موسوعة الأخلاق - الخراز

خالد الخراز

حقوق الطبع محفوظة للؤلف الطبعَة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع الكويت. حولي. شارع المثنى. تلفاكس: 2656440/ الخط الساخن: 6554369 E.mail:[email protected]

مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقدّمة إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفُسِنا، ومن سَيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومن يُضلل فلا هادي لَهُ. وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّما بُعثتُ لأتمِّم صالحَ الأخلاق". وفي رواية: "مكارم" (¬1). وفعلًا تمّت بإذْن الله تعالى، إذْ رَبَّى جِيلًا فاق الأمم في كل مجال، وغيَّر ملامح التاريخ، وجعلَ ذلك التاريخ يستدير ليُسطر آيات الحق ومسيرة النور الذى بدَّد الظلام والظلمات، وجاء فَيَّاضاً بِالخَيْرِ صَداعاً بالحقِّ طافِحاً بالخُلُقِ الكريم، وقد أتى منَاسِباً لكل أمَّة، مجتازاً حدود الزَّمان والمكان؛ ليكون حلاًّ لكل ظرف ولأيِّ ظرفٍ مهما كان، وأيًّا كان، وقد سعَدت أُمَّتنا بهذا النُّور العظيم الذي منحها الهوية والكرامة. وإنَّ الناظر في هذا الدِّين العظيم ليَعرفُ حقَّ المعرفة أنَّه وُجِدَ للبشرية ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (273)، وأحمد (2/ 381)، وغيرهما عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "الصحيحة" (45).

جَمْعَاء، ولا حياة كريمة لها بدونه، ونستَغْرب كيف يَحْيا الآخَرُون الذين حَرَمُوا أنفسهم الهدايةَ تَعَصُّبًا وضَلالًا وجَهْلًا؟! ولكن الجواب يَأتينا سَريعاً من كتاب الله الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]. ومن أهم ما يُمَيّز الإنسان المسلم صورة تعَامُله مع الله سبحانه، ومع إخْوانهِ في الدين، ومع غيرهم، فإن أحسن، أرضى ربَّه ورضي عن نفسه، وأعطى صورة رائعة للآخرين عن هذا الدين، وعن معتقديه، فكأنه دعا بلسان الحال وليس بلسان المقال إلى دينه دعوة أبلغ وأوصل إلى القلب والعقل معاً. وقد بدا انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح الإسلامي؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لمَّا رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خُلُقاً حميداً يُنيرُ طريقهُ لنفسه بِمصبَاحه، فيرى الآخرون ذلك النور، ويرون به، وبناء على ذلك الإقبال سريعاً دون دافع سوى القدوة الحسنة، فَرُب صفة واحدة مما يأْمر به الدين تُتَرجَمُ حية على يد مسلم صالحٍ، يكون لها أثرٌ لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشرة؛ لأن النفوس قد تَنْفَر من الكلام الذي تَتَصوَّر أن للناطق بهِ مصْلَحة، وأحسن تلك الصفات التَّمسك بِالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يُرى من الإنسان المسلم، ومن خِلالِها يُحْكَمُ له أوْ عَلَيه من الله، ثم مِن قِبَلِ النَّاس. ونظراً؛ لما لهذا الأمر من أهمية، وحرصاً مني على الإسهام في التأكيد

على الالتزام بالأخلاق لكل إنسان مسلم، وغيرةً على أخلاق الأمة في هذه الأيام التي لَوَت أعناقَ الأخلاق الإسلامية، أو مسختها أو قتلتها، واتبعت صرعات من شرق وغرّب، متخذةً منهم القدوة، وتحت تأثير النجَاحَات المادِّية التي حققتها الأمم غير الإسلامية، والهجمات المحمومة التي ما انفك الأعداء يُوالُونَها في كل حين، قاصدين إطفَاء هذا النُّور، وتدْجِين المسلمين، علمًا بأنَّ كل ما يقترفونه بحق هذه الأمة يَجْري في خطِّ مدروس، تَضَافَرت على إنجاحه أحقاد اليهود، والصليبية، وغيرهم، وبعد أن عَجَزوُا عن تدْمِيرِ الإسلام وأهله في ميادين الحروب، حوَّلُوا الأمر إلى حرْبِ أَخْلاقِية تجرد شبابنا من كلِّ القيم، ولن يفلحوا ما دَامَ في هذه الأمة رجالْ مُخْلِصُون، يُنَافحُونَ عن هذا الدِّين في كل مجال. وياللأسف فإننا نجد في هذا الزمان المتأخِّر أقوامًا ادعوا التَّمكُن ورجَاحة العقل، غير أنَّهم إلى الشهوات والشُّبُهات يَركُضُون، ومع النِّفاق وسُوء الأَخلاق يَجْرونَ. وهم بذلك يخالفون حتى مسمى العقل، فما سُمي العقلُ عقلًا إلا أنه يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ الإِقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ، ويلزمه صراط الله المستقيم، والعاقل مَنْ عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وتمسّك بشرعه. قال العلامة ابن قيم الجَوْزية رحمه الله: "وحياة العقل: هي صحة الإدراك، وقوة الفهم وجودته، وتحقق الانتفاع بالشيء أو التضرر به، وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه، وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه، ووجوده وعدمه، يقع

من هو العاقل؟

تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين" (¬1). قال أبو حاتم: "نبغ أقوامٌ يدَّعُون التَّمكن من العَقْل باستِعمال ضِدّ ما يُوجبُ العقل من شهَواتِ صُدُورهم، وَترْك ما يُوجِبُه نَفْسُ العقل بهجَمَات قُلُوبِهِم، جَعَلُوا أسَاسَ العقل الذي يَعقدُون عليه عند المعضلات: النِّفاق والمُدَاهَنَة، وفُرُوعه عند ورُود النائِبَات حُسنَ اللباس والفَصَاحَة، وزَعَمُوا أن من أَحْكَم هذه الأشيَاء الأرْبع فهو العاقل! " (¬2). * من هو العاقل؟ هو الذي يحبس نفسه ويرُدُّها عن هواها، وسُمي العقلُ عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه، وقيل: العقلُ هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان. وقال ابن الأنباري: رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه. وقال صاحب المحكم كما في "تهذيب الأسماء واللغات": العقل ضد الحمق، والجمع عقول، عقل يعقل عقالًا، وعقالًا فهو عاقل من قوم عقلاء. * محل العقل: قيل العقل جوهر روحاني، خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان، وقيل: ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 446). (¬2) "روضة العقلاء" (ص 16).

نعمة العقل

جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وقيل: محله الدماغ في الرأس، وقيل: محله القلب. والتحقيق أن العقل له تعلق فيهما معًا، حيث يكون الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب؛ ولهذا يمكن أن يقال: "القلب موطن الهداية، والدماغ موطن الفكر" (¬1). * نعمة العقل: والعقلُ نِعْمَة عظيمةٌ من أَجَلِّ النِّعم، ومن خِلالِه يستطيعُ المَرْء أن يدْرِكَ مَا حَوْلَهُ، وما الذي ينبغي عليه أن يأتيه أو يَجتنبُه، وبه يَعرفُ المرء نفسه، ويعرف ربه، وُيبصرُ طريقه ويبني علاقات وطِيدَة، ويَعْقد صِلات حميمة مع من حَولَهُ، والعاقل من اتَّعظَ بِغَيِره، والأَحْمَق أَو الجَاهِل من اتَّعظَ به غيره، والعاقل من يكون حاضر العقل والقلب، فلا طيش ولا ضلال. والآيات القُرآنية في بيان نِعْمَة من يستخدمون عقولهم ويستدلون بها على الحق كثيرة، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. وقوله سبحانه: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]. وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. وأفاض المولى سبحانه في مدح من انتفع بعقله بالمواعظ والعبر ¬

_ (¬1) ينظر "التعريفات" للجرجاني (196)، و"مجموع الفتاوى" (303)، و"المختصر الحثيث" (72)، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" (1/ 163).

والآيات، فقال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة: 100]. وذم الله سبحانه قومًا عطلوا عقولهم، وفي ذلك آيات كثيرة، ومنها قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 62]. وقال عز وجل: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]. وقال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]. أمَّا الأحاديث النَّبوية عُمُومًا، فكُلّها يُسَلَّم لها العقل السليم الذي تَربَّى على الإسلام، ويَنقَادُ لها، كيف لا وهي العَافية للناس، والسَّعادة في الدارين؟! ولا ينقاد للسنة إلا عاقلٌ، ومن نبذ السنة النبوية فإنه أحمق لا عقل له. قال أبو حاتم: "وأفضل ما وهب الله لعباده العقل"، ولقد أحسن الذي يقول: وأفضل قسم الله للمرء عقلهُ ... فليس من الخيرات شيء يُقَاربُه إذا أكمل الرحمنُ للمرءِ عقلهُ ... فقد كمُلَت أخلاقهُ ومآربه يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه ... وإن كانَ محظورًا عليه مكاسبُه

ثمرة العقل

قيل لابن المبارك: "ما خير ما أُعطيَ الرجل؟ فقال: غريزة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدبٌ حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمتٌ طويلٌ، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل" (¬1). قال أبو حاتم: "فالواجب على العاقل: أن يكون بِمَا أحْيَا عقله من الحكمة أكلَفَ (أي أشد تعلقًا وانشغالاً) منه بما أحيا جسده من القوت؛ لأنَّ قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فَقَدت قُوتَها من الحِكْمة ماتت" (¬2). قال الماوردي: "واعلم أنّ بالعقلِ تُعرفُ حقائقُ الأمورِ .. ، وبه يَمتَازُ الإنسانُ عن سائرِ الحيوانِ، فإذا تَمَّ في الإنسانِ سُميَ عاقلًا، وخرج به إلى حَدِّ الكمال" (¬3). قال بعضهم: إذ تم عقل المرء تمت أمُورُه ... وتَمَّت أياديه وتم بناؤُهُ فإن لم يكن عقل تَبيَّن نقْصُه ... ولو كانَ ذا مال كثيرًا عَطاؤُهُ * ثمرة العقل: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ثمرة العقل الذي به عُرف الله سبحانه وتعالى، وأسماؤهُ، وصفاتُ ¬

_ (¬1) "روضة العقلاء" (17). (¬2) "روضة العقلاء" (18). (¬3) "أدب الدنيا والدين" (12).

كماله، ونعوتُ جلاله، وبه آمن المؤمنون بكتبه، ورسله، ولقائه، وملائكته، وبه عُرفت آياتُ ربوبيته، وأدلهُ وحدانيته، ومعجزاتُ رسله، وبه امتُثلتْ أوامره، واجتنبت نواهيه، وهو الذي يلمح العواقب فراقبها، وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى، فردَّ جيشه مفلولاً، وساعدَ الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولًا، وحث على الفضائل، ونهى عن الرذائل، وفتق المعاني، وأدركَ الغوامض، وشدَّ أزر العزم، فاستوى على سُوقه، وقوّى أزر الحزم حتى حظي من الله بتوفيقه، فاستجلبَ ما يزينُ، ونفى ما يشينُ، فإذا ترك وسلطانه؛ أسر جنود الهوى، فحصرها في حبس "من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه"، ونهض بصاحبه إلى منازل الملوك، إذا صير الهوى المَلِكَ بمنزلة العبد المملوك، فهي شجرةٌ عرقُها الفكر في العواقب، وساقها الصبر، وأغصانها العلم، وورقها حسن الخلق، وثمرها الحكمة، ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه، وابتداؤها منه، وانتهاؤها إليه. وإذا كان هذا وصفه، فقبيحٌ أن يُدال عليه عدوّه، فيعزله عن مملكته، ويحطه عن رتبته، ويستنزله عن درجته، فيصبح أسيرًا بعد أن كان أميرًا، ومحكومًا بعد أن كان حاكمًا، وتابعًا بعد أن كان متبوعًا، ومن صبر على حكمه أرتعه في رياض الأماني والمنى، ومن خرج عن حكمه؛ أورده حياض الهلاك والرَّدى. قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: "لقد سبق إلى جنات عدنِ أقوامٌ ما كِانوا بأكثر الناس صلاةَ، ولا صيامًا، ولا حجًّا، ولا اعتمارًا، لكنهم عقلوا عن

الله مواعظه، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، ففاقوا الناس بطيب المنزلة، وعلوّ الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة". وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين". وقالت عائشة رضى الله عنها: " قد أفلح من جعل الله له عقلًا" اهـ (¬1). قلت: هذه ثمرة العقل، وفضل العقلاء، أما من طَالَع أحوالَ الجَهلة يَرى عَجَبًا لسُوء أخْلاقهم مع ما عندهم من نِعَمة العقل. قال بعضُ الحكماء: الأدب صورة العقل، فصور عقلك كيف شئت. وقال آخر: العقلُ بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب كالشجر المثمر. وقال بعضُ البلغاء: الفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب؛ لأن من ساد أدبه ضاع نسبه، ومن قلَّ عقلُه، ضلَّ أصلُه. وقال بعضُ العلماء: الأدب وسيلة إلى كُلِّ فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة. "والواجب على العاقل: أن يكون حسن السَّمْت (أي الهيئة)، طويلَ الصَّمْتِ، فإنَّ ذلك في أخْلاق الأنبياء، كما أن سُوء السَّمت وترك الصَّمت من شِيم الأَشقِيَاء". قلت: فكل من منعه عقله عما لا ينبغي، فهو من جمله العقلاء، ثم بِأيّ شيء يفخر المرءُ إذا كانت أخلاقُه سيئة، وطِباَعُه قبيحةٌ؟! وعلى ماذا ¬

_ (¬1) "روضة المحبين" (38).

يتكبَّر، وبم يفرح إذا كان مسلوب الفضيلة؟! "فالعاقلُ لا يَغْتبطُ بصفة يَفُوقه فيها سَبُعٌ أو بهيمةٌ أو جمادٌ، وإنَّما يغتبط بتقدُّمه في الفضيلة التي أبانه الله -تعالى- بها عن السِّباع والبهائم والجمادات، وهي التميِيز الذي يُشارك فيه الملائكةَ، فمَنْ سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير حقها لله عز وجل، فليعلم أنَّ النمر أَجرأُ منه، وأن الأسدَ والذِّئب والفيل أَشْجعُ منه، ومَنْ سُرَّ بقوة جسمه، فليعلم أن البغل والثَّور والفيل أقوى منه جِسْمًا، ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أنَّ الحمار أحمل منه، ومَنْ سُرَّ بسرعة عَدْوِه فليعلم أن الكلب والأرنب أَسْرعُ عَدوًا منه، ومَنْ سرَّ بحُسنِ صوته فليعلم أن كثيرًا من الطيرِ أحسنُ صوتًا منه، وأنَّ أصوات المزامير ألذّ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائمُ متقدِّمةَ له؟! لكن من قويَ تمييزه، واتَّسع علمُه، وحَسُنَ عمله، فلْيَغْتبط بذلك، فإِنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكةُ، وخيارُ النَّاسِ" (¬1). وأهلُ السنة والجماعة هم الذين أنزلوا العقل منزلته اللائقة به، فهم وسط بين طرفين: الطرف الأول: من جعل العقل أصلاً كليًا أوليًا، مستقلًا بنفسه عن الشرع، مستغنيًا عنه. الطرف الثاني: من أعرض عن العقل، وذمه وعابه، وقدح في الدلائل العقلية مطلقاً. ¬

_ (¬1) "روضة العقلاء" (ص 18)، "الأخلاق والسير" (83) لابن حزم.

والوسط في ذلك -وهم أهل السنة والجماعة- قالوا: 1 - إن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال الأعمال وصلاحها؛ لهذا كانت سلامة العقل شرطًا في التكليف، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وتدبر القرآن يكون بالعقول؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه. 2 - إن العقل لا يستقيم بنفسه، بل هو محتاج للشرع. 3 - إن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به. 4 - إن الشرع دلّ على الأدلة العقلية، وبينها، ونبَّه عليها (¬1). قال الإمام الشاطبي: "إذا تعاضد النقلُ والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدَّم النقلُ فيكون مَتْبُوعًا، ويتأخر العقلُ فيكون تابعًا؛ فلا يَسرح العقلُ في مجال النظر إلا بقَدَر ما يُسرِّحه النقل" (¬2). قلت: وهذا كتاب جمعت فيه من الأخلاق والآداب ما يحسن للعاقل فعله، وما يقبح به إتيانه من الخصال المذمومة، وسَميته (موسوعة الأخلاق)، وجعلتهُ على أربعة أبواب كما يأتي مفصلًا في الكتاب -إن شاء الله-. وأصل هذا الكتاب سلسلة دروس ألقيتها على بعض طالبات الجامعة من ¬

_ (¬1) ينظر " المختصر الحثيث" (75) للأخ الأستاذ عيسى مال الله فرج، سدده الله. (¬2) "الموافقات" (1/ 125) بتحقيق العلامة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، سدده الله.

كلية الشريعة وغيرهنَّ من عصر كل يوم أربعاء لعام 1425هـ، ثم أذيعت على حلقات في إذاعة القرآن الكريم في دولة الكويت لشهر رمضان المبارك من نفس العام، وبعدها سلسلة دروس في مسجد عبد الجليل من كل أحد في منطقة الفيحاء العامرة من عام 1428 للهجرة النبوية، ضمن برنامج ثقافي تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وها هو اليوم كتاب يقرأ أسال الله تعالى أن يبارك فيه، وقد أضفت إليه بعض الزيادات المهمة، ووضعت في كتابي هذا على قدر ما بلغه علمي، وحواه فكري، وشريطتي على قارئ كتابي "عدم التقصي في البحث عن أخطائي، والصفح عما يقف عليه من إغفالي، والتجاوز عما أهملته، وإن أداه التصفح إلى صواب نشره، أو إلى خطإٍ ستره؛ لأنه قد تقدمنا بالإقرار بالتقصير إذا رأى القارئ أي شيء يُنسب إلى الإغفال والإهمال، وقلما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة، أو باحث عن خطيئة. وقد كان يقال: من ألف كتابًا فقد استشرف، وإذا أصاب فقد استهدف، وإذا ما أخطأ فقد استقذف، وكان يقال: لا يزال الرجل في فُسحة من عقلهِ ما لم يقل شعرًا أو يضع كتابًا" (¬1). ويحضرني قول أبي القاسم الحريري: وَإِنْ تجدْ عيبًا فَسُدَّ الخَلَلا ... فَجَلَّ مَنْ لا عيبَ فيهِ وَعَلَا وأسألُ الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يجعل عملي ¬

_ (¬1) ينظر "الظرف والظرفاء" لمحمد بن إسحاق الوشاء (ص 1)، و"أدب الدنيا والدين" للماوردي (548).

خالصًا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ولوالدي، وأهلي ومشايخي وجميع إخواني، ومن كان سببًا في هذه الدروس، ولجميع المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. وكتبه خالد بن جمعة بن عثمان الخراز الكويت - الفيحاء 1428 هـ-2007 م

قال مخلد بن الحسين لابن المبارك: "نحنُ إلى كثيرٍ من الأدب، أحوجُ منَّا إلى كثيرٍ من الحديث". [تدكرة السامع والمتكلم (14) لابن جماعة].

الباب الأول مقدمات وأسس مهمة في الأخلاق

الباب الأول مقدمات وأسس مهمة في الأخلاق

قال الحسن: "كان الرجل يطلب العلم، فلا يَلْبَث أن يُرَى ذلك في تَخَشُّعه وهَدْيه ولسانه وبصره ويده". [الجامع للخطيب 1/ 142].

تعريف الأخلاق

تعريف الأخلاق الأخلاق مفردها خُلُق: فما معناها؟ الخُلق في اللغة: هو العادة، والسجيَّة، والطَّبع، والمروءة، والدِّين. واصطلاحًا: قال الجرجاني: "الخُلُق" عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تَصدُر عنها الأفعال بِسهُولة وُيسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة، كانت الهيئة خُلُقًا حسنًا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سُمِّيت الهيئة التي تصدر عنها هي مصدر ذلك خُلُقًا سيئًا" (¬1). وقال ابن منظور: "وفي التنزيل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، والجمع أخلاق، والخلق: السجية" وقال: "الخلُقُ -بضم اللام وسكونها: هو الدِّينُ، والطبعُ، والسجيةُ" (¬2). وأمَّا علم الأخلاق: فهو "علمٌ موضوعه أحكام قيمية تتعلق بالأعمال التي تُوصف بالحسن أو القُبحِ" (¬3). ¬

_ (¬1) "التعريفات" (136). (¬2) "لسان العرب" (1/ 86 - 87). (¬3) "المعجم الوسيط" (1/ 252).

موضوع الأخلاق

والمعنى أننا إذا أطلقنا كلمة الأخلاق إنما نعني بها الحسن، أو الجانب الحسن، وكذلك من الممكن أن نقول: الأخلاق الذميمة أو السيئة. ومن الواضح أن إضافة كلمة بعد كلمة الأخلاق نصف بها الأخلاق يجعلها حسب ذلك الوصف الحسن أو السيء، والإسلام يدعو إلى الأخلاق الكريمة، وينهى عن مذمومها. موضوع الأخلاق هو كل ما يتصلُ بعمل المسلمِ ونشاطهِ وما يتعلقُ بعلاقتهِ بربهِ، وعلاقتهِ مع نفسهِ، وعلاقته مع غيرهِ من بني جنسه، وما يحيطُ به من حيوانٍ وجمادٍ. الفرق بين الأخلاق والصفات الإنسانية كيف نميز بين الأخلاق، والسلوك الإنساني، أو الصفاتِ الإنسانية؟ عند التَّأمل والنظر يتبينُ لنا أنَّ الخُلق صفة مستقرة في النفس، فِطريَّةٌ كانت أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة. فالخلقُ كما -سيأتي- ينقسمُ إلى قسمين: محمود ومذموم. فهل كل صفة مستقرة في النفس تُعدُّ من الأخلاق؟ الجواب: لا؛ لأنَّ منها غرائز لا صلة لها بالأخلاق، والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة. فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه

أنواع السلوك الإرادي للإنسان

أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة. وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم (¬1). أنواع السلوك الإرادي للإنسان عند التأمل نلاحظُ أن كثيرًا من أنواع السلوك الإرادي للإنسان، لا يدخل في باب الأخلاق، ومن ذلك: 1 - الاستجابة للغريزة كما سبق بيانه. 2 - الآداب الشخصية أو الاجتماعية: كآداب الطعام والشراب والنظافة والنظام والأناقة وإصلاح مظهر الجسد احترامًا لأذواق الناس، وتكريمًا لهم واسترضاء لمشاعرهم. 3 - التقاليد إلاجتماعية، فالسلوك نابعٌ من طاعة تقاليد المجتمع. فوضع أنواع السلوك الإنساني تحت عنوان الأخلاق خطأ؛ لذا ينبغي التفريق بينهما. ¬

_ (¬1) ينظر كتاب "الأخلاق الإسلامية" (1/ 11).

فالخلق المحمود

فالخلق المحمود: صفة ثابتة في النفس فطرية أو مكتسبة، تدفع إلى سلوك إرادي محمود عند العقلاء. ويمكن أن نُميز الأخلاق الحميدة عن غيرها بأنها: كل سلوك فردي، أو اجتماعي، تلتقي النفوس البشرية على استحسانه، مهما اختلفت أديانها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها. والخلق المذموم: صفة ثابتة في النفس، فطرية أو مكتسبة، تدفع إلى سلوك إرادي مذموم عند العقلاء. ويمكن أن نُميز الأخلاق الذميمة عن غيرها بأنها: كل سلوك فردي، أو اجتماعي، تلتقي النفوس البشرية على استقباحه، مهما اختلفت أديانها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها (¬1). أركان الأخلاق لكل عبادة من العبادات أركان يقوم عليها، فالإسلام له أركان خمسة، والإيمان له أركان ستة، كما أن للأخلاق أركان حسنة كانت أم قبيحة. قال الإمام ابن قيم الجوزية: "الدين كلُّه خُلُق، فمن زادَ عليك في الخُلق زاد عليك في الدين". وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: 1 - الصبر. 2 - العفة. 3 - الشجاعة. ¬

_ (¬1) ينظر كتاب "الأخلاق الإسلامية" (1/ 12).

4 - العدل. فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة. والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة. والشجاعة: تحمله على عِزَّة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم. والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين [التبذير والبخل]، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة. ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: 1 - الجهل. 2 - الظلم. 3 - الشهوة. 4 - الغضب. فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن،

أنواع الأخلاق

والكمال نقصًا، والنقص كمالًا. والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع. والشهوة: تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والتهمة، والجشع، والذل والدناءات كلها. والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه" اهـ ملخصًا (¬1). أنواع الأخلاق تنقسم الأخلاق إلى نوعين اثنين، وتحت كل نوع خصال متعددة: 1 - أخلاق حسنة: وهي حسن الأدب، والفضيلة، كالصدق، والشجاعة، والعفة، والكرم، وغير ذلك. 2 - أخلاق سيئة: وهي سوء الأدب، والرذيلة، كالكذب، والجبن، والخسة، والبخل، وغير ذلك. أقسام علم الأخلاق وعلم الأخلاق منه ما هو نظري، ومنه ما هو عملي، والنظري هو ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 294).

مصادر الأخلاق

المسمى بـ "فلسفة الأخلاق"، أو "علم الأخلاق النظري". وأما علم الأخلاق العملي فهو العمل الذي هو موضوع العلم العملي، كالصدق والعدل ونحوهما؛ ويمكن اعتبار القسم العملي "فنًا" أي: عِلماً تطبيقياً بالنسبة للقسم النظري. مصادر الأخلاق المسلمون يستقون مصادر الأخلاق من القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، وليس للبشرية أيضاً بديل عن هذين المصدرين. وفي حياة الصحابة، والتابعين معين ثرّ، وميراث زاخر من الأخلاق المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء مما يغني عن الأعراف أو التقاليد، أو أي خلق دخيل. "والنظم العالمية اليوم، والدول القديمة والحديثة لها مسار في الأخلاق، وكل دولة تُربي شعبها على الأخلاق التي تريد، فما نعتبره نحن حسنًا قد يعتبره آخرون قبحاً، فنحن مثلًا نعتبر العفة في الفتى وفي الفتاة خلقاً كريماً، ينبغي أن يُربى وينمى ويحافظ عليها، وهذه العفة شذوذ عند العالم الأوربي والأمريكي، والحياء والستر عندنا خلق كريم، بينما هو في المجتمع الغربي كبت وتقييد ذميم. كذلك بعض الغرائز غير معترف بها عند (النظام الشيوعي)، فهو يرى أنها انحراف فطري، ينبغي أَن تُحارب، مثالُ ذلك المِلكيةُ الخاصة، فالنظامُ الشيوعي لا يعترفُ بهذه الغريزةِ، ويعتبرُها انحرافًا فطريًّا، ينبغي أن

يُحارب، وليس هناك شيء اسمه غريزة تملك. بينما (النظام الرأسمالي) يُنمِّي هذه الغريزة، وُيربي الإنسان على حب التملك إلى أبعد حد، ولا مانع من أن يستغل الآخرين لتحقيق هذه الغاية. فالشعوبُ ليسوا بمنزلةِ واحدة في نظرتهم إلى الأخلاق، وأسبابُ اختلاف هذه النظرة عندهم تعودُ إلى الأهداف، فكلُّ نظامِ له أهداف معينة، فلا بد أن يصبغَ الشعب بصبغة معينة، فكلُّ حكومةِ ترى أن تُربي أبناءَها بأنواعٍ من التربية، ولذلك تضع مناهج التعليم، ومن خلال مناهج التعليم تصنع مناهج تربوية، والغرض إيجاد ما يُسمَّى بالمواطن الصالح، فمواصفاتُ هذا المواطن ينبغي أن تكون بهذه الصفات؛ ولذا نجد بعض الدول تعتني بالمعلم لأنه مهندس الإنسان، فهو أغلى شيء عندهم أغلى من المال، والبناء، ومقدم على كل شيءِ، فكل حكومةِ، وكل سلطةِ تريد أن تبني الناس بناء على مرادها وهواها تقوم بذلك" (¬1). وعلى الصعيد الشخصي إذا كان لك هدف معين فأنت تبني نفسك بما يتلاءم مع هذا الهدف، بمعنى أن تتخلق بأخلاق تتناسب مع الهدف الذي تريد الوصول إليه. وهدف الإسلام يختلف عن ذلك كله، فالرب -جل وعلا- له مراد من خلقه الإنسان، فمن مراده أن يُعبد وحده لا شريك له. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ¬

_ (¬1) "الأخلاق في ضوء الكتاب والسنة"، للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق (مخطوط) بترتيبي (بتصرف).

أولا: القرآن الكريم

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. فهدفُ الإسلامِ هو تكوينُ الفرد الصالح، وهو عبارة عن أعمال يتربى عليها الإنسان، بحيث يكون مسلماً صالحاً، بحيث تستوعب جميع أعماله وتصرفاته وعلاقته مع ربه، ودينه، ومع من يحيط به من بني البشر، بل جميع الخلق. قال الحسن البصري: كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهَديه ولسانه وبصره ويده (¬1). * فمصادر الأخلاق في الإسلام تُستمد مما يلي: أولًا: القرآن الكريم: يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للأخلاق، والآيات في ذلك كثيرة: قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. ونظائر هذه الآيات كثيرة في كتاب الله تعالى، وكلها من مصادر ¬

_ (¬1) "الجامع لأخلاق الراوي وىداب السامع" (1/ 142).

ثانيا: السنة النبوية

الأخلاق. والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أول من تخلق بأخلاق القرآن الكريم وألزم نفسه بآداب القرآن، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانَ خُلُقُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن (¬1). قال الحافظ ابن كثير: "ومعنى هذا أنَّهُ قد أَلزمَ نفسَهُ ألا يفعلَ إلا ما أَمَرَهُ بهِ القُرآنُ، ولا يترُكَ إلا ما نهاهُ عنهُ القرآنُ، فصارَ امتثالُ أمرِ ربهِ خُلُقًا له وسجيَّةَ، صلوات اللهِ وسلامهُ عليه إلى يومِ الدينِ" (¬2). ثانيًا: السنة النبوية تعريف السنة باعتبار كونها مصدرًا تشريعيًا: وهي أقواله وأفعاله، وتقريراته، والسنة النبوية الصحيحة المصدر الثاني للأخلاق بنص القرآن الكريم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7]. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وقال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق" تقدم قريبًا. قال إبراهيم الحربي: ينبغي للرجل إذا سمع شيئًا من آداب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (746) في كتاب صلاة المسافرين. (¬2) "الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (251).

يتمسك به (¬1). ولذا حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- واهتموا وتابعوهم اهتماماً كبيرًا وتخلقوا بالأخلاق الحسنة مستندين في ذلك إلى ما جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فهم قدوتنا وسلفنا الصالح في الأخلاق. قال أستاذنا الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله تعالى-: "أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم الجيل المثالي رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانت توجيهات القرآن تلاحقهم، تعالج أمراض النفوس، وتزكي القلوب، وترقى بهم إلى القمم السامقة، قال ابن مسعود رضى الله عنه: "أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" أخرجه أبو عمر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (97/ 2). وقد استطاع الصحابة في الفترة التي تلت وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقيموا حياتهم في المجتمع الإسلامي وفق منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - , .. وقد أمرنا الرسول باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ففي الحديث، (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور .. " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ومما يدل على فضل الصحابة أن الله شهد لهم، ورضي عنهم، وأثنى ¬

_ (¬1) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 142).

عليهم في القرآن وفي كتبه السابقة. وإذا كان للصحابة هذه المنزلة فلا عجب أن يكونوا مصابيح الدجا، وأعلام الهدى، ومنارات تضيء طريق السائرين إلى ربهم، وعصمة للأمة حال حياتهم من الضلال والزيغ" (¬1). والآثار السلفية، والمناقب العلية من هدى الصحابة الكرام يعجز القلم عن حصرها، والباحث عن جمعها، وسيرتهم العطرة وحياتهم المنيفة في الأخلاق والسلوك كثيرة. ... ¬

_ (¬1) "تاريخ الفقه الإسلامي" (63) - مكتبة الفلاح - الكويت.

هدف الأخلاق في الإسلام

هدف الأخلاق في الإسلام الهدف من الالتزام بالأخلاق عند المسلم هو إرضاء الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي بتاتًا أن يكون هدفه مدح الناس له؛ لأن ذلك يُعد من الرياء، وكذلك لا ينبغي للعاقل أن يكون هدفه من وراء ذلك الكسب المادي فقط، والإسلام أيضاً يهدف إلى بناء مجتمع يقوم على التراحم والتعاون والإيثار وحب الخير للناس، من خلال علاقات حسنة مع الوالدين والأبناء، والأزواج، والأرحام، والجيران، وجميع المسلمين، بل وغير المسلمين، بل يتعدى ذلك إلى الحيوان والجماد، فالإسلام -بحمد الله تعالى- يهدف إلى حمل المسلم على التحلي بمكارم الأخلاق، والعيش في ظلها. أهمية الأخلاق أيها الودود، بعد أن تبيّن لك هدف الأخلاق، إليك جملة من النصوص الدالة على أهمية الأخلاق، وأنها تحقق لك سعادة الدنيا والآخرة. 1 - امتثال أمر الله سبحانه: كثيرة هي الآيات القرآنية التي تدعو العاقل إلى امتثال أمر الله سبحانه في الأخلاق، إما إيجابا، أو نهيا، أو إرشادًا، ومنها: قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

أنها طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم

قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 11: 12]. ولهذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها مَا كَانَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ فِي بَيتِهِ؟ قَالَت: كَانَ يَكُونُ فِي مِهنَةِ أَهلِهِ -تَعنِي خدمَةَ أَهلِهِ- فَإِذَا حَضَرَت الصلاةُ خَرَجَ إِلَى الصلاةِ" (¬1). وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمثتل أمر الله تعالى في كل شأنه قولًا وعملاً، وكان خلقه القرآن. 2 - أنها طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم: عن أَبي ذر رضى الله عنه قال: قال لي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (اتِّقِ اللهِ حَيثُمَا كنتَ، وَأَتْبع السَّيئةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنِ" (¬2). 3 - أنها سبب لمحبة الله تعالى: قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (676 - فتح). (¬2) حسن. أخرجه أحمد (5/ 153 - 158)، والترمذي (1987)، وحسنه شيخنا العلامة الألباني في "صحيح الجامع" (97).

أنها سبب لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وعن أُسامة بن شَرِيك رضى الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس، فقالوا: مَن أحبُّ عباد الله إلى الله؟ قال: "أحسنُهُم خُلُقًا" (¬1). 4 - أنها سبب لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أحَبّكمْ إليّ، وأقربكمْ مني مَجلِسًا يومَ القيامةِ، أحاسِنَكم أخلاقًا" (¬2). 5 - أنها من أعظم أسباب دخول الجنة: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سُئلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنةَ؟ فقال: "تقوى الله وحُسنُ الخُلُقِ" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةِ على ظهرِ طريقِ، فقال: واللهِ لأُنحِّينّ هذا عنِ المُسلمينَ، لا يُؤذيهم، فأُدخل الجنةَ" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الطبراني (471)، وغيره، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" (432). (¬2) صحيح. أخرجه الترمذي (2018)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2201). (¬3) حسن. أخرجه أحمد (2/ 291 - 392 - 442)، والترمذي (2004)، وابن ماجة (4246)، والبخاري في "الأدب المفرد" (289)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (2642) و"صحيح الأدب المفرد" (222). (¬4) أخرجه مسلم (1914) كتاب البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق.

الترهيب من الأخلاق السيئة

والنصوصُ في حُسن الخُلق كثيرة، منها: أنَّها دليل كمال الدين (¬1)، وأنَّها أثقلُ شيء في الميزان (¬2)، وأنها عبادةٌ يبلغ بها العبد درجات الصائم القائم (¬3)، وأن صاحب الخلق من خيار الناس (¬4)، وأنها من خير أعمال الإنسان (¬5)، وأنها سببُ تأييد الله ونصره. الترهيب من الأخلاق السيئة وفي المقابل جاءت النصوص من الكتاب والسنة بالترهيب من الأخلاق السيئة، والنهي عنها، والتحذير منها، وذم العاملين بها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات11]. ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وابن حبان (479 الإحسان)، وصخحه الألباني في "الصحيحة" بطرقه (284). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 446، 448، 451)، وأبو داود (4799)، والترمذي (2003)، وابن حبان (481 الإحسان، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" (876). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 64، 90، 133، 187)، وأبو داود (4798)، وابن حبان (480 الإحسان)، والحاكم (1/ 60 واللفظ له)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (795). (¬4) أخرجه أحمد (6/ 161)، والبخاري (3559، 3759، 6029، 6035 الفتح)، ومسلم (2321)، والترمذي (1975). (¬5) أخرجه البخاري (3 الفتح)، ومسلم (160) كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} [المطففين1: 5]. وقال سبحانه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة: 1]. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذئ" (¬1). والنصوص في هذا الباب كثيرة، وصنف الإمام الخرائطي كتابًا سماه "مساوئ الأخلاق"، وأورد الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" نصيبًا منها، وللحافظ الذهبي كتاب في "الكبائر"، ولأبي الشيخ الأصبهاني كتاب في ذم مساوئ الأخلاق سماه "التوبيخ والتنبيهُ"، ومن العلماء من أفرد بعض الأجزاء في ذم نوع من الأخلاق السيئة كالإمام ابن عساكر في "ذم قرناء السوء" وفي "ذم من لا يعمل بعلمه"، وابن أبي الدنيا في "ذم البغي" و"ذم الملاهي" و"ذم الكذب" و"الغيبة والنميمة" والإمام الفريابي في "صفة المنافق" والخطيب في "البخلاء" و"التطفيل" والإمام الآجرى في كتاب "تحريم النرد والشطرنج والملاهي" وابن وضاح في كتابه "البدع والنهي عنها" وغيرهم كثير يصعب حصرهم. ... ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 405)، والبخاري في "الأدب المفرد" (312)، وابن حبان، وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع" (5381).

الثمرات المستفادة من دراسة الأخلاق؟

الثمرات المستفادة من دراسة الأخلاق؟ عندما ندخل في علم أو تدريس فن من العلوم، لا بد أن نعرف أهدافه، فلا يجوز أن تُعلم إنسانًا شيئًا إلا إذا عرفته الثمرات المستفادة منه. الثمرة الأولى: أن يعرف المرء غاية الوجود الإنساني، أن يكون ذا خلق، وهذا مراد الله سبحانه من الإنسان المسلم، أن يكون ذا خلق كامل زكي النفس، فالله سبحانه ما أنزل كتابه وتشريعه إلا لتربيتنا وتعليمنا وإيصالنا إلى مرتبة عالية من الأخلاق. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس9: 10]. وهذا يدل على أن الفلاحَ إنما هو تزكية النفس، وجميع الأعمال الصالحة من صلاةِ وغيرها إنَّما هي لزكاة النفس وتطهيرها، حتى قضايا التوحيد كلها خلقية، فالاعتراف بأن اللهَ إلهٌ واحدٌ هذا من الخلق الرفيع، وهو الاعتراف بفضل الله سبحانه، ورد الجميل له بالشكر. وكذلك العبادةُ قضيةٌ خلقية، فإذا نظرنا إلى المعاملات أيضاً، نجد أنها قضايا خلقية، فمثلًا عدم الغش في البيع، وهو موقف خلقي، والقرض، ومثله الضمان، والحَوَالَةِ، والصُّلح، والإجارة، والوديعة، وغيرها من المعاملات، فالدينُ كله مواقف خلقية في الأساس، ولذلك كان غاية الدين التزكية، وتَعلم العلم غايتهُ العمل الصالح والأخلاق الرفيعة، والهدف من

الثمرة الثانية

الأخلاق أَن يصل إلى الكمال الإنساني الذي أراده الله سبحانه، فإذا ترك بعيدًا عن هداية الله، أصبح إنسانًا غير سوي. ولذا يقول الشاعر: لا تحسبنَّ العلمَ ينفع وحدهَ ... ما لم يُتوج ربُّه بخلاقِ وقال إبراهيم التنوخي: وإذا الفَتَى قد نالَ عِلمًا ثُم لَمْ ... يَعمل بهِ فكأنَّما لم يَعلَمِ الثمرة الثانية: الدعوة إلى الله عز وجل، والذي يظن أنَّ النَّاس تدخل في الدين فقط لأنَّهم يقتنعون عقليًّا فقط، لا شك أنه مخطئٌ. فليس كل النَّاس يدخلون في هذا الدين لأنهم اقتنعوا بعقولهم، وإنما كثير من الناس يدخلون في الدين لأنهم يرون أن أهلَ هذا الدين على خُلق، وأن الدعاةَ إلى الله عندهم أخلاق (¬1)، والشواهدُ في هذا الباب كثيرة، وحسبي أن أكتب لك هذه القصة الواقعية. قصة إسلام رجل إيطالي: ما قصة هذا الرجل؟ وكيف أسلم؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله تعالى، فقد زارني أحد الفضلاء النبلاء من أهل الكويت في مسجد عبد الله خلف الدحيان في الفيحاء العامرة يوم الجمعة، وبعد أن انتهيت من الخُطبة، قدم لي فتى لم يتجاوز عمره الحادية عشرة اسمه جبريل، وقال لي: هذا الفتى ¬

_ (¬1) "الأخلاق في ضوء الكتاب والسنة" (مخطوط) بترتيبي للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (بتصرف).

إيطالي الأصل، ويتحدث العربية، أتمنى أن تسمع لقصته العجيبة، وكيف أسلم والده، ووالده موجود في المسجد، وحضر خطبتك، وهو لا ينطق بالعربية حتى الآن، فسألته عن سبب دخولهم في الإسلام، فقال: كان أبي يعمل مديرًا لأحد البنوك في إيطاليا، وفي يوم من الأيام صرف مبلغًا بطريق الخطأ يساوي ألفًا وخمسمائة دينار كويتي لامرأة مسلمة ترتدي الحجاب والنقاب من أصول صومالية تستوطن إيطاليا، والمرأة أخذت هذا المال وانصرفت، وعند وصولها للمنزل فوجئت بزيادة في المبلغ، فعزمت على رده من الغد، وبات والدي في هم طول ليلته، ومن الغد جاءت المرأة لرد المال، ففرح والدي (المدير) لقدومها وردها هذا المال، وعجب لخلقها غاية الاعجاب، وسألها عن سبب ردها المال، فقالت: هذا المال ليس حقا لي؛ لأن شريعتنا الإسلامية تمنعنا أن نأخذ مال الغير إلا بإذن أهله، فهذا مال محرم عليَّ، عندها قال أبي وكان على دين النصرانية: هذا دين عظيم الذي يحملك على حفظ مال الغير، فشكرها لهذا الخلق الكريم، وطلب منها تزويده بكتب تعرفه بالدين الإسلامي، فأسلم والدي بعد يوم واحد، وتزوج منها، وهي أمي الآن التي أحدثك عنها. قال جبريل: وعزم أبي على نقل أمي إلى البلاد العربية إذا رزق بولد، حتى ينشأ في بيئة الصحابة التي قرأ عنها في الكتب، وبعد أن ولدتُ سماني جبريل، ثم نقلنا إلى مكان آمن في إحدى البلاد العربية حتى لا نتلوث بالعقائد الباطلة، والمشاهد السيئة في إيطاليا، ونشأ جبريل الذي هو أنا في بيئة مسلمة وتعلمت العربية، وحفظت من القرآن ثلاثة عشر جزأ

بحمد الله تعالى، وبعد أحداث الحادي عشر من (سبتمبر) لعام 2001 ضغطت أمريكا على الأنظمة العربية، بضرورة إخراج الغربيين من بعض البلاد، وبالأخص من أسلم منهم، فتكدر أبي لهذا القرار، وعزم قبل العودة إلى إيطاليا أن يزور ثلاث دول عربية: دولة الكويت، ثم إمارة الشارقة في الإمارات، ثم مكة المكرمة، والمدينة النبوية، ويقدر الله سبحانه أن نصل إلى الكويت أولًا، ونستقر فيها بمساعدة أهل الخير، فعندما دخلنا الكويت أخذنا (فلان) بارك الله فيه، إلى ديوانه العامر بالإخوة الفضلاء، وندب الحضور إلى ضرورة مساعدتنا، وكنت أسمع حديثهم، وأبي جالسٌ إلى جانبي لا يفهم ما يقول الحضور؛ لأنه لا يحسن العربية، إلا إذا شرحت له، ومن سرورنا وسعادتنا أن تكفل بعضهم بالإقامة لنا، وآخر بالراتب، وثالث بأثاث الشقة، ورابع بأجرتها، وبعد أن خرجنا من الديوان وشرحت لأبي ما دار في الديوان فرح فرحا شديدًا، وحمد الله سبحانه، وقال: سبحان الله! كنت مهموماً مغمومًا، فأبدلني الله سبحانه فرجًا وسعةً، وتذكرت مناقب الأنصار مع المهاجرين، كيف فتحوا لهم القلوب والبيوت، وشاركوهم في الأموال والتجارة، فأنتم كذلك يا أهل الكويت، وقفتم مدي موقفا مشرفاً، زادكم الله فضلًا. قال الابن جبريل: هذه قصة إسلام أبي, والحمد لله على نعمة الإسلام. قلت: هل تأملتم سبب إسلام هذا الرجل، إنه موقف خلقي نبيل من هذه المرأة المسلمة، فلو أن كل مسلم ومسلمة امتثلوا آداب الإسلام بحق،

وتخلقوا بقيمه، لكان الحال غير الحال. وهذه قضية مهمة جداً، وهي الدعوة إلى الله سبحانه بوجوب التحلي بالعمل بعد العلم، فإن أهم ما يُميز الإنسان المسلم صورة تعامله مع الله، ومع إخوانه في الدين، ومع غيرهم، وهذه الصورة هي أول منظر يُرى به المسلم مع الله سبحانه، ومن محيطه، فإن أحسن، أرضى ربه ورضي عن نفسه، وأعطى صورة رائعة للآخرين عن هذا الدين، وعن معتقديه، فكأنه دعا بلسان الحال، وليس بلسان المقال إلى دينه دعوة أبلغ إلى القلب والعقل معًا وأوصل. فالاستقامة على الأخلاق لها أثر كبير، ونفعها بليغ، ولا أدل على ذلك مما جاء في السيرة النبوية من أن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت محل إعجاب المشركين قبل البعثة، حتى شهدوا له بالصدق والأمانة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَأَيتَكُم لو أَخبَرتكُم أن خَيْلًا تخرُجُ بِسَفحِ هذا الجبلِ، أكُنتم مُصدقيّ؟ " قالوا: ما جرّبنا عليك كذبًا. قال: "فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ" (¬1). وقد بدأ انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لما رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خلقًا حميدًا في أشخاص مسلمين صالحيين، مارسوا سلوكهم الرشيد، فكانوا كحامل مصباح ينير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (8/ 827 الفتح) ومسلم (208) في كتاب الإيمان.

طريقه لنفسه بمصباحه، فيرى الآخرون ذلك النور ويرون به، وليس أجمل منه في قلب الظلام، وبناء على ذلك الإقبال سريعا دون دافع سوى القدوة الحسنة، فرب صفة واحدة مما يأمر به الدين تترجم حية على يد مسلم صالح يكون لها أثر لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشرة؛ لأن النفوس قد تنفر من الكلام الذي تتصور أن للناطق به مصلحة، وأحسن من تلك الصفات التمسك بالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يُرى من الإنسان المسلم، ومن خلالها يحكم له أو عليه. وُيذكر أنَّ قُتيبة بن مسلم الباهلي (¬1) (القائد المسلم الفاتح المشهور) عندما فتح سمرقند احتج أهلها وشكوا ظلمًا أصابهم، وتحاملًا من قتيبة عليهم، وأرسلوا إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، فأجلس لهم عمر بن عبد العزيز القاضي جميع بن حاضر الناجي، فقضى بخروج عرب سمرقند -وهم قتيبة وجنوده- إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوةً. فقال أهل الرأي من أهل سمرقند: بل نرضي بما كان، ولا نجدِّد حربًا. وتراضوا بذلك، وقالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمِنونا وأمناهم" .. فتركوا الأمر ورضوا ولم ينازعوا. قلت: وذلك أنهم شاهدوا صدق المعاملة، والعفة والأمانة والمعروف ¬

_ (¬1) ينظر "تاريخ الطبري" (4/ 69)، وترجمته في "وفيات الأعيان" (1/ 428) "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (5/ 4) و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 410)، و"الأعلام" للزركلي (5/ 189).

الثمرة الثالثة

والعدل، فحملهم على النطق بعودتهم لهم. ويؤيد هذا قصة ثُماَمَة بن أثال الحنفي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خَيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجُلٍ من بني حنيفةَ، يقالُ له ثُمَامَةُ بن أُثَالٍ، [سيدُ أهلِ اليمامةِ]، فربطوهُ بسارية من سواري المسجد، فخرجَ إليهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ماذا عِندَك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خُير يا محمدُ، إِن تقتلني تقتل ذا دَم، وإن تُنعم تُنعِم على شاكر؟ وإن كُنتَ تريدُ المال فَسَل منهُ ما شِئتَ، فتركهُ حتى كان الغدُ، ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، فقال: "أَطلِقُوا ثُمامة". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسلَ ثُمّ دخل المسجد، فقال: "أشهدُ أَن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله" (¬1). قلت: ما الذي حمل ثُمامة على الإسلام وقد وقع في الأسر؟ لماذا لم يذهب إلى أهلهِ بعد أن أطلقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأسر؟ لماذا لم يقل: إنَّ المسلمين أسروني وقيدوني في المسجد، وأنا سيد قومي، ولي مكانة رفيعة، وشأن عظيم؟! ولكن ثُمامة أبصر الدعوة العملية، فالدعوة إلى الله عملية وقولية، وقد سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في المسجد عن الإسلام، وشاهد تعامل الصحابة وتطبيقهم العملي لهذا الدين وحسن أخلاقهم، وهنا أدرك حقيقة الإسلام، فأسلم سريعا، ورب عملٍ واحد أبلغ من ألف قول. الثمرة الثالثة: تقوية إرادة الإنسان، وتمرين النفس على فعل الخير وترك الشر، حتى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5/ 75، 8/ 87 - فتح)، ومسلم (1764) في كتاب الجهاد.

تصبح سجية في النفس نحو الفضيلة حتى تتحقق السعادة، ولكن كم من الناس عن سعادتهم غافلون! وقد يحرمون نفوسهم من خير كثير بسبب قلة أدبهم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السَّلَب بعد أن بَرَد بيديه؟ " (¬1). أي عندما غضب عوف ولم يملك نفسه، حرم الخير. عن عوف بن مالك، قال: قَتَلَ رَجُلٌ مِن حِميَرَ رَجُلًا مِنَ العَدوِّ، فأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بنُ الوليدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيهِم، فَأتَى رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَوفُ بنُ مَالِكٍ، فَأخبَرَهُ، فقال لِخَالِدٍ: "مَا مَنَعَكَ أَن تُعطِيَهُ سَلَبَهُ؟ " قال: استَكثَرتُهُ، يَا رَسُولَ اللهِ! قال: "ادفَعهُ إلَيهِ"، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قال: هَلْ أَنجَزتُ لَكَ مَا ذَكَرتُ لَكَ مِن رَسُولِ اللهِ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاستُغضِبَ. فقال: "لَا تُعطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنتُم تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إنَّمَا مَثَلُكُم وَمَثَلُهُم كَمَثَلِ رَجُلٍ استُرعىَ إِبِلًا أَو غَنَمًا فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأوَردَهَا حَوْضًا، فشَرَعَت فِيهِ فشَرِبَت صَفوَهُ وَتَرَكَتْ كَدرَهُ، فَصَفوُهُ لَكُم وَكَدرُهُ عَلَيهِم" (¬2). ما أجمل الأدب بالأفعال! وهكذا يصنع العقلاء، فقد خاصم رجل الأحنف فقال الرجل: لئن قلتَ واحدة لتسمعنَّ عشرًا، فقال الأحنف: لكنَّك إن قلتَ عشرًا، لم تسمع واحدة (¬3). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 369). (¬2) أخرجه مسلم (1753) في كتاب الجهاد، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل. (¬3) "سير أعلام النبلاء" (4/ 93).

فالواجب على العاقل أن يحرص على تقوية أرادته، ويؤدب نفسه على الأخلاق الحسنة، ويحملها على العدل، ولا يكن أول الظالمين لها. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32]. فالظالم لنفسه هو المقصر في عمله تجاه ربه الذي أحسن إليه، أو نبيه، أو أحدًا ممن يجب عليه بره، والمقتصد هو العامل في أغلب الأوقات، وأما السابق بالخيرات فهو العامل والمعلم لغيره والمجاهد لدينه. فالواجب أن يكون لنفسه من أعدل الناس، فمن عدل مع نفسه، فهو العاقل السابق بالخيرات، ومن دساها فهو الظالم لنفسه. قال الماوردي: "فأَمَّا عدلُهُ في نفسهِ فيكُونُ بحملها على المصالح، وكفَّها عن القبائحِ، ثُمَّ بالوُقُوفِ فِي أَحوالها على أَعدل الأمرين من تجاوُزِ أَو تقصيرِ. فإِنَّ التجاوُزَ فيها جورٌ، والتقصيرَ فيها ظُلمٌ، ومن ظلم نفسهُ فهو لغيره أَظلمُ، ومن جار عليها فهو على غيرهِ أَجوَرُ" (¬1). ولهذا قال بعض الحُكماء: لا ينبغي للعاقلِ أَن يطْلُبَ طاعة غيره، ونفسهُ مُمتنعةً عليه. ... ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (226).

طرق تحصيل الأخلاق الحسنة

طرق تحصيل الأخلاق الحسنة تحصيل الأخلاق يكون بطريقين: الطريق الأول: طريقٌ موهوب، وهو عطاء من الله سبحانه، وهذا الخُلق الحسن ليس لنا سبب إليه إلا الهبة من الله سبحانه كما زكى الله سبحانه عيسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)} [مريم: 19]، وهذا يسمى الطبع الذي جُبِلَ الإنسان على التحلي به. الطريق الثاني: طريقٌ مكسوب، وهو من فعل الإنسان حسنه وقبيحه، وهذا يعرف أيضاً بالتطبع. والدليل على أن الأخلاق تنقسم إلى هذين القسمين حديث أشجَّ عبد القيس (¬1) قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن فِيكَ لخلقينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ" قُلتُ: وما هما يا رسول الله؟ قال: "الحِلمُ وَالحَيَاءُ". قلت: قَديمًا كان أو حَديثًا؟ قال: "قديِمًا". قُلتُ: الحَمدُ للهِ الذي جَبَلَنِي على خُلقينِ أحبهما الله" (¬2). ¬

_ (¬1) هو: المنذرُ بن عَائِذ بن المنذر بن الحارث العبديَ العَصْريَ، المعروف بالأشج، أشج عبد القيس. سيد قومه، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له الحديث، ولما أسلم رجع إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك. ينظر ترجمته "طبقات ابن سعد" (5/ 557)، و"تهذيب التهذيب"، (10/ 267)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 8 و5/ 203)، و"أسد الغابة" (5/ 267). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" (584)، وأبو يعلى (12/ 242).

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فهذا دليل على أن الأخلاق الحميدة الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبعاً، ولكن الطبع -بلا شك- أحسنُ من التطَبُّع؛ لأن الخلق الحسن إذا كان طبيعيًا صار سجيَّة للإنسان وطبيعة له، لا يحتاج في ممارسته إلى تكلُّف، ولا يحتاج في استدعائه إلى عناء ومشقة، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن حُرم -أي حُرم الخلق عن سبيل الطبع- فإنه يمكنه أن يناله عن سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة" (¬1). فالأخلاق منها ما هو موهوب، ومنها ما هو مكتسب، والموهوب من الله سبحانه. ونحن لا نطيل في هذه المسألة، لأنَّها عطاء من الله سبحانه، وهي الخُلُق الموهوب، والتي لا دخل لنا في كسبها. أما القسم الثاني فالدليل على ذلك من السنة النبوية في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العِلمُ بِالتَّعَلمِ، وَالحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّديدُ الذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ" (¬3). ¬

_ (¬1) "مكارم الأخلاق" (272). (¬2) حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "الحلم" (2)، والخطيب في "التاريخ" (9/ 127)، وحسنه شيخنا الألباني في "الصحيحة" (342). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 236، 517)، والبخاري (10/ 518 - فتح)، ومسلم (2609).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلَا قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني. قال:" لا تَغضَب". فرددَ مرارًا قال: "لا تَغضَب" (¬1). وهذا الغضب هو المذموم، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب" أي عود نفسك الصبر، وكظم الغيظ، فإذا جاء ما يثير حفيظتك ويثير أعصابك، فلا بد من أن تهدأ وتتصبر، وكما قال: "الحلم بالتحلم" (¬2). والشاهد من كل هذا أن الطريق الثاني لتحصيل الأخلاق هو المكتسب بفعلنا وأخلاقنا الكريمة والمعروف (بالتطبع) الكسبي المعروف. قال الشاعر منقر بن فروة: ومَا المَرءُ إلا حيثُ يجعلُ نَفسَهُ ... ففى صَالحِ الأخلاقِ نَفسَكَ فَاجعَلِ وقال أبو تمام: فلم أَجدِ الأَخلاقَ إلا تَخَلْقًا ... ولم أَجِدِ الإفضَالَ إلا تَفَضُّلا قال الماوردي رحمه اللهُ: "اتباعُ الدِّين، والرجوع إلى الله عز وجل في نَدْبه وآدابه، فيقهَر نفسَه على مذموم خُلُقها، وينقلها عن لئيم طبعها، وإن كان نقلُ الطباع عَسِرًا، لكنْ بالرياضة والتدرج يسهل منها ما استصعَب وُيحَبّب منها ما أَتعب، وإن تقدم قولُ القائل: مَن رَبُّه خَلَقَه كيف يُخَلّي خُلقه! غير أنه إذا عانى تهذيبَ نفسه، تظاهر بالتخلُّق دون الخلُق، ثم بالعاده يصير كالخلُق" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 466)، والبخاري (6116 - فتح)، والترمذي (2020). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "أدب الدنيا والدين" (428).

قلت: والخلاصة أن الأخلاق ما هو جبلي فطري وبقدر ما هو ثابت عليه من الخير ابتعد عنه الآخر، ومنها ما هو مكتسب ينبغي للعبد أن يجتهد في تربية نفسه، ولهذا جاءت الخطب والمواعظ والوصايا لتزكية النفوس، فتغير الطباع وتهذيب القلوب أمر يسير على من يسره الله سبحانه، فالإنسان إذا أراد تغير أخلاقه عود نفسه بالاعتياد والألفة عادات الخير فصعب عليه طرق الشر والهلكة ونفر منها، أما إذا سبق إلى الشر فالهلاك على بابه. ***

كيف تعرف عيوب نفسك؟

كيف تعرف عيوب نفسك؟ اعلم -رعاك الله أيها الودود- أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرًا بَصَّرَهُ، بعيوبِ نفسِه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبُه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنَّ أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القَذَى في عينِ أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه؛ كما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُبصِرُ أحدُكُم القَذاةَ في عينِ أخيهِ، وينسى الجِذْعَ في عينه مُعتَرِضًا" (¬1). قال ابن حزم: "العاقل: هو من ميَّز عيوبَ نفسه فغالَبَها، وسعى في قمعِها، والأحمقُ: هو الذي يَجهل عيوبَ نفسه، إمَّا لقلةِ عِلمه وتَمييزه، وضعفِ فِكرته، وإمَّا لأنَّه يُقَدِّرُ أن عيوبه خِصالٌ، وهذا أشدُّ عيبِ في الأرض" (¬2). فمن أراد أن يعرف عيوبَ نفسه فله، في ذلك أربعُ طُرق: الأول: أن يجلس بين يدي شيخٍ بصيرٍ بعيوبِ النفس، وعلى منهج السلف، يُعرِّفُهُ عيوبَ نفسه وطرقَ علاجها، وهذا قد عَزَّ في هذا الزمان وُجُودُه، فمن ظفر به، فقد وقع على الطبيب الحاذق، فلا ينبغي أن يفارقه، فمجالسته دواء، والأخذ بنصحه عافية. ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه ابن حبان (5731 - الإحسان)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 99)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (33). (¬2) "الأخلاق والسير" (155) لابن حزم.

الثاني

الثاني: أن يطلب صديقًا صَدُوقًا بصيرًا مُتَدَينًا، يلاحظ أفعاله وأقواله، فما كره من أخلاقه وعيوبه، ينبهه عليها، وكان هذا دأب الكرام بقولهم: "رحم اللهُ من أهدى إليَّ عيوبي" (¬1). فكل من كان أوفر عقلًا، كان أقل الناس إعجابًا، وأعظمهم اهتمامًا وفرحًا بتنبيه غيره له على عيوبه، يا لَلْأَسف فقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا. الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنةِ أعدائه، ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مُداهن يثني عليه ويُخفي عنه عيوبَه (¬2). الرابع: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذمومًا فيهم فليبتعد عنه، وينفر منه، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به غيره، فلا ينفك هو عن أصله، أو عن أعظم منه، أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه، ويطهرها من كل ما يذمه من غيره، وناهيك بهذا تأديبًا، فلو ترك الناس كل ما يكرهونه من غيرهم، لاستغنوا عن المؤدب، وهذا كله لازم لمن فقد شيخًا مربيًا ناصحًا في الدين، وإلا فمن وجده فقد وجد الطبيب فليلازمه، فإنه يخلصه من مرضه، فاحفظ هذا فإنه مهم. وقيل لرجل: من أدبك؟ قال: رأيتُ جهل الجهال قبيحًا، فاجتنبته، فتأدبت. ¬

_ (¬1) ينظر "سير أعلام النبلاء" (393/ 7). (¬2) "مختصر منهاج القاصدين" (161).

أحوال الإنسان في أخلاقه

أحوال الإنسان في أخلاقه اعلم -أحسن الله إليك- أنَّ الإنسان لا يخلو من إحدى ست أحوال: الأولى: أن تكون أخلاقه كلها صالحة في الأحوال كلها، فهي النفس الزكية، وصلاحها هو الخير التام، وصاحبها هو السيد بالاستحقاق، فيحفظ صلاح أخلاقه كما يحفظ صلاح جسده، ولا يغفل عن مراعاتها، ثقة بصلاحها، فإن الهوى مراصد، والمهمل معرض للفساد. والحالة الثانية: أن تكون أخلاقه كلها فاسدة في الأحوال كلها، فهي النفس الخبيثة، وفسادها هو الشر التام، وصاحبها هو الشقي بالاستحقاق، فيعالج فساد نفسه كعلاجه مرض جسده، وهو أصعب أحوالها علاجًا، وأبطؤها صلاحًا. وقد قال بعض الحكماء: لا مرض أوجع من قلة العقل. والحالة الثالثة: أن تكون أخلاقه صالحة في كل الأحوال، فتنقلب كلها إلى الفساد في كل الأحوال، فهو المستعاذ به من "الحور بعد الكور" (¬1). ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم (1343)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يقول: "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال"، ولكن في رواية مسلم (والحور بعد الكون) بالنون، وليس الراء وهما روايتان، والمعنى الرجوع من الإيمان والاستقامة، إلى الكفر والانحراف، ومن الصلاح إلى الفساد، ومن الطاعة إلى المعصية.

والحالة الرابعة

والحالة الرابعة: أن تكون كل أحواله فاسدة في كل الأحوال، فتنقلب إلى الصلاح في كل الأحوال، فما ذاك إلا لداع غلب على الطبع، فاجتذبه، وقوي عليه حتى قلبه، فيراعي حفظ أسبابه، وتقوية مواده، ولا يغفله؛ فيجذبه الطبع السابق كما اجتذبه، فإن نوازع الطباع أجذب، وهي إلى ما ناسبها أقرب، وقليل الفساد صلح أن يكون محفوظ الصلاح. قال بعض الحكماء: "كل متأدب من غيره متى لم يدم عليه الأدب، اختل ما يستفيد منه، ورجع إلى طبعه". وملاك صلاحها أن تكاثر من وافقه في الصلاح، وتجانب من خالفه فيه، فإن للصحبهَ تأثيرًا في اكتساب الأخلاق. قال بعضُ البُلَغاءُ: صلاح الشيم بمعاشرة الكرام، وفسادها بمخالطة اللئام. والحالة الخامسة: أن تكون أخلاقه صالحة في كل الأحوال، وبعضها فاسدة، فقد أعطته نفسه من صلاحها شطرًا، ومنحته من فسادها شطرًا، وهما متنافران، وفيما أعطت عون على ما منعت إن روعيت، وفيما منعت فساد لما أعطت إن أهملت. والحالة السادسة: أن تكون كل أخلاقه صالحة في بعض الأوقات، وبعضها فاسدة في بعض الأوقات الأخرى، فقد ترددت النفس بينهما، وتواطأت لهما،

والفساد داخل عليها، وليس منها، والعقل مساعد، والهوى معتدٍ، وكل واحد منهما جاذب للنفس، وهي تنقاد إلى ما وافقها، فإن توفرت فضائلها انقادت للعقل في صلاح الأخلاق، وإن زادت رذائلها اتبعت الهوى في فساد الأخلاق؛ لأن العقل علم روحاني يقود إلى الخير، والشهوة خلق بهيمي يقود إلى الشر، فأطلق عنان النفس إذا انقادت للعقل، واقبضه إذا اتبعت الهوى، تجدها على الصلاح مساعدة، وللفساد معاندة، فحسبك بها للعقل عونًا وظهيرًا. قال الرشيد: "قبح الله المرء لا واعظ له من عقله، ولا مطيع له من نفسه" (¬1). قلت: أخي -يحفظك الله تعالى- هذه الأحوال الستة المذكورة، والعاقل اللبيب من كان دائمًا على الحالة الأولى، فإن حاد عنها، رجع إلى ربه وتاب وأناب، وعاد إلى عقله ورشده، نسأل الله السلامة، والله الهادي إلى الصواب. ... ¬

_ (¬1) ينظر كتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر" للماوردي (9). (بتصرف).

أسباب تغير الأخلاق الحسنة

أسباب تغيّر الأخلاق الحسنة قال الماوردي رحمه الله: "رُبَّما تغيَّر حُسنُ الخُلُقِ والوطاءُ إلى الشَّراسةِ والبذاءِ؛ لأسبابٍ عارضةٍ، وأُمورٍ طارئةِ، تجعلُ اللّين خُشُونةً، والوطَاءَ غلظةً، والطلاقةَ عُبُوسًا. فمن أَسباب ذلك: الولايَة: التي تُحدثُ في الأخلاقِ تغيُّرًا، وعلى الخُلَطَاءِ تَنَكُّرًا، إما من لُؤمِ طَبعٍ، وإما من ضيقِ صَدرٍ. ومنها: العزلُ؛ فقد يسوءُ به الخُلُقُ، ويضيقُ به الصدرُ؛ إما لشدّة أَسفٍ أَو لقلةِ صبرٍ. ومنها: الغنى؛ فقد تتغَيَّرُ به أَخلاقُ اللَّئيمِ بطَرًا، وتسُوءُ طرائقُهُ أَشرًا. ومنها: الفقرُ؛ فقد يتغَيرُ به الخُلُقُ إما أَنفةَ من ذُلِّ الاستكانة أَو أَسفاً على فائتِ الغنى. ومنها: الهُمُومُ التي تُذهلُ اللُّبَّ، وتشغلُ القلب، فلا تتبعُ الاحتمالَ، ولا تقوى على صَبرٍ، وقد قيل: الهَمُّ كَالسُّمِّ. ومنها: الأمراضُ الَّتي يتغَيرُ بها الطَّبعُ ما يتغيرُ بها الجسمُ، فلا تبقى الأخلاقُ على اعتدالٍ، ولا يقدرُ معها على احتمالِ. ومنها عُلُوُّ السنِّ وحدوثُ الهرمِ لتأثيره في آلَةِ الجسدِ، كذلك يَكُونُ تأثيرهُ فِي أَخلاقِ النَّفسِ، فكما يضعفُ الجسدُ عن احتمالِ ما كان يُطيقهُ من أَثقالِ، فكذلكَ تعجزُ النَّفسُ عن أَثقالِ ما كانت تَصبِرُ عليهِ من مُخالفةِ الوفاقِ، ومضيق الشّقَاق.

فهذه سبعةُ أَسباب أَحدثَت سُوءَ خُلُقٍ كان عامًا. وهاهُنا سبب خَاصٌّ يُحدثُ سُوء خُلُقٍ خَاصٍّ، وهُو البغض الَّذي تنفرُ منهُ النَّفسُ، فَتُحدثُ نُفُورًا على المُبغضِ، فيؤُولُ إلى سُوءِ خُلُقٍ يخُصُّهُ دون غيره. فإِذا كان سُوءُ الخُلُقِ حادثًا بسببٍ، كان زوالُهُ مقرُونًا بزوالِ ذلكَ السَّبَبِ، ثُمَّ بالضّدّ (¬1). ... ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (385) باختصار.

كيف نكتسب الأخلاق الحسنة؟

كيف نكتسب الأخلاق الحسنة؟ للأخلاق الفاضلة منزلة رفيعة في دين الله، ولها ارتباط قوي بقوة الإيمان وحسنه، وتدين المرء وتمسكه بالشريعة؛ لأن الأخلاق يمكن اكتسابها؛ لذا كان من المهم الحديث عن الوسائل التي يمكن من خلالها اكتساب الأخلاق الحسنة، والأمور المعينة على التحلي بها، وهذا ما سيأتي -بإذن الله تعالى-: ويزعم البعض أن الأخلاق لا يتصور تغيرها، ولو صح ذلك، لبطلت الوصايا والمواعظ والخطب، وكيف ينكر هذا في حق الإنسان وتغير خلق البهيمة ممكن؟! وكم من حيوان نقل من الاستيحاش إلى الاستئناس والسياسة والانقياد كالكلب والفرس الجموح، بل حتى الأسد والنمر والصقر والقرد، وكل ذلك تغير للأخلاق، فأجدر بالإنسان أن تتغير أخلاقه بالتدريب والرياضة. ولا ريب أن أثقل ما على الطبيعة البشرية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس، إلا أن ذلك ليس متعذرًا ولا مستحيلًا، بل إن هناك أسبابًا ووسائل، يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب الأخلاق الحسنة. ومن ذلك ما يلي: 1 - تصحيح العقيدة: العقيدة الصحيحة هي التي تصحح الأخلاق، وتحمي الإنسان من الانزلاق، وليس ذلك إلا في عقيدة السلف أهل السنة والجماعة أصحاب

الحديث. فالسلوك (¬1) ثمرة لما يحمله الإنسان من معتقد، وما يدين به من دين، والانحراف في السلوك ناتج عن خلل في المعتقد، فالعقيدة هي السنة، وهي الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد والإِيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها مما هو من أصول الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا؛ فإذا صحت العقيدة، حَسُنت الأخلاق تبعًا لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة (عقيدة السلف) عقيدة أهل السنة والجماعة التي تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق، وتردعه عن مساوئها. كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكَمل المؤمنينَ إِيماناً أَحسَنُهُم خُلُقاً" (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكمل المؤمنينَ إِيماناً أحسَنُهُم خُلُقاً، وخِيَارُكُم خِيَارُكم لِنِسَائِهِم" (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أكمَلَ المُؤمِنِينَ إِيماناً أَحسَنُهُم خُلُقاً، وَإِن حُسنَ الخُلُقِ لَيبلُغُ دَرَجَةَ الصومِ وَالصلَاةِ" (¬4). ¬

_ (¬1) السلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسنُ السلوك، أو سيء السلوك. "المعجم الوسيط" (445). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 527)، وغيره. (¬3) صحيح. أخرجه الترمذي (1162)، وقال: حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. (¬4) صحيح. أخرجه البزار (35 - كشف) عن أنس، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1590).

2 - الدعاء

2 - الدعاء: الدعاء لغةً: ما يُدعَى به الله سبحانه من القول. رغب إليه وابتهل، ويقال: دعا الله: رجا منه الخير (¬1)، "والدعاء كالنداء إلا أن النداءَ قد يقالُ: بـ "يا" أو "أيا" ونحو ذلك، من غير أن يضم إليه الاسم، والدعاءُ لا يكادُ يقالُ إلا إذا كان معه الاسمُ" (¬2). أما في الاصطلاح: هو التَّوجُّه إلى الله بالرغبة إليه فيما عنده من الخير، إما للثناء عليه، وإِما الابتهال إليه بالسؤال لدفع ضرّ، أو جلب نفع، وكلها عبادة لله سبحانه. فعلى العبد أن يلجأ إلى ربه، ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيِّئَهَا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ اغفِر خَطَايَايَ كُلَّها، اللهُمَّ أَنعِشنِي وَأَجِبرنِي وَاهدنِي لِصَالِحِ الأَخلَاقِ، فإِنَّه لَا يَهدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصرِفُ سَيئَهَا إِلَّا أَنتَ" (¬3) وقوله "أنعشني" أي ارفعني وقوِّ جأشي. ومن دعائه: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن مُنكَرَاتِ الأخلاق وَالأعمَالِ والأهوَاءِ" (¬4). وفي الحديث: (اللهم آتِ نُفوسنا تقواها، وزكِّها أنْتَ خيرُ مَن زكاها" (¬5). ¬

_ (¬1) "المعجم الوسيط" (286). (¬2) "المفردات" للراغب (169). (¬3) حسن. أخرجه الطبراني (8/ 270)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1266). (¬4) صحيح. أخرجه الترمذي (3591)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1298). (¬5) أخرجه مسلم (2722) في كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل.

3 - المجاهدة

3 - المجاهدة: المجاهدة لغةً: بذل ما في الوسع والطاقة (¬1). أما في الاصطلاح: أخذ النفس ببذل الطاقة، وتحمل المشقة، في دفع المضرة، وتحصيل المنفعة (¬2). فالسالك طريق الإصلاح يسعى بمجاهدة نفسه لتحقيق هدفه، والوصول بها إلى مراتب العلا، وعليه أيضاً أن يجاهد كل ما يقطع عليه الطريق بمغالبته، "وقد ضربت لك مثلين فليكون منك على بال: المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاماً يؤذيه، فوقف ورد عليه، وتماسكا، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكنه اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجَمْز (أي: السير والهدو) بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل لما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوُّه منه ما شاء. ¬

_ (¬1) "المعجم الوسيط" (142)، "المصباح المنير" (43). (¬2) "المفردات" للراغب (101).

المثل الثاني: الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه" (¬1). وهذا مثل ثالث: المتسابقون في رياضة الركض، كل متسابق منهم يبذل أقصى ما يملك من الجهد لكي يفوز بالسباق. وإنك لترى كل واحد منهم قد ثبت بصره على خط النهاية، فلا يلتفت يمنه ولا يسره حتى يحقق هدفه. وكل متسابق من هؤلاء وضع في ذهنه لحظه التكريم، فلو التفت أحدهم إلى هتافات الجمهور، أترى أنه يسبق، ولو أنه نظر في عطفه وملبسه وجمال جسمه أتراه يحقق هدفه. والآن أيها -الودود- هل أدركت خطورة القواطع من شياطين الأنس والجن، وأدركت خطورة النفس الأمارة بالسوء، والهوى، وقرناء الباطل، والبيئة السيئة، فهؤلاء قطاع الطريق، وأنت بينهم تسعى وتجاهد عدوك من أجل حليه الأخلاق وقلادة الأدب. ولا يمكن لنائم أن يفوز بتاج الفضيلة، ومنح الأخلاق وهو مقصر في حياته منغمس في لهوه، ومتدثر في سهوه، يرجو الربح في ميدان السباق. يحاول نيل المجد والسيفُ مغمدٌ ... ويأملُ إدراك العُلى وهو نائمُ فالخلق الحسن نوع من الهداية، يحصل عليه المرء بالمجاهدة، وبذل ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 46).

الوسع، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة، أو مرتين، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]. تنبيه: العزم الأكيد على جهاد النفس لا يعني أن ينقض على النفس انقضاضًا حتى تتخلى عن جميع الصفات المذمومة، وتتحلى بالخصال المحمودة دفعة واحدة، فإن هذا مخالف لطبيعة البشر، وبخاصة أن كثيرًا من العادات والأفعال السيئة عندما يمارسها الإنسان مدة طويلة من الزمن، فإنها تصبح ثابتة في النفس مستقرة فيها، فلا بد من إرادة قوية، وجهد متواصل، وتدريب متكرر حتى تتخلى عنها، وتتحول من الشغف والتعلق بها إلى النفور منها والكراهية لها. وأقربُ مثالِ لذلك الطفل الرضيع الذي اشتد تعلقه بالرضاعة، فلو أرادت أمه أن تفطمه دفعةً واحدةً، فإنها لن تتمكن من ذلك، وسيزداد تعلق طفلها بالرضاعة وتشوقه إليها، والاْسلوب الصحيح أنْ تحاول الأم بالتدرج وبمختلف الوسائل صرف الطفل عن هذا التعلق الشديد، وإِيجاد البديل الذي يستغني به عن الرضاعة، فإذا انفطم، كره أن يعود للرضاعة مرة ثانية ونفر منها. والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على ... حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم وبهذا الأسلوب حرم الله سبحانه الخمر والربا، فتحطيمُ العاداتِ السيئة

المتأصلة في النفس مع المبادرة إلى الأعمال الصالحة، أشبه بالتدريب الرياضي، والعادة -سواء كانت حسنة أو سيئة- فإنها تتكون في النفس، وتتعمق فيها مرة بعد مرة، ويعاني الإنسان في بدء الأمر من الاستمرار فيها، إذا لم تكن موافقة لحظوظ النفس، ولكنه مع التكرار والتدرج يألفها ويتعود عليها. فالعاقل من يجعل طريقة هجر العادات السيئة، والإقلاع عنها مماثلة لطريقة تكوينها. فإذا أراد العبد أن يستأصل عادة سيئة، ويزرع مكانها عادة حسنة، وخُلُقًا فاضلًا، فلا بد له أولًا من: تقوية الهدف الباعث، ثم العزم والتصميم، والثقة بالنفس، وعدم التردد حتى يصل إلى الهدف الصحيح، ويصبح ذلك ملكة وطبعًا مألوفًا. قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "المزاولاتُ تعطي الملكات، ومعنى هذا أن من زاول شيئًا واعتاده، وتمرن عليه، صار ملكة وسجية وطبيعة، كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات، حتى تصير له أخلاقًا بمنزلة الطبائع .. فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل، غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفًا، فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث" (¬1). قلت: هذا خاص في تغيير الطباع المستقبحة، وليست حجة لمن زاول المحرمات والكبائر، فإن الاقلاع عنها واجب كالزنا والسرقة والظلم ¬

_ (¬1) "عدة الصابرين" (28).

4 - المحاسبة

وغيرهما، والتوبة منها واجب على الفور وتحقيق شروطها، وكلامنا في هذا الفصل كيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونجتهد في تغييرها للأحسن. 4 - المحاسبة: وذلك بتصفح أفعاله، ونقد النفس إذا ارتكبت خلقًا ذميمًا، وحملها على ألا تعود إليه مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب، فإذا أحسنت أراحها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح، وإذا أساءت وقصرت، أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد، ولا ينبغي للمرء إذا رأى من نفسه تقصيرًا أن يهملها؛ لأن ذلك يجعله يستسهل ذلك، ويشق عليه بعد ذلك فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة، كما يعاقب ولده وأهله. "فالمحاسبة تكميل لمقام التوبة، والمراد بالمحاسبة الاستمرار على حفظ التوبة، حتى لا يخرج عنها، وكأنه وفاء بعقد التوبة" (¬1). *ما المقصود بعقوبة النفس هنا؟ المقصود بها العقوبة المشروعة، وهي إلزام النفس بشيء يشق عليها فعله، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى ضرر بالجسم كما يفعل الصوفية المنحرفون من عقوبة النفس بعدم النوم، أو تحريم اللحم على النفس، أو الدخول في القاذورات، أو عدم الاغتسال. ومن ذلك قول أبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني الصوفي صاحب "طبقات الصوفية" في حديثه عن بعض شيوخ الصوفية المخالفين لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يلزمون به أنفسهم من مجاهدات مرفوضة شرعًا ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 152).

وعقلًا يقول أبو صالح عبد القادر الجيلي: "قاسيت الأهوال في بدايتي، وما تركت هولًا إلا ركبته، وكان لباسي جبة صوف، وعلى رأسي خريقة، وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره، وكنت أقتات بخرنوب الشوك وقمامة البقل وورق الخس من شاطي النهر، ولم أزل آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طرقني من الله تعالى الحال، فإذا طرقني صرخت وهممت على وجهي، سواء كنت في صحراء أو بين الناس، وكنت أتظاهر بالتخارس والجنون، وحملت مراراً إلى البيمارستان (المشفى) ". وكان يقول: "أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمسًا وعشرين سنة مجرداً سائحاً، لا أعرف الخلق ولا يعرفونني .. ، ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات .. "!! (¬1). وفي ترجمه أخرى لمحمد السروري رحمه الله المشهور بأبي الحمائل .. كان يغلب عليه الحال، فيتكلم بالألسن العبرانية والسريانية والعجمية، وتارة يزغرت في الأفراح والأعراس كما تزغرت النساء، وجاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق، فرآه ملتفاً لنظافة ثيابه، فقال: "إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء"، فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور، حتى صار ثيابه كثياب الزيَّاتين أو السماكين، فلما رأى ثيابه لقّنه الذِكر، وجاء منه في الطريق، ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (188) المسمى بـ "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار"، وهو كتاب طافح بالبدع والخرافات والكرامات المزعومة، والرياضات المذمومة، والأحاديث المكذوبة.

وأخذ عنه تلامذة كثيرة" (¬1). قلت: وهذا التصرف يدل على جهل في الدين، وفساد في العقل وانتكاسة في القيم، ودليل على ضعف العلم الشرعي الصحيح، وانحراف عن عقيدة أهل السنة والجماعة في التزكية والتربية، وليس هذا فحسب، بل أورد الإمام الغزالي في الإحياء صورًا كثيرة من معاقبة النفس وتعذيبها بحجة إصلاحها، وتزكيتها بما يدل على انحراف في العقيدة، وميل عن الأخلاق الكريمة، ومن هذه الصور أن رجلًا كلم امرأة، فلم يزل حتى وضع يده على فخذها، ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست، وآخر نظر إلى محاسن امرأة، فرفع يده فلطم عينه حتى بقرت. تأمل -أحسن الله إليك التوفيق- هذه الانتكاسة في تهذيب النفس، وردها إلى الطريق القويم، فالعقوبة المشروعة التي يجوز للعبد أن يأخذ بها في مجاهدة نفسه أن يلزمها الطاعة بقدر لا يخل بالواجبات الأخرى، لا أن يوردها موارد الهلاك من إتلاف عضو من جسمه، أو تقليل مطعم، أو تبذل في لباس، أو إرهاق النفس وحرمانها مما أباح الله، وغير ذلك مما يتنافى عن آداب الإسلام. فأنفع العقوبات ما كان عملًا صالحًا من الأعمال كالصدقة، وصيام عدة أيام، وقيام ساعات من الليل، وذلك يختلف باختلاف النفوس وقوة صبرها. وقد أَلمحَ الإمام ابن القيم إلى ذلك فقال: "من الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره، فيصبر ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (188) للشعراني.

5 - التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق

على مشقة الطاعة، ولا صبر له على داعي هواه إلى ارتكاب ما نُهِيَ عنه، ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين، فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام، ولا يصبر على نظرة محرمة" (¬1). وعلى هذا يمكن للعبد أن يلاحظ الأعمال التي تشق على نفسه، فيجعلها عقوبة له يؤدب بها تلك النفس إذا وقعت في معصية، أو فرطت في طاعة. فإذا ضيع صلاة الفجر بسبب مشقة الاستيقاظ، وترك لذيذ المنام، فليقم بإحياء ساعات من إحدى الليالي، يهجر فيها مضجعه، وإن قصر في حق غيره بخلًا بالمال، فليتصدق ليلزم نفسه بالإقلاع عن تلك الآفة. فالتشديد على النفس ومنعها مما تحب لفترة محدودة ترويض لها، وتليين لطبعها، وعلاج لأمراضها، وهو بمنزلة الدواء الذي يشربه المريض وهو كارهٌ له، رجاء أن يكون سبباً في الشفاء بإذن الله تعالى. 5 - التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق: التفكر: "تصرف القلب في معاني الأشياء لِدَرْك المطلوب، وسراج القلب، يرى به خيره وشره، ومنافعة ومضاره، وكل قلب لا تفكرَ فيه فهو في ظُلمات يتخبط". وقيل: هو إحضار ما في القلب من معرفة الأشياء (¬2). ¬

_ (¬1) "عدة الصابرين" (26). (¬2) "التعريفات" (88) للجرجاني.

قلت: فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها؛ من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها. والمرء إذا رغب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجل غنيمة غنمها الموفقون؛ سهل عليه نيلها واكتسابها. فعلى المرء أن يستذكر دائمًا ويحتسب ثواب حسن الخلق. عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن البِرِّ والإثمِ؟ فقال: "البِرِّ حُسنُ الخلقِ، والأثمُ ما حَاكَ في صدرِكَ، وكرهتَ أَن يَطَّلعَ عليه النَّاسُ" (¬1). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَثقَلُ شيءٍ فِي المِيزَانِ حُسنُ الخُلقِ" (¬2). وعن أنس -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أكملَ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهنم خُلقًا، وإن حُسنَ الخُلقِ لَيبلُغُ درجةَ الصومِ والصلاةِ" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسنُ الخُلُقِ وَحُسنُ الجِوَارِ، يُعَمرنَ الدِّيَارَ، وَيَزِيدانَ فِي الأَعمَارِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في البر والصلة (2553)، باب: فضل صلة أصدقاء الأب والأم. (¬2) صحيح. أخرجه ابن حبان (1/ 350 - الإحسان)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (134). (¬3) صحيح، أخرجه البزار (35 - الكشف)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1590). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 159)، وقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" (519).

