موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرر السنية

مجموعة من المؤلفين

مقدمات في الأخلاق الإسلامية

مقدمات في الأخلاق الإسلامية • معنى الأخلاق لغة واصطلاحاً. • تعريف علم الأخلاق وموضوعه. • أهمية الأخلاق. • الثمرات المستفادة من دراسة الأخلاق. • الغاية من الالتزام بالأخلاق. • مصادر الأخلاق الإسلامية. • تقسيم الأخلاق باعتبار علاقاتها. • خصائص الأخلاق الإسلامية. • فضائل مكارم الأخلاق. • مكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية. • أصالة الأخلاق عند المسلمين. • الفرق بين الأخلاق والصفات الإنسانية. • اكتساب الأخلاق الإسلامية. • قابلية الناس لاكتساب الأخلاق. • وسائل اكتساب الأخلاق. • أسباب الانحراف عن الأخلاق الإسلامية. • حث الإسلام على الخلق الحسن. • موقف أعداء المسلمين من الأخلاق الإسلامية. • الرد على من يقول بنسبية الأخلاق. • أحاديث لا أصل لها أو موضوعة في الأخلاق.

معنى الأخلاق لغة واصطلاحا

معنى الأخلاق لغة واصطلاحاً معنى الأخلاق لغة: الأخلاق جمع خلق، والخلق اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلق عليها. قال ابن منظور: (الخُلُقُ بضم اللام وسكونها هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها) (¬1) ويقول صاحب كتاب (القاموس) (والخلق بالضم وبضَمَّتَيْنِ: السَّجِيَّةُ والطَّبْعُ والمُروءةُ والدينُ) (¬2) وقال الراغب: (والخلق والخلق في الأصل واحد، كالشرب والشرب، والصرم والصرم، لكن خص الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة) (¬3). معنى الأخلاق اصطلاحا: عرف الجرجاني الخلق بأنه: (عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا) (¬4). وعرفه ابن مسكويه في (تهذيب الأخلاق) بقوله: (الخلق: حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكا مفرطا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرّب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا) (¬5). وذهب الجاحظ إلى (أن الخلق هو: حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلّا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة) (¬6). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (10/ 86). (¬2) ((القاموس المحيط)) لمجموعة مؤلفين (ص881). (¬3) ((مفردات ألفاظ القرآن الكريم)) للراغب الأصفهاني (ص297). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص101). (¬5) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص41). (¬6) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 12).

تعريف علم الأخلاق وموضوعه

تعريف علم الأخلاق وموضوعه عُرِّف علم الأخلاق بعدة تعريفات منها: 1 - هو (علم: موضوعه أحكام قيمية تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح) (¬1). 3 - وعرفه أحمد أمين بأنه (علم: يوضح معنى الخير والشر ويبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضا ويشرح الغاية التي ينبغي أن يقصد إليها الناس في أعمالهم وينير السبيل لما ينبغي) (¬2). موضوع الأخلاق هو كل ما يتصل بعمل المسلم ونشاطه وما يتعلق بعلاقته بربه، وعلاقته مع نفسه، وعلاقته مع غيره من بني جنسه، وما يحيط به من حيوان وجماد. (¬3) ¬

(¬1) ((المعجم الوسيط)) لمجموعة مؤلفين (1/ 252). (¬2) ((كتاب الأخلاق)) لأحمد أمين (ص8). (¬3) ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص 22).

أهمية الأخلاق

أهمية الأخلاق (إنَّ أهمية الأخلاق للحياة الإنسانية في نظر الإسلام ينظر إليها من اعتبارات مختلفة أهمها: أولاً: علاقة الأخلاق ببناء الشخصية الإنسانية: الإنسان جسد وروح، ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلها القلب، وهذه الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق (¬1)، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬2) ويقول صلى الله عليه وسلم –أيضا-: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخزء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) (¬3). ثانياً: ارتباط الأخلاق بالأسس العقدية والتشريعية للدين الإسلامي: جعل الإسلام العقيدة الأساس الأول الذي تصدر عنه الأخلاق الفاضلة، وارتباط الأخلاق بالعقيدة أمر معلوم لكل من له فكر وروية بأمور الإسلام، وهذا الارتباط يشكل ضمانة لثبات الأخلاق واستقرارها وعدم العبث بها، كما يعتبر في الوقت نفسه شجرة مثمرة طيبة لهذه العقيدة، يقول الشيخ محمود شلتوت في هذا المعنى: (إن العقيدة دون خلق شجرة لا ظل لها ولا ثمرة، وإن الخلق دون عقيدة ظل لشبح غير مستقر) (¬4) ... أما عن ارتباط الأخلاق بالشريعة، فالشريعة منها العبادات، والمعاملات، وصلة الأخلاق بالعبادات لا تحتاج إلى تقرير، وصلتها بالمعاملات لا تنفك، وعلى هذا فإن العبادات والمعاملات إذا عريت عن الأخلاق لا تغني عن صاحبها شيئاً ... ثالثاً: آثارها في سلوك الفرد والمجتمع: تظهر أهمية الأخلاقية الإسلامية لما لها من أثر في سلوك الفرد، وفي سلوك المجتمع. أما أثرها في سلوك الفرد فلما تزرعه في نفس صاحبها من الرحمة، والصدق، والعدل، والأمانة، والحياء، والعفة، والتعاون، والتكافل، والإخلاص، والتواضع ... وغير ذلك من القيم والأخلاق السامية، فالأخلاق بالنسبة للفرد هي أساس الفلاح والنجاح، يقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 9 - 10]، ويقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14 - 15]، والتزكية في مدلولها ومعناها: تعني: تهذيب النفس باطناً وظاهراً، في حركاته وسكناته (¬5). وأما أثرها في سلوك المجتمع كله، فالأخلاق هي الأساس لبناء المجتمعات الإنسانية إسلامية كانت أو غير إسلامية، يقرر ذلك قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3]. ¬

(¬1) ((التربية الأخلاقية () أبادير حكيم (ص: 118). (¬2) رواه مسلم (2564). (¬3) رواه الترمذي (3955) واللفظ له، وأحمد (2/ 361) (8721). وحسنه الترمذي، وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4496)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5482). (¬4) ((الإسلام عقيدة وشريعة)) محمود شلتوت (4/ 43). (¬5) ((خلق المسلم)) الشيخ: محمد الغالي (ص: 15).

فالعمل الصالح المدعم بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في مواجهة المغريات والتحديات من شأنه أن يبني مجتمعاً محصناً لا تنال منه عوامل التردي والانحطاط، وليس ابتلاء الأمم والحضارات كامناً في ضعف إمكاناتها المادية أو منجزاتها العلمية، إنما في قيمتها الخلقية التي تسودها وتتحلى بها.) (¬1) وهذه (جملة من النصوص الدالة على أهمية الأخلاق، وأنها تحقق ... سعادة الدنيا والآخرة. 1 - امتثال أمر الله سبحانه: كثيرة هي الآيات القرآنية التي تدعو العاقل إلى امتثال أمر الله سبحانه في الأخلاق، إما إيجابا، أو نهيا، أو إرشاداً، ومنها: قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]. وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 11 - 12]. ولهذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: ((كان يكون في مهنة أهله – تعني خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)) (¬2). وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتثل أمر الله تعالى في كل شأنه قولاً وعملاً، وكان خلقه القرآن. 2 - أنها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (¬3). 3 - أنها سبب لمحبة الله تعالى: قال الله تعالى: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]. وقال تعالى: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]. وقال سبحانه: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42]. وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: ((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس، فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقا)) (¬4). 4 - أنها سبب لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاق)) (¬5). 5 - أنها من أعظم أسباب دخول الجنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (¬6). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين، لا يؤذيهم، فأدخل الجنة)) (¬7). والنصوص في حسن الخلق كثيرة، منها: أنها دليل كمال الدين. وأنها أثقل شيء في الميزان. وأنها عبادة يبلغ بها العبد درجات الصائم القائم. وأن صاحب الخلق من خيار الناس. وأنها من خير أعمال الإنسان. وأنها سبب تأييد الله ونصره.) (¬8). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد المرسي (ص: 24). -بتصرف – (¬2) رواه البخاري (676). (¬3) رواه الترمذي (1987)، وأحمد (5/ 153) (21392). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (97). (¬4) رواه الحاكم (4/ 441)، والطبراني في ((الكبير)) (1/ 181). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 27): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 9): رواته محتج بهم في الصحيح. (¬5) رواه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (791). (¬6) رواه الترمذي (2004)، وأحمد (2/ 442) (9694)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (289). قال الترمذي: صحيح غريب. وصحح إسناده الحاكم (4/ 360)، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (13/ 79): حسن غريب. وصححه الذهبي في ((التلخيص)). (¬7) رواه مسلم (1914). (¬8) ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 33) –بتصرف –.

الثمرات المستفادة من دراسة الأخلاق

الثمرات المستفادة من دراسة الأخلاق هنالك فوائد وثمرات كثيرة تستفاد من دراسة علم الأخلاق منها: (الثمرة الأولى: الدعوة إلى الله عز وجل، والذي يظن أن الناس تدخل في الدين فقط لأنهم يقتنعون عقلياً فقط، لا شك أنه مخطئ ... وكثير من الناس يدخلون في الدين لأنهم يرون أن أهل هذا الدين على خلق، وأن الدعاة إلى الله عندهم أخلاق، والشواهد في هذا الباب كثيرة ... فالاستقامة على الأخلاق لها أثر كبير، ونفعها بليغ، ولا أدل على ذلك مما جاء في السيرة النبوية من أن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم كانت محل إعجاب المشركين قبل البعثة، حتى شهدوا له بالصدق والأمانة. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((لما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) (¬1). وقد بدأ انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لما رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خلقاً حميداً في أشخاص مسلمين صالحين، مارسوا سلوكهم الرشيد، فكانوا كحامل مصباح ينير طريقه لنفسه بمصباحه، فيرى الآخرون ذلك النور ويرون به، وليس أجمل منه في قلب الظلام، وبناء على ذلك الإقبال سريعاً دون دافع سوى القدرة الحسنة، فرب صفة واحدة مما يأمر به الدين تترجم حية على يد مسلم صالح يكون لها أثر لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشر؛ لأن النفوس قد تنفر من الكلام الذي تتصور أن للناطق به مصلحة، وأحسن من تلك الصفات التمسك بالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يرى من الإنسان المسلم، ومن خلالها يحكم له أو عليه ... الثمرة الثانية: تقوية إرادة الإنسان، وتمرين النفس على فعل الخير وترك الشر، حتى تصبح سجية في النفس نحو الفضيلة حتى تتحقق السعادة، ولكن كم من الناس عن سعادتهم غافلون! وقد يحرمون نفوسهم من خير كثير بسبب قلة أدبهم ... ما أجمل الأدب بالأفعال! فقد خاصم رجل الأحنف فقال الرجل: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً، فقال الأحنف: لكنك إن قلت عشراً، لم تسمع واحدة (¬2). فالواجب على العاقل أن يحرص على تقوية إرادته، ويؤدب نفسه على الأخلاق الحسنة، ويحملها على العدل، ولا يكن أول الظالمين لها. قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]. فالظالم لنفسه هو المقصر في عمله تجاه ربه الذي أحسن إليه، أو نبيه، أو أحداً ممن يجب عليه بره، والمقتصد هو العامل في أغلب الأوقات، وأما السابق بالخيرات فهو العامل والمعلم لغيره والمجاهد لدينه. فالواجب أن يكون لنفسه من أعدل الناس، فمن عدل مع نفسه، فهو العاقل السابق بالخيرات، ومن دساها فهو الظالم لنفسه. قال الماوردي: (فأما عدله في نفسه فيكون بحملها على المصالح، وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير. فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور) (¬3) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4971)، ومسلم (208)، واللفظ له. (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 93). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 226). (¬4) موسوعة الأخلاق لخالد الخراز (ص: 38) - بتصرف -.

الغاية من الالتزام بالأخلاق

الغاية من الالتزام بالأخلاق الهدف من الالتزام بالأخلاق عند المسلم هو إرضاء الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي ... أن يكون هدفه مدح الناس له؛ لأن ذلك يعد من الرياء، وكذلك لا ينبغي للعاقل أن يكون هدفه من وراء ذلك الكسب المادي فقط، والإسلام أيضاً يهدف إلى بناء مجتمع يقوم على التراحم والتعاون والإيثار وحب الخير للناس، من خلال علاقات حسنة مع الوالدين والأبناء، والأزواج، والأرحام، والجيران، وجميع المسلمين، بل وغير المسلمين، بل يتعدى ذلك إلى الحيوان والجماد، فالإسلام بحمد الله تعالى يهدف إلى حمل المسلم على التحلي بمكارم الأخلاق، والعيش في ظلها (¬1). و (لدى التأمل في النصوص الإسلامية والمفاهيم العامة المقتبسة منها، نلاحظ أن الغاية من التزام فضائل الأخلاق والابتعاد عن رذائلها تنقسم إلى عنصرين: العنصر الأول: اكتساب مرضاة الله تعالى الخالق الرازق المنعم المحيي المميت، الذي يجازي على الحسنة بأضعافها، ويجازي على السيئة بمثلها، فإنه سبحانه يحب فعل الخير، ويكره فعل الشر، ومن استطاع أن يرضي الله تعالى بعمله الصالح ظفر بمقدار عظيم من سعادة الحياة الدنيا في دار الابتلاء، وظفر بمقدار أجل وأعظم من سعادة الآخرة في دار الجزاء. والتزام مكارم الأخلاق التي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها، واجتناب نقائص الأخلاق التي نهى عنها الإسلام أو رغب بتركها، من الأعمال الصالحات التي يظفر عاملوها بنسب من مرضاة الله تعالى ملائمة لمقادير أعمالهم ونياتهم، ولذلك يكون نصيبهم من سعادة القلب وسعادة الجزاء المعجل في الحياة الدنيا؛ على مقدار ما حققوا بأعمالهم ونياتهم من مرضاة الله تعالى، ويكون نصيبهم المضاعف من السعادة العظمى في الآخرة ملائماً لما حققوه بأعمالهم ونياتهم من مرضاة الله جل وعلا. وباكتساب مرضاة الله تعالى تتحقق النجاة من الشقاوة والتعاسة، التي يجلبها الإنسان لنفسه بإسخاط ربه، فيما يقوم به من أعمال سيئات. وهذا الجزاء المسعد لا يظفر به إلا من ابتغى مرضاة الله فأخلص له النية فيما يقوم به من صالح العمل. هذا العنصر يتلخص: أولاً: بالظفر بسعادة معجلة دنيا، وسعادة مؤجلة أبدية خالدة، وهاتان السعادتان تأتيان جزاء على أعمال صالحة ابتغى بها وجه الله تبارك وتعالى، وذلك لا يكون إلا مع الإيمان بالله. ثانياً: بالنجاة من شقاوة يجلبها الإنسان لنفسه، بإسخاط ربه فيما يقوم به من أعمال سيئة، يخالف بها أوامر ربه ونواهيه. العنصر الثاني: تحقيق أقساط من السعادة المستطاعة التحقيق في ظروف الحياة الدنيا، وهي أنواع السعادة التي تمنحها سنن الله ي كونه، الشاملة لجميع خلقه، من آمن به منهم ومن كفر به، والنجاة من أقساط من الشقاوة التي تجلبها الجرائم والجنايات وفق سنن الله في كونه، الشاملة لجميع خلقه، من آمن به منهم ومن كفر به. والتزام قواعد الأخلاق الإسلامية كفيل بتحقيق أكبر نسبة من هذه السعادة للفرد الإنساني، وللجماعة الإنسانية، ثم لسائر الشركاء في الحياة على هذه الأرض وذلك بطريقة بارعة جداً يتم فيها التوفيق بالنسب المستطاعة بين حاجات ومطالب الفرد من جهة، وحاجات ومطالب الجماعة من جهة أخرى، ويتم فيها إعطاء كل ذي حق حقه، أو قسطاً من حقه وفق نسبة عادلة اقتضاها التوزيع العام المحفوف بالحق والعدل. فمن الواضح في هذا العنصر أن أسس الأخلاق الإسلامية لم تهمل ابتغاء سعادة الفرد الذي يمارس فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها، ولم تهمل ابتغاء سعادة الجماعة التي تتعامل فيما بينها بفضائل الأخلاق مبتعدة عن رذائلها. ¬

(¬1) موسوعة الأخلاق لخالد الخراز (ص: 33).

وروعة الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، تظهر فيما اشتملت عليه من التوفيق العجيب بين المطالب المختلفة للفرد من جهة، وللجماعة من جهة أخرى، وتظهر فيما تحققه من وحدات السعادة الجزئية في ظروف الحياة الدنيا، بقدر ما تسمح به سنن الكون الدائمة الثابتة، التي تشمل جميع العاملين، مؤمنين بالله أو كافرين، أخلصوا له النية أو لم يخلصوا. بخلاف العنصر الأول فإنه لا يتحقق إلا لمن آمن بالله وأخلص له في العمل. عناصر السعادة: وحين تتساءل عن العناصر التي يشعر الإنسان فيها بالسعادة نجد أن أهم هذه العناصر مشاعر اللذات، ومشاعر الخلو من الآلام. ولذات الجسد وآلام الجسد أهون اللذات والآلام قيمة، ولكنها تدخل ضمن الوحدات الجزئية التي تمنح الإنسان قسطاً من السعادة، كرذاذ سريع الجفاف ولا يملأ ساحة النفس والقلب والروح. وفوقها تأتي لذات النفس وآلامها، فهي أعمق وأشمل، ومدة بقائها أطول. وفوقهما تأتي الذات الروح وآلامها، فهي أعمق منهما، وأشمل منهما، وأبقى منهما. وقد تطغى لذة النفس على ألم الجسد فلا يشعر الإنسان بألم الجسد، وقد تطغى لذة الروح على ألم النفس فلا يشعر الإنسان بألم النفس. فمغانم السعادة تأتي على مقدار قيمتها الحقيقية. وقد تطغى آلام النفس على لذات الجسد، فلا تكون للذات الجسد أية قيمة، وقد تطغى آلام الروح على لذات النفس، فلا تكون للذات النفس أية قيمة، فمصائب التعاسة والشقاء تأتي على مقدار قيمتها الحقيقية أيضاً. فأعلى أنواع السعادة ما يأتي عن طريق لذات الروح، وينبع من داخل كيان الإنسان. وأشد أنواع التعاسة والشقاء ما يأتي عن طريق آلام الروح، وينبع من داخل كيان الإنسان، ولا يأتيه من خارج عنه. ودون ما يأتي عن طريق الروح ما يأتي عن طريق النفس، ودونهما ما يأتي عن طريق الجسد. وهذا الذي نبهت عليه النصوص الإسلامية، هو ما انتهى إليه معظم عقلاء الفلاسفة والأخلاقيين والمفكرين المنصفين. ومما لا ريب فيه أن أنواع اللذات كلها قد تساهم مساهمة ما في اغتنام أقساط من السعادة، ما لم تعارضها آلام أشد منها وأقوى وأدخل في أعماق كيان الإنسان. كما أن أنواع الآلام كلها قد تساهم مساهمة ما في الإصابة بأقساط من التعاسة والشقاء، مالم تعارضها لذات أشد منها وأقوى وأدخل في أعماق كيان الإنسان. والإسلام لم يهمل أي نوع من أنواع اللذات والآلام، ولكنه قد أدخلها جميعاً في حسابه، ثم أقام قواعد التوفيق الأخلاقي على هذا الأساس. وبالإضافة إلى ملاحظة اللذات والآلام لاغتنام أكبر قسط مستطاع من السعادة للفرد والمجتمع، أدخلت الأخلاق الإسلامية في حسابها – الذي أقامت عليه قواعد الأخلاق – المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، العاجل من كل ذلك والآجل للفرد وللجماعة، وأجرت بين المتعارضات منها موازنات وتوفيقات عجيبة، كفيلة بجلب أعظم نسبة مستطاعة من الخير، ودفع أكبر نسبة يستطاع دفعها من الشر، مع المحافظة على العدل بين ذوي الحقوق، ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا. وفي الشريعة الإسلامية وفرة من النصوص المشيرة إلى السعادة بوصفها غاية منشودة، وإلى اللذة بوصفها أمراً قد توجد به أو معه السعادة. ووفرة أيضاً من النصوص المشيرة إلى الشقاء الذي يدخل الحذر منه واتخاذ الوسائل لتفاديه ضمن الغاية المنشودة، ومن النصوص المشيرة إلى الألم بوصفه أمراً قد يوجد به أو معه الشقاء.) (¬1) ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 37).

مصادر الأخلاق الإسلامية

مصادر الأخلاق الإسلامية إن الأخلاق الإسلامية هي السلوك من أجل الحياة الخيرة وطريقة للتعامل الإنساني، حيث يكون السلوك بمقتضاها له مضمون إنساني ويستهدف غايات خيرة. وقد عرف بعض الباحثين الأخلاق في نظر الإسلام بأنها عبارة عن (مجموعة المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه) (¬1) (¬2). و (المسلمون يستقون مصادر الأخلاق من القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، وليس للبشرية أيضاً بديل عن هذين المصدرين ... فمصادر الأخلاق في الإسلام تستمد مما يلي: أولاً: القرآن الكريم: يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للأخلاق، والآيات في ذلك كثيرة: قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. وقال سبحانه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]. وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. ونظائر هذه الآيات كثيرة في كتاب الله تعالى، وكلها من مصادر الأخلاق. والرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من تخلق بأخلاق القرآن الكريم وألزم نفسه بآداب القرآن، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان خلق الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن)) (¬3). قال الحافظ ابن كثير: (ومعنى هذا أنه قد ألزم نفسه ألا يفعل إلا ما أمره به القرآن، ولا يترك إلا ما نهاه عنه القرآن، فصار امتثال أمر ربه خلقاً له وسجية، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين) (¬4). ثانياً: السنة النبوية: تعريف السنة باعتبار كونها مصدرا تشريعيا: وهي أقواله وأفعاله، وتقريراته، والسنة النبوية الصحيحة المصدر الثاني للأخلاق بنص القرآن الكريم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: 7]. وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. وقال سبحانه: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء: 59]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) (¬5). قال إبراهيم الحربي: ينبغي للرجل إذا سمع شيئاً من آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك به (¬6). ولذا حرص الصحابة – رضوان الله عليهم – واهتموا وتابعوهم اهتماماً كبيراً وتخلقوا بالأخلاق الحسنة مستندين في ذلك إلى ما جاء في كتاب الله – سبحانه وتعالى – وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم قدوتنا وسلفنا الصالح في الأخلاق.) (¬7) ¬

(¬1) ((التربية الأخلاقية الإسلامية)) مقداد يالجين (ص 75). (¬2) ((نضرة النعيم)) لمجموعة باحثين (ص22). (¬3) رواه مسلم (746). (¬4) ((الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)) (ص: 251). (¬5) رواه أحمد (2/ 381) (8939)، والحاكم (2/ 670)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (273). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 191): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 69): صحيح على شرط مسلم. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2584). (¬6) ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 142). (¬7) ((موسوعة الأخلاق لخالد الخراز)) (ص: 27).

