث. 285) مائة موقف من حياة المرشدين- محمد عبد الحلبم حامد- دار التوزيع والنشر الإسلامية 2002. 286) الدعوة الفردية بين النظرية والتطبيق- عبد الحليم الكناني- تقديم الشيخ محمد عبد الله الخطيب - مؤسسة اقرأ. 287) رحلتي مع الإخوان المسلمين- أبو الفتوح عفيفي- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2003. 288) شاهد على جهاد الإخوان المسلمين في حرب فلسطين- علي مصطفى نعمان- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2002. 289) مجموعة رسائل حسن البنا- دار التوزيع والنشر الإسلامية- 1992. 290) حول أساسيات المشروع الإسلامي- عبد الحميد الغزالي- دار التوزيع والنشر الإسلامية 2000. 291) أيام من حياتي- زينب الغزالي- دار الشروق- الطبعة الثالثة عشرة 1992. 292) خصائص التصور الإسلامي- سيد قطب- دار الشروق- الطبعة التاسعة 1987. 293) العدالة الاجتماعية في الإسلام- سيد قطب- دار الشروق- الطبعة الحادية عشرة 1988. 294) نحن والحضارة الغربية- أبو الأعلى المودوي- 1987. 295) تأملات إيمانية في سورة يوسف- ياسر برهامي- دار الإيمان- 2004. 296) للعاقلات فقط- جمال عبد الرحمن- دار طيبة- مكة- الطبعة الخامسة 2003. 297) عظماء الأطفال- جمال عبد الرحمن- دار طيبة- مكة- الطبعة الثانية 2002.

البيت المسلم

298) مختصر عيش السعداء بين الخوف والرجاء- سيد عفاني- دار العفاني- الطبعة الأولى 2003. 299) فضل الرضا وأخبار ساداته- سيد عفاني- دار عفاني 2003. 300) عمارة الأوقات بعمل الصالحات- سيد عفاني- دار العفاني 2003. 301) علاج الهموم- محمد صالح المنجد- المكتبة المحمودية- 2000. 302) أين نحن من الخاشعين والخاشعات؟ - أبو بكر فراج- الكتبة المحمودية- 2002. 303) مواقف إيمانية- أحمد عيد- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 1993. 304) فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين- جمعة أمين عبد العزيز- دار الدعوة. 305) طريق السعادة- أحمد فريد- مكتبة ابن تيمية- الطبعة الأولى 1999. 306) الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء- محمد كامل عبد الصمد- الطبعة الأولى 1995. البيت المسلم: 307) تحفة العروس- محمود مهدي الاستانبولي- العالمية للنشر والتوزيع. 308) صديق الأسرة السعيدة- شوقي محمد يوسف- دار الفضيلة. 309) آداب الخطبة في الإسلام- حسين شحاتة- دار المنار- الطبعة الأولى 2002. 310) الأسرة المسلمة مشكلات وحلول- أحمد عبد الخالق- دار القادسية- الطبعة الأولى 2000. 311) 100 حل للمشكلات الزوجية- محمود المصري- مؤسسة قرطبة- الطبعة الأولى 2003. 312) عوامل إصلاح المجتمع- ابن باز- الطبعة الأولى 1992. 313) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة- عبد الرحمن بن ناصر- 1998. 314) أواصر المجتمع المسلم- محمود الجوهري- دار التوزيع والنشر الإسلامية. 315) الشباب في مرآة الإسلام- عبد الخالق حسن الشريف- 2002. 316) الشباب ألم وأمل- إبراهيم الدويش- أولاد الشيخ- الطبعة الأولى 1999. 317) الإسلام والجنس- عبد الله ناصح علوان- دار السلام- الطبعة الخامسة 1995. 318) إلى كل فتاة تؤمن بالله- محمد سعيد البوطي. 319) التبرج- نعمت صدقي- دار الاعتصام. 320) مع الأخت المسلمة في واحة الحجاب- علي متولي- دار الأرقم- الطبعة الأولى 1993. 321) 40 نصيحة لإصلاح البيوت- محمد صالح المنجد- مكتبة العلم. 322) فن التعامل مع الأزواج- عبد الجبار أحمد عبد الجبار- دار الطلائع 1996. 323) كيف نعيش حياة زوجية سعيدة؟ - عادل فتحي عبد الله- دار الإيمان- الطبعة الأولى 1999. 324) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة- عبد الرحمن بن ناصر السعدي- دار الوطن. 325) آداب الزفاف- ناصر الألباني. 326) البيت محراب عبادة- محمد حسين- سما للنشر- الطبعة الأولى 2000. 327) كيف تسعد زوجتك؟ - محمد عبد الحليم حامد- دار المنار- الطبعة الثالثة 1996. 328) كيف تسعدين زوجك؟ - محمد عبد الحليم حامد- دار المنار- الطبعة الثالثة 1996.

أدب - لغة

329) الرجل والبيت- حسين شحاتة- دار المنار- الطبعة الأولى 2000. 330) كيف تبنين بيتًا سعيدًا- أكرم رضا- سما للنشر- الطبعة الأولى 2001. 331) فن صناعة الحب ومعاملة الرجال- خالد السيد عبد العال- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الطبعة الأولى 2000. 332) العشرة الطيبة مع الرجل- محمد حسين- المدائن- الطبعة الثانية. 333) سلسلة البيت المسلم- محمد حسين- دار الدعوة- الطبعة الأولى 2003. 334) خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي- محمود أبو السعود- الاتحاد الإسلامي العالمي 1991. أدب - لغة: 335) المعجم الوجيز- مجمع اللغة العربية- وزارة التربية والتعليم 2000. 336) ديوان هاشم الرفاعي- مكتبة الإيمان- الطبعة الأولى 1996. 337) المسلمون قادمون- القرضاوي- دار الوفاء. 338) الفروق اللغوية- أبو الهلال العسكري- المكتبة التوفيقية. 339) ديوان الشافعي - دار ابن زيدون- بيروت. ***

§1/1