6 - النظر في عواقب سوء الخلق

6 - النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن عقوباتها (أي المعاصي وسوء الأخلاق) سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق، وهان عليهم عاملوه، على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش: خامل الذكر، ساقط القدر، زري الحال، لا حرمة له، فلا فرح له ولا سرور، فإن خمول الذكر وسقوط القدر والجاه، يجلب كل غم وهم وحزن، ولا سرور معه ولا فرح، وأين هذا الألم من لذة المعصية. ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره، وُيعلي له قدره" (¬1). قلت: وليس هذا فحسب، بل تأمل ما يقول ابن القيم أيضاً: "ومن عقوباتها: أنَّها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن، والبر، والمحسن، والمتقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والورع، والصالح، والعابد، والخائف، والأواب، ¬

_ (¬1) "الجواب الكافي" (126).

7 - علو الهمة

والطيب، والمرضيَّ ونحوها. وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والسارق، والكاذب، والخائن، والغادر وأمثالها" (¬1). وتأمل عاقبة هذه المرأة التي كانت تصوم النهار وتقوم الليل، ولكنها سيئة الخلق في معاملتها مع جيرانها. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا خَيرَ فيها، هِيَ من أهل النار". قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار (قطع من الأقط، وهو لبن جامد) ولا تؤذي أحدًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هيَ من أهل الجَنَّةِ" (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ أَحَبِّكُم إِلَيَّ وَأقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ، أَحَاسِنَكُم أَخلَاقًا، وإِن مِن أَبغَضِكُم إِلَيَّ وَأَبعَدِكُم مِنِّي يَومَ القِيَامَةَ الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيهِقُونَ"، قالوا: يا رسولَ الله، قَدْ عَلِمنَا الثَّرثَارِينَ وَالمُتَشَدقِينَ، فَما المُتَفَيهِقُونَ؟ قال: "المُتَكَبرُونَ" (¬3). 7 - علو الهمة: الهمة لغة: "هي بالكسر: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 440)، والبخاري في "الأدب المفرد" (119)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 166)، وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) حسن. أخرجه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (791).

فيقال: له همة عالية" (¬1). أما في الاصطلاح: "الهم: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يُفعل، من خير أو شر" والهمة: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره" (¬2). قال ابن القيم: "والهمة فِعلَة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمة نهايتها. قال صاحب المنازل: "الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفًا، ولا يتمالك صاحبُها ولا يلتفت عنها" والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا، فتلك هي الهمة العالية التي "لا يتمالك صاحبها" أي لا يقدر على المهلة، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود "ولا يلتفت عنها" إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة: سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق، والله أعلم" اهـ (¬3). قلت: فعلو الهمة يستلزم الجد، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور. ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" (245). (¬2) "التعريفات" (320). (¬3) "مدارج السالكين" (3/ 5).

عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله كَريم يُحب الكَرَمَ وَمَعاليَ الأَخلاقِ، وَيبغِضُ سَفسافَها" (¬1). وسفسافها: أي حقيرها ورديئها، وشرفُ النفس أن يصونها عن الدنايا، والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل، حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد. قال ابن القيم رحمه الله في (الفوائد 203): "فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل". وقال رحمه اللهُ في (الفوائد): "فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك". قال ابن السَّمَّاك: هِمَّةُ العاقل في النجاة والهَرَب، وهِمَّة الأحمق في اللَّهو والطَّرب (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 48)، وصححه، وكذا الألباني في "صحيح الجامع" (1889). (¬2) ابن السَّمَّاك، أبو العباس مُحمد بن صَبيح العِجْلي. سيّدُ الوعاظ، توفي سنة 183 للهجرة، وينظر ترجمته "سير أعلام النبلاء" (8/ 329) و"ميزان الاعتدال" (3/ 584) و"شذرات الذهب" (1/ 303).

فإذا حرص المرء على اكتساب الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، نال مكارم الأخلاق. * من أمثلة ساقطي الهمة: 1 - قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف 175 - 176]. هذه قصة رجل من بني إسرائيل آتاه الله آيات -وقيل اسم الله الأعظم- لكنه انسلخ منها، واستبدل الإيمان بالكفر، والفضيلة بالرذيلة، فصورته بشعة قبيح المنظر، منسلخ الجلد، وخلفه الشيطان يحثه ويتبعه، فهذا الفاجر المتبوع أخلد إلى الأرض والتصق بها، وسقطت همته بالذنوب والمعاصي، واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب في اللهاث الدائم، ومن طبع الكلب أنه يلهث دائمًا، وهذا الفاجر الجاحد التابع لهواه يلهث، لأن الشيطان يحثه على سيره المعوج. قلت: فالعاقل لا يستبدل نعم الله عليه من الهداية إلى الضلال، ومن العفة إلى المآثم، والعاقل لا يخالط اللاعبين العابثين؛ لأن صحبتهم جرب، وعشرتهم داء. 2 - قال الفضيل بن عاصم: بينما رجل يطوف بالكعبة إذ بُصر بامرأة

8 - الصبر

ذات جمال فأفتنته وشغلت قلبه، فأنشأ يقول: ما كنتُ أحسبُ أن الحب يعرضُ لي ... عند الطوافِ ببيتِ اللهِ ذي السترِ حتى ابتليتُ فصار القلبُ مختبلًا ... في حبِّ جاريةِ حوراءَ كالقمرِ يا ليتني لم أكن عاينتُ صورتها ... لله ماذا توخاني به بصري هذا نموذج واحد لمن سقطت همته، وساء خلقه، في أقدس بقعة في الأرض، وقد ابتلي بسوء النظر، والبلايا كثيرة، فالله المستعان. 8 - الصبر: الصبر لغة: الحبس والكف، يقال: صبرت نفسي على ذلك الأمر أي: حبستها، ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. أما في الاصطلاح: "هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه" (¬1). فالصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، والشكوى، وعن تشويش الجوارح، وهو أنواع ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله تعالى، وصبر على قضاء الله وقدره في البلاء. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. ¬

_ (¬1) "المفردات" (273) للراغب.

فالصبر أحد الأركان الأساسية التي يقوم عليها الخلق الحسن، والصبر يربي المرء على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل" (¬1). وقال: "وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. فالأول: صبر الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المُصَبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]. والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق. الثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية. صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها .. أين ما توجهت ركائبها" (¬2). "والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام قال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. إنما ينافي الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله" (¬3) كما هو حال بعض المسيئين الأدب في شكواهم وتسخطهم من قضاء الله وقدره، فالله المستعان. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 294). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 156). (¬3) "مدارج السالكين" (2/ 160) بتصرف.

9 - التواصي بحسن الخلق

وقال الماوردي: "وليس لمن قل صبرُه على طاعة الله تعالى حظٌّ من بِرّ، ولا نصيبٌ من صلاح، ومن لم يَرَ لنفسه صبرًا، يكسبها ثوابًا، ويدفع عنها عقابًا، كان مع سوء الاختيار بعيدًا من الرشاد، حقيقًا بالضلال" (¬1). وعلى العاقل احتساب الأجر عند الله عز وجل، فهذا الأمر من أعظم ما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، وتحمل أذى الناس؛ فإذا أيقن المسلم أن الله سيجزيه على حسن خلقه ومجاهدته؛ سيهون عليه ما يلقاه في ذلك السبيل؛ قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]. وقال سبحانه: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 12]. 9 - التواصي بحسن الخلق: وذلك ببث فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق، فحسن الخلق من الحق، والله سبحانه يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 3]. وكان الرجلان من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهُما على الآخر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} ـ، ثم يُسلم أحدهما على الآخر (¬2). وفي الأثر فائدة التواصي بالحق والصبر باستذكار قراءة سورة العصر. ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (454). (¬2) صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5124)، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحه" (2648).

10 - قبول النصح الهادف، والنقد البناء

والربح الحقيقي للمسلم أن يكون له ناصحون ينصحونه ويوصونه بالخير والاستقامة، فإذا حسنت أخلاق المسلم، كثُر مصافوه، وأحبه الناس. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ، وَالمُؤمِنُ أَخُو المُؤمِنِ، يكُفُّ عَليهِ ضَيعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِن ورائِه" (¬1). قال المناوي: "فأنت مرآة أخيك يبصر حاله فيك، وهو مرآة لك تبصر حالك فيه" (¬2). قال الخُوَارزمي: لا تَصحبِ الكسلانَ في حالاتهِ ... كمْ صالحِ بفسادِ آخرَ يَفسُدُ عَدوى البليدِ إلى الجَليدِ سريعة ... كالجمر يُوضعُ في الرمادِ فَيَخمُدُ 10 - قبول النصح الهادف، والنقد البناء: فهذا مما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، ومما يبعث على التخلي عن الأخلاق الساقطة، فعلى من نُصِحَ أن يتقبل النصح، وأن يأخذ به؛ حتى يكمل سؤدده، وتتم مروءته، ويتناهى فضله. بل ينبغي لمتطلب الكمال -خصوصًا إذا كان رأسًا مطاعًا- أن يتقدم إلى خواصه وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وحاشيته -فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ونقائصه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها؛ فهذا ما يبعثه للتنزه من العيوب، والتطهر من دنسها. ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه أبو داود (4918) وغيره، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6656) ... (¬2) "فيض القدير" (6/ 252).

11 - أن يتخذ الناس مرآة لنفسه

قال الإمام الشافعي رحمه الله: تَعمّدني بنُصحِكَ في انفرادي ... وَجَنِّبني النصيحةَ في الجماعَة فإن النصحَ ببن النَّاس نَوع ... مِنَ التوبيخ لا أرضَى استِماعَهْ فإن خالَفْتَني وعَصَيتَ قَولي ... فلا تجزَع إذا لم تُعطَ طاعَهْ 11 - أن يتخذ الناس مرآة لنفسه: العاقل ينظر لغيره، ويجعلهم مرآه لنفسه، فكل ما كرهه ونفر عنه من قول، أو فعل، أو خلق -فَليَتَجَنَّبْه، وما أحبه من ذلك واستحسنه، فليفعله. قال ابن حزم: "لكلِّ شيءِ فائدةٌ، ولقد انتفعتُ بمحكِّ أهل الجهل مَنفعة عظيمةً، وهي أنه توقَّدَ طبعي، واحتَدَمَ خاطري، وحَمِيَ فكري، وتَهَيَّجَ نشاطي، فكان ذلك سببًا إلى تواليفَ عظيمة المَنْفعةِ، ولولا استِثَارُهُم ساكني، واقْتِداحُهُم كامني، ما انْبَعثتُ لتلكَ التَّوالِيفِ" (¬1). قال الشاعر: إنَّ السعيد له من غيره عظةٌ ... وفي التجارب تحكيمٌ ومعتبرُ وقال الطاهر بن الحسين: إذا أعجبتكَ خصالُ امرئِ ... فكُنْهُ يكُن منكَ ما يعجبكْ فليسَ على المجدِ والمكرُماتِ ... إذا جئتَها حاجبٌ يحجُبكْ (¬2) ¬

_ (¬1) "الأخلاق والسير" (128) لابن حزم. (¬2) "أدب الدنيا والدين" (561).

12 - مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة

12 - مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة: فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديدُ التأثر بمن يصاحبه. ومجالستهم تكسب المرء الصلاح والتقوى، والاستنكاف عنهم تَنَكُّبٌ عن الصراط المستقيم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الجَليسِ الصالحِ والجليسِ السُّوءِ؛ كمثَلِ صاحبِ المِسك وكِيرِ الحدّادِ: لا يَعدَمُكَ من صاحب المسكِ إِما تَشتَرِيهِ، أو تَجِدُ رِيحَه، وكِيرُ الحدّادِ يَحرِقُ بدنكَ أو ثَوبَك، أو تَجِدُ منه رِيحًا خبيثَةً" (¬1). قال أبو حاتم: "العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار، لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريبًا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4/ 423، 9/ 660 - فتح)، ومسلم (2628) في البر والصلة. (¬2) "روضة العقلاء" (80).

13 - الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات

قال الشاعر: عليك بإخوان الثقات فإنهم ... قليل فصلهم دون من كنت تصحبُ ونفسك أكرمها وصنها فإنها ... متى ما تجالس سفلةَ الناس تغضبُ فالصداقة المتينة، والصحبة الصالحة، لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة. فإذا كان الأمر كذلك، فما أحرى بذي اللب أن يبحث عن إخوان ثقات؛ حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر. قال ابن الجوزي: "ما رأيتُ أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإنَّ الطبع يسرق؛ فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم، فَتَرَ عن عملهِ" (¬1). قال الناظم: أنت في الناس تقاسُ ... بالذي اخترتَ خليلا فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذِكرًا جميلا قال العلماء: إنما سمي الصديق صديقًا لصدقه، والعدو عدوًا لعدوه عليك. 13 - الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات: فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم؛ تَخَلَّق بأخلاقهم، وقبس من سمتهم ونورهم. أ- يرُوى أنَّ الأحنف بن قيس قال: "كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه". ب- كان أصحاب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرحلون إليه، فينظرون إلى ¬

_ (¬1) "صيد الخاطر" (363).

سمته، وهديه، ودَلَّه، قال: "فيتشبهون به" (¬1). ج- قال الإمام مالك: قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. قال: وبعث ابن سيرين رجلًا فنظر كيف هَدْيُ القاسم (هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق) وحاله (¬2). د- قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: "كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسنَ الأدب، وحسن السمت" (¬3). هـ- قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد لابنه: "يا بني، إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث" (¬4). و- وقال الأعمش: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون من هديه وسمته. ز- قال ابن القاسم رحمه الله: "كنت آتي مالكًا غلسًا، فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنت أجد منه انشراح الصدر، فكنت آتي كل سحر، فتوسدت مرة في عتبته فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، ¬

_ (¬1) "غريب الحديث" (383/ 3) للقاسم بن سلام. (¬2) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، للخطيب البغدادي (1/ 79). (¬3) "شرح منتهى الإرادات" (1/ 9) للبهوتي. (¬4) "الجامع" للخطيب (1/ 80).

14 - قراءة القرآن بتدبر وتعقل

اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة" (¬1). ح- زرت شيخنا الإمام الألباني رحمه الله ثلاث مرات في بيته، في الأردن على وجه الخصوص، وقد شاهدت من هديه في تنظيم وقته، وطريقه استخدامه للكهرباء، وصلاته، وطريقة جلوسه، ومحاورته، واستخدامه للهاتف، وكان رحمه الله إذا دخل غرفه فتح نورها، وإذا خرج منها أطفأ نورها، وهكذا يفعل مع كل غرفة، وأفدت من استخدامه للورق بما لا ضياع منها، فكان له معجمًا للحديث يكتب على ظهر الورقة بعض الأحاديث بأسانيدها من مخطوطات المكتبة الظاهرية، وخلف الورقة دعاية، أو دعوة زفاف، أو أخبار الصحف، وربما سألنا عن صحة الحديث، وهو علامة العصر في الحديث، فلله دره من إمام نادر. قلت: ولا يلزم أن يكون هؤلاء الذين يختلف إليهم من أهل العلم فقط، بل قد يوجد من العوام من أهل البصيرة والفطرة السليمة من جُبِل على كريم الخلال وحميد الخصال. قال ابن حزم: "وقد رأيتُ من غمار العامَّةِ من يجري في الاعتدال، وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدَّمُهُ فيه حكيمٌ عالمٌ رائِضٌ لنفسه، ولكنَّه قليلٌ جدًّا" (¬2). 14 - قراءة القرآن بتدبر وتعقل: قال ابن الجوزي: "لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم ¬

_ (¬1) "ترتيب المدارك" (3/ 250). (¬2) "الأخلاق والسير" (93).

لمعانية أوفى الفهوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم" (¬1). فهو الهُدى والنور، وهو كتاب الأخلاق الأول، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، وحسن الخلق من جملة ما يهدي إليه القرآن. وفيه من الوصايا العظيمة الجامعة التي لا توجد في أي كتاب آخر، والتي لو أخذت بها البشرية لتغير مسارها، ولاستنارت سبلها، ولعاشت عيشة الهناءة والعز والسلام، بل إن آية واحدة في القرآن جمعت مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. فالحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، فأي نعمة أعظم من نعمة قراءة القرآن والعيش معه؟ قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2]، سماه الله نورًا؛ لأن القلوب لا تضيء ولا تشرق إلا بتلاوة القرآن والعمل به. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15 - 16]. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. والقرآن شفاء، وفي القرآن رحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، فأشرقت وتفتحت بنوره من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان. ¬

_ (¬1) "زاد المسير" (1/ 3).

فالقرآن الكريم دستور الأخلاق، ولا تكاد تنتقل من صفحة إلى أخرى إلا وتجد التوجيهات الخُلقية والارشادات التربوية، فما أروع توجيهاته! وما أجمل وصاياه! لو عمل بها العقلاء لعاشوا سعداء. قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54]. وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]. وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 83]. وقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وقال -جل ثناؤه-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وقال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)} [الشعراء 181: 183]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]. وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

15 - إدامة النظر في السيرة النبوية

وقال سبحانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان 18: 19]. وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وقال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]. وقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]. وقال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء151: 152]. وقال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. هذه الآيات البينات الواضحات -هي وغيرها كثير- نموذجٌ من الأخلاق الكثيرة التي وردت في القرآن الكريم، وهي معين ثر لكل من يريد أن يزكي نفسه ويصلحها. 15 - إدامة النظر في السيرة النبوية: السيرة لغة: الطريقة والسنة حميدة كانت أو ذميمة، أو: هي الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره. أما في الاصطلاح: معرفة جميع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل منذ ولادته -بل وقبل ذلك

إلى وفاته، وما يتصل بذلك. فالسيرة النبوية تضع بين يدي قارئها أعظم صورة عرفتها الإنسانية، وأكمل هدي وخلق في حياة البشرية. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. قال ابن حزم رحمه الله: "من أراد خيرَ الآخرةِ، وحِكمةَ الدنيا، وعَدْل السِّيرةِ، والاحتواءَ على محاسنِ الأخلاق -كلِّها- واستحقاقَ الفضائلِ بأَسْرها؛ فَليَقتَدِ بمُحمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليَستعمل أخلاقه، وسِيَرَهُ ما أمكَنَهُ، أعاننا الله على الاتِّسَاءِ به، بمَنِّه، آمين" (¬1). *ثمرات دراسة السيرة النبوية: 1 - بدراسة السيرة النبوية يتم حسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. 2 - تحقيق محبة العبد لربه عز وجل والتي لا تتم إلا باتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يأتي ذلك إلا بمعرفة شمائله. 3 - معرفة كثير من الأحكام الشرعية، وتطبيقها العملي. 4 - معرفة الناسخ من المنسوخ. 5 - الاستفادة من العظات والعبر والدروس المبثوثة للفرد والمجتمع. 6 - معرفة فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخصائصه، ودلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ومعجزاته مما يزيد في الإيمان ويقويه. 7 - دراسة السيرة النبوية تُفيد وتعين على معرفة كثير من أسرار التشريع ¬

_ (¬1) "الأخلاق والسير" (91) لابن حزم.

16 - النظر في سير الصحابة الكرام وأهل الفضل والحلم

وحِكَمه، وتفيد في معرفة أسباب نزول الآيات، ومناسبات بعض الأحاديث. 8 - يقف المسلم على شدة عداوة الكفار من المشركين والمنافقين، وأهل الكتاب للإسلام والمسلمين، وطرق مخططاتهم وأهدافهم، كما يقف المسلم على جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجهاد أصحابه في كسر شوكة الكفار، وإزاحة جميع العقبات التي تحول دون وصول دعوة الإسلام إلى كافة الناس (¬1). 9 - معرفة شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها، والشمائل جمع شمال، وهي السجايا والأخلاق التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 16 - النظر في سير الصحابة الكرام وأهل الفضل والحلم: السلف الصالح أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين ورثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه، وسمته، وخلقه، فالنظر في سيرهم، والاطلاع على أحوالهم- يبعث على التأسي بهم، والاقتداء بهديهم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23]. ¬

_ (¬1) من مقدمة "الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (6) بتصرف. (¬2) ومن الكتب النافعة في هذا الفن: 1 - "مختصر الشمائل المحمدية" للإمام الترمذي تحقيق المحدث العلامة الألباني. 2 - "الأنوار في شمائل النبي المختار" للإمام البغوي. 3 - "زاد المعاد في هدي خير العباد" للإمام ابن القيم. 4 - "الشمائل المحمدية" للإمام ابن كثير. 5 - "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -" للإمام أبي محمد جعفر بن حيان الأصبهاني.

إن الإحاطة بتراجم أعيان الأمة مطلوبة، ولذوي المعارف محبوبةٌ، ففي مدارسة أخبارهم شفاءٌ للعليل، وفي مطالعة أيامهم إرواءٌ للغليل. "فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام، فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا" (¬1). "واعلم تحقيقًا أن أعلمَ أهلِ الزَّمانِ وأقربَهم إلى الحقِّ أشبهُهُم بالصحابةِ وأعرفُهم بطريق الصحابةِ، فمنهم أُخِذَ الدِّينُ، ولذلك قال عليٌّ - رضي الله عنه -: خَيرُنا أتبعُنا لهذا الدِّينِ" (¬2). قال الناظم: فتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم ... إنَّ التشبه بالكرامِ فلاحُ وكذلك قراءة سير التابعين ومن جاء بعدهم في تراجمهم مما يحرك العزيمة على اكتساب المعالي ومكارم الأخلاق, ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم. وجدير بمن لازم العلماء بالفعل أو العلم أن يتصف بما اتصفوا به، وهكذا من أمعن النظر في سيرتهم أفاد منهم "وهكذا كان شأنُ السلف الصالح، فأوَّلُ ذلك ملازمةُ الصحابة -رضي الله عنهم- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذُهُم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنًا ما كان، وعلى أيِّ وجهِ صدَر .. ، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدَّة المثابرة .. وصار مثلُ ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 15). (¬2) "الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد" (138) للإمام بدر الدين الغزي العامري.

17 - مطالعة كتب الآداب الشرعية

ذلك أصلًا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتَهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ففقهوا، ونالوا ذِروةَ الكمال في العلوم الشرعية" (¬1)، والأخلاق العلية. 17 - مطالعة كتب الآداب الشرعية: مطالعة كتب الآداب الشرعية فيها تربية على مكارم الأخلاق، وتذكرة بفضلها، وتعين العاقل على اكتسابها، ويزيدها جمالًا فهمها، وقراءتها على أهل العلم. قال الإمام الشاطبى رحمه الله: "مطالعةُ كتب المصنِّفين ومدوِّني الدواوين، نافع في بابه؛ بشرطين: الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه" .. والكتب وحدها لا تفيد الطالبَ منها شيئًا، دون فَتح العلماء، وهو مشاهد معتاد. والشرط الآخر: أن يتحرَّى كتبَ المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين" (¬2). ومن هذه الكتب النافعة: 1 - "الآداب الشرعية" للإمام ابن مفلح المقدسي. 2 - "أدب الدنيا والدين" للإمام أبي الحسن علي بن محمد الماوردي (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر "الموافقات" (1/ 142 - 144). (¬2) "الموافقات" (1/ 147) بتصرف. (¬3) يسر الله لي اختصاره والتعليق عليه بحمد الله تعالى - طبع مكتبة الإمام الذهبي.

18 - الاعتبار بحوادث التاريخ

3 - "الظرف والظرفاء" لأبي الطيب الوشاء. 4 - "روضة العقلاء" للإمام أبي حاتم البستي. 5 - "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" للإمام ابن حزم. 6 - "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" للإمام ابن قيم الجوزية. 7 - "صيد الخاطر" للإمام ابن الجوزي. 8 - "الآداب" للإمام البيهقي. 9 - "عيون الأخبار" لابن قتيبة. 10 - "مدارج السالكين" للإمام ابن قيم الجوزية (¬1). 11 - "الأدب المفرد" للإمام البخاري. 12 - "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري. 18 - الاعتبار بحوادث التاريخ: النظر في تقلبات الحياة وما فيها من عبر مَعينٌ ثَرْ لكل عاقل يريد النجاة بنفسه إلى سفينة الأخلاق، والتاريخ وما فيه من تجارب باعث رئيس لمن يحب اكتساب الأخلاق الحسنة. قال ابن خلدون: "اعلم أنَّ فنَّ التاريخِ فنٌّ عزيزُ المذهبِ، جمُّ الفوائدِ، شريفُ الغايةِ؛ إذ هوَ يوقِفُنا على أحوالِ الماضينَ من الأممِ في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوكِ في دُوَلهم وسياساتهم؛ حتَّى تَتِمَّ فائدة الاقتداءِ في ذلك ¬

_ (¬1) هذا أحد أجزاء "الفوائد التربوية من كتب ابن قيم الجوزية" للمؤلف يسر الله طبعه.

لمن يَرومُهُ في أحوال الدين والدنيا" (¬1). وقال ابن الأثير: "لقد رأيتُ جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية، ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنًّا منه أن غاية فائدتها إنما هو القصصُ والأخبار، ونهايةَ معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حالُ من اقتصرَ على القشر دون اللبّ نظرُه، ومن رزقه الله طبعًا سليمًا، وهداه صراطًا مستقيمًا، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة، وها نحن نذكر شيئًا مما ظهر لنا فيها. منها: ما يحصلُ للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنه لا يحدث أمر إلاَّ قد تقدم هو أو نظيره، فيزدادُ بذلك عقلاً، وُيصبح لأن يُقتدى به أهلًا. ولقد أحسن القائل حيث يقول شعرًا: رأيتُ العقلَ عقلين ... فمطبوعٌ ومسموع فلا ينفعُ مسموع ... إذا لم يَكُ مَطبُوعُ كما لا تَنفَعُ الشمسُ ... وضوءُ العينِ مَمنُوعُ (¬2) يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان، وبالمسموع ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة، وجعله عقلًا ثانيًا توسّعًا وتعظيمًا له، وإلاَّ فهو زيادة في عقله الأول. ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن خلدون" (16) و"تهذيب مقدمة ابن خلدون" (9) للمؤلف. (¬2) وينظر الأبيات في "المفردات" (342).

ومنها: أنَّ العاقل اللبيب إذا تفكر فيها، ورأى تقلب الدنيا بأهلها، وتَتَابُعَ نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غني ولا فقير، زهد فيها وأعرض عنها، وأقبل على التزود للآخرة منها، ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص، وسلم أهلُها من هذه النقائص. ومنها: التخلّق بالصبر والتأسّي، وهما من محاسن الأخلاق، فإنَّ العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم، ولا ملك معظم، بل ولا واحدٌ من البشر، علم أنه يصيبه ما أصابهم، وينوبه ما نابهم. وهل أنا إلا من غَزِية إن غوت ... غويتُ وإن تَرشُد غزيةُ أرشدِ ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37] فإن ظن هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار، فقد تمسك من أقوال الزيغ بمحكم سببها، حيث قالوا: "هذه أساطير الأولين اكتتبها" اهـ (¬1). قلت: وَوَراء هذهِ الوسائل من تصحيح الأخلاق: وسائل أخرى ولكن فيما تقدم ما يكفي ويهدي، والله الهادي للصواب. ... ¬

_ (¬1) "الكامل في التاريخ" (14).

كيف نتخلص من الأخلاق السيئة؟

كيف نتخلص من الأخلاق السيئة؟ * تمهيد: الناس تكتسب كثيرًا من الأخلاق السيئة ووسائل اكتسابها كثيرة، فمنذ الصغر ونحن نتعلم من أقراننا في المدرسة، أو من الطريق، أو من السوق، وذلك من خلال الاحتكاك بالناس، وقد يكون الآباء والأمهات عندهم بعض الأخلاق السيئة، فيكتسبها الأبناء أحيانا من الآباء الذين لا يحسنون التربية، فمنهم من يربى أولاده على العنف، أو الميوعة، أو البذاءة، فيكذب أو يلعن، أو يشرب الخمر والدخان، فنحن نعيش في مجتمع تنتشر فيه الأخلاق حَسَنُها وردِيئُها، والإنسان يكتسب ذلك من البيئة التي يعيش فيها؛ ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرجُلُ عَلَى دين خَليلِهِ، فَليَنْظُر أَحَدُكُم مَن يُخَالِلُ" (¬1). فالمرء يتشرب من صديقه أخلاقه؛ لأنه يعيش معه، وكذلك من أبيه ومن أمه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ؛ حتى يُعْرِبَ عنه لسانُهُ، فأبواِه يهوِّدانه، أو يُنَصِّرانِه، أو يمَجِّسَانه" (¬2). وتأملوا هذا الحدث: فتاة برفقة أمها وطئت على قدم امرأة وأكملت ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه أحمد (2/ 303، 334)، وأبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (927). (¬2) صحيح. أخرجه أبو يعلى (942)، والطبراني (835) , وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4559).

أولا: الأقلاع عن الأخلاق السيئة

سيرها، عندما سألتها أن تعتذر، غضبت أمّها وقالت: لا أريدك أن تعطي ابنتي درسًا في الأخلاق، فأنا أعرفها جيدًا، وأعرف كيف ربيتها!! أرأيتم هذه الأم المغرورة الجاهلة كيف تغرس في ابنتها سوء الخلق والكبر. أحسن الناظم عندما قال: مشى الطاووسُ يوماً باعوجاجِ ... فقلدَ شكل مشيته بنوهُ فقالَ علامَ تختالونَ؟ قالوا: ... بدأت به ونحن مقلدوهُ فخالف سيركَ المعوجَّ واعدل ... فإنا إن عدلت معدلوه أما تدري أبانا كلُّ فرعٍ ... يجاري بالخطئ من أدبوه وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوَّده أبوه وهناك قصة -كما في حديث رواه مسلم- عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض (¬1) .. يُتخذ شاهد لهذا الفصل. والشاهد أننا نعيش في بيئة تؤثر فينا، وتحوطنا العادات فنتشرب منها، ونحن عندما يدركنا الله -تبارك وتعالى- برحمته، ونفهم الإسلام الفهم الصحيح، ونبدأ بعملية التزكية والتطهير، فالطريق الأول للتخلص من الأخلاق السيئة التي ورثناها، يكون باتباع الخطوات التالية: أولًا: الأقلاع عن الأخلاق السيئة. أحد شروط التوبة، ويحتاج إلى ما يسمى في الأخلاق بالإرادة، والإرادة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في التوبة (2766)، باب: قبول توبة القاتل.

هي القوة الخفية لدى الإنسان، وتعني اشتياق النفس وميلها الشديد إلى فعل شيء ما، أو تركه، وتجد أنها راغبة فيه ومدفوعة إليه، والإرادة قوة مركبة من رغبة بالإضافة إلى حاجة إلى أمل، فلا بد لكل إنسان يريد أن يتطهر من أخلاقه السيئة أن يمتلك الإرادة، وهي تبدأ كرغبة، ثم تتحول إلى عزم في القلب. والعزم لغةً: الجد كما قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21]، وعزم عليه: صمم على فعله، وقطع عليه. أما في الاصطلاح: هو استجماع قِوَى الإرادة على الفِعل (¬1). فإذا عزم التحلي بلباس التقوى ينبغي أن ينفذ الإقلاع عن الخلق السيئ، فالإنسان الذي تعلم الكذب من أمه وأبيه -كان أبوه يكذب عليه وأمه تكذب عليه- تشرب بالكذب، وأصبحت خصلة ذميمة لديه ورثها وأمست عادة؛ لأنه تَعَلم الخلق بالاستمرار، فالصدق لا يكون عند الإنسان خلقًا إلا إذا استمر عليه، وأصبح سجية وعادة له يقول الصدق دائمًا، ويمارس ذلك باستمرار، ولا يسمى من يكذب مرة أو مرتين بحياته أنه تخلق بالكذب، ويقال عنه الكذاب، وإنَّما الكذاب هو الذي يُمَارس الكذب، ويصبح الكذب عنده صفة لازمة، فهذا مثال لخلق من الأخلاق، فأولُ شيءٍ أن يملك المرء الإرادة التي تجعله يتحول عن الخلق السيئ، وهذه المرحلة يمكن أن نسميها أيضاً مرحلة (التخلي)، وهي ترك وخلع الأخلاق السيئة، كالغرور، والتعالي، والحسد، والكذب، والغيبة، والسرقة، والتطلع إلي ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 152).

ثانيا: لا بد من البديل الحسن

عورات الناس، وغير ذلك. ثانيًا: لا بد من البديل الحسن. إذا تعود الإنسان مثلًا أن يسمع المعازف والأغاني، ويتلذَّذ بها، أصبحت جزأً من كيانه، فإذا أراد أن يترك هذه الأخلاق السيئة، ويخلع هذه العادات القبيحة، فلا بد أن يسد الفراغ الناتج عن تركه هذا السماع، فسماع القرآن الكريم هو البديل الحسن، فإذا تلذذ الإنسان بسماع كتاب الله تعالى وبقراءته والتغني به، وتدرج في شرب الدواء، فقد أوجد البديل للمعازف، والشاهد أنه لا بد من البديل الحسن ليحل مكان البديل السيئ فيسد الفراغ كي لا يعود إلى ما كان عليه. قال ابن قيم الجوزية: "دواء صاحب مثل هذا الحال: أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة مع الإمعان في تفهم معانيه، وتدبر خطابه قليلًا قليلًا إلى أن ينخلع من قلبه سماع الأبيات، ويلبس محبة سماع الآيات، ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه، فحينئذ يعلم هو من نفسه أنه لم يكن على شيء، ويتمثل حينئذ بقول القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بى الهوى ... إلى غاية ما فوقها لى مَطلبُ فلما تلاقينا وعاينتُ حُسنها ... تيقنت أني إنما كنتُ أَلعبُ" (¬1) ومن كان مشغولًا بأصدقاء الباطل، وأراد التخلص من هذه الصحبة السيئة التي تعوَّد عليها وتشرب منها أشياء كثيرة، فلا بد من صحبة أرباب الأخلاق العالية، فإذا لم يجد صُحبَةً حسنة لا يمكن أن يقعد في البيت ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 495).

ويعتزل، فلا بد من قرين طيب يملأ الفراغ الذي أحدثه هجر قُرَنَاء السوء، فالبديل ضروري، وهكذا نجد عندنا بدائل حسنة لكل خلق سيئ. ولكن قد يقول قائل: بأن هذا يمكن أن يصدق في العادات والممارسات، ولكن ما بدائل الغضب، والكذب، والغش وغيرها؟، نقول: بدائلها الحلم والصدق والتحلي بالأخلاق الحسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "النفوس لا تترك شيئًا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله، أو إلى خير منه" (¬1). وأذكر يوما اتصلت بي إحدى الأمهات تشكو من كثرة مطالعة ابنها التلفاز ليل نهار، وأنه يصعب التخلص منه، ويومها قلت لها: لا بد من بديل، فقالت: كيف؟ قلت: أن تشغليه بشيءِ نافع زراعة أو طلاء غرفة أو حرفة، أو تعليمه الحاسب الآلي، أو قراءة كتاب نافع، وبعدها لا أدري ماذا صنعت، وبعد ستة شهور تقريبًا اتصلت بي ثانية تشكر نصيحتي، فقد ابتعد الولد تماماً عن التلفاز بسبب اشتغاله بالزراعة المنزلية وترتيب الورود وري الزروع، فقلت: الحمد لله. قال الماوردي في بيان الأحوال التي تقهر الشهوة: "ترغيبها في الحلال عوضًا، وإقناعُها بالمباح بدلًا، فإن الله تعالى ما حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه؛ لما علمه من نوازع الشهوة، وتركيب الفطرة؛ ليكون ذلك عونًا على طاعته، وحاجزًا عن مخالفته" (¬2). ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (409). (¬2) "أدب الدنيا والدين" (510).

ثالثا: لوم النفس ومحاسبتها على الدوام.

وهكذا نجد عندنا بدائل حسنة لكل خلق سيئ وبهذا نكون قد سرنا خطوتين: الأولى: العزم على ترك العادة السيئة وتنفيذ ذلك، الثانية: إيجاد البديل الحسن. ويمكن أن نُسَمِّي هذه المرحلة أيضاً بمرحلة (التحلي)، وهي التحلي بالأخلاق الكريمة بالبديل المشروع؛ لأن البديل غير المشروع مضر بصاحبه، وإليك قصة من استبدل البديل غير المشروع بالمشروع، ولد طائش عنيف في وعظ إخوانه، فكر أحدهم بفكرة تغير أخلاقه بالإغراء المحرم، فانحرف، ثم عادت عليهم الجريمة. وفي أمثالهم يقول الشاعر: نحن الذين غرسنا في أظالعنا ... سيوفنا وعبثنا فى روابينا رماحُنَا لم تنل إلا أحبتنا ... ونارنا لم تنل إلا أهالينا ثالثًا: لوم النَّفس ومحاسبتها على الدوام. قال ابن قيم الجوزية: "المراد بالمحاسبة الاستمرار على حفظ التوبة، حتى لا يخرج عنها، وكأنه وفاء بعقد التوبة" (¬1). فالخطوة الثالثة: الاستمرار بالمحاسبة والمتابعة ولوم النفس بالتقصير، حتى لا تشمخ وتأمن. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 96).

من آثار السلف في لوم النفس

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]. قال ابن قيم الجوزية: "أمر الله سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغدٍ، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر: هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟ والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله" (¬1). وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة 1 - 2]. النفس اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات (¬2). * من آثار السلف في لوم النفس: وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه ارتقى الصفا، فأخذ بلسانه فقال: يا لسان قل خيرًا تغنم، واسكت عن شرِ تسلم، من قبل أن تندم. ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أكَثَرُ خَطَايَا ابنِ آدمَ فِي لِسَانِهِ" (¬3). وقال مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبدًا قال لنفسه النفيسة: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله، ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 187). (¬2) "تفسير ابن كثير" (8/ 301). (¬3) صحيح. أخرجه الطبراني (243/ 10)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (2872).

فكان لها قائدًا" (¬1). وقال الحسن البصري رحمه الله: "لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه" (¬2). فلوم النفس وتأنيبها هذه هي حكمة القلب، وما يسمى بتأنيب الضمير، وهذا ينبغي إحياؤه، فعلى الإنسان إذا وقع بعمل سوء أن يشعر بإحساس داخلي أنه قد أساء، وأنه قد أخطأ ويلوم نفسه هذا اللوم القلبي يدفعه إلى كراهيه هذا الخلق السيء، فهو دائم المحاسبة قبل العمل وبعده فهو بين محاسبتين. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حَاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُوزَنُوا" (¬3). وقال ابن أبي مُلَيكَةَ: "أدركتُ ثَلاثِينَ مِن أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نَفسِهِ" (¬4). فمحاسبة النفس أمر ضروري، وهذا اللوم والندم جزء من التوبة، بل ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (38)، وينظر "إغاثة اللهفان" (1/ 157). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (34). (¬3) سنده جيد. أخرجه أحمد في الزهد (631)، وابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (2)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 52). (¬4) أخرجه البخاري في الإيمان (109/ 1 - الفتح) تعليقًا بصيغة الجزم، وساق سنده في "التاريخ الكبير" (137/ 5) ترجمة رقم (412)، ووصله الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (52/ 2).

رابعا: الطمع في الثواب والخوف من العقاب

توبة كما جاء في الحديث: "النَّدمُ تَوبةٌ" (¬1). وهذا اللوم هو الندم، وهو أحد شرائط التوبة، ومحركات القلوب، فهو من الإيمان. وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا سَرَّتَكَ حَسَنَتُكَ وَساءَتكَ سَيئَتُكَ، فَأنتَ مُؤمِن" (¬2). قال الناظم: عجبت لمن يبكي على موت غيره ... دموعًا ولا يبكي على موته دما وأعجبُ من ذا أن يرى عيب غيره ... عظيمًا وفي عينيه عن عيبه عمى رابعًا: الطمع في الثواب والخوف من العقاب. كل الناس يحرص على المنفعة، وجلب المنافع ودفع المضار من جهة مختلفة عن الأخرى، أما المؤمن فهمته متعلقة بالله تعالى، والمرء يقوم بكل عمل يرجو من الله إذا قام بالعمل، ويخاف منه إذا لم يقم به، فهو دائر بين الخوف والرجاء. فالشاهد أن هذين الأمرين -الثواب والعقاب- يقوم عليهما إصلاح الفرد، ولا يمكن الإصلاح إلا بهما، فلا يمكن أن يصلح بشر على الأرض إلا بالثواب والعقاب، فمثلًا إذا لم تعامل الزوجة والأبناء على أساس الثواب والعقاب فما فائدة الزوجة المخلصة المحسنة المتفانية في خدمة زوجها، إذا ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 376، 423، 433)، وغيره عن ابن مسعود، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6802). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (5/ 252، 256) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (600).

خامسا: تذكر الموت وأهوال القيامة

لم تجد الكلمة الطيبة، وكذلك الزوجة السيئة التي لا تقيم أمر الله تبارك وتعالى، ولا تُرضي زوجها إذا لم تجد عقوبة لا يمكن أن ترتدع، هذه طبيعة النفوس، فلا بد من ثواب وعقاب، والرسل الذين جاءوا بإصلاح النفوس ما جاءوا إلا بالثواب والعقاب، وهما البشارة والإنذار. خامساً: تذكر الموت وأهوال القيامة. يعد تذكر الموت وأهوال القيامة من أفضل الأسباب لترك العادات السيئة والأخلاق الرذيلة، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185]. وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريلُ فقال: يا محمدُ عش ما شئتَ فإِنَّكَ ميتْ، وأحبب من شئت فإِنَّك مُفارِقُهُ، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعِزَّهُ استغناؤُهُ عن الناسِ" (¬1). قال الناظم: جزى الله عنا الموت خيراً فإنه ... أبرُّ بنا من كل بَرٍّ وألطفُ يعجل تخليص النفوس من الأذى ... وُيدني إلى الدار التي هى أشرفُ فتذكر الموت باعث من البواعث الرئيسة للعمل الصالح والخلق الحسن، بل تذكر الموت، وأهوال القيامة، والبعث والحساب آثار حسنة في تغيير الأخلاق. ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الحاكم (4/ 324) وغيره، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (831).

آثار تذكر الموت وأهوال القيامة

* آثار تذكر الموت وأهوال القيامة: 1 - التحرر من أسر الدنيا والشغف بها. 2 - التحرر من مخاوف الدنيا؛ قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. 3 - التزام التقوى والمسارعة إلى العمل الصالح. 4 - أخذ الدروس والعبر، والموعظة: جاء في "تهذيب الكمال" للإمام المزي عن سُفيان بن عُيينة: كان يُقال: إن العاقل إذا لم ينتفع بقليل المَوعظة، لم يَزدَد على الكثير منها إلا شراً. ***

من الأساليب العملية لتزكية النفس

من الأساليب العملية لتزكية النفس أولاً: العلمُ النافع: العلم النافع الذي يحقق التزكية: هو كل علم يقرِّب من الله سبحانه، ويزيد الخشية منه، ويدفع إلى العمل الصالح. ويدخل في هذا العلم الشرعي أولاً: وهو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ثم تأتي بعض العلوم الأخرى كالطب والفلك وغيرها مما يدفع العاقل إلى القول بضرورتها ونفعها، والعلم عبادة عظيمة، وهو مقدمة للعمل. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يُرِدِ الله به خَيراً يُفَقههُ في الدِّين" (¬1). وحتى يؤدي العلم مهمته في تزكية النفس لا بد من أن يتحقق فيه شرطان: الأول: العمل الصالح مع الإخلاص لله تعالى. فالعلم النافع هو العلم الذي يتبعه العمل الصالح، ويحمل صاحبه على الأدب. عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 164 - فتح)، ومسلم في الزكاة وفي الإمارة (1037) عن معاوية - رضي الله عنه -.

الثاني: أن يتجنب المسلم المراء والخصام في مسائل العلم.

عِلمٍ لَا يَنفَعُ، وَمِن قَلبٍ لَا يَخشَعُ، وَمِن نَفسٍ لَا تَشبَعُ، وَمِن دَعوَةٍ لَا يُستَجَابُ لَهَا" (¬1). الثاني: أن يتجنب المسلم المراء والخصام في مسائل العلم. وهذا الشرط يجنب العاقل قسوة القلب، ويجعله يسير على نور من أمره، فالجدل والمراء مذمة؛ ولهذا حذر السلف منه. قال ابن حزم: "منفعةُ العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو أنه يُعَلِّمُ حُسنَ الفضائل، فيأتيها -ولو في النُّدرة، ويُعَلمُ قُبحَ الرذائل، فيجتنبها- ولو في الندرة-، وَيسمعُ الثَّنَاءَ الحسنَ فيرغب في مِثله، والثناءَ الرَّديِّ، فينفر منه، فعلى هذه المقدمات يجبُ أن يكون للعلم حِصَّة في كل فضيلةِ، وللجهل حِصة من كل رذيلةِ، ولا يأتي الفضائلَ مَن لم يتعلَّم العلمَ؛ إلا صافي الطبع جداً، فاضل التَّركيب، وهذه منزلة خُصَّ بها النبِيون -عليهم السلام-؛ لأن الله تعالى علَّمهم الخير كلَّه دون أن يتعلمُوهُ من الناسِ" (¬2). قال الشاعر: العلم زينٌ فكن للعلمِ مكتسبا ... وكن له طالبًا ما عشت مقتبسا اركن إليه وثق بالله واغن به ... وكن حليمًا رزينَ العقلِ محترسا وكن فتًى سالكًا محضَ التقى ورعًا ... للدينِ مُغتنمًا في العلم منغمسا فمن تخلقَ بالاَداب ظلَّ بها ... رئيس قومٍ إذا ما فارق الرؤسا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2722) عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. (¬2) "الأخلاق والسير" (92 - 93) لابن حزم.

ثانيا: العمل الصالح

ثانيًا: العَمل الصالح: العمل لغة: المهنة والفعل. أما في الاصطلاح: هو العمل المراعى من الخلل (¬1). قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. دائرة العمل الصالح واسعة جداً، وجولة فقط في بعض أركان الإسلام تُرِي العاقل الآثار العظيمة في تزكية النفس، فبقدر عقل الإنسان تكون عبادته، وتأمل قول الفجار كما في القرآن الكريم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]. فالصلاة مثلًا تحمل العاقل على البعد عن الفحشاء والمنكر، وتزيد المرء خشوعًا، وتربطه بالخالق، وتحمله على أداء حقوق الغير. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا خير فيها هي من أهل النار". قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار (قطع من الأقط، وهو لبن جامد) ولا تؤذي أحدًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ مِن أَهلِ الجَنَّة" (¬2). ¬

_ (¬1) "التوقيت على مهمات التعاريف" (527). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 440) والبخاري في "الأدب المفرد" (119) والحاكم في "المستدرك" (4/ 166)، وصححه، ووافقه الذهبي.

وليس هذا فحسب، حتى القادم لها أن يتخلق بالسكينة وهي التأني في الحركة وعدم العجلة، والوقار في الهيئة بخفض الصوت وغض البصر ونحوهما. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقِيَمتِ الصلاة، فلا تَأتوهَا تَسعَونَ، وأتُوها وأنتم تمشُونَ، وعليكُمُ السَّكينةُ، فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكُم فَأتِموا" (¬1). والزكاة أُخِذَ اسمها من الزكاء، وهو النماء والطهارة والبركة، والقيام بها تحمل صاحبها على تطهير النفس من الشح والبخل، وتدفع به إلى أبواب الرحمة ومعونة المحتاجين، وتزرع في القلب الصفاء، وترفع منه التعالي على الناس. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. والصيام هو أحد أركان الإسلام، والحكمة من مشروعيته الوصول إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (908. فتح)، ومسلم (602) في كتاب المساجد، وانظر "صحيح الجامع" (369).

حقيقة التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. والصوم الحقيقي يمنع صاحبه من الوقوع في المعاصي، ويحجز العاقل عن تسلط الهوى. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بهِ، فليسَ للهِ حاجة في أن يَدَع طعامَهُ وشَرابه" (¬1). وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصِّيامُ جُنَّة، فلا يَرفُث ولا يَجهَل. وإِنِ امرُؤ قاتَلَهُ أو شاتَمَهُ، فليَقُل: إِني صائم -مرَّتين- والذي نفسي بيدِهِ، لَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن رِيحِ المسك، يَترُكُ طَعامَهُ وشَرابَهُ وشَهوتَهُ مِن أجلي، الصِّيامُ لي وأنا أجزي به، والحسَنةُ بعَشْرِ أمثالِها" (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استطاعَ الباءةَ فليتزوَّج، فإنَّهُ أغضٌّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليهِ بالصَّوم؛ فإنهُ لهُ وجاء" (¬3). والصوم يحمل صاحبه على الكرم؛ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ بالخير، وكان أجوَدَ ما يكون في رمضانَ حِينَ يلقاهُ جبريلُ" (¬4). والحج شُرع لمنافع كثيرة، وتحقيق مصالح الدين والدنيا، وبه يزكي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصوم (1903. فتح)، وأبو داود (2362)، والترمذي (707). (¬2) أخرجه البخاري في الصوم (4/ 1894 - فتح)، وأحمد وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري في الصوم (4/ 119 - فتح)، ومسلم في النكاح (1400) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري في الصوم (4/ 116) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

العاقل نفسه من الرياء، والسمعة ويجتنب الرفث والفسوق والجدال، وهو تدريب عملي على الصبر وكظم الغيظ والتعاون والإيثار والحب والتواضع. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام162: 163]. وقال سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلًا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُث ولم يَفسُق، رجَعَ كما ولَدَتهُ أمُّه" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - موجهًا الناس عند الإفاضة من عرفاتِ إلى مزدلفة: "السَّكينةُ عبادَ اللهِ السَّكينةُ" (¬2). وفي العشرة الزوجية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]. وقال سبحانه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المحصر (4/ 20 - فتح)، وفي الحج (3/ 382 - فتح). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 355)، وأبو عوانة في صحيحه (392. القسم المفقود)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3688).

ثالثا: صحبة الصالحين

بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]. وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وفي البيع والشراء: عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "رحمَ اللهُ رجُلًا سَمحًا إذا باعَ، وإِذا اشترَى، وإِذا اقتضى" (¬1). فالدين كله خلق، والعبادات كلها أخلاق، مع الله سبحانه، ثم هي مع الناس، والعاقل من تأمل ذلك، وحقق معنى العبودية في أخلاقه وعبادته ومعاملاته وسلوكه، فحياة من طبع على الأخلاق أكمل وأسعد، من الذي يقهر نفسه، ويغالب طبعه، حتى يكون كذلك. ثالثًا: صحبة الصالحين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، وقال سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67]. عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ العَطَّارِ، إِن لَمُ يُعطِكَ مِن عِطرِهِ أَصَابَكَ منْ رِيحِه" (¬2). ومُصَاحبة الأخيار عونٌ على تغير الأخلاق السيئة، وحصانة من السقوط في هاوية الأشرار، والشواهد في هذا كثيرة وفيرة. والعاقل من ينوع المؤثرات حوله في عشرة أصحابه، فصاحب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2076 - فتح) في كتاب البيوع، وينظر "صحيح الجامع" (3495). (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (4831)، والحاكم (4/ 280) وصححه، ووافقه الذهبي.

رابعا: الزواج

للاستشارة، وآخر للمناصحة، وثالث ملاذ بعد الله تعالى في الأزمات، وبهذا تكتمل شخصية العاقل في الصحبة. جاء في "سير أعلام النبلاء" (17/ 251) عن فضالَةَ النَسَوِيِّ، قال: سمعتُ ابن المُبارك يقول: حَقٌّ على العاقلِ أن لا يَستخِفَّ بثلاثةٍ: العلماءِ والسَّلاطينِ والإخوانِ، فإنَّهُ من استخفَّ بالعلماءِ ذهبت آخرتهُ، ومن استخفَّ بالسُّلطانِ ذهبت دُنياهُ، ومن استخفَّ بالإخوانِ ذهبت مُرُوءَتُهُ. قلت: وسوف يأتي الحديث مفصلًا بما يتعلق في أدب الصحبة بإذن الله تعالى. رابعًا: الزواج: العاقل لا يستغرب الحديث عن الزواج هنا؛ لأنه يعلم أنه من الوسائل العملية، وهو حصن حصين، وفيه يحقق الإنسان لنفسه العفة والسكن والمودة والرحمة، ويحمي نفسه من سعار الشهوة المحرمة. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشرَ الشَّبَابِ، مَنِ استطاع مِنْكُمُ الباءةَ فليتزوج، فإنَّهُ أغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطيع فعليهِ بالصَّومِ؛ فإنَّهُ له وجَاء" (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إِذَا تَزوَّجَ العَبدُ فَقَدِ استَكمَلَ نِصفَ الدينِ، فَليتَّقِ الله فِي النصفِ الثاني" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصوم (4/ 119 - فتح)، ومسلم في النكاح (1400). (¬2) حسن. أخرجه البيهقي (5487 - شعب)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (430).

خامسا: إمعان النظر في كتاب الله سبحانه

خامسًا: إمعان النظر في كتاب الله سبحانه. قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]. قال الحافظ ابن كثير: " (موعظة) أي: زاجر عن الفواحش، (وشفاء لما في الصدور)، أي: من الشُّبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس، (وهدى ورحمة)، أي: محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين" (¬1). وقال -جل ثناؤه-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. قال العلامة السعدي: "يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم" (¬2). وقال العلامة الأمين الشنقيطي: "هذه الآية الكريمة أجمل الله -جل وعلا- فيها جميع ما في القرآن من الهدي إلى خير طريق وأعدلها ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (210/ 4 طبعة الشعب). (¬2) "تفسير الكريم المنان" (708).

الأمثال القرآنية

وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة" (¬1). وكم في هذا الكتاب العظيم من توجيه وهداية، فقال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]. فالقرآن الكريم اشتمل على الأمثال والقصص والعبر هداية لخيري الدنيا والآخرة. * الأمثال القرآنية: الأمثال القرآنية من أفضل الوسائل لغرس القيم الإسلامية وتهذيب النفوس والأفكار، وتغيير السلوك والاعتبار، ومن خلالها يعيد المرء ترتيب نفسه بالتفكير والإمعان، والعمل على إصلاح النفس وتربيتها. وللأمثال أغراض كثيرة من أهمها "الترغيب بالتزيين والتحسين، أو التنفير بكشف جوانب القبح، فالترغيب يكون بتزيين الممثَّل له، وإبراز جوانب حسنه، عن طريق تمثيله بما هو محبوب للنفوس مرغوب لديها، والتنفير يكون بإبراز جوانب قبحه، عن طريق تمثيله بما هو مكروه للنفوس، أو تنفر النفوس منه" (¬2). قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. قال السعدي -رحمه الله تعالى- في "تفسيره": " (وما يعقلها) بفهمها ¬

_ (¬1) "أضواء البيان" (409/ 3). (¬2) "الأمثال القرآنية" (39).

وتدبرها، وتطبيقها على ما ضُربَت له، وعقلها في القلب (إلا العالمون)، إلا أهل العلم الحقيقي، الذين وصل العلمُ إلى قلوبهم، وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين، والسببُ في ذلك أن الأمثال التي يضربها الله في القرآن، إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة. فأهلُ العلم يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء الله بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها. وأمَّا مَنْ لم يعقلها مع أهميتها، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم، لاْنه إذا لم يعرف المسائل المهمة، فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى؛ ولهذا أكثر ما يضرب الله الاْمثال في أصول الدين ونحوها" (¬1). "وفي القرآن بضعة وأربعون مثلًا، وكان بعضُ السلف إذا مرَّ بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: لستُ من العالمين" (¬2). وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)} [الزمر: 27]. وقال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ¬

_ (¬1) "تيسير الكريم الرحمن" (581). (¬2) "مفتاح دار السعادة" (1/ 226) للإمام ابن قيم الجوزية.

القصص القرآني

وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)} [النور: 34]. * وقد اشتمل القرآن الكريم على: 1 - آيات بينات، وهي الآيات الواضحات من الحقائق الشرعية، من الأمر والنهي والحلال والحرام، وغيرها. 2 - (ومثلًا) من الأخبار العجيبة وقصص الأمم السابقة وما فيها من عبر لكل ذي لب. كما قال سبحانه: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} [إبراهيم 44 - 45]. فهذه الآيات وما اشتملت عليه من تحذير وترهيب، وما وقع للأمم السابقة من سلوك مشين، وكيف خالف هدي رب العالمين، هي عظة وعبرة لأصحاب العقول الراجحة أن يتعضوا بها، بعدم التشبه بهم، أو السير على طريقهم. 3 - (موعظة للمتقين) المواعظ والنصائح والوصايا. * القصص القرآني: للقصص القرآني أثر بالغ في نفس القارئ والسامع، تهفو لها النفوس، وتطمئن بها القلوب، وتسمو بها الأرواح، فيها من السحر الأخاذ للسمع والفؤاد، وفيها من الفوائد والعبر والدروس والإرشاد والدلالات لمن أمعن النظر، وألقى السمع وهو شهيد.

من فوائد القصص القرآني

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف2 - 3]. * من فوائد القصص القرآني: 1 - الاقتداء بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، أي على طريقتهم في التوحيد والدعوة إلى الله تعالى، والصبر على ذلك. 2 - اجتناب سلوك المجرمين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 55]. 3 - التفكر، قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 176]، وهذه الآيات جاءت عقب قصة البائس الذي انسلخ من آيات الله وأخلد إلى الأرض، والعاقل من تفكر في قصص من سبق، ثم اعتبر. قال الناظم: اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ... ضل قوم ليس يدرورن الخبر 4 - الاعتبار؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]. 5 - المعين التربوي، والزاد العلمي؛ قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ

أنواع القصص القرآني

لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44]. فالقصة وسيلة تربوية فاعلة، مريحة للقلب، وزاد المعلمين؛ لما لها من أسلوب رائع مؤثر. لذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - القصة، واستمع لها، فهي إحدى الوسائل الناجحة لكسب القلوب والتأثير فيها، وغرس القيم الإسلامية. * أنواع القصص القرآني: الأول: قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقوامهم، والمعجزات التي وقعت للأنبياء، وعاقبة المؤمنين والمكذبين. الثاني: قصصُ غير الأنبياء، كقصة ابني آدم، وهاروت وماروت، وأصحاب السبت، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل، وأصحاب الجنة، وأهل الكهف، وطالوت وجالوت، ومؤمن آل فرعون، وقصة مريم، وذي القرنين، وغيرهم. الثَّالث: قصص تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كغزوة بدر وأحد وحنين، وبراءة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنه -، والثلاثة الذين خلفوا، والإسراء، ونحو ذلك. ***

الباب الثاني السلوك القويم

الباب الثاني السلوك القويم

"قال سفيان بن عُيينة: "إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الميزانُ الأكبرُ، وعليه تُعرضُ الأشياء على خُلُقِهِ وسِيرته وهَدْيه، فما وافقها فهو الحقُّ وما خالفَهَا فهو الباطلُ". [تذكرة السامع والمتكلم (14) لابن جماعة].

الأدب مع الله تعالى

الأدب مع الله تعالى أعلى المراتب الخُلُق مع الله -سبحانه وتعالى-، والعاقل من يكون خُلُقه وأدبه مع الله تعالى وهو أصل كلّ أدب، بل لا يتَّصف أحد بأدَبٍ إن عَدِمَ "الخُلُق مع الله". والأدب مع الله هو حُسْن الانقياد إليه بإيقاع كل حركة عدى مُقتَضَى تعظيمه وإجلاله، والحياء منه، وهذا يشمل: القلب، واللسان، والأركان. وأدب القلب: هو الأصل والأساس لغيره، فمقتضاه أن يتَوجَّه إلى الله وحده محبةً، وخوفًا، ورجاءَ وتوكلًا واستعانة، إلى غير ذلك، وفي المقابل: فإن أَعظَم الإسَاءة أن يلتفت إلى غيره، أو يقصد سواه، وهو المتفرِّد بالخَلق، والرِّزقِ والمُلكِ والتدبير، وبيده وحده النَّفع والضّر، وإليه وحده مرجع الأمر. وأمَّا أدب اللسان فمقتضاه: أن لا يقول إلا ما فيه تعظيمُ إلهه ومولاه، وأن لا ينطق إلا بما يحبه ويرضاه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70] ومن ذلك: ذكره، وتلاوة كتابه، والتسبيح بآلائه. وفي المقابل فإن أعظم إساءة: الاستهزاء بآيات الله خوضًا ولعبًا، وسب الله العظيم، وسب آياته وشريعته، وهذا هو أعظم الجرم، وهو الكُفْر البواح.

وأعلى مراتب الأدب مع الله سبحانه التوحيد؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. ومن أعظم مظاهر سوء الأدب مع الله في الأفعال: المجاهرة بالعصيان، ومحاربة الرحمن، ورد أمر الله اتباعًا لأمر الهوى والشيطان، ومن ذلك: سماع الكذب، وأكل السحت، وهذا من أخبث صفات اليهود. قلت: ومن الفهم القاصر عند البعض ظنّهم أنه لا أدب مع الله، بل الخُلُق يكون فقط مع الخَلق وليس الخَالق؛ ولهذا نبَّه العُلَماء على ذلك كثيراً، ومنهم العلامة محمد بن صالح العثيمين حيث قال: "إن كثيرًا من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخَلقِ دون معاملة الخَالق، ولكن هذا الفهم قاصر، فإن حُسْنَ الخُلُق كما يكون في معاملة الخَلق، يكون أيضًا في معاملة الخَالق. فموضوع حُسن الخُلُق إذًا: معاملة الخالق -جل وعلا-، ومعاملة الخَلق أيضاً، وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها الجميع. وحسن الخُلُق في معاملة الخَالق يجمع ثلاثة أمور: 1 - تَلقَّي أخبار الله عز وجل بالتَّصديق. 2 - تلقَّي أحكامة بالتَّنفيذ والتَّطبيق.

3 - تلقي أقْدَاره بالصَّبْر والرِّضَا" (¬1). أنواع الأدب: قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "والأدب ثلاثة أنواع: 1 - أدب مع الله سبحانه وتعالى. 2 - وأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه. 3 - وأدب مع خلقه. فالأدب مع الله ثلاثة أنواع: أحدها: صيانة معاملته من أن يشوبها نقيصة. الثاني: صيانة قلبه من أن يلتفت إلى غيره. الثالث: صيانة إرادته من أن تتعلق بما يمقتك عليه" (¬2). فالأدب مع الله سبحانه: إيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء والمراقبة. ومقامات الأدب مع الله سبحانه كثيرة جداً، ومنها مقام المراقبة: بدوام علم العبد وتيقنهِ باطلاع الحقِّ -سبحانه وتعالى- على ظاهرهِ وباطنه (¬3). فالعبد يخلو أحيانًا بما لا يراه أحد، فينبغي أن يحقق مقام المراقبة مع الله سبحانه دائمًا، فلا يجترح السيئات، ولا ينتهك الحرمات، فيستشعر أن الله مطلع عليه ومراقب له. ¬

_ (¬1) "مكارم الأخلاق" (274). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 356). (¬3) "مدراج السالكين" (2/ 65).

قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. وقال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]. وقال تعالى: {أَلًا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلًا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} [هود: 5]. قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى-: "يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر، وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدًا؛ كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]. وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]. وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 7]. ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم، إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى. واعلم أن الله -تبارك وتعالى- ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظًا أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون، وضرب العلماء لهذا الواعظ الاكبر والزاجر الأعظم مثلًا ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملكاً قتَّالًا للرجال، سفاكاً للدماء، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دماً، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من

بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟! لا، وكلا، بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم؛ خوفاً من بطش ذلك الملك. ولا شك -ولله المثل الأعلى- أن رب السماوات والأرض- جل وعلا- أشد علماً، وأعظم مراقبة، وأشد بطشاً، وأعظم نكالًا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه -جل وعلا- ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لانَ قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا. ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله -تبارك وتعالى- صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملًا، ولم يقل: أيهم أكثر عملًا، فالابتلاء في إحسان العمل؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال في الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك: 2]. ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خُلق من أجلها هي أن يبتلى، -أي يختبر: بإحسان العمل- فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحة في هذا الاختبار" (¬1). ذُكر عن أعرابي قال: خرجتُ في بعض الليالي المظلمة، فإذا أنا بجارية ¬

_ (¬1) "أضواء البيان" (9/ 3 - 11).

فأردتها عن نفسها، فقالت: ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ثانٍ من دين؟ فقلتُ: إنه لا يرانا إلا الكواكب، فقالت: فأين مكوكبها؟ (¬1). قال الشاعر: وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ ... والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ فاستحيي من نظر الأله وقل لها ... إنَّ الذي خلقَ الظلام يراني (¬2) فالعاقل من يراقب ربه، ويحذر سوء المنقلب. عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَعلَمَنَّ أقوَاماً من أُمتى يأتُونَ يومَ القيامةِ بحَسَنَاتٍ أَمثالِ جبالِ تِهاَمةَ، بِيضاً، فيجعلُها اللهُ هباءً منثوراً. أَمَّا إنَّهُم إخوانُكم ومن جلدَتِكم ويأخُذونَ مِنَ الليلِ كما تأخذُونَ، ولكنهُم، أقوَامٌ إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ، انتَهَكُوهَا" (¬3). والعاقل من يعظم ربه في الغيب والشهادة، ويضع مقام الخشية نصب عينه دائماً، فيحلو في العيون، ويعظم عند مولاه. قال القاسم بن محمد: "كنا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيءٍ فُضِّل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟، إن كان يصلي إنَّا لنصلي، ولئن كان يصوم إنَّا لنصوم، وإن كان يغزُو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنَّا لنحج. قال: فكنا في بعض مَسيرنا في طريق الشام ليلةً نتعشَّى في بيتٍ إذ طَفئ ¬

_ (¬1) "روضة المحبين" (448) للإمام ابن القيم. (¬2) "نونية القحطاني" (25). (¬3) صحيح. أخرجه ابن ماجه (4245)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5028).

السراجُ، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يَستصبح، فمكث هنيئة، ثم جاءَ بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله حين فَقدَ السراج فصار إلى الظُلمة ذكرَ القيامة. قال المروَزِيِّ: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبئةٍ كانت له (¬1). قلت: وصدق الإمام ابن قيم الجوزية في قوله: "اعلم أن أشِعَّة "لا إله إلا الله" تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوتُ أهلها في ذلك النور قوةً، وضعفًا لا يحصيه إلا الله تعالى. فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف , .. نعم من قالها بلسانه، غافلًا عن معناها، معرضًا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها. راجيًا مع ذلك ثوابها حَطَّت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض" اهـ (ملخصًا) (¬2). ¬

_ (¬1) "صفوة الصفوة" (4/ 145، 146). (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 338).

من أدب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع الله سبحانه

من أدب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع الله سبحانه وتأمل -رعاك الله- أحوال الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مع الله سبحانه في خطابهم وسُؤالهم، وعبادتهم كيف تجدها مشحونة بالآداب قائمة به، وهاك بعضًا منها: * من أدب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إن القلم ليعجز أن يكتب عن أدب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحياته كلها أدب من المولد حتى الممات، فهو السراج المنير الذي امتن الله به على الدنيا، فأحيا به مواتها، واستنارت بعد ظلماتها. زكى الله لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]. وزكى صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]. وزكى فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11]. وزكى خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وأدبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الله سبحانه كثير، يصعب حصره، ويعجز القلم عن جمعه، ولسنا في معرض الجمع والتقصي، بقدر ما نحن في التمثيل لأدب النبي عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم. ومن جميل ما ذُكِرَ في تفسير قول الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17]. وفي وصف أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ربِّه -تبارك وتعالى- في ذلك المقام في

من أدب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -

حادثة المعراج، أنه لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، ولم يلتفت يمْنَةَ ولا يَسرةٍ، ولا يتجاوزه، وهذا كمال الأدب، والإخلال به أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلع أمام المنظور، فالالتفات زيغٌ، والتطلع إلى الأمام المنظور طغيان ومجاوزة. وهذا غاية الكمال والأدب مع -الله جل وعلا- الذي أدبه، وأكمل خلقه، وأثنى عليه، ووصفه في كتابه، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. ولعل سر وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعظمة في أخلاقه ما قاله الحليمي في كتابه المنهاج بقوله: "الأغلب أن الخلق يوصف بالكريم دون العظيم، لكن الوصف بالكريم يراد به الثناء على صاحبه بالسماحة والديانة، ولم يكن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقصورًا على هذا" (¬1). بمعنى أنه عظيم في خلقه مع ربه، عظيم في تعامله مع عموم الناس مع من آمن به، أو كفر عظيم في كل موقف من مواقف حياته، وفي كل نوع من أنواع الأخلاق، عظيم في الظاهر والباطن، فهو وحده الذي بلغ الكمال الإنساني، وقد وصف الأنبياء ببعض الصفات من الرشد، والحلم، والتقى، غير أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصف بالخلق العظيم. * من أدب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى على لسان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء78: 80]. ¬

_ (¬1) "المنهاج في شعب الأيمان" (73/ 2).

من أدب موسى - صلى الله عليه وسلم -

فإبراهيم عليه السلام أضاف المرض إلى نفسه، وإن كان المرض والشفاء كله من الله، استعمالًا لحسن الأدب، فلم يقل: (وإذا أمرضني) حفظًا للأدب مع الله -سبحانه وتعالى- كما قال الخضر عليه السلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فقد نسب العيب إلى نفسه، ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها، ولكنه عندما تحدث عن الغلامين نسب الفضل لله فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، وهذا غاية في الأدب. * من أدب موسى - صلى الله عليه وسلم -: تأمل -أخي الكريم- أدب موسى الكليم عليه السلام في الطلب، عندما ذهب إلى مدين، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص23: 24]. والمعنى أنَّ موسى عليه السلام يطلب فضل الله وخيره، ويعلن أنه فقير ومحتاج إلى فضل الله سبحانه، وتأمل أسلوب العرض في قوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يقل: (أطعمني)، أو (أوجد) لي مسكنًا أسكن فيه؛ لأنه لما قدم مدين لم يكن له قريب، أو سكن يأوي إليه، وإنما جاء وحيدًا وليس له مكان يأويه، فافتقر إلى الله سبحانه، فما كاد يتم دعاءه إلا والاستجابه تأتي: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ

من أدب يوسف - صلى الله عليه وسلم -

نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)} [القصص: 25]. * من أدب يوسف - صلى الله عليه وسلم -: يوسف عليه السلام الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الموصوف في القرآن الكريم بحسن الخُلُق والخلق، الممدوح على لسان رسولنا الكريم عليه أفضل السلام وأتم التسليم. ومن أدب يوسف عليه السلام قوله عندما خرج من السجن عندما رفع أبويه على العرش قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]. ولم يُضِف سببَ وقوعهِ في السجن إليه (¬1)، وإنما ذكر إحسان الله إليه، ونحو هذه الآية قول الله سبحَانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80]. قلت: وهذا الخطاب غاية في اللطف والأدب، فقد نسب يوسف عليه السلام الإحسان إلى ربه، سبحانه وتعالى. * من أدب أيوب - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء83: 84]. فبعدما ذكر أيوب عليه السلام حالته بهذه الجملة الموجزة {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، وهذه الجملة الاسمية {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} محل نصب حال؛ لأن الواو فيها هي واو الحال، أي أنا مسني الضر، والحال أنك أرحم الراحمين، فتأمل رقة العبارة، وحسن العرض، فلم يفصل في الضر الذي ¬

_ (¬1) "شأن الدعاء" للإمام أبي سليمان الخطابي (153).

من أدب عيسى - صلى الله عليه وسلم -

مسه، ولم يسترسل في الكلام عن نفسه، ولم يتسخط، أو يشك، أو يعترض، وإنما أشار إلى أن هذا الضر مسه، ولم يقل: (فاعفني واشفني) بصورة الأمر، وفي هذا غاية الأدب مع الله عز وجل والرضا بقدره. * من أدب عيسى - صلى الله عليه وسلم -: قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} [المائدة: 116]. فمن كمال أدب المسيح عليه السلام في خطابه لربه، أنه لم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئًا من ذلك"، وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول أي مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة. وهذا من أَبلَغ الأدَب مع الله سبحانه في مثل هذا المقام، فقوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]. هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل من عيسى عليه السلام، تنزيها وتعظيماً لربه سبحانه عن الشريك، ومما لا يليق، وأنه ليس من حقوقه القول على الله بغير حق. وذكر لي بعض الفضلاء فائدة عن أدب عيسى عليه السلام فقال: يظهر أدب عيسى عليه السلام مع ربه في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]. لم يقل: (الغفور الرحيم) لسببين:

الأول: لأنه خطاب في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم، فلو قال: "فإنك أنت الغفور الرحيم"، لأشعر باستعطافه ربَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على مَن غضب الرب عليهم، فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين كمال القدرة وكمال العلم. الثاني: فيها إشعار بأن الله لو غفر لهم، فليس ذلك عن عجزه عن الانتقام منهم ولا عن خفاء جرائمهم عليه، لا، بل هو عزيز حكيم، فالصفة الأولى تتضمن كمال القدرة، والثانية كمال العلم (¬1). أخي القارئ: الأدب مع الله سبحانه يعني القيام بدينه، والتأدب بآدابه، ولا يستقيم لأحدٍ قط الأدب مع الله تعالى إلا بثلاثة أشياء: 1 - المعرفة بأسمائه وصفاته. 2 - المعرفة بدينه وشرعه، وما يحب وما يكرَه. 3 - أن تكون له النفس مستعدة ومتهيئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا. ***** ¬

_ (¬1) تنبيه، تبين لي بعد النظر في هذه الفائدة أن هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" (358) بتصرف، فالحمد لله رب العالمين.

من الأدب مع الله عز وجل

من الأدب مع الله عز وجل فالأدب مع الله سبحانه يقتضي توحيده وتعظيمه سبحانه وإطاعة أوامره ونواهيه، والحياء منه، وهذا يشمل القلب واللسان والأركان. وهذا باب واسع جداً لا يمكن حصره، ولكن حسبنا من ذلك أمثلة مهمة: 1 - تلقي أخبار الله سبحانه بالتصديق: بحيث لا يقع عند الإنسان شكٌّ أو تردد في تصديق خبر الله تبارك وتعالى؛ لأن خبر الله تعالى صادرٌ عن علمٍ، وهو سبحانه أصدق القائلين؛ كما قال الله تعالى عن نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]. ويلزم مع التصديق بأخبار الله سبحانه أن يكون الإنسان واثقًا بها، مدافعًا عنها، مجاهدًا بها وفي سبيلها، بحيث لا يداخله شك أو شبهة في أخبار الله عز وجل وأخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا تخلَّق العبد بهذا، أمكنه أن يدفع أي شُبهة يورِدُها المغْرِضُون على أخبار الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، أم من غير المسلمين، الذين يُلقون الشُّبه في قلوب المسلمين بقصد فتنتهم وإِضلالهم. ومن ذلك مثلًا ما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغمِسْهُ، ثُم لِيَنْزِعْهُ،

حسن الخلق مع الله عز وجل

فَإِنَّ فِي إِحدَى جَنَاحَيهِ داءَ، وَالأُخرَى شِفَاءَ" (¬1). هذا خبر صادر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من أمور الغيب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - , لا ينطق عن الهوى، لا ينطق إلا بما أوحى الله تعالى إليه، فهذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخُلق، وحسن الخلق نحو هذا الخبر يكون بأن نتلقاه بالقبول والانقياد، فنجزم بأن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث حق وصدق، وأمثال أخر "من أخبار يوم القيامة" (¬2). قلت: فكل الأمور الغيبية ينبغي للعبد -إذا جاءته عن طريق القرآن الكريم، أو السنة النبوية الصحيحة- التصديق بها، وتلقي أخبارها بالرضى دون تشكيك أو تردد. ومن ذلك عالم البرزخ، وسؤال الملكين في القبر، والجنة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من عذاب أليم، وعلى هذا فقس. 2 - حسن الخُلُق مع الله عز وجل: بأن يتلقى الإنسان أحكام الله بالقبول والتنفيذ والتطبيق، فلا يزد شيئاً من أحكام الله، فإذا رد شيئاً من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله عز وجل سواء ردها منكراً حكمها، أو مستكبراً عن العمل بها، أو متهاوناً بالعمل بها، فإن ذلك كله منافٍ لحسن الخلق مع الله عز وجل. مثال على ذلك الصوم، فلا شك أنه شاق على النفوس، ولكن المؤمن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3320 الفتح) في كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقعَ الذُّبابُ في شرابِ أحِدكم فليَغمسه .. (¬2) كتاب "مكارم الأخلاق" (274) للعلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-.

تلقي أقدار الله تعالى بالرضا والصبر

حسن الخلق مع الله عز وجل يقبل هذا التكليف، أو بعبارة أخرى: يقبل هذا التشريف، فهذه نعمة من الله عز وجل في الحقيقة، فالمؤمن يقبل هذه النعمة التي في صورة تكليف بانشراح صدر وطمأنينة، لكن سيئ الخلق مع الله يقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية، ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه، لكان لا يلتزم بالصيام (¬1). قلت: وعلى هذا يقاس الحج والزكاة والصلاة وتحريم الربا ونحو ذلك، فحسن الأدب مع الله سبحانه التسليم المطلق لآيات الله وأحكامه، بأن يؤمن بأن ما جاء عن الله -سبحانه وتعالى- فيه الحكمة والعلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]، ثم بعد القبول التنفيذ والتطبيق. ومنتهى سوء الأدب أن يظن العبد في نفسه العلم، وفي ربه الجهل، أو في نفسه الصواب وفي ربه الخطأ. 3 - تلقي أقدار الله تعالى بالرضا والصبر: المسلم العاقل يتلقى أقدار الله بالرضا والصبر، فالمرض مثلًا لا يلائم الإنسان، فالإنسان يحبُّ أن يكون صحيحًا مُعَافى، وكذلك الفقر لا يلائم الإنسان، فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا، وكذلك الجهل لا يلائم الإنسان، فالإنسان يحب أن يكون عالمًا، لكن أقدار الله عز وجل تتنوع لحكمة يعلمها الله سبحانه، منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا ¬

_ (¬1) "المصدر السابق" (276).

يكون كذلك، فما هو حسن مع الله عز وجل نحو أقدار الله، فهو حسن مع الخلق نحو أقداره سبحانه: أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أنه -سبحانه وتعالى- ما قدره إلا لحكمة عظيمة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد والشكر (¬1). قلت: كثيرًا ما يُسأل النَّاس عن أمانيهم في الحياة؟ فإن كان أحدهم فقيرًا معدمًا، لتمنى أن يعيش غنيًا منعمًا، وإن كان مريضًا شل المرض حركته، لتمنى العافية والشفاء، وإن كان طالبًا لتمنى الإجازة العلمية، ثم العمل المرموق. فالأدب مع الله تلقي أقدار الله تعالى بالرضى والصبر، والرضى: يعني سرور النفس بما يصيب الإنسان من خير أو شر، أو حلو أو مر، أو يفوته من الله سبحانه. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة: 155]. فالابتلاءات كثيرة، هذا بالمرض، وهذا بالموت، وذاك بالجوع، وآخر بالمصائب، وفلانة بحرمان الزوج، وآخر بالعقم. هذا يسعى ويعلم ولده، ويكدح في توفير العمل المناسب له، ثم يسقط الولد يوم العمل ميتًا. وذاك يسعى ويكدح لتتخرج ابنته طبيبة، وفي يوم فرحتها بالشهادة، تأتي مركبة مسرعة فتصطدم بها وتموت. ¬

_ (¬1) ينظر كتاب "مكارم الأخلاق" للعلامة ابن عثيمين (278) بتصرف.

التوجه إلى الله سبحانه بالدعاء

وذاك يجمع ثروة عظيمة، فتأتي النار فتحرق ماله، فالمصائب ألوان، والله المستعان. والعاقل من يجعل صبره اختياريًّا، بمعنى أن يرضى بقضاء الله وقدره الواقع به، دون تأفف أو اعتراض باختياره؛ لأنه مؤمن بأنه لا يستطيع له دفعًا، وهو أمر الله سبحانه، وعليه -حتى يكون أمره ممدوحًا- بالصبر والرضا فينبغي التسليم لقضاء الله وقدره، فيكون صبره اختياريًّا حامدًا مولاه على كل حال، وهذا أكمل الصبر. 4 - التوجه إلى الله سبحانه بالدعاء: قال الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان: 77]. وقال -عزَّ اسمه-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186]. وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. وقال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف 55: 56]. وعن النُّعمان بن بَشير قال: سَمِعتُ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الدُّعَاءُ هُوَ العبادة"، ثُم قَرَأَ

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] (¬1). "معنى الدعاءِ، استدعاءُ العبد ربَّهُ عز وجل العناية، واستمدادُهُ منه المعونة" (¬2). فلا يتخلى عبد عن دعاء مولاه إلا قانط أو متكبر مستغنٍ، وهذا موجب لغضب الله سبحانه وسخطه، فدعاء العبادة، ودعاء المسألة من الأمور التي يحبها الله سبحانه من عبادة المتقين. والفرق بينهما أن دعاء المسألة هو طلب ما ينفعُ الدَّاعى بجلب الخير، أو دفع الضر، أمَّا دعاء العبادة فهو الثناء على الله بما هو أهله، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة قال شيخ الإسلام: "دعاءُ المسألة؛ هو طلبُ ما ينفعُ الداعي، وطلب كشف ما يضره، ودفعه" (¬3). وفي الحديث عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَن لم يسأل اللهَ، يَغضَبْ عَلَيْهِ" (¬4). وقد أحسن الناظم بقوله: اللهُ يغضَبُ إِن تَرَكْت سُؤَالَهُ ... وترى ابنَ آدمَ حينَ يُسألُ يَغضبُ ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3372) وقالَ: حَسَن صَحِيحْ. (¬2) "شأن الدعاء" (4). (¬3) "مجموع الفتاوى" (15/ 10). (¬4) صحيح. أخرجه الترمذي (3373)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2418).

أولا: آداب قبل الدعاء

وفي قَولُهُ: (من لم يَسأل اللهَ يَغضَب عليه) قال الطِّيبِيُّ: "وذلك لأنَّ الله يُحِب أَن يُسألَ من فضله فمن لم يَسأل الله يُبغضهُ، والمبغُوضُ مغضُوبٌ عليه لا محالة". وكم في كتاب الله العزيز من موقف يبين لجوء المؤمنين لربهم عند ملاقاة الأعداء؛ لأن الله ملجأ الخائفين، وملاذ الطائعين. قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)} [البقرة: 250]. وفي التنزيل آيات كثيرة فيها من السؤال والافتقار والتضرع، والطلب والعبادة، ما يجعلنا لا نطيل في هذا الباب. قال شيخ الإسلام (523 - اقتضاء الصراط المستقيم): "ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته: كالأسحار، وأدبار الصلوات، والسجود ونحو ذلك، أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته. فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك، ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن، فإنه من يتحرَّ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يُوقه". قلت: وفيما ذكرنا كفاية، والله ولي التوفيق. وللمسألة والدعاء آداب وفضائل كثيرة: والآداب التي تحتف بالدعاء ثلاثة قبل الدعاء، وخلاله، وبعده: أولًا: آداب قبل الدعاء: 1 - التوبة ورد المظالم لأهلها.

قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90]. 2 - التقدم بين يدي ربه بحسن العبادة من الفرائض وبر الوالدين، والنوافل كالصدقة وغيرها التي يستجلب بها العبد محبة ربه تبارك وتعالى. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله قال: من عادى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ، وما تَقَربَ إِلَيَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَب إِلَيَّ مِما افتَرَضتُ عَلَيهِ، وما يَزَالُ عَبدِي يتقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنوَافِلِ حَتى أُحِبهُ، فَإِذا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ بِهِ، وَيدَهُ التِي يَبطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ التي يَمشِي بِهَا، وَإِن سَألَنِي لأعطِيَنَّهُ، وَلَئِن استعَاذنِي لأُعِيذنَّهُ" (¬1). 3 - تحري المال الحلال. قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وعن أَبِي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيهَا النَّاسُ إِن اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلا طَيبًا، وَإِن الله أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُم ذَكَرَ الرجُلَ يُطِيلُ السفَرَ أَشعَثَ أَغبَرَ يَمُدُّ يَدَيِه إِلَى السمَاءِ يَا رَب يَا رَب، وَمَطعَمُهُ حَرَام، وَمَشرَبُهُ حَرَام، وَمَلبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأنَّى يُستجَابُ لِذَلِكَ؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6502. فتح) في كتاب الرقائق، باب: التواضع. (¬2) أخرجه مسلم (1015) في كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة.