تقسيم الأخلاق باعتبار علاقاتها

تقسيم الأخلاق باعتبار علاقاتها تنقسم الأخلاق باعتبار علاقاتها إلى أربعة أقسام: (القسم الأول: ما يتعلق بوجوه الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه ... والفضيلة الخلقية في حدود هذا القسم تفرض على الإنسان أنواعاً كثيرة من السلوك الأخلاقي: منها الإيمان به لأنه حق، ومنها الاعتراف له بالكمال الصفات، والأفعال، ومنها تصديقه فيما يخبرنا به، لأن من حق الصادق تصديقه، ومنها التسليم التام لما يحكم علينا به، لأنه هو صاحب الحق في أن يحكم علينا بما يشاء. فكل هذه الأنواع من السلوك أمور تدعو إليها الفضيلة الخلقية. أما دواعي الكفر بالخالق بعد وضوح الأدلة على وجوده فهي حتماً دواع تستند إلى مجموعة من رذائل الأخلاق، منها الكبر، ومنها ابتغاء الخروج على طاعة من تجب طاعته، استجابة لأهواء الأنفس وشهواتها، ومنها نكران الجميل وجحود الحق ... القسم الثاني: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان وبين الناس الآخرين. وصور السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم معروفة وظاهرة: منها الصدق، والأمانة، والعفة، والعدل، والإحسان، والعفو، وحسن المعاشرة، وأداء الواجب، والاعتراف لذي الحق بحقه، والاعتراف لذي المزية بمزيته والمواساة والمعونة، والجود، وهكذا إلى آخر جدول فضائل الأخلاق التي يتعدى نفعها إلى الآخرين من الناس. أما صور السلوك الأخلاقي الذميم في حدود هذا القسم فهي أيضاً معروفة وظاهرة: منها الكذب، والخيانة، والظلم، والعدوان، والشح، وسوء المعاشرة، وعدم أداء الواجب، ونكران الجميل، وعدم الاعتراف لذي الحق بحقه، وهكذا إلى آخر جدول رذائل الأخلاق التي يتعدى ضررها إلى الآخرين من الناس. القسم الثالث: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان ونفسه. وصور السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم كثيرة: منها الصبر على المصائب، ومنها الأناة في الأمور، ومنها النظام والإتقان في العمل، ومنها عدم استعجال الأمور قبل أوانها، وكل ذلك يدخل في حسن إدارة الإنسان لنفسه، وحكمته في تصريف الأمور المتعلقة بذاته. وصور السلوك الأخلاقي الذميم في حدود هذا القسم تأتي على نقيض صور السلوك الأخلاقي الحميد. القسم الرابع: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان والأحياء غير العاقلة. ويكفي أن تتصور من السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم، الرحمة بها، والرفق في معاملتها، وتأدية حقوقها الواجبة. أما الظلم والقسوة وحرمانها من حقوقها؛ فهي من قبائح الأخلاق، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) (¬1) ... ولابد من ملاحظة أن كثيراً من الأخلاق لها عدد من الارتباطات والتعلقات، ولذلك فقد تدخل في عدد من هذه الأقسام في وقت واحد، إذ قد تكون لفائدة الإنسان نفسه، وتكون في نفس الوقت لفائدة الآخرين، وتكون مع ذلك محققة مرضاة الله تعالى) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3482)، ومسلم (2242) اللفظ للبخاري. (¬2) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 37) - بتصرف–.

خصائص الأخلاق الإسلامية

خصائص الأخلاق الإسلامية (لأخلاقنا الإسلامية خصائص مميزة تنفرد بها، وتجعلها ذات شخصية مستقلة، وطبيعة خاصة. فهي أخلاق تستمد مصدرها من كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وما دامت أخلاقنا الإسلامية تقوم على القرآن والسنة، فهي بذلك تتسم بالشمول، والصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان، كما أنها تتسم بأنها قائمة على الإقناع العقلي والوجداني (العاطفي) معاً، كما أنها تقوم على المسؤولية، فللمسؤولية في أخلاق المسلم جانبان: شخصي وجماعي معاً، كما أنها تحكم على الأعمال ظاهراً وباطناً، فالرقابة الذاتية لها أثرها الفعال في أخلاق المسلم، وهي في النهاية تجعل الجزاء العادل لكل من الأخيار والأشرار في الدنيا والآخرة. أولاً: الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر: الأخلاق الإسلامية تعتمد على كتاب الله وسنة الني صلى الله عليه وسلم، فهي ربانية الهدف والغاية، وعلى هذا فهي بعيدة كل البعد عن الرأي البشري، والنظام الوضعي، والفكر الفلسفي (¬1). وما دامت الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر فهي تتسم بسمة الخلود والصدق والصحة، وكيف لا؟ والله تعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ... ثانياً: الشمول والتكامل: من خصائص الأخلاق الإسلامية: إنها شاملة، ومتكاملة، وهي خاصية منبثقة من الخاصية الأولى، وهي الربانية، فالإنسان لأنه محدود الكينونة في الزمان والمكان، والعلم والتجربة، كما أنه محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته، وقصوره وجهله، لذلك كان من المستحيل أن تكون الأخلاق الوضعية للبشر شاملة وعالمية، فأما حين يتولى الله سبحانه وتعالى ذلك كله، فإن التصور العقائدي، وكذلك المنهج الحياتي للإنسان يجيئان بكل ما يعتور الصبغة البشرية من القصور والنقص، وهكذا كان الشمول خاصية من خصائص الأخلاق الإسلامية (¬2) ... ثالثاً: الصلاحية العامة لكل زمان ومكان: أخلاقنا الإسلامية ربانية المصدر، وتمتاز بالشمول، ولما كانت كذلك فهي صالح لجميع الناس في كل العصور، وفي جميع الأماكن، نظراً لما تتميز به من اسهولة واليسر، وعدم المشقة، ورفع الحرج عن الناس، وعدم تكليفهم بما لا يطاق. قال تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. قال عز وجل: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28] ... رابعاً: الإقناع العقلي والوجداني: العقل السليم يقنع بما أتت به الشريعة الإسلامية من نظم أخلاقية متميزة ومستقلة عن غيرها، من النظم الأخلاقية التي وضعها المفكرون والفلاسفة على حسب البيئة التي يعيشون فيها، أو على حسب أهوائهم. كذلك فإن الجانب الوجداني (العاطفي) والذي محله القلب على قناعة تامة بأصول الأخلاق الإسلامية. إن أخلاقنا الإسلامية بها يقنع العقل السليم، ويرضى بها القلب. فالعقل السليم، والقلب النير عندما يعلم أن الأخلاق الإسلامية تنهى عن: الكذب، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، والظلم، والشح، والعدوان، والمنكر بكل أساليبه يكون على قناعة بهذا الخلق الرباني المتميز والمستقل عن غيره (¬3). خامساً: المسؤولية: الأخلاق الإسلامية تجعل الإنسان مسؤولاً عما يصدر منه في كل جوانب الحياة، سواء كانت هذه المسؤولية مسؤولية شخصية، أم مسؤولية جماعية، ولا تجعله اتكالياً لا يأبه بما يدور حوله من أشياء، وهذه خاصية من خصائص أخلاقنا انفردت بها الشريعة الغراء. ¬

(¬1) ((خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)) (ص: 65). (¬2) ((أخلاقنا الاجتماعية)) مصطفى السباعي (ص: 173). (¬3) ((السلوك الاجتماعي في الإسلام)) حسن أيوب (ص: 167).

ونعني بالمسؤولية الشخصية: إن الإنسان مسؤول عما يصدر منه عن نفسه إن كان خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]. ويقول سبحانه: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]. ويقول عز وجل: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 15]. ويقول تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء: 111]. ويقول تعالى: السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 26]. فهذه الآيات وغيرها تبين لنا مدى المسؤولية التي تقع على عاتق الإنسان عما يصدره منه عنه نفسه. ويقول صلى الله عليه وسلم: (( ... وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوى بها في جهنم)) (¬1)، يقول ابن حجر في شرح الحديث: (لا يلقى لها بالاً: أي: لا يتأمل بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئاً) (¬2)، فقبل أن تخرج الكلمة من فيك، أعط نفسك فرصة للتفكير، هل ما ستقوله يرضي الله أم يغضبه؟ هل تكون عاقبته خيراً أم شراً؟ وطالما لم تخرج فأنت مالكها، فإذا خرجت كنت أسيرها، وإذا كان هذا في الكلام ففي سائر التصرفات من باب أولى. ونعني بالمسؤولية العامة (الجماعية): تلك المسؤولية التي تراعي الصالح العام للناس، فلا يكون الرجل إمعة متكاسلاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)) (¬3)، وأعلم أن كل كلام الإنسان عليه لا له إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله، كما جاء في الحديث: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)) (¬4)، فعليك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان)) (¬5)، وأعلم: ((إن الناس إذا رأوا منكراً، ولا يغيرونه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه)) (¬6). سادساً: العبرة بالظاهر والباطن من الأعمال معاً: أخلاقنا الإسلامية لا تكتفي بالظاهر من الأعمال، ولا تحكم عليه بالخير والشر بمقتضى الظاهر فقط، بل يمتد الحكم ليشمل النوايا والمقاصد، وهي أمور باطنية، فالعبرة إذاً بالنية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (¬7)، ... والنية هي مدار التكليف، وعلى ذلك ننظر إلى نية الإنسان حتى نحكم على عمله الظاهر بالإيجاب أو بالسلب. سابعاً: الرقابة الدينية: الرقابة: تعني مراقبة المسلم لجانب مولاه سبحانه في جميع أمور الحياة (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (6478). (¬2) ((فتح الباري)) (11/ 311). (¬3) رواه الترمذي (2007)، والبزار (7/ 229). وحسنه الترمذي، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6271). (¬4) رواه الترمذي (2412)، وابن ماجه (3974)، وأبو يعلى (13/ 58). قال الترمذي: غريب. وضعفه الالباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1366). (¬5) رواه مسلم (49). (¬6) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (3057)، ابن ماجه (4005). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2136). (¬7) رواه البخاري (1). (¬8) ((الإسلام عقيدة وشريعة)) الشيخ شلتوت (ص: 4).

وعلى هذا فإن الرقابة في أخلاقنا الإسلامية لها مدلولها المستقل والمختلف عن الرقابة في مصادر الأخلاق الأخرى، حيث تكون رقابة خارجية من الغير تتمثل في رقابة السلطة، والأفراد (¬1). أما الرقابة في الإسلام فهي رقابة ذاتية في المقام الأول، وهي رقابة نابعة من التربية الإسلامية الصحيحة، ومن إيقاظ الضمير، فإذا كان المسلم يعلم أن الله معه، وأنه مطلع على حركاته وسكناته، فإنه يكون رقيباً على نفسه ولا يحتاج إلى رقابة الغير عليه، يقول تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4]، ويقول سبحانه: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7]، ويقول عز وجل: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، فإذا قرأ المسلم هذه الآيات وعرف معناها فإنه حينئذ يتيقن أنه إذا تمكن من الإفلات من رقابة السلطة، فإنه لن يتمكن من الإفلات من رقابة الله، وهذا في حد ذاته أكبر ضمان لعدم الانحراف والانسياق إلى الأخلاق المذمومة (¬2). ثامناً: تراعى التدرج: التدرج في إلقاء الأوامر، بتقديم الأهم على المهم، واجتناب الأفحش، والسهولة واليسر ... وهو أهم ما يميز أخلاقنا الإسلامية، فهي لا تطلب من الناس العمل بما لا يطاق، ولا بالمستحيل. تاسعاً: الجزاء على الخير والشر: الجزاء من جنس العمل – كما يقال – وأخلاق الإسلام تعطي الجزاء لكل من يعمل خيراً، أو يقترف شراً. هذا الجزاء قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة. فالأخيار من الناس: جزاؤهم عظيم في الدنيا والآخرة: أما جزاؤهم في الآخرة: فتشير إليه آيات كثيرة منها: قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72]. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 7 - 8]. وأما جزاؤهم في الدنيا: فتشير إليه آيات منها: قوله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ... والأشرار من الناس: جزاؤهم عظيم في الدنيا والآخرة أما جزاؤهم في الآخرة: فتشير إليه آيات كثيرة منها - قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ... وأما جزاؤهم في الدنيا: فتشير إليه آيات منها: قوله تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112].) (¬3). ¬

(¬1) ((نظام الحكومة النبوية)) عبد الحي الكتاني (ص: 470). (¬2) ((القيم الخلفية في الإسلام)) (ص: 11). (¬3) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد المرسي (ص 53) - بتصرف –.

فضائل مكارم الأخلاق

فضائل مكارم الأخلاق 1 - مكارم الأخلاق من أعمال الجنة: (فهي من الأعمال المقربة للجنة الموصلة إليها المورثة الفردوس الأعلى. قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ... وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) (¬1). عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)) (¬2). 2 - مكارم الأخلاق سبب في محبة الله جل جلاله لعبده: قال صلى الله عليه وسلم: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً)) (¬3). مكارم الأخلاق من أسباب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬4). 3 - مكارم الأخلاق أثقل شيء في الميزان يوم القيامة: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)) (¬5). مكارم الأخلاق تضاعف الأجر والثواب: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار)) (¬6). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله عز وجل لكرم ضريبته وحسن خلقه)) (¬7). 4 - مكارم الأخلاق من خير أعمال العباد: قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما قال: بلى يا رسول الله، قال: عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفس محمد بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)) (¬8). 5 - مكارم الأخلاق تزيد في الأعمار: 6 - مكارم الأخلاق تعمر الديار: قال صلى الله عليه وسلم: ((حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)) (¬9).) (¬10). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4800)، والطبراني في ((الكبير)) (8/ 98)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 420) (21176). وصححه النووي في ((رياض الصالحين)) (ص216)، وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2648). (¬2) رواه الترمذي (2004)، وأحمد (2/ 442) (9694)، وابن حبان (2/ 224). قال الترمذي: صحيح غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2642). (¬3) رواه الحاكم (4/ 441)، والطبراني في ((الكبير)) (1/ 181). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 27): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 9): رواته محتج بهم في الصحيح. (¬4) رواه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (791). (¬5) رواه الترمذي (2002)، وابن حبان (12/ 506). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5628). (¬6) رواه أبو داود (4798)،وأحمد (6/ 187) (25587)، والحاكم (1/ 128). وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1620). (¬7) رواه أحمد (2/ 177) (6648)، والطبراني في ((الكبير)) (13/ 58). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4009): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورواة أحمد ثقات إلا ابن لهيعة. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 25): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬8) رواه البزار (13/ 359)، وأبو يعلى (6/ 53)، والطبراني في ((الأوسط)) (7/ 140). وجوَّد إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 274)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 22): رجاله ثقات. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 18): هذا إسناد رجاله ثقات. (¬9) رواه أحمد (6/ 159) (25298). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (5001)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (519). (¬10) ((مكارم الأخلاق)) لسليم الهلالي (ص: 48).

مكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية

مكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية (إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين متعاونين سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة. ولو فرضنا احتمالاً أنه قام مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط، من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى فإنه لابد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل التقادير. فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية، لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان، تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار، ثم إلى الدمار. من الممكن أن تتخيل مجتمعاً من المجتمعات انعدمت فيه مكارم الأخلاق كيف يكون هذا المجتمع؟ كيف تكون الثقة بالعلوم والمعارف والأخبار وضمان الحقوق لولا فضيلة الصدق؟! كيف يكون التعايش بين الناس في أمن واستقرار، وكيف يكون التعاون بينهم في العمل ضمن بيئة مشتركة، لولا فضيلة الأمانة؟ كيف تكون أمة قادرة على إنشاء حضارة مثلى لولا فضائل التآخي والتعاون والمحبة والإيثار؟ كيف تكون جماعة مؤهلة لبناء مجد عظيم لولا فضيلة الشجاعة في رد عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولولا فضائل العدل والرحمة والإحسان والدفع بالتي هي أحسن؟ كيف يكون إنسان مؤهلا لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه، صارفة له عن كل عطاء وتضحية وإيثار؟ لقد دلت التجربات الإنسانية، والأحداث التاريخية، أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة، ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائماً، صاعدين وهابطين. وذلك لأن الأخلاق الفاضلة في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد عليه، ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط، لا بقوة الجماعة، بل ربما كانت القوى المبعثرة فيها بأساً فيما بينها، مضافاً إلى قوة عدوها. وإذا كانت الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم فإن النظم الإسلامية الاجتماعية تمثل الأربطة التي تشد المعاقد إلى المعاقد، فتكون الكتلة البشرية المتماسكة القوية، التي لا تهون ولا تستخذي. وإذا أردنا أن نوضح بالأمثلة حقيقة كون الأخلاق تمثل المعاقد التي تعقد بها الروابط الاجتماعية تواردت علينا أمثلة كثيرة جدا. 1 - فلنأخذ فضيلة الصدق مثلا من أمثلة مكارم الأخلاق. إن الصدق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم معقد من معاقد الروابط الاجتماعية، تنعقد عليه ثقة المجتمع بما يحدث به ويخبر عنه في مجال التاريخ والأخبار، وفي مجال العلوم المختلفة، وفي مجال المعاملات المادية والأدبية، وفي مجال العهود والوعود والمواثيق، وغير ذلك من مجالات. ونستطيع أن نبني على هذه المقدمة أنه متى انهارت في الفرد فضيلة الصدق انقطعت ما بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى، وغدا الناس لا يصدقونه فيما يقول، ولا يثقون به فيما يحدث به أو فيما يعد، فلا يكلون إليه أمراً، ولا يعقدون بينهم وبينه عهداً، ولا يواسونه إذا اشتكى لهم من شدة، لأنهم يرجحون في كل ذلك كذبه، بعد أن أمست رذيلة الكذب هي الخلق الذي خبروه فيه، ... 2 - ولنأخذ فضيلة الأمانة مثلا من أمثلة مكارم الأخلاق.

إن الأمانة بوصفها خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم معقد آخر من معاقد الروابط الاجتماعية، تنعقد عليه ثقة الناس بما يضعون بين يديه من مال أو سلطان، وبما يمنحونه من وجاهة وتقديم، وبما يكلون إليه من أمور عامة أو خاصة. ونستطيع أن نبني على هذه المقدمة، أنه متى انهارت في الإنسان فضيلة الأمانة انقطعت ما بينه وبين مجتمعه رابطة من الروابط الاجتماعية، وغدا الناس لا يأمنونه على أي شيء ذي قيمة معتبرة لديهم، خاصاً كان ذلك أو عاماً، لأنهم يقدرون أنه سوف يسطو عليه لنفسه، بعد أن أمست رذيلة الخيانة هي الخلق الذي خبروه فيه. 3 - ولنأخذ فضيلة العفة مثلاً من أمثلة مكارم الأخلاق. إن العفة بوصفها خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم معقد من معاقد الروابط الاجتماعية، تنعقد عليه ثقة الناس به في أعراضهم، وبهذه الثقة تأمنه الأسرة على عرضها إذا غابت، ويأمنه الجار على عرضه إذا ترك منزله، وتأمنه الزوجة إذا خرج إلى عمله أن لا يختان نفسه، والمرأة العفيفة كذلك تكون موضعاً للثقة بها عند الغيبة عنها. ومتى انهارت في الإنسان فضيلة العفة لم يأمنه الناس على أعراضهم، ولم يأمنوه على بلادهم ومصالحهم العامة، لأنهم يقدرون أن أعداءهم سوف يسهل عليهم صيده من مغمز عفته المنهارة، ثم تسخيره في خدمة أغراضهم، وبذلك تنقطع ما بينه وبين مجتمعه رابطة من الروابط الاجتماعية. وهكذا نستطيع أن نقيس على هذه الأمثلة سائر مكارم الأخلاق، كالعدل، والجود، والوفاء، بالعهد والوعد، والإحسان، والعطف على الناس، وغير ذلك من فضائل الأخلاق. وانهيار كل خلق من مكارم الأخلاق يقابله دائماً انقطاع رابطة من الروابط الاجتماعية، وبانهيارها جميعاً تنهار جميع المعاقد الخلقية في الأفراد، وبذلك تنقطع جميع الروابط الاجتماعية، ويمسي المجتمع مفككاً منحلاً) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 29).

أصالة الأخلاق عند المسلمين

أصالة الأخلاق عند المسلمين (من الناس من يظن ... أنه لا يوجد فكر أخلاقي عند المسلمين، ومنهم من يجعل الفكر الفلسفي شاملا للفكر الأخلاقي في التراث الإسلامي، ومنهم من ينظر إلى الفكر الصوفي على أنه الفكر الأخلاقي المعتمد للمسلمين. إن هذه الأطروحات المختلفة لا تلبث أن تتهاوى أمام حقيقة ناصعة البياض، وهي أن الفكر الأخلاقي قد وجدت أسبابه ودواعيه منذ تلك اللحظة التي أمر فيها الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ب «مكارم الأخلاق»، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه قد تقرر عند العلماء أنه لا يوجد فكر ديني دون أن يكون هناك فكر أخلاقي انطلاقا من أن الفكر الديني هو الذي يحدد الإطار العام لأفكار معتنقيه، ويجيب عن التساؤلات الإنسانية الكبرى مثل خلق الإنسان والتدبر في نعم الله وآلائه، أما الفكر الخلقي فإنه يحدد أنماط السلوك التي يمارسها الإنسان في هذه الحياة، ومن المعروف أن الإسلام عقيدة وشريعة؛ فالعقيدة تتضمن الفكر، والشريعة تتضمن أنماط السلوك تجاه المولى- عز وجل- كما في العبادات، أو تجاه النفس كما في العفة والطهر ونحوها، أو تجاه الآخرين كما في البر والصدقة والإيثار ونحو ذلك. لقد وجد الفكر الأخلاقي عند المسلمين طريقة للتأثير على الفكر الأخلاقي على المستوى العالمي بوجه عام والفكر الغربي بوجه خاص، ولا يزال هذا الفكر مسيطرا على سلوك المسلمين في الحاضر، ويعمل على صياغة حياتهم في المستقبل، ولم يكن الأمر كذلك إلا لكون هذا الفكر الإسلامي فكرا كونيا يعالج قضايا الحياة الإنسانية من منظور يسمو على النواحي القومية والعرقية والإقليمية، وما ذلك إلّا «لأن الإسلام الذي ينبعث منه هذا الفكر هو دين كوني وشمولي من ناحية، ولأن ممارسة هذا التفكير في ظل الإسلام، وانطلاقا من القيم والثوابت الإسلامية تجعل هذا الفكر بالفعل فكرا عالميا أو إنسانيا، يؤمن به من يؤمن على هذا الأساس، أو ينكره على هذا الأساس» (¬1).) (¬2). ¬

(¬1) ((جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي)) لمحمد الكتاني، (ص 13). (¬2) ((نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم)) لمجموعة باحثين (1/ 67 - 68).

الفرق بين الأخلاق والصفات الإنسانية

الفرق بين الأخلاق والصفات الإنسانية كيف نفرق بين الأخلاق، والسلوك الإنساني؟ (لدى التدبر في السلوك الإرادي للإنسان نلاحظ أنه ينقسم إلى أنواع شتى: 1 - فمنه ما هو أثر من آثار خلق في النفس محمود أو مذموم: كالعطاء عن جود، والإمساك عن شح، والإقدام عن شجاعة، والفرار عن جبن، والإقبال عن طمع، والكف عن عفة، والاعتراف عن حب للحق، والإنكار عن كبر وإفراط في الأنانية، والإغضاء عن حلم، والتحمل عن صبر، وهكذا. 2 - ومنه ما هو استجابة لغريزة من غرائز الجسد أو النفس الفطرية، ضمن حدود الحاجات الطبيعية لها: كالأكل المباح عن جوع، والشرب المباح عن ظمأ، ومعاشرة الزوجة عن طلب لذلك، والنوم عن حاجة إليه، والسعي في اكتساب الرزق تلبية لداعي الفطرة، والاستمتاع المباح بالجمال تلبية لطلب النفس، والترويح عن النفس بشيء من مباحات اللهو واللعب، وأمثال ذلك. 3 - ومنه ما هو استجابة إرادية لترجيح فكري: كأن يرى الفكر مصلحة أو منفعة في سلوك ما، فتتوجه الإرادة لممارسته، أصاب الفكر في ذلك أو أخطأ، كمعظم أعمال الناس اليومية في وجوه الكسب وغيره. وقد يرجع هذا في جذوره إلى تلبية دافع من دوافع الغرائز الجسدية أو النفسية، أو إلى دافع أخلاقي، أو إلى غير ذلك. 4 - ومنه ما هو من قبيل الآداب الشخصية أو الاجتماعية: كآداب الطعام والشراب، واللباس والمشي، والنظافة والنظام، والآداب المتعلقة بالأناقة وإصلاح مظاهر الجسد؛ كتنظيف الشعر وترجيله، وتقليم الأظافر، وإزالة شعر الإبطين والعانة، وإبداء كل حسن وجميل احتراماً لأذواق الناس، وتكريماً لهم، واسترضاء لمشاعرهم. وربما يكون التزام بعض هذه الآداب أثراً من آثار خلق في النفس محمود، وربما يكون إهمالها أثراً من آثار خلق في النفس مذموم. 5 - ومنه ما هو طاعة للأوامر والتكاليف الربانية أو غير الربانية: وقد تكون هذه الأوامر والتكاليف ملزمة بسلوك أخلاقي، أو ملزمة بأعمال هي من قبيل العبادات المحضة، أو بأعمال هي من قبيل الآداب، أو ملزمة بأعمال تحقق المصالح والمنافع للناس، أو غير ذلك مما يخالف ما سبق أو يناقضه. ومن هذا النوع أوامر الشرائع ونواهيها، وأوامر السلطات الحاكمة ونواهيها، ونحو ذلك من الأوامر والنواهي. 6 - ومنه ما هو من قبيل العادات التي تتأصل في السلوك: وقد ترجع هذه العادات إلى موجه أخلاقي، أو موجه غرزي، أو موجه تكليفي، أو موجه اجتماعي، أو نحو ذلك. وقد لا تكون أكثر من ممارسات عبث استحكمت بالعادة. 7 - ومنه ما هو من قبيل التقاليد الاجتماعية، التي تسري في سلوك الأفراد بعامل التقليد المحض، أو بقوة التأثير الاجتماعي، وقد تكون هذه التقاليد حسنة، وقد تكون سيئة. وحين تكون قوة التأثير الاجتماعي هي العامل في ممارسة السلوك؛ فإن السلوك حينئذ يرجع إلى نوع الطاعة للمجتمع، في أوامر وتكاليف غير منصوص عليها في العبارة. وهكذا تبين لنا أن السلوك الإرادي الإنساني له أنواع شتى، فليس كل سلوك مظهراً من مظاهر الأخلاق في النفس الإنسانية. يضاف إلى ذلك أنه ربما يكون المظهر السلوكي الواحد أثراً لموجه أخلاقي تارة، وأثراً لغير ذلك تارة أخرى.) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حسن حبنكة (1/ 8).

اكتساب الأخلاق الإسلامية

اكتساب الأخلاق الإسلامية الأخلاق فطرية ومكتسبة و (حظوظ الناس من الطبائع النفسية التي فطروا عليها حظوظ متفاوتة؛ هذه حقيقة ملاحظة لدى كل من يتعامل مع الناس، وتكاد تكون من البديهيات. فالناس كما تتفاوت حظوظهم من الذكاء الفطري، وتتفاوت حظوظهم الجسدية قوة وضعفاً، وطولاً وقصراً، وبدانة ونحولاً، وصحة وسقماً، وجمالاً ودون ذلك، فإن حظوظهم من الطبائع النفسية الخلقية وغير الخلقية حظوظ متفاوتة بالفطرة. إننا نجد مثلاً الخوف الفطري عند بعض الناس أشد منه عند فريق آخر، ونجد الطمع الفطري عند بعض الناس أشد منه عند فريق آخر، ونجد فريقاً من الناس مفطوراً على سرعة الغضب، بينما نجد فريقاً آخر مفطوراً على نسبة ما من الحلم والأناة وبطء الغضب، ونجد حب التملك الفطري عند بعض الناس أقوى منه عند بعض آخر. هذه المتفاوتات نلاحظها حتى في الأطفال الصغار الذين لم تؤثر البيئة في تكوينهم النفسي بعد. وقد جاء في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت هذا التفاوت الفطري في الطباع الخلقية وغيرها. منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: ((إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى، ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء، والسريع الغضب سريع الفيء، والبطيء الغضب بطيء الفيء، فتلك بتلك، ألا وإن منهم بطيء الفيء سريع الغضب، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء)) (¬1). ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) (¬2). ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود بإسناد صحيح عن أبي موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب)) (¬3). وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن)) دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية، وفيه يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن خيار الناس في التكوين الفطري هم أكرمهم خلقاً، وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه في كل أحواله. فإذا نظرنا إلى مجموعة من الناس غير متعلمة ولا مهذبة، أو في وسط مجتمع جاهلي، فإنه لابد أن يمتاز في نظرنا من بينهم أحاسنهم أخلاقاً، فهم خيرهم معدناً، وأفضلهم سلوكاً اجتماعياً، ثم إذا نقلنا هذه المجموعة كلها فعلمناها وهذبناها وأنقذناها من جاهليتها، ثم نظرنا إليها بعد ذلك نظرة عامة لنرى من هو أفضلهم، فلابد أن يمتاز في نظرنا من بينهم من كان قد امتاز سابقاً، لأن العلم والتهذيب والإيمان تمد من كان ذا خلق حسن في أصل فطرته، فتزيده حسن خلق واستقامة سلوك وتزيده فضلاً، ثم إذا جاء الفقه في الدين كان ارتقاء هؤلاء فيما فضلوا به ارتقاء يجعلهم هم السابقين على من سواهم لا محالة، وبذلك تكون فروق النسبة لصالحهم فضلاً وكرماً. ومنها ما رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)).) (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2191)، وأحمد (3/ 19) (11159). وحسنه الترمذي، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (1610)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1240). (¬2) رواه البخاري (3383)، ومسلم (2638) واللفظ له. (¬3) رواه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (4/ 400) (19597). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1734)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1759). (¬4) رواه أحمد (1/ 387) (3672)، والحاكم (1/ 88). قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 56): رواه أحمد، ورجال إسناده بعضهم مستور، وأكثرهم ثقات. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1625).

قابلية الناس لاكتساب الأخلاق

قابلية الناس لاكتساب الأخلاق هل الناس لهم قابلية لاكتساب الأخلاق؟ هنا (يرد سؤالان: الأول: إذا كانت الأخلاق طباعاً فطرية، فلماذا وضع الإنسان تجاهها موضع الابتلاء والتكليف؟ الثاني: إذا كانت الطبائع الإنسانية هي المهيمنة على سلوك الإنسان الشامل للسلوك الأخلاقي وغيره، وهذه الطبائع ذات نسب فطرية متفاوتة، فما هي فائدة التربية الأخلاقية؟ وهل باستطاعة الإنسان أن يعدل من طبائعه الخلقية الفطرية، ويكتسب من الأخلاق ما ليس في فطرته؟ ... في الإجابة على السؤالين: لدينا حقيقة ثابتة لابد من ملاحظتها في مجال كل تكليف رباني: هي أن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فمسؤولية الإنسان تنحصر في نطاق ما يدخل في وسعه، وما يستطيعه من عمل، أما ما هو خارج عن وسع الإنسان واستطاعته فليس عليه مسؤولية نحوه، يضاف إلى ذلك أن نسبة المسؤولية تتناسب طرداً وعكساً مع مقدار الاستطاعة. فالقوي يأتي امتحانه على نسبة قوته، وكذلك الضعيف يأتي امتحانه على نسبة ضعفه، وامتحان الذكي على مقدار ما منحه الله من ذكاء، وامتحان الغبي على مقدار غبائه: أما صور الامتحان فكثيرة مختلفة، فبعض الناس يمتحنه الله بالغنى، وبعضهم يمتحنه بالفقر، وبعضهم يمتحنه بأن يكون قائداً، وبعضهم يمتحنه بأن يكون جندياً، وبعضهم يمتحنه بكثرة البنين، وبعضهم يمتحنه بكثرة البنات، وبعضهم يمتحنه بالصنفين معاً، وبعضهم يمتحنه بالعقم، وهكذا إلى سائر الصور المشحونة بها ظروف الحياة الدنيا. والله تعالى يمتحن كل إنسان بما يناسبه، وعلى مقدار ما منحه من هبات وعطايا، وعلى مقدار استطاعته الجسدية والنفسية، ثم تكون المحاسبة بعد ذلك على مقدار نسبة الامتحان، ويكون الجزاء العادل على مقدار الطاعة والجهد المبذول نفسياً وجسدياً، أو على مقدار المعصية والجهد الذي كان يمكن بذله في الطاعة. وميزان الله تعالى لا يضيع منه مثقال ذرة، والعلم الإلهي لا يعزب عنه صغيرة ولا كبيرة من نية أو عمل، والقانون الذي يطبقه الله على المكلفين من عباده، هو المعلن بقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8]، والمعلن بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] وقوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286]. فما كان من الطباع الفطرية قابلاً للتعديل والتبديل، ولو في حدود نسب جزئية، لدخوله تحت سلطان إدارة الإنسان وقدرته، كان خاضعاً للمسؤولية، وداخلاً في إطارها تجاه التكاليف الربانية، وما لم يكن قابلاً للتعديل والتبديل، لخروجه عن سلطان إرادة الإنسان وقدرته، فهو غير داخل في إطار المسؤولية تجاه التكاليف الربانية. وبناء على ذلك فإننا نقول وفق المفاهيم الدينية: لو لم يكن لدى كل إنسان عاقل قدرة على اكتساب حد ما من الفضائل الأخلاقية، لما كلفه الله ذلك. وليس أمر قدرة الإنسان على اكتساب حد ما من كل فضيلة خلقية بعيداً عن التصور والفهم، ولكنه بحاجة إلى مقدار مناسب من التأمل والتفكير. أليست استعدادات الناس لأنواع العلوم المختلفة متفاوتة، فبعضهم أقدر على تعلم الفنون الجميلة من بعض، وبعضهم أقدر على تعلم العلوم العقلية من بعض، وبعضهم أقدر على حفظ التواريخ والحوادث أو حفظ النصوص من بعض؟ إنه مع وجود التفاوت الواسع في هذا بين الناس، نلاحظ أن حداً ما من الاستعداد لتعلم كل أنواع العلوم موجود عند كل أقسام الناس المتفاوتين في قدراتهم واستعداداتهم، وفي حدود استطاعة كل منهم يمكن توجيه التكليف، ويمكن الاستفادة من نسبة الاستعداد، فالاستعداد الضعيف بقدره، والاستعداد القوي بقدره.

ونظير هذا الذي نشاهده في الاستعداد للتعلم، نشاهد في الاستعداد الإنساني لاكتساب الأخلاق، فما من إنسان عاقل إلا ولديه قدرة على اكتساب مقدار ما من فضائل الأخلاق، وفي حدود هذا المقدار الذي يستطيعه يكون تكليفه، وتكون مسؤوليته، ثم في حدوده تكون محاسبته ومجازاته. إن أسرع الناس استجابة لانفعال الغضب، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقداراً ما من خلق الحلم، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب ما يستطيعه منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب تنمو نمو أشواك الغاب، فإنه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره. وإن أشد الناس بخلاً وأنانية وحباً للتملك، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقداراً ما من خلق حب العطاء، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب القدر الواجب شرعاً منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب فإنه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره. والمفطور على نسبة كبيرة من الجبن، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقداراً ما من خلق الشجاعة، قد لا يبلغ به مبلغ المفطور على نسبة عالية من الشجاعة، ولكنه مقدار يكفيه لتحقيق ما يجب عليه فيه أن يكون شجاعاً، وضمن الحدود التي هو مسؤول فيها. وأشد الناس أنانية في تكوينه الفطري، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقداراً ما من الغيرية والإيثار، قد لا يبلغ فيه مبلغ المفطور على محبة الآخرين، والرغبة بأن يؤثرهم على نفسه، ولكنه مقدار يكفيه لتأدية الحقوق الواجبة عليه تجاه الآخرين. وهكذا نستطيع أن نقول: إن أية فضيلة خلقية، باستطاعة أي إنسان عاقل، أن يكتسب منها بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم، المقدار الذي يكفيه لتأدية واجب السلوك الأخلاقي. والناس من بعد ذلك يتفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل. كما أن كل إنسان عاقل، يستطيع بما وهبه الله من استعداد عام، أن يتعلم نسبة ما من أي علم من العلوم وأي فن من الفنون، وأن يكتسب مقداراً ما من أية مهارة عملية من المهارات. وتفاوت الاستعدادات والطبائع، لا ينافي وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار ما من أي فرع من فروع الاختصاص، سواء أكان ذلك من قبيل العلوم، أو من قبيل الفنون، أو من قبيل المهارات، أو من قبيل الأخلاق. وفي حدود هذا الاستعداد العام، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كلا منهم من فطر، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة، زائدة على نسبة الاستعداد العام. ولو أن بعض الناس كان محروماً من أدنى حدود الاستعداد العام الذي هو مناط التكليف، فإن التكليف لا يتوجه إليه أصلاً، ومن سلب منه هذا الاستعداد بسبب ما ارتفع عنه التكليف، ضرورة اقتران التكليف بالاستطاعة، كما أوضحت ذلك نصوص الشريعة الإسلامية. ووفق هذا الأساس، جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق واجتناب رذائلها. ووفق هذا الأساس، وضع الإسلام الخطط التربوية التي تنفع في التربية على الأخلاق الفاضلة، فالاستعداد لذلك موجود في الواقع الإنساني، وإن اختلفت نسبة هذا الاستعداد من شخص إلى آخر. وفي الإصلاح التربوي قد يقبل بعض الناس بعض فضائل الأخلاق بسهولة، ولا يقبل بعضها الآخر إلا بصعوبة ومعالجة طويلة المدى، وقد تقل نسبة استجابته. فالأخلاق إذن تنقسم إلى قسمين: الأول: الأخلاق الفطرية. الثاني: الأخلاق المكتسبة.

فبعض أخلاق الناس أخلاق فطرية، تظهر فيهم منذ أول حياتهم، ومنذ بداية نشأتهم. وبعض أخلاق الناس أخلاق مكتسبة من البيئة الطبيعية، أو من البيئة الاجتماعية، أو من توالي الخبرات والتجارب ونحو ذلك. ولكن لابد لاكتساب الأخلاق من وجود الاستعداد الفطري لاكتسابها، وشأن الأخلاق في هذا كشأن المهارات الحركية والعضلية، فالعضو الذي لديه استعداد وقابلية فطرية لاكتساب مهارة من المهارات، يمكن أن يغدو بالتدريب والتعليم مكتسباً لهذه المهارة، أما العضو الذي ليس لديه هذا الاستعداد فإنه من المتعذر تدريبه وتعليمه حتى يكتسب هذه المهارة، وكذلك اكتساب الأخلاق. إن اليد تملك القابلية الفطرية لاكتساب صناعة الكتابة، والمهارات الصناعية والفنية المختلفة، فتدريبها يجدي في تحقيق نسبة من الاكتساب المطلوب، لكن الأذن لا تستطيع أن تكتسب شيئاً من ذلك، لأنها لا تملك الاستعداد الفطري لاكتسابها. والأرنب مفطور على خلق الجبن والخور، وليس لديه استعداد فطري للتدرب على شجاعة مقاربة من شجاعة الهر، فتدريبه على الشجاعة لا يجدي في اكتسابه خلق الشجاعة. وكذلك الأفراد من الناس، فمن لا يملك الاستعداد الفطري لاكتساب خلق من الأخلاق، فمن المتعذر أن يكتسبه بأية وسيلة من الوسائل. والأخلاق الفطرية قابلة للتنمية والتوجيه والتعديل، لأن وجود الخلق بصفة فطرية يدل على وجود الاستعداد الفطري لتنميته بالتدريب والتعليم وتكرر الخبرات، كما أنه يدل على وجود الاستعداد الفطري لتقويمه وتعديله وتهذيبه، بالتدريب والتعليم وتكرر الخبرات، وتشهد لهذه القابلية التجارب التربوية على الإنسان، والملاحظات المتكررة على أفراد الناس من مختلف البيئات الإنسانية.) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حسن حبنكة (1/ 179).

وسائل اكتساب الأخلاق

وسائل اكتساب الأخلاق • 1 - تصحيح العقيدة:. • 2 - العبادات:. • 3 - قراءة القرآن:. • 4 - التدريب العملي والرياضة النفسية:. • 5 - التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق:. • 6 - النظر في عواقب سوء الخلق:. • 7 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق:. • 8 - علو الهمة:. • 9 - الصبر:. • 10 - الموعظة والنصح:. • 11 - التواصي بحسن الخلق:. • 12 - أن يتخذ الناس مرآة لنفسه:. • 13 - القدوة الحسنة:. • 14 - مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة:. • 15 - الغمس في البيئات الصالحة:. • 16 - الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات:. • 17 - الضغط الاجتماعي من قبل المجتمع الإسلامي:. • 18 - إدامة النظر في السيرة النبوية:. • 19 - النظر في سير الصحابة الكرام وأهل الفضل والحلم:. • 20 - سلطان الدولة الإسلامية:.

1 - تصحيح العقيدة:

1 - تصحيح العقيدة: العقيدة الصحيحة هي التي تصحح الأخلاق، وتحمي الإنسان من الانزلاق، وليس ذلك إلا في عقيدة السلف أهل السنة والجماعة أصحاب الحديث. فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من معتقد، وما يدين به من دين، والانحراف في السلوك ناتج عن خلل في المعتقد، فالعقيدة هي السنة، وهي الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها مما هو من أصول الإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً؛ فإذا صحت العقيدة، حسنت الأخلاق تبعاً لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة (عقيدة السلف) عقيدة أهل السنة والجماعة التي تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق، وتردعه عن مساوئها. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا)) (¬1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) (¬2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/ 43)، قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 306): رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/ 43)، قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 306): رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه البزار (14/ 31)، وأبو يعلى (7/ 184). قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 61): رجاله ثقات. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 19): إسناده رواته ثقات.

2 - العبادات:

2 - العبادات: العبادات هي الأسلوب العملي والوسيلة الأولى في التربية (أي عبادة الله حق العبادة) إلا أن العبادات ليس من وسائل التربية الروحية فقط، ولكنها من وسائل تربية الإنسان المسلم ككل، ففي العبادات تربية جسمية وتربية اجتماعية وتربية خلقية وتربية جمالية وكذلك تربية عقلية ...

3 - قراءة القرآن:

3 - قراءة القرآن: قال الله عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]. وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. قال الحافظ ابن كثير: (موعظة أي: زاجر عن الفواحش، (وشفاء لما في الصدور)، أي: من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، (وهدى ورحمة)، أي: محصل لها الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقون الموقنين) (¬1). وقال – جل ثناؤه -: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]. قال العلامة السعدي: (يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم) (¬2). وقال العلامة الأمين الشنقيطي: (هذه الآية الكريمة أجمل الله – جل وعلا – فيها جميع ما في القرآن من الهدي إلى خير طريق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة) (¬3). وكم في هذا الكتاب العظيم من توجيه وهداية، فقال سبحانه: وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ [البقرة: 231]. فالقرآن الكريم اشتمل على الأمثال والقصص والعبر هداية لخيري الدنيا والآخرة. أ- الأمثال القرآنية: الأمثال القرآنية من أفضل الوسائل لغرس القيم الإسلامية وتهذيب النفوس والأفكار، وتغيير السلوك والاعتبار، ومن خلالها يعيد المرء ترتيب نفسه بالتفكير والإمعان، والعمل على إصلاح النفس وتربيتها ... ب- القصص القرآني: للقصص القرآني أثر بالغ في نفس القارئ والسامع، تهفو لها النفوس، وتطمئن بها القلوب، وتسمو بها الأرواح، فيها من السحر الأخاذ للسمع والفؤاد، وفيها من الفوائد والعبر والدروس والإرشاد والدلالات لمن أمعن النظر، وألقى السمع وهو شهيد. قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 2 - 3]. ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 210). (¬2) ((تفسير الكريم المنان)) (ص: 708). (¬3) ((أضواء البيان)) (3/ 409).