ثانيا: آداب عند الدعاء

4 - أن يختار موضعًا طاهرًا نظيفًا، خاليًا عما يشغل القلب. 5 - أن يكون نظيفًا من نجاسة الثياب، طيب الفم على أكمل وجه. 6 - أن يتحرى أوقات إجابة الدعاء مع شرف الزمان، والمكان. ثانيًا: آداب عند الدعاء: 1 - استقبال القبلة عند الدعاء، مع التذلل والوقار. عن عبد الله بن مسعودِ -رضي الله عنه - قَالَ: استقبَلَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكعبَةَ، فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِن قُرَيشِ" (¬1). وعن عبد اللهِ بن زيدٍ الأنصاري أَن النبِي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى المُصَلى يُصَلي، وَأَنهُ لَما دَعَا أَو أَرَادَ أن يَدعُوَ استقبَلَ القبلَةَ وَحَولَ رِدَاءه" (¬2). 2 - رفع اليدين عند الدعاء. عن ابن عمر قال: رَفَعَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدهُ، فَقَالَ: "اللَّهُم إِني أَبرَأُ إِلَيكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" (¬3). وعن أَبي موسى قَالَ دَعَا النبِي - صلى الله عليه وسلم - بِمَاءٍ فَتَوَضَّأ بِهِ، ثُم رَفَعَ يَدَيهِ فَقَالَ: "اللهُمَّ اغفر لِعُبَيدٍ أَبي عَامِرٍ"، وَرَأَيتُ بَيَاضَ إِبطَيهِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في (3960 فتح) كتاب المغازي، باب: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش. (¬2) أخرجه البخاري (1027 فتح) في كتاب الاستسقاء، باب: استقبال القبلة في الاستسقاء. (¬3) أخرجه البخاري (4339 فتح) في كتاب المغازي، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جَذيمة. (¬4) أخرجه البخاري (6383 فتح) في كتاب الدعوات، باب: الدعاء عند الوضوء.

عن سلمان الفارسيِّ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِن اللهَ حَيِيٌّ كَرِيم يَستَحيِي، إِذَا رَفَعَ الرجُلُ إِلَيْهِ يدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا خَائِبَتَين" (¬1). 3 - الدعاء بباطن الكف: وهذا من حسن الأدب، وكمال التذلل والأفتقار، لحديث مالك بن يسار السكوني، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها" (¬2). 4 - الثناء على الله سبحانه وتعظيمه، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن فَضَالَةَ بن عُبَيدٍ: قال بَينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِد إِذ دَخَلَ رَجُل، فَصَلى فقال: اللهُم اغفِر لِي، وَارحَمنِي. فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِلتَ أَيهَا المُصَلِّي، إِذَا صَليتَ فَقعَدتَ، فاحمَد اللهَ بِمَا هُوَ أَهلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادعُهُ". قال ثُمَّ صَلى رَجُلٌ آخَرُ بَعدَ ذَلِكَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَصَلى عَلَى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيهَا المُصَلِّي ادعُ تُجَب" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وابن حبان (4399 - موارد)، والطبراني (6/ 252)، والحاكم (1/ 497) من طرق عن أبي عثمان النهدي عن سلمان، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (143/ 11): سنده جيد، وأخرجه أحمد موقوفًا (5/ 438). (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (1486)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (593). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 18)، وأبو داود (1481)، والنسائي (1284)، والترمذي (3476) قال الترمذي: حَدِيث حَسَنٌ، قلت: وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3988).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ دُعَاءٍ مَحجُوب حَتى يُصَلَّى عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). قال النووي: "أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك يُختم الدعاء بهما" (¬2). 5 - سؤال الله سبحانه بأسمائه وصفاته، ومناسبة الطلب بصفات الله سبحانه أو أسمائه، فيقول: اللهم ارحمنى يا رحيم، وارزقني يا رزاق، وهكذا. قال الخطابي رحمه الله: "تضافُ معاظمُ الخليقةِ إليهِ عند الثناءِ والدُّعاءِ، فيُقَالُ: "يا رَب السماواتِ والأرضين" كما يُقالُ: "يا رَب الأنبياءِ والمرسلين" ولا يحسُنُ أن يقال: يا رب الكلاب، ويا ربَّ القردةِ والخنازيرِ، ونحوها من سَفَلِ الحيوانِ، وحشراتِ الأرضِ، وإن كانت إضافةُ جميع المكوَّناتِ إليه من جِهَة الخلقِ لها، والقدرَةِ شامِلَةً لجميعِ أصنافِهَا" (¬3). 6 - العزم والجزم في المسألة. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اللهم اغفِر لي إِن شِئتَ، اللهم ارحَمنِي إِن شِئتَ، لِيَعزِمِ المسألَةَ فإنهُ لا مُكرِهَ لَهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) حسن. انظر "صحيح الجامع" (4523). (¬2) "الأذكار" (195). (¬3) "شأن الدعاء" (153). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب: ليعزم أحدكم المسألة.

عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ادعُوا اللهَ وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ، وَاعلَمُوا أَن اللهَ لا يَستجِيبُ دُعَاءً من قلب غافِلٍ لاهٍ" (¬1). ومن الأخطاء الشائعة عند البعض استعظام المسألة على الله سبحانه، والاستغناء عنه كقول البعض: اللهم اغفر لي إن شئت! كأنه مستغنٍ عن ربه. ومن التعاليق المفيدة للعلامة ابن عثيمين رحمه الله حول أسباب كراهية مثل هذا النوع من الدعاء: الأول: أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فيقول: أنا لا أكرهك إن شئت فاغفر، وإن شئت فلا تغفر. الثاني: أن قول القائل: إن شئت كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله، فقد لا يشأهُ، لكونه عظيماً عنده. الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغنٍ عن الله، كأنه يقول: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، فأنا لا يهمني، والتعليق ينافي ذلك؛ لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر أنه مستغنٍ عنه، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الافتقار، وأن الله قادر على أن يعطيه ما سأل، وأن لا يدعو بهذه الصيغة، بل يجزم فيقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم وفقني، وما أشبه ذلك". اهـ ملخصاً (¬2). ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الترمذي (3479)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (245). (¬2) "القول المفيد" (3/ 90 - 91)، و"أخطاء شائعة" (14) للمؤلف.

7 - الإلحاح في الدعاء مع تكراره. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قال: "لا يَزَالُ يُستَجَابُ لِلعَبدِ، مَا لَم يَدْعُ بِإثمِ أَو قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَم يَستَعجِل"، قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الاستعجَالُ؟ قال: "يَقُولُ: قد دَعَوتُ وَقد دَعَوتُ فَلَم أَرَ يَستَجِيبُ لِي. فَيَسِتحسرُ عِندَ ذلِكَ وَيدَعُ الدعَاء" (¬1). ومن جميل ما يُذكر عن الإمام ابن الجوزي قوله: "إذا جلست في الظلام بين يدي الملك العلام، فاستعمل أخلاق الأطفال، فالطفل إذا طلب شيئًا فلم يعط بكى، حتى أخذه". 8 - عدم الاعتداء في الدعاء، بسؤال ما لا يجوز، وما لا يفعله الله سبحانه وتعالى، أو بإثم، أو بقطيعة رحم. كالدعاء بالمستحيل كالخلود في الحياة، أو الدعاء على الغير بالوقوع بالمحرمات كأن يتعاطى المخدرات، أو المسكرات، أو فراق الأهل أو تشتت الشمل. 9 - إخفاء الدعاء مع حضور القلب، والتضرع، والخشوع، والرغبة والرهبة، والإخلاص فيه. قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2735) في كتاب الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل.

ثالثا: آداب بعد الدعاء

الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205]. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]. وقال تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40]. 10 - أن يبدأ بنفسه ويشرك إخوانه معه بالدعاء. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} [الأعراف: 151]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10]. ومع ذلك يجوز أن يدعو لغيره، غير أن سجاياه البدء بنفسه أولًا؛ لحديث أبي ابن كعب - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا ذَكَرَ أحدًا فَدَعا لهُ، بَدَأ بنفسِهِ" (¬1). ثالثًا: آداب بعد الدعاء. 1 - أن يوقن بالإجابة، ويحسن الظن بالله سبحانه، ولا يستعظم المسألة. "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معهُ حين يذكرني" (¬2). 2 - أن يستمر في الدعاء في الشدة والرخاء. ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الترمذي (3385)، وقال: حسن غريب صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (2675).

عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سَرَّهُ أَن يَستَجِيبَ اللهُ لَهُ عِندَ الشَّدائِدِ وَالكَرْبِ، فَليُكثر الدُّعَاءَ فِي الرخَاءِ" (¬1). 3 - ألا ييأس من الدعاء، ولا يقول؛ دعوت دعوت ولم يستجب لي، ولا يستعجل الإجابة. عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما على الأرض مسلمٌ يدعو الله بدعوةٍ إلا آتاه الله إياها أو صَرَفَ عنه من السوء مِثلَها ما لم يدعُ بإئم أو قطيعة رحم"، فقال رجلٌ من القوم: إذًا نكثر، قال: "الله أكثر" (¬2). فقد تتأخر الإجابة لِحِكَم يعلمها الله سبحانه، فقد يستجيب له حالًا، وربما يستجيب له بعوض، أَو يدفع عنه من السوء ما لا يعلم، وربما يرتبط العبد بربه ويزيد في أجره، فيحاسب نفسه ويتفقد أعماله، ويتذلل إلى ربه، ويبكي بين يديه ليرفع قدره. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قال: "لا يَزَالُ يستَجَابُ لِلعَبدِ، ما لَم يَدع بِإثمِ، أَو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَم يَستَعجِل". قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الاستعجَالُ؟ قال: "يقولُ: قَد دَعَوتُ، وَقَد دَعَوتُ، فَلَم أَرَ يَستَجِيبُ لي. فَيَستَحسِرُ عِندَ ذلِكَ، وَيدَعُ الدُّعَاءَ" (¬3). ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات (3382)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (593). (¬2) صحيح. أخرجه الترمذي (3573) وقال: حسن صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (2735) في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب: بيان أنه يستجاب للداعي.

الوقوف بين يديه طاهرا في الصلاة مع الزينة

5 - الوقوف بين يديه طاهرًا في الصلاة مع الزينة: قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ستر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب؛ حتى يقف بين يدي الله طاهرًا؛ ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذ الزينة، فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فعلق الأمر بأخذ الزينة -لا بستر العورة- إيذانًا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة، وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال، وكان يلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي، ومعلوم أن الله -سبحانه وتعالى- يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيما إذا وقف بين يديه، فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرًا وباطنًا" (¬1). 6 - المداومة على الصلاة والخشوع: المداومة على الصلاة والخشوع بين يدي الله سبحانه، غاية الأدب مع الله سبحانه وتعالى. فلا عبث في ثوب أو لحية أو حجاب، أو شيء يشغل عن الصلاة، أو يقدح في الطمأنينة فيها. ¬

_ (¬1) "مختصر مدراج السالكين" (2/ 363).

قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون 1: 2]، وكذلك المداومة على الصلاة بسكون الأطراف والطمأنينة فيها، وهذا أحد التفاسير في قول الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 23]. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة، ففي الموطأ لمالك، عن سهل بن سعد: "أنَّه من السنة"، وكان الناسُ يُؤمَرُون به" ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء، فعظيم العظماء أحق به. ومنها: السكون في الصلاة، وهو الدَّوام الذي قال الله تعالى فيه: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 23]. قلت: هما أمران؛ الدَّوام عليها، والمُداومة عليها، فهذا الدوام والمداومة. وفُسِّر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة، وأدبه في استماع القراءة: أن يُلقِي السمع وهو شهيد، وأدبه في الركوع: أن يستوي، ويعظم الله تعالى، حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه، ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء. والمقصود: أن الأدب مع الله -تبارك وتعالى- هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا" (¬1). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 364).

عدم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة

7 - عدم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة: عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا" (¬1). الغائط: المكان المنخفظ، وهو مكان قضاء الحاجة، فالأدب مع بيت الله -الكعبة المشرفة، وهي قبلة المسلمين- أن لا تستقبل ببول أو غائط في الصحراء والخلاء على الكراهة عند علماء المسلمين، وهي لأهل المدينة ومن على سمتهم بأن يشرق العبد أو يغرب حال البول أو التغوط. 8 - تعظيم اسمه عز وجل: ومن الأدب مع الله عز وجل تعظيم اسمه، فكلما كتب اسم الله تعالى؛ أتبعهُ بالتعظيم مثلَ: تعالى أو سبحانه أو عزَّ وجلَّ، أو تقدس أو تباركَ، ونحو ذلك، ويتلفظُ بذلك أيضاً (¬2). 9 - شكر نعمه، وحمده: الشكر: تصور النعمة وإظهارها وهو الامتلاء من ذكر المنعم عليه. وقيل: هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف. والشكر مبنى على خمس قواعد: خُضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له واعترافُهُ بنعمته، وثَناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يَكره (¬3). ونعم الله علينا كثيرة، فلا تعد ولا تحصى؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وهو في "صحيح الجامع" (262). (¬2) "الدر النضيد" (428) للغزي العامري. (¬3) ينظر "مدارج السالكين" (2/ 234).

ومن الأدب مع الله: طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -

نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]. وقال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]. وقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]. و"الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانه، وباللسان ثناء واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا" (¬1). أما الحمد لغة: الثناء، واصطلاحًا: الثناء على الله بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل. أما الفرق بين الشكر والحمد، فالشكر لا يكون إلا في مقابل النعمة، أما الحمد فيكون مقابل النعمة أو دون مقابل، والشكر يكون بالقول والعمل، أما الحمد فلا يكون إلا بالقول. قال ابن القيم: "فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح والجسد، والحمد يقع بالقلب واللسان" (¬2). 10 - ومن الأدب مع الله: طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهي من طاعة الله سبحانه، وفي طاعة الرسول طاعة ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 237). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 237).

المرسل، لأنه بأمره أطاعة، ومن يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فريضته. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]. قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54]. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} [النساء: 80]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أطاعَني فقد أطاعَ اللهَ، ومَن عصاني فقد عَصى الله". ****

الأدب مع القرآن الكريم

الأدب مع القرآن الكريم القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، والحجة البالغة، والنعمة الباقية، وهو إعلام المسلمين الصادق، ومنبع التوجيه والتربية، وهو الدستور الذي أنزلهُ الله على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ليصلح الله به ما بين العبد وربه، وما بين العبد ونفسه، وما بين العبد والمجتمع الذي يعيش فيه، وتتحقق به رسالة المسلم في هذه الحياة على نحو ما أراد الله رب العالمين، وهو الفصل ليس بالهزل، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يبلى من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه .. ، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. وقال -عز اسمه-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. * معنى القرآن الكريم اصطلاحًا: القرآن الكريم هو: كلام الله تعالى، المُنَزَّل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - باللفظ والمعنى المتعبد بتلاوته، المحفوظ في الصدور والكتب، المتحدى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا بالتواتر.

فضل تلاوة القرآن الكريم

فضل تلاوة القرآن الكريم القرآن الكريم كلام الله تعالى، وفي تلاوته فضل عظيم، وقد أمر الله سبحانه بتلاوته كما في قوله سبحانه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29]. وعن أَبي أُمامةَ البَاهليُّ قال: سمعتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اقرَءُوا الْقُرآنَ، فإِنَّهُ يَأتى يَومَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لأصحَابِهِ، اقرَءُوا الزهرَاوَينِ البَقَرَةَ وَسُورَةَ آل عِمرَانَ؛ فإِنَّهُمَا تأتِيَانِ يَومَ القِيَامَةِ كَأنَّهُمَا غمَامَتَانِ، أَو كَأنَّهُمَا غيَابتَانِ، أَو كَأنهُمَا فِرقَانِ من طَيْرٍ صَوَافَّ، تحَاجَّانِ عَن أَصحَابِهِمَا، اقرَءُوا سُورَةَ البَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَركَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا البَطَلَة". قال مُعَاوِيةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ السحَرَةُ" (¬1). عن ابن مَسعُودِ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قرَأَ حَرفًا من كِتَاب اللهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَة، وَالحَسَنَةُ بِعَشرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ آلم حَرفٌ، وَلَكِن أَلِفٌ حَرف، وَلامٌ حَرف، وَمِيمٌ حَرف" (¬2). * أيهما أفضل: القراءة من المصحف أو عن ظهر قلب؟ تلاوة القرآن في المصحف عبادة، كما أن قراءة القرآن عن ظهر قلب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (802) في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. (¬2) صحيح. أخرجه الترمذي (2910) في كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن، وقال الترمذي: حَدِيث حَسَن صَحِيح، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6469).

عبادة أيضاً، ولكن أيهما أفضل عند العلماء؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله تعالى. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سَرَّهُ أن يُحب الله ورسوله، فَليقرأ في المُصحَف" (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "أديموا النظر في المصاحف" (¬2). وعن عبد الله قال: "تعاهدوا هذه المصاحف -وربما قال: القرآن- فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النَّعَم من عُقُلِه" (¬3). وعن يونس قال: "كان خُلُقُ الأولين النظر في المصاحف" (¬4). قال الإمام النووي -رحمه الله-: "قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب؛ لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، فتجتمع القراءة والنظر هكذا. قال القاضي حسين من الشافعية، وجماعات من السلف، ونقل الغزالي في "الإحياء" أن كثيرين من الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقرءون من المصحف، ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف؛ وروى ابن أبي داود القراءة في المصحف عن كثيرين من السلف، ولم أرَ فيه خلافًا؛ ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (7/ 209)، وأبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي في "فضائل القرآن وتلاوته" (115)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6289). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 499)، والفريابي في "فضائل القرآن" (149، 150). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 381). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 499).

أخلاق حامل القرآن الكريم

ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص، فيختار القراءة في المصحف لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة في المصحف وعن ظهر القلب، ويختار القراءة عن ظهر القلب لمن لم يكمل بذلك خشوعه؛ ويزيد على خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف -لكان هذا قولًا حسنًا، والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل (¬1). قلت: ولعل القول بالقراءة من المصحف مقدم على القراءة حفظًا؛ لكثرة الأدلة وقوتها في ذلك، وثانيًا دفعًا للخطأ واللحن، وأقوى للحفظ والاستذكار، مع الثواب في ذلك. أخلاق حامل القرآن الكريم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون". وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سِكِّيتًا، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون جافيًا ولا غافلًا، ولا صخابًا، ولا صياحًا، ولا حديدًا" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "من جَمَعَ ¬

_ (¬1) "التبيان في آداب حملة القرآن" (55). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 231)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 130).

القُرآنَ فقد حَمَلَ أمرًا عظيماً، لقد أُدرِجَت النبُوَّةُ بين كتفيهِ غيرَ أنَّهُ لا يُوحى إليه، ولا ينبغي لحاملِ القُرآنِ أن يَجِدَ مع منْ يَجِدُ، ولا يَجهَلَ معَ من يَجهَلُ، لأن القرآنَ في جَوفِهِ" (¬1). قوله: يجد أي يغضب. قوله: يجهل: أي يفسق. قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "ينبغي لحاملِ القرآن أن لا يكونَ له حاجةً إلى أحدٍ من الخلقِ، إلى الخليفةِ فمن دُونهَ، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه. حاملُ القرآن حاملُ راية الإسلامِ، لا ينبغي له أن يلغُو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو" (¬2). قال الإِمام الآجُرِّي -رحمه الله-: "فينبغي له أن يجعل القرآنَ ربيعاً لقلبهِ، وُيعمرَ به ما خربَ من قلبهِ، يتأدّبَ بآدابِ القرآنِ، ويتخلقَ بأخلاق شريفةٍ، يبينُ بها عن سائر الناس ممن لا يقرأُ القرآنَ. فأولُ ما ينبغي له: أَن يستعمِلَ تقوى الله -عز وجل- في السِّر والعلانيَةِ، باستعمالِ الورعِ في مطعمهِ، ومشربه، وملبسهِ، ومكسبهِ، ويكونَ بصيراً بزمانه وفساد أهلهِ، فهو يحذرهم على دينه، مقبلًا على شأنهِ، مهموماً ¬

_ (¬1) أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" موقوفاً (13)، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن وتلاوته" (52)، والحاكم مرفوعاً بنحوه (1/ 552)، وقال: "صحيح الاسناد"، وأقرّه الذهبي. (¬2) أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (37)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 92) بسند لا بأس به.

بإصلاحِ ما فسدَ من أمرهِ، حافظًا للسانهِ، مُميزًا لكلامهِ. إن تكلم تكلم بعلمِ، إذا رأى الكلامَ صوابًا، وإذا سكتَ سكتَ بعلمِ، إذا كانَ السكوتُ صوابًا، قليلَ الخوضِ فيما لا يعنيه، يخافُ من لسانهِ أشدَّ ممَّا يخافُ من عدوه، يحبسُ لسانهُ كحبسهِ لعدوه، ليأمنَ من شرِّهِ وسوءِ عاقبتهِ، قليلَ الضحك فيما يضحك فيه الناسُ، لسوءِ عاقبةِ الضَّحك، إن سُرَّ بشيءٍ ممَّا يُوافقُ الحقَّ تبسَّمَ، يكرهُ المزاحَ خوفًا من اللعبِ، فإن مزحَ قال حقاً، باسطَ الوجهِ، طيِّبَ الكلامِ. لا يمدحُ نفسهُ بما فيه، فكيفَ بما ليس فيه، يحذرُ من نفسه أن تغلِبَهُ على ما تهوى مما يُسخطُ مولاهُ، لا يغتابُ أحدًا، ولا يحقر أحدًا، ولا يسبُّ أحداً، ولا يشمتُ بمصيبةِ، ولا يبغي على أحدِ، ولا يحسدهُ، ولا يُسيء الظَّنَّ بأحدٍ إلا بمن يستحقُ، يحسدُ بعلمِ، ويظنُ بعلمٍ، ويتكلمُ بما في الإنسانِ من عيبٍ بعلمِ، ويسكتُ عن حقيقة ما فيه بعلمِ، قد جعلَ القرآن والسُّنةَ والفقهَ دليلهُ إلى كل خُلُقٍ حسنِ جميلِ، حافظاً لجميعِ جوارحهِ عمَّا نُهي عنهُ، إنْ مشى مَشى بعلمِ، وإن قعدَ قعدَ بعلمِ، يجتهدُ ليسلمَ الناسُ من لسانهِ ويدهِ. ولا يجهلُ؛ فإن جُهِلَ عليه حَلُمَ، ولا يظلمُ، فإن ظُلمَ عَفَا، ولا يبغي، وإن بُغي عليه صبرَ، يكظمُ غيظهُ ليُرضيَ ربَّهُ، وغبطَ عدُوّهُ، متواضعٌ في نفسهِ، إذا قيل لهُ الحقُّ قَبِلَهُ، من صغيرٍ أو كبيرٍ. يطلبُ الرِّفعةَ من الله -عز وجل- لا من المخلوقين، ماقتاً للكبر، خائفًا على نفسهِ منهُ، لا يتأكلُ بالقرآن، ولا يُحب أن تُقضى له به الحوائجُ، ولا يسعى به إلى أبناءِ الملوكِ، ولا يُجالسُ بهِ الأغنياءَ ليكرموهُ.

إن كَسَبَ النَّاسُ من الدنيا الكثيرَ بلا فقهِ ولا بصيرةِ، كسبَ هوَ القليلَ بفقهٍ وعلمٍ، إن لبسَ الناسُ اللِّينَ الفاخرَ، لبسَ هو من الحلال ما يسترُ عورتهُ، إن وُسِّعَ عليه وسَّعَ، وإن أُمسِكَ عليه أَمسَكَ، يقنعُ بالقليلِ فيكفيه، ويحذرُ على نفسهِ من الدنيا ما يطغيهِ. يتَّبعُ واجباتِ القرآن والسنَّةِ، يأكلُ الطعامَ بعلمٍ، ويشربُ بعلمٍ، ويلبسُ بعلمٍ، وينامُ بعلمٍ، ويُجامعُ أهلهُ بعلمٍ، ويصحبُ الإخوانَ بعلمٍ، يزورهم بعلمٍ، وَيستأذنُ عليهم بعلمٍ، يُجاورُ جاره بعلمِ. ويُلزمُ نفسهُ برَّ والدَيهُ، فيخفضُ لهما جناحهُ، ويخفضُ لصوتهما صوتَهُ، ويبذلُ لهما مالهُ، وينظرُ إليهما بعينِ الوقارِ والرحمة، يدعو لهما بالبقاءِ، ويشكرُ لهما عند الكبر، لا يضجرُ بهما، ولا يحقرهما، إن استعانا به على طاعةِ أعانهما، وإن استعانا به على معصيةِ، لم يعنهما عليها، ورفق بهما في معصيتة إياهما، يُحسنُ الأدبَ ليرجعا عن قبيحِ ما أرادا، ممَّا لا يحسنُ بهما فعلُهُ، يصلُ الرحم، ويكرهُ القطيعةَ، لمن قطعهُ، من عصى الله فيه، أطاع الله فيه. يصحبُ المؤمنين بعلمٍ، ويجالسُهُم بعلمٍ، مَن صحبهُ نَفَعَهُ، حسنُ المجالسةِ لمنِ جالسَ، إن علم غيرهُ رفقَ به، لا يُعَنفُ من أخطأ ولا يُخجلُهُ، رفيق في أُمُورهِ، صبورٌ على تعليم الخير، يأنسُ به المتعلمُ، ويفرحُ به المجالسُ، مُجالستهُ تُفيدُ خيرًا، مُؤدِّبٌ لمن جالسهُ بأدبِ القرآنِ والسُّنَّةِ. إن أصيبَ بمصيبةِ، فالقرآنُ والسنةُ له مؤدبانِ، يحزنُ بعلمٍ، ويبكي بعلمٍ، ويصبرُ بعلمٍ، ويتطهرُ بعلمٍ، ويصلي بعلمٍ، ويزكي بعلمٍ،

ويتصدقُ بعلمٍ، ويصومُ بعلمِ ويحجُّ بعلمٍ، ويجاهدُ بعلمٍ، ويكتسبُ بعلمٍ، وينفقُ بعلمٍ، وينبسطُ في الاْمورِ بعلمٍ، وينقبضُ عنها بعلمٍ، قد أدبهُ القرَآنُ والسُّنَّةُ. يتصفحُ القرآنَ ليؤدبَ نفسهُ، ولا يرضى من نفسهِ أن يُؤدي ما فرض اللهُ -عز وجل- عليه بجهلٍ، قد جعل العلمَ والفقه دليلهُ إلى كل خيرِ .. ، فالمؤمن العاقلُ إذا تلا القرآن استعرض، فكانَ كالمرآة يرى بها ما أحسنَ من فعله، وما قَبُحَ منه، فما حذَّرهُ مولاهُ حذِرهُ، وما خوَّفهُ من عقابه خافهُ، وما رغبهُ فيه مولاهُ، رغبَ فيه ورجاهُ. فمن كانت هذه صفتهُ، أو ما قاربَ هذه الصفة، فقد تلاهُ حقَّ تلاوته، ورعاهُ حقَّ رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا، وشفيعًا، وأنيسًا، وحرزًا، ومن كان هذا وصفهُ نفعَ نفسهُ، ونفعَ أهلَهُ، وعاد على والديه، وعلى ولدهِ كُلُّ خيرٍ في الدنيا والآخرة" (¬1). قلت: أحسن -والله- الإمام الآجري في وصفه أخلاق حملة القرآن الكريم وصفاتهم، وحريٌّ بكل عاقل أن يتصف بذلك، ويتأدب بأدب القرآن الكريم. ولا شك أن لتلاوة القرآن الكريم آدابًا كثيرة، حسبنا أن نشير إلى طائفة منها باختصار. وقد اعتنى العلماء بذكر الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها القارئ، والتي تلزم قارئ القرآن والمستمع له. ¬

_ (¬1) "أخلاق حملة القرآن" (154 - 161).

بعض مراجع آداب حامل القرآن

* بعض مراجع آداب حامل القرآن: 1 - "أخلاق حملة القرآن" للإمام الآجري. 2 - "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي. 3 - "التبيان في آداب حملة القرآن" للإمام النووي. 4 - "الإتقان في علوم القرآن" للإمام السيوطي. 5 - "مناهل العرفان في علوم القرآن" للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. 6 - "البرهان في علوم القرآن" للإمام بدر الدين الزركشي. من آداب تلاوة القرآن الكريم 1 - تحري الإخلاص عند تعلُّم القرآن وتلاوته: الإخلاص لغة: خَلْص خُلُوصًا، وخِلاصًا: صفا وزال عنه شَوبُهُ، وأخلصَ الشيءَ: أصفاه ونقَّاهُ من شَوبه (¬1). وفي لسان العرب: المُخلِص: الذي وحد اللهُ تعالى خالصًا، ولذلك قيل لسورة: قل هو الله أحد لأنها خالصةٌ سميت بذلك لأنها خالصة في صفة الله تعالى وتقدس، أو لأن اللافظ بها قد أخلص التوحيد لله -عز وجل-، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد (¬2). أما في الاصطلاح: للإخلاص أوجه كثيرة ذكرها الإمام ابن قيم الجوزية. ¬

_ (¬1) "المعجم الوسيط" (249)، و"المصباح المنير" (68). (¬2) "لسان العرب" (1/ 1142).

منها: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة. وقيل: تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء: أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه. وقال صاحب المنازل: الإخلاص تصفية العمل من كُلِّ شوب (¬1). وحقيقة الإخلاص: التبَرِّي عن كُلِّ ما دُونَ الله تعالى (¬2). قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]. وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. قراَءة القرآن من أجل العبادات، وأفضل القربات التي يبتغي فيها المرء وجه الله تعالى، وكل عمل يُتَقربُ به إلى الله، ولا يتحقق فيه شرطا قبول العمل -الإخلاص والمتابعة- فهو مردود على صاحبه؛ لهذا قال السلف: قل للمرائي: لا تتعب! ويكفي القارئ زجرًا ووعيدًا أن يعلم عقوبة من تعلم القرآن لكي يقال عنه قارئ! أو يقرأ وهو يرائي، فعاقبة أمره خُسرا، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إن أَوَّلَ الناسِ يقضَى يَومَ القِيَامَةِ عَلَيهِ، رَجل استُشهِدَ، فَاُتِيَ بِهِ فَعَرفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قال: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قال: قاتلتُ فِيكَ حَتى اشتُشهِدتُ, قال: كَذبتَ، وَلكِنَّكَ قاتلتَ لأَن يُقَالَ: جَرِيءٌ, فقَد قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حَتى أُلقِيَ فِي النَّارِ. ورجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلمَهُ، وَقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 91)، و"المفردات" (155). (¬2) "المفردات" (155).

تجويد القراءة

فَعَرَفَهَا. قال: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمتُ العِلمَ وَعَلَّمتُهُ وَقَرَأتُ فِيكَ القُرآنَ. قال: كَذبتَ، وَلَكِنكَ تَعَلمتَ العِلمَ لِيقَالَ: عَالِم، وَقَرَأتَ القُرآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَد قِيلَ. ثُم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حَتى أُلقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجلٌ وَسَّع اللهُ عَلَيهِ وَأَعطَاهُ من أَضنَاف المَالِ كُلِّهِ، فَأُتيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قال: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قال: مَا ترَكتُ من سَبِيلِ تُحِبُّ أَن يُنفَقَ فيهَا إلاَّ أَنفَقتُ فِيهَا لَكَ. قال: كَذبتَ. وَلَكِنكَ فَعَلتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَد قِيلَ. ثُم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ، ثُم أُلقِيَ فِي النَّارِ .. " (¬1). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. قال النووي -رحمه الله-: "الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة، أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى .. ، وينبغي أن لا يقصد به توصلًا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك" (¬2). 2 - تجويد القراءة: التجويد لغة: التحسين والإتقان. واصطلاحًا: تلاوة القرآن الكريم بإعطاء الحروف حَقَّها ومُستحقَّها في النطق. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 322)، ومسلم (1905) في كتاب الإِمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار. (¬2) "التبيان في آداب حملة القرآن" (14).

وجوب العمل بالقرآن الكريم

حق الحرف: صفات الحرف الذاتية الملازمة له، كالجهر والشِّدَّة والاستعلاء، والإطباق إلى غير ذلك من الصفات، ومن أخل بها، فقد وقع في اللحن جليًا كان أو خفيًا. مُستحَقُّ الحرف: صفتهُ العَرَضيةُ التي تطرأُ وتَزولُ، كالتفخيم، والترقيق، والإدغام، والإِظهار، والغنة .. الخ. غاية التجويد: بلوغ الإتقان في تلاوة القرآن. حكم العمل به: فرض عين على كل مسلم ومسلمة من المكلفين عند تلاوة القرآن، وأقل ما يفرض العمل به الآيات التي لا تقوم الصلاة إلا بها (¬1). 3 - وجوب العمل بالقرآن الكريم: فالعاقل من يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقف عند نهيه ويأتمر بأمره، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويقيم حدوده وحروفه. قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه 123: 126]. وقال سبحانه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} [طه99: 100]. وعن النَّواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سَمِعتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "يُؤتَى بِالقُرآنِ يَومَ القِيَامَةِ وَأَهلِهِ الذينَ كَانُوا يَعمَلُونَ بِهِ، تقدمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وَآل عِمرَانَ"، ¬

_ (¬1) "حق التلاوة" (14) للشيخ حسني شيخ عثمان.

وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثَالِ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعدُ. قَالَ: كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَو ظُلَّتَانِ سَودَاوَانِ بَينَهُمَا شَرْقٌ، أَو كَأنهُمَا حِزقَانِ من طَيرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَن صَاحِبِهِمَا" (¬1). التلاوَةُ هي الاتباعُ: قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]. قال مجاهد: في قوله {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]، قال: يَعمَلُونَ به حَقّ عَمَلِهِ (¬2). وقال عكرمة: يتّبعونه حقّ اتباعه (¬3)، وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29]. قلت: ومن معاني التلاوة: الاقتداء بالقرآن، والمتابعة، والعمل بموجبه قال الراغب: "تلا: تبعهُ متابعةً .. تارةً بالجسم، وتارةً بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءةِ أو تدبُّرِ المعنى {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} [هود: 17]، أي يقتدي به، ويعملُ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (805) في كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. (¬2) صحيح. أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/ 568)، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" (5، 35). (¬3) صحيح. أخرجه الطبري (1/ 567)، والفريابي في "فضائل القرآن" (165) بسند صحيح.

بموجبِ قوله {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113]، والتِّلاوَةُ تختَصُّ باتِّباعِ كُتُبِ اللهِ المُنزّلَةِ تارةً بالقراءةِ، وتارةً بالارتِسامِ لما فيها من أمرْ ونهي وترغيبٍ وترهيبٍ، أو ما يُتَوَهَّمُ فيه ذلك، وهو أخصُّ من القراءةِ، فكلُّ تلاوةٍ قراءةٌ وليس كلُّ قراءةٍ تلاوةً، وأمَّا قولُهُ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} فاتِّباعٌ له بالعلم والعمل" (¬1). وقال السعدي في تفسيره: "أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه، فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضاً ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها، ثم خص من التلاوة بعدما عمم الصلاة التي هي عماد الدين" (¬2). وقال -رحمه الله-: "والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء" (¬3). وقال في تفسير سورة العنكبوت: "يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته، اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كلها، داخلة في تلاوة الكتاب" (¬4). ¬

_ (¬1) "المفردات" (75). (¬2) "تيسير الكريم الرحمن" (635). (¬3) "تيسير الكريم الرحمن" (47). (¬4) "تيسير الكريم الرحمن" (581).

قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "وهذه المُتابَعةُ هي التلاوةُ التي أثنى اللهُ على أهلها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29]، وفي قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] والمعنى: يتبعونَ كتابَ اللهِ حقَّ اتباعه، وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل 91: 92]. فحقيقةُ التلاوةِ في هذه المواضعِ هي التلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى؛ فتلاوةُ اللفظِ جزءُ مُسمى التلاوةِ المُطلقةِ، وحقيقةُ اللفظِ إنما هي الاتباعُ، يقال: اتلُ أثر فلانِ، وتلوتُ أثرهُ، وقفوتُهُ وقصصتُهُ، بمعنى تَبعتُهُ، ومنه قولُه تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} [الشمس 1: 2]، أي: تَبعَها في طلوع بعد غَيبتها، ويُقال: جاءَ القومُ يتلو بعضهم بعضًا، أي: يتبع، ويُسمَّى تالي الكلام تاليًا، لأنَّهُ يُتبعُ بعضَ الحروف بعضًا، لا يُخرجُها جُملةً واحدةً، بل يُتبعُ بعضها بعضًا مُرتبةً، كُلَّما انقضى حرفٌ أو كلمةٌ أتبعهُ بحرفِ آخرَ وكلمةِ أُخرى، وهذه التّلاوةُ وسيلةٌ وطريقٌ. والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيةُ، وهي تلاوَةُ المعنى واتِّباعُهُ؛ تصديقًا بخبرهِ وائتمارًا بأمرهِ، وانتهاءَ عن نهيهِ، وائتمامًا به، حيثُ ما قادكَ انقدتَ معه، فتلاوةُ القُرآنِ تتناولُ تلاوةَ لفظهِ ومعناهُ، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة،

فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا" (¬1). والخلاصة أن التلاوة تعني المتابعة والعمل، وليس مجرد القراءة فقط، وهذا تفسير السلف أن التلاوة تعنى العمل، وهو تفسير باللازم. قال ابن القيم: "التأمل في القرآن: تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر" (¬2). ولك أن تتأمل هذا المشهد فيمن علَّمه الله القرآن، ثم لم يعمل به، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل "قَالا: "انطَلِق، فَانطَلَقنَا حَتى أتينَا عَلَى رَجُلٍ مُضطَجِعِ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجل قائم عَلَى رَأسِهِ بِفِهرٍ أَو صَخرَةٍ فَيَشدَخُ بِهِ رَأسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهدَهَ الحَجَرُ فانطَلَقَ إِلَيهِ لِيَأخُذهُ، فَلا يَرجِعُ إِلَى هَذَا حَتى يَلتَئِمَ رَأسُهُ، وَعَادَ رَأسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيهِ فَضَرَبَهُ، قُلتُ: مَن هَذَا؟ قَالا: انطَلِق .. قُلتُ: طَوَّفتُمَاني الليلَةَ فَأخبِرَانِي عَما رَأَيتُ. قَالا: نَعَم. الذي رَأَيتَهُ يُشدَخُ رَأسُهُ فرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرآنَ فَنَامَ عَنهُ بِاللَّيلِ، وَلَم يَعمَل فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" (¬3). قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وعن أَبي مالكِ الأشعريُّ - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " .. وَالقُرآنُ حُجَّة لَكَ أَو عَلَيكَ" (¬4). ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعاده" (1/ 202). (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 449). (¬3) أخرجه البخارى (1386 - فتح) في كتاب الجنائز. (¬4) أخرجه مسلم (223) في كتاب الطهارة، باب: فضل الوضوء ...

الحث على استذكار القرآن وتعاهده

القرآن الكريم فيه العلم الذي أمر الله به، ونهى عنه، وتعظيم شعائره وعدم انتهاك محارمه، فالعمل به واجب. وخلاصة القول، أن الأدب مع الله -سبحانه وتعالى- سعادة في الدنيا والآخرة، فلا يكون ذلك إلا بالقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا، وفي ذلك سعادة الإنسان ونجاته في الآخرة. 4 - الحث على استذكار القرآن وتعاهده: استذكار القرآن، أي: المواظبة على التلاوة وطلب ذكره، والمعاهدة، أي: تجديد العهد به بملازمته وتلاوته، فالمشتغل بحفظ كتاب الله العزيز، والحافظ له، إن لم يتعاهده بالمدارسة والاستذكار، فإن حفظه سيتعرض للنسيان، فالقرآن سريع التفلت من الصدور، ولذا وجب العناية به وكثرة مدارسته وتلاوته، وقد ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا، يبين لنا حال صاحب القرآن المعتني به والمفرط فيه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنما مَثَلُ صَاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيهَا أَمسَكَهَا، وَإِن أَطلَقَهَا ذَهَبت" (¬1). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعَاهَدوا هَذا القُرآنَ، فوالذِي نفسُ محمد بِيَديهِ لَهُوَ، أَشَد تَفَلُّتًا من الأبِلِ فِي عُقُلِهَا" (¬2). قال الحافظ ابن حجر: "شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد، فما زال التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، ومسلم (789) في كتاب فضائل القرآن. (¬2) أخرجه مسلم (791) في كتاب صلاة المسافرين. باب الأمر بتعهد القرآن.

لا تقل نسيت، ولكن قل: أنسيت، أو أسقطت، أو نسيت

البعير ما دام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر؛ لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورًا، وفي تحصيلها بعد استكمال نفورها صعوبة" (¬1). 5 - لا تقل نَسيتُ، ولكن قل: أُنسيت، أو أُسقطت، أو نُسّيت: ودليل ذلك حديث ابن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِئسَمَا لِلرجُلِ أن يَقُولَ: نَسِيتُ سُورَةَ كَيتَ وَكَيتَ، أَوْ نَسِيتُ آيَةَ كَيتَ وَكَيتَ، بَل هُوَ نُسِّيَ" (¬2). قلت: ولعل الحكمة في الكراهية هي ما أشار إليه الإمام النووي بقوله: "وفيه -أي الحديث- كراهية قول نسي آية كذا، وهي كراهة تنزيه وأنه لا يكره أُنسيتها، وإنما نهي عن نسيتها؛ لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها" اهـ (¬3). والسؤال: لماذا يكره أن يقول المسلم: نسيت؟ الجواب: لأن هذا إقرارٌ بفعله وتقصيره، ولا يليق به التقصير. ومن روائع ما نقل عن الصحابيين الجليلين معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- وتذاكرهما القرآن الكريم، قال معاذ: يَا عَبدَ اللهِ، كَيفَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قال: أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قال: فَكَيفَ تَقرَأُ أَنتَ يَا مُعَاذُ؟ قال: أَنَامُ أَوَّلَ الليلِ فَأقُوم وَقَد قَضَيتُ جُزئِي من النومِ، فَأقرَأُ مَا كَتَبَ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (8/ 697). (¬2) أخرجه مسلم (790) في كتاب صلاة المسافرين. باب الأمر بتعهد القرآن. (¬3) "شرح صحيح مسلم" (63/ 6).

وجوب تدبر القرآن الكريم

اللهُ لي، فَأحتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحتَسِبُ قَومَتِى" (¬1). وفي رواية أخرى عند البخاري، فقال مُعَاذ لأبِي مُوسَى: كَيفَ تَقرَأُ القرآن؟ قال: قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوقًا، قال: أَما أنا فَأنَامُ وَأَقُومُ، فَأحتسبُ نَومَتِي كَمَا أَحتَسِبُ قَومَتِي". وعلى هذا قال العلماء: لا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته، ولا أن يفرط في تعاهده، بل ينبغي أن يتخذ لنفسه منه وردًا يوميًا يساعده على ضبطه، ويحول دون نسيانه رجاء الأجر والاستفادة من أحكامه عقيدة وعملًا، ولكن من حفظ شيئًا من القرآن ثم نسيه عن شغل أو غفلة فليس بآثم، وما ورد من الوعيد في نسيان ما قد حفظ لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 6 - وجوب تدبُّر القرآن الكريم: تضافرت النصوص على تدبر آيات القرآن الكريم، "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها، ومآل أهلها، وتَتُلّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة, .. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4341 - فتح) في كتاب المغازي. باب: بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 450).

قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. قال الشوكاني -رحمه الله-: "وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانية، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر" (¬1). وقال -عز وجل-: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68]. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وقد امتدح الله سبحانه البكائين في القرآن الكريم فقال {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء 107: 109]. قال ابن قيم الجوزية: "فلا شيءَ أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتَّدبرِ والتفكر؛ فإنه جامع لجميعِ منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفينَ، وهو الذي يُورثُ المحبةَ والشوقَ والخوفَ والرجاءَ والإنابةَ والتوكلَ والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياةُ القلب وكمالُهُ. وكذلك يزجرُ عن جميع الصفات والأفعالِ المذمومةِ التي بها فسادُ ¬

_ (¬1) "فتح القدير" (4/ 430).

معنى التدبر

القلبِ وهلاكُهُ. فلو علمَ الناسُ ما في قراءةِ القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأهُ بتفكرِ حتى مرَّ بآيةِ بتفكرٍ وتفهمٍ خيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغير تدبرٍ وتفهمٍ، وأنفعُ للقلبِ، وأدعى إلى حصول الإيمانِ وذوق حلاوة القرآن. وهذه كانت عادة السلف يُرَدِّدُ أحدهم الآيةَ إلى الصباح .. فقراءة القرآن بالتفكر هي أصلُ صلاح القلب" (¬1). * معنى التَّدَبرُ: التدبر لغةً: مصدر مشتق من مادة دبر، ودبر الشيء خلاف قُبُله، والاستدبار: طلب دبر الشيء. والتدبر لغةَ: النظر في عاقبة الأمر، والتفكر فيه. وأما في الاصطلاح: هو النُّظرُ في دبر الأُمُورِ؛ أي عواقبها، وهُوَ قريبٌ من التَّفَكُّرِ، إلا أنَّ التَّفكرُ تصرف القلبِ بالنظر في الدليل، والتَّدبرُ تصرفُهُ بالنظر في العواقبِ (¬2). تَدبرُ القرآنِ: أمَّا تدبرُ القُرآنِ فهو تحديقُ ناظرِ القلبِ إلى معانيهِ، وجمعُ الفكرِ على تَدَبرِهِ وتعقُّله. وهو المقصودُ بإنزالهِ، لا مُجردُ تلاوتهِ بلا فهمِ ولا تَدَبرِ (¬3). ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 553). (¬2) "التعريفات" (76)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" (167). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 449).

والتدبر والخشوع والتفكر والتعقل لمعانيه، كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً، ثم العمل بمقتضى القرآن، فذلك هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، وبه تنشرحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، وتخشع وتتعظ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به" (¬1). ومن بلاغات الإمام مالك أَنَّهُ بَلَغَهُ أن عبد اللهِ بنَ عُمَرَ، مَكثَ على سُورةِ البَقرةِ، ثمانِيَ سِنينَ يَتَعَلمُها (¬2). وعن يحيى بن سعيدٍ أَنَّهُ قال: كنتُ أَنَا ومحمدُ بنُ يحيى بن حَبانَ، جالسينِ، فدعا مُحَمد رجلًا، فقال: أَخبِرنِي بِالذِي سمعتَ من أَبِيكَ. فقال الرجُلُ: أَخبرني أَبي أَنَّهُ أَتَى زَيدَ بنَ ثابتٍ، فقال لَهُ: كَيفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرآنِ فِي سَبعِ؟ فقال زيد: حَسَن. وَلأن أَقرَأَهُ فِي نِصفٍ، أَو عَشرِ، أَحَب إِليَّ. وسلني، لِمَ ذَاكَ؟ قال: فَإِني أَسألُكَ. قال زَيد: لِكَي أَتَدَبرهَ وَأَقِفَ عَلَيهِ (¬3). قلت: والعاقل من يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ، فيعرف كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ويتعرف على صفات الله سبحانه وأسماءه، وأفعاله، وما يحب وما يبغض، والطرق الموصلة إليه، وكل أمر يقطع عليه الطريق إلى الله سبحانه، وعواقب الأمور، فإن كان مما ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (23/ 55). (¬2) "موطأ مالك" كتاب القرآن، باب: ما جاء في القرآن (1/ 205). (¬3) "موطأ مالك" كتاب القرآن، باب: ما جاء في تحزيب القرآن (1/ 201).

قَصَّرَ عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآيةِ رحمةِ استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذَ، أو تنزيه عظم، أو دعاء تضَرَّع وطلب. أخرج مسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم آل عِمرانَ فقرأها، ثم النساء فقرأها، يقرأ مُتَرَسَّلًا، إذا مر بآيةٍ تسبيحٍ سَبَّحَ، وإذا مر بسؤالِ سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ. وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية يرددها حتى أصبح. عن أَبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قَامَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - بِآيَةِ حَتى أَصبَحَ يُرَدِّدُهَا وَالآيَةُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118] (¬1). عن عبد الوهاب بن عباد بن حمزة عن أبيه عن جده قال: بعثتني أسماء إلى السوق وافتتحت سورة الطور فانتهت إلى قوله {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فذهبت إلى السوق ورجعت وهى تكرر {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}. وعدد الإمام المروَزي المتوفى سنة 294 هـ في كتابة (قيام الليل وقيام رمضان) (64) روايات كثيرة عن السلف في ترديد الآيات بعد مرة يتدبرون فيها مما يدل على وقوعها في قلوبهم. قال ابن القيم-رحمه الله-: وهذه كانت عادةَ السَّلف يُرَدّدُ أحدهم الآيةَ إلى الصباح (¬2). ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه ابن ماجه (1350) في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، والنسائي (1010). (¬2) "مفتاح دار السعادة" (1/ 553).

درجات التدبر

* درجات التدبر: للتدبر درجات؛ الأولى: التفكر، ثم التأثر، ثم الخضوع والعمل، ثم استنباط الكنوز من العبر والأحكام والوصايا وغيرها. والناس فيما يقرأون ويسمعون أنواع، وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز أن كتابه ذكرى لمن كان له قلب خاشع، وبصر شاهد. قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق 36: 37]. قال ابنُ قَيِّمِ الجوزية: "النَّاسُ ثلاثة: رجل قلبُه مَيت، فذلك الذي لا قلبَ لهُ، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقِّهِ. الثاني: رجل له قلب حيٌّ مستعد، لكنهُ غيرُ مُستمعِ للآيات المتلُوةِ التي يُخبِرُ بها اللهُ عن الآياتِ المشهُودةِ: إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها إليه، ولكن قلبه مشغولٌ عنها بغيرها، فهو غائبُ القلبِ ليس حاضرًا، فهذا أيضاً لا تحصلُ له الذِّكرى، مع استعدادهِ ووجودِ قلبه. والثالثُ: رجلٌ حيٌّ القلبِ مُستعدٌّ، تُليَت عليه الآياتُ، فأصغَى بسمعهِ، وألقى السمعَ وأحضَرَ قلبَهُ، ولم يشغلهُ بغير فهم ما يسمعُهُ، فهو شاهدُ القلب، مُلقِي السمعَ، فهذا القسمُ هو الذي ينتفعُ بالآيات المتلُوّةِ والمشهودة. فالأولُ: بمنزلهَ الأعمَى الذي لا يُبصِرُ. والثاني: بمنزلةِ البصيرِ الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه،

كتب التفسير معينة على التدبر

فكلاهما لا يَرَاهُ. والثالثُ: بمنزلةِ البصير الذي قد حَدَّقَ إلى جهة المنظُورِ، وأتبعهُ بصرَهُ، وقابلَهُ على توسطِ من البُعدِ والقُربِ، فهذا هو الذي يرَاهُ. فَسُبحَانَ من جعلَ كلامهُ شفاءَ لما في الصدور. فاعلم أن الرجُلَ قد يكونُ له قلب وقال، مليءٌ باستخراج العِبَرِ، واستنباط الحِكَم، فهذا قلبُه يُوقعُهُ على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نُورًا على نور. وهؤلاءِ أكملُ خَلقِ الله، وأعظمهم إيمانًا وبصيرةً، حتى كأنَّ الذي أخبرهُم به الرسولُ مشاهد لهم، لكن لم يشعُرُوا بتفاصيله وأنواعه. فصاحبُ هذا القلب إذا سَمِعَ الآياتِ وفي قلبه نُور من البصيرةِ، ازداد بها نُورًا إلى نُوره، فإن لم يكن للعبد مِثلُ هذا القلبِ، فألقى السمعَ وشهد قلبُهُ، ولم يغب حَصَلَ له التَّذَكُرُ أيضاً {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، والوَابِلُ والطلُ في جميع الأعمال وآثارها ومُوجِباتها. وأهلُ الجنَّة سابقُونَ مُقرَّبُونَ، وأصحابُ يمينِ وبينهما في درجاتِ التفضيلِ ما بينهُمَا (¬1). * كتب التفسير معينة على التدبر: قال إياس بن معاوية التابعي: "مثلُ الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعرفون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا، وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب" (¬2). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 441). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 26).

قلت: وننصح القارئ بقراءة كتب التفسير التالية: 1 - تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير. 2 - معالم التنزيل للإمام البغوي. 3 - تيسير الكريم المنان في تفسير كلام المنان للعلامة السعدي. 4 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري. 5 - جامع البيان في تفسير القرآن للإمام الحسيني الأيجي المتوفى سنة (894هـ) (¬1). وغيرها كثير، فهي معينة على فهم المعاني ودلائل الألفاظ. ... ¬

_ (¬1) طبع غراس للنشر والتوزيع - الكويت الطبعة الأولى (1428هـ -2007 م).

من معاني التدبر

* من معاني التدبر ومن معاني التدبر النظر في العواقب: أخي القارئ -رعاك الله- تعال معي نتأمل التطبيق العملي للتدبر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثره على حياته، ثم شيئًا من فعل السلف، والطريقة المحمودة في القراءة. أولًا: التطبيق العملي للتدبر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قال أَبُو بَكرٍ - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ اللهِ قَد شِبتَ؟ قال: "شَيَّبَتنِى هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرسَلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذا الشمسُ كُورَت" (¬1). واشتملت هذه السور على بيان مصارع الأقوام الذين كذبوا بالرسل، وفيها نهاية قوم هود، ونوح، وقوم شعيب، وصالح عليهم السلام، وفيها عقاب الله للقرى الظالمة، وفيها بيان ما عليه يوم القيامة من الأهوال {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج 1: 2]. ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الترمذي (3297) في كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الواقعة، وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع" (3723)، وينظر (صحيح الجامع) أيضاً الأرقام التالية (3720، 3721، 3722).

وفيها من التوجيهات والأوامر للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصريحًا وتلميحًا، مع الحذر من سلوك قريش المشين وإيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)} [هود: 12]. أي فلعلك -لعظم ما تراه منهم من الكفر بنعم الله والتكذيب لآياته، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليك على حسب هواهم وتعنتهم- تارك بعض ما أنزله عليك وأمرك بتبليغه مما يشق عليهم سماعه أو العمل به، أي: لا يمكن منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك، سواء أحبوا ذلك أو كرهوه (¬1). وقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)} [هود: 35]. وهكذا تسلسلت الآيات في بيان إيذاء قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه افترى الأخبار الكاذبة، والحق أنها من عند الله سبحانه؛ لأنها غيب لا علم لأحد بها سوى الله تعالى، من أخبار الأمم السابقة، سواء القائم منها بمبانيها أم التي خربت وسقطت وبادت. وقال سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49]. وقوله سبحانه: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)} [هود: 100]. ¬

_ (¬1) "زبدة التفسير" (222).

وهذه عبر ومواعظ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} [هود: 103]. وهكذا يستمر التوجيه الرباني للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر سورة هود بالحث على إقامة الصلاة، والصبر والاستقامة، فما تلك البراهين من أخبار الأمم السابقة إلا موعظة لكل متعظ، وذكرى لكل متذكر. وأما سورة الواقعة، والمُرسَلاتُ، وعَم يَتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشمسُ كُورَت فالغالب عليها أحداث يوم القيامة التي تتحرك لها القلوب اليقظة. 2 - عن أَبي ذر - رضي الله عنه - قال: قَامَ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حَتى إِذَا أَصبَحَ بِآيَةِ، وَالآيَةُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118] (¬1). 3 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي النبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اقرَأ عَلَيَّ". قُلتُ: أقرَأُ عَلَيكَ وَعَلَيكَ أُنزِلَ؟ قَالَ: "فَإني أُحِب أَن أَسمعَهُ من غيرِي"، فَقَرَأتُ عَلَيهِ سُورَةَ النسَاءِ حَتى بَلَغتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41] قَالَ: "أَمسِك" , فَإِذا عَينَاهُ تَذرِفَانِ (¬2). 4 - عن مُعاذ بن عبد اللهِ الجُهَنِيِّ أَن رَجُلًا من جُهَينَةَ أَخبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقرَأُ فِي الصبحِ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} فِي الركعَتَينِ كِلتَيهِمَا، فَلا أَدرِي ¬

_ (¬1) حسن. تقدم تخريجه، وأخرجه النسائي فى "السنن الصغرى" (1010)، وفي الكبرى (1083). وقال البوصيري (1/ 437) في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وحسنه العلامة الألباني في "صحيح النسائي" (966). (¬2) أخرجه البخاري (4582 - فتح) في كتاب التفسير، باب: فَكَيفَ إِذَا جِئنَا من كل أُمةِ بِشَهِيدٍ.

ثانيا: فعل السلف الكرام وتطبيقهم العملي للتدبر

أَنَسِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَم قَرَأَ ذَلِكَ عَمداً" (¬1). قال الشوكاني -رحمه الله-: "تَرَدَّدَ الصحَابِيُّ في إِعَادَة النبِي - صلى الله عليه وسلم - للسورةِ هل كَانَ نِسيَانًا؛ لكونِ المُعتَاد من قِرَاءَته أن يَقرَأ في الركعَة الثانِيَة غير ما قَرَأَ به في الأُولَى، فلا يكون مشروعًا لأُمَّتِهِ، أَو فَعَلَهُ عَمداً لبَيَانِ الجَوَاز، فَتَكُون الإعَادَة مُتَرَددَة بَين المَشرُوعِية وَعَدَمهَا، وإذا دارَ الأمر بَين أن يَكُون مشرُوعاً، أَو غَير مَشرُوع، فحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على المشرُوعِية أَولَى؛ لأن الأصل في أَفعاله التشرِيع، والنسيَان على خلاف الأصل" (¬2). قلت: والظاهر فعل ذلك عمداً للتشريع، وما هذا الفعل إلا من باب تدبر عظم السورة لما عليه الحال يوم القيامة. ثانيًا: فعل السلف الكرام وتطبيقهم العملي للتدبر: سار السلف الصالح على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التدبر من الوقوف على معاني الآيات والبكاء عندها، والعمل بمقتضاها. عن أَبي سعيدِ الخُدريّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقرَأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يُرَددُهَا، فَلَمَّا أَصبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَن الرجُلَ يَتَقَالُّهَا، فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالذي نَفسِى بِيَده، إِنهَا لَتَعدِلُ ثُلُثَ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (816) في كتاب الصلاة، باب: الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين. قَالَ الشوكاني فِي "نيل الأوطار" (2/ 254): لَيس فِي إِسناده مَطعَن، بَل رِجَاله رِجَال الصحِيح. (¬2) "نيل الأوطار" (2/ 254).

القُرآنِ" (¬1). وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رقيق القلب، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان أبو بكرٍ رجُلًا بكاءً لا يملِكُ دمعَهُ حين يقرأُ القُرآنَ" (¬2). وهذا تميم الداري - رضي الله عنه - صلى في المسجد بعد العشاء، فمر بهذه الآية {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]، فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح (¬3) والكُلوح: أن تتقلص الشفتان عن الأسنان من الأعلى والأسفل، حتى تنكشف في عبوس من الهول والعذاب. ومع متدبر آخر هو جبير بن مطعم - رضي الله عنه -. عن جُبير بن مُطعم - رضي الله عنه - قال سمعتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقرَأُ فِي المَغرِبِ بِالطورِ، فَلَمَّا بَلَغ هَذِهِ الآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)} [الطور 35: 37]، قَالَ: كَادَ قَلبِي أن يَطِيرَ (¬4). قال الخطابي: "كأنه انزعج عند سماع هذه الآية، لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5013 - فتح) في كتاب فضائل القرآن، باب: فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. (¬2) "أخرجه البخاري" (2297 - فتح) في كتاب الكفالة، باب: جوار أبي بكر. (¬3) "صفة الصفوة" (1/ 739) في ترجمة تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (4854 - فتح) في كتاب تفسير القرآن. (¬5) "فتح الباري" (8/ 603).

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قُرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله، تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم" (¬1). وعن ابن أبي مليكة قال: سافرتُ مع ابن عباس من مكة إلى المدينة وهم يسيرون إليها وينزلون بالليل، فكان ابن عباس يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ثم يبكي حتى نسمع له نشيجًا (¬2). وعن عُبيد المُكَتِّب قال: سُئلَ مجاهد عن رجلٍ قرأ البقرةَ وآل عمرانَ، ورجلِ قرأ البقرةَ قراءتهما واحدةٌ، وركوعُهُمَا وسجودهما وجلوسُهُما أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرةَ، ثم قرأ {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106] (¬3). * ولتحقيق التدبر يرجي مراعاة الآتي: 1 - تعظيم كلام الله تعالى. 2 - معايشة الآيات. 3 - البعد عن الذنوب والمعاصي. 4 - مراعاة أحكام التلاوة. 5 - البعد عن الصوارف التي بينك وبين التدبر. ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (15/ 249). (¬2) "مختصر قيام الليل" (56) للمروزي. (¬3) صحيح. أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (91).

الاستماع والإنصات

7 - الاستماع والإنصات: قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]. الاستماع: طلب السماع مع حضور العقل والقلب. الإنصات: السكوت مع حسن الاصغاء مع ترك التحدث أو الاشتغال بشيء. قال الحافظ ابن كثير: "لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهُدًى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" , وكذلك رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة، وصححه مسلم بن الحجاج أيضاً، ولم يخرجه في كتابه، وقال إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والآية الأخرى، أمروا بالإنصات" (¬1). وقال الشوكاني في تصير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته؛ ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (3/ 541).

لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح. قيل: هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة، وعلى أيّ صفة مما يجب على السامع. وقيل: هذا خاص بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقرآن دون غيره، ولا وجه لذلك. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أى: تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه، ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه. فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأدعى للقبول" (¬1). وقال السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}. "هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرًا كثيرًا وعلمًا غزيرًا، وإيمانًا مستمرًا متجددًا، وهدى متزايدًا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير. ¬

_ (¬1) "فتح القدير" (3/ 141).

ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: " إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها" (¬1). وفي بحث نفيس في معنى السماع قال العلامة ابن قيم الجوزية في معنى السماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. "السماع أصل العقل، وأساس الإيمان الذي انبنى عليه، وهو رائده وجليسه ووزيره، ولكن الشأن كل الشأن في المسموع، وفيه خبط الناس واختلافهم، وغلط منهم من غلط. وحقيقة "السماع" تنبيه القلب على معاني المسموع، وتحريكه عنها: طلبًا وهربًا وحبًا وبغضًا. فهو السماع الذي مدحه الله في كتابه، وأمر به وأثنى على أصحابه، وذم المعرضين عنه ولعنهم، وجعلهم أضل من الأنعام سبيلًا، وهم القائلون في النار {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله، فهذا السماع أساس الإيمان الذي يقوم عليه بناؤه، وهو على ثلاثة أنواع. سماع إدراك: بحاسة الأذن، وسماع فهم وعقل، وسماع فهم وإِجابة وقبول، والثلاثة في القرآن. فأما سماع الإدراك: ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم {إِنَّا ¬

_ (¬1) "تيسير الكريم الرحمن" (1/ 314).

جواز تلاوة القرآن نائما أو ماشيا أو مضطجعا أو راكبا

سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن 1: 2]. وأما سماع الفهم: فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة بقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52]. وأما سماع القبول والإجابة: ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنهم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] فهذا سمع قبول وإِجابة مثمر للطاعة. والمقصود: أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكًا وفهمًا، وتدبرًا، وإِجابة، وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه، فهو هذا السماع" اهـ ملخصا (¬1). 8 - جواز تلاوة القرآن نائمًا أو ماشيًا أو مضطجعًا أو راكبًا: يسأل كثير من الناس: هل يجوز أن أقرأ القرآن وأنا أمشي، أو وأنا راكب، أو مضطجع؟ ويأتي الجواب من القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، والقرآن الكريم أفضل الذكر. ومن السنة حديث عبد الله بن مُغَفَّل - رضي الله عنه - أنه قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح" (¬2). وعن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئُ في حجري، وأنا حائضٌ ثم يقرأُ القرآن" (¬3). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 478). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن (5034 - فتح). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض (297).

استحباب قراءة القرآن على طهارة

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إني لأقرأ حزبي أو عامة حزبي، وأنا مضطجعة على فراشي" (¬1). 9 - استحباب قراءة القرآن على طهارة. يستحب لقارئ القرآن أن يكون على طهارة، طاهر البدن والثياب والمكان؛ لأنه أفضل الذكر، وهو كلام الله المعظم، كما يستحب له تنظيف الفم بالسواك قبل التلاوة، وذلك تعظيمًا للقرآن، وتأدبًا مع كلام الله سبحانه، فإنَّ القارئ لمَّا كان مريدًا لتلاوة كلام الله تعالى، حسُنَ منه أن يُطيّب فمه وينظفه بالسواك، أو بما يحصل به التنظيف، ولا شك أنَّ في هذا تأدبًا مع كلام الله تعالى. عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَامَ أَحَدُكم يُصَلي مِنَ الليلِ فَليستَك، فَإن أحَدَكُم إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ، وَضَعَ مَلَكٌ فَاهُ عَلَى فِيهِ، وَلَا يَخرُجُ من فِيهِ شَيءٌ إِلا دَخَلَ فمَ المَلَكِ" (¬2). وعن أبي أمامة مرفوعاً: "السواكُ مَطهَرة للفَم، مَرضاةٌ للرَّب" (¬3). وعن عليِّ بن أَبي طالب - رضي الله عنه - قال: "إِنَّ أَفوَاهَكُم طُرُق لِلقُرآنِ، فَطَيَّبُوهَا بِالسوَاكِ" (¬4). والسواك ينظف الفم، ويطيب رائحته لمناجاة الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 500)، والفريابي في "فضائل القرآن" (154). (¬2) صحيح. ينظر "صحيح الجامع" (720). (¬3) صحيح. أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3695). (¬4) صحيح. أخرجه ابن ماجه (291) في كتاب الطهارة وسننها، باب السواك، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، وانظر "الصحيحة" (1213).

القراءة على غير وضوء

قال الإمام الآجُري: "وَأَحبُّ لمن أرادَ قراءةَ القرآن من ليلٍ أو نهارٍ أَنْ يتطهَّرَ، وأن يستاكَ، وذلك لتعظيمِ القُرآنِ؛ لأنهُ يتلو كلامَ الرَّب -عز وجل-" (¬1). وقال النووي -رحمه الله تعالى-: "وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره، والاختيار في السواك أن يكون بعود من أراك، ويجوز بسائر العيدان وبكل ما ينظف .. ، يستحب أن يقرأ وهو على طهارة، فإن قرأ محدثًا جاز بإجماع المسلمين" (¬2). * القراءة على غير وضوء: ومع هذا الأدب إلا أن بعض العلماء أجاز القراءة على غير طهارة من الحدث الأصغر، ونقل الإجماع على جوازه، ولكن القراءة على طهارة هي الأفضل والأكمل. قال الإمام النووي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث، والأفضل أن يتطهر لها (¬3). عن أبي بكر المروزيُّ -رحمه الله تعالى- قال: كانَ أبو عبد الله [أحمد بن حنبل] ربَّما قرأ المصحفِ، وهو على غير طهارةِ، فلا يمسهُ، ولكن يأخذ بيده عُودًا، أو شيئًا يصفحُ به الورقَ (¬4). وهو مذهب عطاء كما روى زُرزُر بن صهيب عنه بجواز القراءة على غير ¬

_ (¬1) "أخلاق حملة القرآن" (ص 229). (¬2) "التبيان في آداب حملة القرآن" (38). (¬3) "المجموع شرح المهذب" (2/ 69). (¬4) حسن. أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (73)، والخطيب في "التاريخ" (3/ 195).

قراءة القرآن للحائض والنفساء

طهارة (¬1). قال الإمام الآجري -رحمه الله تعالى-: "إن أحبَّ أن يتوضَّأ ثم يقرأ طاهرًا، فهو أفضلُ، وإن قرأ غَيرَ طَاهِرٍ فلا بأسَ به، وإذا تَثاءبَ وهو يقرأُ، أمسكَ عن القراءةِ حتى ينقضى عنه التَّثَاؤبُ" (¬2). قلت: وانظر تحرير المسألة كتاب "أسئلة طال حولها الجدل" (7) لشيخنا عبد الرحمن عبد الصمد-رحمه الله-. * قراءة القرآن للحائض والنفساء: لا بأس للحائض والنفساء أن تقرأ القرآن وتحفظه على الصحيح من كلام أهل العلم؛ لأنه لم يرد نص صريح صحيح يمنع الحائض والنفساء من قراءة القرآن. أما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لا تَقرَأ الحَائِضُ وَلا الجُنُبُ شَيئًا من القُرآن" فضعيف، أخرجه الترمذي (¬3) من طريق إِسماعيل بن عياشٍ عن موسى ابن عُقبة عن نافعٍ، به. قال الترمذي: "سَمِعت محمد بنَ إِسماعيل (يعني البخاري) يقول: إِنَّ إِسماعيل بنَ عَياشٍ يروي عن أَهلِ الحجاز وأَهل العراق أَحاديث مناكير. كَأنَّهُ ضَعَّفَ روايتهُ عنهم فيما ينفرد به". ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (74). (¬2) "أخلاق حملة القرآن" (ص 232). (¬3) ضعيف. أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن.

معنى الآية {لا يمسه إلا المطهرون (79)}

قلت: ورواية إِسماعيل عن الحجازيين، وأهل العراق ضعيفة (¬1). ولها أن تقرأ عن ظهر قلب، أو من المصحف دون أن تمسه مباشرة، ولها أن تقرأ بحائل كثوب، أو لبس القفازين، وبهذا قال كبار علماء العصر كالعلامة ابن باز، والعلامة الألباني، والعلامة ابن عثيمين -رحمهم الله تعالى- والحائض أو النفساء ليس بيدها أن تغتسل، وليس هناك ما يمنع لا سيما المعلمات والطالبات والحافظات للقرآن. وتعليل ذلك: 1 - أن الحائض مدتها تطول، وربما تمتد إلى نصف الشهر، فلا يصح قياسها على الجنب. 2 - أن بإمكان الجنب أن تغتسل، أمَّا الحائض فليس بإمكانها. 3 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة -رضي الله عنها- لما حاضت بالحج "اصنعي ما يصنعُ الحاج غير أن لا تَطُوفي ولا تُصلي". أخرجه أبو داود. ولم يستثن قراءة القرآن، وهي من ذكر الحاج، والله أعلم. * معنى الآية {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}: قال العلامة ابن قيم الجَوزية -رحمه الله تعالى-: "والصحيح في الآية، أن المراد به: الصحف التي بأيدي الملائكة؛ لوجوه عديدة: منها: أنه وصفه بأنه "مكنون" و"المكنون" المستور عن العيون. وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة. ومنها: أنه قال {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79]، وهم ¬

_ (¬1) "إرواء الغليل" لشيخنا الإمام العلامة الألباني (192).

الملائكة. ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون. ومنها: أن هذا إخبار. ولو كان نهيًا لقال: لا يمسَسه بالجَزم. والأصل في الخبر: أن يكون خبرًا صُورةَ ومعنى. ومنها: أن هذا ردٌّ على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن. فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء 210 - 211]، وإنما تناله الأرواح المطهرة. وهم الملائكة. ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس12: 16]. قال مالك في موطِئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس (¬1). ومنها: أن الآية مكيَّة من سورة مكية. تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار. وهذا المعنى أليق بالمقصود ¬

_ (¬1) ومالك بن أنس -رحمه الله- أحد الأئمة الأربعة المشهورين، انظر قوله في الموطأ (1/ 199) مع بيان كراهية حمله وهو غير طاهر إكرامًا للقرآن وتعظيمًا له. قلت: وسبق رواية المروزيّ -رحمه الله- عن الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله التابعي عطاء، وغيرهم، مما يدل على أن الطهارة ليست شرطًا للقراءة ولكنها مستحبة على الصحيح من أقوال أهل العلم، والله أعلم.

الاستعاذة والبسملة عند التلاوة

من فرع عملي، وهو حكم مس المحدث المصحف. ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس، لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛ إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقًا أو باطلًا، بخلاف ما إذا وقع القَسَم على أنه في كتاب مصون، مستور عن العيون عند الله، لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية. فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية، وأولى بلا شك. فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمسُّ المُصْحَف إلا طاهِر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون، لكرامتها على الله، فهذه الصحف أولَى أن لا يمسها إلا طاهر" (¬1). قلت: ويكفي بهذا الكلام النفيس حجة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. 10 - الاستعاذة والبسملة عند التلاوة: والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 390)، وفي حاشية "التفسير القيم" للإمام ابن القيم (482) تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي قوله: وفي قول شيخ الإسلام -رحمه الله- نظر، فإنه ليس سياق الآية على النهي والتشريع، وإنما سياقها لبيان الحقيقة الواقعية التي لا يمكن أن تتحول ولا تبطل، فلا يمكن الاستدلال بها ولا بغيرها من الآيات على لزوم الطهارة لمس المصحف، والله أعلم".

الاستعاذة لغة: الالتجاء والاعتصام والتحصن. أما في الاصطلاح: لفظ يحصل به الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتصام والتحصن به من الشيطان الرجيم. وصيغ الاستعاذة: 1 - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. 2 - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه. وهذه الصيغة ورد فيها الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله تعالى ويقول: أعوذُ بالله السميعِ العليم من الشيطانِ الرجيم، من هَمزِه ونَفخِهِ وَنَفثه" (¬1). وهمز الشيطان أي همس في قلبه وسواسًا، وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان، وأما نفخه: فالنفخ: الكبر؛ لأن المتكبر يتعاظم، ويجمع نفْسَه ونفسه فيحتاج أن ينفخ، وأما نفثه، ففسر أنه الشعر. قال أبو عبيد: وإنما سمي النفث شعرًا؛ لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه كالرقية، والمراد بالشعر المذموم. أما البَسمَلَةُ فهي مصدر بَسمَلَ: أي إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. والبسملة سنة عند الابتداء في أوائل السور سوى سورة براءة، فقد روى أنس - رضي الله عنه - أنه قال: بَينَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يَوم بَينَ أَظهُرِنَا إِذ أَغفَى إِغفَاءَةً، ثم رَفَعَ رَأسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلنَا مَا أَضحَكَكَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قال: "أُنزِلَت عَلَي آنِفًا ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (775) والترمذي (243)، وصححه العلامة أحمد شاكر.

استحباب ترتيل القرآن

سُورَة"، فَقَرَأَ: بسمِ اللهِ الرحمَنِ الرحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (¬1). 11 - استحباب ترتيل القرآن: شرع الله سبحانه لقراءة القرآن صفةً معينة، وكيفية ثابتة، أمر بها نبيه، فقال -عز وجل-: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] , {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. وكلام الله سبحانه يُقرأ على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الترتيل، تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف، وسيأتي تفصيله. المرتبة الثانية: الحدر: عبارة عن إدراج القراءة والإسراع بها مع مراعاة أحكام التجويد. - المرتبة الثالثة: التدوير، وهو القراءة بحالة التوسط بين الترتيل والحدر في القراءة مع مراعاه الأحكام. المرتبة الرابعة: التحقيق، وهو أطولها جميعًا، وأبطؤها؛ إذ يلتزم فيه بالحد الأقصى من أداء الأحكام مع البطء، لأنه يستخدم في التعليم. فهذه المراتب الأربع هي عبارة عن سرعات القارئ للقرآن، وكلها يشترط فيها مراعاه أحكام التجويد، وقد شاع عند من لا علم له بقواعد هذا الفن أن القراءة السريعة تسمى ترتيلًا، والقراءة البطيئة تسمى تجويدًا، وهذا غير صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (400) في كتاب الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة.

حكم الترتيل

والتَّرتيلُ في القراءة: لغةً: إرسالُ الكلمةِ منَ الفمِ بِسُهُولةٍ واستقامةٍ، مع حسن تأليف. واصطلاحًا: قراءة القرآن الكريم على مكث وفهم من غير عجلة، مع رعاية مخارج الحروف، وحفظ الوقوف، أو خفضُ الصَّوت والتحزين بالقراءة (¬1). وقيل: القراءة بتؤدةٍ وطمأنينةٍ مع تدبر المعاني ومراعاة الأحكام. * حكم الترتيل: قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وقد نهي عن الإفراط في الإسراع، ويسمى الهذرمة .. ، قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبير ولغيره. قالوا: يستحب الترتيل للعجمي الذي لا يفهم معناه؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب. ويستحب -إذا مر بآية رحمة- أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب، أو يقول: "اللهم إني أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزهه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى" (¬2). قلت: ونحو ذلك حديث ابن عَبَّاس أَن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ ¬

_ (¬1) "التوقيف على مهمات التعاريف" (170) للمناوي، و"المفردات" (187) للراغب الأصفهاني. (¬2) "التبيان في آداب حملة القرآن" (49).

مراعاة أحكام التلاوة

رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} قال: "سبحان ربى الأعلى" (¬1). قال الغزالى -رحمه الله-: "واعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له في القراءة أيضاً الترتيل والتؤدة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال" (¬2). * مراعاة أحكام التلاوة: وعلى القارئ أن يراعي أحكام التجويد، وإخراج الحروف من مخارجها. عن قتادة قال: سُئِلَ أنسٌ - رضي الله عنه -: "كَيفَ كَانَت قِرَاءَةُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كَانَت مَدًّا، ثُم قَرَأ: بِسم اللهِ الرحمَنِ الرحِيمِ، يَمُد بِسمِ اللهِ، وَيمُد بِالرحمَنِ، وَيمُد بِالرحِيمِ" (¬3). عن قتادة قال: قلتُ لِأَنَسٍ - رضي الله عنه -: كَيفَ كَانَت قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: كَانَ يَمُد صَوتَهُ مَدا (¬4). عن عبد الله بن مُغَفَّلِ قال: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَومَ فَتحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهُوَ يَقرَأُ سُورَةَ الفَتحِ يُرَجعُ، وَقَالَ: لَولا أَن يَجتَمِعَ النَّاسُ حَولِي ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 232)، وأبو داود (883)، والحاكم (1/ 263) وصححه على شرط الشيخين، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4766). (¬2) "إحياء علوم الدين" (1/ 247). (¬3) أخرجه البخاري (5046 - فتح) في كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة. (¬4) أخرجه البخاري (5045 - فتح) في كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة.

ذم العجلة في القراءة دون تدبر وفهم

لَرَجَّعتُ كَمَا رَجَّعَ (¬1). قوله: (وقال: لولا أن يجتمع الناس ..) القائل هو معاوية بن قُرة راوي الحديث، والترجيع: هو ترديد القارئ القراءة بالآيات تكرارًا، من باب الخشوع والتدبر. وقال الحافظ ابن حجر: "وقيل: معنى الترجيع تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة" (¬2). * ذم العجلة في القراءة دون تدبر وفهم: وقد كَرِهَ كثيرٌ من السَّلف من الصحابة ومن بعدهم العجلة المُفْرِطة في تلاوة القرآن، وعلة ذلك أن رغبة القارئ في تكثير تلاوته في مُدَّةِ أقصر، لأجل تحصيل أجر أكثر، يفوت عليه مصلحة أكبر، وهي تدبر آيات القرآن والتأثر بها، وظهور أثرها على القارئ، ولا ريب أن حال من قرأ القرآن وهو متأمل لآياته، ومستحضر لمعانيِه أكمل من الذي يستعجل به طلبًا لسرعة ختمه وكثرة تلاوته. أعلم -رعاك الله أيها الودود- أن للقراءة مراتب محمودة كالترتيل، والحدر، والتدوير، ومرتبة رابعة تعليمية وهي التحقيق، وأفضلها الترتيل لقول الله سبحانه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، وكل مرتبة من هذه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4280 - فتح) في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟ (¬2) "فتح الباري" (9/ 92).

هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التلاوة

المراتب يطبق فيها أحكام التلاوة. أما (الترتيل): وهو قراءة القرآن بِتُؤَدةٍ وطُمأنينةٍ مع تدبر المعاني، ومراعاة أحكام التجويد. وأما (الحَدْر): فهو قراءة القرآن بسرعة دون إخلال مع مراعاة أحكام التجويد. وأما (التدوير): فهو قراءة القرآن بحالة متوسطة بين الترتيل والحدر في القراءة مع مراعاة الأحكام، وهي تلي الترتيل في الأفضلية (¬1). ولكن نحن مع كثرةٍ من الناس تقرأ بعجلة دون تدبر ولا فهم للمعاني، وتسرع في القراءة دون خشوع ولا مراعاة لأحكام التجويد والفهم والتدبر، وهذا ما يعرف عند القراء بالهذ، أو الهذرمة وهو خروج القراءة عن الخشوع والتدبر مع العجلة. * هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التلاوة: أعلم -أيها الودود- أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في القراءة الترتيل والتؤدة آية آية قراءة مفسرة حرفاً حرفاً يقف على رؤوس الآيات، وفيما يأتي نتعرف على الروايات التي جاءت في هديه - صلى الله عليه وسلم - عن المدة والصفة التي كان يقرأ بها، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان - صلى الله عليه وسلم - لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث" (¬2). وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "غاية المريد في علم التجويد" (19). (¬2) صحيح أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 376) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4866).

"اقرأ القرآن في كل شهر، اقرأه في خمسٍ وعشرين، اقرأه في عشرين، اقرأه في خمسَ عشرةَ، اقرأه في سبع لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث" (¬1). ووصفت أم سلمة - رضي الله عنها - قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هِيَ تَنعَتُ قِرَاءَةً مُفَسرَةً حَرفًا حَرفًا، رواه الترمذي (2923)، وقال: حسن صحيح. ووصفت أيضاً حفصة - رضي الله عنها - قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم قولها: كَانَ يَقرَأُ بِالسورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتى تَكُونَ أَطوَلَ من أَطوَلَ مِنهَا. وعن قتادة قال: سُئِلَ أَنسٌ - رضي الله عنه - كَيفَ كَانَت قِرَاءَةُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ: كَانَت مَدا ثُم قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} يمد ببسم اللهِ، وَيمُد بِالرحمَنِ، وَيمُد بِالرحِيمِ (¬2). وعن أُمِّ سلمة أَنَّهَا سُئِلَت عَن قِرَاءَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَت: كَانَ يُقَطَّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (¬3). قال أبو عمر الداني: "ومما ينبغي له أن يُقطعَ عليه رُؤوس الآي لأنهن في أنفُسهن مقاطعُ .. ، وقد كان جماعة من الأئمة السالفين والقراء الماضين يستحبون القطعَ عليهن وإن تعلق كلامُ بعضهن ببعض" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 165)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1157). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب: باب: مد القراءة (5046). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 302)، وأبو عمر الداني في "المكتفى في الوقف والابتداء" (145 و157) وغيرهما، وصححه الألباني في "أصل صفة الصلاة" (1/ 293) وخرجه بتوسع. (¬4) "المكتفى في الوقف والابتداء" (145).

قال العلامة الألباني: "وهذه سنة أعرض عنها جمهور القراء في هذه الأزمان؛ فضلًا عن غيرهم" (¬1). ثم قال: "وهذا مطلق غير مقيد بـ: (الفاتحة)، وإنما تلتها على سبيل المثال؛ لا على طريق التحديد. قال في "الزاد" (1/ 125): "وهذا هو الأفضل: الوقوف على رؤوس الآيات؛ وإن تعلقت بما بعدها. وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض، والمقاصد عند انتهائها. واتباع هدي النبي وسنته أولى؛ وممن ذكر ذلك البيهقي في "شعب الإيمان" وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي؛ وإن تعلقت بما بعدها". وقال الشيخ علي القاري: "أجمع القراء على أن الوقف على الفواصل وقف حسن؛ ولو تعلقت بما بعدها" اهـ. قلت: هذا كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في القراءة لكتاب الله سبحانه، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما أصحاب العواطف الذين يظنون أنهم يرغبون الناس في الإكثار من الختمات ولو على حساب الإخلال بأحكام التلاوة والتدبر، وفي أقل من الهدي النبوي، فإنهم يخالفون النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا وفعلًا، بل تصبح القراءة عندهم أشبه بالهذا لا سيما إذا خلت أيضاً من التدبر والفهم، ومراتب التلاوة الأربع عندما يذكرها العلماء فإنهم يذكرون بالحد المحمود فيها لتحقيق أحكام التلاوة والتدبر، وما سواها فمذموم هذَّا أو مطًا. ¬

_ (¬1) "أصل صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1/ 294).

ذم الصحابة للعجلة في القراءة

* ذم الصحابة للعجلة في القراءة: تأمل إنكار عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - علي نَهِيكُ بن سنان حين وصف سرعته في القراءة فقد جاء في الصحيحين عن شَقِيق قال: "جَاءَ رَجُلٌ من بَنِي بَجِيلَةَ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بنُ سِنَانٍ إِلَى عَبدِ اللهِ فَقَالَ: "إِني أَقرَأُ المُفَضَّلَ فِي رَكعَةٍ! فَقَالَ عَبدُ اللهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعرِ لَقَد عَلِمتُ النَّظَائِرَ التِي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقرَأُ بِهِنَّ سُورَتَينِ فِي رَكعَةٍ". وفي رواية عن أَبِي وائلِ قال: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بنُ سِنَانِ إِلَى عَبدِ اللهِ، فقال: يَا أَبَا عَبدِ الرحمنِ، كَيفَ تَقرَأُ هَذَا الحَرفَ أَلِفًا تَجِدهُ أَم يَاءً (من مَاءٍ غَيرِءَاسِنٍ) أَو (من ماء غير ياسن)؟ قال: فقال عَبدُ اللهِ: وَكُلَّ القُرآنِ قَد أَحصَيتَ غَيرَ هَذَا؟ قال: إِنِّي لأقرَأُ المُفَصَّلَ فِي رَكعَةٍ. فقال عَبدُ اللهِ: هَذا كَهَذِّ الشِّعرِ؟ إِن أَقوَامًا يَقرَءُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، وَلَكِن إِذَا وَقَعَ فِي القَلبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ، إِن أَفضَلَ الصَّلاةِ الركُوعُ وَالسجُودُ، إِني لأعلَمُ النظَائِرَ التِي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقرُنُ بَينَهُنَّ سُورَتَينِ فِي كُلِّ رَكعَةٍ" (¬1). الهذُّ: سرعة القراءة المذمومة، من غير فهم للمعاني. قال النووي -رحمه الله-: "معناه أن الرجل أخبره بكثرة حفظه وإتقانه، فقال ابن مسعود: فتهذُّه هذًّا، وهو بتشديد الذال، وهو شدة الاسراع والإفراط في العجلة، ففيه النهي عن الهذ، والحث على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (722) في كتاب صلاة المسافرين، باب ترتيل القراءة.