4 - التدريب العملي والرياضة النفسية:

4 - التدريب العملي والرياضة النفسية: إن التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية، طال الزمن أو قصر. والعادة لها تغلغل في النفس يجعلها أمراً محبباً، وحين تتمكن في النفس تكون بمثابة الخلق الفطري، وحين تصل العادة إلى هذه المرحلة تكون خلقاً مكتسباً، ولو لم تكن في الأصل الفطري أمراً موجوداً. وقد عرفنا أن في النفس الإنسانية استعداداً فطرياً لاكتساب مقدار ما من كل فضيلة خلقية، وبمقدار ما لدى الإنسان من هذا الاستعداد تكون مسؤوليته، ولو لم يكن دلى النفوس الإنسانية هذا الاستعداد لكان من العبث اتخاذ أية محاولة لتقويم أخلاق الناس. والقواعد التربوية المستمدة من الواقع التجريبي تثبت وجود هذا الاستعداد، واعتماداً عليه يعمل المربون على تهذيب أخلاق الأجيال التي يشرفون على تربيتها، وقد ورد في الأثر: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم). وثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله)) (¬1). روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) (¬2). وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً دل فيه على أن التدريب العملي ولو مع التكلف يكسب العادة الخلقية، حتى يصير الإنسان معطاء غير بخيل ولو لم يكن كذلك أول الأمر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما. فأنا المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده، حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع)) (¬3). جنتان من حديد: أي درعان. تراقيهما: التراقي جمع ترقوة، والترقوتان هما العظمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق. تكون للناس وغيرهم. فدل هذا الحديث على أن المنفق والبخيل كانا في أول الأمر متساويين في مقدار الدرعين. أما المنافق فقد ربت درعه بالإنفاق حتى غطت جسمه كله، بخلاف البخيل الذي لم يدرب نفسه على الإنفاق، فإن نفسه تكز، والله يضيق عليه من وراء ذلك، فيكون البخل خلقاً متمكناً من نفسه مسيطراً عليها. ومن ذلك نفهم أمرين: فطرية الخلق، وقابليته للتعديل بالممارسة والتدريب العملي. إن المنفق كان أول الأمر كالبخيل يشبهان لابسي درعين من حديد متساويين ويبدو أن الدرع مثال لما يضغط على الصدر عند إرادة النفقة، فمن يتدرب على البذل تنفتح نفسه كما يتسع الدرع فلا يكون له ضغط، وأما من يعتاد الإمساك فيشتد ضاغط البخل على صدره، فهو يحس بالضيق الشديد كلما أراد البذل، ومع مرور الزمن يتصلب هذا الضاغط. واعتماداً على وجود الاستعداد الفطري لاكتساب الخلق، وردت الأوامر الدينية بفضائل الأخلاق، ووردت النواهي الدينية عن رذائل الأخلاق. ولكن من الملاحظ أنه قد يبدأ التخلق بخلق ما عملاً شاقاً على النفس، إذا لم يكن في أصل طبيعتها الفطرية، ولكنه بتدريب النفس عليه، وبالتمرس والمران، يصبح سجية ثابتة، يندفع الإنسان إلى ممارسة ظواهرها اندفاعاً ذاتياً، دون أن يجد أية مشقة أو معارضة أو عقبة من داخل نفسه، ولئن وجد شيئاً من ذلك فإن دافع الخلق المكتسب يظل هو الدافع الأغلب، بشرط أن يكون التخلق قد تحول فعلاً إلى خلق مكتسب. وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب الجسدي، الذي يكتسب به المهارات العملية الجسدية. ¬

(¬1) رواه البخاري (6470)، ومسلم (1053)، واللفظ له. (¬2) رواه البخاري (6470)، ومسلم (1053)، واللفظ له. (¬3) رواه البخاري (1443).

5 - التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق:

5 - التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق: فعلى المرء أن يستذكر دائماً ويحتسب ثواب حسن الخلق. عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أثقل شيء في الميزان حسن الخلق)) (¬2). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزيدان في الأعمار)) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (2553). (¬2) رواه الترمذي (2002)، وابن حبان (12/ 506). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5628). (¬3) رواه البزار (14/ 31)، وأبو يعلى (7/ 184). قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 61): رجاله ثقات. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 19): إسناده رواته ثقات. (¬4) رواه أحمد (6/ 159) (25298). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (5001)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (519).

6 - النظر في عواقب سوء الخلق:

6 - النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها. قال ابن القيم رحمه الله: (ومن عقوباتها (أي المعاصي وسوء الأخلاق) سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق، وهان عليهم عاملوه، على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش: خامل الذكر، ساقط القدر، زري الحال، لا حرمة له، فلا فرح له، ولا سرور، فإن خمول الذكر وسقوط القدر والجاه، يجلب كل غم وهم وحزن، ولا سرور معه ولا فرح، وأين هذا الألم من لذة المعصية. ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره، ويعلي له قدره) (¬1). ... وليس هذا فحسب، بل تأمل ما يقول ابن القيم أيضاً: (ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن، والبر، والمحسن، والمتقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والورع، والصالح، والعابد، والخائف، والأواب، والطيب، والمرضي ونحوها. وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والسارق، والكاذب، والخائن، والغادر وأمثالها) (¬2). وتأمل عاقبة هذه المرأة التي كانت تصوم النهار وتقوم الليل، ولكنها سيئة الخلق في معاملتها مع جيرانها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ((إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير فيها، هي من أهل النار. قالوا: وفلانه تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار (قطع من الأقط، وهو لبن جامد) ولا تؤذي أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي من أهل الجنة)) (¬3). وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون)) (¬4). ¬

(¬1) ((الجواب الكافي)) (ص: 126). (¬2) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 126). (¬3) رواه أحمد (2/ 440) (9673)، وابن حبان (13/ 76)، والحاكم (4/ 184). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 172): رجاله ثقات. وصحح إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (5/ 490). (¬4) رواه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (791).

7 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق:

7 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق: القرآن الكريم يوصي ويفرض ضرورة التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر، يقول سبحانه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110]. وإن التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي من أساليب التربية الإسلامية التي بدت خلال أحاديث المربي الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي طريقة التواصي دعوة كل مسلم إلى أن يكون مربيا يعلم أخاه المسلم، والتذكير بالخير والحق، والدعوة إليهما، والتنبيه إلى الشر والضرر والنهي عنهما، هو من صميم الأساليب التربوية الإسلامية لتنمية القيم والأخلاق الإسلامية في نفس المسلم، وفي الحديث الشريف أن أبا ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق) (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (2474).

8 - علو الهمة:

8 - علو الهمة: قال صاحب المنازل: (الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً، ولا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها) والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاً، فتلك هي الهمة العالية التي (لا يتمالك صاحبها) أي لا يقدر على المهلة، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود (ولا يلتفت عنها) إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة: سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق، والله أعلم) اهـ (¬1). قلت: فعلو الهمة يستلزم الجد، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور. عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق، ويبغض سفسافها)) (¬2). وسفسافها: أي حقيرها ورديئها، وشرف النفس أن يصونها عن الدنايا، والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل، حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد. قال ابن القيم رحمه الله في (الفوائد): (فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل). وقال رحمه الله في (الفوائد): (فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك). فإذا حرص المرء على اكتساب الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، نال مكارم الأخلاق. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 5). (¬2) رواه الطبراني (6/ 181) (5928)، والحاكم (1/ 112) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 255)، والبيهقي (10/ 191) (21300). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 439)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 191): رجاله ثقات، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1771)، وصحح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1378).

9 - الصبر:

9 - الصبر: قال ابن قيم الجوزية رحمه لله: (حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل) (¬1). وقال: (وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. فالأول: صبر الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ [النحل: 127]. والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق. الثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية. صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها .. أين ما توجهت ركائبها) (¬2). (والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ [يوسف: 86]. إنما ينافي الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله) (¬3) كما هو حال بعض المسيئين الأدب في شكواهم وتسخطهم من قضاء الله وقدره، فالله المستعان. وقال الماوردي: (وليس لمن قل صبره على طاعة الله تعالى حظ من بر، ولا نصيب من صلاح، ومن لم ير لنفسه صبراً، يكسبها ثواباً، ويدفع عنها عقاباً، كان مع سوء الاختيار بعيداً من الرشاد، حقيقاً بالضلال) (¬4). وعلى العاقل احتساب الأجر عند الله عز وجل، فهذا الأمر من أعظم ما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، وتحمل أذى الناس؛ فإذا أيقن المسلم أن الله سيجزيه على حسن خلقه ومجاهدته؛ سيهون عليه ما يلقاه في ذلك السبيل؛ قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 96]. وقال سبحانه: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12]. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (2/ 294). (¬2) ((مدارج السالكين)) (2/ 156). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 160) بتصرف. (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 454).

10 - الموعظة والنصح:

10 - الموعظة والنصح: التربية بالوعظ، لها دورها الهام في غرس القيم الإسلامية بميادينها المختلفة، وهي قد تكون في صورة مباشرة على شكل نصائح، فالإنسان (قد يصغى ويرغب في سماع النصح من محبيه وناصحيه – فالنصح والوعظ يصبح في هذه الحالة ذا تأثير بليغ في نفس المخاطب) (¬1). والقرآن الكريم زاخر بالمواعظ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُور [النساء: 57]. إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم [النساء: 58]. وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)) (¬3). والموعظة المؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة مما يؤثر في تغيير سلوك الفرد وإكسابه الصفات المرغوب فيها، وكمال الخلق: عن ابن عباس قال: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القراطم والختم)). وفي المواعظ القرآنية نلحظ أسلوباً تربويا رائعا: يبغي كمال الإنسان، بحيث (يجب أن يتمثلها المعلم والمتعلم، إذ هي صادرة عن حكمة، وليس عن هوى) (¬4) والمثال على ذلك نأخذ خلاصة من عظة لقمان لابنه، التي تهدف إلى: 1 - أن يكون الله هو مصدر السلوك، بمعنى إيمان الإنسان به، واتباع شريعته، وذلك هو محدد سلوك الإنسان، وهو الهدف والغاية لسلوكه، بمعنى أن يكون مخلصاً لله، وذلك عن طريق عدم الإشراك بالله، والشكر له. 2 - أن يكون السلوك كما حددته الموعظة، في قصد واعتدال في كل شيء فلا مغالاة ولا تفريط، إنما توسط واعتدال، وهذا يعكس هدف التربية الإسلامية السلوكية: إنها تنشئ إنساناً معتدلا في سلوكه وفي عقيدته. وهكذا يبدو دور الوعظ كوسيلة في التربية الإسلامية، تصلح في ميدان التربية الخلقية، كما هي في ميدان التربية الاجتماعية والعقلية وباقي الميادين الإسلامية. ¬

(¬1) ((نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي))، لمحمد فاضل الجمالي (ص: 111). (¬2) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (2/ 303) (8015). قال الترمذي: حسن غريب. وقال الذهبي في ((السير)) (8/ 189): غريب عال. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4516). (¬3) رواه الترمذي (1962)، والطيالسي (3/ 660)، وأبو يعلى (2/ 490). قال الترمذي: غريب. وضعفه الألباني في ((ضعيف الترمذي)). (¬4) ((فلسفة التربية في القرآن الكريم))، لعلي خليل مصطفى أبو العينين.

11 - التواصي بحسن الخلق:

11 - التواصي بحسن الخلق: وذلك ببث فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق، فحسن الخلق من الحق، والله سبحانه يقول: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3]. وكان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ثم يسلم أحدهما على الآخر (¬1). وفي الأثر فائدة التواصي بالحق والصبر باستذكار قراءة سورة العصر. والربح الحقيقي للمسلم أن يكون له ناصحون ينصحونه ويوصونه بالخير والاستقامة، فإذا حسنت أخلاق المسلم، كثر مصافوه، وأحبه الناس. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه)) (¬2). قال المناوي: (فأنت مرآة أخيك يبصر حاله فيك، وهو مرآة لك تبصر حالك فيه) (¬3). قال الخوارزمي: لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 215) (5124). من حديث أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير ابن عائشة وهو ثقة، وصحح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2648). (¬2) رواه أبو داود (4918)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (239)، والبزار (14/ 385). قال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 354): في إسناده كثير بن زيد، مختلف في عدالته. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6656). (¬3) ((فيض القدير)) (6/ 252).

12 - أن يتخذ الناس مرآة لنفسه:

12 - أن يتخذ الناس مرآة لنفسه: العاقل ينظر لغيره، ويجعلهم مرآه لنفسه، فكل ما كرهه ونفر عنه من قول، أو فعل، أو خلق – فليتجنبه، وما أحبه من ذلك واستحسنه، فليفعله. قال ابن حزم: (لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف) (¬1). قال الشاعر: إن السعيد له من غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر وقال الظاهر بن الحسين: إذا أعجبتك خصال امرئ ... فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على المجد والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك (¬2) ... ¬

(¬1) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 128). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 561).

13 - القدوة الحسنة:

13 - القدوة الحسنة: تعني القدوة هنا أن يكون المربي أو الداعي مثالا يحتذى به في أفعاله وتصرفاته، وقد أشاد القرآن الكريم بهذه الوسيلة فقال عز من قائل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة: 4]، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم – ولا يزال- قدوة للمسلمين جميعاً، والقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام بكل ما يحمله من مبادئ وقيم تدعو إلى الخير وتحث على الفضيلة. ولأثر القدوة في عملية التربية، وخاصة في مجال الاتجاهات والقيم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة المسلمين طبقا لما نص عليه القرآن الكريم، وقد استطاع بفضل تلك القدوة أن يحمل معاصريه قيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه، لا بالأقوال فقط، وإنما بالسلوك الواقعي الحي، وقد حرصوا على تتبع صفاته وحركاته ورصدها والعمل بها، وما ذلك إلا حرصا منهم على تمثل أفعاله صلى الله عليه وسلم، لقد كان المثل الأعلى لهم. وقد تمثلت في الرسول صلى الله عليه وسلم صفات جليلة جعلت منه قدوة بالفعل والقدوة الحسنة هي المثال الواقعي للسلوك الخلقي الأمثل، وهذا المثال الواقعي قد يكون مثالاً حسياً مشاهداً ملموساً يقتدي به، وقد يكون مثالاً حاضراً في الذهن بأخباره وسيره وصورة مرتسمة في النفس بما أثر عنه من سير وقصص وأنباء من أقوال أو أفعال. والقدوة الحسنة تكون للأفراد على صفة أفراد مثاليين ممتازين، وتكون للجماعات على صفة جماعات مثالية ممتازة ... ووجه القرآن الكريم بصراحة تامة إلى القدوة الحسنة، فقال الله تعالى في سورة (الأحزاب): لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. ففي هذا النص إرشاد عظيم من الله تبارك وتعالى للمؤمنين أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لهم، يقتدون به، في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكل جزئيات سلوكه في الحياة فهو خير قدوة يقتدي بها الأفراد العاديون، والأفراد الطامحون لبلوغ الكمال الإنساني في السلوك. وجعل الله الذين آمنوا معه وصدقوا وأخلصوا واستقاموا أمثلة رائعة يقتدى بها في معظم الفضائل الفردية والاجتماعية. ولئن انتقل الرسول صلوات الله عليه إلى جوار ربه، فإن سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا. وفيما بلغنا من تراجم أصحابه رضوان الله عليهم ما يكفي لتجسيد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم. ثم إن كل عصر من العصور من بعدهم لا يخلو من وجود طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تصلح لأن تكون قدوة حسنة، قلت هذه الطائفة أو كثرت، فقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) (¬1). وروى الإمام مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) (¬2). وروى البخاري ومسلم عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) (¬3). فلا يخلو عصر من عصور الأمة المحمدية من طائفة صالحة، تصلح لأن تكون في عصرها قدوة حسنة للأفراد. ¬

(¬1) رواه أبو داود (2484)، وأحمد (4/ 437) (19934)، والحاكم (2/ 81). وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7294). (¬2) رواه مسلم (156). (¬3) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037) واللفظ له.

14 - مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة:

14 - مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة: فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه. ومجالستهم تكسب المرء الصلاح والتقوى، والاستنكاف عنهم تنكب عن الصراط المستقيم. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]. وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء؛ كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة)) (¬1). قال أبو حاتم: (العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار، لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريباً، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر) (¬2). قال الشاعر: عليك بإخوان الثقات فإنهم ... قليل فصلهم دون من كنت تصحب ونفسك أكرمها وصنها فإنها ... متى ما تجالس سفلة الناس تغضب فالصداقة المتينة، والصحبة الصالحة، لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة. فإذا كان الأمر كذلك، فما أحرى بذلك اللب أن يبحث عن إخوان ثقات؛ حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر. قال ابن الجوزي: (ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق؛ فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم، فتر عن عمله) (¬3). قال الناظم: أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترت خليلا فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكراً جميلا قال العلماء: إنما سمي الصديق صديقاً لصدقه، والعدو عدواً لعدوه عليك. ¬

(¬1) رواه البخاري (2101). (¬2) ((روضة العقلاء)) (ص: 80). (¬3) ((صيد الخاطر)) (ص: 363).

15 - الغمس في البيئات الصالحة:

15 - الغمس في البيئات الصالحة: ومن وسائل اكتساب الأخلاق الفاضلة الغمس في البيئات الصالحة، وذلك لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويتعايش معها، ما لديها من أخلاق وعادات وتقاليد وأنواع سلوك، عن طريق السراية والمحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة أو الضارة، وفي الحكم السائرة: أن الطبع للطبع يسرق. ويمكن تلخيص التأثير الجماعي على الفرد بالعناصر التالية: 1 - السراية التي تفعل فعلها العميق في كيان الإنسان، وهي من خصائص الاجتماع، وكلما كبر المجتمع كان تأثيره على الفرد الذي ينخرط فيه أكثر. 2 - القوة المعنوية الجماعية، التي يخشى الأفراد عقوباتها المادية والمعنوية، ويرجون مثوباتها المادية والمعنوية. 3 - جاذبية الجماعة لعنصر التقليد والمحاكاة الذي يوجد عند الأفراد. 4 - عنصر المنافسة، وهو من خصائص الجماعة. 5 - رغبة الأفراد بتقدير الآخرين ومحبتهم له وهذا الدافع لا يتحرك إلا في وسط الجماعة، فاستغلاله من خصائص الجماعة. هذا وقوة الجماعة الخيرة يوجد نظيرها في الجماعة الشريرة الخبيثة، يضاف إليها ميل النفس بفطرتها إلى الأهواء والشهوات التي ترافق رذائل الأخلاق وقبائح الأفعال، لا سيما إذا كان مخالط الأشرار غراً صغيراً غير مضرس في الحياة، وسلطان الغرائز والأهواء فيه أقوى من سلطان العقل والوجدان والضمير.

16 - الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات:

16 - الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات: فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم؛ تخلق بأخلاقهم، وقبس من سمتهم ونورهم. أ- يروى أن الأحنف بن قيس قال: (كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه). ب- كان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إليه، فينظرون إلى سمته، وهديه، ودله، قال: (فيتشبهون به) (¬1). ج- قال الإمام مالك: قال ابن سيرين: (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. قال: وبعث ابن سيرين رجلاً فنظر كيف هدي القاسم (هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق) وحاله (¬2). د- قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: (كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب، وحسن السمت) (¬3). هـ- قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد لابنه: (يا بني، إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث) (¬4). ووقال الأعمش: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون من هديه وسمته. ¬

(¬1) ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 383). (¬2) ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 79). (¬3) ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/ 9). (¬4) ((الجامع)) للخطيب (1/ 80).

17 - الضغط الاجتماعي من قبل المجتمع الإسلامي:

17 - الضغط الاجتماعي من قبل المجتمع الإسلامي: ضمن مجموعة الوسائل التي اعتمد عليها الإسلام في تقويم الأفراد وإصلاحهم، وإلزامهم بكمال السلوك وفضائل الأخلاق، اعتمد على المجتمع الإسلامي السوي، وذلك لما للمجتمع من سلطة معنوية فعالة ومؤثرة على نفوس الأفراد. وترجع هذه السلطة المعنوية إلى أن الفرد جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، وله من مجتمعه مصالح كثيرة مادية ونفسية. وبما أن الإنسان كائن اجتماعي، ولا يستطيع أن يعيش عيشاً سوياً سليماً إلا ضمن مجتمع من الناس، كان ارتباطه بالمجتمع نابعاً من حاجته إليه، والحاجة لشيء ذي إرادة تجعل لهذا الشيء سلطاناً على من كان بحاجة إليه، إذ هو لا يحقق هذه الحاجة من نفسه ما لم يكن راضياً، عندئذ يسعى ذو الحاجة إلى تحقيق رضاه حتى ينال منه حاجته. ومن الحاجات النفسية المرتبطة بالمجتمع حاجة الإنسان إلى التقدير، ولذلك يكدح كثير من الكادحين ليظفروا بتقدير الناس لهم وثنائهم عليهم، ويمنع كثير من الناس أنفسهم من شهوات ملحة، وأهواء يتطلعون إليها، مخافة أن ينظر الناس إليهم بازدراء واحتقار، أو مخافة أن يعاقبوهم بالهجر والقطيعة، أو بالتلويم والتثريب والمذمة، وما ذلك إلا من شعور الفرد بحاجته إلى التقدير، وبحاجته إلى المحافظة على كرامة نفسه بين الناس، وهذا هو الذي يجعل للمجتمع سلطاناً على أفراده. يضاف إلى ذلك أسباب التأثير الجماعي على الفرد، ... وإذ اتخذ الإسلام – ضمن وسائله لإلزام الأفراد بالمنهج الأخلاقي الذي رسمه للناس – وسيلة الضغط الاجتماعي الذي يمارسه المجتمع الإسلامي، فقد عمل بالتربية الفردية النبوية وبالتربية الجماعية على تكوين المجتمع الإسلامي الأول، ثم جعل من هذا المجتمع رقيباً على أفراده، وحارساً ساهراً، ومحاسباً عادلاً، ومعاقباً بأنواع شتى من أنواع العقاب المعنوي، ومؤنباً، وناصحاً، وآمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر. فمن شأن هذا المجتمع أن يملي على من ينشأ فيه، أو ينخرط فيه، فضائل الأخلاق، ومحاسن السلوك، بصفة عملية فعالة قاسرة ...

18 - إدامة النظر في السيرة النبوية:

18 - إدامة النظر في السيرة النبوية: فالسيرة النبوية تضع بين يدي قارئها أعظم صورة عرفتها الإنسانية، وأكمل هدي وخلق في حياة البشرية. قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. قال ابن حزم رحمه الله: (من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق – كلها – واستحقاق الفضائل بأسرها؛ فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به، بمنه، آمين) (¬1). وبدراسة السيرة النبوية يتم حسن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ... ومعرفة شمائله، فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها، والشمائل جمع شمال، وهي السجايا والأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 91).