من أقوال العلماء في التدبر

قال القاضي: "وأباحت طائفة قليلة الهذ" (¬1). وعن جمرة الضُّبعيِّ قال: قلتُ لابن عباس: إني سريعُ القراءةِ، إني أقرأُ القرآنَ في ثلاث، قال: لأن أقرأ البقرةَ في ليلٍ، فأتدبرها، وأُرتلُها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ كما تقول (¬2). وعن أبي جمرة قال: "قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلةٍ فأدبرها وأرتلها؛ أحب إلي من أن أقرأ كما تقول". وفي رواية، "فإن كنت فاعلًا لا بد فأقرأهُ قراءة تسمعُ أذنيك ويعيه قلبك" (¬3). * من أقوال العلماء في التدبر: قال محمد بن كعب القرظي: لأن أقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} [الزلزلة: 1]، و {الْقَارِعَةُ (1)} [القارعة: 1]، لا أزيد عليهما وأردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذ القرآن ليلتي، أو قال: أنثره نثرًا (¬4). قال الإمام الآجري: "القليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحبّ إليَّ من قراءةِ الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة، وقول أئمة المسلمين" (¬5). ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" (6/ 104). (¬2) صحيح. أخرجه الآجرى في "أخلاق حملة القرآن" (90). (¬3) أخرجه ابن كثير في "فضائل القرآن" (ص 236)، وقال محققه: إسناده صحيح. (¬4) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (1/ 35)، والمروزي في "قيام الليل" انظر: مختصره (64). (¬5) "أخلاق حملة القرآن" (258).

وقال ابن قيم الجوزي: "لو علمَ الناسُ ما في قراءةِ القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأهُ بتفكرِ حتى مر بآيةِ بتفكرٍ وتفهمٍ خير من قراءةٍ ختمةٍ بغير تدبرٍ وتفهمٍ" (¬1). وقال القرطبي: "الترتيل أفضل من الهذ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذ" (¬2). قلت: ومن أدلة الترسل بالقراءة دون الهذ والعجلة والهذرمة ما في الصحيحين أن - جبريل عليه السلام - كان يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان. ولهذا قال الحافظ ابن حجر: "ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء، فيقرأ كل ليلة جزءًا في جزء من الليلة" (¬3). قلت: فلو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختم القرآن كل ليلة، ويكثر عدد الختمات في رمضان، لنقل عنه - صلى الله عليه وسلم -، بل روت عائشة خلاف ذلك كما في صحيح مسلم أنها قالت: ولا أَعلَمُ نَبِي اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ القرآن كُلَّهُ فِي لَيلَةٍ". ولا أريد أن أختم هذا الفصل دون الإشارة إلى أن بعض أهل العلم قد رخص في القراءة في أقل من ثلاث، أو قال: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ولكني أقول: إن هذه اجتهادات لا ترقى إلى الطريقة المحمودة في القراءة الموافقة للسنة، وأما فيما يتعلق بتقطيع الآيات فلكل إنسان طريقة ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 553). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" (15/ 192). (¬3) "فتح الباري" (9/ 45).

مدة ختم القرآن

توافق طبعه وتخف عليه، فلا نلزمه بما يشق عليه، ولكن ندعوه إلى ما لا يخالف السنة، والله أعلم. * مدة ختم القرآن: كثيرون هم الذين يختمون القرآن ولله الحمد، غير أن البعض يجتهد أحيانًا فيختم القرآن في رمضان وغيره مرارًا وتكرارًا، في مدة قصيرة اختلف فيها أهل العلم، فمن قائل بالكراهة لمن يقرأ في المصحف في أقل من ثلاث كأحمد وأبي عبيد، وإسحاق بن راهوية، ومن قائل بالجواز مطلقًا، وقد نُقِلَ عن بعض العلماء أنه كان يختم في أقل من ثلاث، ولعل حديث عبد اللهِ بنِ عَمْرٍو هو الحجة على الجميع، فلتتأمل هذا النص كما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ فِي كَم أَقرَأُ القرآن؟ قَالَ: "فِي شَهرٍ". قَالَ: إِنِّي أَقوَى من ذَلِكَ، يُرَدِّدُ، وَتَنَاقَصَهُ حَتى قَالَ: "اقرَأهُ فِي سَبعٍ". قَالَ: إِني أَقوَى من ذَلِكَ، قَالَ: "لا يَفقَهُ مَن قَرَأَهُ فِي أَقَل من ثَلاثٍ" (¬1). قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "إنما ورد النَّهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثٍ على المداومة على ذلك. فأما في الأوقات المفضلة -كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلةَ القَدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكَّة شرَّفها الله، لمن دخلها من غير أهلها- فيُستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتنامًا للزمان والمكان. ¬

_ (¬1) صحيح. "أخرجه أبو داود (1390)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1239).

وهذا قولُ أحمدَ وإسحاقَ وغيرهما من الأئمة" (¬1). وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص، فمن كان من أهل الفهم، وتدقيق الفكر، استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود، من التدبر، واستخراج المعاني، وكذا من كان له شغل بالعلم، أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة، يُستحبُّ له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك، فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة، والله أعلم" (¬2). سئل زيد بن ثابت - رضي الله عنه - كَيفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرآنِ فِي سَبعٍ؟ فَقَالَ زَيدٌ: حَسَن، وَلأَن أَقرَأَهُ فِي نِصفٍ، أَو عَشرِ، أَحَب إِليَّ وَسَلنِي، لِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أسأَلُكَ. قَالَ زَيد: لِكَي أَتَدَبرَهُ وَأَقِفَ عَلَيهِ (¬3). قال العلامة ابن باز -رحمه الله-: "وبعض السلف قال: يُستثنى من ذلك أوقات الفضائل، وأنه لا بأس أن يختم كل ليلة أو في كل يوم، كما ذكروا هذا عن الشافعي وعن غيره، ولكن ظاهر السُّنة: أنه لا فرق بين رمضان وغيره، وأنه ينبغي له أن لا يتعجل، وأن يطمئنَّ في قراءته، وأن يرتل كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو- ¬

_ (¬1) "لطائف المعارف" (319). (¬2) ينظر "فتح الباري" (9/ 97). (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 201) في كتاب القرآن، باب: ما جاء في تحزيب القرآن.

تحسين الصوت بالقراءة، والنهي عن القراءة بالألحان المطربة

رضي الله عنهما- فقال: "اقرأه في سبع"، هذا آخر ما أمره به، وقال: "لا يفقه من قرأه في أقلّ من ثلاث"، ولم يقل: إلا في رمضان، فحَملُ بعض السلف هذا على غير رمضان محل نظر، والأقرب -والله أعلم- أن المشروع للمؤمن: أن يعتني بالقرآن ويجتهد في إحسان قراءته، وتدبر القرآن والعناية بالمعاني، ولا يعجل، والأفضل أن لا يختم في أقلّ من ثلاث، وهذا الذي ينبغي حسبما جاءت به السُّنة، ولو في رمضان" اهـ. قلت: وقول العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هو الراجح الموافق للسنة إدراكًا وتدبرًا، وفهمًا مع الإجابة. 12 - تحسين الصوت بالقراءة، والنهي عن القراءة بالألحان المطربة: يدل على ذلك ما رواه البَراءُ أنه قال: سَمِعتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقرَأُ في العِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فَمَا سَمِعتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوتًا، أَو قِرَاءَةَ مِنهُ (¬1). وفي استحباب تحسين الصوت بالقراءة أحاديث صحيحة، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَم يَأذَنِ اللهُ لِشَيءٍ مَا أَذِن لِلنبيِّ أن يتَغَنَّى بِالقُرَآنِ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ منا مَن لَم يتَغَنَّ بِالقُرآنِ" (¬3). أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن، والمراد من تحسين الصوت والتغني بالقرآن تحزينه والتخشع به، ولا يعني هذا إخراج القراءة عن حدها المشروع من تمطيط الكلام، وعدم إقامته، والمبالغة فيه حتى ينقلب لحنًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7546 - فتح) في كتاب التوحيد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الماهر. (¬2) أخرجه البخاري (5023) في كتاب فضائل القرآن، باب: من لم يتغن بالقرآن. (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (1469)، وصححه الألباني في "صحيح أبى داود" (1304).

فهذا ليس بمشروع مطلقاً، وهو قراءة القرآن بصفة التَّلحين الذي يُشبه تَلحين الغِنَاء، فإن ذلك لا يجوز، أما تحبيره أي التزيين والتَّحسين فهو المستحب، وهو محل اتفاق جميع العلماء. عن أَبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: "لَو رَأَيْتَني وَأَنا أَستَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ! لَقَد أُوتِيتَ مِزْمَارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد" (¬1). والمراد بالمزمار: الصوت الحسن. عن أبي لُبَابَةَ قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَيسَ مِنَّا مَن لَم يَتَغَنِّ بِالقُرآنِ" قال: فَقُيل لابنِ أَبِي مُلَيكَةَ: يَا أَبَا محمد، أَرَأَيتَ إِذَا لَم يَكُن حَسَنَ الصوتِ؟ قَالَ: يُحَسِّنُهُ مَا استَطَاعَ (¬2). والجهر بالقراءة أمر حسن، والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة، لكن يستثنى من ذلك عدم التشويش على الآخرين، أو إيذاء النيام، أو الرياء والسمعة، والأمر بحمد الله فيه سعة بالجهر أو الإسرار، وعلى القارئ مراعاة الحال. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّهُ سمع النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا أَذن اللهُ لِشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيّ حَسَنِ الصوتِ بِالْقُرآنِ يَجهَرُ بِهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (793) في كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (1471) في كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (5/ 212 التخريج): "حسن صحيح". (¬3) أخرجه البخاري (7544 - فتح) في كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الماهر، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.

عن أَبي سعيد - رضي الله عنه - قال: اعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المسجِدِ فَسَمِعَهُم يَجهَرُونَ بِالقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّترَ وقال: "أَلا إِن كُلَّكُم مُنَاج رَبَّهُ، فلا يُؤذيَنَّ بَعضُكُم بَعضًا وَلا يَرفَع بَعضُكُم عَلَى بَعضِ فِي القِرَاءَةَ"، أَو قَالَ: "فِي الصَّلاةِ" (¬1). عن عبد الله بن أَبي قيسٍ أنه سَأل عَائِشَةَ أم المؤمنين - رضي الله عنها - عَن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَيفَ كَانَت قِرَاءَتُهُ: أَكَانَ يُسِرُّ بِالقِرَاءَةِ أَم يَجهَرُ؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَد كَانَ يَفعَلُ؛ قَد كَانَ رُبمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ. قال: فَقُلتُ: الحَمدُ لِلهِ الذِي جَعَلَ فِي الأمرِ سَعَةً" (¬2). عن أَبي قتادةَ أنَّ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لَيلَةً، فَإِذَا هُوَ بِإِبِي بَكرٍ - رضي الله عنه - يُصَلِّي يَخفِضُ من صَوتِهِ قال: وَمَرَّ بِعُمَرَ بنِ الخَطابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوتَهُ، قال: فَلَمَّا اجتَمَعَا عِندَ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أَبا بَكرٍ، مَرَرْتُ بكَ وأنت تُصَلِّي تَخفِضُ صَوتَكَ" قال: قَد أَسمَعتُ مَن نَاجَيتُ يَا رَسُولَ الَلهِ. قال: وقال لِعُمَرَ: "مَرَرْتُ بِكَ وأنت تُصَلِّي رَافِعًا صوتك". قال: فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوقِظُ الوَسنَانَ، وَأَطرُدُ الشيطَانَ" .. فقال النبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا بَكرٍ، ارْفَع من صَوتِكَ شَيئًا"، وقال لِعُمَرَ: "اخفِض من ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، وصححه شيخنا الألباني في "صحيح الجامع". (2639). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (2924) في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" و"صحيح سنن أبي داود".

الإمساك عن القراءة عند غلبة النعاس

صَوتِكَ شَيئًا" (¬1). 13 - الإِمساك عن القراءة عند غلبة النُّعاس: الأصل في ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا قَامَ أَحَدُكم مِنَ الليلِ، فَاستعجَمَ القُراَنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَم يَدرِ مَا يَقُولُ، فَليضطَجِع" (¬2). ومعنى استعجم القرآن عليه: أي استغلق ولم ينطق به لسانه قاله النووي، وعلة الإمساك عن القراءة بيَّنها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُم في الصلاة، فَليَرقُد حَتَّى يَذهبَ عَنهُ النومُ. فَإن أَحَدَكُم إِذَا صلي وَهُوَ نَاعِسٌ، لَعَلَّهُ يَذهَبُ يَستَغفِرُ فَيَسُبَّ نَفسَه" (¬3). 14 - السجود عند المرور بآية سجدة: في كتاب الله سبحانه خمس عشرة سجدة، فيسن لتالي القرآن إذا مرَّ بها أن يسجد. ومواضعها في كتاب الله كالتالي: (1) في سورة الأعراف، آية رقم (206). (2) في سورة الرعد، آية رقم (15). (3) في سورة النحل، آية رقم (49). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (1329)، والترمذي (447)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (368). (¬2) أخرجه مسلم (1807). (¬3) أخرجه مسلم (1835).

(4) في سورة الإسراء، آية رقم (107). (5) في سورة مريم، آية رقم (58). (6)، (7) في سورة الحج آية رقم (18 - 77). (8) في سورة الفرقان، آية رقم (60). (9) في سورة النمل، آية رقم (25). (10) في سورة السجدة، آية رقم (15). (11) في سورة ص، آية رقم (24). (12) في سورة فصلت، آية رقم (37). (13) في سورة النجم، آية رقم (62). (14) في سورة الانشقاق، آية رقم (21). (15) في سورة العلق، آية رقم (19). ويستحب أن يقول حال سجودهِ الذكر الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُم اخطُط عَنِّي بِهَا وِزرًا، وَاكتُبِ لي بِهَا أَجرًا، وَاجعَلهَا لي عِندَكَ ذُخرًا" (¬1). عن عليِّ بن أَبي طالب عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصلاةِ قال: "وَجهتُ وَجهِيَ لِلذي فَطَرَ السمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفًا وَمَا أَنا من المُشرِكِينَ" .. وإِذا سَجَدَ قال: "اللهُم لَكَ سَجَدتُ، وَبِكَ آمنتُ، وَلَكَ أَسلَمتُ، سَجَدَ وَجهِي لِلذي خَلَقَهُ وَصَورَهُ وَشَقَّ سَمعَهُ وَبَصَرَه، تَبَارَكَ اللهُ ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الترمذي (579)، وابن ماجه (1053)، والحاكم (1/ 220)، وصححه، ووافقه الذهبي، وفي رواية "وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، وصححه العلامة أحمد شاكر.

أن لا يقرأ في حال الركوع ولا السجود في الصلاة

أَحسَنُ الخَالِقِينَ" (¬1). قلت: ولو قال: سبحان ربي الأعلى -كما في سجود الصلاة- فلا بأس. وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسجود، وفيه فضل عظيم كما جاء في الحديث. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَرَأَ ابنُ آدمَ السَّجدة فَسَجَدَ اعتَزَلَ الشيطَانُ يَبكِي يَقُولُ: يَا وَيلَهُ [وَفِي رِوَايَةِ يَا وَيلِي]، أُمِرَ ابنُ آدمَ بِالسجُودِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنةُ، وَأُمِرتُ بِالسجُودِ فَأبيتُ، فَلِي النارُ" (¬2). والسجود سنة مستحبة ومن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قال: كَانَ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقرَأُ عَلَينَا السورَةَ فِيهَا السجدَةُ فَيَسجُدُ وَنَسجُدُ حَتى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوضِعَ جَبهَتِه" (¬3). 15 - أن لا يقرأ في حال الركوع ولا السجود في الصلاة: عن ابن عباسِ قال: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ، وَالناسُ صُفُوف خَلفَ أَبِي بَكرٍ، فقال: "أَيهَا النَّاسُ، إِنهُ لَم يَبقَ من مُبَشِّرَاتِ النبُوةِ إِلا الرؤيا الصالِحَةُ يَرَاهَا المسلِمُ أَو ترَى لَهُ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أن أَقرَأَ القُرآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأما الركُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرب عَز وَجَل، وَأَما السجُودُ فَاجتَهِدوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَن يُستجَابَ لَكُم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (771) في كتاب صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه. (¬2) أخرجه مسلم (81) في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة. (¬3) أخرجه البخاري (1075. فتح) في كتاب سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، ومسلم (575) في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة. (¬4) أخرجه مسلم (479) في كتاب الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. قوله: (فقمن) بفتح الميم وكسرها لغتان مشهورتان، ومعناه حقيق وجدير.

أن لا يشوش القارئ على المصلي

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حال القيام والانتصاب أولى به" (¬1). 16 - أن لا يشوش القارئ على المصلي: من الأدب الذي ينبغي العناية به، توقير المصلي عند القراءة، بأن يسر التالي للقرآن قراءته دون رفع الصوت حتى لا يشوش القارئ على المصلي، ولا المصلي على القارئ، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وهي نصوص صريحة في النهي عن التشويش في القراءة، ورفع الصوت بالقرآن. عن أبي هريرة وعائشة -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه اطلع من بيتهِ والنَّاس يجهرون بالقراءةِ فقال لهم: "إن المصلي يُناجي رَبَّه، فلينظُر بما يناجيه، ولا يجهر بعضُكم على بعضِ بالقرآن" (¬2). عن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المسجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السترَ وقال: "أَلا إِن كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُم بَعضاً، وَلا يَرْفَعْ بَعضُكُم عَلَى بَعْضٍ فِي القِرَاءَةِ"، أَو قال: "فِي الصلاةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (269 مختصر). (¬2) صحيح. أخرجه الطبراني في الأوسط (4620)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1951). (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (1332)، وغيره، وقال الألباني في "الصحيحة" (1603): إسناده صحيح على شرط الشيخين.

مراعاة الوقف والابتداء

وفي الحديث أن رفع الصوت بالقرآن الكريم ممنوع شرعاً، إذا ترتب عليه إيذاء للغير , أو تشويش لمصلٍ, أو إيقاظ لنائم, سواء كان في المسجد, أم غيره (¬1) 17 - مراعاة الوقف والابتداء: الوقف: قطع الصوت عن الكلمة زمناً يتنفس فيه القارئ عادة بنية استئناف القراءة. الابتداء: هو الشروع في القراءة سواء كان بعد قطع وانصراف عنها، أو بعد وقف (¬2). والأصل في هذا ما رواه ابن أبي مُليكة عن أُمِّ سلمة أَنهَا سُئِلَت عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يقطع القرآن آية آية {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (¬3). وفي رواية: يقرأ (الفاتحة)، ويقطعها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} ثم يقف، ثم يقول، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} .. الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) "المنهل العذب المورود" (4/ 262). (¬2) "غاية المريد في علم التجويد" (220) للشيخ عطية قابل نصر. (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 302)، وأبو عمرو الداني في "المكتفى في الوقف والابتدا" (145 و175) وغيرهما، وصححه الألباني في "أصل صفة الصلاة" (1/ 293) وخرجه بتوسع. (¬4) انظر تخريجه بتوسع "إرواء الغليل" (343)، و"أصل صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم - (1/ 293) للألباني.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لقد عشنا برهة من دهرنا واحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل (¬1). هذا الأثر يدل على أن الصحابة الكرام كانوا يعتنون بالوقف، ويبين هذا الأثر نقد ابن عمر لذلك الواقع المؤلم بعدم العناية، فكيف لو سمع طلاب المدارس وخريجي بعض الجامعات كيف يرسلون القراءة مملوة بالأخطاء دون مراعاة للوقف أو الابتداء كما شبه هذا السوء بالتمر اليابس الرديء. ولهذا "حض الأئمة على تعلمه ومعرفته والاعتناء به، واشترط كثير من العلماء على المجيز ألا يجيز أحدًا إلا بعد معرفته الوقف والابتداء؛ لأن به تعرف معاني القرآن، ولا يمكن استنباط الأدلة الشرعية إلا بمعرفة الفواصل" (¬2). ومما تقدم يتضح لنا أن الوقف والابتداء كان محل عناية رسول الله والصحابة رضوان الله عليهم لما يترتب عليه من إيضاح المعاني القرآنية للمستمع، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان قارئ القرآن على دراية واسعة ومعرفة تامة بالوقوف. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن النحاس في "القطع والائتناف" (27)، والييهقي في الكبرى (3/ 120). (¬2) ينظر مقدمة كتاب "المكتفى في الوقف والابتدا" (57) للدكتور يوسف المرعشلي.

ولعل الحكمة في هذا الفن من علوم القرآن الكريم ما حكاه الإمام النووي بقوله: "وينبغي للقارئِ إذا ابتدأ من وسط السورة، أو وقف على غير آخرها أن يبتدئَ من أول الكلام المرتبط بعضُهُ ببعض، وأن يقف على الكلام المُرتَبط، ولا يتقيد بالأجزاء والأعشار، فإنها قد تكونُ في وسط الكلام المرتبط، كالجزء الذي في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]،" ... ، فكل هذا وشبيهُهُ ينبغي أن لا يبتدأُ به لا يُوقف عليه، فإنه مُتعلقٌ بما قبلهُ، ولا يغترُّ الإنسانُ بكثرةِ الغافلين له من القراء الذين لا يُراعُونَ هذه الآداب ولا يفكرون في هذه المعاني .. ، ولهذا المعنى قال العلماءُ: قراءةُ سورةٍ قصيرةٍ بكمالها أفضلُ من قراءة بعض سورة طويلة بقدر القصيرة، فإنه قد يخفى الارتباط على بعض الناس في بعض الأحوال (¬1). قلت: ولهذا قسم أهل العلم الوقف إلى قسمين، الوقف الاختياري، والاضطراري، وفصلوا في الوقف الاختياري إلى تام وكافي وحسن وقبيح. كما قسموا الابتداء إلى حسن وقبيح، ومزيد من الحديث عن السكت والقطع وغير ذلك مما هو مبسوط في علم التجويد بما لا يسمح المجال إلى تفصيله والاستشهاد عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القراءة بأواخر السور وأواسطها فلم يكن غالباً عليهم، ولهذا يتورع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره، ومن أعدل الأقوال في ذلك، قول من كره اعتياد ذلك دون ¬

_ (¬1) "التبيان" (64 و65).

فعله أحيانًا؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة، وعادة السلف من الصحابة والتابعين" (¬1). ولهذا اعتنى العلماء بهذا الفن عناية خاصة وأفردوه بالتأليف: 1 - "الإيضاح في الوقف والابتداء" للإمام أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328 هـ. 2 - "القطع والائتناف أو الوقف والابتداء" للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس المتوفي سنة 338هـ. 3 - "المكتفى في الوقف والابتداء في كتاب الله -عز وجل- " للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي المتوفى سنة 444 هـ. ... ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (13/ 411 و412).

الأدب مع الملائكة الكرام

الأدب مع الملائكة الكرام أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن خلق من مخلوقاته لا يرون بالبصر، ولا يدركون بالحس، وأمر بالإيمان بهم، وهم الملائكة {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء 26: 27] {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فطرهم الله على طاعته وعبادته، فلا يفكرون في معصية ولا يتكاسلون عن أمر، وأنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]. والإيمان بهم ركن من أركان الإيمان يلي الإيمان بالله تعالى، وبعد أن عرفنا أخلاق العاقل مع الله سبحانه، نريد التعرف علي أخلاقه مع الملائكة، والحديث عن الملائكة هنا من الجانب الأخلاقي الشعوري، وليس من الجانب الاعتقادي. لا شك أن للملائكة علاقات مع البشر قديمة من أول لقاء بين الملائكة والبشر وسجودها للإنسان. قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص71: 74]. والعاقل من يجعل لهذه العلاقات أثرًا في حياته، وكيف يعقل بمسلم يؤمن بوجود الملائكة، ويعلم علم اليقين أن الله سبحانه قد وكل به ملائكة يكتبون أعماله ويحرسونه، ويرقبون عمله، ويحبون فيه الخير، ويدافعون

علاقات الملائكة بالبشر

عنه إلى غير ذلك، ولا يلقي لذلك بالًا، أو يجعل لهم في نفسه أثرًا. وعلاقات الملائكة بالبشر متفاوتة 1 - منها علاقات لازمة: أ- أنها تكتب أعمال بني آدم: قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار10: 12]. وقال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُم مَلاِئكَةٌ بِالليلِ وَمَلاِئكَةٌ بِالنهَارِ، وَيَجتَمِعُونَ فِي صَلاة الفَجرِ وَصَلاةِ العَصرِ، ثُم يَعرُجُ الذينَ بَاتُوا فِيكُم فَيَسألُهُم -وَهُوَ أَعلَمُ بِهِم-: كَيفَ تَرَكتُم عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكنَاهُم وَهُم يُصَلونَ، وَأَتَينَاهُم وَهُم يُصَلُّونَ". متفق عليه. ب- حراستهم لابن آدم وحفظه، قال سبحانه: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد10: 11]. ج- قبض الأرواح: قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61]. وقال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].

علاقات مشروطة

د- سؤالهم العبد في القبر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ العَبدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبرِهِ وَتَوَلَّى عَنهُ أَصحَابُهُ، وَإِنهُ لَيَسمَعُ قَرعَ نِعَالِهِم، أَتاهُ مَلَكَانِ فَيُقعدَانِهِ فَيَقُولانِ: مَا كُنتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرّجُلِ؟ لِمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فَأما المُؤمِنُ فَيَقُولُ: أَشهَدُ أَنهُ عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انظُر إِلَى مَقعَدِكَ من النارِ، قَد أَبدَلَكَ اللهُ بِهِ مقعدًا من الجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، ويُفسَحُ لَهُ فِي قَبرِهِ، وَأَما المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لا أَدرِي، كُنتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ الناسُ. فَيُقَالُ: لا درَيتَ وَلا تَلَيتَ، وَيُضرَبُ بِمَطَارِقَ من حَدِيدٍ ضَربَةً، فَيَصِيحُ صَيحَةً يَسمَعُهَا مَن يَليهِ غَيرَ الثقَلَينِ" (¬1). 2 - علاقات مشروطة: وهذه العلاقات مشروطة مثلًا بمجالس الذكر والعبادة. قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] وذلك لأن الملائكة تشهد هذه الصلاة. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلهِ مَلاِئكَةً يَطُوفُونَ فِي الطرُقِ، يَلتَمِسُونَ أَهلَ الذكرِ، فإذا وجَدوا قومًا يَذكُرُونَ الله تَنَادَوا: هَلُموا إِلَى حَاجَتِكُم. قال: فَيحُفُّونَهُم بِأجنِحَتِهِم إِلَى السمَاءِ الدنيَا. قال: فَيَسألُهُم رَبهُم -وَهُوَ أَعلَمُ مِنهُم-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وُيكَبِّرُونَكَ وَيحمدونَكَ وَيمَجِّدُونَكَ قال: فيقُولُ: هَل رَأَونِي؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1374 - فتح) في كتاب الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، ومسلم (2870) في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.

قال: فَيَقُولُونَ: لا وَاللهِ مَا رَأَوكَ. قال: فَيقُولُ: وَكَيفَ لَو رَأَونِي؟ قال: يَقُولُونَ: لَو رَأَوكَ كَانُوا أَشدَّ لَكَ عِبَادةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمجِيدًا وَتَحمِيدًا، وَأكَثَرَ لَكَ تَسبِيحًا. قال: يَقُولُ: فَمَا يَسألُوني؟ قال: يَسألُونَكَ الجَنةَ. قال: يَقُولُ: وَهَل رَأَوهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوهَا. قال: يَقُولُ: فَكَيفَ لَو أَنَّهُم رَأَوهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لو أنهُم رَأَوهَا كَانُوا أَشَد عَلَيهَا حِرصاً، وَأَشَد لَهَا طَلَباً، وَأَعظَمَ فِيهَا رَغبَةً. قال: فَمِمَّ يَتَعَوذونَ؟ قال: يَقُولُونَ مِنَ النار. قال: يَقُولُ: وَهَل رَأَوهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوهَا. قال: يَقُولُ: فَكَيفَ لو رَأَوهَا؟ قال: يقُولُونَ: لو رَأَوهَا كَانُوا أَشَد مِنهَا فِرَاراً، وَأَشَد لَهَا مَخَافَةً. قال: فَيَقُولُ: فأشهِدُكم أَنِّي قَد غفَرتُ لَهُم. قال: يَقُولُ مَلَكٌ من المَلاِئكَةِ: فِيهِم فلُان لَيسَ مِنهُم إِنمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قال: هُم الجُلَسَاءُ لا يَشقَى بِهِم جَلِيسُهُمْ" (¬1). وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اجتَمَعَ قَوم فِي بَيتٍ من بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى، يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيتَدارَسُونَهُ بَينَهُم، إِلا نَزَلَت عَلَيهِم السكِينَةُ، وَغشِيَتهُم الرحمَةُ، وَحَفتهُم المَلاِئكَةُ، وَذَكَرَهُم الله فِيمَنَّ عِندهُ" (¬2). عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الملائكة تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُم مَا دَامَ فِي مَجلِسِهِ، تَقُولُ: اللهُم اغفِر لَهُ، اللهم ارحَمهُ، مَا لَمْ يُحدِث، وَأَحَدُكم في صلاةٍ كَانَت الصلاة تَحبِسُه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (11/ 208 - 209 - فتح)، ومسلم (2689) في كتاب الذكر والدعاء. (¬2) أخرجه مسلم (2699) في كتاب الذكر والدعاء، وأبو داود (1455). (¬3) أخرجه مسلم (649) في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة.

علاقات المحبة

عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُل بَابٍ من أبوَابِ المسجِدِ المَلاِئكَةُ يَكتُبُونَ الأولَ فَالأَولَ، فإِذا جَلَس الإمَامُ، طَوَوا الصحُفَ وَجَاءوا يَستَمِعُونَ الذكرَ" (¬1). 3 - علاقات المحبة: وهذه علاقة الحب بين الملائكة وبين المؤمنين ولا ندري ماهية هذا الحب، ولكن هذه الصفة في الملائكة ثابتة، فهذه الملائكة المكرمة العظيمة تحب المؤمنين وتكره الكفار أعداء الله، وتبغضهم. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا أَحَب الله العَبدَ، نَادَى جِبرِيلَ: إِن اللهَ يُحب فُلانًا فَأحبِوهُ، فَيحِبهُ جِبرِيلُ فَيُنَادِي جِبرِيلُ فِي أَهلِ السمَاءِ: إِن الله يحب فُلانًا فَأحِبوهُ، فَيحِبهُ أَهلُ السمَاءِ، ثُم يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأرْضِ" (¬2). هذا بالنسبة إلى المؤمنين، أمَّا الكفار فهناك عداء، فالملائكة تعادي أعداء الله في الدنيا والآخرة، ومن الأدلة ما أخبر الله سبحانه أنه أنزل طائفة من خيرة الملائكة في غزوة بدر، وأنه سبحانه قال لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3211 - فتح) في كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. (¬2) أخرجه البخاري (3209 - فتح) في كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2637) في كتاب البر والصلة، باب: إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده.

ومن دلائل هذا الحب: أ- الدعاء للمؤمنين: قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر7: 9]. وقال سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلًا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} [الشورى: 5]. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]. والصلاة من الله سبحانه علي عباده عند الملائكة الثناء عليهم، وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار لهم. ب- محبتهم لطلاب العلم: عن صَفوَانَ بنِ عَسَّالٍ المُرَادِي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المَلائكَةَ لتَضَعُ أَجنِحَتَهَا لِطَالِبِ العلمِ؛ رِضًا بِمَا يَطلب" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (4/ 239، 240، 241)، والترمذي (2387)، وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ومعنى وضع الجناح حضور مجلسه، وقيل: توقيره وتعظيمه، وإعانته على بلوغ مقاصده، أو قيامهم في كيد أعدائه وكفايته شرهم، أو تواضعها ودعاؤها له. وهذا دليل على حب الملائكة لطالب العلم وأولياء الله، والسائرين في طريق الله تبارك وتعالى. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُم مَا دامَ فِي مُصَلاهُ الذِي صلَّي فِيهِ، مَا لَم يُحدِث، تَقُولُ: اللهُم اغفِر لَهُ، اللهم ارحَمهُ" (¬1). ج- القتال مع المؤمنين وتثبيتهم في الحرب: قال -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران123: 125]. وهذا الإمداد إنما هو تثبيت المؤمنين والمحاربة معهم؛ قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (445 - فتح) في كتاب الصلاة، باب: الحدث في المسجد.

د- دعاؤهم على من يؤذي المؤمن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدةٍ، فَإِنَّ المَلائكَةَ تَلعَنُهُ، وَإِن كانَ أَخَاهُ لأبِيهِ وَأُمه" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن سبَّ أَصحَابي، فَعَلَيهِ لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والنَّاسِ أَجمَعين" (¬2). هـ- تبشير المؤمنين عند الاحتضار: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)} [فصلت30: 31]. و- ظل الملائكة على الشهيد: عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قال: لَما قُتِلَ أَبِي جَعَلتُ أَكشِفُ الثَّوبَ عَن وَجهِهِ، أَبكِي وَينهَونِي عَنهُ، وَالنبِي - صلى الله عليه وسلم - لا يَنهَانِي، فَجَعَلَت عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبكِي، فقال النبِي - صلى الله عليه وسلم -: "تَبكِينَ أَو لا تَبكِينَ، مَا زَالَت المَلاِئكَةُ تُظِلُّهُ بِأجنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعتُمُوه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2616) في كتاب البر والصلة، باب: النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، وانظر "صحيح الجامع" (6035). (¬2) حسن. أخرجه الطبراني (12/ 142)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" بمجموع طرقه (2340). (¬3) أخرجه البخاري (1244 - فتح) في كتاب الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج.

كل هذه الآيات والأحاديث تروم غاية واحدة، وهي وجوب الإيمان بالملائكة، وأن يتولاهم بالحب والتوقير، ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، بل ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة أن يستشعر وجودهم معه يرونه ويراقبون أفعاله، وإِنك لتعجب عند كثير من الناس أنهم إذا استشعروا أن أحدًا ينظر إليهم فإنهم يسيرون في طريق مستقيم، كآلة المراقبة في الطرق التي تراقب المراكب المسرعة، فإنهم يقللون من السرعة، وإذا تجاوزوها عادوا إلى السرعة، أولا يستشعر هؤلاء بأن الملائكة معهم {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار11: 12] وذلك في كل وقت من ليل أو نهار. ***

الأدب مع الملائكة

الأدب مع الملائكة المؤمن من يُحسن الأدب مع الملائكة الكرام، ومن الأدب معهم: 1 - محبتهم: ومن الأدب مع الملائكة محبتهم، خاصة عندما نسمع عن فعلهم في الجنة من خلال الآيات البينات، مثل قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد 23: 24]. فالملائكة تحب المؤمن، وتهش له، وتفرح إذا رجع إلى الله تبارك وتعالى، بل وتتسابق في إيصال الأعمال الطيبة إلى الله. ورفعها، كما في الحديث عن رفاعة بن رافعٍ الزُّرَقِيّ، قال: كُنا يَوماً نُصَلي وَرَاءَ النِّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَفَعَ رَأسَهُ من الركعَةِ قال: "سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِده" قال رَجُلْ وَرَاءهُ: رَبنَا وَلَكَ الحمدُ حَمداً كَثِيراً طَيباً مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انصَرَفَ قال: "من المُتَكَلمُ"؟ قال: أَنَا. قَالَ: "رَأَيتُ بِضعَةً وَثَلاِثينَ مَلَكاً يَبتدرُونَهَا أَيهُم يَكتبهَا أَوَّلُ" (¬1). فهم يسرعون فرحين جداً أن إنساناً ذكر الله سبحانه ذكراً بليغاً. فإذاً كيف لا نحبهم وهم الذين يدعون لنا: عند زيارتنا للمرضي، وعندما نصلى في الصف الأول، وعندما نسد الفرج بين الصفوف في الصلاة، وعندما نتسحر، وعندما نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ كيف لا نحب من يشاركنا العبادة لله تعالى وهم الذين يدافعون عن المؤمنين؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 340)، والبخاري (796 - فتح) في كتاب الأذان، باب: فضل اللهم ربنا لك الحمد.

البعد عن إيذائهم

2 - البعد عن إِيذائهم: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكَلَ من هَذهِ البقلَةِ -البَصَلَ وَالثومَ وَالكراتَ- فَلا يَقرَبَن مَسجدنَا، فَإن المَلاِئكَةَ تَتَأذى مِما يَتَأذى مِنهُ بَنُو آدم" (¬1). فالملائكة الكرام تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فعلينا أن نبتعد عن هذا الخلق السيء تجاه الملائكة، والعاقل من وقف عند النص. ومن صور الإِيذاء: البصق عن اليمين في الصلاة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عَن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا قَامَ أَحَدُكم إِلَى الصلاة فَلا يَبصُق أَمَامَهُ، فَإِنمَا يُنَاجِي اللهَ مَا دامَ فِي مُصَلاهُ، وَلا عَن يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَن يَمِينِهِ مَلَكًا، وَليَبصُق عَن يَسَارِهِ، أَو تَحتَ قَدمِهِ فَيَدفِنُهَا" (¬2). 3 - البعد عن الذنوب والمعاصي: ومن الخلق الحسن مع الملائكة البعد عن الذنوب والمعاصي، وعدم إبعاد ملائكة الرحمة عنا، فعلى العاقل أن يحرص على بقاء ملائكة الرحمة معه، فلا يحرم نفسه من مخالطة الملائكة ومجالستهم ودعائهم له، ودخولهم بيته بهذه المنكرات مثل الكلب خاصة، وكذلك تعليق الصور، فالملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله تعالى، أو التي فيها ما يكرهه الله سبحانه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (563) في كتاب المساجد، باب: نهي من أكل ثوما أو بصلًا. (¬2) أخرجه البخاري (416 - فتح) في كتاب الصلاة، باب: دفن النخامة في المسجد.

عن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدخُلُ المَلاِئكَةُ بَيتًا فيهِ كَلب وَلا صُورَة" (¬1). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصحَبُ الملائكة رُفقَةً فِيهَا كَلب وَلا جَرَس" (¬2). عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثةُ لا تَقرَبُهم الملائكةُ: الجُنُب، والسكرانُ، والمتَضمِّخُ بالخَلوق" (¬3). عن عمَّار بن ياسرِ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن المَلائكَةَ لا تَحضُرُ جَنَازَةَ الكَافِرِ بِخَيرٍ" (¬4). الخلاصة: لا شك أن هذه الرابطة القلبية التي تربط المؤمن بالملائكة، والالتقاء علي عبادة الله وحده -سبحانه وتعالى-، فالمؤمن يشعر أن كلا من عباد الله، وكل من سار في طريقة هو حبيب له، وقريب منه، والملائكة هم عباد الله -تبارك وتعالى-، والقائمون بأمره، والذين لا يعصونه، فهم أولى الناس بحب المؤمن، ولا شك أن المؤمن إذا أحبه الله -تبارك وتعالى-، وحبب فيه ملائكته يشعر بأنه في عالم مؤنس، فبعد أنسه ورضاه ومحبة الله يشعر أن هناك من مخلوقات الله -عز وجل- من يحبه، ومن يأنس به، فهذا لا شك أنه عبد سعد بلقاء الملائكة وبمجالستهم وبدعائهم له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3225 - فتح) في بدء الخلق، ومسلم (2106) في اللباس والزينة. (¬2) أخرجه مسلم (2113) في كتاب اللباس والزينة. (¬3) صحيح. أخرجه البزار (2929 - كشف)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1804). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (4/ 320)، وأبو داود (4176).

الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم مملوء بدعوة العقلاء إلى الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويشعر المسلم في قرارة نفسه بوجوب الأدب الكامل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فما أروع الأدب، وما أجل شأن المتأدبين، فالأدب هو: استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً (¬1). وقال ابن منظور: "سمي أدبًا؛ لأنه يأدبُ الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح" (¬2). والأدب مع الله تعالى، والأدب مع ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو: الدين كله. وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقله أدبه: عنوان شقاوته وبواره (¬3). وقسّم العلماء الأدب إلى ثلاثة أقسام: 1 - أدب مع الله سبحانه وتعالى. 2 - وأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه. 3 - وأدب مع خلْقِه" (¬4). فالأدب مع الله تعالى أعلى المراتب، والعاقل: من يكون خُلُقه وأدبه ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (10/ 400). (¬2) "لسان العرب" (1/ 60). (¬3) "مدارج السالكين" (2/ 368). (¬4) "مدارج السالكين" (2/ 356).

مع الله تعالى عاليًا وهو أصل كلّ أدب، بل لا يتصف أحد بأدَبٍ إن عُدِمَ الأدب مع الله. والأدب مع الله سبحانه هو حُسن الانقياد معه بإيقاع كل حركة على مُقتَضَى تعظيمه وإجلاله، والحياء منه، وهذا يشمل: القلب، واللسان، والأركان. أما الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد أخل كثير من الناس بواجبهم تجاهه، بل هم يرون الغارات تشن وبشكل مستمر ومبرمج من اليهود والنصاري ومن لا خلاق له، ولا يحركون ساكناً، فقد دَأَبَ أعداءُ اللهِ يملائون الصحف والمنتديات الإلكترونية والكتب المدرسية الغربية بسمومهم وهجومهم الموبوء وإِساءاتهم المتكررة، ولا زالوا منذ البعثة إلى يومنا هذا يتعاونون على الإثم والعدوان على رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -. وقد كشف الله سبحانه حقيقتهم في القرآن الكريم، وفضح حقدهم الدفين في الصد عن شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين. قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال: 36]. وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8].

"فليس عبثاً أن يضج العالم في جميع أطرافه لرجل ما عرفت البشرية مثله، وما مشى على أرضها أطهر منه خلقاً، ولا أنصح تاريخاً، وأنقى سيرة، وأصفى سريرة" (¬1). أيها المسلمون الأبرار: أليس على يد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تم لنا الدين وبه ختمت الرسالات، وتأملوا كيف كنا قبل أن يبعث لنا صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164]. وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. فالتأدب معه -عز وجل- هو الدين كله، ومتابعته من حب الله سبحانه، وطاعته من طاعة الله -عز وجل-. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. بمتابعته يكون الفلاحُ والنصرُ، وتحصلُ السعادةُ والطمأنينةُ، وبمخالفتِه يكونُ الشقاءُ والذلُّ، ويعيش الإنسانُ حياة التعاسة. لذا أرشدنا الله سبحانه إلى اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسوة، وقدوة، ومثال ¬

_ (¬1) "محمد النبي الإنسان" (7) مركز بحوث الدراسات الإسلامية. جامعة أم القرى.

يحتذى به. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. كان في جميع أحواله حركة وسلوكًا قلبًا وقالبًا يمثل القرآن الكريم، فكان خلقه القرآن، ومن كان خلقه القرآن كان على خلق عظيم. فطوبى للمؤمنين الذين يستظلون بظل القرآن الكريم، وينتهجون نهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطوبى لمن يلتمسون في رحابهما أمثلةً يحتذونها، ودروسًا يعملون بها، وهديًا يسيرون في ركابه، ونورًا يهتدون به في ظلمات الدنيا من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال. فلنأخذ بلطائف خلقه، وثمار غرسه، ومواقف جهاده، وأدبه الذي أنعم الله عليه حين قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وتأمل -وفقك الله للأدب- أدب الصديق - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وقارن به سلوك الناس اليوم، وإِدعاء المحبة والمتابعة له. عن سَهلِ بنِ سعدٍ الساعِدي أَن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذهبَ إلى بني عمرِو بنِ عوفٍ ليُصلحَ بينهم، فحانتِ الصلاةُ، فجاء المؤذِّنُ إِلى أبي بكرٍ فقال: أَتُصلِّي للناسِ فأقيم؟ قال: نعم. فصلَّى أَبو بكرٍ، فجاءَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والناسُ في الصلاةِ، فَتَخَلصَ حتَّى وقفَ في الصف، فصفقَ الناسُ، وكان أبو بكرٍ لا يَلْتفتُ في صلاتهِ. فلما أكثرَ الناسُ التصفيقَ التفتَ فرأَى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأَشارَ إليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِ امكُثْ مَكانَكَ، فرفعَ أَبو بكرِ - رضي الله عنه - يدَيهِ فحمِدَ اللهَ عَلَى ماْ أَمَرَهُ به رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن ذلكَ ثم استأخَر أبو بكرٍ حتى

استوَى في الصفِّ، وَتقدمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى، فلما انصرفَ قال: "يا أبا بكرٍ ما منعَكَ أن تثبُتَ إِذ أمرتُكَ؟ " فقال أبو بكرٍ: ما كان لابنِ أَبي قُحافَةَ أن يُصليَ بينَ يدى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مالي رأَيتُكم أكَثَرتمُ التصفيقَ؟ مَن رابَهُ شيء في صلاتهِ فليُسبِّح، فإنه إِذا سبحَ التُفِتَ إِليهِ، وَإِنَّما التصفيقُ للنساء" (¬1). عن أبي رزين قال: قيل للعباس: أنت أكبرُ أو النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "هو أكبرُ وأنا ولدتُ قبله" (¬2). وعن أنس قال - رضي الله عنه -: "إنَّ أبواب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تُقرَعُ بِالأَظَافِيرِ" (¬3). وهذا الحديث غاية في الأدب والتوقير والإجلال من الصحابة الكرام. والحديث عن أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يطول، وحسبي بها مثلًا. وهذا أوان الشروع في المقصود. اللهم اجعلنا من المتأدبين مع نبيك، المقتفين أثره، المتبعين لسنته، السائرين على نهجه، والسالكين على دربه يا رب. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (684 - فتح)، ومسلم في كتاب الصلاة (421). (¬2) "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي (2/ 80). (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1080)، وفي سنده مجهولان، وله شاهد من حديث المغيرة أخرجه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 19)، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (2092).

من للرسول - صلى الله عليه وسلم - اليوم؟!

من للرسول - صلى الله عليه وسلم - اليوم؟! الكتاب العزيز مملوء بدعوة العقلاء إلى الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه الرحمه، وهو المثل، والهادي البشير، والسراج المنير. كيف لا؟ وهو - صلى الله عليه وسلم - القدوةُ الكاملةُ، والأسوةُ الحسنةُ لكل من كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ. شرح الله صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره، وأوجب طاعته، وحرم خيانته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. وأقسم الله سبحانه أنه ما قلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في سورة الضحى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى1: 3]. وما تخلف ركبُ الأمةِ اليومَ إلا يومَ أن تخلفت عن الأدبَ معه - صلى الله عليه وسلم -، وما تجرع إفرادُ الأمةِ مراراتِ البعد عن جمالِ الحياةِ وطيبِ معانيها إلا يومَ أن بعدت نفوسهم عن سيرته الرائعةِ، وعن هديه، فصاروا يركضون وراء كلِّ من أوتَى ظاهرًا من الحياةِ الدنيا، يخلعون عليه لباسَ العظمةِ والبهاء، باسمه وقوله وشخصه زعمًا وزورًا. فكم من صفيق وجه صفقوا له، وكتبوا عنه الأسفار، وتناقلوا أقواله! وكم من سفيهٍ نصَّبوه إماما يُقتدى به، فأضحى الذي أملوه سرابًا بقيعةٍ وأضغاثَ أحلام!

فالبعد عن سيرةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والاهتداء بغيره، هو مستنقع الجهل، وهُوة الضلال، وحياة الشقاء، وطاعته هداية وسعادة وفوز. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. ومع هذا الاقتداء أوجب الله سبحانه محبتهُ، وألا نقدمَ علي محبته شيئًا بل نفديه بكل شيء وندافع عنه، وأن نتأدب معه - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الرسول عليه الصلاة والسلام يباين سائر المؤمنين من أمته في عامة الحقوق فرضًا وخطرًا وغيرهما، مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس، ووجوب تعزيره وتوقيره على وجه لا يساويه فيه أحد، ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى" (¬1). وقال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه" (¬2). قلت: والمسلم الموفق، هو الذي ينصر نبيه، "والمسلم الذي لا يعيش حبُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قلبه، ولا تتبعُهُ بصيرتُهُ في عمله وتفكيره، في كل ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (235). (¬2) "أعلام الموقعين" (1/ 48).

لحظةٍ من لحظاتهِ لا يُغني عنه أبدًا التغني بسيرته، ولا صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أغلى وأعلى من مدح ربه جل وعلا له، وثنائه عليه؛ أما رفع ذكره، وأعلى قدره، وشرح صدره؟! صلوات الله وسلامه عليه" (¬1). **** ¬

_ (¬1) "كوكبة الخطب المنيفة"، للشيخ الأديب عبد الرحمن السديس، إمام الحرم المكي (1/ 148) حفظه الله تعالى.

أسباب الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -

أسباب الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولًا: أن الله سبحانه فرض الإِيمان به. وبعد أن تقرر ثبوت نبوتهِ، وصحة رسالته، وجب الإيمانُ به، وتصديقُهُ فيما جاء به. قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158]. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]. وقال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الفتح8: 9]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} [الفتح: 13]. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ الناسَ حَتى يَشهَدُوا أن لَا إِلهَ إِلاَّ الله، وَيُؤمِنُوا بِي وَبِمَا جِئتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُم عَلَى الله" (¬1). قال القاضي عياض -رحمه الله-: "والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - هو تصديق نُبُؤتهِ ورسالةِ الله لهُ، وتصديقُهُ في جميع ما جاءَ به وما قاله، ومطابقَةُ تصديقِ القلبِ بذلك شهادةَ اللسانِ بأنهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا اجتمع التصديقُ به بالقلب، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (21)، باب: الأمر بقتال الناس.

والنطقُ بالشهادةِ بذلك اللسان، ثم الإيمانُ به والتصديقُ له، كما ورد في الحديثِ نفسهِ من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أمرت أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" (¬1). وقد زاده وضوحًا في حديث جبريل؛ إذ قال: أخبرني عن الإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". وذكر أركان الإسلام، ثم سأله عن الإيمانِ فقال: "أن تؤمن بالله وملائكتهِ وكتبه ورسله" الحديث، فقد قرَّرَ أن الإيمان به محتاجٌ إلى العقدِ بالجنانِ، والإسلام به مضطرٌ إلى النطق باللسان. وهذِه الحال المحمودة التامة. وأما الحال المذمومة فالشهادةُ باللسان دون تصديقِ القلبِ، وهذا هو النفاق، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}، أي كاذبون في قولهم ذلك عن اعتقادهم وتصديقهم، وهم لا يعتقدونه، فلما لم تُصَدِّق ذلك ضمائرُهُم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فخرجوا عن اسم الإيمان، ولم يكن لهم في الآخرة حكمُهُ؛ إذ لم يكن معهم إيمان، ولحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار، وبقي عليهم حكم الإسلام، بإظهار شهادة الإسلام، في أحكام الدنيا المتعلقة بالأئمة وحكام المسلمين الذين أَحكامُهُم على الظواهر، بما أظهروهُ من علامة الإسلام؛ إذ لم يجعل للبشر سبيلٌ إلى السرائرِ، ولا أُمِرُوا بالبحث عنها، بل نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (¬1) "الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -" (2/ 3).

ثانيا: أن الله تعالى قد أوجب له الأدب - صلى الله عليه وسلم -

التحكم عليها، وذمَّ ذلك، وقال: "هلا شققت عن قلبه". ثانياً: أن الله تعالى قد أوجب له الأدب - صلى الله عليه وسلم -. الواجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ التأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "وهذا باق إلى يوم القيامةِ ولم يُنسخ، فالتقدمُ بين يدي سنتهِ بعدَ وفاتهِ كالتقدمِ بين يديه في حياتهِ، ولا فرق بينهما عند ذي عقلٍ سليم" (¬1). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [الحجرات 4: 5]. وقال -جل جلالهُ-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (3/ 367).

عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62]. وقال -جل جلالهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} [المجادلة: 12]. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح8: 9]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره، وتعزيره: نصره ومنعه، وتوقيره: إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أول درجات التعزير والتوقير" (¬1). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "والتوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام" (¬2). قلت: ومن الأدب معه توقيره حتى بعد مماته، كما لو كان بين أيدينا. قال القاضي عياض -رحمه الله-: "واعلم أن حُرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موتهِ وتوقيرهُ وتعظيمهُ لازمٌ كما كان حال حياته، وذلك عند ذكرهِ - صلى الله عليه وسلم - وذكرِ حديثهِ وسُنتهِ وسماعِ اسمهِ وسيرتهِ، ومُعاملةِ آله وعترتهِ وتعظيمِ أهلِ بيتهِ وصحابتهِ. قال أبو إبراهيم التُّجِيبي: واجبٌ على كُل مُؤمن -متى ذكرهُ، أو ذُكرَ عِندَه - أن ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (169). (¬2) "تفسير ابن كثير" (7/ 312).

ثالثا: أن الله تعالى قد فرض علي المؤمنين طاعته، ومتابعته

يخضع ويخشع ويتوقر، ويسكن من حَرَكَتِهِ، ويأخُذَ في هيبتهِ وإجلالهِ بما كانَ يأخذُ به نفسَهُ لو كان بين يديه، ويتأدبَ بما أدَّبَنا اللهُ به" (¬1). ثالثاً: أن الله تعالى قد فرض علي المؤمنين طاعتهُ، ومتابعته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد: 33]. وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. الاتباع لغة: اقتفاء أثر الماشي. وفي الاصطلاح: أن يتبع المسلم ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزمنا الله سبحانه باتباعه، ورتب على ذلك الأجر، وعلى مخالفته الوزر، والخسارة في الدارين. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. وقال -عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ¬

_ (¬1) "الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -" (2/ 40).

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وتوعَّد سبحانه الذين يقدمون محبة آبائهم وأبنائهم وأموالهم أكثر من محبته -عز وجل-، وكذلك محبة رسوله، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24]. وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عَن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قال: "مَن أَطَاعَنِي فَقَد أَطَاعَ اللهَ. وَمَن عَصَانِي فَقَد عَصَى الله. وَمَن أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَد أَطَاعَنِي. وَمَن عَصَى أَمِيرِي فَقَد عَصَانِي" (¬1). وها هم الكفار يتمنون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث لا ينفعهم التمَنِّي بعد دخولهم النار، وتقلب وجوههم فيها، وقد حكى الله عنهم ذلك. قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب: 66]. ومن وجبت طاعتهُ وحرمت مخالفتهُ، لزمَ التأدبُ معهُ في جميع الأحوالِ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2957 - فتح) ومسلم في كتاب الإمارة (1835).

رابعا: أن الله عز وجل قد حكمه فجعله إماما وحاكما

رابعًا: أن الله عز وجل قد حكَّمهُ فجعلهُ إمامًا وحاكمًا: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. وقال سبحانه: {فَلًا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وقال -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. والتأدبُ مع الإمامِ والحاكمِ تفرضهُ الشرائعُ وتقررهُ العقولُ ويحكمُ به المنطق السليمُ. خامسًا: أن الله تعالى قد فرض محبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - علي المؤمنين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حَتَّى أكُونَ أحب إليهِ من والدهِ وَوَالده والنَّاسِ أجمعينَ" (¬1). ومن وجبت محبتهُ وجبَ الأدبُ إزاءهُ ولزم التأدبُ معه، فمحبة الله سبحانه عبادة وذل وخضوع، ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حب في الله فهو تابع لمحبة الله تعالى، وعبادة له، ومن أحب نبيه لزمه الأدب معه واقتدى به، ونصره، ونشر سنته. قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "وكل محبة وتعظيم للبشر، فإنما تجوز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (15 فتح)، والنسائي في كتاب الإيمان (5013) عن أنس - رضي الله عنه -.

سادسا: ما اختصه به ربه - تبارك وتعالى - من جمال الخلق والخلق

تبعًا لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه؛ فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه، ويجلونه، لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان، ومحبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وهذه المحبة محلها القلب واللسان والجوارح. سادسًا: ما اختصَّهُ به ربه -تبارك وتعالى- من جمالِ الخَلقِ والخُلقِ، وما حباهُ بهِ من كمالِ النفسِ والذاتِ، فهو أجملُ مخلوقٍ وأكملهُ على الإطلاقِ، ومن كان هذا حالهُ كيفَ لا يجبُ التأدبُ معهُ. قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقال -عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وقال تبارك وتعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} [يس1: 4]. وكملت في نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كل الفضائل من جوامع الأقوال، ومكارم الأعمال، وتمام الخلق، وحسن الخُلق. ¬

_ (¬1) "جلاء الأفهام" (297).

سابعا: أنه سبب هدايتنا وهداية هذه الأمة بعد الله سبحانه

سابعًا: أنه سبب هدايتنا وهداية هذه الأمة بعد الله سبحانه. على المؤمن أن يتذكر فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بشكر الله سبحانه بأنه أرسل له نبيا حريصًا على أمته ولاقى في سبب هدايتها المشقة والأذى، وأخر دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. ففي سبيل الدعوة إلى الله تعالى أخرج من بلده، وقتل أصحابه، وقذف في عرضه، واتهم في عقله، وتعرض للسخرية والاستهزاء والغمز واللمز، وتعرض للقتل، ووضع له السم، بل إن السنين التي قضاها من المبعث إلى حتى مماته كانت كلها آلامًا وأحزانًا لم ينعم فيها قط، نشأ يتيمًا، وعاش مسكينًا، ومات أولاده، وحَطَمَةُ الناس، فهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو القائد والمجاهد، والقاضي، والمعلم، والإمام، والمصلح والمرشد والموجه، وكان مع ذلك في شظف من العيش، ويقوم الليل ويصوم النهار ويأسف لعدم اهتداء الناس ويحزن لذلك، ويدعو إلى الله في كل وقت حتى أتم الدين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه. ومن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته ورحمته بأمته بحجزها عن النار. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثَلي كَمَثَلِ رَجُلٍ استَوقَدَ نَارًا. فَلَما أَضَاءَت مَا حَولَهَا جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذهِ الدواب التِى فِي النَّارِ يَقَعنَ فِيهَا. وَجَعَلَ يَحجُزُهُن وَيَغلِبنَهُ فَيَتقَحمنَ فِيهَا. قَالَ: فَذلِكُم مَثَلي

وَمَثَلُكُم. أَنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عَنِ النَّارِ. هَلُم عَنِ النَّارِ. هَلُم عَنِ النَّارِ. فَتَغلِبُوني تَقَحَّمُونَ فِيهَا" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أَن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلَا قَوْلَ الله -عز وجل- فِي إِبرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، الآيَةَ. وقال عِيسَى عَلَيهِ السلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيهِ وقال: "اللهُم أُمتي أُمتِي" وَبَكَى. فقال الله عَز وَجَل: يَا جِبرِيلُ اذهب إِلَى مُحَمدٍ، وَرَبُّكَ أَعلَمُ، فَسَلهُ مَا يُبكِيكَ؟ فَأتَاهُ جِبرِيلُ عَلَيهِ الصلَاةُ وَالسلَامُ فَسَألَهُ. فَأخبَرَهُ رَسُولُ اللهِ بِمَا قال. وَهُوَ أَعلَمُ. فقال الله: يَا جِبرِيلُ اذهب إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُل: إِنَّا سَنُرضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ" (¬2). فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة من الجن والإنس أن يشكروا نعمة الله عليهم ببعثة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان به، ومحبته، وطاعته، ومتابعته، والاقتداء به، وتوقيره، وتعظيم شأنه، ووجوب النصح له، ومحبة آل بيته، ومحبة أصحابه، والصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وغير ذلك مما سيأتي ذكره لاحقاً. قلت: هذه بعضُ موجباتِ الأدبِ معهُ - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كيفَ يكونُ الأدبُ، وبماذا يكونُ؟ هذا ما سنعرفه لاحقاً بإِذن الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2284)، باب: شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان. باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وبكائه شفقة عليهم. (¬3) ينظر "هذا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - يا محب" أبو بكر الجزائري (427).

من مظاهر الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -

من مظاهر الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1 - التسليم لأمره - صلى الله عليه وسلم - وطاعته فيما يأمر أو ينهى. العاقل الموفق هو الذي يُسلم لأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويطيعه في كل ما جاء به، وينتهي عما نهى، مع عدم التقدم بين يديه في أي حكم، فلا يقدم القوانين والتشريعات البشرية على شريعته، أو تفضيل حكم غير حكمه، أو مساواته به في كل شيء. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. وقال -جل جلالهُ-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32]. وقال -عز وجل- {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} [النساء79: 80]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ

ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهُما: كتابَ الله، وسُنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض" (¬1). قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "رأس الأدب معه كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول، والتصديق، دون معارضة خيال باطل يسميه معقولًا، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وَحَّد المرسِل -سبحانه وتعالى- بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل .. ، ولقد خاطبت يوماً بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قُدر أن الرسول حي بين أظهرنا، قد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضاً علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه. فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا؟ وبأيِّ شيء نُسخ؟ فوضع ¬

_ (¬1) "صحيح". أخرجه الحاكم (1/ 93)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2937).

إصبعه على فيه وبقي باهتًا متحيرًا وما نطق بكلمة" (¬1). وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران31: 32]. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "هذِه الآية حاكمة على كل نفس من ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله" (¬2). قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل، فقال: لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله -عز وجل-، قيل له: أنت رجل سوء، وأنت ممن حذرناك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذر منك العلماء. وقيل له: يا جاهل إن الله -عز وجل- أنزل فرائضه جملة، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للناس ما أنزل إليه. قال الله -عز وجل-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. فأقام الله -عز وجل- وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - مقام البيان عنه، وأمر الخلق بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه، وقال -عز وجل-: {وَمَا آتَاكُمُ ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 365، 366). (¬2) "تفسير ابن كثير" (2/ 25).

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ثم حذرهم أن يخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال -عز وجل-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ثم فرضَ على الخلق طاعته - صلى الله عليه وسلم- في نَيِّف وثلاثين موضعًا من كتابه -عز وجل-. وقيل لهذا المعارض لسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا جاهل، قال الله -عز وجل- {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. أين تجد في كتاب الله -عز وجل- أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن العصر أربع، وأن المغرب ثلاث، وأن العشاء أربع؟ وأين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها، وما يصلحها وما يبطلها إلا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومثلها الزكاة، أين تجد في كتاب الله -عز وجل- من مائتي درهم خمسة دراهم، ومن عشرين دينارًا نصف دينار، ومن أربعين شاة شاة، ومن خمس من الإبل شاة، ومن جميع أحكام الزكاة، أين تجدها في كتاب الله -عز وجل-؟ وكذلك جميع فرائض الله -عز وجل-، التي فرضها الله جل وعلا في كتابه، لا يُعلم الحكم فيها، إلا بسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. هذا قول علماء المسلمين، من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله تعالى من الضلالة بعد الهدى" (¬1). ¬

_ (¬1) "الشريعة" (50).

وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "اعلم أن من أحب شيئًا آثره وآثرَ موافقتَهُ، وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مُدَّعيًا. فالصادق في حُب النبي - صلى الله عليه وسلم - من تَظهَرُ علامةُ ذلك عليه، وأولُهَا: الاقتداءُ به، واستعمالُ سُنتِهِ، واتباعُ أقوالِهِ وأفعالِهِ، واجتنابُ نواهيهِ، والتأدبُ بآدابهِ في عُسرهِ وُيسرهِ، ومنشطهِ ومكرهِهِ، وشاهدُ هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وإيثارُ ما شرعَهُ وحضَّ عليه على هَوَى نفسِهِ، وموافقةِ شهوتِهِ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وإسخاطُ العِبَادِ في رضي اللهِ تعالى" (¬1). وقد أحسن من قال: تَعصي الإلهَ وأنتَ تزعمُ حُبهُ ... هذا لعمري في القياسِ شنيعُ لو كانَ حُبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعُ قال القاضي عياض -رحمه الله-: "وَمُخَالفَهُ أمرِهِ وَتَبديلُ سنتهِ ضَلالٌ وَبِدعةٌ مُتَوعَّد مِنَ اللهِ عليه بالخِذلانِ والعَذَابِ" (¬2). قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ¬

_ (¬1) "الشفا" (2/ 24). (¬2) ينظر كتاب "الشفا" (2/ 16).

الصحابة والاستجابة

الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. * الصحابة والاستجابة: أ- عن أنسٍ - رضي الله عنه -: "كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طلحةَ، وكان خمرُهم يومئذٍ الفَضيخَ، فأمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنادياً ينادي: ألا إن الخمرَ قد حُرّمَت. قال: فقال لي أبو طلحةَ: اخرُج فأهرِقها، فخرجتُ فهَرَقتُها، فجَرَت في سِكَكِ المدينة (¬1). ب- وعنه أيضاً - رضي الله عنه - قال: "ما كان لنا خمرٌ غيرُ فَضِيخكم هذا الذي تُسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحةَ وفلانا وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بَلَغَكُم الخبرُ؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حُرِّمَتِ الخمرُ. قالوا: أَهرِق هذهِ القِلالَ يا أنس. قال: فما سألوه عنها ولا راجَعوها بعدَ خبرِ الرَّجل (¬2). ج- عن أَبِي أُسَيدٍ الأنصَارِي - رضي الله عنه -: أَنهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ خَارجٌ مِنَ المسجِدِ، فاختَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ في الطرِيقِ، فقال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلنسَاءِ: "استَأخِرنَ فإنه لَيسَ لَكُن أَن تَحقُقنَ الطرِيقَ، عَلَيكُن بِحَافاتِ الطرِيقِ"، فَكَانَتِ المَرأَةُ تَلصَقُ بالجِدَارِ حَتى أن ثَوبَهَا لَيَتَعَلق بالجِدَارِ من لُصُوقِها بِهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5/ 112 فتح)، ومسلم (1980). الفضيخ أن يفضخ البسر ويصب عليه الماء ويتركه حتى يغلي. (¬2) أخرجه البخاري (8/ 277 فتح)، ومسلم (3/ 1571) في كتاب الأشربة. (¬3) أخرجه أبو داود (5272)، وفي سنده شداد بن أبي عمرو وهو مجهول؛ كما في "التقريب"، ولكن الحديث حسنه الألباني في "الصحيحة" (856) من طريق آخر، والله أعلم.

الصحابة والتطبيق العملي لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -

د- عن البراء أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلى قِبَلَ بَيتِ المَقدِسِ سِتةَ عَشَرَ شَهرًا، أو سَبعَةَ عَشَر شهرًا، وكان يُعجِبُهُ أن تَكونَ قِبلَتُه قِبَلَ البَيتِ، وأنه صَلى أَولَ صَلاةِ صَلاها صَلاةَ العَصرِ، وَصَلى مَعَهُ قَومٌ، فَخَرَجَ رَجُلْ مِمن صَلى مَعَهُ، فَمَر عَلَى أَهلِ مَسجِد وَهُم راكِعونَ فقال: أشهَدُ باللهِ لَقد صَليتُ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مَكة، فَدارُوا -كما هُم- قِبَل البَيتِ (¬1). هـ- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن عبد الله بن رواحة، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: "اجلسوا"، فجلس مكانه خارجًا من المسجد حتى فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطبته، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "زادك الله حرصًا على طواعية الله تعالى وطواعية رسوله" (¬2). ولله در القائل: شرطُ المحبةِ أن توافق ما تحب ... على محبته بلا عصيانِ فإذا ادعيت له المحبة مع ... خلافك ما يحبّ فأنت ذو بهتانِ * الصحابة والتطبيق العملي لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أ- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانتِ امرأة لعمرَ تشهدُ صلاةَ الصبحِ وَالعِشاء في الجماعة في المسجدِ، فقيلَ لها: لمَ تَخرُجينَ وقد تَعلَمينَ أنَّ عمرَ يَكرهُ ذلكَ ويغارُ؟ قالت: وما يمنَعُهُ أن يَنهاني؟ قال: يمنعُهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4486 فتح). (¬2) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 257) مرسلاً، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -: أخرجه البيهقي بسند صحيح، وأخرجه من وجه آخر إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، والمرسل أصح سندًا".

قولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬1). ب- عن ابن عمر قال: سمعتُ عُمَرَ بن الخطابِ - رضي الله عنه - يقولُ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ -عز وجل- ينهاكُم أن تحلفوا بآبائكم" قال عُمَرُ: فواللهِ ما حلفتُ بها مُنذُ سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. ذَاكرًا ولا آثرًا (¬2). ج- عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعبٍ أنه تَقاضى ابنَ حَدرَدٍ ديناً كان له عليه في المسجدِ فارتفعت أصواتُهما حتى سَمِعَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخرجَ إليهما حتى كشفَ سِجفَ حُجرتهِ فنادى: "يا كعبُ". قال: لبيكَ يا رسولَ اللهِ. قال: "ضع من ديِنَك هذا"، وأومأ إليه، أي الشطر. قال: فعلتُ يا رسولَ اللهِ. قال: "قُم فاضعه" (¬3). د- عن أبي صالح السمان قال: رأيتُ أبا سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - في يومِ جُمعة يُصلي إلى شيء يَسترهُ من الناسِ، فأرادَ شابٌ من بني مُعيطٍ أن يجتازَ بينَ يديهِ فدفعَ أبو سعيدٍ في صدره، فنظرَ الشابُّ فلم يَجد مساغاً إلا بينَ يديهِ، فعادَ ليجتازَ فدفعهُ أبو سعيدٍ أشدَّ من الأولى، فنالَ من أبي سعيدٍ، ثم دَخلَ على مروانَ فشكا إليهِ ما لقِىَ من أبي سعيدٍ، ودخلَ أبو سعيدٍ خلفهُ على مَروانَ، فقال: ما لكَ ولابنِ أخيكَ يا أبا سعيدٍ؟ قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا صلى أحدُكم إلى شيءٍ يَستُرهُ مِنَ الناسِ فأرادَ أحدٌ أن يجتازَ بين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (900 - الفتح) في كتاب الجمعة. (¬2) أخرجه البخاري (6647 - الفتح)، ومسلم (1646) قوله: (ذاكرا ولا آثرا) معنى ذاكرا قائلا لها من قبل نفسي، ولا آثرًا: أي حالفا من غيري. (¬3) أخرجه البخاري (457 - الفتح)، ومسلم (1558) قوله (سجف) أي سترها.

2 - عدم رفع الأصوات فوق صوته

يدَيهِ فليَدفعه، فإن أبى فليُقاتِلهُ فإنما هو شيطانٌ" (¬1). هـ- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حَقُّ امرئٍ مُسلم، لهُ شيءٌ يُريدُ أن يُوصِيَ فيه، يبيتُ ليلتينِ، إلا وَوَصيَّتُهُ مَكتُوبةٌ عنده" (¬2). وعند مسلم قال ابن عمر: مَا مَرت على ليلَة مُنذُ سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلكَ إلا وَعِندِي وَصِيَّتي. و- عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: كُنتُ أَضربُ غُلامًا لي بالسَّوطِ، فَسَمِعتُ صوتًا من خَلفي "اعَلم أبا مسعُودٍ" فَلَم أَفهَمِ الصوتَ مِنَ الغَضَبِ. قال: فلما دنَا مِني، إذا هُوَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يقولُ: "اعلَم أَبا مَسعُودٍ اعلم أبا مَسعُودٍ" قال: فألقيتُ السوطَ من يَدِي فقال: "اعلم أبا مَسعُودٍ أن اللهَ أقدر عليكَ مِنكَ على هذا الغُلامِ" قال فقلتُ: لا أضرِبُ مَملُوكًا بَعدَهُ أَبدًا (¬3). 2 - عدم رفعَ الأصواتُ فوقَ صوتهِ. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -: ألا ترفع الأصوات فوق صوته، فإنهُ سبب لحبوطِ الأعمالِ، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سُنته وما جاء به؟ أتَرى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (509 - الفتح)، ومسلم (505). (¬2) أخرجه البخاري (2738 - الفتح)، ومسلم (1627). (¬3) أخرجه مسلم (1659) في كتاب الإيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين.

ذلك موجبًا لقبولِ الأعمالِ، ورفعُ الصوتِ فوقَ صوتهِ بل مُوجبٌ لحبوطها (¬1). ومن جميل ما يذكر في هذا الباب حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابتَ بن قيسٍ، فقال رجل: يا رسولَ اللهِ، أنا أعلمُ لكَ عِلمه، فأتاهُ فوجدهُ جالسًا في بيتهِ منكسًا رأسه. فقال: ما شأنُك؟ فقال: شرّ؛ كان يرفعُ صوتهُ فوقَ صوتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبطَ عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجلُ فأخبرهُ أنه قال كذا وكذا، [قال الراوي: موسى بن أنس]: فرجع المرةَ الآخرةَ ببشارةٍ عظيمة، فقال: "اذهب إليه فقل له: إنك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة" (¬2). تأمل خوف الصحابي من أن يحبط عمله ومحبته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وصدقه أورثه كرامة كبرى. قال الإمام الحافظ حَماد بن زَيد - رضي الله عنه -: في قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]. قال: أرى رفع الصَّوت عليه بعد موته كرفع الصَّوت عليه في حياته؛ إذا قرئ حديثه، وجب عليك أن تنصِتَ له كما تنصِتُ للقرآن يعمر" (¬3). ومن الجهلة من يرفع صوته منكرًا السنة النبوية، أو الذين تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن، متمسكين بزعمهم بالقرآن فقط، ناسين أو متناسين أن ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 367). (¬2) أخرجه البخاري (3613، 4846 - فتح) في كتاب التفسير. (¬3) "سير أعلام النبلاء" (7/ 460).

3 - أن لا يستشكل قوله - صلى الله عليه وسلم -

السنة النبوية جاءت شارحة ومفصلة ومقيدة للقرآن، كما أن السنة جاءت بأحكام جديدة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت القرآن مثله معه" (¬1). وكيف لهؤلاء الجهلة بالصلاة وكيفيتها، وأنصبة الزكاة، والحج وغير ذلك. وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمثال هؤلاء الجهلة؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُلفِيَن أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (¬2). قال الخطابي - رضي الله عنه -: "فإنه -أي النبي- يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس في القرآن ذكره" (¬3). 3 - أن لا يستشكل قولهُ - صلى الله عليه وسلم -. ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله - صلى الله عليه وسلم -، بل تستشكلُ الآراءُ لقولهِ، ولا يُعَارَضُ نَصُّه بقياسٍ، بل تُهدرُ الأقيسةُ وتُلقى لنصوصهِ، ولا يُحرفُ كلامهُ عن حقيقتهِ لخيالِ يُسميهِ أصحابُهُ معقولًا. نعم، هوَ مجهولٌ، وعن الصوابِ معزوُلٌ، ولا يُوقفُ قبولُ ما جاءَ بهِ - صلى الله عليه وسلم - على موافقةِ أحدٍ فكُلُّ هذا من قلةِ الأدبِ معهُ وهوَ عينُ الجُرأةِ (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود عن المقدام بن معدي يكرب، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2643). (¬2) صحيح. أخرجه الترمذي (2800)، وأبو داود (4605)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7172). (¬3) "معالم السنن" (4/ 298). (¬4) "مدارج السالكين" (3/ 368).

4 - مناصحته - صلى الله عليه وسلم -

4 - مناصحته - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] ومعنى قوله: {نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إذا قدموا ما يصلح حال المسلمين من قول وعمل، وأخلصوا في ذلك في السر والعلانية. عن تميمٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - أن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدينُ النَّصِيحَةُ" قُلنا: لِمَن؟ قال: "للهِ ولكتابِهِ ولرسُولِهِ ولأَئمةِ المسلِمِينَ وَعَامتِهِم" (¬1). والنصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: التصديق بنبوته وما جاء به، وأن الله أرسله إلى الإنس والجن جميعاً، ومن النصيحة لرسول الله تصديق خبره، مع الإخلاص له، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، وموازرته ونصرته وحمايته حيًا وميتًا، والاعتصام بسنته وإحياؤها بالطلب، والذب عن شريعته ونشرها، والحض عليها، والدعوة إلى الله وإلى كتابه وإلى رسوله، وإليها وإلى العمل بها، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة (¬2). قال النووي -رحمه الله-: "وأما النصيحةُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتصديقه علي الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (55). (¬2) ينظر "الشفا" (2/ 33).

5 - توقيره - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وإجلال شخصه

وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك" (¬1). قال القاضى عياض -رحمه الله-: "وأما نصيحةُ المسلمينَ لهُ بعد وفاتهِ فالتزامُ التَّوقيرِ والإجلالِ، وشدَّةُ المحبَّةِ له، والمثابَرَةُ على تعلمِ سنتهِ، والتفقهُ في شريعتِهِ، ومحبةُ آل بيتهِ وأصحابهِ، ومجانبَةُ من رغِبَ عن سنتهِ وانحرَفَ عنها، وبُغضُهُ والتَّحذيرُ منهُ، والشفقةُ على أُمتهِ، والبحثُ عن تَعَرفِ أخلاقِهِ وسيرهِ وآدابِهِ، والصبرُ على ذَلكَ" (¬2). 5 - توقيره - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وإجلال شخصه. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]. وقال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح8: 9]. قلت: وبسط الحليمي -رحمه الله- في بيان الفرق بين المحبة والتعظيم فقال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم بشرح النووي" (2/ 38). (¬2) "الشفا" (2/ 33).

"وهو باب في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره ... ، وهذِه منزلة فوق المحبة؛ لأنه ليس كل محب معظمًا، ألا ترى أن الوالد يحب ولده فيجمع بين التكريم والتعظيم، والسيد قد يحب مماليكه ولكن لا يعظمهم، والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم، فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبة فوق المحبة ... ، وإذا كان هذا هكذا فما بين العبد وسيده، والوالد وولده، فمعلوم أن حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجل وأعظم وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والإماء على أولادهم؛ لأن الله تعالى أنقذنا من النار في الآخرة، وعصم به أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا في العاجلة، فهذا إثابة لما أطعناه فيه إلى جنات النعيم، فأية نعمة توازي هذِه النعمة؟ وأية منه إلى هذا الشيء؟ ثم إنه -عز وجل- ألزمنا طاعته وتوعدنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتباعه الجنة، فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة؟ وأي درجة؟ فحق علينا القول إذًا أن نحبه ونجله ونعظمه أكثر من إجلال كل عبد سيده، وكل ولد والده" (¬1). والتوقير: يعني الإجلال والإكرام، والتشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه أي النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظموه وتفخموه (¬2). والمراد بالتعظيم عند الإطلاق كل ما سبق، وفي اللغة، ولفلان عظمةٌ عند الناس، أي حُرمه يُعظمُ لها (¬3). ¬

_ (¬1) "المنهاج في شعب الإيمان" (2/ 124). (¬2) "الصارم المسلول" (422). (¬3) "لسان العرب" (2/ 2675).

قلت: ومن أمثلة التوقير والتقدير والإجلال عند الصحابة الكرام -رضي الله عنهم جميعًا- ما يلي: 1 - عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في حديث إسلامه وفيه: "وَمَا كَانَ أَحَدٌ أحبَّ إِلَيَّ من رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا أَجَلَّ فِي عَينِي مِنهُ. وَمَا كنتُ أُطِيقُ أن أَملأَ عَينَيَّ مِنهُ إِجلالًا لَهُ. وَلَو سئلتُ أن أَصِفَهُ مَا أَطَقتُ، لأني لَم أَكُن أَملأُ عَينَيَّ مِنهُ" (¬1). 2 - عن المِسوَرِ بنِ مَخرَمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية، وفيه أن عروة بن مسعود جَعلَ يَرمُقُ أصحابَ النبَّيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعَينَيهِ، قال: فوَاللهِ ما تَنَخمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخامةً إِلا وَقعَت في كفِّ رجُلٍ منهم، فدَلكَ بها وَجهَهُ وجِلدَه، وإِذا أمرَهُم ابتَدَرُوا أمرَه، وإذا تَوَضأ كادُوا يَقتَتِلونَ على وَضُوئِه، وإِذا تَكلموا خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّونَ إِليهِ النظرَ تَعظيمًا لهُ. فرجعَ عُروةُ إِلى أصحابهِ فقال: أي قَومٍ، والله لقَد وفَدتُ علي المُلوكِ، ووَفدتُ على قَيصَرَ وكِسرَى والنجاشيّ، واللهِ إِن رأيتُ مَليكًا قطُّ يُعظِّمهُ أصحابهُ ما يعظم أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - محمدًا، واللهِ إن يَتنَخَّمُ نُخامةً إِلا وَقَعَت في كف رجُلٍ منهم فدَلَكَ بها وَجهَه وجِلده، وإذا أمرَهم ابتَدروا أمرَه، وإذا تَوَضأ كادوا يَقتَتِلونَ على وَضوئِه، وإِذا تكلموا خَفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدونَ إليهِ النظرَ تَعظيمًا له (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (121). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الشروط (2731 - فتح).

6 - موالاة من يوالي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاداة من يعادي، والرضا بما يرضى به

3 - ومِن أعجب ما قرأتُ في السيرة النبوية من جمال التوقير، وحسن التقدير: قصة نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في الهجرة، ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، قال أبو أيوب: لما نزل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السُّفْل، وأنا وأم أيوب في العُلو، فقلتُ له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره وأعظم أن كون فوقَك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: "يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت"، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحافٌ غيرها ننشف بها الماء، تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء فيؤذيه (¬1). قلت: فهل وقف العقلاء عند خوف أبي أيوب - رضي الله عنه - من تلك القطرة، وتأملها حق التأمل وأنزلها على الواقع فيرى العجب، ولا تظن أيها (القارئ) أنها اختصت بقوم كانوا فبانوا، فالحديث لك، والله المستعان. 6 - موالاةُ من يوالي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاداةُ من يعادي، والرضا بما يرضى به. قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة لابن هشام (2/ 144) بسند حسن انظر كتابنا "روائع القصص النبوي" (84).

7 - إجلال اسمه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره عند ذكره، والصلاة والسلام عليه

اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سبَّ أَصحابي، فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين" (¬1). 7 - إجلال اسمه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره عند ذكرهِ، والصلاةُ والسلامُ عليه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. عن الحسين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البخيلُ من ذكرت عنده فلم يصل علي" (¬2). قوله: "البخيل" أي الكامل في البخل؛ لأنه بخل على نفسه إذ حرمها صلاة الله عليه عشرًا؛ إذ هي صلاة واحدة، ومنع أن يكتال بالمكيال الأوفى، فهو كمن أبغض الجود حتى لا يجاد عليه، قال الفاكهاني: وهذا أقبح بخل، وأشنع شح، لم يبق بعده إلا الشح بكلمة الشهادة، وهو يقوى القول بوجوب الصلاة عليه" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رغم أنفُ رجلٍ ذكرتُ عنده فلم يُصلَّ عليَّ" (¬4). ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الطبراني (12/ 142)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" بمجموع طرقه (2340). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 201)، والترمذي (3546)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2878). (¬3) "فيض القدير" (3/ 216). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 254)، والترمذي (3545).

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "من صلى عليَّ صلاة، صلى اللهُ عليه بها عشرًا" (¬1). قلت: وكل من أحب شيئًا أكثر من ذكره، ولهج باسمه. والصلاة عليه تأكدت في مواطن كثيرة، كالتشهد في آخر الصلاة، وفي صلاة الجنازة، والخطب، وبعد إجابة المؤذن، وعند الدعاء، ويوم الجمعة، ودخول المسجد والخروج منه، وغير ذلك، وقد أوصلها العلامة ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" إلى واحد وأربعين موطنًا. وللصلاةِ والسلامِ على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صيغٌ كثيرةٌ، جمعها شيخنا ريحانة العصر الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في كتابه الفذ النفيس (صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من التكبير إلى التسليم كأنك تراها)، مع فوائد مهمة في الصلاة علي نبي الأمة، فانظرها غير مأمور. **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (384).

من سوء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -

من سوء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سوء الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر اسمه مجردًا، والواجب وصفه بالنبوة أو الرسالة، فلا تقولوا: قال محمد، أو جاء محمد، بل قولوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في لين وتواضع. قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. قال القاضي عياض -رحمه الله-: "فأوجب تعالى تعزيرهُ وتوقيرهُ، وألزمَ إكرامه وتعظيمهُ" (¬1). ومما لا يليق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اختصار الصلاة والسلام عليه عند الكتابة بلفظ - صلى الله عليه وسلم - أو (صلعم) أو (صلم)، ولا شك أن هذا تعطيل لهذه السنة، وحرمان لأجر القارئ أو السامع، والعاقل من تطلع إلى معالي الأمور ومضاعفة الأجور وتأدب مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما لا يشينه. قال ابن الصلاح -رحمه الله-: "ينبغي له (أي المسلم) أن يحافظ على كتبِهِ الصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكراره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طَلَبةُ الحديث وكتَبتُه، ¬

_ (¬1) "الشفا" (2/ 35).