19 - النظر في سير الصحابة الكرام وأهل الفضل والحلم:

19 - النظر في سير الصحابة الكرام وأهل الفضل والحلم: السلف الصالح أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وسمته، وخلقه، فالنظر في سيرهم، والاطلاع على أحوالهم – يبعث على التأسي بهم، والاقتداء بهديهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. إن الإحاطة بتراجم أعيان الأمة مطلوبة، ولذوي المعارف محبوبة، ففي مدارسة أخبارهم شفاء للعليل، وفي مطالعة أيامهم إرواء للغليل. (فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام، فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا) (¬1). (واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق الصحابة، فمنهم أخذ الدين، ولذلك قال علي رضي الله عنه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين) (¬2). قال الناظم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح وكذلك قراءة سير التابعين ومن جاء بعدهم في تراجمهم مما يحرك العزيمة على اكتساب المعالي ومكارم الأخلاق؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم. وجدير بمن لازم العلماء بالفعل أو العلم أن يتصف بما اتصفوا به، وهكذا من أمعن النظر في سيرتهم أفاد منهم (وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة – رضي الله عنهم – لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائناً ما كان، وعلى أي وجه صدر ... وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة ... وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ففقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية) (¬3)، والأخلاق العلية. ¬

(¬1) ((إعلام الموقعين)) (1/ 15). (¬2) ((الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد)) للإمام بدر الدين الغزي العامري (ص: 138). (¬3) ينظر ((الموافقات)) (1/ 142 - 144).

20 - سلطان الدولة الإسلامية:

20 - سلطان الدولة الإسلامية: وللسلطة المادية التي تمارسها الدولة الإسلامية، أثر فعال في إلزام الأفراد والجماعات، بالمنهج الأخلاقي الذي رسمه الإسلام للناس، وفي تربية نفوسهم وقلوبهم على الفضائل الأخلاقية. ولذلك كان من مهمات الدولة الإسلامية ضبط انتظام الأفراد والجماعات في نظام الأخلاق الإسلامية، بما توليه من رقابة يقظة، وحراسة ساهرة، ومحاسبة للمنحرفين، وتشجيع للسابقين، وتوجيه وتربية، وبناء وصيانة. ولذلك كان من مهمات الدولة الإسلامية وضع الأنظمة المختلفة، المرغبة بالتزام المنهج الأخلاقي الرباني، والرادعة عن مخالفته، واتخاذ مختلف الوسائل النافعة التوجيهية والتربوية لحماية الأخلاق وصيانتها. وربما كان وازع السلطة الإدارية هذا أقوى وازع لإلزام الجماهير بسلوك السبيل الأقوام، وقد جاء في الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)

أسباب الانحراف عن الأخلاق الإسلامية

أسباب الانحراف عن الأخلاق الإسلامية (ليس للمسلم أفضل من التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، بعيداً عن الأفكار الخاطئة التي يروجها بعض من يدعي العلم الديني، أو يقررها بعض من يريدون الشهرة، بهدف بلبلة أفكار النشء والشباب وبعده عن تعاليم الإسلام. في هذا الزمان انحرف كثير من الناس عن الأخلاق الفاضلة التي دعى إليها الإسلام، فظهر الانحلال في جميع أمور الحياة (اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وأخلاقية) فنرى سرقة واختلاساً، وإهداراً للمال العام، وذبحاً للأخلاق، وقتلاً للفضيلة، وإعلانات عن متع محرمة، وتقليداً أعمى لأهل الشرك والضلال، وسهرات شيطانية، وتطرفاً عن الدين، وتفككاً في الأسر، وضياعاً لحقوق الزوجية ... الخ. ... فما هي الأسباب التي أدت إلى انحراف كثير من الناس عن أخلاق الإسلام الفاضلة المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذه الأسباب تتجلى فيما يلي: السبب الأول: البعد عن الله تعالى: وهذا أهم الأسباب، حيث بعد كثير من الناس عن الله، وعن تعاليمه واتباع أوامره، والابتعاد عن نواهيه، واقترب من الشيطان فانحرفت أخلاقه وصار إنساناً شيطانياً. وما أحرى العبد من أن يتمثل كلمات الله ويقتدي بآياته، فالله مالك كل شيء ومليكه، وإن كل ما سوى الله مخلوق له، وأنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54]، فكيف لا يرحم من خلقه فسواه فعدله (¬1). السبب الثاني: اتباع الهوى: أعظم مشكلة تواجه الإنسان في حياته اتباع الهوى، وإذا غلب الهوى على النفس أظلم القلب، وجنح العقل، فلا يسمع الإنسان كلمة الحق، ولا يرى إلا الأباطيل والأشباح المفزعة التي تجعله في حياته تعساً شقياً. إن الهوى عدو العلم والحق، إذ يقود صاحبه لارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصاحب الهوى ظالم لنفسه فقد حرمها نعمة الإيمان، وحجبها عن نور المعرفة، فعاش حياة الخوف والفزع، وشحن بالحقد والحسد، وأغواه الشيطان فضل عن سواء السبيل (¬2)، يقول تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]، ويقول سبحانه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [الروم: 29]. إن أصحاب الهوى يعيشون جل حياتهم في قلق مزمن وخوف دائم، وإن تظاهروا بالسعادة، فإن الحقيقة أن بواطنهم يخيم عليها التعاسة والشقاء الدائم (¬3). ويختلف عباد الهوى في ضلالهم، فمنهم من يزعم العلم وما يتبع إلا الظن، ومنهم من يتوهم الهدى وما يعبد إلا الشيطان، ومنهم من يخيل إليه الباطل حقاً والحق باطلاً، ولا يكفي أصحاب الهوى عن التعريض بالمؤمنين، فأمانيهم أن يضلوهم عن طريق الحق، فإن لم يستطيعوا كادوا لهم، وسلطوا عليهم المفسدين لظلمهم والنيل منهم (¬4). وقد أمرنا الله تعالى بعدم الالتفات إلى أهل الهوى، وعدم اتباعهم، أو طاعتهم فيما يقولونه ويفعلونه، يقول تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]، ويقول سبحانه: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [محمد: 14]. إن الزمان لا يخلو من أهل الهوى كما أنه لا يخلو من أهل الحق، وأهل الهوى هم المنحرفون الضالون عن الطريق المستقيم لا أخلاق لهم ولا فضيلة، وأهل الحق هم أهل الإيمان والتقوى والأخلاق الفاضلة. السبب الثالث: الافتراء على الله: وهذا السبب من الانحراف مرتبط بما قبله، فليس من الصعب على أصحاب الهوى أن يفتروا على الله تعالى بأن يقولوا على الله كذباً، وليس من اليسير أن يلتزموا أدب العبودية وأن يقنتوا لله طائعين خاشعين تائبين. على العبد أن يلتزم الأدب مع ربه، بأن يعرف أنه عبد ضعيف، والله هو القوي، وأنه عبد فقير محتاج على الدوام والله غني عن العالمين. فإذا تجاوز العبد حدوده، وأطلق العنان لهواه، فقد أغواه شيطانه ونازع الله في ملكه، واعترض على حكمه، وتطاول برأيه ليتحدى مشيئة الله وإرادته: مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف: 5].) (¬5). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) د. حسن الشرقاوي (ص: 26). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) د. حسن الشرقاوي (ص: 19). (¬3) ((الأخلاق الإسلامية)) د. حسن الشرقاوي (ص: 20). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) د. حسن الشرقاوي (ص: 21). (¬5) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد المرسي (ص: 80) - بتصرف –.

حث الإسلام على الخلق الحسن

حث الإسلام على الخلق الحسن (لما كانت ثمرات الخلق القويم للسلوك الديني وللسلوك الشخصي عظيمة جداً، وكانت لدى المقارنة أجل من الثمرات التي تحققها المبالغة في أداء كثير من العبادات المحضة. ولما كانت سلامة النفس من المساوئ الخلقية أهم من سلامة السلوك الظاهر من طائفة من المعاصي والذنوب الظاهرة، وكان ما يتحقق بحسن الخلق من رضوان الله تعالى أكثر مما يتحقق بالاستكثار من نوافل العبادات المحضة، كالصلاة والصيام والأذكار اللسانية. لما كان كل ذلك وجدنا النصوص الإسلامية توجه الاهتمام العظيم والعناية الكبرى لقيمة حسن الخلق في الإسلام، وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير، فمنها النصوص التالية: أولاً: روى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) (¬1). وفي حديث عمرو بن عبسة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإيمان أفضل؟ قال: ((حسن الخلق)) (¬2). فربط الرسول صلى الله عليه وسلم الارتقاء في مراتب الكمال الإيماني بالارتقاء في درجات حسن الخلق، وذلك لأن السلوك الأخلاقي النابع من المنابع الأساسية للخلق النفسي في الإنسان، موصول هو والإيمان وظواهره وآثاره في السلوك ببواعث نفسية واحدة. فصدق العبادة لله تعالى عمل (أخلاقي) كريم، لأنه وفاء بحق الله على عبيده. وحسن المعاملة مع الناس وفاء بحقوق الناس المادية والأدبية، فهي بهذا الاعتبار من الأعمال الأخلاقية الكريمة. فإذا تعمقنا أكثر من ذلك فكشفنا أن الإيمان إذعان للحق واعتراف به، رأينا أن الإيمان أيضا هو عمل أخلاقي كريم، بخلاف الكفر بالحق فهو دناءة خلقية. فإذا ضممنا هذه المفاهيم إلى المفهوم الإسلامي العام، الذي يوضح لنا أن كل أنواع السلوك الإنساني الفاضل فروع من فروع الإسلام، والإسلام التطبيقي آثار للإيمان وثمرات عملية له. إذا جمعنا كل هذه المفاهيم وجدنا أن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. فأحسن الناس خلقا لابد أن يكون أصدقهم إيماناً وأخلصهم نية، وأكثرهم التزاماً بما يجب على العباد نحو ربهم من عبادة وحسن توجه له وصلة به، وأكثرهم التزاماً بحقوق الناس المادية والأدبية. ومن المستبعد جداً أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع الناس، محباً للحق، معطاء، متواضعاً، صبوراً عليهم، رحيماً بهم، ودوداً لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا يكون ذا خلق كريم مع ربه، فلا يؤمن بحق ربوبيته وألوهيته، ولا يذعن له بذلك، ولا يؤدي واجب العبادة له. كما أنه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس، وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم، ويتجاوز حدود الواجب الأدبي الذي توصي به الآداب الاجتماعية الإسلامية، فهذا مناف لما توجبه فضائل الأخلاق، لو كان حقاً ذا خلق كريم. ¬

(¬1) رواه الترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/ 43)، قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 306): رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه أحمد (4/ 385) (19454)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص30). قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 57): في إسناده شهر بن حوشب، وقد وثق على ضعف فيه.

فالأسس الأخلاقية والأسس الإيمانية ذات أصول نفسية واحدة، وإن كانت بعض التطبيقات العملية التي يطالب بها الإسلام المستند إلى الإيمان قد لا تستدعيها الأسس الأخلاقية وحدها منفصلة عن الإيمان، فلا يظهر بذلك ارتباطها بها، فهي أحكام شرعية، يقتضي الإيمان العمل بها، نظراً إلى أنها أوامر ربانية، والأوامر الربانية توجب الأسس الأخلاقية طاعتها، بوصف كونها طاعة لمن تجب طاعته، لا بوصف كون المطلوب بها ظاهرة لأساس خلقي. فحينما يأمرنا الله تعالى بعبادة خاصة على وجه مخصوص كصلاة ركعات معينة محددة بصفات خاصة وشروط خاصة، فليس من اللازم أن تكون هذه الصلاة بصفاتها الخاصة ظاهرة من ظواهر السلوك الأخلاقي، وذات صلة مباشرة بالأسس الأخلاقية العامة، إذ لله تعالى أن يختار لعبادته أي عمل من الأعمال، وعلى أي شكل من الأشكال، سواء أكان ذلك مما يتصل بالأسس الأخلاقية العامة أو لا يتصل بها. ومع ذلك نقول: إن الفضيلة الخلقية توجب القيام بهذه الطاعة من جهة أن الله أمر بها، إذ الفضيلة الخلقية توجب طاعة الله لأنه الخالق المنعم المالك. ونظير هذا نقول في طاعة الوالدين وبرهما، وفي طاعة أولي الأمر من المسلمين المؤمنين، وهكذا. أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وخياركم خياركم لنسائهم)) (¬1). فيكشف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أدق الموازين والكواشف التي تكشف عن حقيقة خلق الإنسان، فأحسن الناس خلقاً في معاملة ومعاشرة النساء هم أحسنهم خلقاً، فهم بسبب ذلك خيارهم، لأن خير الناس هم أحسنهم خلقاً. ومن المعروف أن الإنسان قادر على أن يتصنع التظاهر بمكارم الأخلاق وفضائل السلوك إلى فترة معينة، ومع بعض الناس، أما أن يتصنع ذلك في كل الأوقات ومع كل الناس فذلك من غير الممكن ما لم يكن فعلا ذا خلق كريم. والمحك الذي يمتحن فيه الإنسان امتحاناً صحيحاً ودقيقاً لمعرفة حقيقة خلقه الثابت، هو المجتمع الذي يكون له عليه سلطة ما، وله معه معاشرة دائمة، ومعاملة مادية وأدبية. فإرادة التصنع تضعف حينما يشعر الإنسان بأن له سلطة ونفوذاً، ثم تشتد ضعفاً حينما تطول معاشرته لمن له عليه سلطة، ثم تتلاشى هذه الإرادة حينما تتدخل المعاملة المادية والأدبية، فإذا ظل الإنسان محافظاً على كماله الخلقي في مجتمع له عليه سلطة، وله معه معاشرة دائمة، ومعاملة مادية وأدبية، فذلك هو من خيار الناس أخلاقاً. وأبرز أمثلة هذا المجتمع الذي تتوافر فيه هذه الشروط هو مجتمع أسرة الإنسان، وماله من سلطان فيه على نسائه، وهن الضعيفات بالنسبة إليه. يضاف إلى ذلك أن النساء قد تبدو منهن تصرفات أو مطالب تخرج الحليم عن حلمه، والرصين عن رصانته، والسمح عن سماحته، والصدوق عن التزام الصدق، فإذا ثبت الإنسان على خلقه الفاضل رغم وطأة محرجاتهن التي يتبعن فيها أهواءهن، فإنه من خيار الناس خلقاً. وكم يظهر الإنسان أنه حسن الخلق، فإذا سافرت معه أو عاملته بالدرهم والدينار انكشف عن صاحب خلق سيء. ثانياً: وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/ 43)، قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 306): رواه أحمد، وفيه محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه الترمذي (2002)، وابن حبان (12/ 506). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5628).

أي يبغض الذي يفعل الفحش ويقول الفحش، ويتكلم ببذيء الكلام، وهو رديئه وقبيحه، الذي يتحدث عن العورات والرذائل وما ينبغي من الأشياء والأعمال ستره. وفي هذا الحديث يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أثقل الفضائل في ميزان المؤمن يوم القيامة الخلق الحسن. وقد يشكل هذا على بعض الناس فيقول: إن الإيمان بالله وحسن الصلة به أفضل الأعمال، وكذلك توحيد الله والإخلاص له في العبادة، وإذا كانت هذه أفضل الأعمال فهي أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة؛ فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق))؟! ولكن هذا الإشكال لا يلبث أن ينحل إذا عرفنا أن الإيمان وعبادة الله مما توجبه الأسس الأخلاقية، ومن أولى الواجبات التي تفرضها مكارم الأخلاق. وأن الكفر بالله ورفض عبادته وطاعته من أقبح رذائل الأخلاق – كما سبق بيانه في شرح الحديث السابق – لأنه إنكار للحق من عدة وجوه: فهو إنكار لربوبية الله – مع أن كون الله رب كل شيء وخالق كل شيء؛ حقيقة تفرض نفسها على كل منصف محب للحق – وهو جحود لألوهية الله واستكبار عن عبادته، وهو تمرد على حق الله تجاه عباده في أن يعبدوه ويطيعوه، مع أن المنعم عليهم بالنعم الكثيرة التي لا يحصونها، وظاهر أن جحود النعمة وعدم القيام بواجب الشكر عليها من أقبح رذائل الأخلاق. فالإيمان الذي هو أثقل الفضائل عند الله تعالى هو مظهر من مظاهر الكمال الخلقي في الإنسان، وإذا تتبعنا الأعمال وجدنا العبادات أيضاً من مظاهر الكمال الخلقي في الإنسان. وعندئذ يتضح لنا بجلاء أن أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن خلقه، لأن صدق إيمانه وسلامة يقينه وإخلاص نيته، كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية. ولما كان الفحش والبذاءة من مظاهر الرذائل الخلقية النفسية كان الفاحش البذيء من الذين يبغضهم الله عز وجل. ثالثاً: وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)) (¬1). فتقوى الله وحسن الخلق من أحب الأعمال إلى الله، فهما أكثر ما يدخل الناس الجنة. وفي كون الفم والفرج أكثر ما يدخل الناس النار إشارة إلى عناصر متصلة بسوء الخلق، إذ جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل التقوى وحسن الخلق. والمراد من الفم والفرج ما يعمل الإنسان بهما من أعمال محرمة، فالفم يصدر عنه الكفر بالله، والكذب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، والطعن، والتعبير والتنقيص، واللمز، والتنابز بالألقاب، والدعوة إلى الباطل، ونشر الباطل، والحكم بغير الحق، وغير ذلك من أمور كثيرة، تنافي التقوى وتنافي مكارم الأخلاق. والفرج يصدر عنه أعمال محرمة أخرى تنافي التقوى وتنافي مكارم الأخلاق. رابعاً: وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2004)، وأحمد (2/ 442) (9694)، وابن حبان (2/ 224). قال الترمذي: صحيح غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2642). (¬2) رواه البخاري (3559)، ومسلم (2321).

وروى الترمذي بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون)) (¬1). الثرثارون: هم الذين يكثرون الكلام ويتكلفونه. المتشدقون: هم الذين يتكلمون بملء أفواههم، ويتصنعون القول تصنعاً مع التعاظم به والتعالي به على الناس. خامساً: وروى أبو داود عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) (¬2). ويظهر أن السبب في هذا أن من يلزم التقيد بالأخلاق الحسنة ابتغاء مرضاة الله، لابد أن يتعرض في حياته الاجتماعية إلى ما يستدعي منه أخلاقاً حسنة في معظم أوقاته، وهذا يجعله في حالة عبادة دائمة، يغالب فيها نفسه بالصبر وتحمل مشقة مخالفة الهوى، لذلك فهو يدرك بحسن خلقه درجة الصائم الذي لا يفطر، ودرجة القائم الذي لا يفتر. يضاف إلى هذا أن حسن الخلق عبادة ذات آثار اجتماعية تنفع خلق الله، وتوحد كلمتهم، وتبعد عنهم عوامل الفرقة والخلاف، أما الصيام والقيام فهما عبادتان قد لا تنتج عنهما بشكل مباشر آثار اجتماعية تنفع عباد الله، وقد يكون أمرهما قاصراً على فاعلهما، وصلة خاصة يتوجه بها الإنسان إلى ربه، ولا يخفى أن عبادة الله ذات أثرين أعلى من عبادة ذات أثر واحد. على أن حسن الخلق لا يغني عن فروض العبادات، وكذلك كل الفروض الإسلامية لا يغني بعضها عن بعض، فالصلاة المفروضة لا تغني عن الصيام المفروض، وأداء الصلاة والصيام المفروضين لا يغني عن أداء الزكاة، ولا عن أداء فريضة الحج، وكل هذه الفروض لا تغني عن فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سادساً: وروى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) (¬3). زعيم: أي كفيل. ربض الجنة: ربض المكان نواحيه وما حوله من خارجه، كحريم المسجد، وكالأبنية التي تكون حول المدن، وهي الأمكنة التي تربض فيها الأنعام. فمن ترك المراء – أي الجدل في أمور الدنيا ولحظ النفس – بني الله له بيتاً في ربض الجنة، أي استحق دخول الجنة لهذا العمل الذي يخالف فيه هوى نفسه. ومن ترك الكذب في كل الأحوال ومنها حالات المزاح بنى الله له بيتاً في وسط الجنة، لأن من يحفظ لسانه من كل الكذب ابتغاء مرضاة الله هو ذو مرتبة عالية في الأخلاق الحميدة وفي تقوى الله وأعمال البر، إذ ترك الكذب والتزام الصدق مجمع لجملة كبيرة من الفضائل الخلقية، والمصالح الاجتماعية العلمية والعملية. أما جماع الفضائل كلها فهو حسن الخلق بوجه عام. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (791). (¬2) رواه أبو داود (4798)، وأحمد (6/ 187) (25587)، والحاكم (1/ 128). وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1620). (¬3) رواه أبو داود (4800)، والطبراني في ((الكبير)) (8/ 98)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 420) (21176). وصححه النووي في ((رياض الصالحين)) (ص216)، وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2648).