8 - توقير أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة حقوقهم

ومن أغفل ذلك حُرم حظًا عظيمًا" (¬1). 8 - توقير أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة حقوقهم. وأمَّا فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تخفى على أحد، وحسبنا في ذلك. 1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33]. 2 - وقال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. 3 - وقال سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. 4 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذكركُمُ اللهَ في أهلِ بيتي" (¬2). 5 - عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬3). ***** ¬

_ (¬1) "علوم الحديث" (166). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 367)، ومسلم (2408) عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات (5999 فتح).

تحريم بغض أهل البيت

تحريم بغض أهل البيت عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيدهِ، لا يَبغُضُنا أَهلَ البيتِ أَحدٌ إلا أَدخَلَهُ الله النارَ" (¬1). قلت: فالترضي عليهم والصلاة عليهم أدب رفيع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صنيع العقلاء، ففي الصلاة فرض علينا ربنا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهل بيته الكرام رضي الله عنهم جميعاً، فمحبتهم فرض واجب، وكان السلف إذا مرَّ بذكر أحدهم وهو يصنف كتاباً -لا سيما مع الأكابر منهم- كَتَبَ: "رضي الله عنه" أو: "رضوان الله عليهم". يا أهلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكمُ ... فرضٌ من اللهِ في القرآنِ أَنزلَهُ كفاكُموا من عَظيمِ القدرِ أنكُمُ ... مَن لم يُصَلِّ عليكم لا صلاةَ لهُ (¬2) ... ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الحاكم (3/ 150)، وصححه الحاكم والألباني كما في "الصحيحة" (2488) (¬2) ينظر "استجلاب ارتقاء الغرف" للحافظ السخاوي (110).

إكرام السلف لأهل البيت

إكرام السَّلَفِ لأهل البيت * [أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -] فها هو خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يثني عليهم؛ كما روى البخاري في صحيحه أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال لعلي - رضي الله عنه -: "والذي نفسي بيده لقرابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَحب إليَّ أن أَصِل من قَرابتي" (¬1). * [عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -] وتزوج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محبةً منه لأهل البيت، وطمعًا في نسبهم الشريف. فقد خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى علي - رضي الله عنه - أم كلثوم، فقال: أنكحنيها، فقال: إني أرصدها لابن أخي عبد الله بن جعفر، فقال عمر: أنكحنيها، فوالله ما من الناس أحد يرصد من أمرها ما أرصده، فأنكحه علي، فأتي عمر المهاجرين فقال: ألا تُهنُّوني؟ فقالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ فقال: أم كلثوم بنت علي وابنه فاطمة بنت رسول الله، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ سَبَبٍ وَنسَبٍ مُنقطعٌ يومَ القيامةِ؛ إلا سببي ونسبي" (¬2). قال الحافظ ابن كثير: "فحال الشيخين (أبو بكر وعمر) -رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (3712 فتح) باب: مناقب قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) صحيح. أخرجه الحاكم (3/ 142)، والبيهقي (7/ 64)، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وصححه الألباني بمجموع طرقه، انظر "الصحيحة" (2036).

[عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -]

عنهما- هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين -رضي الله عنهما- وعن سائر الصحابة أجمعين" (¬1). * [عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -] عن عُروة بن الزبير قال: ذهبَ عَبدُ اللهِ بنُ الزبَيرِ رضي الله عنهما مَعَ أُنَاسٍ من بَنِي زُهرَةَ إِلَى عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، وَكَانَت أَرَقَّ شَيءٍ عَلَيهِم لِقَرَابَتِهِم من رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وهكذا كل الصحابة الكرام ومن اقتفى طريقهم يحبون أهل البيت، ويصلون عليهم، والشواهد في ذلك كثيرة، والآثار في حبهم وفيره". قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]: "والحق تفسير الآية بما فسرها الإمام حبرُ الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس، كما روى عنه البخاري ولا تنكر الوصاةُ بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذُرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان سلفهم، كالعباس وبنيه، ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" (7/ 190). (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا (3503 فتح) في كتاب المناقب باب: مناقب قريش، ووصلُهُ بعده دون القصد منه هنا، وقال الحافظ في "تغليق التعليق" (4/ 45): يحتمل أن يكون معطوفًا على حديث يحيى بن بكير، ويحتمل أن يكون مفردًا عنه، وهو الظاهر.

9 - الترضي على أصحابه، وأهل بيته - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بهم

وعلى وأهل بيته وذريته، رضي الله عنهم أجمعين (¬1). قال أبو الحارث -وَفقَهُ الله تعالى-: ونحن معهم نُشهِدُ اللهَ سبحانه على محبتهم والترضي عليهم وموالاتهم، ووالله ما على ظهر الأرض أهلَ بيتِ أحب إلينا منهم، فمحبتهم واجبة على كل مسلم ومسلمة وهي من أصول أهل السنة والجماعة. ولله در من قال: فلا تعدل بأهلِ البيتِ خَلقا ... فأهلُ البيتِ هم أهلُ السياده فبغضهُمُ مِنَ الأنسانِ خسرٌ ... حقيقيٌّ وحبُهُمُ عباده وقال محمد بن يوسف الشافعي: يا أهلَ بيتِ رسولِ الله حُبُّكمُ ... فَرْضُ من اللهِ في القرآنِ أَنزلَهُ كفاكُموا من عَظيمِ القدرِ أنكُمُ ... مَن لم يُصَلِّ عليكم لا صلاةَ لهُ (¬2) 9 - الترضي على أصحابه، وأهل بيته - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بهم. ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - الترضي على أصحابه، وأهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، والتأسي بهم. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]. ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" (7/ 189). (¬2) "القول البديع" (ص/ 125)، "استجلاب ارتقاء الغرف" (110) للسخاوي.

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح: 29]. هذِه الآيات الكريمة تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وتنص على رضي الله عنهم. فإنهم خيرة الناس بعد الأنبياء، وصفوة خلقه، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم الأمناء على دين الله تعالى، فهم الذين أدو لنا القرآن والسنة، وثبتت بهم حجة الله على الخلق، وهم خير أمة أخرجت للناس، فحبهم سنة، والترضي عليهم قربة، والأخذ بآثارهم فضيلة. قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "ومحبة الصحابة -رضي الله عنهم- وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). قال القاضي عياض -رحمه الله-: "واعلم أن حُرمةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَ موتهِ وتوقيرهُ وتعظيمهُ لازمٌ، كما كانَ حالَ حياتهِ، وذلك عند ذكرهِ - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثهِ وسُنتهِ وسماعِ اسمِهِ وسيرتِهِ، ومُعَاملةِ آلِهِ وعِترتهِ، وتعظيم أهلِ بيتهِ وصحابتهِ" (¬2). وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "ومن توقيرهِ - صلى الله عليه وسلم - وبرهِ وبرُّ آلهِ وذُريتهِ وأُمهاتِ المؤمنين أزواجه .. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬3). ¬

_ (¬1) "جلاء الأفهام" (297). (¬2) "الشفا" (2/ 40). (¬3) "الشفا" (2/ 47).

أ- ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه". وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الناسِ قرني، ثمَّ الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم .. " (¬1). ب- قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا أبرَّ هذِه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه" (¬3). ج- قال ابن أبي العز الحنفي: "فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات (2652)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2533). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "بيان العلم وفضله" (1810)، وينظر "الصحيحة" للعلامة الألباني (2648). (¬3) حسن. أخرجه أحمد (1/ 379)، والطيالسي (246).

خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ " (¬1). قال القاضي عياض -رحمه الله-: "وَمِن تَوقِيرِهِ وَبِرَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: توقيرُ أصحابهِ وَبرهُم ومعرفَةُ حَقِّهم، والاقتداءُ بهم، وَحُسنُ الثناءِ عليهم، والاستغفارُ لهم، والإمساكُ عما شَجَرَ بينهم، ومُعاداةُ من عاداهم، والإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة .. القادحة في أحد منهم؛ وأن يلتمس لهم في ما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج؛ إذ هم أهل ذلك، ولا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمص عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرهم، وُيسكت عما وراء ذلك" (¬2). تحريم بغض الصحابة رضي الله عنهم عن عبد الله بن مغفل المزني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله -تبارك وتعالى- ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (¬3). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ¬

_ (¬1) "شرح العقيدة الطحاوية" (531). (¬2) "الشفا" (2/ 52). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 54)، والترمذي (3862)، والبيهقي في "الشعب" (2/ 191).

10 - محبه ما يحب عليه الصلاة والسلام

سبَّ أَصحابي، فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين" (¬1). 10 - محبه ما يحب عليه الصلاة والسلام ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - محبه ما يحب - صلى الله عليه وسلم -، فقد أحب آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وخص بعضهم بالذكر، وأحب القرآن، وأحب مكة، والمدينة، وأحب جبل أحد. وتأمل كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أصحابه ويعلن ذلك أمام الملأ، ولكل من سأل، فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهُ على جيش ذات السلاسل، فأتيتهُ فقلتُ: أيُّ الناس أحبُّ إليكَ؟ قال: "عائشه" قلتُ: من الرجال؟ قال: "أبوها". قلتُ: ثمَّ من؟ قال: "عمر". فعدَّ رجالًا (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسامة أحب الناس إليَّ" (¬3). وأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا - رضي الله عنه -، والحسن والحسين -رضي الله عنهما- وكان يصرح بذلك مرارًا، وعدَّ أن من أحب عليًّا فقد أحبه، وكذلك الحسن والحسين، رضي الله عنهما. عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أحب عليًّا فقد أحبني، ومَن أحبني فقد أحب اللهَ -عز وجل-، ومن أبغضَ عليًّا فقد ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الطبراني (12/ 142)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" بمجموع طرقه (2340). (¬2) أخرجه البخاري (7/ 18 - 8/ 74 فتح)، ومسلم (2384). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 96)، والطبراني وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (942).

أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغضَ اللهَ -عز وجل-" (¬1). وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحب عليًّا (¬2). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، ويلثم هذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما. فقال: "من أحبَّهما فقد أحبَّني، ومن أبغضَهُما فقد أبغضَني". يعني الحسنَ والحسينَ رضي الله عنهما" (¬3). عن البراء - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسولَ الله واضعًا الحسنَ بنَ عليٍّ على عاتقِهِ، وهو يَقُولُ: "اللهُمَّ إِني أُحِبهُ، فَأحِبَّهُ" (¬4). وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخُذهُ والحسنَ ويقول: "اللهُمَّ إني أُحبُّهما فأحبَّهما" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الطبراني (947)، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 132): إسناده حسن، وله شاهد عند الحاكم من حديث سلمان (3/ 130)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1299). (¬2) صحيح. أخرجه الطبراني في الأوسط (346)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الثلاثة، وأبو يعلى، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله وهو ثقة، وجوَّد الألباني إسناده في "الصحيحة" (3332). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 440)، والحاكم (3/ 166)، وصححه، ووافقه الذهبي، وأورده الألباني في "الصحيحة" (2895). (¬4) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3749 - فتح)، ومسلم في فضائل الصحابة (2422). (¬5) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3747. فتح).

11 - تصديقه في كل ما أخبر به من أمر الدين والدنيا وشأن الغيب.

وعن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُسَين مِنِّي، وَأنا مِن حُسَينِ، أحَب اللهُ مَن أحَبَّ حُسَينًا، حُسَين سِبطٌ من الأَسَباط" (¬1). عن ابن مسعود قال: كان رسول الله يصلِّي والحسنُ والحسينُ يلعبانِ ويقعدانِ على ظهرهِ، فأخذَ المسلمونَ يميطونهما، فلما انصرفَ قال: "ذروهما -بأبي وأمي- من أحبني، فليحبَّ هذينِ" (¬2). ومن أحب نبيه أحب ما يحب، وأحب جميع محبوباته، وأعلن حبه محبة لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. 11 - تصديقهُ في كل ما أخبر به من أمر الدين والدنيا وشأن الغيب. ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - تصديقه في كل ما أخبر به، وهذا شأن أهل الإيمان. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما أُسري بالنبيِ إلى المسجدِ الأقصى، أصبحَ يتحدثُ الناسُ، فارتد ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدقوهُ، وسعوا بذلك إلى أبي بكرِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعمُ أنه أُسري به الليلةَ إلى بيت المقدسِ؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كانَ قال ذلك لقد صدقَ، قالوا: أو تُصدقهُ أنه ذَهبَ الليلةَ إلى بيت المقدسِ وجاء قبلَ أن يُصبحَ؟ قال: نعم، إني لأصدِّقُهُ فيما هو أبعدُ من ذلك، أصدقهُ بخبر السماءِ ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الترمذي (3775)، وابن ماجه (144)، والحاكم (3/ 177)، وصححه ووافقه الذهبي، وجوَّدَ الألباني إسناده في "الصحيحة" (1227). (¬2) صحيح. أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 305)، وصححه الألباني بشواهده كما في "الصحيحة" (4002).

في غدوةٍ أو روحةٍ، فذلك سُميَ أبو بكرٍ الصديق" (¬1). وعن عمارة بن خزيمة: أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه [حتى زاد بعضهم في السوم على ما ابتاعه به منه]، فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس، وإلا بعته، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع نداء الأعرابي، فقال: "أوليس قد ابتعُهُ منكَ"؟ قال الأعرابي: لا والله ما بعتُكَهُ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بلى قد ابتعتُهُ منكَ" فطفق [الناس يلوذون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالأعرابي، وهما يتراجعان] وطفق الأعرابي يقول: هَلُم شهيداً [يشهد أني قد بعتكه]، فقال خُزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال: "بما تشهد؟ " قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين (¬2). وفي رواية: "ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا"؟ قال: صدقتك لما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الحاكم (3/ 62)، وصححه، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في "الدلائل" (2/ 361). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه البخاري في "التاريخ"، والطبراني والحاكم، وقال الهيثمي: رجاله كلهم ثقات.

12 - نصرته والدفاع عنه

12 - نصرته والدفاع عنه. قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]. قال الشيخ السعدي: أي إلا تنصروا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فالله غني عنكم، لا تضرونه شيئًا، فقد نصره في أقل ما يكون" (¬1). وامتدح الله سبحانه المهاجرين الذين أخرجوا من مكة إلى دار الهجرة؛ لأنهم يحبون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8]. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. قلت: فالواجب على كل مؤمن ومؤمنه نصر نبيه بالدفاع عنه، والرد على كل منافق وأفاك أثيم قدر الاستطاعة، ومجاهدة المتطاولين عليه، والدفاع عن سنته وما جاء به، بالمال والنفس واللسان والقلم. ومن معاني التعزيز النصرة، كما قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وحماية عرضه - صلى الله عليه وسلم - في كونه نصرًا أبلغُ من ذلك في حق غيره؛ لأن الوقيعة في عرض غيره قد لا تضر مقصوده، بل تكتب له بها حسنات. ¬

_ (¬1) "تيسير الكريم الرحمن" (298).

13 - تحرى صحة الأحاديث ونسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم الكذب عليه، أو الزيادة على حديثه

أما انتهاكُ عرض رسول الله فإنه منافٍ لدين الله بالكلية، فإن العرض متى انُتهِكَ سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به من الرسالة، فبطل الدينُ، فقيامُ المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيامُ الدين كله، وسقوط ذلك سقوطُ الدين كله، وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له مما انتهك عرضه، والانتصار له بالقتل؛ لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله" (¬1). ومن النصرة، التمسك بسنته، والدفاع عنها، وإحياء ما مات منها، ورفض البدع بجميع صورها، والاحتجاج بالصحيح من حديثه، ورفض المكذوب والضعيف. ومن النصرة، التخلق بأخلاقه، وشمائله، والدفاع عن أهل بيته وأصحابه. 13 - تحرى صحة الأحاديث ونسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم الكذب عليه، أو الزيادة على حديثه. عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نَضَّرَ الله امرأ سمعَ منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فربَّ مُبلَّغ أوعى من سامعٍ" (¬2). وعن سمره - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حدث عني بحديثٍ يُرى أنهُ كذبٌ فهو أحدُ الكاذبِينَ" (¬3). ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (170 و171). (¬2) أخرجه أبو داود (3660)، والترمذي (2657)، وابن حبان في صحيحه، وانظر "الصحيحة" (404). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 20)، ومسلم في المقدمة (1/ 9)، وابن ماجه (39).

وعن المغيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ كَذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعدهُ من النار" (¬1). عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد لسمعته يقول: "من قال علي ما لم أَقُل؛ فليتبؤأ مقعده من النار" (¬2). عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حَدثتكُم حديثًا؛ فلا تَزيدنَّ علي" (¬3). ومن الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة حتى مع اصطلاح بعض العلماء في قولهم: (رُوي) (¬4) المشعر بالتضعيف؛ وذلك لعدم فهم هذا الاصطلاح الخاص عند أكثر الناس، فهو لا يكفي إلا مع بيان درجة الحديث بأنه ضعيف أو لا يصح؛ لأن ترك البيان يوهم بأنه مقبول وصحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في المقدمة (4). (¬2) حسن. أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 209)، وأحمد (1/ 65)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (3100). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 11)، وأورده الألباني في الصحيحة (346). (¬4) هذا اصطلاح علماء الحديث في الأحاديث التي لا يتبين فيها الصحة، قال ابن الصلاح -رحمه الله-: "إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وإنما تقول فيه: رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو بلغنا عنه كذا وكذا، أو وردَ عنه، جاء عنه، أو روى بعضهم وما أشبه ذلك، وهكذا الحكم فيما تشك في صحته وضعفه، وإنما تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ظهر لك صحته" ينظر "علوم الحديث" (94).

قال العلامة المحدث أحمد شاكر: "والذي أراهُ أن بيانَ الضعفِ في الحديث الضعيف واجبٌ في كل حالٍ؛ لأن ترك البيان يُوهم المطلع عليه أنه حديث صحيحٌ، خصوصاً إذا كان الناقلُ من عُلماءِ الحديثِ الذين يُرجَعُ إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرقَ بين الأحكام وبين فضائل الأعمالِ ونحوها في علم الأخذِ بالرواية الضعيفة، بل لا حُجة لأحدٍ إلا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديثٍ صحيحٍ أو حسنٍ" (¬1). قلت: الكذب رذيلة، وكبيرة، ومن قلة الأدب، ويعظم الكذب إذا كان في حق الله سبحانه، أو حق رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا النوع يسميه الإمام ابن تيمية -رحمه الله- تحريف التنزيل يحرفون ألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويروون الحديث بروايات منكرة (¬2). ومن الأدب عند إيراد الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرى الدقة في الألفاظ عند الأداء، وعدم التهاون في ذلك، ويطيش عقل المؤمن من تساهل بعض المتحدثين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا هيبة ولا توقير، يورد الكلام يغير فيه المعنى، ويصرفه عن الصواب، في تقليل وتسهيل، فمن أراد ذكر الحديث بالمعنى فعليه بيان ذلك بقوله: (أو كما قال). قال ابن الصلاح: "ينبغي لمن يروي حديثاً بالمعنى أن يتبعه بأن يقول: "أو كما قال، أو نحو هذا" وما أشبه ذلك من الألفاظ .. ، وإذا اشتبه على القارئ فيما يقرؤه لفظة فقرأها على وجه يشك فيه ثم قال: "أو كما قال" ¬

_ (¬1) "الباعث الحثيث" (11/ 278) تحقيق المحدث الشيخ علي بن حسن الحلبي. (¬2) "اقتضاء الصراط المستقيم" (30).

فهذا حسن، وهو الصواب في مثله" (¬1). ذكر ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" (¬2) بابًا ساق فيه آثارًا عن أبي الدرداء وأنس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم: فقد ذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه: كان إذا حدَّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم فرغ منه قال: اللهم إن لم يكن هكذا فَكَشَكلِهِ. وذكر كذلك عن أنس - رضي الله عنه - أنه: إذا حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه: حدث يومًا بحديث فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أرعد وأرعدت ثيابه، وقال: أو نحو هذا، أو شبه هذا. والعاقل من إذا ساق حديثاً يعلم أنه غاب عنه بعضه، أو شرد ذهنه في إحكام لفظه، ولم يتمكن من أدائه كما ورد، أن يقول بعد إيراده: (أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وما ذاك إلا توقيرًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم الزيادة أو التقول عليه. قلت: ومن الأمثلة لذلك حديث أسامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما"، أو كما قال (¬3). وحديث معاوية بن الحكم السُّلَمِيٌّ مرفوعاً قال: "إن هذه الصلاةَ لا يصلحُ فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآنِ" أو ¬

_ (¬1) "علوم الحديث" (192). (¬2) ينظر (1/ 339). (¬3) أخرجه البخارى في كتاب فضائل الصحابة (3747 - فتح).

كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وليس هذا فحسب، بل كان الإمام مالك -رحمه الله- يعظم وتعظيمه لحديث رسول الله، فكان إذا جلس للفقه جلس كيف كان، وإذا أراد الجلوس للحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جُدُدًا، وتعمم وقعد على منصته بخشوع وخضوع ووقار، ويبخر المجلس من أوله إلى فراغه تعظيمًا للحديث (¬2). قيد مهم: الأوراد والأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقيفيه كأذكار الركوع والسجود، أو الطعام والشراب، أو دخول المسجد والخروج منه، ونحو ذلك، فلا يجوز فيها التصرف بالزيادة أو النقص، ولو بلفظ لا يفسد المعنى، لأنها توقيفيه. عن البَراءِ بنِ عازِبٍ -رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أتيتَ مَضجَعَكَ فتَوَضأ وُضوءَكَ للصلاة، ثم اضطَجِع على شِقكَ الأيمَنِ، ثم قل: اللهمَّ أَسلمتُ وَجهي إِليكَ، وفَوَّضتُ أمري إِليكَ، وأَلجَأتُ ظَهرِي إِليكَ، رَغبةً ورهبةَ إِليكَ، لا مَلجَأ ولا مَنْجا منكَ إِلا إِليكَ. اللهم آمنتُ بكِتابكَ الذي أنزَلتَ، وبِنَبِيكَ الذي أَرسلتَ. فإن مُتَّ مِن لَيلَتِكَ فأنتَ على الفِطرةِ. واجعلهنَّ آخِرَ مما تتكلمُ به". قال: فردَّدتُها على النبيِّ، فلما بَلغتُ "اللهم آمنتُ بكتابِكَ الذي أنزلتَ" قلت: وَرسولِكَ. قال: "لا. وبنبيِّكَ الذي أرسلتَ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد (537). (¬2) ينظر "تذكرة الحفاظ" (1/ 196)، و"الشفا" (2/ 601)، "علوم الحديث" (217). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء (247)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء (2710).

14 - الاهتداء بهديه - صلى الله عليه وسلم -

وفي الحديث رد على المبتدعة الذين استبدلوا الأذكار النبوية التوقيفية كأذكار دخول المسجد والخروج منه أو الطعام والشراب، أو الركوع والسجود، وغيرها بأوراد بدعية قال شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله-: "لفظ (الرسول) أعم من لفظة (النبي)، ومع ذلك رده النبي، مع أن البراء قاله سهوًا لم يتعمده! فأين منه أولئك المبتدعة الذين لا يتحرجون من أي زيادة في الذكر، أو نقص منه؟! فهل من معتبر؟ " (¬1). قلت: كما أنه لا يجوز ابتداع ذكر معين لم يأت في الكتاب والسنة، وتفضيله واضفاء الفضيلة عليه بأنه للشفاء أو تفريج الكرب، أو للبركة أو طرد الشيطان. 14 - الاهتداء بهديه - صلى الله عليه وسلم -. الهدي هي الطريقة والسيرة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أفضل الطرق وأحسنها، وأكملها وأتمها. يقال: فلان يهدي هَديَ فلان: يفعل مثل فعله ويسير سيرته، وما أَحسن هَديَه! أي سَمتَه وسكونه. وفلان حَسنُ الهَدي والهِديةِ أى الطريقة والسيرة، وما أَحسَنَ هديَتَهُ وهَديَة أيضاً، بالفتح أي سيرته. قلت: فالهدي الطريقة التي كان يسير عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سمته وسلوكه وعبادته. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا خَطَبَ احمَرَّت عَينَاهُ، وَعَلَا صَوتُهُ، وَاشتَدَّ غَضَبُهُ. حَتَّى كَأنَّهُ مُنذِرُ جَيشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُم ¬

_ (¬1) ينظر "حاشية صحيح الترغيب" (1/ 319) الطبعة الثالثة.

وَمَسَّاكم. وَيقُولُ: "بُعِثتُ أَنا وَالساعَةُ كهَاتَينِ" وَيقرُنُ بَينَ إِصبَعَيهِ السَّبابَةِ وَالوسطَى. وَيقُولُ: "أَمَّا بَعدُ. فَإن خَيرَ الحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيرُ الهُدَى هدىَ محمد، وَشَر الأُمُورِ مُحدثاتهَا، وَكُل بِدعَةٍ ضَلَالَة .. " (¬1). قال الإمام النووي: "خير الهدى هدى محمد، أي أحسن الطرق طريق محمد - صلى الله عليه وسلم -. يقال: فلان حسن الهدى، أي الطريقة والمذهب" (¬2). عن عائشة - رضي الله عنها - قَالَت: قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَحدَثَ فِي أَمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَد" (¬3). قلت: وكل من اتخذ طريقة تخالف طريقته، فقد أضاع الهدى وضل الطريق، بل من الناس من يبتدع في دين الله، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ومنهم من يهدي بغير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحدث في دين الله ما هو رد، ولا شك أنهم دعاة على أبواب جهنم نعوذ بالله منهم. عن حذيفةَ بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: كان الناسُ يسألونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الخير، وكنتُ أسألُهُ عنِ الشرِّ مخافةَ أن يُدركَني، فقلتُ: يا رسول الله، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ؛ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". قلتُ: وهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ قال: "نعم وفيه دَخَن". قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: "قومٌ يَهدونَ بغير هَدْيي، تَعرفُ منهم وتُنكر"، قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخير من شرّ؟ قال: "نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة (867)، وأحمد (3/ 371)، والنسائي وابن ماجه. (¬2) "صحيح مسلم بشرح النووي" (6/ 154). (¬3) متفق عليه.

مَن أجابهم إليها قَذَفوهُ فيها" (¬1). ويدخل في ذلك الغلو والتنطع، والله سبحانه جعل لنا أسوة حسنة، هو رسولنا سيد الأولين والآخرين. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21] واتهم بعض المبتدعة الجهلة دعاة السنة بأنهم جامدون، وأنهم يمنعون الاحتفال بالمولد النبوي، وأن الحب الحقيقي في إحياء مولده، ونظم في ذلك قصيدة باهته نشرها في إحدى الصحف الكويتية، وكنت قد رددت عليه بما يلجم فاه، فكان المتلون يظهر لأهل السنة بأنه معتدل، يغش بذلك ضعاف العقيدة. بدعة الاحتفال بالمولد النبوي والرد على بعض المبتدعة الكلُّ يشهدُ أننا لا نرتدي ... ثوبًا يليقُ بجامدٍ مُتَبلدٍ ملأ المحافلَ بالضجيجِ تفاهةً ... يبغي النوالَ من الأعزِ الأرشدِ جعلَ الظلامَ دليلَهُ في بدعةٍ ... إذ سارَ يحثو من سوادٍ مُربدِ غشّ العيونَ بزعمهِ عن حبهِ ... والصدقُ ينفرُ من كذوبٍ مُفسدِ ما الحبُّ إلا نفحُ طيبٍ رجعهُ ... خطوٌ سديدٌ في الطريق الأرشدِ من يقتفي هدي النبيِّ محمدٍ ... يغدو مثالًا للمطيعِ المهتدي لكنَّ قومًا مدّعون لحبهِ ... دعوى جهولٍ مُبطلٍ مترددِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3606 فتح).

15 - حفظ حرمة بلده المدينة النبوية

يرمونَ أزواجَ النبيِّ بقولهِ ... لله نشكو من يقولُ ويعتدي من كان هذا قوله في المصطفى ... أنَّى له الدعوى ليومٍ مُسعدِ نسي الجهولُ كمالَ دين محمدٍ ... فأتى يروم تمامهَ بالمولدِ وانجر قوماً أخطئوا في سعيهم ... ساروا عناءً في الطريق الأنكدِ قد يحسنُ الأمرُ القبيحُ نكايةً ... وتضيقُ نفسٌ بالجميلِ الأجودِ يا داعيًا للعيدِ عيدانٍ لنا ... إن كنت متبعًا شريعةً أحمدِ إن كنت ترمي لهوهم عن شأنهم ... فلقد ظِفرتَ بالمرامِ الأبعدِ أو كنت تبغي للنهوضِ ببدعةٍ ... فاسلك لكيدك كلِّ دربٍ مفسدِ 15 - حفظ حرمة بلده المدينة النبوية، فإنها مُهَاجَرُه، ومحل إقامته، وبلد أنصاره وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد الحرام، وفيها مدفنه - صلى الله عليه وسلم -، ومدفن أصحابه الكرام. عن السائب بن يزيد قال: كنتُ قائمًا في المسجد فحصبني رَجلٌ، فنظرتُ فإذا عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - فقال: اذهب فأتني بهذينِ، فجئتُهُ بهما. قال: من أنتما -أو من أين أنتما-؟ قالا: من أهلِ الطائفِ. قال: لو كنتما من أهل البلدِ لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أخافَ أهلَ المدينة أخافَهُ اللهُ" (¬2). وعن السائب بن خلاد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم من ظلم أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (470 فتح) كتاب الصلاة. باب: رفع الصوت في المسجد. (¬2) أخرجه ابن حبان (3730 الإحسان)، وجود الألباني إسناده في "الصحيحة" (2671).

المدينة، وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرف ولا عدل" (¬1). قال القاض عياض -رحمه الله-: "ومن إعظامهِ وإكباره: إعظام جميع أسبابه، وإكرامُ مشاهدهِ وأمكنتهِ من مكة والمدينة، ومعاهدهِ، وما لمسهُ - صلى الله عليه وسلم -، أو أعُرِفَ بهِ" (¬2). وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "وجدير لمواطنَ عُمَرت بالوحيِ والتنزيلِ، وتردَّدَ بها جبريلُ وميكائيلُ، وعرجت منها الملائكةَ والروحُ، وضجت عَرَصاتُها بالتَّقديسِ والتسبيحِ، واشتملت تُربَتُها على جسد سيدِ البشر، وانتشرَ عنها من دينِ اللهِ وسُنةِ رسولهِ ما انتشر، مدارسُ آيات، ومساجدُ وصلوات، ومشاهدُ الفضائلِ والخيراتِ، ومعاهِدُ البراهين والمعجزات، ومناسكُ الدينِ، ومشاعِرُ المسلمينَ، ومواقِفُ سَيِّدِ المرسلين، وَمُتَبوأُ خَاتَمِ النبِيِّينَ" (¬3). * ومن الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زار مسجده أن يصلى فيه، ويقول عند دخوله للمسجد: اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، ثم يسلم عليه عند زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يقول: السلام عليك يا عمر. * ومن الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم تغير اسم المدينة بغير اسمها التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها بيثرب، ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الطبراني (6636)، وحسنه الألباني بما قبله. (¬2) "الشفا" (2/ 56). (¬3) "الشفا" (2/ 58).

باسم يثرب بن قانية رجل من العمالقة نزلها أو غيره، ويقال: هو أول من نزلها بعد العرب، وبه كانت تسمى قبل الإسلام، أو من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح، وأما تسميتها في القرآن بيثرب، فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فاللآئق بها المدينة أو طابة أو مما كانت تسمى من الأسماء الحسنة (¬1). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ بقريةٍ تأكل القُرى يقولون يثربَ، وهي المدينةُ تنفي الناس كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ" (¬2). عن أبي حُميدٍ - رضي الله عنه - قال: أقبلنا معَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال: "هذهِ طابة" (¬3). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله تعالى سمى المدينة طابة" (¬4). وطابة من الشيء الطيب، وقيل: لطيب رائحتها، وقيل: لطهارتها من الشرك، وقيل لطيب ساكنيها. قال الإمام النووي -رحمه الله-: "فيه استحباب تسميتها طابة، وليس فيه أنها لا تسمى بغيره، فقد سماها الله تعالى المدينة في مواضع من القرآن، وسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبة" (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (4/ 87)، وشرح صحيح مسلم للنووي (9/ 154). (¬2) أخرجه البخاري في فضائل المدينة (1871 - فتح)، ومسلم في الحج (1382). (¬3) أخرجه البخاري في فضائل المدينة (1872. فتح). (¬4) أخرجه مسلم في الحج (1385). (¬5) ينظر "شرح صحيح مسلم" للنووي (9/ 156).

ومن سنن زيارة المدينة الصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة النبوية الشريفة والواقعة بين بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره (¬1). أخي -الودود- هذه بعض مظاهر الآداب معهُ - صلى الله عليه وسلم -، فعلى كل مسلم ومسلمة الاجتهاد في أدائها كاملةً، والمحافظة عليها تامةً، ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا للتأدبِ مع نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأن يجعلنَا من أتباعه وأنصاره وشيعته، وأن يرزقنا طاعتهُ، وأن لا يحرمنَا شفاعته، وأن يحشرنا معه .. اللهم آمين. **** ¬

_ (¬1) قال الإمام الباجي في "المنتقى" (1/ 341): "قال الداودي: يحتمل أن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة فيكون من رياضها، ويحتمل أن يريد بذلك أن ملازمة ذلك الموضع والتقرب إلى الله تعالى فيه يؤدي إلى رياض الجنة كما يقال: "الجنة تحت ظلال السيوف"، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن اتباع ما يتلى فيها من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذه المعاني دون غيرها، والثاني أن يريدان ملازمته ذلك الموضع بالطاعة والصلاة يؤدي إلى رياض الجنة لفضيلة الصلاة في ذلك الموضع على سائر المواضع وهذا أبين؛ لأن الكلام إنما خرج على معنى تفضيل ذلك الموضع، ويشبه أن يكون مالك -رحمه الله- تأول فيه هذا الوجه ولذلك أدخله في باب واحد مع فضل الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة في سائر المساجد".

عن ابن عباس - رضى الله - عنه قال: لمَّا بلغ أبا ذر مبعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل، واسمع من قوله، ثم رجع فقال: رأيتُهُ يأمرُ بمكارم الأخلاق". [أخرجه البخاري (3861)، ومسلم (2474)].

الباب الثالث الأدب مع الناس

الباب الثالث الأدب مع الناس

"من أراد العلم والفقه بغير أدب، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله". [سير أعلام النبلاء 16/ 400].

[1 - الأدب مع العلماء]

[1 - الأدب مع العلماء] أدب العالم والمتعلم * من هم العلماء؟ العلماء: هم أئمة الدين، والفقه، وأهل الذكر العاملون بالوحيين من أهل السنة والجماعة على هدىَ وبصيرة ونور من ربهم. والعالم إنسان أكملته التربية، وعلوم الآلة الشرعية، فهو يحاول جاهداً أن ينقل صورته وعلمه، ونظام أحواله إلى غيره، ليكون خلفاً منه، ليسير من بعده على هدى من ربه. والعالم الحق من لا يظهر جلالة قدره ليحظى بالتقدير والتعظيم، وعلو الشأن، ولكن ليمنح غيره الطرق الصحيحة للوصول إلى حقيقة الإيمان والتقوى والخشية من الله سبحانه. * كيف يُعرف العالم؟ يعرف العالم الرباني برسوخه في العلم الشرعي، وشهادة الشيوخ له بالعلم، وثناء الناس عليه، وتمكنه من دفع الفتن والشبهات، وجهاده، وخشيته، واستعلائه عن الدنيا. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن له في الأمة لسانُ صدقٍ عام بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى" (¬1). ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (11/ 43).

التفريق بين العالم والمفكر والواعظ

* التفريق بين العالم والمفكر والواعظ: ليس كل قارئ للعلوم الشرعية يعد فقيهًا، وليس كل من ملك مكتبة كبيرة من شتى الفنون، يعتبر إمامًا، ولا كل من تخصص في العلوم الإنسانية يكون عالمًا بالشريعة والفقه، فالقراءة، والوعظ، والبلاغة شيء، والفقه والاستنباط، ومعرفة أحكام النوازل شيء آخر. فالمفكر -وربما الواعظ- لا يصدق فيهم مسمى العالم، ولا يصح أن يطلق عليهم علماء. قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "قوم انتموا إلى العلم في الظَّاهر، ولم يُتِقِنُوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ، أَوهمُوا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قَطُّ أنهم يتقرَّبون به إلى الله، لأنهم ما رأوا شيخًا يُقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رَعاعاً، غايةُ المدرِّس منهم لأن يحصل كتباً مُثَمَّنَة يَخزُنُها، وينظُر فيها يوماً ما، فيصحفَّ ما يُورده ولا يُقَرِّره، فنسأل الله النجاة والعفو" (¬1). وقال العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى-: "إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها، وهؤلاء قُراء وليسوا فقهاء، فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء إطلاق في غير محله، والعبرةُ بالحقائق لا بالألقاب، فكثير ممن يجيدون الكلام ويستميلُ العوام وهو غير فقيه، والذي يكشف هؤلاء أنَّه عندما تحصلُ نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها، فإن الخطباء والمتحمسين تتقاصر أفهامهم، ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (11/ 153).

صفات العالم وأحواله

وعند ذلك يأتي دور العلماء، فلننتبه لذلك، ونُعطي علماءنا حقهم، ونعرف قدرهم وفضلهم، ونُنزل كلًا منزلته اللائقة به" (¬1). وكان بعضهم يقول: "من أعظم البلية تَشَيُّخُ الصحيفة" أي: الذين تعلموا من الصحف" (¬2). * صفات العالم وأحواله: قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "لهذا العالم صفات وأحوال شتى، ومقامات لا بد له من استعمالها، فهو مستعمل في كل حال ما يجب عليه، فله صفة في طلبه للعلم كيف يطلبه، وله صفة في كثرة العلم إذا كثر عنده ما الذي يجب عليه فيه فيلزمه نفسه، وله صفة إذا جالس العلماء كيف يجالسهم، وله صفة إذا تعلم من العلماء كيف يتعلم، وله صفة كيف يعلم غيره، وله صفة إذا ناظر في العلم كيف يناظر، وله صفة إذا أفتى الناس كيف يفتي، وله صفة كيف يجالس الأمراء إذا ابتُلي بمجالستهم، ومن يستحق أن يجالسه ومن لا يستحق، وله صفة عن معاشرته لسائر الناس ممن لا علم معه، وله صفة كيف يعبد الله -عز وجل- فيما بينه وبينه، قد أعد لكل حق يلزمه ما يقويه علي القيام به، وقد أعد لكل نازلة ما يسلم به من شرها في دينه، عالم بما يجتلب الطاعات، عالم بما يدفع به البليات، قد اعتقد الأخلاق السَنِيَّة، واعتزل الأخلاق الدنية" (¬3). ¬

_ (¬1) "الدر الثمين في وجوب توقير العلماء" (8). (¬2) "تذكرة السامع والمتكلم" (90). (¬3) "أخلاق العلماء" (42).

أخلاق العالم

أخلاق العالم قلت: وللعالم أخلاق وآداب يجب أن يتصف بها، وهي ما يعرف بسمت العالم وشمائله، وأخلاقه التي بنبغي أن يتصف بها، فالسمت الحسن في جميع الأحوال هو المسلك الشريف والمروءة العالية. ومنها: 1 - التواضع: التواضع لغةً: مصدر تواضع أي أظهر الضَّعةَ، وهو مأخوذ من مادة (وض ع) التي تدل على الخفض، والتوَاضُعُ: التذَلُّلُ. أما في الاصطلاح: إظهارُ التنَزُّلِ عن المرتبة لمن يُرادُ تعظيمُةُ، وقيل: هو تعظيمُ مَن فوقَهُ لفضله (¬1). قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]. وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)} [الإسراء: 37]. وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا نَقَصَت صَدَقَة من مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبداً بِعَفوٍ إِلا عِزاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَد لِلهِ إِلا رَفَعَهُ الله" (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (11/ 341) للحافظ ابن حجر. (¬2) أخرجه مسلم (2588) في كتاب البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع.

عن عِيَاضِ بنِ حِمَارٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ أَوحَى إِلَيَّ أَن تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" (¬1). وعن الرَّبيعِ بن أنسٍ في قول الله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] قال: "يكونُ الغنيُّ والفقيرُ عندكَ في العلم سواء" (¬2). وعن السلفِ: "حق على العالمِ أن يتواضَعَ لله في سرِّه وعلانيته، ويحترسَ من نفسه، ويقف عما أشكلَ عليه" (¬3). قال الشاعر: تَوَاضَعْ تَكُن كالنجمِ لاحَ لِنَاظِرٍ ... على صَفَحَاتِ الماءِ وهو رَفيعُ ولا تكُ كالدُّخانِ يعلُو بنفسهِ ... إلى طَبَقَاتِ الجوِّ وهو وَضيعُ ومن روائع ما يكتب من التواضع في السيرة النبوية ما أخرج الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَجلِسُ على الأرضِ، ويأكلُ على الأرضِ، ويَعتَقِلُ الشاةَ، وُيجيبُ دَعوةَ المملوكِ على خُبزِ الشَّعيرِ" (¬4). قال الماوردي: "فَأما ما يجبُ أن يكُونَ عليه العلماءُ من الأخلاق التي بهم أَليقُ، ولهم أَلزمُ، فالتواضع ومُجانبةُ العُجبِ؛ لأن التواضعَ عطُوفٌ، والعُجبَ مُنفرٌ، وهو بكلِّ أَحدٍ قبيحٌ وبالعُلماءِ أَقبحُ؛ لأن النَّاسَ بهم يقتدُونَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2865) في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة. (¬2) أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (45) بسند لا بأس به. (¬3) "تذكرة السامع والمتكلم" (34). (¬4) صحيح بطرقه. أخرجه الطبراني في الكبير وغيره، وانظر "الصحيحة" (2125).

وكثيرًا ما يُداخلهم الإعجَابُ لتوحدهم بفضيلة العلم، ولو أَنهم نظرُوا حقّ النظرِ، وعملُوا بمُوجب العلم، لكَان التواضعُ بهم أَولى، ومُجانبةُ العُجبِ بهم أَحرى؛ لأن العُجب نقص يُنافي الفضل. قال بعضُ السلف: من تكبر بعلمه وترفع، وضعهُ اللهُ به، ومن تواضع بعلمه، رفعهُ به. وعلَّةُ إعجابهم انصرافُ نظرهم إلى كثرة من دُونهم من الجُهَّال، وانصرافُ نظرهم عمن فوقهم من العُلماء؛ فإنه ليس مُتناهِ في العلم إلا وسيجدُ من هو أَعلمُ منه؛ إذ العلم أكثر من أَن يُحيط به بشر؛ قال اللهُ تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] يعني في العلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] قال أَهلُ التأويل: فوق كُل ذي علمٍ من هو أعلم مِنهُ، حتى ينتهيَ ذلك إلى الله تعالى. فينبغي لمن علم أَن ينظر إلى نفسه بتقصير ما قصر فيه ليسلم من عجب ما أدرك منه. وقلَّما تجد بالعلم مُعجبًا، وبما أَدرك مُفتخرًا، إلا من كان فيه مقلًا ومقَصرًا؛ لأنهُ قد يجهلُ قدره، ويحسبُ أَنه نال بالدخول فيه أَكثره، فأما من كان فيه متوجهًا، ومِنه مستكثِرًا، فهو يعلم من بعد غايته، والعجز عن إدراك نهايته، ما يَصده عن العجب به. وقد قال الشعبيّ: العلمُ ثلاثةُ أَشبارٍ فمن نال منهُ شبرًا شمخ بأنفه وظن أَنه نالهُ. ومن نال الشبرَ الثانيَ صغرت إليهِ نفسهُ وعلِمَ أَنه لم ينله، وأَما الشبر الثالثُ فهيهَات لا يناله أَحدٌ أبداَ" (¬1). ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (113).

قلت: ومن فضل الله سبحانه على كثيرِ من العلماء تحليتهم بالفهم، والفقه في الدين، وشهرتهم بذلك بين الناس، حتى قيل في منثور الكلام: أنت ملك نفسك ما لم تُعرف، فإذا عُرفت أصبحتَ مِلكًا للناس. قال الآجري -رحمه الله-: "فإذا نَشَر الله له الذِّكرَ عند المؤمنين أنه من أهل العلم، واحتاج الناسُ إلى ما عنده من العلم، ألزم نفسَه التواضعَ للعالِم وغير العالم، فأما تواضعُه لمَن هو مثلُه في العلم فإنها محبة تنبت له في قلوبهم، وأحبُّوا قُربَه، وإذا غاب عنهم حَنَّت إليه قلوبهم، وأمَّا تواضعُه للعلماء فواجب عليه؛ إذ أراه العلمَ ذلك، وأما تواضعُه لمَن هو دونَه في العلم فشَرَفُ العلمِ له عند الله وعند أولي الألباب، وكان من صفته في علمه وصِدقه وحُسنِ إرادته، يريد الله بعلمه" (¬1). وقال الإمام الآجري -رحمه الله-: "فإذا أحبَّ مجالسةَ العلماء جالسهم بأدب، وتواضع في نفسه، وخَفَض صوتَه عند صوتهم، وساءلهم بخضوع، ويكون أكثرُ سؤاله عن علمِ ما تعبده الله به، ويخبرهم أنه فقير إلى علم ما يُسأل عنه، فإذا استفاد منهم علمًا أعلمهم أني قد أَفَدتُ خيرًا كثيرًا، ثم شكرهم على ذلك، وإن غضبوا عليه لم يَغضَب عليهم، ونظر إلى السبب الذي من أجله غضبوا عليه فرجعَ عنه واعتذر إليهم، لا يُضجرهم في السؤال، رفيق في جميع أموره، لا يناظرُهم مناظرةَ من يُريهم أني أعلمُ منكم، وإنما هِمتهُ البحثُ لطلب الفائدة منهم، مع حُسنِ التلطف لهم، لا يُجادل العلماء، ولا يُماري السفهاءَ، يُحسنُ التأني للعلماء مع توقيره لهم؛ حتى يتعلمَ ما يزداد به ¬

_ (¬1) "أخلاق العلماء" (52).

الاعتراف بالعجز

عند الله فَهمًا في دينه" (¬1). 2 - الاعتراف بالعجز: العَجزُ لغة: التعب وسلب القوة. أما في الاصطلاح: القصور عن فعل الشيءِ، وهو ضد القُدرةِ (¬2). الأصل أن الإنسان فيه صفات النقص والعجز ويقوى بقوة الله سبحانه، فإذا شمخ بأنفه، وتكبر بعلمه؛ ليصرف وجوه الناس إليه فقد هلك، ومن تواضع لله رفعه. قال بعضُ العُلماء: هلك من ترك لا أدري. وقيل للخليل بن أَحمد: بم أدركت هذا العلم؟ قال: كُنت إذا لَقِيتُ عالمًا أخَذت منهُ، وأَعطيته. وقال المنصورُ لِشَريكٍ: أَنَّى لك هذا العلمُ؟ قال: لم أَرغب عن قليلٍ أَستفيدهُ، ولم أَبخل بكثيرٍ أُفيده. على أَنَّ العلم يقتضي ما بقي منه، ويستدعِي ما تَأخرَ عنهُ، وليس للراغب فيه قناعةٌ ببعضه" (¬3). قلت: فالعلم الشرعي زينة العالم، وبالأخص علم الكتاب والسنة، وعلى كل عالم يريد أن يعلو كعبه، ويسمو قمره، ولا يغيب نجمه، ويبقى في عيون طلابه ومحبيه معظمًا أن لا يمل طلب العلم الشرعي، والميراث النبوي والعمل به، وليكن في ذاكرته دائمًا قول الله سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ ¬

_ (¬1) "أخلاق العلماء" (51). (¬2) "فيض القدير" (2/ 151)، و"المفردات" (322). (¬3) "أدب الدنيا والدين" (119).

اقتضاء العلم العمل

عَلِيمٌ (76)} [يوسف: 76]. وقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. والافتقار إلى الله سبحانه بطلب الفهم للنصوص الشرعية، والاستعاذة من علم لا ينفع مسلك العقلاء، وملجأ النبلاء، فإن الفهم من عظائم النعم. "ولا نخالك إلا حريصًا على حبل عزتك، ومرفأ جاهك ومَنجاتك، لا نحسبك إلا تواقًا للمزيد من العلم الشرعي بمختلف فنونه وأشكاله، وراغبًا أكثر في الفقه الذي هو لبُّ حياة الناس، ومَدارُ سؤالهم، وهو الفارق بين الحلال والحرام، وعلامةُ التوفيق إحسانُه واستحضارُه؛ فروعًا وأدلةً؛ ليكون المُؤتَمون بك على هُدى وبينة، لا نحسبك إلا فوق هذا" (¬1). 3 - اقتضاء العلم العمل: حلية العالم عمله بما يعلم، "وليس يغدو عالمًا من لم يكن بعلمه عاملًا"، ويقبح بالعالم مخالفة قوله فعله. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف2: 3]. قال الماوردي: "وليكن من شيمتهِ العملُ بعلمه، وحثُّ النفسِ علَى أن تَأتَمِرَ بِما يَأمُرُ بِه، ولا يَكُن مِمن قال اللهُ تعالى فيهم {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ ¬

_ (¬1) ينظر "رسائل التواصل" (10) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. الكويت.

اجتناب قول ما لا يفعل

يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. فَقَد قال قَتَادةُ فِي قوله تعالى: {وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]: يَعنِي أَنهُ عَامِل بما عَلِمَ. وكان يُقالُ: خير من القول فاعلُهُ، وخير من الصواب قائلُهُ، وخَير من العلمِ حَامِلُهُ. وقيل في منثور الحكم: لم ينتفع بعلمه من ترك العمل بِه. وقال بعضُ العلماء: ثمرةُ العلم أَن يُعمل به، وثمرةُ العمل أَن يُؤجر عليه. وقال بعضُ الصلَحَاءِ: العلمُ يَهتفُ بالعمل، فإِن أَجابهُ أَقَامَ وإلا ارتحل" (¬1). ومن مُلح ما أسند الخطيب البغدادي في السماع الدال على اقتضاء العلم العمل رواية تناقلها تسعة آباء فيها حكمة بليغة أوردتها للاستئناس فقط. قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي من حفظه، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل" (عدد الآباء تسعة) (¬2). 4 - اجتناب قول ما لا يفعل: قال الماوردي: "ثُم ليتجنَّب أَن يقُول ما لا يفعلُ، وأَن يأمُر بما لا يأتَمِرُ ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (121). (¬2) "اقتضاء العلم العمل" (40) تحقيق شيخنا العلامة الألباني، وابن عساكر في "ذم من لا يعمل بعلمه" تحقيق الشيخ المحدث علي حسن عبد الحميد (15)، وإسناده لا يخلو من مجاهيل.

عدم البخل بالعلم

به، وأَن يُسرَّ غير ما يُظهرُ، ولا يجعلُ قول الشاعر هذا: اعمل بِقَولِي وَإِن قصرت فِي عملي ... ينفعك قَولي وَلا يَضررك تقصِيرِي عذرًا له في تَقصِيرٍ يُضمِرُهُ وَإِن لم يضُر غيرهُ، فإِن إعذار النفسِ يُغريها وُيحسنُ لها مساوئها؛ فإِن من قال ما لا يفعلُ فقد مكر، ومن أمر بما لا يأتمرُ فقد خدع، ومن أَسر غير ما يظهرُ فقد نافق. وقد رُوي عن النبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قال: "المَكرُ وَالخَدِيعَةُ فِي النَّارِ" (¬1). على أَن أَمرهُ بما لا يأتَمرُ مُطرح، وإِنكارهُ ما لا يُنكرُهُ من نفسه مُستقبح، بل رُبمَا كان ذلك سَبَبًا لإغراء المأمور بترك ما أُمر به عنادًا، وارتكاب ما نهى عنهُ كيادًا" اهـ (¬2). 5 - عدم البخل بالعلم: ومن سوء الخلق البخل بالعلم، والجود بالعلم أسمى من الجود بالمال؛ لأن شرف العلم أسمى من شرف المال، ومن بخل بعلمه وكتم ما عنده، فقد ظلم نفسه، وبآء بالخسران المبين. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. ومن قرأ تراجم أهل العلم وقف على كرمهم وجودهم بالعلم ما لا يسع المجال لنقله، ومن تتبع أيام شيوخنا الفضلاء كالعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والعلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والعلامة الفقية ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" عن قيس بن سعد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6725). (¬2) "أدب الدنيا والدين" (123).

محمد بن صالح العثيمين، وجدها كلها جود بعلمهم من الصباح حتى المنام، وفي استقبال المستفتين، ووفود العلم. وسافرت يوما مع رفيق الدرب الشيخ داود العسعوسي إلى شيخنا العلامة الألباني وعندي أسئلة على أصابع اليد، وكان جواب شيخنا الألباني فيها من بعد صلاة المغرب إلى أن دخل وقت العشاء ثم قال لي: قم أذن للصلاة!. قال العلامه ابن قيم الجوزية: "ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا "نعم" أو "لا" مقتصرًا عليها. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيميه -قدس الله روحه- في ذلك أمرأ عجبًا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر جوابها مذاهب الأئمة الأربعة، إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه -رحمه الله- بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك. فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر له نظائرها ومتعلقاتها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه. وقد سأل الصحابة -رضي الله عنهم- النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المتوضئ بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فأجابهم عن سؤالهم، وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه.

نزاهة النفس

وكان خصومه -يعني شيخ الإسلام ابن تيميه- يعيبونه ويقولون: سأله السائل عن طريق مصر -مثلا- فيذكر له معها طريق مكة، والمدينة، وخراسان، والعراق، والهند، وأى حاجة بالسائل إلى ذلك؟ ولعمر الله ليس ذلك بعيب، وإنما العيب: الجهل والكبر" (¬1). قلت: والبخل، وأيُ داءٍ أدوءُ من البخل، فمن جاد بعلمه نال ثلاث فضائل: الأولى: الثواب. والثانية: أتقان الحفظ، زيادة العلم. والثالثة: نقل صورته ونظام علمه ليكون خلفا منه. وقال بعضُ الحكماءِ: خَيرُ العلماءِ من لا يُقِل ولا يُمِل. وقال بعضُ العلماءِ: كُل علمٍ كثُر على المُستمعِ ولم يُطَاوِعهُ الفهمُ ازداد القلبُ به عَمًى. وإِنمَا ينفعُ سمعُ الآذَانِ، إذا قَويَ فَهمُ القُلُوبِ فِي الأبدَانِ. 6 - نزاهة النفس: النزاهة لغة: التباعد (¬2). أما في الاصطلاح: اكتِسَابُ المَالِ من غَيرِ مَهَانَةٍ ولا ظُلمٍ، وَإِنفَاقُهُ فِي المَصَارِفِ الحَمِيدَةِ (¬3). ومن القوادح إهانة النفس توصلًا للأغراض الدنية، فالترفع عما في ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 279). (¬2) "المصباح المنير" (229). (¬3) "التوقيف على مهمات التعاريف" (695).

أيدي الناس نزاهة محمودة، فالصيانةِ العنايةُ بالنفسِ، من أن تشوبها شوائب القدح وخوارم المروءة، أو تتلوث بالعثرات، أو تتسامح بالزلات، فالريبة مذمة، فالاتكاءِ على فضيلة العلم لا يكفي، والاعتماد على ثقة الناس لا يفي. قال ابن جماعة -رحمه الله-: "أن يُنزَّه علمه عن جعله سُلمًا يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية؛ من جاهٍ، أو مالٍ، أو سمعةٍ، أو شُهرةٍ، أو خدمة، أو تقدم على أقرانه .. ، وكذلك يُنزهُه عن الطمع في رفقٍ من طلبته بمالٍ أو خدمة، أو غيرهما بسببٍ انشغالهم عليه وتردُّدهم إليه" (¬1). وقال الماوردي -رحمه الله-: "ومن آدابهم: نزاهةُ النفسِ عن شُبه المكاسب، والقناعةُ بالميسور عن كدِّ المطالب؛ فإن شُبهة المكسب إثم، وكد الطلب ذُل، والأجرُ أَجدرُ به من الإثم، والعزُّ أَليقُ به من الذُّل" (¬2). قال الماوردي -رحمه الله-: "ولعمرِي إن صِيانةَ النفسِ أَصلُ الفضائل؛ لأَنَّ من أَهمل صِيانة نَفسهِ ثقةً بما منحهُ العلمُ من فضيلتهِ، وتوكلًا على ما يلزمُ الناسَ من صيانتهِ، سلبوهُ فضيلةَ علمه، ووسموهُ بقبيحِ تبذُّله، فلم يفِ ما أَعطَاهُ العلمُ بما سلبهُ التبَذْلُ؛ لأَن القبيحَ أَتم من الجميل، والرذيلةُ أَشهرُ من الفَضيلةِ؛ لأَن النَّاس لما في طبائعهم من البغضةِ والحسدِ ونزاع المُنافسةِ تنصرفُ عُيُونُهم عن المحاسن إلى المساوئ، فلا ينصفُون مُحسِنًا، ولا ¬

_ (¬1) "تذكرة السامع والمتكلم" (36). (¬2) "أدب الدنيا والدين" (132).

الزهد في الدنيا

يُحابون مسيئًا، لا سيمَا من كان بالعلم موسومًا وإِليه منسوبًا؛ فإن زلتَهُ لا تُقالُ وهفوتهُ لا تُعذرُ؛ إما لقبح أثرها اغترار كثيرِ من النَّاسِ بها. وقد قيل فِي منثور الحكم: إن زلة العالم كالسفينة تغرقُ ويغرقُ معها خلق كثير، فهذا وجه. وإِمَّا لأَن الجُهال بذمه أَغرى، وعلى تنقُّصه أَحرى؛ ليسلُبوهُ فضيلةَ التقدم، ويمنعوهُ مُباينة التخصيصِ؛ عنادًا لما جهلُوهُ، ومقتًا لما باينوهُ؛ لأَن الجاهل يرى العلم تكَلفًا ولومًا، كما أَنَّ العالم يرَى الجهلَ تخلفًا وذمًا" (¬1). 7 - الزهد في الدنيا: الزهد لغة: في "المصباح المنير" (98) زهِدَ في الشيء وزهد عنه أيضاً زُهدًا وزَهَادة بمعنى تركه وأعرض عنه فهو زاهد، والجمع زهاد. أما في الاصطلاح: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه (¬2). وفي الحديث عن سهل بن سعد مرفوعاً: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس" (¬3). قال شيخ الإسلام: الزهد ترك مالاً ينفع في الآخرة (¬4). وقال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين (¬5). ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (55). (¬2) "مختصر منهاج القاصدين" (346) لابن قدامة المقدسي. (¬3) صحيح. أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (922). (¬4) "مدارج السالكين" (2/ 12). (¬5) "مدارج السالكين" (2/ 14).

الإخلاص في التعليم والنصح

قال ابن جَماعة الكناني: "أن يتخلق بالزهدِ في الدنيا والتقلُّل منها بقَدرِ الإمكان الذي لا يضرُّ بنفسه أو بعياله؛ فإن ما يحتاج إليه لذلك على الوجه المعتدل من القناعةِ ليس يعد من الدنيا، وأقل درجاتِ العالم أن يستقذرَ التعلقَ بالدنيا؛ لأنهُ أعلمُ الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونصبها؛ فهو أحسن بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها" (¬1). والخلاصة أن الزهد لا يعني رفض الدنيا والتجافي عنها بالكلية من طيب الطعام، أو الزواج، أو المال، "وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان -رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال .. ، ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه" (¬2). 8 - الإخلاص في التعليم والنصح: الإخلاص لغة: تنقية الشيء وتهذيبة (¬3). ¬

_ (¬1) "تذكرة السامع والمتكلم" (35). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 15). (¬3) تقدم تعريفه والمصدر.

أما في الاصطلاح: "التبري عن كل ما دون الله تعالى" (¬1). قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وقال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِن أَولَ النَّاسِ يُقضَى يَومَ القِيَامَةِ عَلَيهِ رَجُلٌ اشتُشهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فعرفه نِعَمَهُ فعرفها. قال: فما عَمِلتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلتُ فِيكَ حتَّى اشتُشهِدتُ. قَالَ: كذبت، وَلَكِنكَ قَاَتلتَ لِأَن يُقَالَ جَرِيءٌ. فقد قِيلَ. ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حتى أُلقِي فِي النَّارِ، ورَجُل تَعَلمَ العِلمَ وَعَلمَهُ وَقرَأَ القُرآنَ. فَأُتِيَ بهِ فَعَرفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفهَا. قال: فَمَا عَمِلتَ فيهَا؟ قال: تعَلمتُ العِلمَ وَعَلَّمتُهُ وَقرَأتُ فِيكَ القُرآنَ. قال: كذبت، وَلَكِنكَ تَعَلمتَ العِلمَ لِيُقَالَ عَالِم. وَقَرَأتَ القُرآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارئٌ. فقد قيلَ. ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حتى أُلقِيَ فِي النارِ" (¬2). قال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي" (¬3). وصح عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: وَدِدتُ أن الناسَ انتفعوا بهذا العلمِ وما نُسِبَ إليَّ منه شَيء. وقال المحدث سفيانُ بن عيينةَ -رحمه الله- كنتُ قد أوتيتُ فَهمَ القرآنِ، فلما قبلتُ الصُّرةَ من أبي جعفرٍ (أي المنصور) سُلِبتُهُ، نسألُ الله المسامَحَةَ (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر أيضاً "مدارج السالكين" (2/ 91)، و"المفردات" (155). (¬2) أخرجه مسلم (1905) في كتاب الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار. (¬3) "تذكرة السامع والمتكلم" (80). (¬4) "الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد" (118).

وبلغ الإمام أحمد أن الناس يدعون له، فقال: "أسال الله أن لا يجعلنا مرائين" (¬1). قال ابن قيم الجوزية: "أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم، والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم، أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عَقدُ متفرقاتها: هو إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان" (¬2). قلت: فالواجب علي كل معلم، أن يقصد بتعليمه وجه الله سبحانه، مخلصاً لله في تعلمه وتعليمه ونصحه، لا يبتغي بذلك جاهاً، ولا مالًا، ولا منصبا. "فلا إله إلا الله، كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه، وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبته، وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقاً، وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها" (¬3). فالنية هي أصل كل عمل، ولا يقبل عمل ما لم يكن خالصاً لله تعالى، فمن أحب الثناء والمدح، والشهوة الخفية، والطمع والشهرة، فقد ارتقى ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (11/ 211). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 93). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 437).

ليهوى في حفر الرياء. قال بعضُ السَّلَفِ: قُل للمرائي لا تَتعَب!! ولهذا قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبةُ المدحِ والثناءِ والطمعُ فيما عِندَ الناس، إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ، والضب والحوتُ، فإذا حدثتكَ نفسُكَ بطلب الإخلاصِ فأقبِل على الطمع أولًا فاذبحهُ بسِكين اليأسِ، وأقبِل على المدح والثناء، فازهَدْ فيهما زُهدَ عُشاقِ الدنيَا في الآخرة، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطمع والزهدُ في الثناءِ والمدح سَهُلَ عليك الأخلاصُ. فإن قلت: وما الذي يسهلُ على ذَبحَ الطَّمعِ، والزهدَ في الثناءِ والمدح؟ قلتُ: أما ذَبحُ الطمع فيُسَهِّلُه عليك عِلمُكَ يقينًا أنه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيد الله وحدَه خزائنُه لا يملكُهَا غيرُه، ولا يُؤتي العبدَ منها شيئًا سواه، فاطلبه من الله، وأما الزهدُ في الثناء والمدح، فيسهلُه عليكَ علمك أئه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه ويزينُ، ويضرُّ ذمُّه وَيشِينُ، إلا الله وحدَه، كما قال ذلك الأعرابي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ حَمدِي زَينٌ، وإنَّ ذَمِّي شَينٌ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ اللهُ عز وجل" (¬1). فازهد في مدح من لا يَزِينُكَ مَدحُه، وفي ذمِّ من لا يَشنيُك ذمُّه، وارغَب في مدحِ من كل الزين في مدحهِ، وكلُّ الشَّينِ في ذمَّه، ولن يُقدَرَ على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنتَ كمن أرادَ السفَر في ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 488) من حديث الأقرع بن حابس، والترمذي (3267) من حديث البراء، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2605).

الرفق بالمتعلمين

البحر في غَيرِ مركبٍ" (¬1). 9 - الرفق بالمتعلمين: الرفق في اللغة: لين الجانب ولطافة الفعل، وهو ضد العنف (¬2). أما في الاصطلاح: حُسنُ الانقياد لما يؤدي إلى الجميل (¬3). قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَائِشَةُ إِن اللهَ رَفيقٌ يُحِب الرفقَ، وَيعطِي عَلَى الرفقِ مَا لا يُعطى عَلَى العُنفِ، وَمَا لا يُعطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" (¬4). وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من حُرِمَ الرفقَ حُرِمَ الخَيرَ، أَو مَن يُحرَم الرفقَ يُحرَم الخَيرَ" (¬5). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الرفقَ لا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلا زَانَهُ وَلَا يُنزَعُ من شيء إِلا شَانَه" (¬6). والواجب على من يقوم بدور المعلم أن يرعى جانب الرفق، فإنه من أجمل صفات المربي، وعليه أن يتحبب إلى طلابه، فلا يعنف متعلماً، ولا ¬

_ (¬1) "الفوائد" (210). (¬2) "لسان العرب" (1/ 1549). (¬3) "التوقيف على مهمات التعريف" (370). (¬4) أخرجه مسلم (6601) في كتاب البر والصلة، باب: فضل الرفق. (¬5) أخرجه مسلم (6600) في كتاب البر والصلة، باب: فضل الرفق. (¬6) أخرجه مسلم (6602) في كتاب البر والصلة، باب: فضل الرفق.

طيب الخلق مع مجالسيه

يحقر مبتدئاً. والعنف من العالم، أو المعلم ربما أفضى بالمتعلم إلى هجر مجالس العالم بسبب القسوة، أو استصغاره للمتعلم؛ لهذا "عليه أن يحذر كل الحذر من إظهار الضيق والتبرم لأحدٍ من طلبته، فقد يحدث أن يبدر من بعض الطلبة، أو من أحد منهم سوء أدب في حق الشيخ، أو تخطئة له في مسألة ما، فيجد الشيخ عليه في نفسه ولا يغفرها له، وتكون معاملته لذلك الطالب فيها نوع جفاء، وهذا فيه محاذير شرعية كثيرة، منها أن ذلك الجفاء قد ينعكس أثره على الطالب، فيحدث له ما لا تحمد عقباه، من هجر للعلم وحلقاته، بل قد يتعدى الأمر إلى هجر الخير وأهله. وعلى هذا، فليجتهد في إصلاح خلل تلميذه بما يراه مناسباً من الطرق والأساليب [التربوية]، قاصداً الإصلاح ما استطاع، وسيجعل الله بعد عسر يسراً" (¬1). فالواجب على العقلاء معاملة الطلاب بالسهولة واللين، واللطف في القول والعمل، وإن أراد تأديبه فالرفق ما كان في شيءٍ إلا زانه (¬2). 10 - طيب الخلق مع مجالسيه: قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "وإن كان له مجلس قد عُرف بالعلم ألزم نفسَه حُسنَ المداراةِ لمَن جالسه، والرفق بمن ساءَلَه، واستعمالَ الأخلاق ¬

_ (¬1) "معالم في طريق طلب العلم" (155). (¬2) من الكتب النافعة في هذا الفصل كتاب "مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين" للشيخ صالح بن سليمان المطلق البقعاوي. طبع دار ابن الجوزي.

الجميلة، ويتجافى عن الأخلاق الدنيَّة، فأما أخلاقُه مع مجالسيه، فصبورٌ على من كان ذهنُه بطيئًا عن الفهم حتى يفهَم عنه، صبور على جفاء من جَهِل عليه حتى يردَّه بحلم، يؤدِّب جلساءه بأحسن ما يكون من الأدب، لا يَدَعُهم يخوضون فيما لا يعنيهم، ويأمرهم بالإنصات مع الاستماع إلى ما يَتطق به من العلم، فإن تَخَطَّى أحدهم إلى خُلقٍ لا يحسن بأهل العلم لم يَجبَهه في وجهه على جهة التبكيت له، ولكن يقول: لا يَحسُنُ بأهل العلم والأدب كذا وكذا، وينبغي لأهل العلم أن يتجافوا عن كذا وكذا، فيكون الفاعل لخُلُقٍ لا يَحسُن قد علم أنه المراد بهذا فيبادر برفقه به، وإن سأله منهم سائل عما لا يعنيه رده عنه، وأمره أن يسأل عمَّا يعنيه، فإذا علم أنهم فقراء إلى عِلم قد غفلوا عنه أبداه إليهم، وأعلمهم شِدَّةَ فَقرِهم إليه، لا يُعَنَّفُ السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجره فيضيع من قدره، ولكن يبسطه في المسألة ليجبُرَه فيها، قد علم بُغيته عمَّا يعنيه، ويحثه على طلب علم الواجبات من علم أداء فرائضه واجتناب محارمه، يُقبلُ على مَن يعلم أنه محتاج إلى علم ما يسأل عنه، ويترك من يعلم أنه يريد الجدل والمراء، يُقرِّبُ عليهم ما يخافون بُعدَه بالحكمة والموعظة الحسنة، يسكت عن الجاهل حِلمًا، وينشُر الحكمة نصحًا، فهذه أخلاقُه لأهل مجلسه وما شاكل هذه الأخلاق. وأمَّا ما يستعمل مع ما يسأله عن العلم والفتيا، فإنَّ من صفته إذا سأله سائل عن مسألة، فإن كان عنده علمٌ أجاب، وجعل أصله أن الجواب من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع، فإذا أوردت عليه مسألةٌ قد اختلف فيها أهلُ العلم اجتهد فيها، فما كان أشبهَ بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يخرج به

أدبه مع السلطان أو الأمير

من قول الصحابة وقول الفقهاء بعدهم، قال به إذا كان موافقًا لقول بعض الصحابة وقول بعض أئمة المسلمين قال به، وإن كان قد رآه مما يخالف به قول الصحابة وقول فقهاء المسلمين حتى يخرج عن قولهم، لم يَقُل به، واتَّهم رأيه، ووجبَ عليه أن يسأل من هو أعلم منه أو مثلُه، حتى ينكشف له الحقُّ، ويسأل مولاه أن يوفقه لإصابة الخير والحق، وإذا سُئل عن علم لا يعلمه لم يستح أن يقول: لا أعلم، وإذا سئل عن مسألةٍ فعلم أنها من مسائل الشَّغَبِ ومما يورث بين المسلمين الفتنة، استعفى منها، وردّ السائل إلى ما هو أَولى به على أرفق ما يكون، وإن أفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ، لم يستنكف أن يرجع عنها.، وإن سُئل عن مسألةٍ اشتبه القولُ عليه فيها قال: سَلُوا غيري، ولم يتكلف ما لا يتقرر عليه، يحذر من المسائل المحدثات في البدع، لا يُصغي إلى أهلها بسَمعه، ولا يَرضى بمجالسة أهل البدع ولا يُماريهم. أصلُه الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة ومن بعدهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، يأمر بالاتباع وينهى عن الابتداع، ولا يُجادل العلماءَ، ولا يُماري السفهاء" (¬1). 11 - أدبه مع السلطان أو الأمير: من النقول السديدة عن الماوردي تلك التوجيهات والآداب التي ينبغي أن يتخلق بها العالم، إذا وجد رغبة في العلم لفضيلة نفسه وكرم طبعة هذه التوجيهات التالية: ¬

_ (¬1) "أخلاق العلماء" (46 - 48).

1 - لا يجعلُ ذلكَ ذرِيعةً في الانبساط عندهُ، والإدلالِ عليه، بل يُعطَى ما يَستحقُّهُ بسُلطَانه وعُلُوِّ يده؛ فإِن للسلطان حَقَّ الطاعةِ والإعظامِ، وللعالمِ حقَّ القبُول والإكرام. 2 - لا يَنبَغِي أَن يبتدئهُ إلا بعد الاستدعاء، ولا يزيدهُ على قدر الاكتفاءِ, فرُبما أَحبَّ بعضُ العُلماء إظهار علمه للسُّلطان فأكَثرهُ، فصار ذلك ذريعةً إلى مللٍ، ومُفضِيًا إلى بُعده، فإِن السلطان مُتَقَسّمُ الأفكار، مُستوعبُ الزمان، فليس لهُ في العلم فراغ المُنقطعينَ إليهِ ولا صبر المنفردين به. 3 - وليخرج تعليمُهُ مخرج المُذاكرة والمُحاضرة لا مخرج التَّعليم والإفادة؛ لأنَّ لتأخير التعلُّمِ خجلة تقصيرٍ يُجل السلطانُ عنها، فإِن ظهر منهُ خطأٌ أَو زللٌ في قولٍ أَو عملٍ، لم يُجاهرهُ بالردّ، وعرض باستدراك زلَلهِ، وإصلاح خلله. 4 - ثمَّ ليحذر اتِّباعهُ فيما يُجانبُ الدين ويُضاد الحق مُوافقةً لرأيه ومُتابعةً لهواهُ، فرُبما زلّت أَقدامُ العُلماء في ذلك رغبةً أَو رهبةً فضلوا وأَضلوا، مع سُوء العاقبة وقُبحِ الآثار (¬1). ... ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (121).

من ثمرات الأدب مع العلماء

من ثمرات الأدب مع العلماء 1 - الأدبُ مع العلماءِ أدبٌ مع اللهِ -سبحانه وتعالى- وتعظيم لشعائرهِ؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]. 2 - وتوقيرُ حملة الشرع وحماته من توقير الله -سبحانه وتعالى-؛ قال سبحانه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13]، فكل ما يشرف بالإضافة إلى الله تعالى فإن حقه التعظيم والتوقير. 3 - بذلك جاءت السنة عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ مِنا مَن لَم يجل كَبيرنا، وَيرحَم صَغِيرَنَا، وَيعرِف لعالِمنا حَقه" (¬1). قال ابن المبارك -رحمه الله-: "حقّ على العاقلِ أن لا يستخفَّ بثلاثةٍ: العُلماءِ والسلاطين والإخوان، فإنه من استخفّ بالعلماء ذهبت آخرتُهُ، ومن استخف بالسلطانِ ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مُروءتُهُ" (¬2). 4 - أنهم خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته، والمحيون لما مات من سنته. ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد، والحاكم (1/ 122) واللفظ له، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع" (5443). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (17/ 251).

توقير العلماء من العقيدة

* توقير العلماء من العقيدة: قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: "اتفقوا على توقير أهل القرآن والإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الخليفة والفاضل والعالم، وقد بلغ من تعظيم العلماء، ووجوب صيانة تاريخ أكابر المسلمين إلى حد النص عليه في كتب العقائد، بحيث لا يخالف في ذلك إلا شاذ خارج عن الجماعة". يقول الإمام الطحاوي: "وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل" اهـ (¬1). إنهم أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، السائرون على هديه، والناهلون من علمه أهل السنة والجماعة، أصحاب العقيدة السلفية النقية. كيف لا وهم حفظة القرآن الكريم، وحملة السنة النبوية، كيف لا وهم أئمة الهدى وورثة الأنبياء، أليسوا هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتحريف، وعصمة الأمة من الانحراف والضلال في زمان الفتن، فإن المسيئ لهم والطاعن عليهم قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأن حرمتهم مضاعفة، وحقوقهم متعددة، وقد جعل الله لهم حقوق المسلم عامة، ثم لهم حقوق أخرى خاصة، فإن الله -سبحانه وتعالى- رفع المؤمنين على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر المؤمنين؛ فقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. فلهم مكانة عالية ينبغي أن تتأصل في نفوس ¬

_ (¬1) "شرح العقيدة الطحاوية" (554) المكتب الإسلامي.

توقير العالم سنة ماضية

الناشئة والطلاب، وأن يتخلق بها التلاميذ بفضل السابق على اللاحق، والسلف على الخلف، والعالم على الطالب بوجوب الأدب في توقير وإكرام. قال الشاعر: النَّاسُ في صورة التشبيه إكفَاءُ ... أبوهُمُ آدم والأمُ حَواءُ فإن يكن لهمُ في أصلهم شرف ... يفاخرون بهِ فالطينُ والماءُ مَا الفَخرُ إلا لأهلِ العِلمِ إنهُمُ ... على الهُدَى لمن استهدى أدِلاءُ وقدرُ كُل امرئٍ ما كانَ يُحسِنُهُ ... والجَاهِلُونَ لأَهلِ العِلمِ أَعداءُ ففُز بِعِلمٍ تَعِش حيًّا بهِ أبدًا ... فَالنَّاسُ مَوتى وأهلُ العِلَمِ أَحيَاءُ (¬1) * توقير العالم سنة ماضية: إن توقير العالم وهيبته من أخلاق السابقين، وسنه ماضية في الأولين. قال طاووس بن كيسان: "إن من السنة أن توقر العالم". وقال أيضاً: "من السُّنَّة أن يُوقر أربعة: العالم، وذو الشَّيبة، والسلطان، والوَالدِ" (¬2). وقال الشعبي: صلى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - على جنازة ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد: "خَلِّ عنك يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هَكذا يفعلُ بالعُلماء ¬

_ (¬1) عزاه عبد القاهر الجرجاني في "أسرار البلاغة" (197 - المكتبة العصرية) لمحمد بن الربيع الموصلي. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 137).

والكُبَراء" (¬1). وعن أبي عبد الله المعيطي قال: "رأيت أبا بكر بن عياش بمكة فأتاه سفيان بن عيينة فبرك بين يديه، فجعل أبو بكر يقول له: يا سفيان كيف أنت؟ يا سفيان كيف عيال أبيك؟ قال: فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدًا". فسبحان الله كم من الطلاب اليوم يتكلمون ويفتون والشيخ قاعد، ويجيبون والشيخ حاضر، وربما ترتفع أصواتهم وتمتد الأرجل ويتمارون ويتضاحكون والشيخ قاعد، فلا إله إلا الله، أين التوقير وأين الأدب؟ قال الناظم: وقر مشايخَ أهلِ العلم قاطبةً ... حتى تُوقَّرَ إن أفضى بك الكبرُ واخدم أكابرهم حتى تنال به ... مثلًا بمثلٍ إذا ما شارف العُمُرُ وأحسن الآخر: أفضِّل أستاذي على فَضل والدي ... وإن نالني من والدي المجدُ والشرف فهدا مُرَبي الروحِ والروحُ جوهرٌ ... وذاك مربي الجسمِ والجسمُ كالصدف ... ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (3/ 423)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 228)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 189) وأورده الحافظ في "الإصابة" (4/ 42) وصحح إسناده، وكذلك الحاكم ووافقه الذهبي.

من حقوق العلماء

من حقوق العلماء ويُروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال" (¬1). وقال الإمام الشافعي: "ما أعلم أني أخذت شيئًا من الحديث ولا القرآن أو النحو أو غير ذلك من الأشياء مما كنت أستفيد إلا استعملت فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله العلم، فازددتُ من ذلك حتى ربما كنت أكون في مجلسه فأصفِّح الورقة تصفحًا رفيقًا؛ هيبةً له لئلا يسمع وقعها". من آداب طالب العلم مع العالم لقد أكثر أهل العلم من الكلام عن أسلوب التعامل مع العالم في مجلسه والأدب معه، مما هو مذكور بتوسع في كتب آداب العالم والمتعلم، وحق لهم ذلك، ومن هذه الآداب على سبيل التمثيل: 1 - تواضع الطالب لشيخه: لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، وتواضع الطالب لشيخه رفعةٌ، وذله له عزٌّ. ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (992)، و"الجامع" للخطيب (347).

أدب الطالب في مخاطبة شيخه

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أُمِرنَا أن نتواضع لمن نتعلم منه". وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح". ولله در الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عندما ذُكرَ عنده إبراهيم ابن طهمان، وكان أحمد متكئًا من علة فاستوى جالسًا، وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ. وأحسن الناظم بقوله: وإن كريم الأصل كالغصن كلَّما ... تحمَّل أثمارًا تواضع وانحنى أخذ ابن عباس - رضي الله عنه - مع علو قدره وفضله بركاب زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -، وقال: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا" (¬1). وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى والخَضر -عليهما السلام- بقوله: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]. هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم، حتى شرط عليه السكوت، فقال: {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] (¬2). 2 - أدب الطالب في مخاطبة شيخه: من التوقير أن يراعي الطالب الأدب في مخاطبة شيخه، فلا يناديه باسمه ¬

_ (¬1) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 188). (¬2) "الجامع" (1/ 514) رقم (832) للخطيب و"تذكرة السامع والمتكلم" (91).

أدب الطالب عند سؤال شيخه

مجردًا، بل يقول: يا شيخنا، أو يا شيخي، فلا يسميه، لأنه أرفع في الأدب، وأرق في الخطاب، ولا يناديه من بُعدٍ من غير اضطرارٍ، ويخاطبه بصيغةِ الجمعِ توقيرًا، نحو؛ ما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا. واقرأ أخي -أحسن الله إليك- ما ذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلم الناس الخير - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وهذا أصل في تمييز ذي المنزلة، ويفرق بينه وبين من لم يلحق بطبقته. وقال الخطيب -رحمه الله-: "يقول: أيها العالمُ وأيها الحافظ ونحو ذلك، وما تقولون في كذا؟ وما رأيكم في كذا؟ ولا يسميه في غيبته أيضاً باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كقوله: قال الشيخ أو الأستاذ كذا" (¬1). 3 - أدب الطالب عند سؤال شيخه: من التوقير حسن المسألة، فينبغي لطالب العلم أن يلاطف الشيخ في مسألته، ويجتنب المراء، فمن حرم الرفق فاته من العلم ما يتحسر عليه، ومن تعنت في طلب الدليل لقي ما لا يسره. قال الإمام الشعبي (عامر بن شراحيل): كان أبو سلمة يماري ابن عباس - رضي الله عنه -، فحرم بذلك علمًا كثيرًا. وها هو أبُو سَلَمَةَ يعترف فيقول: "لو رفقتُ بابن عباسٍ لأصبتُ منهُ عِلمًا" (¬2). ¬

_ (¬1) "تذكرة السامع والمتكلم" (91). (¬2) حسن. أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (65)، والدارمي (412، 568).

قلت: وهنا مسألة مهمة جداً، وتعتبر من خوارم التوقير، وهي السؤال عما لا ينفع، وعما لا يقع، وتأمل ذاك الرجل الذي سأل الإمام مالكًا عن مسألة فلم يجبه، فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك. وسئل عمار بن ياسر الصحابي - رضي الله عنه - عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشمناها لكم. فتوليد الأسئلة والإيغال فيها لمجرد المراء أمر مذموم، لا سيما السؤال عن علة الحكم في أمر تعبدي، أو السؤال عن مسائل نادرة الوقوع جداً، بل ربما لا تقع أبدًا، أو السؤال عن المتشابهات، أو عما شجر بين السلف الصالح، قال المرُّوذي قال أبو عبد الله: سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ فقلت له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟! قلت: سئل في يوم من الأيام العلامة محمد صالح العثيمين - رضي الله عنه - عن رجل مات وانفصل رأسه عن جسده، فكيف يكون سؤال الملكين للرأس أم الجسد؟ فغضب الشيخ من هذا السؤال، ووجه السائل في التوجه لما ينفعه عما لا ينفعه. وبعد: يُسمَعُ في بعض حلقات العلم، أن بعض الطلبة يسأل سؤالًا فيه تكلف وتنطع واضح، والأدهى والأمرُّ أن يكون الجواب معلومًا لديه، لكنه يسأل الشيخ من باب التعجيز، ومن باب الإفحام، ومن باب إظهار أنه يعلم، ثم تشعر أن ذلك السائل يظهر الجواب للشيخ من طرف خفي، فقد أساء الأدب في طرح السؤال، وأساء الأدب في قصده، وأيضًا أساء الأدب مع الله في سوء نيته.

أدب الطالب في المشي مع شيخه

4 - أدب الطالب في المشي مع شيخه: حكى الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في ترجمة الفقيه أبي الحسن علي بن مبارك الكرخي وقد تتلمذ على الإمام الفقيه القاضي أبي يعلى الحنبلي شيخ الحنابلة في عصره. قال: قال لي القاضي أبو يعلى يومًا، وأنا أمشى معه: إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه؟ قلت: لا أدري. قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلّي له الجانب الأيسر، فإذا أراد يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر". 5 - دعاء الطالب لشيخه: ومن الأدب الذي ينبغي أن يتحلى به طالب العلم مع شيخه أن يقدم بين يدي سؤاله الدعاء له، كما كان بعض السلف يقول: "اللهُمَّ استر عَيبَ معلمي، أو شيخي، ولا تُذهب بركةَ علمِهِ عني" (¬1). قلت: حسن جداً أن يبدأ الطالب شيخه بقوله: أحسن الله إليك، سؤالي هو، أو نحو ذلك، وعند نهاية السؤال يختم بقوله: جزاكم الله خيرًا وأثابكم الله، كما أنه يلهج بالدعاء لشيخه والاعتراف بفضله. قال الإمام أحمد بن حنبل: ما صليتُ صلاةً منذ أربعينَ سنةً إلا وأنا أدعو فيها للشافعي. ولكثرة دعائه له قال له ابنُه: أيَّ رجلٍ كان الشافعيُّ حتَّى تدعوَ له كلَّ هذا الدعاءِ؟ فقال: يا بُنَيّ، كان الشافعيّ كالشمسِ في الدُّنيا والعافية للناس، هل لهذين من خَلَفٍ؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) "تذكرة السامع والمتكلم" (91). (¬2) "الدر النضيد" (119).

أدب الطالب مع جلساء شيخة

6 - أدب الطالب مع جلساء شيخة: ومن التوقير أن يتأدب الطالب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه، وليكن على أحسن الهيئات، وأكمل الطهارات، وياللأسف اختفت كثيرٌ من هذه الأخلاق بين الطلاب اليوم، فياحبذا لو تخلق الطلاب اليوم بأخلاق سلفنا الصالح مع العلماء. 7 - نسبة الفضل لأهل الفضل: ومن الأدب نسبه الفضل لأهل الفضل، والعاقل من لا يرجع الخير له إن كان الأمر لغيره ويزعم أن ذلك من جهده وعلمه ومن فضله وحده، ولم يشاركه أحد في هذه الفائدة، وهذا دليل وعلامة على محق بركة العلم ونوع من الكبر، وهو أحد المتعالمين. ويشبه صنيعهم قول الله تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] أي يحبون أن يوصفوا بالفضل وهم خلاف ذلك، ومن تزين بلباس غيره فكأنه لابس ثوب زور. وأحسن الناظم بقوله: إذا أفادك إنسان بفائدةٍ ... من العلوم فأدمنْ شكرَه أبدا وقل فلانٌ جزاه اللهُ صالحةً ... أفادنيها وألقِ الكبرَ والحسدا (¬1) والعاقل من اعترف بفضل من دله على فائدة، لا سيما شيخه ومعلمه، فطالب العلم يعترف بفضل معلمه في حضوره وغيبته، ويحمد جميل صنعه، ويثني عليه فإن هذا من الشكر، ومن كتم ذلك فقد كفر نعمة شيخه عليه. ¬

_ (¬1) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 87).

الصبر على جفوة شيخه

والعاقل من يذكر العلماء بالجميل، لأنهم ورثة الأنبياء، والمحيون لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، المتابعون لهديه، والمقتفون أثره. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: "علماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل" (¬1). قلت: ومع الذكر الجميع لا يعني أننا نتبعهم على القول الضعيف، والعمل المخالف للتنزيل. 7 - الصبر على جفوة شيخه: العقلاء هم الذين يصبرون على جفوة الشيخ والمعلم، فمن صبر ظفر ونال مناه طول العمر، ومن ضاق صدره وتولى ونفر ولم يصبر، فقد خسر. قال الشافعي -رحمه الله-: قيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض تغضبُ عليهم! يوشكُ أن يذهبوا ويتركوكَ، فقال للقائلِ: هُم حَمْقى إذًا مثلُك، إن تركوا ما ينفعُهُم لسوءِ خُلُقي (¬2). فالشيخ ربما لكثرة الضغوط وحمل الهموم يضيق صدره أحياناً، ولا ترق عبارته، فينفر منه البعض وهم أحوج الناس إليه. ولبعضهم: إنَّ المعلمَ والطبيبَ كلاهما ... لا ينصحانِ إذا هما لم يُكرما فاصبر لدائكَ إن أهنتَ طبيبهُ ... واصبر لجهلكَ إن جفوتَ مُعلما (¬3) ¬

_ (¬1) "العقيدة الطحاوية شرح وتعليق" للألباني (58). (¬2) "تذكرة السامع" (94). (¬3) "الدر النضيد" (244) للغزي العامري.

بعض الخوارم التي تخل بتوقير العلماء والأدب معهم

بعض الخوارم التي تخل بتوقير العلماء والأدب معهم 1 - الاعتراض والمراءُ والتجَاسُر: لا سيما إذا عثر على زلةٍ، أو ظفرَ بخطأٍ، فيُبادر بعضُ الطلاب إلى الإنكار والاعتراض والنقد، وربما المراء، والعالم ليس معصومًا؛ ولكن الآفة إثبات الذوات، وتصيد الأخطاء، والتشنيع ونشرها في الآفاق. وإياك إذا حضرت مجلس علم أن تكون مستغنيًا بما عندك طالبًا عثرة تشنعها، فهذه أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في العلم أبدًا، وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه بالعلماء، وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم. وأما أئمة الهدى، فإنه يجب أن يعاملوا بالإكرام والاحترام والتثبت والتصويب بما يليق معهم من النصيحة العامة، وفي الوقت المناسب بما يحقق ثمرة النصيحة. قال العلامة ابن العربي: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجواهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - (طلق وظاهر وآلى) فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فلما انفض عنه أكثرهم، قال لي: أراك غريبًا هل لك من كلام؟ قلت: نعم. قال لجلسائه: افرجوا له عن كلامه،

فقاموا وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرت المجلس اليوم وسمعتك تقول: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت، وطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت، وقلت: وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضمني إلى نفسه وقبل رأسي وقال لي: أنا تائب من ذلك جزاك الله عني من معلم خيرًا، ثم انقلبت عنه وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع وجلس على المنبر فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته "مرحبًا بمعلمي افسحوا لمعلمي" فتطاولت الأعناق إليَّ وحدقت الأبصار نحوي، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله، وطلق رسول الله، وظاهر رسول الله، فما كان أحدٌ منكم فقه عني ولا رد عليَّ فاتبعني إلى منزلي وقال لي كذا وكذا، وأنا تائب عن قولي بالأمس وراجع عنه إلى الحق، فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيرًا، وجهد في الدعاء والخلق يؤمنون". فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، ومن رجل ظهرت رياسته لغريب مجهول العين لا يُعرف من هو، ولا من أين، واقتدوا به ترشدوا. قلت: لهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:

2 - إبرام الشيخ وإضجاره

تَعَمَّدني بِنُصحكَ في انفرادي ... وَجَنبني النصِيحَةَ في الجَمَاعهْ فإن النُّصحَ بين النَّاسِ نَوعٌ ... مِنَ التوبيخِ لا أَرضى استمَاعهْ وَإن خَالفتَني وَعَصِيتَ أمري ... فلا تَجزعْ إذا لم تُعطَ طاعَهْ فالحذر من أن ينتقد العالم بأسلوب ينال من هيبته عند صغار الطلبة أو العوام، وليس المراد بترك الاعتراض على العلماء ترك الاعتراض بالكلية، بل المراد ترك الاعتراض في موضع الاحتمال والاجتهاد، وترك الاعتراض المقصود لذاته، وترك المبادرة إلى الاعتراض دون تثبت وتبين. 2 - إبرام الشيخ وإضجاره: من الأخلاق السيئة إبرام الشيخ وإضجاره، وذلك عن طريق الأسئلة المعروفة والمكررة والمعادة؛ لما يترتب عليها من ضياع للوقت، وإجهاد للشيخ. قال الإمام الزهري: "إعادة الحديث أشد من نقل الصخر". ومن الأمثلة الدالة على ذلك أيضاً إطالة الجلوس عند الشيخ وهو كاره، أو زيارته في غير الأوقات المناسبة، أو الاتصال به في الأوقات المكروهة، فينبغي لطالب العلم أن يتحين الوقت المناسب لزيارة شيخه أو سؤاله أو القراءة عليه. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: وجدت عامة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحي من الأنصار، إن كنتُ لأقيل بباب أحدهم ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي عليه، ولكن ابتغى بذلك طيب نفسه. ومن سوء الأدب أن يؤمر الشيخ ويطلب منه على وجه الغصب، ويلزم

بما لا يحب؛ كطلب بعضهم زيارته مع انشغاله واعتذاره، أو تقديم درس ونحوه. ومن حسن الأدب رقة العبارة في الطلب بصيغة العرض، بعيدًا عن الأمر والإلزام، ولبعض أصحابي نادرة ظريفة ومفيدة مع شيخنا الإمام العلامة أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللهُ وبلَّ بالرحمةِ ثراه-، فقد اتفق بعض أصحابنا رفقاء الدرب في الدعوة إلى الله من ضاحية الفيحاء العامرة في الكويت على زيارة شيخنا الألباني في الأردن، فسافروا من الكويت عن طريق البر لزيارته وهو من أفراد العصر، وفور الوصول تم الاتصال به هاتفيًا يطلبون منه موعدًا للزيارة، فاعتذر لهم بسبب كثرة أشغاله، ثم إنه كبير السن، فأخذ بعضهم سماعة الهاتف قائلًا: يا شيخ، لا بد من تحديد موعد للزيارة فنحن جئناك من بلاد بعيدة، ولا بد أن تأذن لنا باللقاء معك، وعندنا مسائل مهمة كل ذلك بصيغة الأمر! تأمل "لا بد من تحديد موعد - لا بد أن تأذن لنا"، فكرر الشيخ الاعتذار وحق له ذلك، وانتهت المكالمة وخيم الوجوم على الإخوة بالصمت. ثم أخذ الهاتف أحد الأخوة وكرر الاتصال، وكان ذكيًا بتغيير أسلوب المحادثة ورقة العبارة وحسن العرض في الطلب، وبعد السلام قال للشيخ: يا شيخ ما رأيك لو أذنت لنا في الوقوف عند بابك، فتخرج لنا رأسك من طرف الباب ونقبل رأسك وننصرف عائدين لبلدنا، لا نريد غير ذلك حتى إذا عدنا إلى بلدنا الكويت وقيل لنا: هل كانت لكم لقيا في حياتكم مع الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني؟ نقول: نعم بحمد الله طرقنا بابه وفتحه

3 - الإجابة عن الشيخ وهو موجود

لنا يومًا وقبلنا رأسه ثم انصرفنا وأغلق الباب!! فما كان من الشيخ إلا أن قال: والله ما كان لي أن أردكم، تعالوا مرحبًا بكم في بيتكم، فسررنا بذلك وجلسنا عنده الساعات، واستفدنا منه علمًا كثيرًا، وتكررت الزيارات بسبب رقة العبارة والتلطف في السؤال، وحسن الطلب بعيدًا عن الأمر والنهي، فلله كم من كلمة طيبة فتحت بابًا مغلقا! أما أدب المهاتفة مع الشيخ، فينبغي أن تكون بأدب، وفي وقت مناسب للاتصال، والحذر من الاتصال على غير هاتف الفتوى، أو تسجيل المهاتفة ونشرها دون إذن المفتي، أو الإطالة معه بما يضيع وقته. 3 - الإجابة عن الشيخ وهو موجود: وهذا سوء أدب ابتلي به كثير من الناس اليوم بسبب بعدهم عن الأخلاق الإسلامية، وهو المتقدم بين يدي العلماء والإجابة عنهم. قال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: مالك لا تحدث؟ فقال: أما وأنت حي فلا (!). هذا والله الأدب، وهذا هو التوقير والإجلال، فلا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك أو الإجابة عنه، وهو موجود في المجلس. قال عطاء -رحمه الله-: "إني لأسمعُ الحديث من الرجلِ وأنا أعلمُ به منه، فأُريهِ من نفسي أني لا أحسنُ منهُ شيئًا". 4 - مقاطعة الشيخ في الحديث: ومن سوء الأدب مقاطعة الشيخ في الحديث، بل إن بعضهم يرد على الشيخ ردًا مستهجنًا، ولا شك أن هذا تجاسر مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أدبنا وعلمنا، فقال: "ليسَ مِنَّا مَن لم يُجِل كبيرنَا، ويرحم صغيرَنا، وَيعرف

5 - مسابقة الشيخ في الحديث

لعالِمنا حقَّه" (¬1). وإن مما نوصي به طالب العلم: ألا تقاطع الشيخ في حديث حتى يفرغ من مسألته تلك، ولقد قال الإمام البخاري: (باب من سُئلَ علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث) ثم ساق الحديث وفيه: أن أعرابيًا قال- والنبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب: متى الساعة؟ فمضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه وأعرض عنه، حتى إذا قضى حديثه قال: "أين أُراه السائل عن الساعة؟ .. " فدلت هذه الجملة على أنه سمعه، لكنه أعرض عنه تأديبًا وزجرًا له. 5 - مسابقة الشيخ في الحديث: من سوء الأدب مسابقة الشيخ في الإجابات أو شرح المسائل، والتقدم بين يديه دون إذن منه، أو ضرب قوله بأقوال آخرين دون دليل، والتشغيب عليه. قال ابن جَماعة: "لا يسبقَ الشيخَ إلى شرحِ مسألةٍ، أو جواب سؤال منه أو من غيره، ولا يظهر معرفته به، أو إدراكه له قبل الشيخ، فإن عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء، والتمسه منه، فلا بأس، ولا ينبغي أن يقطعَ على الشيخ كلامه -أي كلامٍ كان- ولا يسابقه فيه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع جماعة المجلس" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "صحيح الجامع الصغير" (5443). (¬2) "تذكرة السامع والمتكلم" (101).

المنهج الحق الرشيد في التعامل مع زلات العلماء

المنهج الحق الرشيد في التعامل مع زلات العلماء من المتقرر شرعًا أن العلماء غير معصومين، بل هم عرضةٌ للخطأ، والسهو، والغفلة، والتقصير، فتقع منهم الزلات والأخطاء والهفوات، كما في حديث أنس مرفوعاً: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". رواه أحمد. فالمنهج الذي ينبغي أن يتبع في التعامل مع زلاتهم قائم بعد ثبوت كونها زلةً على ركنين (¬1): الأول: علم اعتماد تلك الزلة والأخذ بها إذا جاءت على خلاف الشريعة، ولو أخذ الناس بزلات العلماء ونوادرهم، ربما أفضى بهم ذلك إلى الضلال المبين. قال الإمام الأوزاعي -رحمه الله تعالى-: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" اهـ. والعلماء الأجلاء نصووا على أن الأصل كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه متى ظهر خلاف ذلك لم تكن لهم طاعة. قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال الإمام مالك: إنما أنا بشر أخطئُ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وقال الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ¬

_ (¬1) "قواعد في التعامل مع العلماء" (140) للشيخ عبد الرحمن اللويحق. بتصرف.

وقال الإمام أحمد: رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار (¬1). وأما الاجتهادات المختلفة فإنهم لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا اجتهدنا برأينا، فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزموا به الأمة. والخلاصة أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعًا ضلال، وأن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره، فهذا هو الركن الأول. * الركن الثاني: العدل في الحكم على صاحبها: فلا ينسب إليه التقصير ولا يشنع عليه من أجلها، ولا ترد بقية أقواله وآرائه وفتاويه بسببها. قال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "من له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته ومنزلته في قلوب المسلمين" (¬2). وإذا كانت زلة العالم هذه غير ذات أثر على الناس، فالواجب سترها، فإن العلماء من ذوي الهيئات كما في الحديث: "أقيلوا ذوي الهيئات ¬

_ (¬1) ينظر مقدمة كتاب شيخنا الإمام العلامة الألباني "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم، و"إيقاظ همم أولي الأبصار"، للفلاني و"هداية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان" لمحمد سلطان المعصومي الخجندي، وكتاب "التعظيم والمنة في الانتصار للسنة" للشيخ سليم الهلالي. (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 283).

عثراتهم إلا الحدود" (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أنَّ الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى يوم القيامة: أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، ثم قال: ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب، فيحب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم" (¬2). وعلى هذا ينبغي أن يعلم أن عدم متابعة العالم على زلته لا يعني عدم توقيره، بل الحق أحق أن يتبع، فطاعة العلماء عندنا واعتبار العلماء في شرعنا ليس مقصودًا لذاته، بل لما قام فيهم من العلم بالله والعلم عن الله -عز وجل-، وإلا ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1185). (¬2) "منهاج السنة" (4/ 543، 544)، ينظر كتاب "قواعد في التعامل مع العلماء" (142).

أصبحنا كبني إسرائيل؛ كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. والناس في هذا الأمر بين طرفين ووسط: 1 - طرف أهدر مكانة العلماء واستخف بهم وبأقدارهم كالخوارج الذين لم يرفعوا بسادات العلماء من صحابه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسًا. 2 - طرف يجعل للعلماء قداسة لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل. 3 - وهدى الله أهل الحق فحفظوا لأهل العلم أقدارهم، وعرفوا أنهم أدلاء علي حكم الله سبحانه، ليس لهم قداسة في ذواتهم، وأنهم غير معصومين عن الخطأ، وأن طاعتهم إنما تجب باعتبارهم أنهم طريق لطاعة الله -عز وجل- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. والخلاصة أن العالم بحكم كونه بشرًا غير معصوم، قد يقع في خطأ غير مقصود، أو يزل وحينئذ لا يتابع في زلته، وعدم متابعته فيما أخطأ فيه لا يعني عدم توقيره. ****

2 - الأدب مع الوالدين

2 - الأدب مع الوالدين البر لغة: بالكسر ضد العقوق، وهو اسم جامع لكل معاني الخير. أما في الاصطلاح: التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق. أما الوالدان: الأب والأم , ويشمل لفظ (الوالدين) الأجداد، والجدات. * قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} .... {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]. بعد أن أمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، والخضوع، والإخلاص له، والانقياد لأوامره، والانتهاء عن الإشراك به -عطف عليه الإحسان إلى الوالدين، والبر بهما، ودفع الأذى عنهما، وهذا يدل على عظم حقهما في هذه الآية الكريمة، والآيات في هذا الباب كثيرة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عبدِ اللهِ بن أبي ابن سَلُولَ، وهُوَ في ظِل أَجَمَةٍ، فقال: قد غبَّر عَلينا ابنُ أَبي كَبشَةَ. فقال ابنُهُ عبدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ: والذي أَكرَمَكَ وأَنزَلَ عليك الكتابَ إن شِئتَ لآتينك برأسهِ. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، ولكن بِرَّ أباكَ، وَأَحسِن صُحبَتَه" (¬1). والأحاديث في هذا المعنى وفيرة، وأحيلك -أخي القارئ- على كتابي (بر الوالدين آداب وأحكام) (¬2) فإنه نافع بإذن الله تعالى في هذا الباب. ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه ابن حبان (429 - الإحسان)، وحسن الألباني سنده في "الصحيحة" (3223). (¬2) وهو حاليا في طبعته الحادية عشر. مكتبة غراس. بحمد الله تعالى.

آداب بر الوالدين

آداب بر الوالدين 1 - مخاطبة الوالدين بألفاظ الاحترام والتوقير، مع خفض الصوت، والاستماع لهم، وعدم مقاطعتهم. 2 - عدم حدّ النظر إليهم. 3 - عدم المشي أمامهم إلا لنفعهم، أو الاتكاء عليهم، أو تسميتهم بأسمائهم. قال ابن محيريز: "من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو كنيته فقد عقه، إلا أن يقول: يا أبت" (¬1). 4 - إلقاء السلام عليهم عند الدخول والخروج. 5 - عدم بدء الطعام أو الشراب قبلهما. 6 - الدعاء لهما مع إظهار الود، وإكثار الشكر لهما على ما قاما في حقك. 7 - ملازمتهما عند المرض والقيام بحقهما عليك. 8 - النفقة عليهما، والحج والاعتمار عنهما إن عجزا عن ذلك. عن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا شاب من الثَّنِيَّةِ، فلما رأيناه بأبصارنا قلنا: لو أن هذا الشاب جعل شبابه ونشاطه وقوته في سبيل الله؟! قال: فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "وما سبيل الله إلا من قُتلَ؟ مَن سعى علي والديه ففى سبيل اللهِ، ومن سعى علي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 142).

متى يسمى الابن بارا؟

عيالهِ ففي سبيل الله، ومن سعى على نفسه ليُعفَّها ففي سبيل الله، ومن سعى على التكاثر ففى سبيل الشيطان"، وفي رواية: "الطاغوت" (¬1). 9 - عدم السفر، أو الجهاد قبل استئذانهما. 10 - الاستئذان عليهما عند الدخول. 11 - الصلاة عليهما بعد موتهما ودفنهما. * متى يسمى الابن بارًا؟ والعقلاء هم الأبرار، ولا يسمى الابن بارًا إلا إذا تحققت فيه الشروط التالية: 1 - أن يؤثر رضا والديه على رضا نفسه وزوجته وأولاده والناس أجمعين. 2 - أن يطيعهما في كل ما يأمرانه به من معروف، وأن ينتهي عن كل ما ينهيانه عنه، سواءً وافق رغباته أم لم يوافقها ما لم يأمرانه بمعصية. 3 - أن يقدم لهما كل ما يلحظ أنهما يرغبان فيه من غير أن يطلباه منه عن طيب نفس وسرور، مع شعوره بتقصير في حقهما ولو بذل لهما حياته وماله. 4 - أن يستمر بره لهما حتى بعد مماتهما، وأن يلهج بالدعاء لهما. والعاقل من يتصف بصفة الوفاء، وبالأخص مع الوالدين في سن الكبر. * المعاملة الواجبة عند الكبر: فالمعاملة الواجبة في الكبر تتأكد في الأمور التالية:- ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه البزار، والطبراني في الأوسط وأبو نعيم، وحسنه الألباني لشواهده كما في "الصحيحة" (3248).

* المداومة على زيارتهم. * الصبر على تصرفاتهم بعدم التململ والضجر. * علاجهم عند المرض، والصبر على ذلك. * ملء الفراغ عندهم بما ينفعهم. * المساهمة في رفع زيادة الإيمان عندهم. * السخاء عليهم بالمال والعطاء والدعاء لهم. * صلة أصدقائهم، وبالأخص بعد وفاتهم. فقل لي بربك أيها البار: هل من العقل عقوق الوالدين، ورفض الثمرات المترتبة علي برهما؟ هل من العقل؟ نسيان وصية الله بالوالدين؟ ونسيان الفضائل المناطة بذلك؟ ثم سل العاق: أترضى أن تُعجل لك العقوبة في الدنيا؟ وترفض أعمالك، ولا ينظر الله إليك في الآخرة؟ وقل للعاق: أتحب أن تُعَامل مثلما تُعِامل به أبويك؟ أيصح في عقلك ترك الجنة ودخول النار؟ قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]. "أيها المضيع آكد الحقوق المعتاضُ من بر الوالدين العقوق، النَّاسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بر الوالدين عليك دين، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنة بزعمك، وهي تحت أقدام أُمك" (¬1). ... ¬

_ (¬1) ينظر كتاب "الكبائر" (41) للإمام الذهبي.

3 - الأدب مع الأرحام

3 - الأدب مع الأرحام اعلم- رعاك الله- أيها العاقل الودود أن خِلال المكارم كثيرة، وشُعب الإيمان متعددة، وإن من أحسن هذه الخلال صلة الأرحام، والإحسان إليهم وصلتهم في المقال والفعال، وبذل الأموال. قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. ولا يخفى على كل ذي لُبٍّ أن المتغيرات الاجتماعية في ظل المتغيرات الحياتية، ووسائل الاتصال الحديثة نتج عنها بعض التغيير على الكيان الأسري من ضعف التواصل، وقلة الاجتماع، وكثرة القطيعة، مع ضعف الوازع الديني، وإذا استمر هذا التصدع في الأسرة أوشك أن يؤثر ذلك في التماسك الاجتماعي، وعندما ضعف الترابط الأسري كثرت الجرائم، وزادت المشكلات، وارتفعت نسب الطلاق، وأُقيمت القضايا في المحاكم، وبهذا قلَّ التواصل بين الأرحام، وكثرت القطيعة حتى غدت ظاهرة التفكك الأسري ظاهرة العصر، وزادت نسب العقوق في الناس لأقرب الناس، فهناك آباء يعقون الأبناء، وأبناء يعقون الآباء، وإذا كان هذا عند أقرب النَّاس فما بالنا بباقي الأرحام وذوي القربى. ولمَّا كانت صلةُ الرحمِ من الأهمية بمكان، فرضها الله في جميع الأديان السماوية السابقة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} [البقرة: 83]. وتُعتبرُ صلة الرحم من الواجبات التي أخل بها كثير من الناس، والتي بتركها تتقطع أواصر الأسر، وتتسع دائرة القطيعة، وتنحلُّ بها قوى المجتمع حتى توارثها بعض الأبناء عن الآباء، وهذه نصائح عامة بالكلمة الطيبة أقدمها بين يديك راجيا من المولى الكريم، أن تحقق الهدف المنشود الذي كتبت من أجله، وتنبه القاطع بما عليه من خطر العاقبة كما قال المولى جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 23]. وأرجو من المولى الكريم أن تُسلي الواصلين بالثواب الموعود {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد: 22]. عن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَهلُ الجنَّةِ ثَلاثةٌ: ذو سُلطانِ مقسِطٌ مُتَصدق مُوفَّقٌ، ورجُل رحيِم رقيقُ القَلبِ لِكُل ذي قُربى، ومُسلِمِ عفيف مُتَعَفِّف ذو عِيَالٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (7207) في كتاب الجنة ونعيمها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا.

صلة الرحم في ظلال القرآن الكريم

صلة الرحم في ظلال القرآن الكريم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]. قال الحافظ ابن كثير: "أي: واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن: {تَسَاءَلُونَ بِهِ}: أي كما يقال أسألك بالله وبالرحم. قال الضحاك: اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصلوها" (¬1). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: "اتقوا الله، وصلوا أرحامكم" (¬2). وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]. قال ابن كثير: "أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام. ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 23]. وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عمومًا، وعن قطع الأرحام خصوصًا، بل قد أمر تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والفعال، وبذل الأموال" (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (2/ 179). (¬2) حسن. أخرجه ابن عساكر، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (869). (¬3) "تفسير ابن كثير" (7/ 300).

قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)} [الأحزاب: 6]. المراد بأولي الأرحام القرابات، أي: بعضكم أحق بميراث بعض وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}. أى: ذهب الميراث, وبقى النصر والبر والصلة والإِحسان والوصية (¬1). وقال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)} [الروم: 38]. أي أن الله يأمر بإعطاء ذي القربى حقهم من البر والصلة وحسن العشرة، والإحسان إليهم أولاً. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21]. وقال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]. أي أعطى المال من يتعين عطاؤه مع شدة حبه له, فآثر ما يحب الله تعالى على ما تتعلق به نفسه، فقدم أصحاب القرابات بالمال الأقرب فالأقرب؛ لأنهم أحق الناس بالبر؛ ولأنه أعرف الناس بحالهم وأوضاعهم وأحاسيسهم من غيره؛ لقربه منهم بسبب القرابة. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (6/ 382).

وقال تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] وقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 75]. وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]. وقال سبحانه: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)} [البلد: 15]. أي أطعم يتيمًا بينك وبينه قرابة، وهذا الإطعام من الأمور الأربعة التي يقتحم بها العقبة يوم القيامة. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]. في هذه الآية الكريمة يأمر المولى سبحانه إعطاء ذي القربى ما يحتاجونه من الإحسان والبر وحسن العشرة، وكل ما فيه من أوجه العناية، وخصهم بالذكر لمزيد الاهتمام بهم. في ضوء ما تقدم من الآيات القرآنية يدعونا الله -جل وعلا- إلى العناية بصلة الأرحام بالمقال والفعال، بتقديم العون والدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالأخص ذوي القربى بمزيد من الاهتمام، وجعل للوالدين النصيب الأول والأوفر، ثم الأقرب فالأقرب، ونهى عن القطيعة والهجر. وخص الأقرب بالإرشاد والتوجيه؛ كما قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]. أما في الجانب المالي فدعا الله سبحانه عباده إلى العناية بذوي القربى

معنى صلة الرحم

بتقديم المال لهم عن غيرهم بالنفقة، الزكاة والصدقات للمستحقين منهم أو الهبات والعطاء، والعناية باليتيم منهم على وجه الخصوص. معنى صلة الرحم الرَّحمُ: هم القرابة، ويطلق على كل من يجمع بينك وبينه نسب، وقد اختلف العلماء في حدّ الرحم التي تجبُ صلتها. قال الإمام الصنعاني: "قيل: هي الرحم التي يحرم النكاح بينهما، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا حرم على الآخر، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال، واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح لما يؤدي إليه من التقاطع. وقيل: من كان متصلًا بميراث، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم أدناك أدناك". وقيل: هو من كان بينه وبين الآخر قرابة، سواء كان يرثه أو لا" (¬1). قلت: والأخير هو الراجح عند العلماء، وتطلق الرحم على الأقارب وهم كل من بينه وبين الآخر نسب سواء كان يرثه أم لا. وقال القاض عياض: "الرحمُ التي توصل وتقطع وتُبَرُّ إنَّما هي معنى من المعاني ليست بجسم، وإنَّما هي قرابة ونسب، تجمعه رحم والدة، ويتصل بعضه ببعض ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (4/ 161).

فسُمِّي ذلك الاتصال رحمًا" (¬1). * من هم الأرحام وذو القربى؟ صلة الرحم على وجهين: عامة وخاصة، والأرحام على وجه الخصوص هم الأقارب من جهه الأبوين. قال الإمام القرطبي: "الرحم على وجهين:- فالعامة رحم الدين وتجب بملازمة الإيمان والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة، وترك مضارهم، والعدل بينهم والنّصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأمَّا الرحم الخاصة، وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة كالنفقة وتفقد أحوالهم وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضرورتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب" (¬2). وقال العلامة ابن باز -رحمه الله-: "الأرحام هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى في [سورة الأنفال: 75، والأحزاب/ 6]: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 112). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 248، 247).

وأقربهم: الآباء والأمهات والأجداد والأولاد وأولادهم ما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الإخوة وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما سأله سائل قائلًا: من أبر يا رسول الله؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثمَّ من؟ قال: "أباك، ثم الأقرب فالأقرب" خرجه الإمام مسلم في صحيحه (¬1)، والأحاديث في ذلك كثيرة. أمَّا أقارب الزوجة: فليسوا أرحاماً لزوجها إذا لم يكونوا من قرابته، ولكنهم أرحام لأولاده منها، وبالله التوفيق" (¬2). ***** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2548) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب البر والصلة. (¬2) "فتاوى إسلامية" (4/ 195).

أقسام الرحم

أقسام الرحم تنقسمُ الرحم إلى ثلاثة أقسام: أصلية وفرعية وعامة، وسوف نقصر الكلام على الرحم الأصلية والفرعية فقط. أولًا: الرحم الأصلية: وهما الأبوان وما يتصل بهما من قرابة مثل الأجداد فما علا، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات. قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]. ثانيًا: الرحم الفرعية: وهم الأبناء والأحفاد، فما نزل، وما ثبت بالرضاع. قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38]. ثالثًا: الرحم العامة: وهم عموم المسلمين ممن يجمع بينهم كلمة التوحيد. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وعن النُّعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ المؤمنينَ في تودِّاهم وتراحُمِهِم وتعاطفهم، مثلُ الجسدِ: إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحُمَّى" (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (10/ 438)، ومسلم (2586) في كتاب البر والصلة.

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سَتَفتَحُونَ أرضًا يُذكَرُ فيها القِيرَطُ، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحما". وفي رواية: "إنكم ستفتحونَ مصرَ، وهي أرض يُسمَّى فيها القيراط، فإذا افتتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمةً ورحمًا" أو قال: "ذمةً وصهرًا" (¬1). قال العلماء: الرَّحمُ التي لهم كونُ هاجر أُمِّ إسماعيلَ - صلى الله عليه وسلم - منهم، والصهر كونُ مارية أمِّ إبراهيمَ ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم. فالرحم العامة لهم الحقوق المشتركة بين المؤمنين عند ملابسة بعضهم بعضًا؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق المُسلمِ على المسلم ست: إذا لقيتهُ فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبهُ، وإذا استنصَحَكَ فانصح لَهُ، وإذا عَطَس فَحَمِدَ اللهَ فَسَمَّتهُ، وإذا مَرِضَ فعده، وإذا ماتَ فاتبعهُ" (¬2). ومنها: أن يحب لنفسه ما يحب لغيره. ومنها: نصرته، فلا يسلمه ولا يخذله. ومنها: أن لا يؤذي أحدًا منهم، فلا يغتابه ولا يهجره فوق ثلاث. ومنها: قبول هديته، وستره. وغير ذلك من الحقوق العامة للمسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2543) في كتاب فضائل الصحابة. (¬2) أخرجه مسلم (2162) في كتاب السلام.

حكم صلة الرحم

حكم صلة الرحم المتأمل للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية يقطع بوجوب صلة الرحم بلا خلاف بين العلماء، وأن قاطعها آثم، مرتكب كبيرة من الكبائر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرحمُ معلقة بالعرشِ تقولُ: من وصلني وصلهُ اللهُ، ومن قطعني قطعهُ الله" (¬1). قال القاضي عياض: "ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في الباب تشهد لهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحب، فلو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها، لا يسمى قاطعًا، ولو قَصَّر عما يقدر عليه وينبغي له، لا يسمى واصلًا" (¬2). ومما تقدم نعلم أن صلة الرحم واجبة وقطيعتها حرام، وأن الحكم بالوجوب يرجع إلى الحاجة والحالة، فمن كان له أخ وعم مثلًا وأخوه غني وعمه فقير معدم، فإن صلة الأخ يكفي فيها الكلام والسلام والسؤال عن حاله وصحته ونصحه، أمَّا العم فلا يعتبر واصلًا له إلا إذا أعطاه من ماله إن كان مالكاً للمال قادراً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2555) في كتاب البر والصلة والآداب. (¬2) "شرح صحيح مسلم" (16/ 113).

قلت: فالأخ إذن يكفي في حقه الكلام والسؤال عن حاله وصحته؛ ولهذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام" (¬1). وأما العم فلا يعتبر واصلًا له إلا إذا أعطاه من ماله إن كان قادراً. أما البر والإحسان للأقارب فيكون بما تيسر، ومما يدل أيضاً على أن الصلة واجبة قول أبي سفيان لهرقل عندما سأله: فماذا يأمركم -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "يقول: "اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤُكم، ويأمُرُنا بالصلاة والصدقِ والعفافِ والصِّلة" (¬2). وفي هذا الحديث دليل على أنَّ الصلة واجبة، وقد قُرنت بالصلاة والصدق والعفاف، ومما يزيد في بيان وجوبها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الرحم شُجنَةٌ من الرَّحمنِ، فقال اللهُ: مَن وَصَلَكِ وَصلتُهُ، ومن قَطَعَكِ قَطَعتُه" (¬3). قوله: "شُجنةٌ من الرحمن" أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، ومنه قولهم: شجرٌ متشجِّن، إذا التف بعضه ببعض. وأكَّد عليها - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "أرحامَكم أرحامكم" (¬4). والأرحام الذين تجب صلتهم: كل من يجمع بينك وبينه نسب من جهة ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه البزار، والطبراني عن جمع من الصحابة، وحسنة الألباني في "الصحيحة" بمجموع طرقه (1777). (¬2) أخرجه البخاري (1/ 32)، ومسلم (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه البخاري (10/ 417) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) صحيح. رواه ابن حبان (2037 - موارد) عن أنس، وصححه العلامة الألباني في "الصحيحة" (1038).

بم تكون القطيعة؟

الأب والأم، وتشمل الأصول والفروع كما تقدم. *بم تكون القطيعة؟ قال الإمام الصنعاني: "اختلف العلماءُ: بأي شيءٍ تحصلُ القطيعةُ للرحم؟ فقال الزينُ العراقيُّ: تكونُ بالإساءةِ إلى الرَّحم، وقال غيرهُ: تكونُ بترك الإحسانِ؛ لأن الأحاديث آمرةٌ بالصلةِ، ناهية عن القطيعة، فلا واسطةَ بينهما، والصلةُ: نوع من الإحسانِ كما فسرها بذلك غيرُ واحدٍ، والقطيعةُ ضدها، وهي تركُ الإحسانِ" (¬1). * كيف تكون صلة الرحم؟ اعلم -علمني الله وإياك- أن الصلة تختلف من شخص لآخر، وهي درجات بعضها أرفع من بعض كما تقدم ذكره، وقد أجمَلَ القول ابن أبي جمرة، فقال: "تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فجّارًا، فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى" (¬2). قلت: وفي قول ابن أبي جمرة قيد مهم لمن امتنع عن صلة بعض الأرحام لفجوره، كمن يتعرض للإيذاء بدينه عند زيارة بعض أرحامه برؤية ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (4/ 162). (¬2) "فتح الباري" (10/ 418).

الفواحش والمنكرات، ولا يستطيع تغييرها، أو أمّ تدفع بناتها للتعرف على الشباب الماجن عند زيارتها، أو أم مطلقة كلما زارها أولادها أخذت تدرسهم طريق الانحراف والضياع نكاية بطليقها، أو أب يطرد أبناءه عند زيارتهم له لدينهم وتمسكهم بالسنة النبوية، وعلى هذا فقس، ومثل هؤلاء الفساق يمكن صلتهم عن طريق الوسائل الحديثة (الهاتف) بالسلام والكلام فقط؛ حفظًا لدين الواصل وإيمانه، ولكنه يجتهد في نصحهم ما أمكن، فإن عجز عن ذلك هجرهم هجرًا جميلًا، ودعا لهم بالهداية بظهر الغيب. وقال ابن أبي جمرة: "المعنى الجامع للصلة: هو إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر حسب الطاقة". وقال النووي: "صلةُ الرحم هي الإحسانُ إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارةً تكونُ بالمالِ وتارةً بالخدمةِ، وتارةً بالزيارة والسلام وغير ذلك" (¬1). قلت: وتكون كذلك بعيادة المريض، وإجابة الدعوة والتهنئة بما يسر، والتعزية لكل مصيبة، وسداد الديون، وتفريج الكرب، والخدمة، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوتهم لكل خير، وغير ذلك. ***** ¬

_ (¬1) "شرح صحيح مسلم" (2/ 201).

آداب صلة الرحم

آداب صلة الرحم والعاقل من عمل بآداب وضوابط صلة الرحم، وهي: 1 - أن تستشعر أنَّ أرحامك أولى الناس ببرك ومعروفك وخيرك وعطفك وتوجيهك؛ قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. 2 - الصبر على أذاهم، وسعة الصدر معهم. 3 - رحمة صغيرهم، وتوقير كبيرهم. 4 - الابتداء بالسلام، والبشاشة عند اللقاء. 5 - الإصلاح بين المتخاصمين، وتجنب التقاطع. 6 - قبول أعذارهم، ونسيان عيوبهم، فهذا يوسف عليه السلام يقبل اعتذار إخوانه كما في سورة يوسف. ومن جميل ما قيل في نسيان عيوب الأقرباء قول الشاعر: وحَسبُكَ من ذلٍّ وسوءِ صنيعةٍ ... مناواةُ في القربى وإن قيل: قاطعُ ولكنْ أواسيه وأنسى عيوبَه ... لِتُرجِعَهُ يومًا إليَّ الرواجعُ ولا يستوي في الحكم عبدان ... واصل وعبدٌ لأرحام القرابةِ قاطعُ 7 - على المرأة التزام الحجاب وعدم إظهار الزينة؛ كما في الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي

إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. 8 - عدم دخول البيوت إلا باستئذان. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} [النور: 27]. 9 - الفرح بإطعام القريب والتصدق عليه إن كان مسكينًا. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)} [النور: 61]. 10 - تقديم النصيحة لمن يحتاجها منهم وقبولها منهم. 11 - كتم أسرار الأهل والمجالس بالأمانة. 12 - قبول هداياهم. 13 - نصرتهم وعدم خذلانهم، والستر عليهم. 14 - زيارتهم على الدوام، وبالأخص زيارة مريضهم وتشييع ميتهم.

الأمر بتعلم الأنساب لصلة الرحم

15 - عدم الخلوة بغير المحارم كبنات العم والعمة والخال والخالة. 16 - عدم مصافحة غير المحارم. 17 - تجنب الخلطة المحرمة. * الأمر بتعلم الأنساب لصلة الرحم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعَلَّمُوا من أَنسَابِكُم ما تَصلُونَ بهِ أَرحَامَكُم؛ فإن صلَةَ الرحِمِ مَحَبَّة في الأَهلِ، مَثرَاةٌ في المالِ، مَنسأةٌ في الأَثرِ" (¬1). قال ابن حزم: "فأما الفرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرءُ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة، ورحل منها إلى المدينة، فمن شكَّ في محمد - صلى الله عليه وسلم - .. فهو كافر، غير عارف بدينه، إلا أن يعذر الإنسان أباه وأمه، وكل من يلقاه بنسب في رحم محرمة، ليجتنب ما يحرم عليه من النكاح فيهم، وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثًا، أو تلزمه صلة، أو نفقة، أو معاقدة، أو حكمًا ما، فمن جهل هذا، فقد أضاع فرضًا واجباً عليه، لازماً له من دينه" اهـ (¬2). وقال ابن حزم عن علم الأنساب: "إن فيه ما هو فَرضٌ على كل أحد، وما هو فَرضٌ على الكفاية، وما هو مستحبُّ" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (374)، والترمذي (1979)، والحاكم (4/ 161)، وابن حزم في جمهرة أنساب العرب (3، 2)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وجوَّد الألباني إسناده في "الصحيحة" (276)، (¬2) "جمهرة أنساب العرب" (ص 2). (¬3) "استجلاب ارتقاء الغرف" (47) للسخاوي.

قلت: وهذا الذي أشار إليه ابن حزم بأنه فرض هو معرفة الأرحام عن طريق النسب؛ حتى يتمكن المرء من صلتهم وفق الشرع، وليس من أجل العصبيات أو القبلية. قال الناظم: لَعَمرُكَ ما الإنسانُ إلا بدينه ... فلا تتركِ التقوى اتكالًا على النسب لقد رفعَ الإسلام سلمان فارسٍ ... وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب فالتعرف على الأنساب من أجل صلة الرحم ودعوة الأرحام لدين الله، والإعانة هو المقصود، وليس من أجل العصبية والحمية الخارجة عن الإسلام، فلا ولاية للقرابة الكافرة، ولا قيمة لرحم معادية لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة1: 3]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لم يُسرِع بهِ نَسَبُه" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2699). في كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.

ليس الواصل بالمكافئ

ليس الواصل بالمكافِئ من المفاهيم الخاطئة عند كثير من الناس قولهم: نحن نزور من يزورنا، ونقطع من يقطعنا، ولسان حالهم كحال الشاعر وهو يتمثل هذه الصفة الذميمة بقوله: ولستُ بهيابٍ لمن لا يهابني ... ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليا فإن تَدنُ مني تدن منك مودتي ... وإن تنأَ عنى تلقني عنك نائيا قلت: وليس هذا فحسب، بل تعدى ذلك إلى المخاصمة والتهاجر والتدابر، وهذا المفهوم -بلا شك- مخالف للنصوص الشرعية الداعية للتواصل، وعدم التقاطع والتنافر، ولهذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" (¬1). وهذا الحديث ينفي المكافأة في الصلة، ولكن يقرر أن أصل الصلة أن تصل من قطعك، ولا تقتصر بصلة من وصلك، فالناس درجات: 1 - واصل. 2 - مكافئ. 3 - قاطع. وخيرهم الواصل؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك" (¬2). وجاء في الحديث أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهُم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 163)، والبخاري (10/ 423) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬2) صحيح. أخرجه أبو عمرو بن السماك في حديثه، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1911) عن علي - رضي الله عنه -.

ويقطعُوني، وأُحسنُ إليهم وُيسيئون إليّ، وأحلُمُ عَنهُم ويجهلُونَ عليّ. فقال: "لَئِن كُنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يزالُ معكَ مِنَ الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك" (¬1). قوله: (يجهلون عليّ) أي: يسيئون، والجهل هنا القبيح من القول. قال الإمام النووي -رحمه الله-: "هو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه (¬2). وقيل: معناه أنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتُحقِّرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كم يسف المل. وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالملِّ يحرق أحشاءهم، والله أعلم. قال أبو العتاهية: فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم قلت: ولا ننسى في هذا المقام عفو أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما حلف أن يقطع النفقة عن مِسْطَحُ بن أُثَاثَة، الذي أذاه في عرضه في حادثة الإفك، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - معروفًا بالإحسان، له الفضل والأيادي الجميلة على الأقارب والأجانب، وعندما ولَغَ مسطح في عرضه، لم يمنعه ذلك من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2558) في كتاب البر والصلة والآداب. (¬2) "شرح صحيح مسلم" (16/ 115).

معاودة إحسانه في سبيل الله لما نزل قول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22]. وفي هذا الموقف درس وعبرة للذين يقطعون أرحامهم لتوافه الأمور من أجل كلمة أو زلة .. (¬1). قال المقنع الكندي يصف علاقته مع قرابته، وكيف يسيئون إليه ويكرمهم: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمّي لمُختلفٌ جِدّا إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم ... قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا وإن أكلوا لحمي وَفرتُ لحومَهُم ... وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا ولا أحمِلُ الحقدَ القديمَ عليهمُ ... وليس رئيسُ القوم مَن يَحمِلُ الحقدا وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجدًا ... وإن قلّ مالى لم أكَلفهمُ رفدا **** ¬

_ (¬1) ومن شاء الزيادة فعليه برسالتي (صلة الرحم) ففيها من الأحكام والآداب ما ينفع.

أمثلة تطبيقية من السيرة النبوية لصلة الرحم

أمثلة تطبيقية من السيرة النبوية لصلة الرحم كثيرة هي الأمثلة التي وقفها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أرحامه وقرابته، فكان يدعوهم إلى الله تعالى، ويثني عليهم ويفخر بهم ويدعو لهم ويعينهم بالمال والفعال، ويوصي بأرحامه خيرًا، ويحذر من إيذاؤهم، ويحث على حُبِّهم والقيام بواجب حقِّهم، على الرغم من عداوة بعضهم له غير أنه كان بهم برًا رحيما. عُرِفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلة الرحم قبل البعثة، كما جاء في صحيح البخاري، ومسلم من قول أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - في قصة بدء الوحي: "كَلا وَاللهِ مَا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، قام النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فنادى: "يا بني كعب بن لُؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبِلالها" (¬1). قلت: وفي بعض الروايات جعل يسمي يا عباس بن عبد المطلب. يا صفية عمة رسول الله. كل ذلك يوصي وينصح أرحامه ويعم ويخص - صلى الله عليه وسلم -. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لأرحامه ويثني عليهم ويتألم لإيذاء أحد منهم ويوصى بأهل بيته خيرًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5/ 382) ومسلم (204).

عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذكركُمُ اللهَ في أهلِ بيتي" (¬1). وهذا الحديث غاية في الوصية بهم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العباس عم رسول الله، وإن عم الرجل صنو أبيه" (¬2). وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عمي وصنو أبي العباس" (¬3). أي احفظوا حقي فيه وأنزلوه منزل الإكرام ولا تؤذوه. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آذي العباس فقد آذاني إنما عم الرجل صنو أبيه" (¬4). ودعا لأبنه عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن يعلمه التأويل والفقه في الدين. وكان يثني على سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ويفخر به، وسعد بن مالك من بني زهرة يشترك مع أم النبي - صلى الله عليه وسلم - في النسب من بني زهرة كذلك، فهو من أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خالي فليرني امرؤ خاله" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 367) ومسلم (2408). (¬2) صحيح. أخرجه الترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4120). (¬3) صحيح. أخرجه أبو بكر في الغيلانيات وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4104). (¬4) حسن. أخرجه ابن عساكر وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (5922). (¬5) صحيح. أخرجه الترمذي (3753) والحاكم (3/ 498) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6994).

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود سعد ويزوره عندما مرض ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "اللهُم اشفِ سعدًا، وأتمم له هِجرَته" (¬1). وهذا الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ابن عمته صفية بنت عبد المطلب أثنى عليه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكُلِّ نبيٍّ حواري، وحواري الزبير" (¬2)، وجمع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه فقال: "فداك أبي وأمي" (¬3). وحنَّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه ووضعه في حجره، ثم دعا بتمره فمضغها، ثم بصقها في فيه ومسحه وصلى عليه وسماه عبد الله (¬4). ومن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على دعوة عمه أبا طالب عند الوفاة ما رواه البخاري (1360 فتح) ومسلم (24) عن المسيب بن حزن - رضي الله عنه - قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهدُ بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبدُ الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغبُ عن ملةِ عبد المطلب؟! فلم يزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويُعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملةِ عبد المطلب، وأبى أنْ يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ¬________ (¬1) أخرجه البخارى (5659) من طريق عائشة بنت سعد, وينظر صحيح مسلم (1628). (¬2) أخرجه البخاري (3719) ومسلم (2415). (¬3) أخرجه البخاري (3720) ومسلم (2416). (¬4) ينظر صحيح مسلم (2146).

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. فقل لي بربك أيها العاقل -الودود- بعد هذا التطواف في بساتين الصلة، ومطالعة الآثار المترتبة على القطيعة، والواجب المناط بكل مسلم ومسلمة، تجاه أرحامه، أفيصبح عاقلًا من يقطع أرحامه؟ ويدرك خطر العاقبة وهو يقرأ قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 23]. أيسمى عاقلًا من يبصر النجاة، ورضا مولاه، ثم لا يكون لأرحامه وصولًا؟ أمامك فانظر أيّ نهجك تنهجُ ... طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ *****

4 - الأدب مع الجار

4 - الأدب مع الجار قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصينِي بِالجَارِ حتَّى ظَنَنتُ أَنهُ لَيُوَرِّثنَّه" (¬1). الإحسان إلى الجار وإكرامه أمر مطلوب شرعًا، وللجار على جاره حقٌّ عظيم في الأديان كلها والشرائع والأوضاع كافة. ولكن ياللأسف الشديد كثير من الناس اليوم لا يعرف جاره ولا يسأل عنه، أو يتفقد أحواله، وبعضهم لا يهتمون بحق الجوار، ولا يأمن جيرانهم من شرورهم، فتراهم دائمًا في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق، والنصوص في بيان إكرام الجار وحفظ حقوقه كثيرة، والترهيب من أذى الجار وفيرة. الجارُ: القريب منك في المنزل له منزلة وحق، سواء كان الجوار علوي أو سفلي، أو جانبي، ويشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب وابن البلد، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2624) في كتاب البر والصلة والآداب، باب: الوصية بالجار.

آداب حسن الجوار

آداب حسن الجوار 1 - حفظ حقوقه العامة. وله حق كبير عليك، فإن كان قريبًا منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. وإن كان مسلمًا وليس بقريب في النسب فله حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، وإن كان غير مسلم وهو قريب، فله حقان: حق القرابة وحق الجوار، وإن كان غير مسلم وليس بقريب، فله حق الجوار. وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام إن كان مسلمًا، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه بالفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع من السطح على عوراته، ولا يضايقه، ولا يضيق طريقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له عن عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلامًا، ويغض بصره عن حرمته، ويتلطف لولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه. عن أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَقُّ المسلِمِ عَلَى المسلِمِ سِتٌّ"، قِيلَ: مَا هُن يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلم عَلَيهِ، وَإِذا دَعَاكَ فَأجِبهُ، وَإِذا استنصَحَكَ فَانصَح لَهُ، وَإِذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتهُ، وَإِذَا مَرِضَ فعُدهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعه" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2162) في كتاب السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام.

الإهداء له

2 - الإهداء له. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا نِسَاءَ المسلِمَاتِ، لا تَحقِرَن جَارَةٌ لِجَارَتهَا وَلَو فِرْسِنَ شَاةٍ" (¬1). عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهم منك بابًا" (¬2). عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه ذُبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه" (¬3). 3 - مواساته عند الحاجة، وتفقد أحواله. عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه" (¬4). قال شيخنا العلامة الألباني: "في الحديث دليل واضح على أنه يحرم على الجار الغني أن يدع جيرانه جائعين، فيجب عليه أن يقدم إليهم ما يدفعون به الجوع، وكذلك ما يكتسون به إن كانوا عراة، ونحو ذلك من الضروريات، ففي الحديث إشارة إلى أن في المال حقًا سوى الزكاة، فلا يظنن الأغنياء أنهم قد برئت ذمتهم بإخراجهم زكاة أموالهم سنويًا، بل عليهم حقوق أخرى لظروف وحالات طارئة، من الواجب عليهم القيام بها، وإلا دخلوا في وعيد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (8/ 12) ومسلم. والفرسن: عظم قليل اللحم، وهو خف البعير. (¬2) أخرجه البخاري (10/ 447 - الفتح) في كتاب الأدب، باب: حق الجوار. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 160)، والترمذي (1943) في كتاب البر والصلة، وصححه الألباني. (¬4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (112)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (149).

مساعدته ونفعه

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما آمن بي من بات شبعانًا وجارُهُ جائع إلى جنبه وهو يعلم به" (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق، أو الماء فإنه أوسع، أو أبلغ للجيران" (¬2). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني: "إذا طَبَخْتَ مَرَقاً فَأكثر مَاءَه، ثم انظر أهل بيتٍ من جيرانك فأصبهم منها بمعروف" (¬3). قلت: وهذا البر نوع من الصلة المحموده ببذل الطعام لغير عوض من أسباب الألفة بين الجيران، وقيل في منثور الحكم: الجود بذل الموجود. 4 - مساعدته ونفعه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبه في جداره" (¬4)، هذا إذا لم يترتب عليه من إيقاع الضرر بالجار، فيندب له قبول ذلك منه، ويتنازل له في وضع خشبه أو ضرب وتدٍ أو بفتح شيء بالحائط أو نحوه مما ينتفع به الجار الآخر، إذا كان لا يضر به، كوهن الحائط أو غير ذلك، أمَّا الجدار المملوك فلا ينتفع به الجار إلا بإذن جاره، ولا يقيم عليه بناء، أو يغرز به خشبة، أو يفتح به كُوَّة، إلا بإذنه، ولكن يندب لصاحب ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني (1/ 259)، وحسن إسناده الهيثمي في "المجمع" (8/ 167). (¬2) صحيح أخرجه أحمد (3/ 377)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1368). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 149)، ومسلم (143). (¬4) أخرجه البخاري (3/ 173)، ومسلم.

الإحسان إليه وإكرامه

الدار أن يمكن جاره من ذلك، لحديث الباب، ولعمري هذا التوجيه النبوي الشريف لو التزمه الناس اليوم، لما وصلوا إلى القضاء، أو إلى المحاكم. عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لقد أتى علينا زمان -أو قال: حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كم من جارٍ متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: ياربِّ! هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه" (¬1). 5 - الإحسان إليه وإكرامه. عن أبي شريح وأبي هريرة - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره" (¬2). وعن أبي شريح العدوي - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره" (¬3). 6 - الجار أولى الناس بشراء البيت أو الأرض من جاره. عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانَت لهُ أرضٌ فأرادَ بَيعَها، فَليَعرِضها على جارِهِ" (¬4). 7 - صنع الطعام للجيران لوفاة ميت عندهم. قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في أحكام الجنائز (211): "وإنما السنةُ أن يصنع أقرباءُ الميت وجيرانه لأهل الميت طعامًا يُشبعهم؛ لحديث عبد الله ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (111)، وحسنه الألباني، وينظر تخريجه في "الصحيحة" (2646). (¬2) متفق عليه. (¬3) أخرجه البخاري (8/ 13 - فتح) في كتاب الأدب. (¬4) صحيح. أخرجه ابن ماجه (2493)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (2358).

تجنب الوقوع في الخطأ معه

جعفر - رضي الله عنه - حين قُتل قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا، فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم". أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه .. قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 247): "وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموتُ وليلته طعامًا يُشبعهم، فإن ذلك سنةً، وذكرٌ كريمٌ، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا". 8 - تجنب الوقوع في الخطأ معه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرًا" (¬1). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك". قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثمَّ أيُّ؟ قال: "وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك". قلت: ثمَّ أي؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" (¬2). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخلُ الجنةَ من لا يأمن جارُهُ بوائقَهُ" (¬3). ومن الواجب غض البصر عن عورات الجار ومحارمه، وعدم إلحاق الأذى به من جميع الجوانب. والآداب مع الجار كثيرة، ومنها السلام عليه، والتبسم في وجهه، ودعوته واحترامه والتعاون معه على الخير، وكذلك حفظ أسراره؛ لأن الجار قد يطلع على أمور لا يراها غيره، وهذا برأيي من الأمور المهمة بين الجيران. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (8/ 252)، ومسلم (47). (¬2) أخرجه مسلم (86) في كتاب الإيمان. (¬3) أخرجه أحمد، ومسلم (73). قوله: (بوائقه) جمع بائقة أي غائلته وشره.

5 - الأدب مع الأصحاب

5 - الأدب مع الأصحاب إذا رزق المرء بصاحب صادق فتلك نعمه عظمى من المولى عزَّ وجل، وسعادة كبرى يغبطهم على ذلك الأنبياء والرسل يوم القيامة. قال الشاعر: تمسك إن ظفرت بذيل حرٍ ... فإن الحر فى الدنيا قليلُ لأن كثيرًا من الناس اليوم أصبحت علاقاتهم نفعية، وتآخيهم صلات دنيوية فحسب، ناسين أو متناسين أن أعظم أركان التآخي والخلة ما كانت لله وبالله. أما الصداقات النفعية والمصلحية فهي في الدرجة الدنيا ولا يطلق عليها اسم الصداقة إلا تجنيًا، وإنما هي علاقات نفعية ولا مجال للحديث عنها هنا ولا وجه للمقارنة بين ما عزمنا الكتابة فيه وبين صداقة المصلحة. قال الشاعر: وكل صديق ليس في الله وُدُّه ... فإني به فى ودِّه غير واثقِ وصديق المصلحة تزول صداقته مع زوالها، وإنا إذ عالجنا مختلف ضروب الصداقة كنا نقصد بذلك إيضاح الحسن من خلال مقارنته بالسيء، أو بيان الفاضل من خلال مقارنته بالمفضول. وكم بلية وقعت بالاستهانة بخلطاء السوء وجلساء الباطل، فكانت مجالستهم مرض فتاك، حتى أوقعت بعضهم في الجحيم باعتناق عقائد زائغة، أو سلوك هابط مشين.

أنواع الصحبة

أنواع الصحبة وما من إنسان إلا وله أصحاب يصحبهم اضطرارًا، أو اختيارًا. قال الماوردي: "والمؤاخاة في الناس قد يكون على وجهين: أحدهما: أُخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار. والثانية: أخوة مكتسبة بالقصد والاختيار" (¬1). فصحبة الاضطرار من يضطر إلى صحبته في السفر يدله على طريق ونحوه. أما صحبة الاختيار من يتخذه المرء خليلًا ويصطفيه صاحبًا. والحديث هنا عن صحبة الاختيار. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "عليك بإخوان الصدق فَعِش في أكنافهم، فإنهم زين في الرخاء، وعُدَّة في البلاء" (¬2). وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرًا فانبذ عنك صحبته" (¬3). والصحبة الصالحة زاد الطريق، والأخوة في الله هم نعيم الدنيا الباقي. قال الشاعر: وما المرء إلا بإخوانه ... كما تقبض الكفُّ بالمعصمِ ولا خير في الكفِّ مقطوعةً ... ولا خير فى الساعد الأجذمِ ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (261). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" (35). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 248).

والناس في آداب الصحبة لهم وجوه متعددة، "فالصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق كالصحبة بسبب الجوار، أو بسبب الاجتماع في المكتب، أو في المدرسة، أو في السوق، أو على باب السلطان، أو الأسفار، وإلى ما ينشأ اختيارًا ويقصد، وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية، ولا ترغيب إلا فيها، والصحبة عبارة عن المجالسة والمخالطة والمجاورة" (¬1). وقال: "والصحبة تتفاوت، فإنها إذا قويت صارت أخوة، فإن ازدادت صارت محبة، فإن ازدادت صارت خلة، والخليل أقرب من الحبيب، فالمحبة ما تتمكن من حبة القلب، والخلة ما تتخلل سر القلب، فكل خليل حبيب، وليس كل حبيب خليلا، وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة" (¬2). **** ¬

_ (¬1) "الأحياء" (4/ 147). (¬2) "الإحياء" (5/ 3).

آداب الصحبة

آداب الصحبة للصحبة آداب كثيرة اجتهد في جمعها كثير من العلماء والأدباء، وأوردها بعضهم في رسائل مفردة، وبعضهم نثرها في كتبه لما لها من الأهمية. قال الماوردي -رحمه الله-: "فإذا صفت عنده أخلاق من سَبَره، وتمهدت لديه أحوالُ من خَبَره، وأقدم على اصطفائه أخًا، وعلى اتخاذه خِدنًا (¬1)، لزمَته حينئذ حقوقُه، ووجبَت عليه حُرُماته" (¬2). عن سفيان بن عيينة: قال علقمةُ بن لَبِيد العُطَارِدِيّ لابنه: يا بنيّ، إن نَزَعَتكَ إلى صُحبةِ الرجال حاجةٌ، فاصحب من إن صحبته زانك، وإن خَدَمتَه صانك، وإن عَرَكت به مانك. وإن قُلتَ صدَّق قولك، وإن صُلتَ سدَّد صولك، يزاولُ عنك من رام ونالك. وإن مددتَ يدكَ بفضلٍ مَدّها، وإن بدرت منك ثُلمةٌ سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها. من إن سألتَه أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتداك. من إن نَزَلت بك إحدى الملِمَّات آساك. من لا تأتيك منه البوائق، ولا تَختلفُ عليكَ منه الطرائق، ولا يخذُلُكَ عند الحقائق. ¬

_ (¬1) الخدن هو الصديق والصاحب الحميم. (¬2) "أدب الدنيا والدين" (284).

المصاحبة على الدين والوفاء

من إن حاولت حَويلًا أمَّرك، وان تَنَازعتُما مَنفَسًا آثرك (¬1). أخي -الودود- إليك بعضًا من هذه الآداب على سبيل المثال لا الحصر: 1 - المصاحبة على الدين والوفاء. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما" (¬2). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، المتحابون على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء" (¬3). ومما رواه البخاري ومسلم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه". فالمصاحبة على الدين أساس العلاقة وأعظم أركان الصحبة الحب في الله، والوفاء هو الثبات على الحب مع من تحب حتى الممات. قال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: "اعلم أن من يحب في الله يبغض في الله، فإنك إذا أحببت إنسانًا لكونه مطيعًا لله، فإذا عصى الله أبغضته في الله؛ لأن من أحب لسبب أبغض لوجود ضده، ومن اجتمعت فيه خصال محمودة ومكروهة، فإنك تحبه من ¬

_ (¬1) "الجليس الصالح" للحريري (2/ 283). (¬2) صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5603) (¬3) صحيح. أخرجه أحمد والطبراني، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4321).

وجه وتبغضه من وجه، فينبغي أن تحب المسلم لإسلامه، وتبغضه لمعصيته، فتكون معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال، فأما ما يجري منه مجرى الهفوة التي يعلم أنه نادم عليها، فالأولى حينئذ الإغماض والستر، فإذا أصر على المعصية، فلا بد من إظهار أثر البغض بالإعراض عنه والتباعد، وتغليظ القول له على حسب غلظ المعصية وخفتها" (¬1). والخل الوفي من تكون عشرته مع خليله على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه وعبادته وسلوكه وشمائله وما آمن به - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. والعاقل من يكون اجتماعه بأصحابه تعاونا على البر والتقوى، وتواصيًا بالحق والصبر. قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطمع، وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت. والثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصى بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها" (¬2). ¬

_ (¬1) "منهاج القاصدين" (93). (¬2) "الفوائد" (67).

التعامل بالأخلاق الحسنة

2 - التعامل بالأخلاق الحسنة. التحلي بالأخلاق من شيم النفوس الشريفة والخلال الحميدة، فعلى الخليل أن يتصف بالأخلاق الكريمة في قوله وفعله حتى يعظم في عين صاحبه. يكفي في الخلق الحسن أنه سبب لمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه حسن عند كل الناس، والنصوص في هذا الباب متوافرة من القرآن والسنة. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً" (¬1). أول مفسدات الصحبة الخصومة والجدال، والحط من قدر الآخرين، وبطر الحق، وغمط الناس، ومن أدب الصحبة مجانبة التباغض والتحاسد. قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]. ما أروع التعامل بالأخلاق الحسنة بين الناس عموماً، ومع الأخلاء خصوصاً بالقول والفعل. ومن حسن الخلق مع خليلك في مجالسته الإصغاء إليه، "فلا تقطع حديثه فإن ذلك من سوء المجالسة، أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به منه خبراً كان أو شعراً، تُتمُّ له البيتَ الذي بدأ به، وتريه أنك أحفظُ له منه، فهذا غايةُ في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلا منه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم (2321) في كتاب الفضائل. (¬2) ينظر "بهجة المجالس" (1/ 48) لابن عبد البر، بتصرف يسير.

إعلان المحبة لله تعالى

3 - إعلان المحبة لله تعالى. الحب في الله أوثق عرى الإيمان، والمتحابون في الله لهم منابر من نورٍ يوم القيامة يغبطهم النبيون والشهداء، والحب في الله فضيلته أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، والحياة لها طعم حين نعيشها لله، ولها طعمان حين نعيشها مع أُناسِ نُحِبُّهم في الله ويحبوننا، وكلمة (أحبك) محببة للنفس، وعندما تقال لله يكون لها وقع في النفوس، فالحب في الله مساحة كبيرة، وأرض فسيحة نباتها الصدق والإخلاص وماؤها التواصي بالحق والصبر، ونسيمها حسن الخلق، فما أشجَى الأسماع مثل كلمة أُحِبُّك في الله. عن المقداد بن معدي كرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه" (¬1). وفي رواية: "إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المحبة" (¬2). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله" (¬3). قال بعض الصالحين: كلما قرأت قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 130) وغيره، وصححه الألباني ينظر "صحيح الجامع" (279). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه "الإخوان" (68) عن مجاهد مرسلاً، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (280). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (5/ 145، 173)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (281).

قال المناوي - رحمه الله -

لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67]. ندمت على كل صحبة ورفقة، وإذا قرأت {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فرحت أنَّ لي أخوة أحبهم في الله. من كمال الشريعة الإسلامية حث العباد على توثيق الصلات، وجمع الشمل بدعوة العباد إلى الحب في الله إذا اتصفوا بمكارم الأخلاق، فيكون الحب لهم لله لا لذة ولا منفعة، كما ندب الإسلام المسلم إذا أحب فلانًا أن يقول له: إني أحبك في الله حتى يستميل قلبه ويستجلب وُدَّهُ. قال المناوي -رحمه الله-: "قوله: (فليخبره أنه يحبه) بأن يقول إنِّي أحبك لله أي لا لغيره من إحسان أو غيره، فإنه أبقى للألفة وأثبت للمودة، وبه يتزايد الحب ويتضاعف وتجتمع الكلمة، وينتظم الشمل بين المسلمين وتزول المفاسد والضغائن وهذا من محاسن الشريعة" (¬1). (تنبيه) نبه الشيخ المناوي في "فيض القدير" أن ظاهر الحديث لا يتناول النساء فإن اللفظ (أحد) بمعنى واحد وإذا أريد المؤنث إنما يقال إحدى لكنه يشمل الإناث على التغليب وهو مجاز معروف مألوف وإنما خص الرجال لوقوع الخطاب لهم غالبًا، وحينئذٍ إذا أحبت المرأة أخرى لله ندب إعلامها. قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "من أحب رجلًا صالحًا فإنما يحب الله تبارك وتعالى" (¬2). كل صحبة لا تقوم على الحب في الله فإنها لا تقوى، ومما يوثق الحب ¬

_ (¬1) "فيض القدير" (1/ 247). (¬2) "روضة العقلاء" (100) لابن حبان.

خفض الجناح

إعلان المحبة. ولك أن تبصر هذه الصورة الرائعة، وأثرها الطيب في تبادل الحب كما في حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ مرَّ رجل، فقال رجل من القوم: يا رسول، إني لأحب هذا الرجل. قال: "هل أعلمته ذلك"؟ قال: لا. فقال: "قم. فأعلمه" قال: فقام إليه فقال: يا هذا، والله إني لأحبك في الله. قال: أحبك الذي أحببتني له (¬1). وتأمل كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أصحابه ويعلن ذلك أمام الملأ، ولكل من سأل، فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهُ على جيش ذات السلاسل، فأتيتهُ فقلتُ: أيُّ الناس أحبُّ إليكَ؟ قال: "عائشة" قلتُ: من الرجال؟ قال: "أبوها". قلتُ: ثمَّ من؟ قال: "عمر". فعدَّ رجالًا (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسامة أحب الناس إليَّ" (¬3). 4 - خفض الجناح. اللين والرفق والبشاشة والطلاقة والسماحة وخفض الجناح أحد وسائل تملك القلوب، والصاحب البصير من يخفض جناحه لإخوانه فيقابل السيئة بالحسنة، والإساءة بالمغفرة، والجناح استعارة يقصد منها لين الجانب مع ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 140) وصححه ابن حبان، والألباني كما في "الصحيحة" (418). (¬2) أخرجه البخاري (7/ 18، 8/ 74 - فتح)، ومسلم (2384). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 96)، والطبراني، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (924).

الانبساط والمواساة في مالك

الأصحاب، وذلك باستعمال الذل المحمود بالعطف والرقة ولين الجانب بخفضه وعدم الشموخ والتعالي، وقد وجه الله سبحانه نبيه بالتواضع للمؤمنين فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. وقال سبحانه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. أي باتخاذ العطف واللين والتواضع مع المؤمنين، وليس أنهم أذلة مهانون، بل هذا الذل محمود كما قال سبحانه في حق الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]. أي ألن لهما جانبك وتذلل لهما برقتك عليهما. والعاقل من خفض جناحه لإخوانه، فنال محبتهم، فأسكنوه قلوبهم، ويكون ذلك بالخلق الحسن. عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار" (¬1). قال الإمام الشافعي: "ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته" (¬2). 5 - الانبساط والمواساة في مالك. عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حقت محبتي للمتباذلين فيَّ" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 133، 187)، والحاكم (1/ 60)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1620). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (10/ 98). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد، وصححه المنذري، والألباني في "صحيح الترغيب" (3020).

قال يزيد بن عبد الملك: "إني لأستحي من الله -عز وجل- أن أسأل الجنة لأخ من إخواني وأبخل عليه بدينار أو درهم". وفي هذا المعنى قال الشاعر: عجبتُ لبعض الناس يبذلُ ودهُ ... ويمنع ما ضُمَّت عليه الأصابعُ إذا أنا أعطيتُ الخليل مودتي ... فليس لمالي بعد ذلك مانعُ الخليل المحب يعين خليله ولا يبخل عليه بشيء من ماله مما يقدر عليه. وأحسن القائل: وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تنال يدي ظلمٌ لهم وعقوقُ وإنِّيَ أستحيي من الله أن أُرى ... بحال اتساعٍ والصديق مَضِيقُ قال الشاعر: من كان للخير منَّاعاً فليس لهُ ... عندَ الحقيقة إخوانٌ وأخْدانُ (¬1). المواساة بالمال مع الإخوان على ثلاث مراتب: أ- أن تقوم بحاجة أخيك من فضل مالك. ب- أو تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لمَّا حفر الخندق رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - خمصاً فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصاً شديداً؟ فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن، فذبحتها فطحنت ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليتُ إلى ¬

_ (¬1) الخدن: الصديق الحميم.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا تفضحني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمن معه. فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحتُ بُهُيَمةً لنا، وطحنتُ صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك فصاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنزلن بُرمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء". فجئت وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدُم الناس حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلتُ الذي قلت، فأخرجت لنا عجينًا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: "ادع خبازةً فلتخبز معك، واقدحي من برمتك ولا تنزلوها". وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغيظ كما هي وإن عجيننا كما هو (¬1). كان أبو جعفر محمد بن علي يدعو نفرًا من إخوانه كل جمعة فيطعمهم الطعام الطيب، ويطيبهم، ويبَخِّرهم، ويروحون إلى المسجد من منزله (¬2). وكان سعيد بن العاص يدعو جيرانه وجلساءه في كل يوم جمعة، فيصنع لهم الطعام، ويكسوهم الثياب، فإذا أرادوا أن يتفرقوا أمر لهم بالجوائز". وبعث إليهم (¬3). ج- أو تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6/ 183، 7/ 396)، ومسلم (2039). (¬2) "كتاب الإخوان" (230) لابن أبي الدنيا. (¬3) "كتاب الإخوان" (233، 234) لابن أبي الدنيا.

الإعانة بالنفس في قضاء المصالح والقيام بها قبل السؤال

6 - الإعانة بالنفس في قضاء المصالح والقيام بها قبل السؤال. * قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها وهو قادر، فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسى، فإن لم يقضها فكبر عليه، واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36]. قال الناظم: خليلٌ أتاني نفعهُ عند حاجتي ... إليه وما كلُّ الأخلاءِ ينفعُ يُشفعني فيما يعزُّ وجُودُهُ ... وَيمْهَدُ لي عندَ الرِّجال فيشفعُ 7 - أن تحب لصاحبك ما تحبه لنفسك من الخير. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يؤمن أَحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير" (¬2). قال ابن حزم: "لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له بنفسك، فإن طلبت أكثر: فأنت ظالم" (¬3). 8 - تحسين ما يعاينه من عيوب صاحبه بالنصيحة والرفق واللين والتواصي بالحق. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) صحيح. رواه أحمد، والنسائي (5017)، وصححه الألباني. (¬3) "الأخلاق والسير" (37).

عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة" قيل لمن؟ قال: "لله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المستشار مؤتمن" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ المُسلمِ على المسلِمِ ستٌّ" قيلَ: ما هُن يا رسولَ الله؟ قال: "إذا لقيتهُ فسلِّم عليهِ، وإذا دعاكَ فَأجِبهُ، وإذا استَنصَحَكَ فانصح لهُ، وإذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتهُ، وإذا مرض فعده، لاذا مات فاتَّبعه" (¬3). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه" (¬4). وكان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهُما على الآخر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} ثمَّ يسلِّم أحدهما على الآخر (¬5). وفي الأثر فائدة التواصي بالحق والصبر باستذكار قراءة سورة العصر. عن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: "يا عمرو إذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 74) في كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة. (¬2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6700). (¬3) أخرجه مسلم (2162)، (فسمته) تشميت العاطس، يقال بالسين والشين لغتان مشهورتان. (¬4) صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3270). (¬5) صحيح. أخرجه الطبراني في الأوسط، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" (2648).

أن تضع كلام أخيك على أحسن الوجوه

رأيتني قد ملت عن الحق، فضع يدك في تلابيبي، ثم هزني، ثم قل لي: ماذا تصنع؟! " (¬1). وأحسن الشاعر بقوله: نصيحةُ الصَّديقِ كنزٌ فلا ... تَرُدَّ ما حييتَ نُصحَ الصَّديق وخُذ من الأمورِ ما ينبغي ... ودع من الأُمُورِ ما لا يليق قال الشاعر: احفظ نصيحة من بدا لك نُصحُهُ ... ولرأي أهل الخير جَهدك فاقبلِ 9 - أن تضع كلام أخيك على أحسن الوجوه. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: "ولا تَظُنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك المسلم شَرًّا، وأنت تجد لها في الخير مَحْمَلَا" (¬2). 10 - الدفاع عن الأصحاب، والذب عن عرضهم، والانتصار لهم. عن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ذَبَّ عَن عِرْضِ أَخِيهِ بِالغَيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أن يُعتِقَهُ مِنَ النَّارِ" (¬3). وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رَدَّ عن عِرضِ أَخِيهِ رَد الله عَن وَجهِهِ النَّارَ يَومَ القِيَامة" (¬4). ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (5/ 98). (¬2) أخرجه أبو حاتم بن حبان في "روضة العقلاء" (90). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد، والطبراني (24/ 176)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6240). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 450)، والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6262).

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ، وَالمُؤمِنُ أَخُو المُؤمِنِ يَكُفُّ عَلَيهِ ضَيعَتهُ وَيحُوطُهُ من وَرَائِهِ" (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن نصرَ أخاهُ بالغيب، نصرهُ الله في الدنيا والآخرة" (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنِ امرِئٍ يَخذُلُ امرأً مُسلِمًا فِي مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ من عِرضِهِ وُينتَهَكُ فِيهِ من حُرمَتِهِ إِلا خَذَلَهُ اللهُ تَعَالَى؟ فِي مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيه نُصرَتَهُ، وَمَا من أَحَدٍ يَنصُرُ مُسلِمًا فِي مَوطِنٍ ينتَقَصُ فِيهِ من عِرْضِهِ وَيُنتهَكُ فِيهِ من حُرمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوطِنِ يحبُّ فِيهِ نُصرَتَه" (¬3). قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك. وقال الشاعر: إذا صافى حبِيبُكَ من تُعَادي ... فقد عاداكَ وانقطعَ الكلامُ وقال آخر: خليليَّ ما وافٍ بعهديَ أنتما ... إذا لم تكونا لي على مَن أُقاطعُ وقال آخر: عَدُوُّ صديقي داخلٌ في عداوتي ... وإنِّي لِمَن وَدَّ الصَّديق صَديقُ ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6656). (¬2) حسن. أخرجه البيهقي، والضياء، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6574). (¬3) حسن. أخرجه أحمد، وأبو داود، والضياء عن جابر وأبي طلحة بن سهل، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (5690).

وقال أبو العتاهية: صديقي من يُقَاسِمُني هُمُومي ... وَيَرمي بالعداوةِ من رَمَاني ويُحفظني إذا ما غبتُ عنهُ ... وأرجُوهُ لنائبةِ الزَّمانِ وتأمل دفاع معاذ - رضي الله عنه - عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - لما تخلف عن غزوة تبوك، وقال فيه رجل من بني سلمة مقالة منكرة. ها هو كعب يحدثنا عن نفسه فيقول: لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - تبوك، ذكرني، وقال: "ما فعل كعب؟ " فقال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله بُرده، والنظر في عطفيه. فقال معاذ: بئسما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا (¬1). وهكذا يدافع الأخلاء عن بعضهم في الغيب، وهكذا يكون الوفاء. وتأمل دفاع الجنيد عن أصحابه. قيل للجنيد: ما بال أصحابك يأكلون كثيرًا؟ قال: لأنهم لا يشربون الخمر، فيكون جوعهم أكثر. قيل: فما بال بهم قوة شهوة؟ قال: لأنهم لا يزنون ولا يدخلون تحت محظور. قيل: فما بالهم لا يطربون إذا سمعوا القرآن؟! قال: ما في القرآن ما يوجب الطرب، هو كلام الحق، نزل بأمر ونهي ووعد ووعيد، فهو يقهر. عن سفيان بن الحسين قال: كنتُ عند إياس بن معاوية وعنده رجلٌ، تخوفت إن قمتُ من عنده أن يقعَ فيَّ، قال: فجلستُ حتى قامَ، فلما قام ذكرتهُ لإياس. قال: فجعل ينظر في وجهي، ولا يقول لي شيئًا حتى فرغتُ، قال لي: أغزوت الديلم؟ قلتُ: لا، قال: فغزوت السند؟ قلتُ: لا، قال: فغزوتَ الهند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الروم؟ قلت: لا، قلتُ: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4418)، ومسلم (6883).

العفو عن الزلات والهفوات ومقابلة الإساءة بالإحسان

لا، قال: فسلمُ منك الديلم والسند والهند والروم، وليس يسلمُ منك أخوكَ هذا؟! فلم يعد سفيانُ إلى ذاك (¬1). فالمحب يدافع عن أحبابه بالحق كما يدافع عن نفسه أمامهم أو بظهر الغيب، وينتصر لهم، ويقف بجانبهم ويدفع عنهم، طمعًا في العتق من النار، وفي الحديث: "انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا .. " (¬2). 11 - العفو عن الزلات والهفوات ومُقَابلة الإساءة بالإحسان. قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] وفي الأمثال: قَرِينُكَ سَهمُكَ يُخطِئ وَيُصِيبُ يضرب في الإغضاء على ما يكون من القرناء. * صورة مشرقة في العفو: عن علي بن زيد قال: بلغ مصعبَ بن الزبير - رضي الله عنه - عن عريف الأنصار شيء؛ فهمَّ به، فدخل عليه أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال له: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "استوصوا بالأنصار خيرًا -أو قالَ: معروفًا-؛ اقبلُوا من مُحسِنهم، وتجاوزُوا عن مُسيئهم" (¬3). قال الحريري: سامح أخاكَ إذا خَلَط ... منهُ الإصابةَ بالغلط ¬

_ (¬1) "شعب الإيمان" (6773) للبيهقي. (¬2) أخرجه البخاري في المظالم (2443 - فتح) عن أنس - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أحمد (3/ 241)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (959)، وينظر "الصحيحة" (3509).

وتجافَ عن تعنيفهِ ... إن زاغَ يومًا أو قَسَطْ وَاقنَ الوفَاءَ ولو أَخلَّ ... بما اشترطتَ وما اشترط واعلم بأنَّكَ إن طلبتَ ... مُهذَّبًا رُمتَ الشَّطط من ذا الذي ما ساءَ قط ... ومن لهُ الحُسنى فَقَط وقال غيره: سامحْ صديقكَ إن زَلت به قَدمٌ ... فليس يَسلمُ إنسانٌ مِنَ الزّللِ قال الماوردي رحمه الله-: "فأمَّا العفو عن الهفوات: فلأنه لا مُبرأ من سَهو وزَلل، ولا سليم من نقص أو خَلَل، ومَن رام سليمًا من هفوة، والتمس بريئًا من نبوة، فقد تعدى على الدَّهر بشطَطه, وخادع نفسه بغلطه, وكان من وجود بغيته بعيدًا, وصار باقتراحه فردًا وحيدًا, وقد قالت الحكماء: لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه" (¬1) قال الشاعر: ومن لم يغمضْ عينَهُ عن صديقه ... وعن بعضِ مافيه يَمُت وهو عاتبُ ومن يَتَتَبَّع جاهدًا كلَّ عثرةٍ ... يجدها ولم يسلم له الدهرَ صاحبُ وقال آخر: إذا كنتَ في كل الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُه ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعد معايبُه قال النابغة: ولَستَ بِمُستَبقٍ أخًا لا تلُمُّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟ ¬

_ (¬1) "أدب الدنيا والدين" (531).

اصطناع المعروف بالتودد إلى الأصحاب

تفاوت الهفوات والهفوات إما أن تكون في حقك، أو في دينه بارتكاب معصية، فإن كان في حقك فاصبر وتجاوز واحتمل، وإن كان في دينه، فالهفوات إما كبائر أو صغائر، فالصغائر مغفورة والنفوس بها معذورة، أما الكبائر، فإما أن يتلبس بها خاطئًا، أو متعمدًا مصرًا لا يريد الانفكاك عنها، والأخ النابه ينصح ولا يفضح، ويتلطف ولا يهجر إلا إذا أصر على المعصية وخاف على نفسه أن يتأثر فيتعامل معه بالضوابط الشرعية. قال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: "اعلم أن من يحب في الله يبغض في الله، فإنك إذا أحببت إنسانًا لكونه مطيعًا لله، فإذا عصى الله أبغضته في الله، لأن من أحب لسبب أبغض لوجود ضده، ومن اجتمعت فيه خصال محمودة ومكروهة، فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه، فينبغي أن تحب المسلم لإسلامه، وتبغضه لمعصيته، فتكون معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال، فأما ما يجري منه مجرى الهفوة التي يعلم أنه نادم عليها، فالأولى حينئذ الإغماض والستر، فإذا أصر على المعصية، فلا بد من إظهار أثر البغض بالإعراض عنه والتباعد، وتغليظ القول له على حسب غلظ المعصية وخفتها" (¬1). 12 - اصطناع المعروف بالتودد إلى الأصحاب. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ¬

_ (¬1) "منهاج القاصدين" (93).

رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعُهُم للناس، وأحب الأعمالِ إلى الله -عز وجل- سرور تدخلُهُ على مسلمٍ أو يكشفُ عنه كِربةً، أو يقضي عنه دينًا، أو يطرُدُ عنه جُوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجةٍ أحب إليَّ من أن أعتكفَ في هذا (يعني مسجد المدينة) شهرًا" .. ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيأ له أثبتَ الله قدمهُ يوم تزول الأقدامُ" (¬1). قلت: صاحبك -أيها الودود- أقرب الناس إليك، وهو أهل الوفاء عندك، فلا تتردد من اصطناع المعروف إليه بقضاء حاجاته وإعانته بما تملك، ومشاركته في الأفراح والأتراح، فإنك تعظم في عينه وتنل أجرًا. قال عبد الله بن الزبير: قُتل أبي وترك دينًا كبيرًا، فأتيت حكيم بن حزام أستعين برأيه وأستشيره ... ، فقال: يا ابن أخي ذكرت دين أبيك فإن كان ترك مئة ألف فعليَّ نصفها (¬2). * الصاحب أدرى بنفع خليله: كان الإمام محمد بن الحسن الشَّيْبَاني المولود سنة 131 هـ، والمتوفى سنة 189هـ قد بلغ عند الرشيد مبلغًا جليلًا، وكان إمام الحنفيّة في زمانه، فكتب إليه الإمام الشافعيّ: لستُ أدري ماذا أقولُ ولكن ... أبتغي من عريضِ جاهكَ نفعا ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"، والطبراني (13646)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (906). (¬2) "تهذيب الكمال" (7/ 187، 188).