سابعاً: وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (¬1). البر: هو جماع أفعال الخير، وقد عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق، فهذا يدل على أن حسن الخلق يشتمل على جماع أفعال الخير، والاتساع فيما يقرب إلى الله تعالى ويرضيه سبحانه. أما كون الإثم ما حاك في نفس الإنسان وكره أن يطلع عليه الناس، ففيه إشارة إلى الضمير الأخلاقي الذي فطر الله الناس عليه، وهذا الضمير يحس بالفضيلة الخلقية كما يحس الإثم، وحينما يحس بالإثم يلامس نفسه شعور خاص به، وحينما يحدث هذا الشعور في النفس يقدر الإنسان أن ما أحس به من شأنه أن يحس به كل إنسان آخر إذا اطلع عليه، لأن الناس يشتركون معه في القدرة على الإحسان بالإثم، لذلك فهو يكره أن يطلع عليه الناس، لئلا يخسر مكانته في نفوسهم حينما يعلمون أنه امرؤ آثم. وهذا المقياس النبوي مقياس صحيح دقيق عند ذوي القلوب المؤمنة، التي لم تفسد موازينها الفطرية بارتكاب القبائح والآثام. ثامناً: وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) (¬2). الألد: هو شديد الخصومة. الخصم: هو كثير الخصومة، المولع بها حتى تصير الخصومة عادة له. وظاهر أن الخصم الألد سيء الخلق من درجة شديدة القبح، وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أبغض الرجال إلى الله. تاسعا: وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (¬3). ففي هذا الحديث إرشاد إلى قواعد السلوك الكبرى، التي من التزمها فقد أخذ سبيله لارتقاء مراتب المجد والكمال الإنساني. وهذه القواعد ترشد إلى المنهج الخلقي العام، الشامل لجانبي علاقة الإنسان بربه وعلاقة الإنسان بالناس. أما ما يدعو إليه الواجب الأخلاقي بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربه، فهو تقوى الله في أي مكان ظاهر أو خفي يكون فيه الإنسان، وذلك لأن الواجب الأخلاقي يفرض على الإنسان طاعة من خلقه فسواه فعدله، فأنعم عليه بالنعم التي لا يستطيع إحصاءها، ويفرض عليه أيضاً حمده وشكره وعبادته، وكل هذه الواجبات يجمعها تقوى الله في السر والعلن، وهذا ما دلت عليه القاعدة الأولى: ((اتق الله حيثما كنت)). وحينما يتقي الإنسان ربه في كل أحواله الظاهرة والباطنة فلابد أن يكون مخلصاً لله في تقواه، وفي هذا تكمن الروح الأخلاقية السامية البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة وطلب الثناء من الناس، أو اجتلاب المصالح النفسية أو المادية منهم. هذه هي القاعدة الأولى: وأما القاعدة الثانية وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ففيها إرشاد إلى منهج الإصلاح والتقويم، وتدارك النهوض بالنفس بعد سقوطها بارتكاب السيئة، وهذا المنهج ترسمه هذه القاعدة أضبط رسم. فمن سقط بارتكابه السيئة في حالة من حالات الضعف الإنساني فعليه أن يتبع هذه السيئة حسنة مستمدة من منابع الضمير الأخلاقي، فإن للحسنات قوة سبق عجيبة بفضل الله، إذ تمر على السيئات التي كانت قد انطلقت قبلها فتردها وتمحو أثرها عند الله، وتعود نفس المؤمن بالله إلى براءتها ونقائها الخلقي، بعد أن أصابها ما أصابها من أدناس السيئات. وهذه القاعدة مستمدة من قول الله تعالى في سورة (هود): ¬

(¬1) رواه مسلم (2553). (¬2) رواه البخاري (2457)، ومسلم (2668). (¬3) رواه الترمذي (1987)، وأحمد (5/ 153) (21392). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (97).

وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]. وأما القاعدة الثالثة وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وخالق الناس بخلق حسن)): فهي تحدد المنهج العام الذي يجب على الإنسان أن يسلكه في علاقاته بالناس، وعنوان هذا المنهج أن يخالق الناس بخلق حسن، أي أن يعاملهم في كل علاقاته معهم بالخلق الحسن. عاشراً: ولما كان حسن الخلق يحتل هذه القيمة العظيمة في الإسلام؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً)) (¬1). وأختار الله للثناء على رسوله من دون سائر صفاته العظيمة ما يتحلى به من خلق حسن عظيم، إذ خاطبه بقوله له: وإنك لعلى خلق عظيم. وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بعثت لأتمم حسن الخلق)) (¬2). رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، ورواه الإمام مالك في الموطأ. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال)) (¬3)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (6203)، ومسلم (659). (¬2) رواه أحمد (2/ 381) (8939)، والحاكم (2/ 670)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (273) بلفظ: ((صالح الأخلاق)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 191): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 69): صحيح على شرط مسلم. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2584). (¬3) رواه البغوي في ((شرح السنة)) (13/ 202). وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (2087). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 37).

موقف أعداء المسلمين من الأخلاق الإسلامية

موقف أعداء المسلمين من الأخلاق الإسلامية أدرك أعداء المسلمين الحقائق عن مكارم الأخلاق، فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين بكل ما أوتوا من مكر ودهاء، وبكل ما أوتوا من وسائل مادية وشياطين إغواء، ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة، وليفتتنوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء وثمراً وماء. إن أعداء المسلمين قد عرفوا أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد القوة، فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الفساد والفتنة. ولقد كان غزوهم للأخلاق الإسلامية من عدة جبهات: 1 - لقد عرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة، إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم، ويسدوا عيونه، ويقطعوا شرايينه. 2 - وعرفوا أن تفهم مصادر الشريعة الإسلامية تفهماً سليماً هو الذي يمد نبع الإيمان بما يتطلبه من معارف، فمكروا بالعلوم الإسلامية، وبالدراسات المتعلقة بها مكراً بالغاً، وذلك ما بين حجب لها تارة، وتلاعب بمفاهيمها أخرى، وتشويه لها أو جحود ومضايقة لروادها ومبلغيها، كل ذلك في حرب مستمرة لا تعرف كللاً ولا مللاً. 3 - وعرفوا قيمة الإفساد العملي التطبيقي، فوجهوا جنودهم لغمس أبناء المسلمين في بيئات مشحونة بالانحلال الخلقي، بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى، وسراية الفساد بقوة تأثير البيئة، واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الأخلاق. 4 - وعرفوا قيمة إفساد المفاهيم والأفكار، فجندوا جيوش المضللين الفكريين، الذين يحملون إلى أبناء المسلمين الأفكار والمفاهيم والفلسفات الباطلة، ضمن واردات المعارف المادية الصحيحة، ذات المنجزات الحضارية المدهشة، وعن طريق هذا الغزو الفكري الخطير يدخلون السم في الدسم. من أقوال أعداء الإسلام والمسلمين (¬1): 1 - جاء في خطاب ... (صموئيل زويمر) رئيس إرسالية التبشير في البحرين منذ أوائل القرن العشرين الميلادي، الذي خطبه في مؤتمر القدس التبشيري، الذي انعقد برئاسته سنة (1953م) ما يلي: ( ... ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلاة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً كل التهنئة ... )!! 2 - وجاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي لسنة (1923م) ما يلي: ( ... وبغية التفريق بين الفرد وأسرته عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة ... ). 3 - وجاء في البروتوكول الثاني من المقررات اليهودية السرية ما يلي: ( ... إن الطبقات المتعلمة ستختال زهواً أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافاً في مزاولة المعرفة التي حصلتها من العلم الذي قدمه إليها وكلاؤنا، رغبة في تربية عقولهم حسب الاتجاه الذي توخيناه. ولا تتصوروا أن كلماتنا جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح (دارون) و (ماركس) و (نيتشه) والأثر غير الأخلاقي لاتجاه هذه العلوم في الفكر الأممي – أي عند غير اليهود – سيكون واضحاً لنا على التأكيد)!! 4 - وجاء في البيان الشيوعي الذي أصدره معلم الشيوعية الأول اليهودي (كارل ماركس) ورفيقه (انجلز) ما يلي: (إن القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان أوهام بورجوازية تتستر خلفها مصالح بورجوازية)!! (¬2). ¬

(¬1) انظر كتاب ((أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها)) لعبد الرحمن الميداني (ص101) وكتاب ((مكايد يهودية عبر التاريخ)) له أيضاً. (¬2) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 32).

الرد على من يقول بنسبية الأخلاق

الرد على من يقول بنسبية الأخلاق في خطة خبيثة لهدم أبنية الأخلاق، أخذ فريق من الماديين الملحدين ينشرون فكرة شيطانية، يزعمون فيها أن الأخلاق أمور اعتبارية نسبية لا ثبات لها، فهي تختلف من شعب إلى شعب، ومن أمة إلى أمة، ومن زمان إلى زمان. فبعض الأمور تعتبر منافية لمكارم الأخلاق عند شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، في حين أنها غير منافية لمكارم الأخلاق عند شعب آخر أو أمة أخرى، وبعض الأمور كانت في زمان مضى أموراً منافية لمكارم الأخلاق، ثم صارت بعد ذلك أموراً غير منافية لها؛ وهذا يدل على أن الأخلاق مفاهيم اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها، وليس لمقاييسها ثبات. وحين يتبصر الباحث في أقوال هؤلاء، يستطيع أن يكتشف عناصر المغالطات التي يلتجئون إليها، للتضليل بأفكارهم؛ وهذه المغالطات ترجع إلى مد عنوان الأخلاق مداً يشمل التقاليد والعادات والآداب وبعض الأحكام الدينية التي لا علاقة لها بموضوع الأخلاق من حيث ذاتها، ومفاهيم بعض الناس للأخلاق ولأسسها، مع أنها مفاهيم غير صحيحة، إلى غير ذلك من أمور ليست هي من الأخلاق أصلاً. والغرض من ذلك استغلال أمثلة تخضع للتغير والتبدل من هذه الأمور؛ لنقض حقيقة ثبات الأخلاق بها، ثم لنقض الأخلاق نقضاً كلياً، ونقض الأسس الأخلاقية، والإقناع بأن الأخلاق أمور اعتبارية نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها ثبات في واقع حالها. وبذلك يسهل على هؤلاء المضلين إفساد الأجيال، حتى تتمرد على جميع الضوابط الأخلاقية، التي تمثل في الأمم قوى ترابطها وتماسكها، وعناصر ارتقائها الإنساني. ومنشأ المشكلة يرجع إلى الخطأ في تحديد مفهوم الأخلاق، وتحديد دوافعها وغاياتها، وتحديد مستوياتها، من قبل كثير من الناس، بما فيهم كثير من الباحثين في علم الأخلاق، من فلاسفة ومفكرين؛ وهذا هو الذي يفتح الثغرة الفكرية التي يعبر منها الخبثاء الماكرون، ليهدموا الأبنية الأخلاقية الحصينة التي تتمتع بها الشعوب العريقة بأمجادها، لاسيما المسلمون الذين سبق أن رفعتهم الأخلاق العظيمة إلى قمة مجد لم يطاولهم فيها أحد. وحين يتبصر الباحث بالأسس الأخلاقية، التي تم فيها تحديد مفهوم الأخلاق وتحديد دوافعها وغاياتها، وتحديد مستوياتها، وفق المفاهيم المقتبسة من التعاليم الإسلامية، يتبين له بوضوح تساقط أقوال الذين يزعمون أن الأخلاق نسبية أو اعتبارية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائق ثابتة، وذلك لأنه يستطيع أن يكتشف بسرعة عناصر المغالطة التي يصطنعها هؤلاء المضللون، إذ يأتون بأمثلة جزئية يزعمون أنها من الأخلاق، ثم يثبتون أنها أمور اعتبارية أو نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، ثم ينقضون بها ثبات الأخلاق نقضاً كلياً، بطريقة تعميمية لا يقبل بها العلم، حتى ولو كانت هذه الأمثلة من الأخلاق فعلاً، لأنه لا يجوز الحكم على النوع من خلال الحكم على بعض أفراده، مالم يثبت أن سائر الأفراد مشتركة بمثل الصفة التي كانت علة صدور الحكم على بعض الأفراد ... إن عمليتهم هذه قد تضمنت مغالطة مركبة تمت على مرحلتين. المرحلة الأولى: إدخال ما ليس من أفراد الأخلاق تحت عنوان الأخلاق. المرحلة الثانية: تعميم حكمهم على هذه الأفراد الدخيلة، وجعله شاملاً لجميع أفراد الأخلاق الحقيقية.

ولهؤلاء المضللين مغالطة أخرى حول الموضوع نفسه، وهي اعتمادهم على مفاهيم بعض الناس للأخلاق، واعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الأخلاق، مع أن مفاهيم الناس قد تصدق وقد تكذب، فهي لا تمثل جزءاً من حقيقة الشيء الذي هو موضوع البحث، وإنما تمثل مقدار إدراك أصحابها لحقيقة الشيء، فقد يكون هذا الإدراك مطابقاً، وقد يكون مخالفاً، وقد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، وهو لا يؤثر بحال من الأحوال على حقيقة الشيء. لقد كان للفلاسفة القدماء مفاهيم عن السماء، وهذه المفاهيم مخالفة لواقع حال السماء، ومع ذلك فلا يقبل العقل اعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة السماء. وللناس مفاهيم كثيرة باطلة عن الخالق، ولا يجوز أن تكون هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الخالق. وينكر كروية الأرض منكرون، ولكن مفاهيم هذه لا يمكن أن تجعل الأرض في واقع حالها غير كروية. وهكذا يدخل فريق من الناس في الأخلاق ما هو ليس من الأخلاق؛ كتقاليد وعادات وأحكام وضعية. ويجحد فريق من الناس بعض ما هو من الأخلاق، فيزعم أنه لا داعي للتقيد بقواعد الأخلاق فيها، فلا يؤثر هؤلاء ولا هؤلاء على الحقيقة المطلقة للأخلاق، فليست مفاهيم الناس هي التي تصنع الحقائق، وإنما وظيفتها أن تعمل على إدراك الحقائق، حتى تكون صورة مطابقة لها. قال المغالطون – الذين زعموا أن الأخلاق نسبية اعتبارية، وليس لها حقيقة مطلقة ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة -: إن مما يدل على ذلك أن بعض الشعوب ترى خروج النساء بدون حجاب عملاً منافياً للأخلاق بينما ترى شعوب أخرى أن هذا العمل أمر طبيعي لا ينافي ضوابط الأخلاق بحال من الأحوال. ويدل على ذلك أيضاً أن بعض الأمم تحرم أكل بعض أنواع من اللحوم، وتحرم شرب بعض أنواع من الأشربة، وتعتبر مخالفة ذلك عملاً منافياً للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء من ذلك محرم أو مناف للأخلاق. ويأتون أيضاً بمثال تعدد الزوجات وإباحته عند أمة وتحريمه عند أمة أخرى، وبأمثلة الطقوس السائدة في البلاد الأوقيانوسية، ومنها تحريمهم الطعام تحت سقف والمكث في المسكن إذا كان الإنسان مريضاً، وتحريمهم استعمال الأيدي في تناول الغذاء بعد فراغ الإنسان من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق، ويقولون: هذه أمور منافية للأخلاق عندهم، مع أنها عند غيرهم أمور عادية لا تنافي الأخلاق مطلقا. أليس عجيباً جداً أن يدخلوا مثل هذه الأمثلة في باب الأخلاق مع أنها في جوهرها من أبواب غير باب الأخلاق، فهي إما أحكام دينية، أو طقوس وعادات وتقاليد!! وإدخالها في باب الأخلاق خطأ فادح يجر إلى خطأ آخر أكبر منه بكثير، إنه خطأ يجعل الأخلاق أموراً نسبية اعتبارية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقيقة ثابتة في ذاتها!! وما قيمة مفاهيم الناس حول حقيقة من الحقائق، ولنفرض أن بعض الناس استحسنوا رذائل الأخلاق، ولم يجدوا أي رادع من ضمائرهم يردعهم عنها، فمارسوا الظلم بمثل الجرأة التي يمارسون بها العدل، ومارسوا الخيانة بمثل الجرأة التي يمارسون بها الأمانة، ومارسوا قسوة القلب بمثل الجرأة التي يمارسون بها الشفقة والرحمة، ومارسوا الكذب الضار بمثل الجرأة التي يمارسون بها الصدق النافع؛ أفيغير ذلك واقع حال الرذائل فيجعلها من قبيل الفضائل؟! كم نشاهد من شعوب تألف القذارات وتعيش فيها ولا تشعر بأنها تعمل عملاً غير مستحسن أو غير جميل، فهل تغير مفاهيمهم من واقع حال القذارة القبيح شيئاً؟! إن فساد مفاهيم الناس حول حقيقة من حقائق المعرفة لا يغير من واقع حال هذه الحقيقة شيئاً، وجميع حقائق المعرفة تتعرض لمشكلة فساد مفاهيم الناس عنها، وفساد تصور الناس لها.

إن موضوع حجاب المرأة وسفورها، أمر لا علاقة له بالأخلاق من حيث ذاته، إنما هو في حدوده الشرعية حكم ديني يهدف إلى تحقيق مصالح دينية واجتماعية يقصدها الشارع، فإدخالهم هذا الحكم في موضوع الأخلاق جزء من عناصر المغالطة أو من عناصر الغلط إذا حسنا الظن. وكذلك موضوع الأطعمة والأشربة، فهو غير ذي علاقة بالأخلاق، وأحكام الأطعمة والأشربة أحكام دينية تهدف إلى تحقيق مصالح دينية وصحية يقصدها الشارع، فإدخالهم هذه الأحكام في موضوع الأخلاق جزء من عناصر المغالطة، أو من عناصر الغلط إذا حسنا الظن. ونظير ذلك سائر الأمثلة التي أوردوها لنقض ثبات الأخلاق، إنها أمثلة من العادات والتقاليد الاجتماعية، أو من الظواهر الجمالية الأدبية، أو من الأحكام المدنية، أو من الأحكام الدينية لدين صحيح أو لدين وضعي من وضع البشر، ونحو ذلك، وليست في حقيقة ذاتها من الأخلاق. ويوجد سبب ثالث للخطأ الذي يقع فيه الباحثون في علم الأخلاق، هو اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، ونسبوا إلى هذا المقياس العصمة عن الخطأ، مع أنه مقياس غير كاف وحده، فقد يخطئ، وقد يصاب عند بعض الناس بعلة من العلل المرضية، فيعشى أو يعمى أو تختل عنده الرؤية، فيصدر أحكاماً فاسدة. ومما سبق يتضح لنا أن أسباب الغلط أو المغالطة عند أصحاب فكرة نسبية الأخلاق، ترجع إلى ثلاثة: الأول: تعميمهم اسم الأخلاق على أنواع كثيرة من السلوك الإنساني، فلم يميزوا الظواهر الخلقية، عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدينة أو الدينية البحتة، فحشروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية نسبية. الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدراً يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أن في كثير من هذه المفاهيم أخطاء فادحة، وفساداً كبيراً، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضاً إلى أمور أخرى غير ذلك، والتحري العلمي يطلب من الباحثين أن يتتبعوا جوهر الحقيقة، حيث توجد الحقيقة، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يثبتها مثبتون، وينكرها منكرون، ويتشكك بها متشككون، ويتلاعب فيها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها. الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق. أما مفاهيم الإسلام فإنها .... قد ميزت الأخلاق عما سواها، وميزت السلوك الأخلاقي عن سائر أنواع السلوك الإنساني، فلم تعمم تعميماً فاسداً، ولم تدخل في مفردات الأخلاق ما ليس منها، وهي أيضاً لم تعتمد على مفاهيم الناس المختلفة، ولم تتخذها مصدراً يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، وأما العقل والضمير فإنها لم تهملهما وإنما قرنتهما بعاصم يردهما إلى الصواب كلما أخطأ سبيل الحق والهداية والرشاد، وهذا العاصم هو الوحي الذي نزل بدين الله لعباده، وشرائعه لخلقه، وتعاليمه التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها تنزيل من عزيز حكيم، وقد بلغها رسله. أما صورتها المثلى المحفوظة من التغيير فهي ما ثبت في نصوص الشريعة الإسلامية، المنزلة على رسول الله محمد صلوات الله وسلاماته عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

فمن تبصر بالأصول العامة للأخلاق في المفاهيم الإسلامية، وتبصر بأن الأخلاق الإسلامية مقترنة بالوصايا والأوامر والنواهي الربانية، وتبصر بأن هذه الوصايا والأوامر والنواهي محفوفة بقانون الجزاء الإلهي بالثواب العقاب، فإنه لابد أن يظهر له بجلاء أن الأخلاق الإسلامية هي حقائق في ذاتها، وهي ثابتة مادام نظام الكون ونظام الحياة ونظام الخير والشر أموراً مستمرة ثابتة، وهي ضمن المفاهيم الإسلامية الصحيحة غير قابلة للتغير ولا للتبدل من شعب إلى شعب، ولا من زمان إلى زمان. أما الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة، وهي لا تتواضع فيما بينها على مفاهيم تخالف المفاهيم التي بينها الإسلام، والتي أوضحها في شرائعه ووصاياه. وإذا رجعنا إلى مفردات الأخلاق الإسلامية وجدنا أن كل واحدة منها – ضمن شروطها وقيودها وضوابطها – ذات حقيقة ثابتة، وهي غير قابلة في المنطق السليم للتحول من حسن إلى قبيح، أو من قبيح إلى حسن. إن حسنها حسن في كل زمان، وقبيحها قبيح في كل زمان، ولا يؤثر على حقيقتها أن تتواضع بعض الأمم على تقبيح الحسن منها، أو تحسين القبيح، تأثراً بالأهواء، أو بالشهوات، أو بالتقاليد العمياء. إن الإسلام يقرر أن حب الحق وكراهية الباطل فضيلة خلقية، ويقرر أن كراهية الحق وحب الباطل رذيلة خلقية، فهل يشك أحد سوى عاقل في أن هذه الحقيقة حقيقة ثابتة غير قابلة للتحول ولا للتغير، وإن تواضع على خلافها جماعة ذات أهواء؟! وهكذا سائر الأمثلة الأخلاقية الإسلامية. أما طريقة دهاة التضليل لهدم الأبنية الأخلاقية فهي تتلخص بما يلي: 1 - أن يقنعوا الأجيال بأن الأخلاق نسبية اعتبارية لا ثبات لها، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، فهي خاضعة للتبدل والتغير. 2 - أن يستغلوا بخبث بعض النظيرات الفلسفية التي من شأنها تقليل قيمة الأخلاق في نفوس الناس، إذ تقيمها على أسس واهنة ضعيفة، أو على شفا جرف هار!! ومتى قامت في نفوس الناس على مثل ذلك تداعت الأبنية الأخلاقية التقليدية، ثم انهارت، وحلت محلها أنانيات فوضوية، تعتمد على القوة والحيلة، والإباحية المطلقة لكل شيء مستطاع، فلا خير إلا ما تدعمه القوة، ولا شر إلا ما تضعف القوة عن تحقيقه. 3 - أن يلفقوا من عند أنفسهم نظريات فلسفية يخدعون بها الناس، لاسيما الناشئون منهم، ويستغلون فيهم رغبات المراهقة بالتمرد على الحق والواجب، تطلعاً لمجد موهوم، وقد تطول فترة المراهقة عند بعض الناشئين، حتى تكتسح عمر الشباب منهم، وجزءاً من عمر الكهولة، وسبب ذلك الاستسلام التام لعواطف طور المراهقة، ووجود المغذيات الشيطانية الخبيثة، وضعف التربية الإسلامية أو انعدامها. ومتى وجدت هذه الظروف المواتية لنمو الشر، فليس من البعيد أن يصير الإنسان شيخاً في سنه وجسمه ويبقى مراهقاً في عقله ونفسه. 4 - اتخاذ الوسائل العملية التطبيقية لإفساد أخلاق الأمم، وأهمها الغمس في بيئات موبوءة بالأخلاق الفاسدة، حتى تكون الانحرافات عادات مستطابات (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 91) بتصرف.