قبول الاعتذار

والفتى إن أرادَ نفعَ أخيهِ ... فهو أدرى في أمرهِ كيفَ يسعى 13 - قبول الاعتذارُ. قبول الاعتذار: وهو تحرِّي الإنسان محو أثر الذَّنبِ، مع إظهار ندمٍ وأسف على ما وقع منه تجاه الغير بأنه لا يعود. ومن الحسن اعتذار المسيء، مع الاعتراف بالخطأ، وأحسنُ من ذلك قبول الاعتذار. قال أحمد بن أَعثم: إذا اعتذرَ الصديقُ إليك يومًا ... من التَّقصيرِ عُذْر أخ مُقرّ فصُنهُ عن جفائِكَ واعف عنهُ ... فإن الصّفحَ شِيمَةُ كُلِّ حُرّ والعاقل من يجانب ويحذر أن يقول قولًا، أو يفعل شيئًا يسيء به للغير يعتذر عنه لاحقًا، لهذا جاء في الحديث: "إِيَّاك وكل ما يُعتذر منه" (¬1). أي احذر أن تقول قولاً أو تعمل شيئًا تعتذر عنه غدًا. ونصيحتي لكل مسيء أن يبادر الاعتذار ويدع الاستكبار لينال عفو الغفَّار. قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه واعتذر إليَّ في أذني الأخرى لقبلت عذره". ومن النظم في معناه: قيل لي قد أساء إليك فلانٌ ... وقعود الفتى على الضيمِ عارُ قلت قد جاءنا فأحدث عذرًا ... دية الذنب عندنا الاعتذارُ ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الضياء عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2671).

النصيحة في السر

وقال آخر: أقبلْ معاذير من يأتيك معتذرًا ... إن برَّ عندك فيما قال أو فجَرا فقد أطاعك من يرضيك ظاهرهُ ... وقد أجلك من يعصيك مُستَتِرًا وقد أحسن القائل: إذا اعتذرَ الجاني مَحَا العُذْرُ ذَنْبَهُ ... وكانَ الذي لا يقبَلُ العُذْرَ جَانيا 14 - النصيحة في السر. لا يخلو المرء من قصور ونسيان، وكل ابن آدم خطاء، وأجمل النصائح ما كان في السر، وخليلك أحق الناس بنصيحتك، وأغلى النصائح عنده ما كان سرًا، والصاحب الموفق من يسلك طريق النجوى، وهو السر دون الجهر. قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]. عن الحسن البصري قال: "المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى منه ما لا يعجبه سدَّده، وقوَّمه، وحاطه، وحفظه في السر والعلانية" (¬1). قال ابن حزم: "إذا نصحتَ فانْصَح سِرًّا لا جهرًا، أو بتَعريضٍ لا بتصريحٍ، إلا لمن لا يفهم، فلا بُد من التَّصريح له، ولا تَنْصح على شرط القبول منك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" (55) بسند جيد. (¬2) "الأخلاق والسير" (122).

وقال ابن حزم: "إذا نَصَحْتَ ففي الخلاء بكلامٍ لَيِّن" (¬1). والنفوس تأنف وتتأذى من نشر أخبارها ومشكلاتها، والصاحب البصير يفرق بين النصيحة والتعيير، ويتحرَّى الحِكْمَةَ في نصحه حتى لا تتعقد المسائل، ولا تزيد المشاكل. قال هارون بن عبد الله الحمال: "جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدق الباب عليّ، فقلت: من هذا. فقال: أنا أحمد، فبادرت أن خرجت إليه، فمساني ومسيته، قلت: حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: شَغَلت اليوم قلبي. قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس" (¬2). وخلاصة القول: إن أردت نصح الغير فارفق به وانصحه سرًّا. وقد قلت في ذلك: حفظ السرائر حقٌّ لا يفوته ... إلاَّ اللئيم بسر الغير صدَّاحُ حبُّ الفضائحِ مسلكهم وشيمتهم ... والصاحبُ النذل مذياعٌ وفَضَّاحُ فكن نصوحًا بقولٍ إن رغبت به ... إياك نصحٌ أمام الناس جراحُ ¬

_ (¬1) "الأخلاق والسير" (127). (¬2) "تاريخ بغداد" (14/ 22) للخطب.

حفظ الأسرار

التخشين في النصيحة: ولا بأس بالتخشين في النصيحة، ولكن سرًا، والقصد منها تحقيق المقصود لإزالة الأوساخ وليس التصيد أو التعيير، بل الرفق عندي أولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب النظافة والنعومة ما نحمد منه ذلك التخشين" (¬1). 15 - حفظ الأسرار. والأخ المحب يكون أمينًا على سر خليله، فلا يفشيه ولو كانت النية صالحة، وفي الحديث عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدّث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة" (¬2). فالسر مناط بمصلحة ومفسدة من يتعلق به، فلا يُفْشَى إذا كان منه مضرة تلحق بصاحبه، وبالأخص أسرار الماضي كالوقوع في الذنوب والمعاصي، فالستر هو الواجب في حق من تصاحب، وفي الحديث: "من سترَ مُسلمًا سترهُ اللهُ يومَ القيامةِ" (¬3). قال ابن حزم -رحمه الله-: "أن تكتُم سِرَّ كلَّ من وَثِقَ بك، وأن لا تُفشِيَ إلى أحدٍ من إخوانِكَ، ولا ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (28/ 48). (¬2) حسن. أخرجه أبو داود (4868)، والترمذي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (486). (¬3) أخرجه البخاري (2442. فتح)، مسلم (2580) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الدعاء له

من غيرهم من سِرِّكَ ما يُمكِنُكَ طَيُّهُ بوجهٍ ما من الوُجُوهِ، ولو أنهُ أخصُّ النَّاس بك" (¬1). جاء في ترجمة أحمد بن عطاء بن أحمد قال: "مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط" (¬2). 16 - الدعاء له. عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبدٍ مُسلمٍ يدعُو لأخيهِ بِظهرِ الغيبِ، إلا قالَ المَلَكُ: ولكَ بِمِثلٍ" (¬3). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَالَ الرجُلُ لأَخِيهِ جزَاكَ اللهُ خَيرًا، فقد أَبلَغَ فِي الثنَاءِ" (¬4). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لأصحابه من المهاجرين والأنصار، ودعا لآل أبي أوفي وصلى عليهم. ولا تنس أن تدعو لإخوانك بظهر الغيب فإنها دعوة مستجابة، فقد روى الإمام مسلم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: قَدِمْتُ الشامَ، فَأتَيتُ أَبَا الدردَاءِ في مَنزِلِهِ فَلَم أَجِدهُ، وَوَجَدتُ أُمَّ الدردَاءِ فَقَالَت: أَتُرِيدُ الحجَّ، ¬

_ (¬1) "الأخلاق والسير" (117). (¬2) "البداية والنهاية" (11/ 316). (¬3) أخرجه مسلم (2732)، وأبو داود. (¬4) صحيح. أخرجه الخطيب (10/ 282) في "التاريخ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (708).

العَامَ؟ فَقُلتُ: نَعم. قَالَت: فَادع الله لَنَا بِخَيرٍ، فَإِن النبِي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: "دَعوَةُ المَرءِ المُسلِمِ لأَخِيهِ، بِظَهرِ الغَيبِ، مُستَجَابَةٌ. عِندَ رَأسِهِ مَلَك مُوَكَّلٌ، كُلما دَعَا لأَخِيهِ بِخَيرٍ، قَالَ المَلَكُ المُوَكلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَكَ بِمِثلٍ". قال: فَخَرَجتُ إلى السوقِ فلقيتُ أَبَا الدردَاءِ. فقال لي مِثلَ ذلك. يروِيهِ عن النبِيُّ" (¬1). ومن حسن الأدب مع الصديق الدعاء له بالبركة إذا رأى ما يعجبه بأن يقول: اللهم بارك فيه، وبارك له .. ونحو ذلك. عن عامر بن ربيعة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأي أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة فإن العين حق" (¬2). وعن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف أن أباه حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وساروا معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل ابن حنيف وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جِلد مُخبَّأةٍ. فلبَّطَ سهلٌ، فأتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: يا رسولَ الله، هل لكَ في سهل، والله ما يرفع رأسه وما يفيق. قال: "هل تتهمون فيه من أحد". قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامرًا فتغيظ عليه وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت! ". ثم قال له: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "الصحيحة" (2733). (¬2) صحيح. أخرجه أبو يعلى (7195)، والطبراني، والحاكم (4/ 215)، وصححه ووافقه الذهبي والألباني في "صحيح الجامع" (556).

حفظ حقوقه

"اغتسل له" (¬1). 17 - حفظ حقوقه. عن عَمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قال: إذا كثر الأخلاء كثر الغرماء: قلت لموسى: وما الغرماء؟ قال: الحقوق (¬2). الحقوق نوعان: الأول: حقوق عامة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ المُسلمِ على المسلِمِ سِتٌّ". قيلَ: ما هُنَّ؟ يا رسولَ الله؟ قال: "إذا لقيتهُ فسلِّم عليهِ، وإذا دعاكَ فَأجِبهُ، وإذا استَنصَحَكَ فانصحْ لهُ، وإذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتهُ، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" (¬3). لكل صاحبٍ منزلة وحق، وحتى تدوم الأخوة، ويسود الوفاق ويتم الاتفاق بين الأصدقاء أن يعرف كل صاحب حق صاحبه كما جاء بذلك الشرع الحكيم. وقال الماوردي: "وأول حقوقه اعتقادُ مودَّته، ثم إيناسُه بالانبساط إليه في غير مُحَرَّم، ثم نصحُه في السرّ والعلانية، ثم تخفيفُ الأثقال عنه، ثم معاونتُهُ فيما ينوبه من حادثة، أو يناله من نكبة؛ فإنَّ مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 486)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4020). (¬2) أخرجه أبو سعيد الأعرابي في معجمه، وصححه الألباني في "الصحيحة" (521). (¬3) أخرجه مسلم (2162) في كتاب السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام. (¬4) "أدب الدنيا والدين" (284).

الثانى: حقوق خاصة

عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انطلقُوا بنا إلى البصير الذي في بني واقفٍ نعوُدهُ". قال: وكان رجلًا أعمى (¬1). الثانى: حقوق خاصة. قال الماوردي: "فإذا صفت عنده أخلاق من سَبَره، وتمهدت لديه أحوالُ من خبره، وأقدم على اصطفائه أخًا، وعلى اتخاذه خِدْنًا (أي صاحبًا)، لزمته حينئذ حقوقه، ووجبت عليه حُرُماته". وللأخوة الخاصة حقوق أربعة: الأول: حق مالي، بأن يبذل الصاحب ماله لصاحبه دون أن يضر بنفسه أو حق واجب عليه. الثاني: حق النفس، بأن يعين الصاحب صاحبه بنفسه فيما يستطيع. الثالث: حق في اللسان، بأن يذب الصاحب عن صاحبه عن عرضه وأهله، وأن يبلغه حبه، ويدعو له في ظهر الغيب، وينصح له. الرابع: حق الوفاء، والثبات على الصحبة في حياته وبعد مماته. 18 - تفقد أحواله. ومن أدب الصحبة تفقد أحوال الأصحاب بالسؤال والاطمئنان عليهم، وإسداء النصيحة لهم، وإعانتهم على الخير، وزيارتهم، وحل مشكلاتهم الأسرية. عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه قال: آخى النبيُّ بينَ سلمانَ وأبي ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو سعيد الأعرابي في معجمه، وصححه الألباني في "الصحيحة" (521).

الدرداء، فزارَ سلمانُ أبا الدرداء، فرأي أمَّ الدرداء متبذلةً، فقال لها: ما شأنُك؟ قالت: أخوكَ أبو الدرداء ليس لهُ حاجةٌ في الدنيا. فجاءَ أبو الدرداء فصنعَ لهُ طعاماً، فقال له: كُل، قال: فإني صائمٌ. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكُلَ. قال: فأكلَ، فلما كان الليلُ ذهبَ أبو الدرداء يقومُ، قال: نمْ، فنام، ثم ذهب يقومُ، فقال: نَم. فلما كان من آخر الليل قال سلمانُ: قُمِ الآن. فصَلَّيا، فقال له سلمانُ: "إن لربِّك عليك حقاً، ولنفسكَ عليكَ حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقَّه"، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال له النبي: "صَدَق سلمانُ" (¬1). قال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث من الفوائد: مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والسؤال عما يترتب عليه مصلحة وكان في الظاهر لا يتعلق بالسائل، وفيه النصح للمسلم وتنبيه من أغفل" (¬2). عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والصِّديق في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة" (¬3). والعاقل من توسط في الزيارة غير مقلِّل ولا مكثر، فإن في التقليل داعية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1968 - فتح) في كتاب الصوم، باب: من أقسم على أخيه. (¬2) "فتح الباري" (4/ 211). (¬3) حسن. أخرجه الدارقطني في "الأفراد"، والطبراني، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2604).

حفظ أهل صديقك

الهجر، وفي الكثرة سبب المَلال. وفي الحديث: "زر غبًا تزدد حبًا" (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عاد مريضًا، أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ، أن طِبتَ وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلًا" (¬2). 19 - حفظ أهل صديقك. ومن أدب الخلة توقير أهل الأصحاب، وعونهم قدر الإمكان، وحفظ أسرارهم، ومشاركتهم في السراء والضراء. 25 - تعزيته عند المصيبة. التعزية تسلية الصاحب وحمله على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب، وهكذا كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يحدث عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مؤمنٍ يُعَزِّي أخاهُ بمصيبة إلا كساهُ الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة" (¬3). 21 - السلام عليه عند السفر. والصاحب البار يودع صاحبه للسفر بإخلاص وتذكرة وطلب للسلامة، ويخص الدين أولًا لأنه أعظم وأهم، فيستحفظه الدين، وذلك أن السفر قطعة من العذاب، ومحل الاشتغال عن الطاعات، فيودعه داعيًا المولى بأن ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه البزار، وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3568). (¬2) حسن. أخرجه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6263). (¬3) حسن. أخرجه ابن ماجه (1601)، وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (1301)، وينظر تخريجه في "الصحيحه" (195).

حفظ عرضه

يحفظ عليه دينه، وأمانته وهي الأهل ومن يخلف منهم، وماله، وخواتيم عمله من الأعمال الصالحة، فيسن له أن يقول إذا كان مسافرًا: "أستودعك الله الذي لا تَضيعُ ودَائعه". ويرد عليه المقيم: "أستوح الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يقول للرجل: تعال أُوَدِّعك كما كان رسول الله يودعنا فيقول: "استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" (¬1). قال ابن عبد البر: "إذا خرج أحدكم إلى سفر فليودع إخوانه، فإن الله جاعل في دعائهم بركة" (¬2). قال الشعبي: "السنة إذا قَدِمَ رجل من سفر أن يأتيه إخوانه فيسلمون عليه، وإذا خَرَج إلى سفر أن يأتيهم فيودعهم ويغتنم دعاءهم" (¬3). 22 - حفظ عرضه. الأريب من يحفظ عرض أخيه ويذب عنه من أن ينتقص بذم أو يذكر بسوء من هتك عرض أو سب أو ظلم، وكل ما يقدح فيه سواء كان فيه أو من يلزمه أمره. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل المسلم على المسلم حرام، دمُه ومالُه وعِرضُهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (957). (¬2) "الآداب الشرعية" (1/ 421) لابن مفلح المقدسي. (¬3) المصدر السابق (1/ 421). (¬4) أخرجه مسلم (2564) في كتاب البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم.

حسن الظن به

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا -وأشار إلى القلب- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (¬1). عن أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبَّ عن لحمِ أخيهِ بالغيبةِ كان حقًا على الله أن يعتقه من النار" (¬2). 23 - حسن الظن به. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن، فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" (¬3). والصاحب الأريب الذي لا يجعل للشكوك في نفسه سبيلا، ولا يوقع في قلبه تهمة دون دليل. ***** ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6706). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (6/ 416)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6240). (¬3) أخرجه البخاري، ومسلم (2563).

6 - أدب الرئيس والرؤوس

6 - أدب الرئيس والرؤوس الإسلام دين العمل والجد والنشاط وطلب الرزق، وقد أمر المولى -عز وجل- عبادة بالسعى في الأرض والأكل من رزقه. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]. وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]. وعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يأخد أحدكم حبله فيأتي الجبل بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها فَيكُفُ الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه" (¬1). عن المقدام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكَلَ أَحَد طَعَاما قط خَيرًا من أن يَأكلَ من عَمَلِ يَدهِ وَإِن نَبِيَّ اللهِ داوُدَ كَانَ يَأكلُ من عَمَلِ يَده" (¬2). عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَعَثَ الله نَبِيا إِلا رَعَى الغَنَمَ"، فَقَالَ أَصحَابُهُ وَأَنت؟ فَقَالَ: "نعَم كُنتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهلِ مَكةَ" (¬3). ثم عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتجارة، يتجر في مال خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها-. والأنبياء جميعًا هم قدوتنا في العمل، فمنهم من كان نجارًا، ومنهم من كان حدادًا، ومنهم من عمل في التجارة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري. (¬2) أخرجه البخاري. (¬3) أخرجه البخاري.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20] أي يحترفون ويتجرون، واختص الله سبحانه داود عليه السلام بصناعة الدروع للوقاية في الحروب. وقال سبحانه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80]. وسجل القرآن مقالة إحدى ابنتي صاحب مدين بعد أن سقى لهما موسى -عليه الصلاة والسلام-: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وعلى لسان يوسف -عليه الصلاة والسلام-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان زكريا نجاراً" (¬1). قال المناوي: "فيه إشارة إلى أن كل أحد لا ينبغي له أن يتكبر عن كسب يده؛ لأن نبي الله -مع علو درجته- اختار هذه الحرفة، وفيه أن التجارة لا تسقط المروءة، وأنها فاضلة لا دناءة فيها، فالاحتراف فيها لا ينقص من مناصب أهل الفضائل" (¬2). قال القرطبي: "بل الحرف والصنائع غير الدينية زيادة في فضل أهل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2379) في كتاب الفضائل، باب: من فضائل زكريا عليه السلام. (¬2) "فيض القدير" (4/ 544).

الفضل؛ لحصول مزيد من التواضع والاستغناء عن الغير، وكسب الحلال الخالي عن المنة. قال: وقد كان كثير من الأنبياء يزاولون الأعمال؛ فآدم في الزراعة، ونوح النجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة كان يكتب التوراة بيده، وكل منهم قد رعى الغنم" اهـ. والعامل الناصح له أجر عظيم إذا صدق في عمله وأخلص فيه؛ كما جاء بذلك الحديث عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَامِلُ إذا استعمِلَ فأخَذ الحق، وأعطى الحق، لم يزَل كالمُجاهِدِ في سبيلِ الله حَتى يَرجِعَ إلى بَيتِه" (¬1). وتنوعت المهن والحرف عند الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم في التجارة كالخلفاء الراشدين، وغيرهم، ومنهم عمال أنفسهم حتى يوم الجمعة قالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: "كان الناسُ مَهَنَةَ أنفسهم، وكانوا إذا راحُوا إلى الجمعةِ راحُوا في هيئتهم، فقيل لهم: "لو اغتسلتُم" (¬2). ومنهم أصحاب مهن مختلفة كالقصاب، والخياط، والنساج، والحداد، والصائغ، والنجار، والعطار وغيرها من المهن والحرف. ونسب كثير من أهل العلم إلى حرفة ومهنة لا يتسع المجال لذكرهم. ***** ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الطبراني (1/ 281)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (774). (¬2) أخرجه البخاري (903) في كتاب الجمعة، باب: وقت الجمعة.

آداب الرئيس والمسؤول

آداب الرئيس والمسؤول المسؤولية عظيمة، والمناصب أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، وكل رئيس سيُسأل يوم القيامة عن أمانته التي وكلت إليه وعن مرؤوسيه. قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر92: 93]. قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي علي الناس فهو راع عليهم، وهو مسؤول عنهم، والرجل راع علي أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية علي بيت بعلها وولده، وهى مسؤولة عنهم، والعبدُ راع علي مال سيِّده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (¬1). والرئيس يختلف عن القائد، فالقائد يستمد سلطاته من محبة الناس له، وبما له من صفات تميزه عن غيره، أما الرئيس فيستمد سلطاته من القانون، لهذا ينبغي أن يتأدب بالآداب الإسلامية، ولا يكون مستبداً، بل ينبغي أن يتحلى بالحكمة وحسن التصرف مع العاملين. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829).

آداب الرئيس التي يجب أن يتصف بها

آداب الرئيس التي يجب أن يتصف بها 1 - أداء الأمانة. الأَمانَةُ لغة: الوفاء (¬1)، وهي ضد الخيانة. أما في الاصطلاح: كل ما يؤمن عليه من أموال وحرم وأسرار فهو أمانة (¬2). قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]. وقال -عز وجل-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8]. وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬3). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يُحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّث، فقال بعضُ القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: "أين أراه السائل عن الساعة؟ "قال: ها أنا يا رسول الله، ¬

_ (¬1) "المعجم الوسيط" (28). (¬2) "نضرة النعيم" (3/ 509). (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (240).

التواضع

قال: "فإذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعه"، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة" (¬1). عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخازِنُ المسلمُ الأمينُ الذي يُنفِذُ ما أُمِرَ به كاملًا مُوَفرًا طيبًا به نفسُه، فيدفعهُ إلى الذي أُمِرَ لهُ بهِ -أحدُ المتصدقَينِ" (¬2). والواجب على المسؤول أن يتقي الله في الذين يعملون تحت رئاسته، فيحفظ حقوقهم، ولا يكلفهم من العمل ما لا يطيقون، ولا يستغل الموظفين لخدمته الشخصية، وأن يحافظ على ممتلكات الغير، وليعلم بأن المناصب لا تدوم، بل ولا العمر يبقى، فينبغي عليه أن يعدل في كل شيء، فالمنصب تكليف وليس تشريفًا. قال الناظم: إنَّ المناصبَ لا تدومُ لواحدِ ... إن كنت تجهلُ ذا فأين الأولُ فاغرس من الفعل الجميل فضائلا ... فإذا عزلتَ فإنها لا تُعزلُ 2 - التواضع. الرئيس الناجح هو من يظهر التواضع الذي يدل على خفض الجناح واللين، فلا يتكبر على أحد، ويستسلم للحق، ويتواضع للخلق، ويتصف بالانكسار لله سبحانه، ومن تواضع لله رفعه. قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (59) في كتاب العلم، باب؛ من سئل علمًا. (¬2) أخرجه البخاري (1438. فتح) كتاب الزكاة، باب: أجر الخادم.

المحافظة على المال والتنزه عن الحرام

طُولًا (37)} [الإسراء: 37]. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قبل للملك: دع حكمته" (¬1). قال الناظم: تواضع تكن كالنجمِ لاحَ لناظرٍ ... على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ ولا تكُ كالدخانِ يعلو بنفسهِ ... إلى طبقاتِ الجو وهو وضيعُ وأحسن الآخر بقوله: إذا شئتَ أن تزداد قدرًا ورفعةً ... فَلِنْ وتواضعْ واترُكِ الكبرَ والعُجبَا فكن مستعدًا -يا هذا- للاعتذار عند الخطأ. ولا تنظر لأحد نظرة احتقار. ولا تدع الكبر يدمر جانب الخير فيك، فتصبح لا تستحق الورق الذي توقع عليه. الناس تبغض من ينظر لهم باحتقار واستعلاء، فإن الإرض المنخفضة هي التي تمسك الماء. 3 - المحافظة على المال والتنزه عن الحرام. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه الطبراني (12/ 219)، وحسنه الهيثمي في "المجمع" (8/ 82) والألباني في "صحيح الجامع" (5675).

وقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. الواجب على المسؤول أن يتنزه عن الحرام، وأن لا يتخذ العمل مطية لنيل المصالح الخاصة بالتحايل أو النهب أو السلب، أو الغصب، أو الرشوة، ولا ينبغي له قبول هدايا العاملين معه، فإن ذلك غلول. عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هدايا العُمالُ غلولٌ" (¬1). قال الخطابي: "هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله" (¬2). عن أَبي حُمَيدٍ الساعديِّ، قال: استعمَلَ رَسُولُ الله رَجُلًا من الأَسدِ، يُقَالُ لَهُ ابنُ اللُّتيبَّةِ (قال عَمرٌو وَابنُ أَبِي عُمَرَ: عَلَى الصدَقَةِ) فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُم، وَهَذَا لي، أُهدِيَ لي، قال: فَقَامَ رَسُولُ الله عَلَى المِنبَرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثنَى عَلَيهِ، وقال: "مَا بَالُ عَامِلٍ أَبعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذا لَكُم وَهَذا أُهْدِيَ لي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيتِ أَبِيهِ أَو فِي بَيتِ أُمهِ حتى يَنظُرَ أَيُهدى إِلَيهِ أَم لَا. وَالذِي نَفسُ مُحَمدِ بِيَدهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم مِنهَا شَيئًا إلا جَاءَ بِهِ يومَ القِيامَةِ يَحمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَو بَقَرَةٌ لَهَا خُوَار، أَو شَاةٌ تيْعِرُ"، ثم رَفَعَ يَدَيهِ ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (5/ 424)، والبيهقي (10/ 138)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7021) و"إرواء الغليل" (8/ 246). (¬2) "معالم السنن" (3/ 8).

حتى رَأَينَا عُفرَتَي إِبطَيْهِ، ثم قال: "اللهُم هَل بَلَّغتُ؟ " مَرَّتَينِ. (¬1). وقد بوب له البخاري بقوله: "هدايا العمال غُلول". قال ابن حجر: "وفيه إبطال كل طريقٍ يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباةِ المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ". عن بُرَيدَةَ - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن استعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رِزقاً فما أخَذَ بَعدَ ذلِكَ فَهُوَ غلُولٌ". (¬2). عن عَدِيِّ بن عَمِيرَةَ الكندي، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ استعمَلنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخيَطاً فَمَا فوقهُ، كَانَ غُلُولًا يَأتي بِهِ يَومَ القِيَامَةِ" قال: فَقَامَ إلَيهِ رَجُلٌ أَسوَدُ، مِنَ الأَنصَارِ، كَأنِّي أَنظُرُ إلَيهِ، فقال: يَا رَسُولَ الله اقبَل عَني عَمَلَكَ. قال: "وَمَا لَكَ؟ " قال: سَمِعتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قال: "وَأَنا أَقولُهُ الآنَ، مَنِ استعملنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ فَليَجِئ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فما أُوتيَ مِنهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنهُ انتَهَى" (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ جَسدٍ نَبَتَ من سُحتٍ، فالنارُ أولى بهِ" (¬4). والسحت مصطلح شرعي يشمل كلَّ مال اكتسب بالحرام. فالمنصب أمانة ومسئولية كبرى، لا يجوز -بأي حال من الأحوال- أن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم. (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود، والحاكم (1/ 406) وصححه، ووافقه الذهبي، والألباني في "صحيح الجامع" (6023). والغلول عند أهل العلم: أخذ الشيء بغير حله. (¬3) أخرجه مسلم (1833) في كتاب الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال. (¬4) صحيح. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 31)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4519).

حسن التصرف

يتخذ المسؤول من منصبه وسيلة يجمع من خلاله الأموال، يتخوض فيها بغير حق. وعن خَولةَ الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن رجالاً يَتخوضونَ في مالِ اللهِ بغير حقّ، فلهُمُ النارُ يومَ القيامة" (¬1). وعن خولة بنت قيس قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ هَذا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتخوّضِ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ من مَالِ الله ورَسُولِهِ لَيسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا النارُ" (¬2). أو يؤثر أهله وأقرباءه بما لا يحق لهم من أموال المسلمين، ألا ترى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع فاطمة من أن يعطيها خادمًا مع حاجتها لذلك، وتأمل ما يقوم به البعض من الاستيلاء على أملاك المسلمين، وإيثار أقرباءهم على من سواهم. 4 - حسن التصرف. الرئيس الكيس هو الذي عنده القدرة على إصدار القرار، مع القدرة على تحليل الموقف، والوعي بالعوامل المؤثرة فيه، والنتائج المحتملة من هذا القرار. 5 - التخطيط الجيد، وتنظيم العمل. والتخطيط الجيد هو استخدام العقل لإصدار مجموعة من القرارات الصائبة التي تخدم العمل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3118 - فتح) في كتاب فرض الخمس. (¬2) صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والألباني في "صحيح الجامع" (2251).

العدل والإنصاف وعدم الظلم

وفي كتاب الله سبحانه درس مفيد للتخطيط في قصة يوسف - عليه السلام - وفي ذلك أكبر عبرة؛ قال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 47: 49]. 6 - العدل والإِنصاف وعدم الظلم. العدل لغة: الحكم بالحق، وهو خلاف الجور. أما في الاصطلاح: الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط (¬1). ما أجمل العدل! وهل قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، وأعظم الظلم بخس الناس حقوقهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وقال سبحانه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (¬2). والرئيس العاقل من يتصف بالعدل والإنصاف في التعامل مع العاملين معه وفي وضع تقاريرهم، وتوزيع المسؤوليات عليهم، والأعمال الموكلة لهم بالتساوي، فلا يرهق فلانًا، ويترك فلانًا خاليًا من العمل. ¬

_ (¬1) "التوقيف على مهمات التعاريف" (506). (¬2) أخرجه مسلم (6576) في كتاب البر والصلة، باب: تحريم الظلم.

التحلي بالأخلاق الحسنة

قال الشاعر: أدِّ الأمانةَ والخيانةَ فاجتنب ... واعدل ولا تظلم بطيبُ المكسبُ وقال أبو الحارث -عفا الله عنه-: يا قومُ عدلٌ في البريةِ منصفٌ ... لذوي المروءةِ تحيا فيه بلادي 7 - التحلي بالأخلاق الحسنة. التحلي بالأخلاق الحسنة من شيم النفوس الشريفة، والخلال الحميدة، فالرئيس المتصف بها في قوله وفعله يعظم في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون، ويفرح به كل عامل، فالرئيس الموفق هو الذي تعلو محياه البشاشة، وينشر الألفة، ويشكر على المعروف، ويضبط انفعالاته، ويرفق بمن معه. ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما روت عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُم مَنْ ولىَ من أَمرِ أُمتِي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيْهِم فاشقُق عَلَيهِ، وَمَن ولِيَ مِنْ أَمرِ أُمَّتِي شَيئًا، فَرَفقَ بِهِم، فَارفُق به" (¬1). 8 - العِفَّة. العفة لغة: ترك الشهوات من كلَّ شيء، وغلب في حفظ الفرج مما لا يحل (¬2). أما في الاصطلاح: حصولُ حالةٍ للنفس تمتنعُ بها عن غلبةِ الشهوة، والمتعففُ هو المتعاطي لذلك بضربٍ من الممارسة والقهر (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1828) في كتاب الإِمارة، باب: فضيلة الإمام العادل. (¬2) "المعجم الوسيط" (611). (¬3) "المفردات" (339).

العفة: ترك القبيح، هي الكفُّ والنزاهة عمَّا لا يحلُّ ويجملُ، فالعاقل من لزم العفاف عن مطامع الدنيا وشهواتها، والنبيل من نزه نفسه عن المحارم والمآثم. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنهُ كَانَ يَقُولُ: "اللهُم إِنِّي أَسألُكَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَالعَفَافَ وَالغنَى" (¬1). * العفة في اللسان: بأن يكف لسانه عن أعراض من معه، والعفة في النظر بعدم الخيانة، فالله يعلم خائنة الأعين، ومن يَخُنْ يَهُنُ، فلا يجمل بالرئيس أن يمد عينيه للحرام. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]. العفة في المال المال فتنة أيُّ فتنة؛ لهذا قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]. وعن كعب بن عِيَاضٍ -رضي الله عنه - قَالَ سَمِعتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتنَةً وَفِتنَةُ أُمتي المَالُ" أخرجه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2148). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2721) في كتاب الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل.

الشورى

ومن طُرق أكل المال الحرام استغلال المنصب. قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة: 188]. ومن صورها مصانعة الحاكم لينال بها حق غيره، ومن صور أكل الحرام قبول الرشوة، ومن صورها استئثار الأقرباء بما لا يحق لهم. 9 - الشورى. الشورى لغة: يقال شاورته في الأمر واستشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، واستشاره: طلب منه المشورة، وأشار عليه بالرأي. أما في الاصطلاح: لا يخرج عن المعنى اللغوي (¬1). والمدير العاقل من يشاور أهل التخصص، وينتفع بأصحاب الخبرة، فما خاب من استشار، وأما المستبد برأيه، والمنفرد بقراره، فالفوضى على بابه. قال الناظم: شاور سواكَ إذا نابتك نائبةً ... يومًا وإن كنتَ من أهلِ المشوراتِ فالعينُ تبصرُ منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ 10 - القُدوَةُ الحسنة. القدوة لغة: الأسوة، يقال: فلان قدوة، يقتدى به (¬2). القدوة الحسنة أسوة لأتباعه يقودهم بالفعل والقول، ويتأثرون بعمله ¬

_ (¬1) "معجم المصطلحات الفقهية" (640) وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكوبت. (¬2) "لسان العرب" (2/ 3159).

الجميل، ولفظه الحسن، فيحذون حذوه، فإن كان الصدق مطلوبًا من كل عامل، فإنه في القدوة أكثر طلبًا، وإن كان الجد مطلوبًا من كل مسلم، فإنه في القدوة أكثر حاجة؛ لأن الناس مجبولون على عدم الانتفاع بمن خالف قوله فعله، وأول علامة النجاح في القدوة أن يقوم بما يأمر به، وينتهي عما ينهى عنه. وكم تحت هذه الآية من كنز؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. قال الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد -سدده الله-: "ومن دقيق المعنى في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه جعل الأسوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحصره في وصف خاص من أوصافه، أو خلق من أخلاقه، أو عمل من أعماله الكريمة، وما ذلك إلا من أجل أن يشمل الاقتداء في أقواله -عليه الصلاة والسلام- وأفعاله وسيرته كلها، فيقتدى به، - صلى الله عليه وسلم - بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقتدى بأفعاله وسلوكه من الصبر والشجاعة والثبات والأدب وسائر أخلاقه، كما يشمل الاقتداء بأنواع درجات الاقتداء من الواجب والمستحب وغير ذلك مما هو محل الاقتداء" (¬1). قلت: ولو اقتدى كل مسؤول برسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله وفعله، لكانت النجاحات لنا في كل جانب، وما الإخفاقات إلا بسبب ضعف الاقتداء. قال تعالى على لسان شعيب -وهو يعظ قومه وأتباعه-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ ¬

_ (¬1) "القدوة" (5) دار الوطن.

أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]. وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]. وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف2: 3]. أكبر علامات فشل المسؤول إن التناقض بين القول والعمل والظاهر والباطن أكبر علامة لسقوط. المسؤول، فالرئيس الذي يتحدث عن الأمانة وهو يسرق، والذي يطلب من العاملين معه الالتزام وهو آخر من يحضر -يمحو بتصرفه عشرات الأقوال .. وعلى هذا فقس. ولهذا قال نبي الله شعيب - عليه السلام -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. وقد قيل: من لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه، فلا يصح له أن يكون قيمًا على أخطاء الآخرين. ونظرة ممعنة في القرآن الكريم حول القدوة نجد أن القرآن الكريم فيه من النماذج بالدعوة إلى الاقتداء بالرسل والأنبياء عمومًا. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ

الحزم، وقوة الشخصية

عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. ومن دقيق ما يذكر في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه جعل الأسوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطلقة، ولم يحصرها في وصف خاص من أوصافه، أو خلق من أخلاقه، أو عمل من أعماله الكريمة، وما ذاك إلا من أجل أن يشمل الاقتداء في أقواله وأفعاله وسيرته كلها؛ كما سبق بيانه. قلت: وكلما كان الرئيس قدوة، كان في العاملين معه أكثر تأثيراً؛ ليعرف العاملون معه صدق أقواله تتجسد في أفعاله فيتأثرون به، ولا شك أن الفعل إذا انضم إلى القول، كان أبلغ وأكثر تأثيراً من القول المجرد. 11 - الحزم، وقوة الشخصية. الحزم لغة: ضبط الإنسان أمره والأخذ فيه بالثقة (¬1). أما في الاصطلاح: جودة الرأى في الحذر بمن يخاف من شره (¬2). الرئيس العاقل هو الحازم في أمره، فلا يضعف في مواجهة المواقف، وعنده القدرة على التحكم في إرادته وإدارته. والقائد الناجح هو الذي يحزم أمره في كل شيء، ولا يعني الحزم العنف وإصدار القرارات التعسفية، بل حزم مع الحق، وحكمة في التصرف مع الرفق. ¬

_ (¬1) "لسان العرب" (1/ 818). (¬2) "التيسير" للمناوي (3/ 334) دار الحديث.

عدم الاستماع للوشاة

قال صلاح الدين الصفدي: من ضيع الحزمَ لم يظفر بحاجته ... ومن رمى بسهامِ العُجبِ لم يَنَلِ 12 - عدم الاستماع للوشاة. الوشاة: أصحاب السعاية بالنميمة. الرئيس الذكي: هو الذي لا يستمع للوشاة الذين ينقلون كلام الناس للإضرار بهم وإيقاع العداوة بينهم على جهة التفريق والإفساد، لا سيما الأقران في العمل، فلا ينقل العيب إلا معيب، ومن نم لك نم بك، وفاعل ذلك نمام، ويقال له قتات. عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أنبئكُم ما العَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ القَالَةُ بَينَ النَّاسِ" (¬1). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدخُلُ الجَنَّةَ نَمَّام" (¬2). قال الأعشى الكبير: ومن يُطِع الواشينَ لا يتركوا لهُ ... صديقًا وإن كان الحبيبَ المُقَرَّبَا وقال آخر: لا تقبلنَّ نميمةً بُلّغتها ... وتَحَفَّظنَّ من الذي أَنبَاكها إنَّ الذي أَهدى إليك نَميمةً ... سينمٌ عنك بمثلها قد حَاكَهَا 13 - قبول النصيحة. عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (6636) في كتاب البر والصلة، باب: تحريم النميمة. (¬2) أخرجه مسلم (105) في كتاب الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة.

قالوا: لِمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). الموفق من يقبل النصيحة، والمرء مهما سمت أخلاقه، فهو بحاجة إلى النصيحة، فالنصيحة هي الكلمة الطيبة الخالصة قولًا وعملًا، وبذل الجهد في إصلاح المنصوح، والرئيس العاقل من يقبل نصيحة الغير لتصحيح المسار. كان سفيان الثوري يقول: "أدركنا النَّاس وهم يحبون من قال لهم: اتق الله تعالى، وقد صاروا اليوم يتكدرون من ذلك". والرئيس الموفق كما ينصح غيره، فيجب عليه أن يقبل نصيحة الغير، وكما يحب أن يعاملوه معاملة حسنة، فينبغي أن يعامل غيره معاملة حسنة. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬2). عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه" (¬3). وتأمل كيف ذم الله سبحانه الذين يعاملون الغير على عكس ما يحبون أن يعاملو به. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (55) في كتاب الإيمان، باب: ببان أن الدين النصيحة. (¬2) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45). (¬3) أخرجه مسلم (1844) في كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخليفة.

عدم البحث عن الأخطاء والمساوئ

قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)} [المطففين1: 4]. 14 - عدم البحث عن الأخطاء والمساوئ. العاقل من ينصح ويرشد، وإذا وجد الخلل سده، أو أبصر النقص أكمله، فالكمال عزيز، والعاجز من يقصر نظره على الأخطاء ويقف عندها، فلا تبحث عن الأخطاء فقط، بل شجع الإيجابيات تزل السقطات. وعلى الرئيس أن يقرأ جيدًا قانون العمل؛ لأنه المرجعية لتصحيح الأخطاء، وفي معالجة الأمور، وهو المرجع عند الخلاف بين الرئيس والمرؤوس لتحديد الخطأ، والمرآة للعمل. وحتى لا يحكم على أحد، "ويتم تحويله للتحقيق، ثم يكتشف بعد ذلك أن هذا السلوك ليس سلوكًا خاطئًا، لماذا؟ لأنه كان يستند في تحديده للخطأ على أمور غير صحيحة، وكان من المفروض أن يستند إلى المرجعية الصحيحة وهي النظم والقوانين واللوائح التي تحكم نظام العمل أو المهنة التي ينتمى إليها؛ لذلك بات من الواجب على كل صاحب مهنة أن يدرس وبعناية قانون العمل، أو نظام وقانون هذا العمل وهذه المهنة؛ حتى يكون على دراية بحقوقه وواجباته ما له وما عليه، حتى لا يقع في خطأ وهو يظن أنه على صواب، وحتى لا يأتي من الأعمال ما ليس من اختصاصه، وما لا يكلفه به نظام العمل. ويستغل بعض الرؤساء في العمل بعض الموظفين في أعمال ليست من

توزيع الأعمال بما يناسب كلا منهم

اختصاصهم، وتعود بالفائدة عليهم، وليس على العمل نفسه، ويهددونهم إن امتنعوا عن التنفيذ أن يتم تحويلهم للتحقيق، ونتيجة لجهل هؤلاء أو خوفهم غير المبرر يستجيبون لمثل ذلك الاستغلال، مرتكبين بذلك أخطاء في حق أنفسهم، وفي حق العمل أو المهنة التي ينتمون إليها، هذا كله طبعًا في حالة ما إذا كان العمل غير مخالف لشرع الله، وغير محرم، أما إن كانت هذه المهنة محرمة، فلا قيمة ولا اعتبار للقوانين واللوائح الخاصة بهذه المهنة، ولا يجوز الالتحاق بهذه المهنة أصلًا" (¬1). 15 - توزيع الأعمال بما يناسب كلًا منهم. فالرئيس العاقل من يضع كل شيء في مكانه اللائق به والمناسب له، فلا يسند منصبًا إلا لمن هو أهل وكفؤ له، أما من يعجز عن القيام به فلا ينبغي إسناده إليه. عن أَبي ذر - رضي الله عنه - قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا تَستعمِلُنِي؟ قال: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنكِبِي. ثم قال: "يَا أَبا ذرٍّ إنَّكَ ضَعِيف -وَإنهَا أَمَانَة- وَإنهَا، يَومَ القِيَامَةِ، خِزيٌّ وَنَدامَةٌ، إلا مَن أَخَذها بِحَقهَا، وَأَدَّى الذي عَلَيهِ فِيهَا" (¬2). 16 - عدم الإكثار من الاجتماعات. الناس بحاجة إلى عمل أكثر من حاجتهم إلى الكلام، فكثرة الاجتماعات غير المحددة الأهداف وجداول الأعمال مملة، وتبعث على السآمة، وتقتل الأوقات من غير جدوى، فأنجح الاجتماعات ما ¬

_ (¬1) "أخطاؤنا في معالجة الأخطاء" (12، 13). (¬2) أخرجه مسلم (1825) في كتاب الإمارة، باب: كراهية الإمارة بغير ضرورة.

توقير ذوي الخبرة

أعقبت فائدة الأعمال والنتائج. 17 - توقير ذوي الخبرة. الرئيس الحاذق هو الذي يحترم ويوقر ذوي الخبرة، وكبار السن ممن أمضوا سنوات العمر في العمل، ومن التوقير لهم إسناد المهمات لهم، ومشاركتهم بالرأي والمشورة، وعدم انتقاصهم في شيء، ومن الجور تجاهلهم وتسويد من دونهم. 18 - الشكر والثناء. للناس أحاسيس ومشاعر، تؤثر فيهم الكلمة الطيبة؛ لأنهم مخلوقات عاطفية، ويحتاجون إلى الثناء الصادق، والشكر الفائق، فعلى الرئيس الكيس الفطن شكر الموظف المتميز، فإن الناس ينشطون بالشكر، والنفس البشرية بحاجة إلى الثناء، والناس لا يزالون جياعًا يشبعهم التقدير، وكم من عامل ترك عمله مع جودة أجره بسبب إغفال الرئيس مشاعره وأحاسيسه وما يقوم به من عمل، وليس من شيء يقتل طموح الموظف مثل التأنيب والتجريح، فشكر الناس على المعروف الذي يقومون به من مكارم الأخلاق، ويعد أحد الحوافز المعنوية المؤثرة، ومن مميزات القيادة الناجحة؛ لهذا أذن به الله سبحانه لما فيه من تأثير الألفة والمحبة والتشجيع كما جاء به الإسلام. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُرُ النَّاسَ" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 295، 303، 388، 461)، وأبو داود (4811)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7719).

تمكين العاملين من أداء ما افترض الله عليهم

والرئيس البصير من يثني على العاملين معه، وعليه أن ينمي الإيجابيات ويذكرها ويدعو لهم؛ ليدفع بهم إلى الجد والعطاء. والشكر والتقدير حاجة من حاجات الإنسان، وفرق بين التقدير، والتملق، فالتقدير الصادق مقبول ومحمود، والتملق مرفوض ومذموم. 19 - تمكين العاملين من أداء ما افترض الله عليهم. الرئيس العاقل هو الذي يمكن العاملين معه من أداء ما افترض الله عليهم من صلاة وصيام وحج ... ، ولا يسن القوانين والقرارات التي تمنع الموظف من أداء دينه كالصلاة أو الحجاب أو الإجبار على حلق اللحى ونحوه من الطاعات، ففاعل ذلك خائن لله تعالى، وخائن لدينه، ومحارب لشرعه، سينال جزاءه عاجلًا أم لاحقًا. والواجب على المسؤولين تمكين الناس من طاعة الله بالمعروف، وأن يتقوا الله تعالى فيما تحت أيديهم. 20 - النصيحة في السر. الرئيس الموفق ينصح العاملين معه بالحكمة، فإن رأى من مرؤوسيه تقصيرًا منهم، نصحهم سرًا ولم يفضحهم، وفرقٌ بين النصيحة والتعيير. قال الإمام الشافعي: تَعمَّدني بنُصحِكَ في انفرادي ... وَجَنّبني النصيحةَ في الجماعَهْ فإن النصحَ بين النَّاس نَوع ... مِنَ التوبيخِ لا أرضَى استِماعَهْ فإن خالَفتَني وعَصَيتَ قَولي ... فلا تجزَع أذا لم تُعطَ طاعَهْ والأريب من يكون نصحه سرًا، ومن نصح أخاه سرا فقد زانه، ومن

وعظه علانية فقد شانه. وقد صنف الإمام ابن رجب الحنبلي رسالة مانعة سماها "الفرق بين النصيحة والتعيير". والعاقل من الرؤساء من يحقق كلمات الذهب الإخلاص، والرفق، والستر، والسماحة. لأن الإعلان إن خلا من الرفق والأدب، فهو فضيحة وتوبيخ، وتعيير وتشريح. *****

آداب الموظف والمرؤوس

آداب الموظف والمرؤوس الموظف أو العامل هو من عينته الدولة أو الشركة أو صاحب المؤسسة في وظيفة ما، لقضاء خدمة، وأداء مهمة محدودة، في زمن محدود. والموظف -علاوة على آداب الرئيس التي يشترك في بعضها- له آداب أخرى مهمة، منها: 1 - الإتقان: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]. وعَق عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" (¬1). فعلى المرؤوس أن يُحْكم عمله بإخلاص وصدق وإتقان، قاصدًا بذلك النفع للمسلمين، ميسرًا لهم، باذلًا لهم العون في حدود نظام العمل. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ، يَسرَ اللهُ عَلَيهِ فِي الدنيَا وَالأخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا، سَتَرَهُ الله فِي الدنيا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ فِي عَونِ أَخِيه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى (4386)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5312 - 5314)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1880) وانظر تخريجه في "الصحيحة" (1113). (¬2) أخرجه مسلم (2699) في كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.

المحافظة على الوقت

2 - المحافظة على الوقت: لكل عمل وقت محدد له بداية وله نهاية، والعامل فيه يجب عليه المحافظة على وقت العمل من الضياع، بل يجب عليه العمل به بما يرضى ربه قبل كل شيء، فلا يؤخر عمل عن وقته، ولا يؤجل عمل اليوم للغد دون مبرر سائغ، وفي الحديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" (¬1). 3 - الجد والحماس في العمل: الجِد هو الاجتهاد، والموظف البصير، والعامل القدير من يحلل كسبه، فليس عنده كسل أو ملل، همته عالية، ودأبه العمل بالمعروف، بل هو المبادر النشط، فالتثاقل والتراخي عما ينبغي مع القدرة مذمة، وعدم الانبعاث لفعل ما يجب عليه ملمة، بل يصنف في خانة الثقلاء الكسالى. وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من العجز والكسل. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل" (¬2). قال الناظم: اجهدْ ولا تكسل ولا تكُ غافِلًا ... فَنَدامَةُ العقبى لمن يَتَكَاسَلُ 4 - مراقبة الله تعالى في أعمالنا: فالمراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6412 - فتح) في كتاب: الرقاق، باب: ما جاء في الرقائق. (¬2) أخرجه البخاري، ومسلم (2706) في كتاب الذكر والدعاء.

البعد عن الحرام والتنزه عنه

ظاهره وباطنه (¬1). قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. وفي الحديث المرفوع: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراهُ، فإن لم تكن تراهُ، فإنهُ يراك" رواه مسلم في كتاب الإيمان (93) عن عمر - رضي الله عنه -. 5 - البعد عن الحرام والتنزه عنه، والمحذور يكون بالأمور التالية: أ- أخذ ممتلكات الدولة أو المؤسسة أو من تعمل عنده بغير حق. وفي الحديث "والله، لا يَأخُذ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقه، إلا لقى الله تعالى يحملُهُ يوم القيامة". رواه البخاري، ومسلم (4740). عن بُرَيدَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "مَن استعملنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزقًا، فَمَا أخَذ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غلُولٌ" (¬2). عن عدي بن عَمِيرَةَ الكنديِّ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "من استعملناهُ على عملٍ، فكتَمَنَا مخيطًا فما فوقهُ، كان غُلولًا يأتي به يوم القيامة" قال: فقام إليه رجلٌ أسودُ من الأنصار، كأني أنظرُ إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال: "وما لك؟ " قال: سمعتُك تقول كذا وكذا، قال: "وأنا أقُولُهُ الآن: من استعملناهُ منكم على عملٍ، فَليِجئ بقليله وكثيره، فما أُوتيَ منه أخَذَ، وما نُهِيَ عنه انتهَى" (¬3). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 65). (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (2943)، والحاكم (1/ 406) وصححه، ووافقه الذهبي، والألباني في "صحيح الجامع" (6023). والغلول أخذ الشيء بغير حله. (¬3) أخرجه مسلم (1833) في كتاب الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال.

الغياب بغير مسوغ شرعي أو قانوني

ب- الغياب بغير مسوغ شرعي أو قانوني. الموظف الموفق هو الذي يحافظ على عمله بالحضور، فلا يتغيب إلا بمسوغ شرعي أو قانوني. سئل العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- عن بعض الموظفين يترك دوامه فيخرج قبل انتهاء الدوام، أو أثناء الدوام، ويعود، أو يتأخر عن موعد الدوام فما حكم ذلك؟ فأجاب: لا يحل لموظف أن يخرج قبل انتهاء الدوام، ولا أن يتأخر عن بدء الدوام، ولا أن يخرج في أثناء الدوام؛ لأن هذا الدوام ملك للدولة يأخذ عليه مقابلًا من بيت المال، لكن ما جرت به العادة إذا دعت الحاجة إلى الخروج في أثناء الدوام واستأذن رئيسه أو مديره، ولم يتعطل العمل بخروجه، فأرجو ألا يكون في ذلك بأس" (¬1). ج- الرشوة. الرشوة لغة: الجعل، وما يعطى لقضاء مصلحة، ارتشى: أخذ رشوة، وراشاه حاباه، وصانعه، وظاهره. أما في الاصطلاح: ما يعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل (¬2). الهدية من المستحبات، لكن يحرم على الموظف قبولها إذا تعلقت بعمله؛ لأنها وسيلة إلى الإخلال بالعمل؛ لأنها رشوة، يتوصل بها المعطي ¬

_ (¬1) "الفتاوى الشمالية" (49)، "رسالة إلى كل عامل وموظف" (153). (¬2) "معجم المصطلحات الفقهية" (1/ 549).

لا تشغل غيرك عن تأدية عمله

إلى شيء يريده مستقبلا. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعنة الله على الراشي والمرتشي" (¬2). والرشوة كبيرة من الكبائر، وخيانة للأمانة، ومن المكاسب المحرمة، وهي ما يعطيه الشخص لحاكم أو مسؤول أو موظف ليحكم له، أو يحمله على ما يريد. 6 - لا تشغل غيرك عن تأدية عمله. بعض المرؤوسين كل على غيره، فلا هو بالذي يعمل، ويخلص في عمله، ولا هو بالذي يترك غيره يعمل، فهو يشغل غيره عن تأدية واجبه، وهو لا يأتي بخير، وفي التنزيل شبيه بهذا العامل السلبي الذي لا يأتي بخير. قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 76]. 7 - لا تشغل نفسك أثناء العمل بغير العمل. العاقلُ هو الذي يراقب ربه فيما خوَّله من عمل، فمن الأمانة أداء ما ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5093). (¬2) أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5114).

عدم استغلال الوظيفة

يجب عليه كاملًا، فيخلص في عمله، ويبذل جهده على حقوق الناس التي وضعت بين يديه، فليس هناك خيانة أعظم من رجل أسند إليه أمر من أمور المسلمين حتى لو قل، فخان الأمانة. فمن الناس من يترك العمل ويشتغل بما لا يجب عليه من مطالعة التلفاز، أو اللعب في الحاسب الآلي، ومنهم من يترك المكان المسند إليه ليعمل فيما لا يجب عليه في مكان آخر، ومنهم من يذهب للمطاعم والأسواق، ومنهم من يقرأ كتابًا وصحيفة ويترك ما يجب عليه، ومنهم من يشغل نفسه بالأحاديث الجانبية، وأسوأ من ذلك ترك العمل لتعاطي المحرمات. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (¬1). * حكم صلاة السنن خلال العمل: إذا كانت الصلاة المسنونة لا تؤثر على العمل، فلا بأس بها، أمَّا إذا كانت تخل به، وتؤثر عليه، فإن العمل واجب وصلاة السنن مستحبة كصلاة الضحى أو الوتر، وكذلك قراءة القرآن؛ لأن الوقت مخصص للعمل وليس للنوافل. 8 - عدم استغلال الوظيفة. تقدم الحديث قريبًا عن الذي يستغل الوظيفة -بل والموظفين- لصالحه، وهو الغش المحرم شرعًا، والخيانة للأمانة. 9 - التحلي بالأخلاق الحسنة. يكفي في التحلي بالأخلاق الحسنة أنها سبب لمحبة الله تعالى، ومحبة ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد، وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7179).

ضبط النفس مع حسن التصرف

رسوله، وأنه حسن عند كل الناس، والنصوص في هذا الباب كثيرة متوافرة. عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا" (¬1). 10 - ضبط النفس مع حسن التصرف. سبق الحديث عن هذا قريبًا. 11 - العلاقة الحسنة مع العاملين. الموظف العاقل من يبني علاقات حسنة مع غيرة من العاملين، فيحلو في العيون، وترتاح له النفوس، فيزيد التعاون، ويحسن العمل. 12 - التعاون. التعاون لغة: عاون بعضهم بعضًا (¬2). أما في الاصطلاح: المساعدة علي الحق ابتغاء الأجر من الله سبحانه. التعاون المطلوب من المرؤوس هو تسخير طاقاته وإمكاناته وما آتاه الله من قوة وفهم في خدمة دينه وبلده وإخوانه. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. عن أَنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتَّى يحب لأخِيهِ، أَو قَالَ: لِجَارِهِ -مَا يُحِب لِنَفسِهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم (2321) في كتاب الفضائل. (¬2) "المعجم الوسيط" (638). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7085).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬1). عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تعالى أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم" (¬2). **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2699) في كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن. (¬2) حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2164).

7 - الأدب مع الخادم والأجير

7 - الأدب مع الخادم والأجير الخادم: واحد الخدم، ويقع على الذكر والأنثى لإِجرائه مُجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال، كحائض وعاتق (¬1). قلت: والجمع خُدامٌ وخدمٌ، وهب خادمٌ وخادمة. عن بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَكْفِ أَحَدَكُم من الدنيا خادم ومَركَبٌ" (¬2). عن أبي هاشم بن عتبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله" (¬3). ومن أعظم النعم التي يمنها الله سبحانه على الإنسان توفير الراحة له، وتسخير بعض الناس لخدمته؛ فأي نعمة بعد الإيمان والعافية خدمة الناس لك، وكان السلف ينزلون من تيسر له الخادم منزلة الملك والسلطان الذي حاز الدنيا بحذافيرها. عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمى ملكًا" (¬4). وعن عبد الرحمن الحبُلُي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ¬

_ (¬1) "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (256). (¬2) حسن. أخرجه أحمد (5/ 360)، وحسنة الألباني في "صحيح الجامع" (5464)، والصحيحة (2202). (¬3) حسن. أخرجه الترمذي، والنسائي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2386). (¬4) أخرجه ابن جرير (11636). وينظر "تفسير ابن كثير" (3/ 68).

رضي الله عنهما وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك (¬1). وعن الحسن البصري: أنه تلا هذه الآية {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}، فقال: وهل المُلك إلا مركبٌ وخادمٌ ودار؟ (¬2). والأريب هو الذي يشكر نعمة الله عليه، فإن نعم الله علينا كثيرة، ومن أجلها تيسير خدمتك بأيدي أجير أو خادم، أو خادمة، أو عامل، أو عاملة، والحديث هنا يقع على خدم البيوت وليس الخدمة العامة لسائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب. والعاقل من قام بخدمة نفسه أولًا، فإن عجز فلا بأس من استخدام خادم عاقل متمكن خبير أمين موثوق به. لكن العلامة ابن خلدون يقول في المقدمة (¬3): "إن المترف من الناس يترفع عن مباشرة حاجاته أو يعجز عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ خدمًا يقضون له تلك الحاجات مقابل أجر معين، وهذا أمر يعتبره غير محمود بحسب الرجولة الطبيعية للإنسان، وذلك لأن الثقة بكل واحد عجز، ولأنها تولد الكسل لدى المترفين، وكذلك لأن الخادم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير (11628). وينظر "تفسير ابن كثير" (3/ 68). (¬2) أخرجه ابن جرير (11630). (¬3) "مقدمة ابن خلدون" -الطبعة العصرية- (356) بتصرف.

1 - مضطلع (صاحب خبرة) موثوق به. 2 - مضطلع غير موثوق به. 3 - موثوق غير مضطلع. 4 - غير موثوق وغير مضطلع. فالأول، وهو المضطلع الموثوق يترفع عن الخدمة لاضطلاعه بالأمور وثقته، غني عن الناس، يتدبر أمره في سبل المعاش الأخرى. وأما الثاني فلا ينبغي لعاقل استعماله؛ لأنه يجحفُ بمخدومه (رب البيت) فلا حاجه لرب البيت به بأن يدخل الريبة إلى عمله ومنزله، وخاصة ممن يقدر عليها. وأما الثالث فلا تشفع له أمانته أمام تضييعه لأعمال رب البيت. وأما الرابع فأي شيء أنفع منه، وهذا إذا لم يقع الضرر" انتهى بتصرف. قلت: فإن قيل: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خدم؟ الجواب: نعم، ولكن الصحابة هم الذين كانوا يفرضون أنفسهم لخدمته طلبًا للشرف والعلم والفائدة من هديه وسمته ودعائه - صلى الله عليه وسلم -. عدد العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: أسماء من خدمه - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم أنس ابن مالك، وكان على حوائجه، وعبدُ الله بن مسعود صاحبُ نعله، وسواكه، وعُقبَةُ بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقود به في الأسفار، وأسلع بن شريك، وكان صاحب راحلته، وبلال بن رباح المؤذن، وسعد، موليا أبي بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، وأيمن بن عبيد، وأمه أم أيمن

موليا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أيمن على مطهرته وحاجته" (¬1). وأما مواليه - صلى الله عليه وسلم - فمنهم زيد بن حارثة بن شراحيل، حبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة. ومنهم أسلم، وأبو رافع، وثوبان، وأبو كبشة سُليم، وشُقران واسمه صالح، ورباح نُوبي، ويسار نوبي أيضاً، وهو قتيل العُرنيين، ومِدْعم، وكركرة نوبي أيضاً، وكان على ثقله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يمسك راحلته - صلى الله عليه وسلم - عند القتال يوم خيبر، وفي "صحيح البخاري" أنه الذي غل الشملة ذلك اليوم .. ، وفي "الموطأ" أن الذي غلها مِدْعم، وكلاهما قتل بخيبر" (¬2). والخلاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد عليًا وفاطمة -رضي الله عنهما- إلى الذكر لمَّا سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - خادماً؛ لأن ذلك من واجبات المرأة تجاه زوجها. فإن كان لا بد من استخدام الخادم فلا بد له من شروط: 1 - الديانة الإسلامية. 2 - الأمانة. فالخدمة أمانة وولاية، وعمل يسند إلى الخادم في بيت المخدوم، فهو الذي يتعاهد ملك صاحب البيت من طعام وشراب ومتاع، وفي ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلكُمُ راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته" .. والخادمُ في مالِ سيدهِ راعٍ وهو مَسؤُول عن رعيته". رواه البخاري (2409). واستحق موسى - عليه السلام - أن يعمل في بيت الرجل الصالح {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (1/ 116)، "الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (241) للحافظ ابن كثير. (¬2) "زاد المعاد" (1/ 114).

يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} [القصص26: 28]. وليست الأمانة قاصرة على حفظ المال، بل تتعدى الأمانة إلى سر بيته وحفظ عورته، وربما يكون في البيت زوجة وبنات وأخوات، وفي البيت شباب وفي البيت خلوات، وفي قصة يوسف - عليه السلام - عبرة في موقف يوسف - عليه السلام - وأمانته من زوجة العزيز. ومن أعظم الفتن تساهل بعض المخدومين في دين الخادم. 3 - الخبرة، والعاقل من يحسن اختيار صاحب الدراية المأمون؛ لأنه لا حاجه لرب البيت بأن يدخل الجاهل وصاحب الريبة إلى عمله ومنزله؛ لأنه سيشقى به. وللخادم أحكام كثيرة تنظر في كتب الفقه، لا يتسع المجال لبسطها، وحسبنا الآداب هنا. والعاقل من يتأدب بأدب الإسلام في معاملة الخدم، وقد شرع الإسلام حقوقًا للخدم يجب العناية بها، ونذكرها فيما يلي:

حقوق الخدم

حقوق الخدم للخدم حقوق مرعية فرضها الإسلام، وكلما سعى المخدوم في تحقيقها، نال المراد على أكمل وجه، وتحقق له المقصود من أقصر طريق، ومن أخل في ذلك لم يأمن بوائق خدمه، "وإن اشتدَّ كلفُه بهم صار عليهم قيِّما، ولهم خادمًا؛ وإن اطرحهم قلَّ رشادهم، وظهر فسادهم، وصاروا سببًا لمقته، وطريقًا إلى ذمِّه، ولكن يكفُّهم عن سَيئ الأخلاق، ويأخذهم بأحسن الآداب، وليتوسط فيهم ما بين حالتي اللين والخشونة؛ فإنه إن لان هان عليهم، وإن خَشُن مقتوه، وكان على خطر منهم" (¬1). * والعاقل من أخذهم بالآداب، فيجب في حقوق الخدم ما يلي:- 1 - إعطاء الخادم حقَّه من الأجر مع عدم تأخيره. المماطلة والتسويف مع القدرة ظلم، فالمبادرة بإعطاء الخادم حقه نوع من الالتزام الديني والإحسان؛ لأن الخادم قدم جهده، فالعاقل من يوفي الآخرين حقوقهم، وبذلك جاءت الشريعة. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" (¬2). وقد رهَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل أجر العامل؛ لأنه يستوفي منفعة لا يؤدي حقها للغير، وهذا ظلم، وأكل أموال الناس بالباطل. ¬

_ (¬1) ينظر "أدب الدنيا والدين" (558). (¬2) صحيح. أخرجه ابن ماجه، وحسنه الألباني كما في "صحيح الجامع" (1055).

وجوب حسن معاملته وعدم إهانته، أو ضربه، أو الدعاء عليه

عن أَبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال اللهُ تعالى ثَلاَثةٌ: أَنا خَصْمُهُم يَومَ القِيَامَةِ: رجلٌ أَعطَى بِي ثمَّ غَدرَ، وَرَجل بَاعَ حُرًّا فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجل استأجَرَ أَجِيرًا فاستوفَى مِنهُ، وَلَم يُعطِه أَجرَهُ" (¬1). فالوفاء بأجر الخادم يحقق له حاجتين نفسية ومادية، فالأولى إحساسه باحترام الناس له، وتقدير عمله، والثانية يقضي بها حاجاته في الحياة، ومن يعول، ويدفعه لمواصلة العطاء. 2 - وجوب حسن معاملته وعدم إهانته، أو ضربه، أو الدعاء عليه. العاقل من يحسن معاملة خدمة، وبذلك يضمن الإخلاص منهم والحرص والحب والوفاء، وقد قيل قديمًا: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها. عن أَبي مسعود الأنصاريِّ، قال: "كُنتُ أَضرِبُ غُلَامًا لي، فَسَمِعْتُ من خَلفِي صَوتًا: "اعلم أبا مَسعُودٍ"، قال ابنُ المُثَنَّى مَرتَينِ، "لله أقدَرُ عَلَيكَ مِنكَ عَلَيهِ"، فالتَفَتُّ فإِذَا هُوَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجهِ الله. قال: "أَمَا إنك لو لَم تفعَل لَلَفَعَتْكَ النارُ أَو لَمَسَّتْكَ النَّارُ" (¬2). عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوا علي أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة نَيْلٍ فبها عطاءٌ فيستجيب لكم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2270) في كتاب البيوع، باب اثم من باع حرًا. (¬2) أخرجه أحمد، ومسلم (1659)، وأبو داود (5159)، واللفظ له. (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (1532)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7276).

عدم تكليفه ما لا يطيق من العمل، وإعطاؤه وقتا للراحة

عن العيزار بن جرول الحضرمي قال: كان منا رجل يقال له أبو عمير، قال وكان مؤاخيًا لعبد الله (يعني ابن مسعود) فكان عبد الله يأتيه في منزله، فأتاه مرة، فلم يوافقه في المنزل فدخل على امرأته، قال: فبينا هو عندها إذ أرسلت خادمها في حاجة، فأبطأت عليها، فقالت: قد أبطأت، لعنها الله. قال: فخرج عبد الله فجلس علي الباب. قال: فجاء أبو عمير، فقال لعبد الله: ألا دخلت على أهل أخيك. قال: فقال: قد فعلت، لكنها أرسلت الخادمة في حاجة، فأبطأت عليها فلعنتها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا خرجت اللعنة من في صاحبها نظرت: فإن وجدت مسلكًا في الذي وجُهت إليه، وإلا عادت إلى الذي خرجت منه" (¬1). عن أنس - رضي الله عنه - قال: "قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ليسَ لهُ خادِمٌ، فأخذَ أبو طلحةَ بيدِي، فانطَلَقَ بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللهِ، إن أنسًا غُلامٌ كيس فَليَخدُمْكَ، قال: فخدَمتهُ في السفَر والحضَر، ما قال لي لشيءٍ صَنَعتهُ: لمَ صَنعتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصْنَعهُ: لمَ لم تصنعْ هذا هكذا؟ " (¬2). 3 - عدم تكليفه ما لا يطيق من العمل، وإعطاؤه وقتًا للراحة. العاقل من لا يكلف خادمه أكبر من طاقته، ويجعل له وقتًا للراحة، ووقت فراغ حتى يباشر أعماله بالكيف وليس بالكم؛ لأن الحرمان يؤدي إلى الإرهاق، وموت النشاط، والضيق. ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه أحمد (1/ 408)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (1269). (¬2) أخرجه البخاري (2768 - فتح) في الوصايا، ومسلم (4289).

توفير مكان ملائم لراحته إن كان ساكنا مع صاحب الدار

4 - توفير مكان ملائم لراحته إن كان ساكنًا مع صاحب الدار. ويشترط للمكان أن يكون بعيدًا عن رحبة البيت، حتى لا يطلع على عورة أهله. 5 - توفير الطعام والكساء والدواء له. العاقل من يوفر الطعام للخادم الذي يعمل له في بيته ويتواضع له ويطعمه مما يطعم حتى ينال منه خيرًا. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعد معه، أو ليناوله منه، فإنه هو الذي ولي حره ودخانه" (¬1). عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان لأحدكم خادم قد كفاه المشقة، فليطعمه فإن لم يفعل فليناوله اللقمة" (¬2). 6 - غض البصر وعدم الخلوة به: قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (469). (¬2) صحيح. أخرجه الطبرني في الأوسط (37)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (769).

وجوب الحجاب الشرعي أمام الخدم

يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور30: 31]. عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَخلُوَنَّ أَحَدُكُم بِامرَأَةٍ؛ فإن الشيطَانَ ثَالِثُهُمَا" (¬1). 7 - وجوب الحجاب الشرعي أمام الخدم: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} [الأحزاب: 59]. الحجاب صيانة، والعفة كرامة، ومن تساهل في الحجاب افترسته العيون، ولم يكن أمره مأمونًا، فيجب على المرأة المسلمة التزام الحجاب أمام خادمها، والخادمة أمام مخدومها؛ حتى تسلم القلوب من خطرات الظنون، ولا يكون للشيطان عليهم سبيل. 8 - الإنفاق عليه بالمعروف: عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقةٍ، فقال رجل: عندي دينار، فقال: "أنفقه على نفسك"، قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على زوجتك" قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على خادمك ثم أنت أبصر" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه عبد الله بن المبارك في "مسنده" (241)، وأحمد (1/ 18)، والترمذي (2165)، والحاكم (1/ 113)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2546). (¬2) حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (197)، وحسنه الألباني (145) في "صحيح الأدب المفرد".

تعليمه أمور دينه وإعانته على ذلك كتوفير مصحف مثلا

9 - تعليمه أمور دينه وإعانته على ذلك كتوفير مصحف مثلاً. 10 - أن يحب له ما يحب لنفسه. 11 - تلبية حاجاته عند القدرة. عن زياد بن أبي زياد مولى بني مخزوم عن خادم للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أو امرأة قال: كان ممَّا يقولُ للخادمِ: "أَلكَ حاجةٌ"؟ قال: حتَّى كانَ ذاتَ يوم فقال: يا رسول الله حاجَتي. قال: "وما حاجَتُك"؟ قال: حاجتي أَنْ تَشفعَ لي يوم القيامةِ. قال: "ومن دلَّك على هذا"؟ قال: ربِّي. قال: "أَمَّا لا، فأَعِنِّي بكثرة السُّجود" (¬1). 12 - العفو عنه عند الخطأ. العفو لغة: ترك الشيء، ومحوه وطمسه. أما في الاصطلاح: القصدُ لتناول الشيءِ، والتجاوزُ عن الذنب (¬2). عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان الثالثة قال: "اعفُوا عنهُ (يعني: الخادم) في كُلِّ يومٍ سبعينَ مرةً" (¬3). 13 - عدم غيبته: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت العربُ بعضهم يخدمُ بعضًا في الأسفار، وكانَ مع أبي بكرٍ وعمرَ رجل يخدمُهما، فنامَ، وأستيقظا ولم يهيئ طعامًا، فقال: ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 500)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (2102). (¬2) "التوقيف على مهمات التعاريف" (518). (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (1564)، وقال الألباني في "الصحيحة" (488): إسناده صحيح.

إن هذا لنَئوم بينكم فأيقظاهُ، فقالا: ائتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقل لهُ: إن أبا بكرٍ وعمرَ يُقرئانكَ، وهما يستأدِمانك فأتاهُ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخبرهما أنهما قد ائتدَما" ففزعا، فجاءَا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، بعثنا نستأدِمُك فقلتَ، ائتدما، فبأيِّ شيءٍ ائتدْمنا؟ فقال: "بأكلِكُما لحمَ أخيكُما، إني لأرى لحمَهُ بينَ ثناياكم" (وفي رواية: بين أنيابكما) فقالا: يا رسول الله فاستغفر لنا. قال: "هو فليستغفر لَكُما" (¬1). ولا يخفى ما في هذا الحديث من الوعيد، والإثم الشديد، فهي من أعظم مهلكات الإنسان بعد الشرك، وهي الصاعقة المحرقة للثواب، والغيبة تتحقق باللفظ الصريح أو الكناية والتعريض، أو الإشارة والرمز، سواء في دينه أو دنياه، أو خُلقه أو خَلقه أو أهله، أو أي شيء يتعلق به من خادم أو مال أو طبع بما يكره، نسأل الله السلامة والمسامحة. ... ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (189)، والضياء في المختارة (1697)، وصححه شيخا الألباني في "الصحيحة" (2608).

8 - الأدب مع غير المسلم

8 - الأدب مع غير المسلم درجات الكفار: الكفار والكافرات من بني جلدتنا أو من غيرنا، فمنهم من يُعلن كفره، ومنهم غير ذلك، ومنهم حربٌ على المسلمين، ومنهم مسالمٌ، والعاقل من يتأدب معهم بأدب الإسلام، وكذلك ربما يسافر البعض إلى ديار الكفر، أو يتعامل مع الخدم الكفار، أو الخادمات الكافرات، أو من استوطن منهم ديار المسلمين، فما الموقف من هؤلاء؟ وما الواجب على العقلاء تجاه الكفار في كيفية التعامل معهم، وخصوصًا مع من لم يكونوا حربًا؟ علاقة المسلم بالكفار ينبغي أن تنضبط بالأخلاق الكريمة، وهو بذلك يدعو بلسان الحال، قبل لسان المقال، ومن المفاهيم الخاطئة عند بعض الناس أن علاقة المؤمن بالكافر علاقة عنف وسب وشتم واستحواذ على ماله، وانتهاك عرضه، فالإسلام فرَّق بين علاقة المسلم بغيره؛ لأن الكفار درجات، فمنهم كافر حربي، وآخر كافر مسالم. قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. فمن الكفار من ليس في قلبه رحمة، عدو للمسلمين، ومنهم كافر في قلبه رحمة للمؤمنين، ولهذا لم يعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفار بدرجة واحدة، فمنهم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله وأهدر دمه، ومنهم من تذكر صنيعه ويده، فشكر موقفه الكريم، وتذكر صنيعه الحسن مثل المطعم بن عدي بعد غزوة بدر لما

التعامل مع الكفار ليس بدرجة واحدة

قتل من قتل من كفار قريش، وأسر من أسر منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَو كَانَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتنَى لَتَرَكهُتم لَهُ" (¬1). التعامل مع الكفار ليس بدرجة واحدة: والمطعم بن عدي من كفار قريش، حفظ له النبي - صلى الله عليه وسلم - الجميل الذي قام به بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف إلى مكة، ثم امتناع قريش من قبول دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، فما كان من المطعم إلا أن قال: قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ادخل، فدخل رسول الله، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، فهناك أحوال يكون فيها الصفح والمغفرة، وأحوال يكون فيها رد الإساءة بالإساءة، وتارة الشدة والغلظة، فالقضية ليست واحدة، وإنما لكل موقف تعامل خاص، وليس بصواب أن نأخذ آية واحدة من القرآن وننزلها على كل الأحوال؛ كقول الله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، فيكون المؤمن مع الكافر دائمًا في غلظة، فلا يجيبه، ولا يزوره ولا يدعوه، وهذا ليس بسديد، وكذلك لا يقال للمؤمن: كن دائمًا متساهلًا متنازلًا، فلكل مقام مقال. فالعلاقات الإنسانية متعددة، ولكل موقف صورة للتعامل، فلا بد من الأخلاق الحسنة مع مجموع البشر كل بحسبه، فإذا كان لنا جار، أو قريب غير مسلم، ننظر في أمره، فإن كان مسالمًا في علاقته، قَبِلنا هديته، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 80)، والبخاري (3139 - فتح) في كتاب فرض الخمس، وأبو داود (2689).

وأهديناه وزرناه وساعدناه حتى ربما أعطيناه من مال الزكاة رجاء إسلامه، ولكن تمنع المسلمة من الزواج بغير المسلم مهما كانت الأسباب، فلا يجوز لها أن تتزوج غير المسلم. وقبل الحديث عن الآداب مع الكافر لا بد أن نتحدث بإيجاز عن مفهوم الولاء والبراء، فالولاء هو المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد، والولاء والبراء من أعمال القلوب، لكن تظهر مقتضياتها على اللسان والجوارح. والمؤمن لا يكون ولاؤه إلا لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]. ولا يجوز له أن يتولى الكفار؛ قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة80: 81]. فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيارة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإعانتهم، والرحمة بهم، وغير ذلك. والبراءة من الكفار يكون ببغضهم -دينًا- ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، أو التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعًا وجهادهم

المعاملة الواجبة مع الكفار

بالمال واللسان والسنان، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله (¬1). المعاملة الواجبة مع الكفار: وهناك معاملة واجبة مع الكفار مثل الوفاء بالعهد والأمانة، وعدم الغش. آداب التعامل مع الكفار: وهناك أخلاق وآداب ينبغي أن يتخلق بها المسلم مع الكافر، ومنها: 1 - لين الجانب في الدعوة إلى الله تعالى، وحسن القول. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [النحل: 125]. وقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44]. قال القرطبي: قال أبو العالية: "قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تُجازوا به". وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طَلْقًا مع البر والفاجر، والسُّني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يُرضي مذهبه؛ لأنَّ الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون؛ والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. ¬

_ (¬1) انظر "نواقض الإِيمان القولية والعملية" للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف (358) ملخصًا بتصرف.

وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيّ حِدّة، فأقول لهم بعض القول الغليظ؛ فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي؟ (¬1) فحسن القول مع المؤمن والكافر من الأمور التي حض عليها الشارع، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. قوله: للناس: يشمل المؤمن والكافر، فالقول الحسن لجميع الناس من مكارم الأخلاق. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات" (¬2). وعن عُقبة بن عامر الجُهَني: أنَّه مرَّ برجل هيئته هيأة مسلم، فسلم فردَّ عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: إنَّه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إنَّ رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك وولدك" (¬3). قال شيخنا العلامة الألباني - رحمة الله-: "في هذا الأثر إشارة من هذا الصحابي الجليل إلى جواز الدعاء بطول العمر؛ ولو للكافر، فللمسلم ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 16). (¬2) صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1113)، وصححه شيخنا العلامة الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (848). (¬3) حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1112)، وحسنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (849).

2 - الإهداء له، وقبول هداياه

أولى، ولكن لا بد من أن يلاحظ الداعي أن لا يكون الكافر عدوًا للمسلمين، ويترشح منه جواز تعزية مثله بما في هذا الأثر، فخذها فائدة تذكر". 2 - الإهداء له، وقبول هداياه. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه ذبُحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورثه" (¬1). أمَّا قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - للهدايا فقد قبل هدية المقوقس، وقبل الشاة المصلية من اليهودية. لكن يستثنى من ذلك عدم قبوله هداياه وقت أعياده، وبالأخص اللحوم، أو الإهداء له؛ لأن في ذلك إقرارًا لباطله وشهادة زور. أيها -العاقل الودود- ليكن منك على بال أن من يهدي من لا يدين بدين الإسلام في يوم عيده فإنه على خطرٍ عظيم؛ لأن ذلك يورث إحساسًا بالتقارب، وشعورًا بالتعاطف مع الكفار لا سيما إذا كان من باب التعظيم والحب والمودة فالكفر على بابه. وذهب شيخ الإسلام إلى جواز قبول هدية الكفار يوم عيدهم معتمدًا على أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أتي بهدية النيروز فقبلها، وخبر إباحة ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 160)، والترمذي (1943) في كتاب البر والصلة، وصححه الألباني.

عائشة أم المؤمنين جواز الأكل من أشجارهم يوم عيدهم، وأثر أبي برزة - رضي الله عنه - أنه كان له سكان مجوس، فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه. وقال شيخ الإسلام: "فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء، لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم، لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه". قلت: وكل هذه الآثار ضعيفة الأسانيد، والتعليل المذكور أيضاً مردود على الشيخ -رحمه الله تعالى- أما أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأخرجه البيهقي (9/ 235) من طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن علي، وهذا إسناد ضعيف؛ لانقطاعه؛ محمد بن سيرين لم يدرك علي بنِ أبي طالب - رضي الله عنه -، وأما أثر عائشة، فأخرجه ابن أبي شيبة، وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف، وأمَّا أثر أبي برزة ففي سنده جهالة أم الحسن بن حكيم. وقال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- في "التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم" (348): "هذا غريب من الشيخ (أي شيخ الإسلام) -رحمه الله-، لأن قبول هدية الأعاجم تشعر بأنه رضا، لكن في آثار الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقبلون الهدية بقوة الإسلام في ذلك الوقت، وأن الناس لن ينخدعوا بذلك، وأن الكفار أنفسهم يعلمون أن الإسلام أعلى، لكن في الوقت الحاضر لو قبل المسلمون هدية الكفار لفرحوا، وقالوا: إن المسلمين

3 - حق الجوار

وافقونا على أن هذا اليوم يوم عيد، فهذا ينبغي أن نفصل في هذه المسألة، ويقال: إذا خيف أن يترافع الكفار، وأن يستعرضوا وأن يظنوا أن هذا موافقة منا بأعيادهم، فإنه لا يقبل الهدية". قلت: وهذا الذي قاله العلامة ابن عثيمين عين الصواب، وهو الموافق لأهل العلم، هذا على فرض صحة الآثار، فكيف وهي ضعيفة؟! 3 - حق الجوار: قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. أي الملاصق لك في السفر أو الحضر، وسواء كان بينك وبينه قرابة، أو غير ذلك، وهذا الجار سواء قريب في النسب، كافرًا كان، أو بعيدًا عنك، فله حق الجوار، وتقدم لنا الحديث عن حقوق الجار. 4 - الوفاء بالعهد؛ لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]. 5 - إنصافه والعدل معه وإسداء الخير له إن لم يكن محاربًا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]. وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. قال ابن جرير: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم؛ لأن

6 - الرحمة به إن كان جائعا، ويسقيه إن عطش، ويداويه إن مرض.

الله -عز وجل- عمّ بقوله {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب -غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح" (¬1). قال شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله- تعليقًا على الآية المذكورة: "فهذه الآية صريحة في الأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين ولا يؤذونهم والعدل معهم" (¬2). 6 - الرحمة به إن كان جائعًا، ويسقيه إن عطش، ويداويه إن مرض. 7 - عدم أذيته في ماله أو دمه أو عرضه إن كان غير محارب. ... ¬

_ (¬1) "جامع البيان في تأويل آي القرآن" (12/ 63). (¬2) "الصحيحة" (704).

من التعامل الجائز مع غير المسلمين

من التعامل الجائز مع غير المسلمين 1 - البيع والشراء: يجوز للمسلم التعامل مع الكفار في البيع والشراء بما هو جائز شرعًا، إلا ما كان فيه البيع حرامًا كبيعه سلاحًا يقتل به المسلمين، أو أمرًا يضر بهم، أو شراء الأشياء المغصوبة، أو المسروقة، أو المحرمة، ولا يجوز بيعه أشياء فيها إعانة على أعياده الباطلة؛ كعيد رأس السنة أو الكريسمس، أو النيروز، فبيع الأشياء التي فيها إعانة لدين الكافر لا يجوز، وما سوي ذلك فجائز. عن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ -رضي الله عنهما- قال: كنا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء رجل مشرك مُشْعانٌ طويلٌ بغنمٍ يسوقُها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بَيعًا أم عطيةً -أو قال: أم هِبةً؟ - قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاةً (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهُودي إلى أجلٍ، ورهنةُ درعًا من حديدٍ (¬2). قال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2216 - الفتح) كتاب البيوع، باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب. (¬2) أخرجه البخاري (2068 - الفتح) في كتاب البيوع، ومسلم (1603) في كتاب المساقاة. (¬3) "فتح الباري" (5/ 141).

عيادته

قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأما معاملتهم في البيع والشراء، وأن يدخلوا تحت عهدنا، فهذا جائز، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبيع ويشتري من اليهود، كان اشترى طعامًا لأهله، ومات ودرعه مرهونة عندهم, .. وهذه المسألة من أدق المسائل وأخطرها، ولا سيما عند الشباب؛ لأن بعض الشباب يظن أن أي شيء يكون فيه اتصالٌ مع الكفار فهو موالاة لهم؛ وليس كذلك، فالموالاة لها معاني كثيرة" (¬1). 2 - عيادته: عيادة المريض من الأخلاق الكريمة، وكانت من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن أنس -رضي الله عنه - قال: كَانَ غُلام يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرِضَ فَأتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَلمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ فَقَالَ لَهُ: "أَسلِمْ"، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِم - صلى الله عليه وسلم -، فَأسلَمَ فَخَرجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ: "الحَمدُ لِلهِ الذِي أَنقَذَهُ مِن النَّارِ" (¬2). وفي الحديث يتبين لنا مشروعية عيادة الكافر إن حققت مصلحة راجحة، وطمعنا في إسلامة. 3، 4 - أكل طعامه إن كان من أهل الكتاب وحل نكاح نسائهم: قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. ¬

_ (¬1) "الباب المفتوح" (3/ 466). (¬2) أخرجه البخاري (1356) في كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي.

قال ابن عباس، وأبو أمامة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء: (طعامهم): يعني ذبائحهم. قال الحافظ ابن كثير: "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم، تعالى وتقدس" (¬1). قال الإمام ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن ذبائح أهل الكتاب لنا حلال إذا ذكروا اسم الله عليها، إلا حرف حكي عن مالك في شحم شاة ذبحها يهودي، فإنه بلغني عنه أنه قال: لا يؤكل، وحكى عنه أنه قال: لا أحرمه، فإن ذبح الكتابي فذكر اسم الله أكلت ذبيحته، وإن لم يذكر اسم الله أو ذبح باسم المسيح، لم يحل أكل ذبيحته، وإذا غاب عنا أمره أكلنا ذبيحته، كما نأكل ما غاب عنا من ذبائح المسلمين" (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: اختلف الناس في {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]: هل يشمل كل ما اعتبروه طعامًا وإن كان لا يحل لنا إن كان أُهل لغير الله به، أو ذُبح للصليب، أو خُنق، أو ما أشبه ذلك؟ فقال بعض العلماء: كل ما اعتقدوه طعامًا فهو حل لنا، ولا نسأل كيف ذبحوا، ولا على أي اسم ذكروا على الذبيحة، والقول الثاني: أنهم لا بد أن يذبحوا على الطريقة الإسلامية، وألا يذكروا عليها إلا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (3/ 36). (¬2) "الإقناع" (1/ 387).

اسم الله، وعلى هذا القول فإن شككنا هل سَمُّوا أم لا، فإننا لا نسأل؛ لأن الأصل أن ذبائحهم حلال، والقول الثاني هو الأصل" (¬1). والخلاصة يشترط لحل ذبائحهم شروط: الأول: عدم العلم أنه ذكر عليها اسم غير اسم الله تعالى، فإن ذبحها باسم المسيح أو العذراء لم تؤكل. الثاني: أن تذبح بآله تقطع الودجين والمريء والحلقوم وتجري الدم. الثالث: أن يكون المذبوح جائز شرعاً. أمَّا نكاح نسائهم، فقد قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. وقد اتفق أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على جواز نكاح نساء أهل الكتاب، إلا قولاً لابن عمر -رضي الله عنهما- وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء أهل الكتاب منهم حذيفة - رضي الله عنه -، الذي تزوج يهودية في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتزوج طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - يهودية ونصرانية (¬2). واستثنى بعض أهل العلم إذا كانوا حربًا للمسلمين، فإنه لا يحل نساؤهم. قال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (2/ 363): "أباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي لاعتداده بقوة تأثير الرجل على امرأته، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة ¬

_ (¬1) "التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم" (326). (¬2) انظر مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/ 78)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 158).

دفنه

دينها قبل النسخ، فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام؛ لأنها أضعف منه جانباً، أما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه". قال الإمام الشافعي: "وله أن يتزوج أربع كتابيات، وتنكح المسلمة على الكتابية، والكتابية على المسلمة، ويقسم المسلم للكتابية كما يقسم للمسلمة، إلا أنهما لا يتوارثان لاختلاف الدينين، واِذا ماتت فإِن شاءَ شهدها وغسَّلها ودخل قبرها، ولا يُصلِّي عليها، وأَكْرهُ لها أَنْ تغسِّلهُ لو كان هو الميِّتَ، فإِن غسَّلَتهُ أَجزأَ غُسلُها إيَّاهُ إن شاء اللهُ تعالى" (¬1). ولكن مع هذا التعامل الحسن مع الكتابي، لا يعني أننا نقبل منه ما كان فيه تعظيم لدينه، فنشاركه في أعياده الدينية، أو نقبل هداياه في موسم عبادته؛ أو نهديه في أعياده من الطعام، أو البخور، أو نتشبه به؛ لأنَّ هذا من التعظيم لدينه، ويعد هذا إقراراً لما هو عليه من الباطل، فيجب ضبط المعاملة وفق قاعدة الولاء والبراء. 5 - دفنه: ولا بأس للمسلم أن يدفن قريبه المشرك؛ لحديث عَلِي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَالَ: قُلتُ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ عَمَّكَ الشيخَ الضَّال قَد مَاتَ، [فمن يواريه؟] قالَ: "اذهب فَوارِ أباكَ، ثم لا تُحدِثَن شَيئًا حتى تَأتِيَني". قال: فَذَهَبتُ فَوَارَيتُهُ، وَجِئتُهُ فَأمَرَنِي فَاغتَسَلتُ، وَدَعَا لِي" (¬2). ¬

_ (¬1) "الأم" (5/ 7) بتصرف. (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (3214)، والنسائي (2006)، وغيرهما وصححه الألباني في "الصحيحة" (161) مع ذكر بعض الزيادات للحديث.

الانتفاع بما عندهم من علوم

قال شيخنا الإمام الألباني -رحمه الله-: "من فوائد الحديث: 1 - أنه يشرع للمسلم أن يتولى دفن قريبه المشرك، وأن ذلك لا ينافي بُغضه إياه لشركه، ألا ترى أن عليًا - رضي الله عنه - امتنع أول الأمر من مواراة أبيه؛ معللًا ذلك بقوله: "إنه مات مشركًا"؛ ظنًّا منه أن دفنه مع هذه الحالة قد يُدخله في التولي الممنوع في مثل قوله تعالى: {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13]، فلما أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الأمر بمواراته بادر لامتثاله، وترك ما بدا له أول الأمر، وكذلك تكون الطاعة: أن يترك المرء رأيه لأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ويبدو لي أن دفن الولد لأبيه المشرك أو أمه هو آخر ما يملكه الولد من حسن صحبة الوالد المشرك في الدنيا، وأما بعد الدفن؛ فليس له أن يدعو له أو يستغفر له؛ لصريح قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]. 2 - أنه لا يشرع له غسل الكافر ولا تكفينه ولا الصلاة عليه ولو كان قريبه؛ لأن النبي لم يأمر بذلك عليًّا، ولو كان ذلك جائزًا لبينه، لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذا مذهب الحنابلة وغيرهم. 3 - أنه لا يشرع لأقارب المشرك أن يتبعوا جنازته .. " (¬1). 6 - الانتفاع بما عندهم من علوم: يتسامح الإسلام في أن يتلقى المسلم من غير المسلم ما ينفعه في علم ¬

_ (¬1) "الصحيحة" (161).

الطب والكيمياء والفيزياء والصناعة والزراعة، والأعمال الإدارية. وأدلة الانتفاع بعلم الكفار كثيرة، عن عائشة أُم المُؤمنين - رضي الله عنها - قَالَتْ: استَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكرٍ رَجُلًا من بَنِي الدَّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا (أي ماهرًا بالطريق)، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفارِ قُرَيشٍ، وَدَفَعَا إلَيهِ رَاحِلَتَيهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَورٍ بَعدَ ثَلاثِ لَيَالٍ (¬1). وكذلك مزارعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود من خيبر على أن يعملوا ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. قال ابن عمر: أَعْطَى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيبَرَ بِالشطرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهدِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكرٍ وَصدرٍ من خِلافَةِ عُمَرَ، وَلَم يَذكُر أَن أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإجَارَةَ بَعدمَا قُبِضَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال الشوكاني: "الحديث فِيه دَليلٌ على جوازِ استِئجَارِ المُسلم للكَافر علَى هداية الطَّريقِ، إذا أَمن إليه، وقد ذكر البُخاريُّ هذا الحديث في كتاب الإجارة، وترجم عليه: بابُ استئجارِ المشركينَ عند الضرُورة وإِذا لم يُوجد أَهلُ الإسلام، فكأنهُ أَراد الجمع بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا لا أَستعِينُ بمشركٍ" أَخرجه مسلم وأصحابُ السنن، قال ابنُ بطَّال: الفقهاءُ يُجيزُونَ استئجارَهُم -يعني: المُشركين- عند الضرُورة وغيرها؛ لما فِي ذلك من الذِّلةِ لهم، وإنما المُمتنعُ أَن يُؤجَّر المُسلمُ نَفسهُ من المُشرك لما فيه من ¬

_ (¬1) الرجل هو عبد الله بن أريقط، والحديث أخرجه البخاري (2264 - الفتح). (¬2) أخرجه البخاري (2285 - الفتح) في كتاب الإجارة، باب: إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما.

الإذلالِ" اهـ (¬1). أما تأجير المرء نفسه عند الكافر فيكون بشروط: 1 - أن يكون العمل حلالًا. 2 - ألا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين. 3 - عدم التعظيم لدينهم، أو مهانة المسلم وإذلاله. عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: جُعْتُ يَومًا مَرَّةً جُوعًا شَدِيدًا، فَخَرَجتُ لِطَلَبِ العَمَلِ فِي عَوَالِي المَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامرَأَةٍ قَد جَمَعَت مَدَرًا فَظَنَنتُهَا تُرِيدُ بَلَّهُ، فَقَاطعتُهَا كُل ذَنُوبِ عَلَى تَمْرَةٍ، فَمَدَدتُ ستةَ عَشَرَ ذَنُوبًا حتى مَجَلَت يَدَايَ، ثم أَتَيتُهَا، فَعَدت لِي سِتَّ عَشرَةَ تَمرَةً، فَأتَيتُ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأخبَرتُهُ، فَأكَلَ مَعِي مِنهَا. قال الشوكاني: "حديثُ عَلِيّ جَوَّدَ الحافظُ إسنادهُ، وأَخرجهُ ابنُ ماجة بسندٍ صححهُ ابن السكن، وأَخرج البيهقِي وابن ماجه من حديث ابن عَبَّاسٍ بلفظ "إن عَليًا - رضي الله عنه - آجَرَ نَفسَهُ من يَهُودِي يَسقِي لَهُ كُل دَلوٍ بِتَمرَةٍ، وَعِندَهُم أَنَّ عَدَدَ التمرِ سَبعَةَ عَشَرَ" وفِي إسنَادهِ حَنَشٌ راويهِ عن عكرمةَ وهو ضعيف. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَتْ الصحَابَةُ عَلَيهِ من الحَاجَةِ وشِدةِ الفَاقَةِ، وَالصبرِ عَلَى الجُوعِ، وَبَذلِ الأنفُسِ وإتعَابِهَا فِي تحصِيلِ القِوَامِ من العيشِ لِلتعَفُّفِ عَن السؤَالِ وَتَحَملِ المِنَنِ، وأَن تَأجِيرَ النفسِ لا يُعَد دَنَاءَةً، وإن كَانَ المستأجِرُ غَيرَ شَرِيفٍ أَو كَافِرًا، والأجِيرُ من أَشرَافِ الناسِ وَعُظَمَائِهِم". ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (6/ 19) كتاب الإجارة، باب: ما يجوز الاستئجار عليه من النفع المباح.

الاستعانة بالمشرك المأمون عند الحاجة

والخلاصة: أنه يجوز الانتفاع بما عند الكافر من علوم غير أنه لا يجوز استعمال الكافر في شيء من ولايات المسلمين، أو السلطة حتى لا تتم هيمنتهم على المسلمين، كما روى البيهقي في السنن عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قلت: لعمر - رضي الله عنه -: إن لي كاتبًا نصرانيًا، قال: ما لكَ؟ قاتلك الله، أما سمعتَ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]. ألا اتَّخذت حنيفًا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أُعزُّهم إذ أذلَّهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله (¬1). 7 - الاستعانة بالمشرك المأمون عند الحاجة: يجوز للمسلم أن يستعين بالمشرك المأمون في أمور كثيرة عن طريق الاستئجار، أو التوكيل وغير ذلك، أما في الجهاد فيقول الإمام الشافِعِيّ -رحمه الله تعالى-: الذي روى مَالِكٌ رَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُشرِكًا أَو مُشرِكِينَ في غزَاةِ بَدرٍ، وَأَبَى أن يَستعِينَ إلا بمسلِمٍ، ثم استعانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعدَ بَدرٍ بِسَنَتَينِ فِي غزَاةٍ خَيبَرَ بِعَدَدٍ من يَهُودِ بَنِي قينُقَاعِ كانُوا أَشداءَ، واستَعَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غُزاة حُنَينٍ سنة ثمانِ بِصَفوَانَ بن أُمَيةَ وهو مُشركٌ، فَالردُّ الأوَّلُ إن كَان؛ لأن لهُ الخِيَار أن يَستعِينَ بِمُسلِمٍ أَو يَرُدَّهُ، كما يَكُونُ لَهُ رَدٌّ المُسلم من مَعنَى يَخَافُهُ مِنهُ، أَو لِشِدَّةٍ به، فليسَ واحدٌ من الحدِيثَينِ مُخَالِفًا ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 156)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 204 - 10/ 127)، وفي "الشُّعب" (9384)، رصححه شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (84).

وقال الإمام النووي - رحمه الله -

لِللآخَرِ وإِن كَانَ رَدَّهُ لأنَّهُ لَم يرَ أنْ يَستَعِينَ بِمُشرِكٍ، فقد نَسَخَهُ ما بعده مِنْ استِعَانَتِهِ بِمُشرِكِينَ، فلا بأسَ أن يُستعانَ بِالمُشرِكِينَ، على قتَالِ المُشرِكِينَ إذا خَرَجُوا طَوعًا" (¬1). وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجع فلن أستعين بمشرك"؛ وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به، استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين" (¬2). وقال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "ولا يُستعانُ بمشركٍ، وبهذا قال ابنُ المنذر، والجُوزَجَانيُّ، وجماعةٌ من أهل العلم، وعن أحمدَ ما يدُلُّ على جوازِ الاستعانةِ به. وكلامُ الخِرقيِّ يدلُّ عليه أيضاً عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه، وخبر صفوان بن أمية. وُيشترط أن يكون من يستعانُ به حسنَ الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم، لم يَجُزْ الاستعانةُ به" (¬3). وقال الإمام ابن القيم: "إن الاستعانة بالمشركِ المأمونِ في الجهاد جائزةٌ عند الحاجة" (¬4). ¬

_ (¬1) "الأم" (1/ 276) الاستعانة بأهل الذمة على قتال العدو. (¬2) "شرح صحيح مسلم" (12/ 198). (¬3) "المغني" (2302 - بيت الأفكار الدولية). (¬4) "زاد المعاد" (3/ 301).

وقال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -

وقال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأما الاستعانة بهم فهذا يرجع إلى المصلحة، إن كان في ذلك مصلحة، فلا بأس، بشرط أن نخاف من شرهم وغائلتهم، وألا يخدعونا، وإن لم يكن في ذلك مصلحة فلا يجوز الاستعانة بهم؛ لأنهم لا خير فيهم" (¬1). أمور محرمة في التعامل مع الكفار 1 - بيع الكافر ما يستعين به على قتل المسلمين أو الإضرار بهم: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معاملة التتار: هل هي مباحة لمن يعاملونه؟ فأجاب: أما معاملة التتار، فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم ... فأما إن باعهم، وباع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كالخيل والسلاح، لمن يقاتل به قتالًا محرمًا، فهذا لا يجوز؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لعن في الخمر عشرة: لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها" (¬2). ¬

_ (¬1) "الباب المفتوح" (3/ 20)، قلت: وللزيادة في البحث ينظر كتاب "الولاء والبراء في الإسلام" للشيخ محمد بن سعيد القحطاني (356)، وكتاب "صد عدوان الملحدين" للشيخ ربيع المدخلي، و"سياسة الإسلام في التعامل مع الفتن المعاصرة" (333) مصطفى ابن أحمد عسيري. (¬2) حسن. أخرجه أحمد (2/ 71)، والحاكم (4/ 144)، وحسنه الألباني في "الإرواء" (1529)، وانظر "صحيح الجامع" (72).

فقد لعن العاصر، وهو إنما يعصر عنبًا يصير عصيرًا، والعصير حلال، يمكن أن يُتخذ خلًا، ودبسًا، وغير ذلك" (¬1). وقال شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: "معلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة: مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد، بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار؛ لأن ما يبتاعونه من الطعام واللباس ونحو ذلك يستعينون به على العيد، إذ العيد اسم لما يفعل من العبادات والعادات، وهذه إعانة على ما يقام من العادات، ولكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس ليس محرمًا في نفسه، بخلاف شرب الخمر، فإنه محرم في نفسه. فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم، مثل صليب أو شعانين أو معمودية، أو تبخير، أو ذبح لغير الله، أو صور ونحو ذلك، فهذا لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرًا، وبناء الكنيسة لهم، وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس، فأصول أحمد وغيره تقضي كراهته، لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه؟ والأشبه: أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده، فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر، ولأن هذه الإعانة قد تقضي إلى إظهار الدين الباطل، وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معين" (¬2). وقال أيضاً -رحمه الله-: "فأما بيع المسلم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم، من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم: فهذا ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (29/ 275). (¬2) "اقتضاء الصراط المستقيم" (346).

شراء المسلم من الكافر ما لا يحل من المحرمات

فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل، وهو: أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا" (¬1). وفي "المدخل" لابن الحاج -وهو من أئمة المالكية- (3/ 46): "لا يحل للمسلم أن يبيع لأهل الكتاب ما يستعينون به على أعيادهم، ولا يعينونهم لأنه إعانة على شركهم". 2 - شراء المسلم من الكافر ما لا يحل من المحرمات: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. فهذا بين وظاهر لا يحتاج إلى شرح في بيان حرمته. ولكن لو قال قائل إن شراء الأمور المباحة من الكافر فيها إعانة على المنكر بتنمية مال الكافر، فهل هذا سائغ؟ أجاب العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "فرق بين الشراء منهم، فالشراء ليس فيه إعانة، والبيع إعانة على المنكر، لكن قد يقول قائل في وقتنا الحاضر: الشراء منهم يزيدهم سرورًا، وينمي اقتصادهم؛ لأنهم يبيعون في هذه المناسبة، وينزلون السعر، فإذا فهمنا ذلك، وأننا إذا اشترينا منهم في أعيادهم نزيدهم سرورًا وينمي أموالهم ويزدادون كسبًا، فإنه يُمنع، لأن الحكم يدور مع علته، ولو أن المسلمين هجروهم في العيد ولم يشتروا منهم، فإنه يأتي العام القادم فلا يجلبون شيئًا" (¬2). ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (325). (¬2) "التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم" (324).

إيذاء المعاهد أو المستأمن

3 - إيذاء المعاهد أو المستأمن. المعاهد: هو الذي يدخل بلاد المسلمين بعهد وميثاق من قبل الدولة المسلمة المعاهدة له وفقَ شروط ومواثيق وأعراف. وهذا المعاهد لا يجوز لأحد أن يتعرض له بأي شكل من أشكال الأذى، وقد توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن يتعرض لمعاهد بظلم أو انتقاص حق، أو قتل، أو انتهاك عرض بالوعيد الشديد؛ لأن ذلك يفضي إلى أن أهل الإسلام أهل غدر وخيانة، وعدم إيفاء الشروط، ونقض للمواثيق، والإسلام من ذلك براء، ومن تعرض للمعاهد أو المستأمن أو الذمي، فقد خالف النصوص، وعارض ولي الأمر، ونقض الأمان. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والعقود هي العهود والمواثيق التي بينكم وبين الله سبحانه، وبين الناس، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. ولهذا جاء في الحديث عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم مرفوعاً: "ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا، حجيجه يوم القيامة" (¬1). وعن أَبي بكْرةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قَتَلَ نَفسًا مُعَاهَدةَ بغيرِ حَقِّهَا، فَقَد حَرمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيهِ الجَنّةَ أَن يَشمَّ رِيحَهَا" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو، عَن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قَتَلَ نَفسًا مُعَاهَدًا لَم ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (3552)، والبيهقي ()، وصححه الألباني (2655) في "صحيح الجامع". (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (5/ 36) والنسائي (4748) وصححه الألباني (6334).

تهنئتهم بأعيادهم الشركية

يَرِح رَائِحَةَ الجَنة، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ من مَسِيرَةِ أَربَعِينَ عَامًا" (¬1). قال العلامة صالح الفوزان -حفظه الله تعالى-: "والمعاهد: الذي يدخل تحت صلح بين المسلمين والكفار، وهذا يؤمن حتى ينتهي العهد الذي بين الفئتين، ولا يجوز لأحدٍ أن يتعدى عليه، كما لا يجوز له أن يتعدى على أحد المسلمين. والمستأمن: هو الذي يدخل بلاد المسلمين بأمان منهم لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلده بعد إنهائها. والذِّمِّيُّ: الذي يدفع الجزية للمسلمين، ويدخل تحت حكمهم، والإسلام يكفل لهؤلاء الأنواع من الكفار الأمن على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، ومن اعتدى عليهم، فقد خان الإسلام، واستحق العقوبة الرادعة" (¬2). 4 - تهنئتهم بأعيادهم الشركية: الأعياد من أعظم مظاهر الدين عند جميع الأمم؛ قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67]. والأعياد عند الكفار نوعان: أعياد على وجه التعبد، وأعياد على وجه المناسبة، فالأعياد على وجه التعبد كعيد مولد المسيح للنصارى، أو النيروز، والمهرجان للمجوس، فهذا النوع محرم، ولا يجوز التهنئة فيه؛ لما في ذلك من الإقرار للباطل، والتهنئة تعني المشاركة في السرور، والرضا بمعتقد الآخر، وأما أعياد المناسبة كيوم الاستقلال، أو يوم الحب، أو يوم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (12/ 259 - الفتح) في كتاب الديات، باب: إثم من قتل ذميًا بغير جرم. (¬2) "مجموع الرسائل" (201) للشيخ أحمد بن يحيي النجمي.

مولد الطفل، ويوم العمال ونحو ذلك فبدعة، لا ينبغي المشاركة فيها للمسلم. وفي "كشف القناع" للبهوتي وهو من الحنابلة (3/ 131): "ويحرمُ تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم؛ لأنه تعظيمٌ لهم". وما كان فيه للتعبد فلا يجوز التهنئة للكفار، وما كان فيه لغير التعبد، فبدعة، أما ما كان فيه لترقية، أو نجاح أو تملك منزل، أو زواج أو ولد أو قدوم مسافر، أو سلامة، فخلاف بين العلماء بين الإباحة والكراهية، والصواب عندي هو جواز التهنئة إن سلمت من الألفاظ التي تدل على الرضى بدينه؛ وثانياً أن هذا غير داخل في عبادته الشركية، والله أعلم. وقال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك ... فالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينهما، ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضا بدينه، كما يقول أحدهم: متعك الله بدينك .. ، وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قَدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله

وسخطه" (¬1). قال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين في -رحمه الله-: "تهنئة الكفار بعيد (الكريسمس) (¬2) أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق .. ، وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم، لأن فيها إقرارًا لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بذلك؛ كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وتهنئتهم بذلك حرام، سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا. وقد يتساءل المرء -لا سيما إذا كان يعمل مع النصارى في مكان واحد، ويهنئونه في الأعياد الإسلامية-: فلماذا لا يبادلهم بالتهنئة في أيام أعيادهم معاملة بالمثل؟ وهذا كثيرًا ما يتبادر إلى الذهن ويطرح من قبل الكثير من عامة المسلمين" .. وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك، ولأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى؛ ولأنها أعياد إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة لكنها نُسخت بدين الإسلام الذي بعثَ الله به ¬

_ (¬1) "أحكام أهل الذمة" (1/ 441). (¬2) ينظر كتاب "البرهان المبين في التصدي للبدع والأباطيل" (2/ 156) لأشرف قطقاط، و"بدع وأخطاء تتعلق بالأيام والشهور" (499) لأحمد السلمي.

التشبه بهم

محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق، وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرامٌ؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها .. " (¬1). 5 - التشبه بهم: التشبه لغة: يعني المثل، والجمع أشباه، وشابَهَهُ وأشبهَهُ: ماثَلَهُ (¬2). أما في الاصطلاح: مماثلة الكفار بشيء من خصائصهم التي لا يشاركهم فيها أحد. مفهوم التشبه: "أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعًا بين الكفار والمسلمين فليس تشبهًا، لكن إذا كان لباسًا خاصًا بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر، بناء على لباسه، فهذا حرام. وهل يشترط قصد التشبه أو لا؟ الجواب: قد يقول قائل: إنه يشترط قصد التشبه؛ لأنه قال: "من تشبه" وتفعل تقضي فعلًا وقصدًا، ولكن من نظر إلى العلة عرف أنه متى حصل التشابه ثبت الحكم، ولهذا نص شيخ الإسلام -رحمه الله- على أنه متى حصلت المشابهة، ولو بغير قصد، ثبت الحكم، وذلك لأن العلة لا تختلف بالقصد ¬

_ (¬1) "مجلة الفرقان" (العدد 473/ 18). (¬2) "القاموس المحيط" (880).

من أدلة تحريم التشبه بالكفار

وعدمه، فالعلة أن من رأى هذا الرجل قال: هذا كافر، وهذا لا يشترط فيه القصد. لكن لو فرض أن الإنسان في بلد ليس فيه من الكفار من يلبس هذا اللباس، وهو لا يعرف عن لباس الكفار في بلادهم، وليس لباساً يشبه لباس الكفار في بلادهم، وهو لم يقصد، فهنا قد نقول: إنه لا تشبه؛ لأن العلة قد زالت تماماً. فإن قال قائل: على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذي يركبها كفار؟ فالجواب: أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه آلة يركبها الكفار، ويركبها المسلمون، والصحابة -رضي الله عنهم- لما فتحوا البلاد ركبوا السفن التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا متشبهين" (¬1). من أدلة تحريم التشبه بالكفار: قال سبحانه {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49]. ¬

_ (¬1) "الشرح الممتع" (5/ 37).

قال شيخ الإسلام: "ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه. واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير" (¬1). وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَتَتبِعُن سَنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم شِبرًا شِبرًا وَذرَاعًا بِذراع، حتى لو دَخَلُوا جُحرَ ضَب تبِعتُمُوهُم". قُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودُ وَالنصَارَى؟ قال: "فَمَن" (¬2). وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُومُ الساعَةُ حتى تَأخُدَ أُمَّتى بِأخذ القُرُونِ قَبلَهَا شِبراً بِشِبرِ وَذرَاعاً بِذراع" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرومِ؟ فَقَالَ: "وَمَن النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ" (¬3). قال شيخ الإسلام: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يُخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات، فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى وفارس ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (42). (¬2) أخرجه البخاري (13/ 300 - الفتح) في كتاب الاعتصام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتتبعن، ومسلم (2669) في كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصاري. (¬3) أخرجه البخاري (13/ 300 - الفتح) كتاب الاعتصام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتتبعنَّ.

والروم مما ذَمّه الله ورسوله، وهو المطلوب" (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنهُم" (¬2). وقد بين شيخ الإسلام الحكمة من النهي عن مشابهة الكفار، وما يترتب على ذلك من المفاسد، فقال -كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"-: "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافا، وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضاً أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (77). (¬2) حسن. أخرجه أحمد (2/ 50، 92)، وأبو داود (4031)، وجود شيخ الإسلام إسناده في "اقتضاء الصراط المستقيم" (125)، وقوّاه الذهبي في "السير" (15/ 509)، وصححه الألباني في "الإرواء" (1269).

يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له، وكل ما كان سببًا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة". قلت: وقد عدد شيخ الإسلام في كتابه النفيس "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" المفاسد التي تترتب على مشابهة الكفار من الأمور الظاهرة والباطنة، فقال: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلًا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلًا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك, إلا أن يَمنعه من ذلك مانع. ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان، وتُحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلبُ أتمَّ حياةً، وأعرفَ بالإسلام الذي هو الإسلام -لستُ أعني مُجرد التوسُّم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسُه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتمَّ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.

هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تَجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم" (¬1). ***** ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط المستقيم" (34).

الباب الرابع الأدب مع الحيوان

الباب الرابع الأدب مع الحيوان

قال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "من علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكل خلق جميل، ومن دانت همته وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل". [الفوائد: 203].

التعامل مع الحيوان والرفق به

التعامل مع الحيوان والرفق به والعقلاء هم الذين يحسنون التعامل مع الحيوان، ويرفقون به وفق الشريعة الإسلامية السمحة، فقد خلق الله سبحانه الإنسان وكرمه، وسخر له الحيوانات لمنافع شتى. قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]. وبين الله سبحانه فعل أهل الجاهلية الكفار من افترائهم عليه بتشريعات ما أنزل بها من سلطان، وذلك كوقفهم الإبل على أصنامهم، وتحريمها على أنفسهم، أو تحريم ما في بطون الأنعام على النساء دون الذكور؛ كما قال تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} [الأنعام: 139]. وكما قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)} [المائدة: 103]. وعن سعيد بن المسيب قال: البحيرةُ التي يُمنع دَرُّها للطواغيت فلا يحلُبها أحدٌ من الناس، والسائبةُ التي كانوا يُسيِّبونها، لآلهتهم فلا يُحَملُ عليها شيء، والوصيلةُ الناقةُ البِكر تُبَكر في أول نِتاج الإبل بأنثى، ثم تُثني

بعدُ بأنثى، وكانوا يُسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهُما بالأخرى ليس بينها ذكر، والحام فحلُ الإبل يَضرب الضِرابَ المعدودَ، فإذا قضى ضِرابَهُ وَدَعوهُ للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يُحَمل عليه شيء، وسمَّوه الحامي" (¬1). وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحُمُر فقال: "ما أنزل الله عليَّ فيها إلا الآية الفاذَّة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬2). وقد سمَّى الله تعالى بعض السور في القرآن الكريم بأسماء هذه الحيوانات والحشرات، لبيان مناسبتها في السور الكريمة وأهميتها، وما يستفاد منها، فسمَّى سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل. والإسلام هو أول من دعا إلى الرفق بالحيوان وحرم إيذاءه، ورفع الظلم عنه، غير أن دعاة الغرب وممن لا خلاق لهم من الشرق زعموا أنَّهم هم أرباب الرفق بالحيوان، ناسين أو متناسين تعذيبهم للحيوان كمصارعة الثيران والكباش والديكة، كما هو الحال في كثير من بلاد أوربا، لا سيما في "أسبانيا" من قتلهم الثيران بعد إرهاقهم في الحلبة، ثم القضاء عليهم بالرماح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "التفسير" (4623 - فتح). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 262) وطرفه: "ما من صاحب كنز .. ".

والدماء تسيل منهم شيئاً فشيئاً أمام الجماهير في لهوٍ قبيحٍ ومنظرٍ مؤلم، مع فرجة البطالين، وكذا الحال بالنسبة إلى مناقرة الديكة ومهارشتهم، كما هو الحال في "أندونيسيا والهند" أمام المتفرجين في مشاهد مؤثرة دون رحمة أو شفقة مع مراهنات محرمة (¬1). قال الشيخ المطيعي: "وأما السبق بنطاح الكباش ونقار الديكة، فهو أسفه أنواع السبق، وهو باطل، لا يختلف أحد من أهل العلم في عدم جوازه" (¬2). قلت: بل عدَّ الحنفية والمالكية أن من اشترى كبشاً على أنه نطاح أو ديكاً على أنه مقاتل، فالبيع فاسد، ويحرم. وذهب المالكية إلى أن بيع الكبش المتخذ للنطاح، والديك المتخذ للهراش باطل. قلت: كذا يفعل الأوربيون، وهذا من ظلمهم للحيوان، وليس هذا فحسب بل اعتداؤهم السافل علي الحيوان جنسياً، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلعُون مَن وَقعَ عَلَى بَهِيمَةٍ" (¬3). فالرأفة بالحيوان خلق جُبِلَ عليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وحث عليه أمته، وقد وردت الوصية بالدواب في أحاديث كثيرة، منها: ¬

_ (¬1) قلت: ومن ذلك ما يفعله المتوحشون من أكل أدمغة القردة في مطاعم "الفلبين" بوضع القرد على مائدة (الزبائن) وفتح قحف رأسه بسكين، أو ضربه على رأسه بمطرقة حتى الموت، ثم يأكلون دماغه!. (¬2) "تكملة المجموع شرح المهذب" (15/ 141). (¬3) صحيح. أخرجه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5891).

عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو غُفِرَ لكم ما تَأتونَ إلى البهائمِ لغُفِرَ لكم كثيرًا" (¬1). ومن الأدب مع الحيوان معرفة حقوقه:- والسؤال: هل للحيوان حقوق؟ الجواب نعم كما في الحديث عن عبد الله بن عمرو أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا من إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصفُورًا فَمَا فَوقَهَا بِغَيرِ حَقهَا، إِلا سَألَهُ اللهُ -عز وجل- عَنهَا"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "يَذبَحُهَا فَيَأكلها، وَلا يَقطَعُ رَأسَهَا يَرمِي بِهَا" (¬2). ... ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه أحمد في مسنده (6/ 441)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (514). (¬2) حسن. أخرجه النسائي، والحاكم (4/ 232)، وحشه الألباني في "صحيح الترغيب" (1092).

من حقوق الحيوان

من حقوق الحيوان 1 - النهي عن جعل البهيمة الحية هدفاً يرمى إليه: البهيمة سميت بهيمة لأنَّها لا تنطق ولا تتكلم، وهي مأخوذة من الإبهام، وهو الخفاء وعدم الوضوح. عن سعيد بن جُبَير قال: كنتُ عندَ ابنِ عُمَرَ، فَمَرُّوا بفتيةٍ، أو بنَفَرٍ نَصَبُوا دجاجةً يرمُونها، فلما رأوُا ابن عُمرَ تفرقوا عنها، وقال ابنُ عُمرَ: مَن فعلَ هذا؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعنَ من فعلَ هذا (¬1). عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تَتخذوا شَيئاً فيهِ الرُّوحُ غَرَضًا" (¬2). وعن عبد الله بن جعفر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ناسٍ يرمون كبشًا بالنبل، فكره ذلك، وقال: "لا تُمَثِّلوا بالبهائمِ" (¬3) 2 - تحريم تعذيبه أو إيذائه أو حبسه بلا طعام أو شراب للإضرار به. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذبت امرأةٌ في هرةٍ، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5515 - الفتح) في كتاب الذبائح والصيد. (¬2) أخرجه مسلم (1957) في الصيد والذبائح. (¬3) أخرجه النسائي، وجود الألباني إسناده في "الصحيحة" (2431).

سقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" (¬1). قلت: فهل يدخل في ذلك خصاء البهائم؟ الجواب: الخصاء هو نزع الخصية وسلها، وفي ذلك إيلام للحيوان، فهو مكروه، وتتأكد الحرمة إذا أدت لهلاكه. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن إِخصَاءِ الخَيلِ وَالبَهَائِمِ (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صبرِ الروح، وخصاء البهائم" (¬3). هل يمكن أن تحيا البهيمة مع الخصاء؟ أجاب الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "نعم يمكن، وهذا كثير بشرط أن يكون المباشر لذلك من أهل الخبرة، وحينئذ لا تموت بإذن الله؛ لأنه قد يباشر الخصاء من ليس من أهل الخبرة فتهلك البهيمة، وسبحان الله، هذا الأمر موجود من قبل أن تظهر وسائل الراحة الحديثة كالبنج وشبهه، لكن عرف بالتجارب، أما الآن فالأمر أسهل يمكن أن تخصى البهيمة بدون أن تشعر بألم إطلاقًا" (¬4). قلت: وأنا شاهدت مرة خصاء الغنم بالوسائل الحديثة، عبر حلقة ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) صحيح. أخرجه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6956). (¬3) صحيح. أخرجه البيهقي (10/ 24)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6960). (¬4) "الشرح الممتع" (7/ 474).

النهي عن ضربه، أو وسمه على وجهه، فقد كفل الإسلام للحيوان الراحة نفسيا وجسديا

مطاطية صغيرة جداً توضع بآلة تقوم بتوسيعها حتى يمكن إدخال الخصية فيها، ثم تزال الآلة فتقبض الحلقة على نهاية الخصية وخلال يوم واحد أو يومين تسقط الخصية لوحدها، ويلتئم اللحم من غير ألم. ولهذا "قرر الحنفية أنه لا بأس بخصاء البهائم؛ لأن فيه منفعة للبهيمة والناس. وعند المالكية: يجوز خصاء المأكول من غير كراهة؛ لما فيه من صلاح اللحم. والشافعية فرقوا بين المأكول وغيره، فقالوا: يجوز خصاء ما يؤكل لحمه في الصغر، ويحرم في غيره، وشرطوا أن لا يحصل في الخصاء هلاك. أما الحنابلة فيباح عندهم خصي الغنم؛ لما فيه من إصلاح لحمها، وقيل: يكره كالخيل وغيرها، والشدخ أهون من الجب، وقد قال الإمام أحمد: لا يعجبني للرجل أن يخصي شيئًا، وإنما كره ذلك للنهي الوارد عن إيلام الحيوان" (¬1). 3 - النهي عن ضربه، أو وسمه على وجهه، فقد كفل الإسلام للحيوان الراحة نفسيًا وجسديًا. عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بحمار قد وسم في وجهه، فقال: "أما بَلَغَكُم أني لَعَنتُ من وسم البهيمة في وجهها، أو ضَرَبَها في وجهها؟ " (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عليه حمار قد وُسِمَ في وجهِهِ، فقال: ¬

_ (¬1) "الموسوعة الفقهيه" (19/ 122). (¬2) صحيح. أخرجه أبو داود (2564)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1326).

"لَعَنَ اللهُ الذي وَسَمَه" (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: مر حمارٌ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كوي في وجهه، يفور منخراه من دم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ من فعل هذا"، ثم نهى عن الكي في الوجه، والضرب في الوجه" (¬2). فوسم الحيوان أو ضربه في وجهه محرم بالاتفاق. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "وَرَأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا موسُومَ الوجه، فأنكر ذلك، قال: "فوالله لا أسمُهُ إلا في أَقصى شيء من الوجه" فأمَرَ بحمارٍ له، فَكُوِيَ في جَاعِرَتيهِ، فهو أولُ من كَوَى الجاعِرَتين" (¬3). أما وسم الحيوان بالكي فمشروع لتمييزه عن غيره من الحيوانات بما لا يضر. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "رأيتُ في يد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الميسم، وهو يسمُ إبلِ الصدقةِ" (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "دخلنا علي رسولِ الله مربدًا، وهو يسمُ غنمًا في آذانها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس (2117). (¬2) أخرجه مسلم (2116)، وابن حبان (5597 - الإحسان)، واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب اللباس (2118)، الجاعرتان: هما حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب اللباس (2119). (¬5) أخرجه مسلم في اللباس (2119).

إطعامه وبالأخص إذا بلغت به الحاجة إلى أن قارب الهلاك

فالصحيح في مكان الوسم أن يكون في موضع صلب ظاهر يقل فيه الشعر، ففي الغنم الأذان، وفي الإبل والبقر والحمير والخيل والبغال والفيلة الأفخاذ. 4 - إطعامه وبالأخص إذا بلغت به الحاجة إلى أن قارب الهلاك: فالعاقل من يترفق بالحيوان الذي عنده يطعمه ويسقيه، ولا يحمله من العمل ما لا يطيق. عن سراقة بن مالك - رضي الله عنه - قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، فلم أدر ما أسأله عنه، فقلت: يا رسول الله إني أملأ حوضي أنتظر ظهري يرد علي، فتجيء البهيمة فتشرب، فهل في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكَ في كُلِّ كَبِدٍ حَرى أَجرٌ" (¬1). وفي الحديث: "المرأة البغي التي سقت الكلب" (¬2). وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خلفَه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أحدِّث به أحدًا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدفٌ أو حائشُ النخلِ، فدخل حائطًا لرجلٍ من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حنَّ وذرفت عيناه، فأتاهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح سراته (السراة: الظهر) إلى سنامهِ وذفراهُ (عظم خلف الأذن) فسكن، فقال: "مَن ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ "، فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: "أفلا تَتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنهُ ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الحميدي (902)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (2152). (¬2) متفق عليه.

شَكَا إليَّ أنك تُجيعُهُ وتُدْئِبُه" (¬1). هذا الحديث وغيره مثال للرحمة والرأفة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي نموذج رفيع للتوجيهات النبوية في العناية بالحيوان وإعطاءه حقوقة. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَينَا رجل يَمشِي فَاشتَد عَلَيهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئرًا فَشَرِبَ مِنهَا، ثم خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلب يَلهَثُ يَأكُلُ الثَّرَى من العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَد بَلَغَ هَذَا مِثلُ الذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثم أَمسَكَهُ بِفِيهِ ثم رَقِيَ فَسَقَى الكَلبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِن لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجرًا؟ قَالَ: "فِي كُل كَبِدٍ رَطبَةٍ أَجرٌ" (¬2). من روائع أدب العلماء ومن مُلَحِ ما يُذكر في ترجمة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- ما حدثني به الشيخ الدكتور الأديب عبد العزيز بن محمد السدحان -أثابهُ الله تعالى- أن الشيخ ابن العثيمين له بابان في بيته، وكان من عادته إذا زاد من طعامه في الغداء أو العشاء يفتح بابًا معهوداً له يطعم فيه القطط من لحم ونحوه، والقطط بطبعها تأنس لمطعمها، وتظل تنتظر على بابه، وتجتمع في الوقت المعهود لتأكل من يده، فإذا لم يزد له طعام ذلك اليوم، خرج من الباب الآخر؛ مراعاه لشعورها في عدم إطعامها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 204)، وأبو داود، والحاكم، وصححه، وابن عساكر، وينظر "الصحيحة" لشيخنا العلامة الألباني (20). (¬2) أخرجه البخاري (2363) في كتاب المساقاة، ومسلم.

إعطاء الدواب حظها من الرعي إذا ركبت في طريق خصب

فلله در شيخنا ما أرهف قلبه! وأروع أدبه! رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وكان في بيت شيخنا الإمام الألباني -رحمه الله- طيور تبعد عن شرفته قرابة عشرين مترًا، وضع لها ماسورة -أنبوب نقل السوائل- طرفها عند شرفته ونهايتها في مكان الطيور، فكان يضع الحبّ في رأس الماسورة فينزل إلى الطيور، وإذا أكل شيئًا من الحب أو اللوز وما شاكله جعل ما بقى من فضلاته في رأس الماسورة لينزل إلى الطيور (¬1). 5 - إعطاء الدواب حظها من الرعي إذا ركبت في طريق خصب: ومن حقوقها عند الخصب والجدب أن تعطى حظها من الكلأ من المنازل. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا سَافَرتُم فِي الخِصبِ فَأعطُوا الإبِلَ حَظهَا من الأرض، وَإِذا سَافَرتُم فِي السنَةِ فأسرِعُوا عَلَيهَا السيرَ، وَإِذا عَرَّستم بِالليلِ فَاجتَنِبُوا الطَرِيقَ فَإِنهَا مَأوَى الهَوَامِّ بِالليلِ" (¬2). قال الإمام النووي: (الخِصب): بِكَسرِ الخاء، وهو كثرة العُشب والمَرعَى، وهو ضِد الجَدْب، والمراد بالسَّنة هنا القحط، ومنهُ قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130]، أَي: بالقُحُوط، ومعنى الحديث: الحث على الرِّفق بالدَّوابِّ، ومُراعاة مصلحتها، فإن ¬

_ (¬1) "الإمام الألباني دروس ومواقف وعبر" (111) للدكتور عبد العزيز السدحان. طبع دار التوحيد. الرياض. (¬2) أخرجه مسلم (1926) في كتاب الإمارة، باب: مراعاة مصلحة الدواب في السير.

وجوب الإحسان إليه عند الذبح, أو القتل, وذلك بإحداد الشفار, وإراحة الذبيحة, وأن توارى عن البهائم

سافروا في الخِصْب قلَّلُوا السير وتركوها ترعى في بعض النهَار، وفي أَثناء السير، فتأخُذ حَظهَا من الأَرض بما ترعاهُ منها، وإِن سافروا في القحط عجلُوا السَّير ليصلُوا المقصد وفيها بقيَّة من قُوتها، ولا يُقللُوا السَّير فيلحقها الضَّرر؛ لأنها لا تجد ما ترعى فتضعف، ويذهب نِقيها (¬1)، وربما كت، ووقفت" (¬2). 6 - وجوب الإحسان إليه عند الذبح, أو القتل, وذلك بإحداد الشِّفار, وإراحة الذبيحة, وأن توارى عن البهائم. عن شدَّاد بن أَوس قال: قال رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِن اللهَ كَتَبَ الإحسَانَ عَلَى كُل شَيءٍ، فإذَا قتُلتم فَأحسِنُوا القتِلَةَ، وَإِذا ذبحتم فَأحسِنُوا الذبحَ، وَليُحِدَّ أَحَدُكم شَفرَتَهُ فَليرِح ذبيحته" (¬3). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بحدِّ الشِّفار، وأن توارى عن البهائم، وإذا ذبحَ أحدُكم؛ فليُجهِز" (¬4). عن عاصم بن عُبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: أن رجلًا حدَّ شفرةً، وأخذَ شاةً ليذبحها، فضربهُ عمرُ بالدِّرَّةِ، وقال: أتُعذبُ الرُّوحَ؟! ألا فعلتَ هذا قبلَ أن تأخُذها؟! " (¬5). والشفار: جمع شفرة، وهي السكين، قوله (فليجهز): أي فليسرع ¬

_ (¬1) بكسر النون وإسكان القاف، وهو المخ. (¬2) "شرح صحيح مسلم" (13/ 69). (¬3) أخرجه مسلم (1955) في كتاب الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل. (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (2/ 108)، وصححه الألباني في "الصحيحه" (3130). (¬5) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 280، 281).

النهي عن سب الحيوان، أو لعنه

بذبحها ويتمه. عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رَحِم -ولو ذبيحة عصفور -رحمه الله يوم القيامة" (¬1). ومن أدب الذبح أن لا يذبح أخرى أمامها، ولا يحد السكين قبل أن يضجعها لحديث ابن عباس أن رجلًا أضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتريد أن تميتها موتات؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تُضجِعَها؟ " (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحدُّ شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: "أفلا قبل هذا؟! أو تريدُ أن تميتَها موتتان؟! " (¬3). 7 - النهي عن سب الحيوان، أو لعنه. والعاقل لا يلعن الحيوانات، فهي بهائم عجماوات، والشرع حرم ذلك. عن زيد بن خالد الجُهَنِيِّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبوا الدِّيكَ؛ فإِنهُ يَدعُو إِلَى الصَّلاةِ" (¬4). عن زيد بن خالِدٍ الجُهنيِّ - رضي الله عنه - قال: "لَعَنَ رَجُلٌ دِيكًا صَاحَ عِندَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6261). (¬2) صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 233)، وصححه، والألباني في "صحيح الجامع" (93). (¬3) صحيح. أخرجه الطبراني (11916)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (24). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (5/ 192 - 193)، وأبو داود بنحوه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7314).

فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلعَنهُ فإنهُ يَدعُو إِلَى الصَّلاةِ" (¬1). قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: "يحرم لعن الدابة واللعان للدواب ترد شهادته؛ لأن هذا جرحة له. عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر، فلعنت امرأة ناقةً، فقال: "خذوا ما عليها ودعوها مكانها ملعونة"، فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. رواه أحمد، ومسلم (¬2). ولهما عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيهَا لَعنَةٌ". وقال -رحمه الله-: "وقد بالغت الشريعة في سد باب اللعن عمن لم يستحقه، فنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعن الديك، وعن لعن البرغوث، فعلى المسلم الناصح لنفسه حفظ لسانه عن اللعن" (¬3). من لطائف العلماء ومن لطائف أهل العلم في النهي عن التحقير للحيوان ما جاء عن الشيخ تاج الدين السبكي -رحمه الله- قوله: كنتُ يوماً في دهليز دارنا في جماعة، فمر بنا كلب يقطر ماء يكاد يمس ثيابنا، فنهرته وقلت: يا كلب يا ابن الكلب. وإذا بالشيخ الإمام -يعني والده الشيخ تقي الدين السبكي- يسمعنا من داخل، فلما خرج قال: لم شتمته؟ فقلت: ما قلتُ إلا حقاً، أليس هو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 115)، والطبراني في "الكبير" (5208)، و"الدعاء" (2054). (¬2) أخرجه مسلم (2595) في كتاب البر والصلة. (¬3) "معجم المناهي اللفظية" (472 و473).

رحمة البهائم

بكلب ابن كلب؟ فقال: هو كذلك، إلا أنك أخرجت الكلام مخرج الشتم والإهانة، ولا ينبغي ذلك. فقلت: هذه فائدة، لا ينادى مخلوق بصفته، إلا إذا لم يخرج مخرج الإهانة" (¬1). 8 - رحمة البهائم: عن قرة بن إياس ومعقل بن يسار قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالشَّاةُ إِن رَحِمْتَهَا يرحمكَ الله" (¬2). قلت: وسبب الحديث أن قرة قال: يا رسول الله، إني لآخذ الشاة لأذبحها فأرحمها، فذكره. وفيه فضل الرحمة للحيوان، ومراعاة شعوره وعدم إيذائه. وعن أبي أمامة مرفوعاً قال: "مَن رَحِمَ -ولو ذبِيحَةَ عُصفورٍ- رَحِمَةُ اللهُ يومَ القيامةِ" (¬3). 9 - عدم اتخاذها منابر وكراسي لغير حاجة شفقة عليها: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إيايَ أن تتَّخذوا دوابكم منابر، فإن الله -عز وجل- سخرها لكم لتبلغكُم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيهِ إلا بشِق الأنفس، ¬

_ (¬1) "تنرية الأنبياء عن تسفيه الأغبياء" للسيوطي (58)، والكفوي في "الرفع والتكميل" (46). (¬2) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 436، 5/ 34)، والطبراني (19/ 23)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7055). (¬3) حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وغيره، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (27).

عدم استخدامه في غير ما سخر له

وجعلَ لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجتكم" (¬1). والنهي المذكور في الحديث مخصوص باتخاذ ظهورها منابر وكراسي دون حاجة، فلا هو بالذي يسير عليها ولا نازل عنها، وهذا يؤذيها. 10 - عدم استخدامه في غير ما سخر له. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَينَمَا رجلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ، التَفَتَت إِلَيهِ، فَقَالَت: لَم أُخلَق لِهَذا، خُلِقْتُ لِلحِرَاثَةِ. قال: آمنتُ بِهِ أنا وَأبو بَكرِ وَعُمَرُ" (¬2). 11 - عدم التفريق بين صغار الحيوان وأمهاتهم إذا كان الصغير لا يستغني عن أمه في طعامه وشرابه. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَانطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأينَا حُمرَةً مَعَهَا فَرخَانِ فَأخَذنَا فَرخَيهَا، فَجَاءَت الحُمرَةُ فَجَعَلَت تَفرُشُ فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من فَجَّعَ هذهِ بِوَلدها، رُدُّوا وَلدها إلَيهَا"، وَرَأى قَريَةَ نَملٍ قَد حَرقنَاهَا فقال: "مَن حَرَّقَ هذهِ؟ قُلنَا: نَحْنُ، قال: "إنهُ لَا يَنبَغِي أن يُعَذبَ بالنارِ إلا رَب النَّارِ" (¬3). 12 - عدم تحميله ما لا يطيق. من جميل ما يذكر من أخلاق السلف الصالح في التعامل مع الحيوان ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه أبو داود (2567)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2691). (¬2) أخرجه البخاري (2324 - فتح) في كتاب الحرث والمزارعة، باب: استعمال البقر للحراثة. (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود في "الجهاد" (2675)، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة" (25)، والحمرة: بضم الحاء، وفتح الميم المشدَّدة: عصفور صغير أحمر اللون، وليس في الطيور أحَنّ من العصفور على ولده.

عدم قتله إلا لدفع ضر، أو لضرورة

عدم تحميله ما لا يطيق. عن معاوية بن قرة قال: "كَانَ لأَبي الدردَاءِ - رضي الله عنه - جَمَل يُقَالُ لَهُ: دمُونٌ، فَكَانُوا إِذَا استعَارُوهُ مِنهُ قال: لَا تَحمِلُوا عَلَيهِ إِلَّا كَذَا وَكَذا، فَإِنهُ لَا يُطِيقُ أَكثرَ من ذلِكَ، فَلَمَّا حَضَرَتهُ الوَفَاةُ قال: يَا دَمُونُ، لَا تُخَاصِمني غَدًا عِندَ رَبي، فَإِني لم أَكُن أَحمِلُ عَلَيكَ إِلا مَا تُطِيقُ" (¬1). عن أبي عثمان الثقفي قال: "كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعملُ على بغلٍ له، يأتيه بدرهم كل يوم، فجاء يومًا بدرهم ونصف، فقال: ما بالك؟ قال: نفقت السوق. قال: لا؛ ولكنك أتعبتَ البغلَ! أجِمَّهُ ثلاثة أيام" (¬2). 13 - عدم قتله إلا لدفع ضر، أو لضرورة. إذا أضر الحيوان بالمسلم واعتدى عليه، جاز قتله، ومن الحيوان ما ينهى عن قتله، ومنه ما يجوز قتله؛ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَمس من الدواب لَيسَ عَلَى المحرِم فِي قَتلِهِن جُنَاح: الغرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقرَبُ، وَالفَأرَةُ، وَالكَلبُ العقُورُ" (¬3). وخُصَّت هذه الدواب بالقتل لأنها مؤذيات مفسدات تكثر في المساكن والعمران، ويتعسر دفعها والتحرز منها، ومنها ما هو صائل لا ينزجر ¬

_ (¬1) أخرجه أبو الحسن الإخميني في "حديثه" (ق 63/ 1)، أورده الألباني في"الصحيحة" (30)، وذكره السيوطي في "جامع المسانيد والمراسيل" (9284). (¬2) قال العلامة الألباني في "الصحيحة" (30) رواه أحمد في "الزهد" (19/ 59/ 1) بسند صحيح إلى أبي عثمان، وأما هذا؛ فلم أجد له ترجمة. (¬3) أخرجه البخاري (3315 - فتح) في كتاب بدء الخلق، باب: خمس من الدواب، ومسلم (1200) في كتاب الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب.

كالكلب العقور وكل سبع عقور، وكذا الحيات. وعليه فكل حيوان أضر جاز قتله. بل السنة قضت باستحباب قتل الوزغ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وسماه فويسقاً، وحث عليه ورغب فيه، لكونه من المؤذيات، ولكون هذه الدَّابة لها موقف سيئ مع إبراهيم - عليه السلام - عندما ألقي في النار كما في حديث أمِّ شَريكٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بقتل الأوزَاغِ (¬1). وعن سائبة مولاة للفاكه بن المغيرة أنها دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فرأت في بيتها رمحاً موضوعاً، فقالت: يا أم المؤمنين، ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: نقتل به الأوزاغ، فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا: "أن إبراهيم - عليه السلام- حين أُلقيَ في النار، لم تكن دابة إلا تُطفي النار عنه غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه" (¬2). عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوزغ فُوَيسقٌ" (¬3). وأمَّا الدواب التي ينهي عن قتلها فهي النملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3307 - فتح) في كتاب بدء الخلق، ومسلم (2237) في كتاب السلام. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2/ 295)، وأورده الألباني في "الصحيحة" (1581). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 279)، والبخاري (3306 فتح)، وانظر "صحيح الجامع" (7149). (¬4) صحيح. أخرجه أحمد (1/ 332)، وأبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6968).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعَةٌ مِنَ الدوابِ لا يُقتلن: الصُّرَدِ وَالضفدَعِ وَالنملَةِ وَالهُدهُد" (¬1). الأصل في تحريم قتلها التسليم، وبعض أهل العلم بحث في حكمة النهي قال الخطابي: "إنما جاء قتل النمل عن نوع خاص، وهو الكبار ذوات الأرجل الطوال، لأنها قليلة الأذى والضرر، وأما النحلة فلما فيها من المنفعة، وهو العسل والشمع، وأما الهدهد والورد فلتحريم لحمهما لأن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لاحترامه أو لضرر فيه، كان لتحريم لحمه، ألا ترى أنه نُهي عن قتل الحيوان لغير مأكله، ويقال: إن الهدهد مُنتن الريح، فصار في معنى الجلالة، والورد تتشاءم به العرب وتتطير بصوته وشخصه، وقيل: إنما كرهوه من اسمه، من التصريد، وهو التقليل". قلت: الصُّرَدِ: طائر جارح معروف عندنا بـ (الحمامي) قال ابن الأثير: الورد: طائر ضخمُ الرأس والمنقار، له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود" (¬2). ومن التوجيه النبوي للرفق بالحيوان عن سهل بن الحنظلية الأنصاري - رضي الله عنه - قال: مرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببعيرٍ قد لَحِقَ ظهرُه ببطنهِ فقال: "اتَّقُوا الله في هذِه البهائمِ المُعْجَمَة، فاركبوها صالحةً، وكُلوها صالحة (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه البيهقي (9/ 317)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6971). (¬2) "النهاية في غريب الحديث" (3/ 21). (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (2548) في كتاب الجهاد.

والمعجمة، أي التي لا تقدر على النطق فتتكلم وتشكو ما أصابها من جوع أو عطش. ومن العناية تحريم قتل الجراد إلا للأكل أو لدفع الضر. وعن أبي زهير النميري مرفوعاً: "لا تقتلوا الجرادَ، فإنه جُندٌ من جنودِ الله الأعظم" (¬1). وعن وهب بن كيسان: أنَّ ابن عُمرَ رأى راعي غنمِ في مكانٍ قبيحٍ، وقد رأى ابنُ عمرَ مكانًا أمثلَ منه، فقال ابنُ عمرَ: ويحكَ يا راعي! حوِّلها، فإني سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُل راعٍ مسؤولٌ عن رعيَّته" (¬2). وتأمل كيف يعاتب الله سبحانه نبيًا من الأنبياء عندما انتقم لنفسه بإهلاك جمع النمل، كما في حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَزَلَ نَبِيٌّ من الأنبِيَاءِ تَحتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتهُ نملةٌ، فأمَرَ بِجَهَازِهِ فأخرِجَ من تحتِهَا، ثمَّ أَمَرَ بِبَيتِهَا فأحرِقَ بِالنَّارِ، فأوحَى اللهُ اِلَيهِ فَهَلا نملَةً وَاحِدةً" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قرصت نملة نبيًا من الأنبياء؛ فأمر بقرية النمل فأُحرِقَت، فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله!؟ " (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح. أخرجه الطبراني في الأوسط (9277)، وجود الألباني إسناده في "الصحيحة" (2428). (¬2) حسن. أخرجه أحمد (5869. شاكر)، والطبراني (12/ 338)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (30). (¬3) أخرجه البخارى (3319 - فتح) في كتاب: بدء الخلق، ومسلم (2241) في كتاب السلام. (¬4) أخرجه البخارى (3019)، ومسلم (2241) في كتاب السلام.

ومن روائع حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - مع البهائم دفاعه عنهم، ورفع الظلم عنهم كما في الصور التالية: 1 - في غزوة الحديبية حرنت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبت أن تمشي، وكان اسمها القصواء، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ (أي يزجرونها لتنبعث وتقوم)، فألحَّت (أي لزمت مكانها ولم تنبعث) فقالوا: خَلأَتِ القَصواء (أي حرنت وبركت من غير علة)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما خَلأَتِ القصواءُ وما ذاك لها بِخُلُقٍ، ولكن حَبَسَها حابسُ الفيل" (وحابس الفيل هو الله -سبحانه وتعالى- حبسه عن دخول مكة، وقصة الفيل مشهورة)، ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألُونني خطةً يعظمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطيُتهم إياها" (¬1)، وتأمل أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يدفع الظلم عن الناقة ويدافع عنها. 2 - كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة يقال لها العَضْبَاء، وكانت سريعة لا تسبق، وكانت تسبق الحجاج في سفرها، وعندما أغار المشركون على سرح المدينة ذهبوا بها، وَأُسِرَت امرَأَة من الأنْصَارِ وَأُصِيبَت العَضبَاء، فَكَانَت المَرأَةُ فِي الوَثَاقِ، وَكَانَ القَومُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُم بَينَ يَدَي بُيُوتِهم فَانفَلَتَت ذَاتَ لَيلَةٍ من الوَثَاقِ، فَأتَت الإبِلَ فَجَعَلَت إِذَا دَنَت من البَعِيرِ رَغَا فَتَترُكُهُ، حتَّى تَنتَهِيَ إِلَى العَضبَاءِ فَلَم تَرغُ، وَنَاقَةٌ مُنَوقَةٌ (أي مُذَلَّله) فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثمَّ زَجَرَتهَا فَانطَلَقَت، وَنَذِرُوا بِهَا فَطَلَبُوهَا فَأعجَزَتهُم، وَنَذَرَت لِلهِ إِن نَجَّاهَا اللهُ عَلَيهَا لَتَنحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَت المَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ فَقَالُوا: العَضبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَت: إِنهَا نَذَرَت إِن نَجاهَا اللهُ عَلَيهَا لَتَنحَرَنَّهَا، فَأتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2731، 2732) في كتاب الشروط.

فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فقال: "سُبحَانَ اللهِ، بِئسَمَا جَزَتهَا! نَذرَت لِلهِ إِن نَجَّاهَا اللهُ عَلَيهَا لَتَنحَرَنَّهَا، لا وَفاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةٍ، وَلا فِيمَا لا يَملِكُ العَبدُ" (¬1). وتأمل أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا ينبغي للمؤمن أن يجازي بالإحسان إساءة حتى لو كان حيواناً، وفي هذه القصة فوائد عديدة" (¬2). **** ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 430، 433، 434)، ومسلم (1641) في كتاب النذر. (¬2) ينظر "روائع القصص في السيرة النبوية دروس وعبر" لمؤلفه (177).

الباب الخامس الأدب مع البيئة

الباب الخامس الأدب مع البيئة

الباب الخامس الأدب مع البيئة البيئة نعمة من نعم الله إذ هي مكان يتسع الجميع، وقد سخرها الله لنا ونحن فيها شركاء، ولها علينا حقوق، ولا نستطيع إلا أداءها؛ لأن إهمالنا لآداب التعامل معها عمدًا، أو لعدم اكتراث أصبح من عاداتنا السيئة فكاننا موكلين بإفسادها، وحاشا لله أن نكون كذلك لأننا فعلنا هذا يجعلنا منكرين لفضل الله ونعمته، وإن اعتيادنا العبث، أو ترك من اعتاد العبث يفعل ما يريد هو خلل بالجانب الخلقي تجاهها، وقد ورد ذكر النهي عن العبث بها، أو استغلالها بشكل خاطئ أو تحميلها ما يؤذيها. نعم ورد ذلك في الكتاب والسنة، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. كما وردت كثير من الأحاديث تحث على خدمة البيئة منها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مُسلمٍ يغرسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأكلُ منهُ طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمة، إلا كانت لهُ بهِ صدقة" (¬1). فيا أخي إن لم تشارك في الحفاظ على البيئة والمساعدة في تزيينها، أو زرعها بما يسر الله من شجر أو زهر أو كلأ، فعلى الأقل لا تدمرها، فليكن عنصر بناء، وليس معول هدم، وعلينا التمسك بالآداب التي يوجبها ديننا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2320) في كتاب الحرث والمزارعة، ومسلم (3973) في كتاب المساقاة.

الأدب مع الثروة النباتية

العظيم كي لا تفسد البيئة التي خلقها الله كي تكون دار معاش لنا، وجعلها على أحسن حال، ومن المعروف أن للتعامل مع البيئة آداب، وقبل الدخول فيها أجد من الضروري القول أن الله خلق الأرض ملائمة لحياة الإنسان كل الملائمة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} [يس32: 35]. وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات30: 33]. ومن خلال ما تقدم نجد أن الله خلق الأرض علي أحسن وجه مهيأة للعطاء، وجعلها تفي بكل حاجات الناس، فأي نقص يصيبها، أو خلل فهو بفعل الناس، وقد قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. والآن نبدأ بذكر الآداب مع البيئة كل حسب ما يتعلق به، وهي كالتالي: الأدب مع الثروة النباتية: أ- التشجير: دعا الإسلام إلى التخضير والتشجير، ففي صحيح مسلم عن جابرٍ أَن النبِي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ الأنصَارِيةِ فِي نَخلٍ لَهَا فَقَالَ لَهَا النبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن غرَسَ هَذا النخلَ أَمُسلِمٌ أَم كَافِرٌ"؟ فَقَالَت: بَل مسلمٌ. فَقَالَ: "لا يَغرِسُ مُسلِمٌ غرسًا وَلا يَزرَعُ زَرعًا فَيأكلَ مِنهُ إِنْسَان وَلا دابة وَلا شَيءٌ إِلا كَانَت لَهُ

صَدَقةٌ" (¬1). وعن أنس بن مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِن قَامَت الساعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكم فَسِيلَةٌ فَإن استَطَاعَ أَن لا يَقُومَ حتى يَغرِسَهَا فَليَفعَل" (¬2). ب- وقد حمى الإسلام الغطاء النباتي، والأشجار خاصة من أيدي السفهاء العابثين بالبيئة، بالنهي عن قطع الأشجار المثمرة لغير غرض صحيح، إذ يعتبر من الفساد في الأرض، وقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك. قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. وقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]. وعن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قَطَعَ سِدرةً صَوْبَ الله رأسَهُ في النارِ" (¬3). وقد تكلم بعض العلماء بخصوصية هذا الحديث إذ قالوا: إنه خاص بسدر الحرم، بموجب زيادة عند الطبراني، ويرى البعض بأنه عام يشمل سدر الفلاة وغيره، وهذا الذي حكاه أبو داود بقوله: هذا الحديث مختصر، يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثًا، وظلمًا بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار، وذهب الإمام الطحاوي على أن هذا الحديث منسوخ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (3969) في كتاب المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع. (¬2) صحيح. أحمد (3/ 191)، وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1424)، و"الصحيحة" (9). (¬3) صحيح. أخرجه أبو داود (5239)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (614).

الأدب مع المظهر العام، ثم الهواء والماء

قلت: ومن الواضح أن العبث مذموم بكل الأحوال، ومن العبث كذلك إحراق الشجر من غير فائدة. غير أن الإسلام أباح قطع الأشجار المعترضة في سبيل الناس ومصداق ذلك ما رواه مسلم عن أَبِي هُرَيرَةَ عَن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَقَد رَأَيتُ رَجُلًا يَتَقَلبُ فِي الجَنة فِي شَجَرَة قَطَعَهَا من ظَهرِ الطرِيقِ كَانَت تُؤذِي النَّاسَ" (¬1). وفي الحديث فضل إزالة الأذى عن الطريق، وكل ما يضر بالناس. الأدب مع المظهر العام، ثم الهواء والماء: 1 - أخي -الودود- لا بد أن نعلم أن الإسلام يحرم تلويث البيئة، وكل أمر يسيء للمظهر العام للبلاد سواء برها، أو بحرها، وأن من يتعمد ذلك آثم شرعًا، ولا في طرقات الناس، أو مشاربهم، والدليل هو ما رواه مسلم عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتَّقُوا اللَّعانَينِ". قَالُوا: وما اللَّعانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "الذي يتخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَو فِي ظِلِّهِم" (¬2). وعن مُعَاذِ بنِ جَبَل - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا المَلاعِنَ الثلاثَةَ: البَرَازَ فِي المَوَارِدِ، وَقارِعَةِ الطرِيقِ، وَالظِّلِّ" (¬3). عن أبِي هريرة عن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكم فِي المَاءِ الدَّائمِ، ثمَّ يَغتَسِلُ مِنهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (6671) في كتاب البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق. (¬2) أخرجه مسلم (618) في كتاب الطهارة، باب: النهي عن التخلي في الطرق والظلال. (¬3) حسن بشواهده. أخرجه أبو داود (26)، وابن ماجه (328)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (146)، وقال: حسن لغيره. (¬4) أخرجه مسلم (69) في كتاب الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الركد.

وفيما يخص إماطة الأذى عن الطريق نورد الحديثين التاليين: وعن أَبي ذر عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "عُرِضَت عَلَي أَعمَالُ أُمتِي حَسَنُهَا وَسَيئُهَا فَوَجَدتُ فِي مَحَاسِنِ أَعمَالِهَا الأذَى يُمَاطُ عَن الطَّرِيقِ، وَوَجَدتُ فِي مَسَاوِئ أَعمَالِهَا النُّخَاعَةَ تكونُ فِي المسجِدِ لا تُدفَنُ" (¬1). عن أبي هريرة عن النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غصنُ شَجَرَةٍ يُؤذِي النَّاسَ فأمَاطَهَا رجلٌ فَأدخِلَ الجَنةَ" (¬2). ويلحق بالآداب مع المظهر العام تطهير الأفنية، وهي الساحات الواسعة، أمام الدور، والمنازل، ويمكن أن يحمل على ذلك الساحات العامة، والدليل ما رواه الطيالسي عن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طهرُوا أَفنِيَتَكُم، فإن اليهودَ لا تُطَهرُ أَفنِيَتَها" (¬3). 2 - أما بالنسبة لتلويث الهواء فقد جعل الله سبحانه الهواء الطلق غير مملوك لأحد، فلا يجوز لصاحب مصنع قريب من الناس، أو أي مصدر يضر بالهواء من محروقات أو انبعاث غازات، أو زرائب حيوانات، والتي تنبعث منها روائح كريهة، كل ذلك غير جائز، والدليل الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار". 3 - وأما التعامل مع الموارد المائية، فيجب أن نكون خاضعين لأحكام ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1233) في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن البصاق في المسجد. (¬2) صحيح. أخرجه ابن ماجه (3682)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4458). (¬3) حسن. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4057)، وحسنه الإمام العلامة الألباني في "الصحيحة" (3935).

الشرع فيها، وفي ذلك كل خير، وأكثر ما نعاني منه الإسراف في الماء وهو حق لنا ولغيرنا، فأي زيادة في حقنا نقص في حق غيرنا، وقد نهانا الله سبحانه عن الإسراف بقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. فمن محاسن الأخلاق في الإسلام الاعتدال في استعمال الماء، وفي كل الأحوال، سواءً للاستعمال اللازم للنظافة، أو الطهارة، أو الزراعة المنزلية، وما شابه ذلك، والحمد لله على نعمة الإسلام. ***** تم الكتاب بحمد الله تعالى، وأسأل الله سبحانه أن يرزقني دعوة صالحة من أخ أو أخت في ظهر الغيب، ولهم مني كل شكر، وجزاهم الله خيرًا. يا ناظرًا فيهِ سلْ باللهِ مرحمة ... على المُصنف واستغفر لصاحبهِ واطلب لنفسكَ من خيرٍ تُريدُ بها ... من بعد غُفرانًا لكاتبهِ والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات خالد بن جمعة بن عثمان الخراز أبو الحارث عفا الله تعالى عنه وعن والديه وذريته وإخوانه

فهرس المراجع والمصادر

فهرس المراجع والمصادر * "آداب الزفاف في السنة المطهرة" للعلامة محمد ناصر الدين الألباني (1420 هـ) المكتبة الإسلامية. (1409). * الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" للإمام عبيد الله ابن محمد بن بطة العكبري (387 هـ) تحقيق رضا بن نعسان معطي. دار الراية (1409 هـ 1988 م). * "أحكام أهل الذمة" للإمام ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) تحقيق يوسف البكري -شاكر العاروري- رمادي للنشر ودار ابن حزم. الطبعة الأولى (1418هـ 1997 م). * "إحياء علوم الدين" الغزالي. دار الكتاب العربي. * "أخطاؤنا في معالجة الأخطاء" عادل فتحي عبد الله. دار الإيمان (1422 هـ). * "أخلاق العلماء" للإمام محمد بن الحسين الآجري (360 هـ) تخريج بدر البدر. مكتبة الصحابة الإسلامية. الكويت. * "أخلاق العلماء" للإمام محمد بن الحسين الآجري (360 هـ) تحقيق أمينة عمر الخراط. دار القلم. دمشق. الطبعة الأولى 1422هـ- 2001 م. * "أدب الدنيا والدين" للإمام علي بن محمد الماوردي (364 - 450 هـ) تحقيق ياسين محمد السّوّاس. دار ابن كثير دمشق - بيروت (1413هـ 1993م). * "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" اللعلامة محمد ناصر الدين الألباني (1420 ... هـ) المكتب الإسلامي (1399 - 1979).

* "إصلاح ذات البين" للمؤلف خالد بن جمعة الخراز. مكتبة الإمام الذهبي والمكتبة العصرية (1427هـ-2006 م). * "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1393هـ) طبع (1403 هـ-1983 م). * "إعلام الموقعين" ابن قيم الجوزية. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. * "إغاثة اللهفان" للإمام ابن قيم الجوزية. * "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) تعليق محمد بن صالح العثيمين. خرج أحاديثه محمود بن الجميل. دار الأنصار الطبعة الأولى (1423 هـ-2002 م). * "اقتضاء العلم العمل" للحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (392 - 463) تحقيق العلامة محمد ناصر الدين الألباني. نشر وتوزيع دار الأرقم - الكويت ضمن رسائل أربع من كنوز السنة. * "الآداب الشرعية والمنح المرعية" ابن مفلح المقدسي. مكتبة ابن تيمية. * "الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -" للمؤلف. نشر المبرة الخيرية لعلوم القرآن والسنة - الكوبت الطبعة الأولى (1428 هـ 2007 م). * "الأدب المفرد" أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. تحقيق فضل الله الجيلاني. ط 1378هـ المطبعة السلفية. القاهرة. * "الأخلاء"، للمؤلف. مكتبة الإمام الذهبي الطبعة الأولى (1428 هـ 2007 م). * "الإخوان" للحافظ ابن أبي الدنيا (281 هـ) تحقيق محمد عبد الرحمن طوالبة. دار الاعتصام.

* "الأخلاق في ضوء الكتاب والسنة" للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق (مخطوط) جمع وتعليق خالد بن جمعة الخراز. * "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" ابن حزم الأندلسي (384 - 456 هـ) تحقيق إيقا رياض دار ابن حزم الطبعة الثانية. (1428 هـ - 2007 م). * "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852) تعليق صدقي جميل العطار. دار الفكر - بيروت (1421 هـ- 2001 م). * "الأعلام، خير الدين الزركلي - دار العلم للملايين - بيروت. * "الإقناع" للإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (318 هـ) تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين. الطبعة الأولى (1408 هـ). * "الأمثال القرآنية" عبد الرحمن حسن الميداني. دار القلم - دمشق - بيروت (1400 هـ - 1980م) الطبعة الأولى. * "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير الدمشقي (774 هـ) دار الكتب العلمية (1405 هـ - 1985 م). * "بهجة المجالس وأنس المجالس" للإمام ابن عبد البر (368 - 463 هـ) تحقيق محمد مرسي الخولي. دار الكتب العلمية. * "تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392 - 464 هـ). دار الكتاب العربي. * "تاريخ الفقه الإسلامي" للدكتور عمر سليمان الأشقر. مكتبة الفلاح - الكويت (1402 هـ - 1982 م) الطبعة الأولى.

* "التبيان في آداب حملة القرآن" للإمام يحيى بن شرف الدين النووي (631 - 676 هـ) مكتبة العزالي. * "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم" للإمام بدر الدين إبراهيم بن سعد بن جماعة الكناني (639 - 733 هـ) تحقيق حسان عبد المنان. بيت الأفكار الدولية. * "ترطيب الأفواه بذكر من يظلهم الله" للدكتور سيد حسين العفاني. مكتبة معاذ بن جبل (1419هـ-1999 م). * "التعريفات" علي بن محمد الجرجاني (740 - 816 هـ) تحقيق إبراهيم الإبياري. الناشر دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى (1405هـ- 1985 م). * "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" للإمام ابن عبد البر (368 - 463 هـ) مطبعة فضالة المحمدية. المملكة المغربية. * "تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير (700 - 774 هـ) تحقيق عبد العزيز غنيم -محمد عاشور- محمد إبراهيم البنا - طبعة الشعب. * "التوقيف على مهمات التعاريف" لمحمد عبد الرؤوف المناوي (952 - 1031هـ) تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. دار الفكر - بيروت ودمشق الطبعة الأولى (1410هـ -1990 م). * "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" للعلامة السعدي (1307 - 1376 هـ) مؤسسة الرسالة (1416هـ-1996 م). * "جامع بيان العلم وفضله" ابن عبد البر (368 - 463 هـ) تحقيق أبي الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي (1414هـ- 1994 م).

* "جامع العلوم والحكم" ابن رجب (736 - 795 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس. مؤسسة الرسالة. (1411هـ 1991 م). * "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للحافظ الخطيب البغدادي (392 - 463 هـ) تحقيق الدكتور محمود الطحان. مكتبة المعارف (1403هـ - 1983 م). * "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سليمان. دار ابن الجوزي (1420 هـ - 1999 م). * "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" معافى بن زكريا النهرواني الحريري (303 - 390 هـ) تحقيق د محمد مرسي الخولي. عالم الكتب. (1403 هـ-1983 م). * "جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب" للشيخ جمال الدين بن محمد القاسمي (1332هـ) دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى (1425 هـ-2004 م). * "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (336 - 430 هـ) دار الكتب العلمية. * "الداء والدواء" ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ). تحقيق الشيخ علي بن حسن الحلبي. دار ابن الجوزي (1416 - 1996 م). * "الدر الثمين في وجوب توقير العلماء وطلبة العلم في الدين" فوزي بن عبد الله الأثري. مكتبة الفرقان. الطبعة الثانية (1421هـ- 2000 م). * "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" جلال الدين السيوطي (849 - 911هـ)

الناشر محمد أمين دمج (بيروت). * "ذكر وتذكير" للدكتور الشيخ صالح بن غانم السدلان، دار بلنسية، الطبعة الثانية (1415 هـ). * "رسائل التواصل مع الأئمة والخطباء" وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. الكويت (1426هـ-2005 م). الطبعة الأولى. * "روائع القصص النبوي" خالد بن جمعة الخراز وعدنان عبد القادر. مكتبة الإمام الذهبي والمكتبة العصرية الطبعة الثانية (1424هـ - 2003 م). * "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" ابن حبان البستي (354 هـ) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ومحمد عبد الرزاق حمزة، ومحمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية. * "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ). تحقيق الشيخ يوسف علي بديوي. دار ابن كثير - دار طيبة الخضراء. مكة، الطبعة الأولى (1423 هـ-2003 م). * "زبدة التفسير" د محمد سليمان الأشقر. دار النفائس. دار التدمرية. الطبعة الثانية، (1425هـ- 2004 م). * "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف. * "سنن ابن ماجه". الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (207 - 275 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر. * "سنن أبي داود" للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (202 -

275 هـ). تعليق عزت عبيد الدعاس. دار الكتب العلمية (1394هـ-1974 م). * "سنن البيهقي" السنن الكبرى، دار الفكر. * "سنن الترمذي". للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة (209 - 279 هـ). تحقيق العلامة أحمد شاكر. دار إحياء التراث العربي. * "سنن النسائي" للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (215 - 303 هـ) دار البشائر (1409 - 1988) الطبعة الثالثة. * "سير أعلام النبلاء" للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (673 - 748 هـ) مؤسسة الرسالة. * "شأن الدعاء" للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (319 - 388 هـ) تحقيق أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى (1404 - 1984 م). * "شرح السنة" للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (436 - 516 هـ). تحقيق وزهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط الطبعة الثانية (1403هـ-1983 م) المكتب الإسلامي. * "الشريعة" الإمام الآجري (360هـ) تحقيق محمد حامد الفقي. دار الكتب العلمية (1403هـ-1983 م). * "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض اليحصبي (544 هـ) دار الكتب العلمية. * "صحيح الأدب المفرد" للإمام البخاري. بقلم العلامة محمد ناصر الدين

الألباني (1420 هـ) دار الصديق (1414 هـ- 1994 م). * "صحيح ابن حبان" (الإحسان) علاء الدين علي بن بلبان (675 - 739 هـ) مؤسسة الكتب الثقافية (1407هـ-1987 م). * "صحيح الترغيب والترهيب" للعلامة محمد ناصر الدين الألباني (1420هـ) مكتبة المعارف (1421هـ- 2000م). * "صحيح الجامع الصغير وزيادته" للعلامة الألباني (1420هـ) المكتب الإسلامي (1406هـ- 1986م). * "صحيح مسلم بشرح النووي" دار إحياء التراث العربي. * "صحيح مسلم" للإمام مسلم بن الحجاج القُشيري (206 - 261 هـ). تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي. * "صفة الصفوة" للإمام جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي (510 - 597 هـ) دار المعرفة بيروت، تحقيق محمود فاخوري الطبعة الثانية (1399هـ-1979 م). * "الظرف والظرفاء" لمحمد بن أحمد بن إسحاق الوشاء. عالم الكتب. (1403هـ- 1983 م). * "العقيدة الطحاوية شرح وتعليق" محمد ناصر الدين الألباني (1420 هـ) المكتب الإسلامي الطبعة الأولى (1398هـ- 1978م). * "عيون الأخبار" عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري. دار الكتاب العربي (1343هـ- 1925 م). * "غاية المريد في علم التجويد" عطية قابل نصر. الطبعة السابعة (1420 هـ - 2000 م) الرياض من دون تحديد دار للنشر.

* "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" الحافظ أحمد بن علي العسقلاني. تحقيق: العلامة عبد العزيز بن باز، ومحب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقي. الطبعة السلفية. * "الفصول في سيرة الرسول" للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير (701 - 774 هـ) تحقيق الدكتور باسم بن فيصل الجوابرة، والشيخ سمير بن أمين الزهيري. مكتبة المعارف (الرياض) الطبعة الأولى (1420 هـ- 2000 م). * "فضائل القرآن وتلاوته" للإمام أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي (371 - 454 هـ) تحقيق الدكتور عامر حسن صبري. دار البشائر الإسلامية بيروت. الطبعة الأولى (1415 هـ- 1994 م). * "فضائل القرآن وما أنزل من القرآن بمكة وما أنزل بالمدينة" لأبي عبد الله محمد بن أيوب الضُّريس (294 هـ) تحتق غزوة بدير. دار الفكر (دمشق) الطبعة الأولى (1408هـ- 1987م). * "فضائل القرآن وما جاء فيه من الفضل" للإمام أبي بكر جعفر بن محمد الفريابي (207 - 301 هـ) تحقيق يوسف عثمان جبريل. مكتبة الرشد. الرياض، الطبعة الأولى (1409هـ- 1989م). * "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري. تحقيق حسام الدين القدسي. دار الكتب العلمية. * "فقة الصحبة" للشيخ صالح بن محمد الأسمري (مذكرة مطبوعة 1426 هـ). * "الفوائد" ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة. الطبعة الأولى (1417 هـ- 1996 م).

* "فيض القدير بشرح الجامع الصغير". المناوي. دار المعرفة (1391هـ-1972م). * "قواعد في التعامل مع العلماء" عبد الرحمن بن معلا اللويحق. دار الوراق الطبعة الأولى (1415هـ -1994م). * "لسان العرب" ابن منظور. مؤسسة الأعلى للمطبوعات. بيروت. * "لطائف المعارف" ابن رجب الحنبلي. تحقيق ياسبن محمد السواس. دار بن كثير (1413هـ -1992م). * "مجموع الرسائل" أحمد بن يحيى النجمي. دار الإمام أحمد. الطبعة الأولى (1428هـ-2007م). * "المختصر الحثيث في بيان أصول منهج السلف أصحاب الحديث" عيسى مال الله فرج. غراس (1428هـ-2007م). الطبعة الأولى. * "مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر" للإمام محمد بن نصر المروزي (294 هـ) اختصار العلامة أحمد بن علي المقريزي (845 هـ) مصورة مخطوط. عالم الكتب. الطبعة الثانية (1403هـ-1983م). * "مختصر منهاج القاصدين" أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. المكتب الاسلامي. (1394هـ). * "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" ابن قيم الجوزية (691 - 751هـ) تحقيق وتعليق محمد المعتصم بالله البغدادي. دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى (1410هـ-1990م).

* "المرأة كما يريدها الإسلام" خالد بن جمعة الخراز، الطبعة الثانية (1428هـ-2007م). * "المستدرك علي الصحيحين" للحافظ أبو عبد الله النيسابوري الحاكم (321 - 405هـ) دار الكتب العلمية. * "مسند أبي يعلى الموصلي". دار المأمون للتراث. (1406هـ-1986م). * "المسند" الإمام أحمد بن حنبل. المكتب الإسلامي (1403هـ-1983م). * "المصنف في الأحاديث والآثار" للإمام عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (235 هـ) الدار السلفية (الهند) الطبعة الثانية (1399هـ-1979م). * "معالم السنن شرح سنن أبي داود" حمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي، الطبعة الثانية، (1401هـ) المكتبة العلمية بيروت. * "المعجم الأوسط" سليمان بن أحمد الطبراني (260 - 360 هـ). تحقيق أيمن صالح شعبان، وسيد أحمد إسماعيل. دار الحديث - القاهرة. الطبعة الأولى (1417هـ-1996م). * "المعجم الكبير" سليمان بن أحمد الطبراني (260 - 360 هـ). تحقيق حمدي السلفي (1405هـ-1984م). * "معجم المناهي اللفظية" لبكر بن عبد الله بو زيد، دار العاصمة (1417هـ-1996م) الطبعة الثالثة. * "المعجم الوسيط". المكتبة الإسلامية.

* "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة" ابن قيم الجوزية (751 هـ) تحقيق وتعليق الشيخ المحدث علي بن حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن عفان، الطبعة الأولى (1416هـ-1996م). * "المفردات في غريب القرآن" لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني (502 هـ) تحقيق محمد سيد كيلاني. دار المعرفة. * "مناهل العرفان في علوم القرآن" محمد عبد العظيم الزرقاني. دار إحياء التراث العربي. الطبعة الثالثة. * "المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود" للشيخ محمود محمد خطاب السبكي (1352هـ). إحياء التراث العربي. بيروت. الطبعة الثانية (1394هـ). * "الموافقات" للعلامة إبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (790هـ) تحقيق العلامة مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن القيم - دار عفان الطبعة الثانية (1427هـ-2006م). * "موسوعة نضرة النعيم"، مجموعة من الباحثين، دار الوسيلة، الطبعة الثالثة (1425هـ-2004م). * "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي. * "النهاية في غريب الحديث والأثر" ابن الأثير. المكتبة الإسلامية. ****

§1/1