أحاديث لا أصل لها أو موضوعة في الأخلاق

أحاديث لا أصل لها أو موضوعة في الأخلاق زعم بعض الناس أن مكارم الأخلاق تثبت بالأحاديث الضعيفة لأنها من باب الفضائل وهذا الظن مردود في غير هذا الموضع، ولكن الذي يثير المسلم غضباً لله ورسوله أن يصبح هؤلاء القوم يكتالون الأحاديث الواهية من كل حدب وصوب حتى أنهم روجوا أحاديث لا أصل لها أو موضوعة أو ضعيفة جداً، ودونك بعضها لتحذرها وتحذر منها لئلا يقع المسلمون في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬1) 1 - ((سوء الخلق ذنب لا يغفر، وسوء الظن خطيئة تفوح)) (¬2) 2 - ((تخلقوا بأخلاق الله)) (¬3) 3 - ((أفضل الأعمال الصلاة لوقتها، وخير ما أعطي الإنسان حسن الخلق؛ إن حسن الخلق خلق من أخلاق الله)). (¬4) 4 - ((إن أحسن الحسن الخلق الحسن)). (¬5) 5 - ((ثلاث من أخلاق الإيمان: من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق، ومن إذا قدر لم يتعاط ما ليس له)). (¬6) 6 - ((سوء الخلق شوم وشراركم أسوؤكم خلقا)). (¬7) 7 - ((ليس من أخلاق المؤمن الملق، إلا في طلب العلم)). (¬8) 8 - ((التوكؤ على عصا من أخلاق الأنبياء، كان لرسول الله عصا يتوكأ عليها، ويأمرنا بالتوكؤ عليها)). (¬9) 9 - ((لا تطغوا على أهل الصوف والخرق؛ فإن أخلاقهم أخلاق الأنبياء، ولباسهم لباس الأنبياء)). (¬10) 10 - ((ما من شيء إلا له توبة، إلا صاحب سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا عاد في شر منه)). (¬11) 11 - ((الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)). (¬12) 12 - ((مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في إبنه، وتكون في الابن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، فقسمها الله عز وجل لمن أراد السعادة: صدق الحديث، وصدق البأس، وحفظ اللسان، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم من الجار، والتذمم للصاحب، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء)). (¬13) ¬

(¬1) ((مكارم الأخلاق)) لسليم الهلالي (ص: 68). (¬2) باطل لا أصل له: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (125). (¬3) لا أصل له: انظر ((تلبيس الجهمية لابن تيمية)) (6/ 518). ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (2822). (¬4) موضوع: انظر ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 524) (¬5) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (768). (¬6) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (541). (¬7) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (795). (¬8) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (381). (¬9) موضوع: انظر ((الكامل في الضعفاء لابن عدي)) (8/ 101) ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (916). (¬10) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (6017). (¬11) موضوع: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (126). (¬12) ضعيف جدا: انظر ((سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (441). (¬13) ضعيف جدا: انظر ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (ص: 719).

الأخلاق المحمودة

معنى الإحسان لغة واصطلاحاً معنى الإحسان لغة: الإحسان ضد الإساءة. والحَسَنَةُ ضِدُّ السَّيِّئَةِ. يقال رجل مُحْسِنٌ ومِحْسانٌ. ويقالُ: أَحْسِنْ يا هذا فإِنَّك مِحْسانٌ، أَي لا تَزالُ مُحْسِناً (¬1). معنى الإحسان اصطلاحا: (الإحسان نوعان: - إحسان في عبادة الخالق: بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها. - وإحسان في حقوق الخلق) (¬2). (والإحسان إلى الخلق: هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك) (¬3). وقال الجرجاني: (الحسن هو كون الشيء ملائما للطبع كالفرح وكون الشيء صفة الكمال كالعلم وكون الشيء متعلق بالمدح كالعبادات وهو ما يكون متعلق المدح في العاجل والثواب في الآجل) (¬4). ¬

(¬1) ((تاج العروس)) للزبيدي (34/ 422). بتصرف. (¬2) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص204). (¬3) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص206). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص87).

الفرق بين الإحسان وبعض الصفات

الفرق بين الإحسان وبعض الصفات الفرق بين الحسن والحسنة والحسنى: (والفرق بين الحسن والحسنة والحسنى أن الحسن: يقال في الأعيان والأحداث. وكذلك الحسنة: إذا كانت وصفا، وإذا كانت اسما فمتعارف في الأحداث. والحسنى: لا يقال إلا في الأحداث دون الأعيان. والحسن: أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر، يقال: رجل حسن وحسان، وامرأة حسناء وحسانة) (¬1). الفرق بين الإحسان والإنعام: (أَن الإحسانَ يكون لنفسِ الإنسان ولغيره تقول أَحْسَنْتُ إلى نفسي والإنعامُ لا يكون إلا لغيره) (¬2). الفرق بين الإحسان والإفضال: (أن الإحسان: النفع الحسن. والإفضال: النفع الزائد على أقل المقدار وقد خص الإحسان بالفضل ولم يجب مثل ذلك في الزيادة لأنه جرى مجرى الصفة الغالبة كما اختص النجم بالسماك ولا يجب مثل ذلك في كل مرتفع) (¬3). الفرق بين الإحسان والفضل: (أن الإحسان قد يكون واجبا وغير واجب. والفضل لا يكون واجبا على أحد وإنما هو ما يتفضل به من غير سبب يوجبه) (¬4). ¬

(¬1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص236). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 114). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 23). (¬4) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 24).

الأمر بالإحسان والترغيب فيه من القرآن والسنة

الأمر بالإحسان والترغيب فيه من القرآن والسنة الأمر بالإحسان والترغيب فيه من القرآن الكريم: - وقال سبحانه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] قال السعدي: (العدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره وخص الله إيتاء ذي القربى -وإن كان داخلا في العموم- لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم، والحرص على ذلك. ويدخل في ذلك جميع الأقارب قريبهم وبعيدهم لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر) (¬1). - وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [البقرة: 83] أي: (أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين، أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان، والأمر بالشيء نهي عن ضده. وللإحسان ضدان: الإساءة، وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة، وهذا محرم، لكن لا يجب أن يلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى، والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد، بل تكون بالحد. ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار) (¬2). - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 178] - وقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77] قال الشوكاني: في تفسير قوله: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (أي: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا) (¬3). - وقال عز من قائل: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 447). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 57). (¬3) ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 261).

قال ابن القيم: (وقوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم فإن الله تعالى هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمانه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة. وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) (¬1) (¬2). الأمر بالإحسان والترغيب فيه من السنة النبوية: - عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته)) (¬3) قال المباركفوري: (أي إلى كل شيء أو على بمعنى في أي أمركم بالإحسان في كل شيء، والمراد منه العموم الشامل للإنسان حيا وميتا. قال الطيبي: أي أوجب مبالغة لأن الإحسان هنا مستحب وضمن الإحسان معنى التفضل وعداه بعلى. والمراد بالتفضل إراحة الذبيحة بتحديد الشفرة وتعجيل إمرارها وغيره. وقال الشمني على هنا بمعنى اللام متعلقة بالإحسان ولا بد من على أخرى محذوفة بمعنى الاستعلاء المجازي متعلقة بكتب، والتقدير كتب على الناس الإحسان لكل شيء) (¬4). - عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية، قال: ((من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر)) (¬5). - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله. قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/ 17 - 18). (¬3) رواه مسلم (1955). (¬4) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (4/ 664 - 665). (¬5) رواه البخاري (6921)، ومسلم (120). (¬6) رواه مسلم (2549).

- وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص؛ قال: حدثني أبي، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ. فذكر في الحديث قصة فقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا. فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)) (¬1). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سمعت جيرانك يقولون: أن قد أحسنت فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (1163)، وابن ماجه (1851)، والنسائي في ((الكبرى)) (8/ 264). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 179)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7880). (¬2) رواه ابن ماجه (4223)، وأحمد (1/ 402) (3808)، وابن حبان (2/ 285) (526). وجود إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 112)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 274): رجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (5/ 309).

أقوال السلف والعلماء في الإحسان

أقوال السلف والعلماء في الإحسان - قال ابن عيينة: (سئل علي رضي الله عنه عن قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90] فقال: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضّل) (¬1). - وقرأ الحسن البصري (هذه الآية إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90] الآية ثم وقف فقال إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة فوالله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة الله عز وجل إلا جمعه ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه) (¬2). - وقال ابن القيم: (مفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده) (¬3). - وقال أيضاً: (فإن الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه فالجبن ترك الإحسان بالبدن والبخل ترك الإحسان بالمال) (¬4). - وقال في موضع آخر: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإحسان؛ وهي لب الإيمان وروحه وكماله وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها وكل ما قيل من أول الكتاب إلى هاهنا فهو من الإحسان) (¬5) - وقال رجلٍ لبعض السلطان: (أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسطت القدرة بين يديه؛ فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما عليك من الحق) (¬6) ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 291). (¬2) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 158). (¬3) ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص66). (¬4) ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص460). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 319). (¬6) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة الدينوري (3/ 20).

أقسام الإحسان

أقسام الإحسان الإحسان ينقسم إلى نوعين: النوع الأول إحسان في عبادة الله. النوع الثاني: الإحسان إلى عباد الله وهو على قسمين: (أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق) (¬1). (بأن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافيا. قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. [النساء: 36]. فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء) (¬2). قال ابن رجب في شرحه لحديث ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... )) (¬3): (وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب. والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. فهذا القدر من الإحسان فيها واجب. وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع. والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب. والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأوحاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النوع هو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) (¬4) والقتلة والذبحة بالكسر، أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل. وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه. وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، وقال تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12]. وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام دون الدماغ) (¬5). (والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون، ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان) (¬6). ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص204). (¬2) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص204). (¬3) رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 382 - 383). (¬6) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص205).

آثار وفوائد الإحسان

آثار وفوائد الإحسان 1 - (للإحسان ثمرة عظيمة تتجلى في تماسك بنيان المجتمع وحمايته من الخراب والتهلكة ووقايته من الآفات الاجتماعية الناجمة عن الخلل الاقتصادي. 2 - الإحسان هو المقياس الذي يقاس به نجاح الإنسان في علاقته بالحياة - وهي علاقة ابتلاء. 3 - المحسن يكون في معية الله عز وجل، ومن كان الله معه فإنه لا يخاف بأسا ولا رهقا. 4 - المحسن يكتسب بإحسانه محبة الله عز وجل. 5 - إذا أحب الله العبد جعله محبوبا من الناس، وعلى ذلك فالمحسنون أحباء للناس يلتفون حولهم ويدافعون عنهم إذا أحدق بهم الخطر. 6 - للمحسنين أجر عظيم في الآخرة حيث يكونون في مأمن من الخوف والحزن. 7 - من ثمرات الإحسان التمكين في الأرض. 8 - المحسن قريب من رحمة الله عز وجل. 9 - للمحسن البشرى بخيري الدنيا والآخرة. 10 - الإحسان هو وسيلة المجتمع للرقي والتقدم، وإذا كان صنوه أي العدل وسيلة لحفظ النوع البشري فإن الإحسان هو وسيلة تقدمه ورقيه لأنه يؤدي إلى توثيق الروابط وتوفير التعاون. 11 - الإحسان وسيلة لحصول البركة في العمر والمال والأهل. 12 - الإحسان وسيلة لاستشعار الخشية والخوف من الله تعالى، كما أنه وسيلة لرجاء رحمته عز وجل. 13 - الإحسان وسيلة لإزالة ما في النفوس من الكدر وسوء الفهم وسوء الظن ونحو ذلك. 14 - الإحسان وسيلة لمساعدة الإنسان على ترك العجب بالنفس لما في الإحسان من نية صادقة. 15 - الإحسان طريق ييسر لصاحبه طريق العلم ويفجر فيه ينابيع الحكمة. 16 - الدفع بالحسنة- وهي إحدى صور الإحسان- يقضي على العداوات بين الناس ويبدلها صداقة حميمة ومودة رحيمة وتنطفئ بذلك نار الفتن وتنتهي أسباب الصراعات، أما الدفع بالسيئة، أي مقابلة السيئة بمثلها فإنه يؤدي إلى تدهور العلاقات وإشعال نيران الفتن وتفاقم أسباب الصراع ويهبط بالنوع البشري إلى حضيض التخلف ويعرض بقاءه لخطر الفناء. 17 - إذا اقترن إسلام الوجه لله بالإحسان فإن ذلك يثمر الاستمساك بالعروة الوثقى التي يرجى معها خير الدنيا والآخرة، أي أن المحسن يحتاط لنفسه بأن يستمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. 18 - لبعض أنواع الإحسان ثمار خاصة تعود على المحسن بالخير العميم في الدنيا والآخرة، فمن ذلك: أ- إحسان المرء وضوءه وخشوعه وركوعه يكفر السيئات الماضية، ويستمر التكفير ما استمر الإحسان. ب- إحسان المرء إلى جاره علامة صادقة على حسن إسلامه. ج- إحسان المرء في تربية بناته والسعي على رزقهن يجعل من هذه البنات سترا له من النار. د- في الإحسان إلى النساء في الكسوة والطعام وما أشبه ذلك قيام بحقهن يثمر الترابط الأسري، ويحقق الاستقرار العائلي) (¬1). 19 - الإحسان بعبادة الخالق يمنع عن المعاصي. قال ابن القيم: (فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه عن المعاصي، فإن من عبد الله كأنه يراه، لم يكن كذلك إلا لاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلا عن مواقعتها، فإذا خرج من دائرة الإحسان، فاته صحبة رفقته الخاصة، وعيشهم الهنيء، ونعيمهم التام، فإن أراد الله به خيرا أقره في دائرة عموم المؤمنين) (¬2). 20 - الإحسان إلى الناس سبب من أسباب انشراح الصدر: ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من المؤلفين (2/ 91). (¬2) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص55 - 56).

الذي يحسن على الناس ينشرح صدره ويشعر بالراحة النفسية، وقد ذكر ابن القيم في (زاد المعاد) أن الإحسان من أسباب انشراح الصدر فقال: (الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا وأنكدهم عيشا وأعظمهم هما وغما) (¬1). 21 - الإحسان إلى الناس يطفئ نار الحاسد. (إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 - 36] وقال أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص: 54]. وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬2) كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه أحدها عفوه عنهم والثاني استغفاره لهم الثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون الرابع استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال اغفر لقومي كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي هذا غلامي هذا صاحبي فهبه لي واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال ((لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)) (¬3) هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه) (¬4). ¬

(¬1) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (2/ 22). (¬2) رواه البخاري (3477) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/ 243 - 244).

صور الإحسان

صور الإحسان قبل أن نفصل في صور الإحسان يحسن بنا أن نورد فيه كلاما مجملا للشيخ أبي بكر الجزائري قال: (والإحسان في باب العبادات أن تؤدى العبادة أيا كان نوعها من صلاة أو صيام أو حج أو غيرها أداء صحيحا, باستكمال شروطها وأركانها, واستيفاء سننها وآدابها, وهذا لا يتم للعبد إلا إذا كان شعوره قويا بمراقبة الله عز وجل حتى كأنه يراه تعالى ويشاهده، أو على الأقل يشعر نفسه بأن الله تعالى مطلع عليه، وناظر إليه, فبهذا وحده يمكنه أن يحسن عبادته ويتقنها, فيأتي بها على الوجه المطلوب, وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬1). وفي باب المعاملات فهو للوالدين ببرهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكف الأذى عنهما، والدعاء والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما. وهو للأقارب ببرهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يجمل فعله معهم وترك ما يسيء إليهم. وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم. وهو للمساكين بسد جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدرائهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النفع إليهم بما يستطيع وهو لابن السبيل بقضاء حاجته, وسد خلته, ورعاية ماله, وصيانة كرامته, وبإرشاده إن استرشد, وهدايته إن ضل. وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجف عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق, وبصون كرامته، واحترام شخصيته. وهو لعموم الناس بالتلطف في القول لهم, ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النفع إليهم، وكف الأذى عنهم. وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه ما لا يطيق وحمله على ما لا يقدر، وبالرفق به إن عمل، وإراحته إن تعب. وهو في الأعمال البدنية بإجادة العمل، وإتقان الصنعة، وبتخليص سائر الأعمال من الغش، وهكذا) (¬2). انتهى كلام الشيخ الجزائري وقد ذكر صور عدة للإحسان وإليك تفاصيل هذه الصور: 1 - الإحسان في عبادة الله: (والإحسان في عبادة الله له ركن واحد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مرتبة الإحسان على درجتين، وأن المحسنين في الإحسان على درجتين متفاوتتين، الدرجة الأولى: وهي ((أن تعبد الله كأنك تراه)) (¬4). الدرجة الثانية: أن تعبد الله كأنه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثانية، وهي أن تعبد الله كأنه يراك. فالأولى عبادة رغبة وطمع، والثانية عبادة خوف ورهب) (¬5). 2 - الإحسان إلى الوالدين: جاءت نصوص كثيرة تحث على حقوق الوالدين وبرهما والإحسان إليهما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] ¬

(¬1) رواه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((منهاج المسلم)) لأبي بكر الجزائري (ش169 - 171). (¬3) رواه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((أعمال القلوب)) لسهل بن رفاع العتيبي (1/ 58). بتصرف.

قال القرطبي: (قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (¬1). وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها. قال قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) (¬2). قال الإمام الرازي: (أجمع أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين والإحسان إليهما إحسانا غير مقيد بكونهما مؤمنين لقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] [النساء:36] و [الأنعام:151] و [الإسراء:23]) (¬3). 3 - الإحسان إلى الجار: عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)) (¬4). 4 - الإحسان إلى اليتامى والمساكين: ومن الإحسان إلى اليتامى والمساكين المحافظة على حقوقهم والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومد يد العون لهم قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [البقرة: 83]. (فإن الإحسان إليهم والبر بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم من أزكى القربات بل إن العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادة: فعن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه فقال: ((امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)) (¬5). وفي رواية: أن رجلا جاءه يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)) (¬6). وذلك أن القلب يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم والتي تصبح وتمسى وهي لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة ونعمها الباهرة والمترفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير لأن الملذات التي تُيسر لهم تغلف أفئدتهم وتطمس بصائرهم فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألم وحزن المحزون والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة والمشاعر المرهفة عندما ينقلبون في أحوال الحياة المختلفة ويبلون مس السراء والضراء .. عندئذ يحسون بالوحشة مع اليتيم وبالفقدان مع الثكلى وبالتعبة مع البائس الفقير) (¬7). 5 - الإحسان في المعاملة: ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 183). (¬2) رواه البخاري (26)، ومسلم (85). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 259). (¬4) رواه مسلم (48) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) رواه أحمد (2/ 387) (9006). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 316) والهيثمي في ((المجمع)) (8/ 163): رجاله رجال الصحيح. وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2545). (¬6) ذكره المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 237) وقال: رواه الطبراني من رواية بقية وفيه راو لم يسم. (¬7) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 193).

(قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعا، والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجارة مجرى سلامة رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة. ولا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] وقال عز وجل: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90] وقال سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وينال المعامل رتبة الإحسان بواحد من ستة أمور: الأول: في المغابنة فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ولكن يراعى فيه التقريب، ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحا كثيرا وبه تظهر البركة. الثاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعاما من ضعيف أو شيئا من فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل ويكون به محسنا وداخلا في قوله عليه السلام: رحم الله سهل البيع وسهل الشراء (¬1)، وأما احتمال الغبن من الغني فليس محمودا بل هو تضييع مال من غير أجر ولا حمد، وكان كثير من السلف يستقصون في الشراء ويهبون من ذلك الجزيل من المال، فقيل لبعضهم في ذلك فقال: إن الواهب يعطي فضله، وإن المغبون يغبن عقله. الثالث: في استيفاء الثمن وسائر الديون والإحسان فيه مرة بالمسامحة وحط البعض ومرة بالإمهال والتأخير ومرة بالمساهلة في طلب جودة النقد، وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه، وفي الخبر: من أقرض دينارا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله، فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة (¬2)، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلا بدين فأومأ إلى صاحب الدين بيده أي: ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: قم فأعطه. (¬3). الرابع: في توفية الدين، ومن الإحسان فيه حسن القضاء وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه فقد قال صلى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء، ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر إليه ولو قبل وقته، وإن عجز فلينو قضاءه مهما قدر، ومهما كلمه مستحق الحق بكلام خشن فليتحمله وليقابله باللطف اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لما ردد عليه كلامه صاحب الدين فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (¬4)، ومن الإحسان أن يميل الحكم إلى من عليه الدين لعسره. ¬

(¬1) رواه البخاري (2076) بلفظ: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (6/ 107) بلفظ: (رحم الله سهل الشراء، سهل القضاء، سهل التقاضي) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. (¬2) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (2/ 81). (¬3) رواه البخاري (471)، ومسلم (1558) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2306)، ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الخامس: أن يقيل من يستقيله فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع، ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، وفي الخبر من أقال نادما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة (¬1). السادس: أن يقصد في معاملته جماعة من الفقراء بالنسيئة وهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم يظهر لهم ميسرة، وكان من السلف من يقول لفقير: خذ ما تريد فإن يسر لك فاقض وإلا فأنت في حل منه وسعة) (¬2). 6 - الإحسان إلى المسيء: (ومن أجل أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل. قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35] ومن كانت طريقته الإحسان أحسن الله جزاءه: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]) (¬3). قال ابن القيم: (ومن أعظم أنواع الإحسان والبر أن يحسن إلى من أساء ويعفو عمن ظلم ويغفر لمن أذنب ويتوب على من تاب إليه) (¬4). وذكر الهروي أن من منازل إياك نعبد وإياك نستعين (الفتوة) وقال: (هي على ثلاث درجات، الدرجة الأولى ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان الأذية. والدرجة الثانية أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كظماً، ومودة لا مصابرة) (¬5). قال ابن القيم في ذلك: (هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين فخطتك: الإحسان. وخطته: الإساءة. وفي مثلها قال القائل: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها بعينها) (¬6). 7 - الإحسان في الكلام: قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] قال ابن كثير: (يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها) (¬7). 8 - الإحسان في الجدال: يقول الله تبارك وتعالى: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] قال الشوكاني: (أي: بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً، وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً) (¬8). 9 - الإحسان إلى الحيوان: ¬

(¬1) رواه ابن حبان (11/ 404) (5029)، والبزار (15/ 374) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وضعفه الدارقطني في ((لسان الميزان)) في (6/ 100). وقال ابن حجر في ((لسان الميزان)) (3/ 159): [فيه] الحسين بن حميد الخزاز قال ابن عدي: هو متهم فيها. وقال الشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/ 139): صححه جماعة من الحفاظ. (¬2) ((موعظة المؤمنين)) لجمال الدين القاسمي (ص 116). (¬3) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص206). (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/ 259). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 139). (¬6) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 139). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 87). (¬8) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 287).

ومن الإحسان إلى الحيوان، إطعامه والاهتمام به، وحد الشفرة عند ذبحه، وأن لا يحد الشفرة أمامه، وعدم الحمل إليه أكثر من طاقته. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ... )) (¬1) وكره أبو هريرة أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته فقال له صلى الله عليه وسلم: ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها (¬2) وكان عمر بن الخطاب ينهى أن تذبح الشاة عند الشاة (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((في كل كبد رطبة أجر)) (¬4). قال النووي: (معناه في الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه أجر، وسمي الحي ذا كبد رطبة، لأن الميت يجف جسمه وكبده. ففي الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله. فأما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن. وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضا بإطعامه وغيره سواء كان مملوكا أو مباحا، وسواء كان مملوكا له أو لغيره) (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل خشاش الأرض (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (1955). (¬2) رواه الحاكم (4/ 257)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (19141) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي في ((التلخيص))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (667). ورواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (4/ 493) من حديث عكرمة. (¬3) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (4/ 493). (¬4) رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 347). (¬6) رواه البخاري (3482)، ومسلم (2242) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

الأمثال في الإحسان

الأمثال في الإحسان 1 - اُسْقِ رَقَاشِ إِنَّها سَقَّايَة: يضرب في الإحسان إلى المحسن (¬1). 2 - إنَّما يَجْزِي الفَتى ليْسَ الجَمَل: ومعناه إنما يجزي على الإحسان بالإحسان من هو حر وكريم فأما من هو بمنزلة الجمل في لؤمه وموقه فإنه لا يوصل إلى النفع من جهته إلا إذا اقتسر وقهر (¬2). 3 - إنَّما هُوَ كَبَارحِ الأَرْوَى قَلِيلاً ما يُرى: وذلك أن الأرْوَى مساكنُها الجبالُ فلا يكاد الناس يرونها سانحةً ولا بارحةً إلا في الدهر مرة. يضرب لمن يرى منه الإحسان في الأحايين (¬3). 4 - جَزَيْتُهُ كَيْلَ الصَّاعِ بِالصّاعِ: إذا كافأتَ الإحسانَ بمثله والإساءةَ بمثلها (¬4). 5 - وَجْدْتُ النَّاسَ إنْ قارضْتُهُمْ قارَضُوكَ: أي: إن حسنت إليهم أحسنوا إليك وإن أسأت فكذلك (¬5). 6 - إنَّ الكَذُوبَ قَدْ يَصْدُقُ: قال أبو عبيد: هذا المثل يضرب للرجل تكون الإساءة الغالبةَ عليه ثم تكون منه الهَنَةُ من الإحسان (¬6). ¬

(¬1) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 333). (¬2) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 57). (¬3) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 25). (¬4) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 168). (¬5) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (2/ 366). (¬6) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 17).

الإحسان في واحة الشعر ..

الإحسان في واحة الشعر .. قال أبو الفتح البستي: زيادةُ المرءِ في دنياهُ نقصانُ ... وربحهُ غيرَ محضِ الخير خسرانُ أحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ ... فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً ... إليه والمالُ للإنسانِ فتانُ أَحْسِنْ إِذا كانَ إِمكانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فلن يدومَ على الإِنسانِ إِمكانُ حياكَ من لم تكن ترجو تحيتهُ ... لولا الدراهمُ ما حياكَ إِنسانُ وقال المتنبي: وَللتَّرْكُ للإِحسانِ خيرٌ لمحسنٍ ... إِذا جَعَلَ الإحسانَ غيرَ ربيبِ وقال أبو الفتح البستي: إن كنتَ تطلبُ رتبةَ الأشرافِ ... فعليكَ بالإِحسانِ والإِنصافِ وإِذا اعتدى خِلٌ عليكَ فخلِّهِ ... والدهرُ فهو له مكافٍ كافِ وقال أحمد الكيواني: من يغرسِ الإحسانَ يجنِ محبةً ... دونَ المسيءِ المبعد المصرومِ أقلِ العثارَ تُقَلْ ولا تحسدْ ولا ... تحقدْ فليس المرءُ بالمعصومِ وقال ابن زنجي: لا تَحْقِرَنَّ من الإِحسانِ محقرةً ... أحْسِنْ فعاقبةُ الإِحسانِ حُسناه وقال آخر: والله ما حلي الإمام بحلية ... أبهى من الإحسان والإنصاف فلسوف يلقى في القيامة فعله ... ما كان من كدر أتاه وصافي وقال أبو العتاهية: لا تمشِ في الناسِ إِلا رحمةً لهمُ ... ولا تعاملهمُ إِلا بإِنصافِ واقطعْ قوى كلِ حقدٍ أنتَ مضمرهُ ... إِن زلَّ ذو زلةٍ أو إِن هفا هافِ وارغبْ بنفسِك عما لا صلاحَ له ... وأوسعِ الناسَ من بِرٍ وإِلطافِ وإِن يكنْ أحدٌ أولاكَ صالحةً ... فكافِه فوقَ ما أولى بأضعافِ ولا تكشِّفْ مسيئاً عن إِساءته ... وصلُ حبالَ أخيكَ القاطعِ الجافي ...

الألفة

معنى الألفة لغة واصطلاحاً معنى الألفة لغة: (الْإِلْفُ بِالْكَسْرِ الْأَلِيفُ وَجَمْعُ الْأَلِيفِ: أَلَائِفُ كَتَبِيعٍ وَتَبَائِعَ وَالْأُلَّافُ: جَمْعُ آلِفٍ، وَفُلَانٌ قَدْ أَلِفَ هَذَا الْمَوْضِعَ بِالْكَسْرِ يَأْلَفُهُ إِلْفًا بِالْكَسْرِ أَيْضًا وَآلَفَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ وَيُقَالُ أَيْضًا آلَفْتُ الْمَوْضِعَ أُولِفُهُ إِيلَافًا وَآلَفْتُ الْمَوْضِعَ أُؤَالِفُهُ مُؤَالَفَة) (¬1). وقال أَبو عُبَيْدٍ: (أَلِفْتُ الشَّيْءَ وآلَفْتُه بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَزِمْتُهُ، فَهُوَ مُؤْلَفٌ ومأْلُوفٌ ... وقال أَبو زَيْدٍ: أَلِفْتُ الشيءَ وأَلِفْتُ فُلَانًا إِذَا أَنِسْتَ بِهِ، وأَلَّفْتُ بَيْنَهُمْ تأْلِيفاً إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقٍ) (¬2). معنى الألفة اصطلاحاً: الألفة: اتفاق الآراء في المعاونة على تدبير المعاش (¬3). وقال الراغب: (الإلف: اجتماع مع التئام، يقال: ألفت بينهم، ومنه: الألفة) (¬4). ¬

(¬1) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 20) (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 10) (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 34) (¬4) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص 81)

الترغيب والحث على الألفة من القرآن والسنة

الترغيب والحث على الألفة من القرآن والسنة الترغيب والحث على الألفة من القرآن الكريم: · قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]. قال الراغب الأصفهاني: (قوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا) حث على الألفة والاجتماع، الذي هو نظام الإيمان واستقامة أمور العالم، وقد فضل المحبة والألفة على الإِنصاف والعدالة، لأنه يحُتاج إلى الإِنصاف حيث تفقد المحبة. ولصدق محبة الأب للابن صار مؤتمنا على ماله، والألفة أحد ما شرف الله به الشريعة سيما شريعة الإِسلام) (¬1). · وقال تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]. قال الزمخشريّ: (كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله) (¬2). وقال السيوطي: (إذ كنتم تذابحون فيها يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام فآخى به بينكم وألف به بينكم أما والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة وإن الفرقة لعذاب) (¬3). · وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62 - 63]. قوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (فاجتمعوا وائتلفوا، وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة غير قوة الله، فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا الله تعالى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن عزته أن ألف بين قلوبهم، وجمعها بعد الفرقة) (¬4). وقال القرطبي: في قوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج. وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والمعنى متقارب) (¬5). الترغيب والحث على الألفة من السنة النبوية: إن الدين الإسلامي دين الألفة والتوادد والتعارف يحث أتباعه على الألفة والمحبة قال صلى الله عليه وسلم: - ((إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العنت، العيب)) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (2/ 765) (¬2) ((الكشاف)) للزمخشري (1/ 395) (¬3) ((الدر المنثور)) للسيوطي (2/ 287) (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 325) (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (8/ 42) (¬6) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (7/ 350) (7697) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2658).

- وعن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: ((لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (¬1). وهذا من أكبر نعم الله في بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ألف به بين قوم قويت بينهم العصبيات، وينبغي أن يكون شأن المسلم هكذا يؤلف بين المتفرقين ويأتلف حوله المحبون (¬2). - وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس (¬3). قال المناوي في شرح قوله: ((المؤمن يألف)) قال: (لحسن أخلاقه وسهولة طباعه ولين جانبه وفي رواية ألف مألوف والألف اللازم للشيء فالمؤمن يألف الخير وأهله ويألفونه بمناسبة الإيمان قال الطيبي: وقوله المؤمن ألف يحتمل كونه مصدرا على سبيل المبالغة كرجل عدل أو اسم كان أي يكون مكان الألفة ومنتهاها ومنه إنشاؤها وإليه مرجعها ((ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) لضعف إيمانه وعسر أخلاقه وسوء طباعه والألفة سبب للاعتصام بالله وبحبله وبه يحصل الإجماع بين المسلمين وبضده تحصل النفرة بينهم وإنما تحصل الألفة بتوفيق إلهي ... ومن التآلف ترك المداعاة والاعتذار عند توهم شيء في النفس وترك الجدال والمراء وكثرة المزاح) (¬4). وقال الماوردي: (بين به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة فإنه مقصود بالأذية محسود بالنعمة فإذا لم يكن ألفا مألوفا تختطفه أيدي حاسديه وتحكم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة ولم تصف له مدة وإذا كان ألفا مألوفا انتصر بالألف على أعاديه وامتنع بهم من حساده فسلمت نعمته منهم وصفت مودته بينهم وإن كان صفو الزمان كدرا ويسره عسرا وسلمه خطر) (¬5). قال الراغب الأصفهاني: (ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجماعات والجمعات، لكون ذلك سبباً للألفة، بل لذلك عظم الله تعالى المنة على المؤمنين بإيقاع الألفة بين المؤمنين ... وليس ذلك في الإنسان فقط، بل لولا أن الله تعالى ألَّف بين الأركان المتضادة، لما استقام العالم، ولذلك قال عليه السلام: ((بالعدل قامت السماوات والأرض)) (¬6) ومتى تصور هذه الجملة، علم أن الآية في نهاية الذم) (¬7). - وعن عوف بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (4330). (¬2) انظر ((هذه أخلاقنا)) لمحمود الخزندار (ص 194) (¬3) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (6/ 58) (5787)، والبيهقي في ((الشعب)) (10/ 115) (7252). (¬4) ((فيض القدير)) (6/ 329) (¬5) ((فيض القدير)) (6/ 329) (¬6) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص249). (¬7) ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (1/ 132) (¬8) رواه مسلم (1855).

إن خيار الناس في نظر الشرع هم الذين يألفون ويؤلفون، وخاصة حين يكونون في منصب أو مسؤولية، إذ قد ينزلقون إلى صور من الغلظة والجفوة حين يكونون مطلوبين لا طالبين (¬1). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) (¬2). قال القاري: (التعارف جريان المعرفة بين اثنين والتناكر ضده أي: فما تعرف بعضها من بعض قبل حلولها في الأبدان ((ائتلف)) ... أي: حصل بينهما الألفة والرأفة حال اجتماعهما بالأجساد في الدنيا ((وما تناكر منها)) أي: في عالم الأرواح ((اختلف)) أي: في عالم الأشباح، والإفراد والتذكير في الفعلين باعتبار لفظ ما، والمراد منه بطريق الإجمال والله أعلم بحقيقة الحال أن الأرواح البشرية التي هي النفوس الناطقة مجبولة على مراتب مختلفة وشواكل متباينة، وكل ما شاكل منها في عالم الأمر في شاكلته تعارفت في عالم الخلق وائتلفت واجتمعت، وكل ما كان على غير ذلك في عالم الأمر تناكرت في عالم الخلق فاختلفت وافترقت، فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب والتشابه، وبالتناكر ما بينهما من التنافر والتباين، فتارة على وجه الكمال وتارة على وجه النقصان، إذ قد يوجد كل من التعارف والتناكر بأدنى مشاكلة بينهما إما ظاهرا وإما باطنا، وبحقيقة يطول وتخاف من إعراض الملول واعتراض الفضول) (¬3). ¬

(¬1) انظر ((هذه أخلاقنا)) لمحمود الخزندار (ص 195) (¬2) رواه مسلم (2638). (¬3) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3132).

أقوال السلف والعلماء في الألفة

أقوال السلف والعلماء في الألفة - عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رجلا فقال: (إن هذا ليحبني قالوا وما علمك قال إني لأحبه والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (¬1). - وعن الأوزاعيّ قال: كتب إليّ قتادة: إن يكن الدّهر فرّق بيننا فإنّ ألفة الله الّذي ألّف بين المسلمين قريب (¬2). - وعنه أيضاً قال: (سمعت بلال بن سعد بن تميم، يقول: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا) (¬3). - وقال يونس الصدفي: (ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة) (¬4). - وقال السلمي: (وأصل التآلف هو بغض الدنيا والإعراض عنها، فهي التي توقع المخالفة بين الإخوان) (¬5). - وقال الماوردي: (الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة. فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة. فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت مدته عنهم، وإن كان صفو الزمان عسرا، وسلمه خطرا) (¬6). - وقال الْغَزالِي (الألفة ثَمَرَة حسن الْخلق والتفرق ثَمَرَة سوء الْخلق فَحسن الْخلق يُوجب التحبب والتآلف والتوافق وَسُوء الْخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتناكر) (¬7). - وقال أَبُو حاتم: (سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق هو تعارف الروحين وتناكر الروحين فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما) (¬8). - وقال أيضاً: (إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به فإذا ازداد به علما ازداد به عجبا ومنهم من يبغضه حين يراه ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا فاتفاقهما يكون باتفاق الروحين قديما) (¬9). - وقال ابن تيمية: (إن السلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعية، مع بقاء الألفة والعصمة وصلاح ذات البين) (¬10). - وقال الأبشيهي: (التآلف سبب القوة، والقوة سبب التقوى، والتقوى حصن منيع وركن شديد بها يمنع الضيم وتنال الرغائب وتنجع المقاصد) (¬11). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 108). (¬2) ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/ 101). (¬3) ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا (ص 136) (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 16) (¬5) ((آداب الصحبة)) للسلمي (ص 78). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 146). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 157). (¬8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 146). (¬9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 110). (¬10) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/ 92). (¬11) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص 130).

فوائد الألفة

فوائد الألفة 1 - قيام الألفة بين المؤمنين من أسباب النصر والتمكين. 2 - أن الألفة تجمع شمل الأمة وتمنع ذلهم. 3 - الألفة سبب للاعتصام بالله وبحبله. 4 - بسبب الألفة يحصل الإجماع بين المسلمين. 5 - (ألفة الصالحين بشارة. 6 - تحقق الاجتماع على الخير. 7 - دليل البراءة من النفاق. 8 - دليل وجود الخير فيمن يألف ويؤلف. 9 - محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. 10 - تحقق التماسك الاجتماعي وتشيع روح المودة بين المسلمين. 11 - داعية إلى التناصر وسلامة المجتمع المسلم. 12 - توفر جوا اجتماعيا سليما لنمو الإنسان المسلم نموا سليما في إطار مبادئ الإسلام. 13 - داعية إلى التوحد الاجتماعي ونبذ أسباب الفرقة والمعاداة. 14 - تشيع التعاون بين المسلمين، وفي ذلك مدعاة لرضا الله تعالى ثم رضا الناس) (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (2/ 506).

أسباب الألفة

أسباب الألفة هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى الألفة والمحبة، منها مواقف جادة وأفعال تثبت وتقوي الألفة في المجتمع المسلم فمنها: 1 - التعارف ومعاشرة الناس: قال صلى الله عليه وسلم: ((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) (¬1). 2 - التواضع: إن (خفض الْجنَاح ولين الْكَلِمَة وَترك الإغلاظ من أَسبَاب الألفة واجتماع الْكَلِمَة وانتظام الْأَمر وَلِهَذَا قيل من لانت كَلمته وَجَبت محبته وَحسنت أحدوثته وظمئت الْقُلُوب إِلَى لِقَائِه وتنافست فِي مودته) (¬2). قال ابن عثيمين: (وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيناً ليناً بالقول وبالفعل؛ لأن هذا مما يوجب المودة والألفة بين الناس، وهذه الألفة والمودة أمرٌ مطلوب للشرع، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء) (¬3). 3 - إفشاء السلام: قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) (¬4). (قال الإمام الرازي: الحكمة في طلب السلام عند التلاقي والمكاتبة دون غيرهما أن تحية السلام طلبت عند ما ذكر لأنها أول أسباب الألفة ولا السلامة التي تضمنها السلام هي أقصى الأماني فتنبسط النفس عند الاطلاع عليه أي بسط وتتفاءل به أحسن فأل) (¬5). قال ابن عثيمين: (فهذه الحقوق التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم كلها إذا قام بها الناس بعضهم مع بعض، حصل بذلك الألفة والمودة وزال ما في القلوب والنفوس من الضغائن والأحقاد) (¬6). 4 - الكلام اللين: فالكلام اللين والطيب من الأسباب التي تؤلف بين القلوب، قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]. 5 - التعفف عن سؤال الناس: قال صلى الله عليه وسلم: ((وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس)) (¬7). (السعي في مصالح الناس وقضاء حاجاتهم: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حفر ماءً لم تشرب منه كبد حري من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة)) (¬8). 6 - السعي للإصلاح بين الناس: قال تعالى: فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال: 1]. 7 - الاهتمام بأمور المسلمين والإحساس بقضاياهم: قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (¬9). 8 - زيارة المسلم وعيادته إذا مرض: ¬

(¬1) رواه البخاري (3336)، ومسلم (2638). (¬2) انظر ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (1/ 434). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 544). (¬4) رواه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334) من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه. وصححه الترمذي، وقال الحاكم (3/ 14): صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وصححه البغوي في ((شرح السنة)) (4/ 40). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 437). (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 606). (¬7) رواه ابن ماجه (4102)، والحاكم (4/ 348)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (6/ 193) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. وضعف إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 210)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (960)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (922). (¬8) رواه ابن خزيمة (2/ 269) (1292)، والبخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 332) من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (271). (¬9) رواه مسلم (2586).

فزيارة المسلم لأخيه المسلم تبعث على الحب والإخاء ولا سيما عند المرض، قال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله، ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا)) (¬1). 9 - التهادي: لا شك أن تقديم الهدية يزيد من الألفة والمحبة والتقارب بين المهدي والمهدى إليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تهادوا تحابوا)) (¬2). وقد حسر الماوردي أسباب الألفة على خمسة أسباب رئيسية: وهي: الدين والنسب والمصاهرة والمودة والبر، قال: 1 - (فأما الدين: وهو الأول من أسباب الألفة فلأنه يبعث على التناصر، ويمنع من التقاطع والتدابر. وبمثل ذلك وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فروى سفيان عن الزهري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) (¬3). وهذا وإن كان اجتماعهم في الدين يقتضيه فهو على وجه التحذير من تذكر تراث الجاهلية وإحن الضلالة. فقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعرب أشد تقاطعا وتعاديا، وأكثر اختلافا وتماديا، حتى إن بني الأب الواحد يتفرقون أحزابا فتثير بينهم بالتحزب والافتراق أحقاد الأعداء، وإحن البعداء ... 2 - وأما النسب: وهو الثاني من أسباب الألفة فلأن تعاطف الأرحام حمية القرابة يبعثان على التناصر والألفة، ويمنعان من التخاذل والفرقة، أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقيا من تسلط الغرباء الأجانب. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الرحم إذا تماست تعاطفت)) (¬4) ... 3 - وأما المصاهرة: وهي الثالث من أسباب الألفة فلأنها استحداث مواصلة، وتمازج مناسبة، صدرا عن رغبة واختيار، وانعقدا على خير وإيثار، فاجتمع فيها أسباب الألفة ومواد المظاهرة. قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] يعني بالمودة المحبة، وبالرحمة الحنو والشفقة، وهما من أوكد أسباب الألفة ... 4 - وأما المؤاخاة بالمودة، وهي الرابع من أسباب الألفة؛ لأنها تكسب بصادق الميل إخلاصا ومصافاة، ويحدث بخلوص المصافاة وفاء ومحاماة. وهذا أعلى مراتب الألفة، ولذلك آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه؛ لتزيد ألفتهم، ويقوى تظافرهم وتناصرهم ... 5 - وأما البر، وهو الخامس من أسباب الألفة فلأنه يوصل إلى القلوب ألطافا، ويثنيها محبة وانعطافا. ولذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2]. لأن في التقوى رضى الله تعالى، وفي البر رضى الناس. ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وروى الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)) (¬5). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2008)، وابن ماجه (1443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6387). (¬2) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (594)، وأبو يعلى (11/ 9) (6148)، والبيهقي (6/ 169) (11726). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 53): إسناده جيد، وحسن إسناده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 1047)، وحسنه محمد جار الله الصعدي في ((النوافح العطرة)) (108)، وقال السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (415): إسناده جيد، وقال الرباعي في ((فتح الغفار)) (3/ 1317): [روي] بإسناد حسن، وحسنه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)). (¬3) رواه البخاري (2076) ومسلم (2558) بلفظ آخر. (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 149). (¬5) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (4/ 121). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3580)، وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2625): موضوع مرفوعا وموقوفا.

الألفة في واحة الشعر ..

الألفة في واحة الشعر .. قال علي رضي الله عنه: عليك بإخوان الصفاء فإنّهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور وإنّ قليلا ألف خلّ وصاحب ... وإنّ عدوا واحدا لكثير (¬1) قال أحمد بن محمد بن بكر الأبناوي: إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف (¬2) وقال منصور بن محمد الكريزي: فما تبصر العينان والقلب آلف ... ولا القلب والعينان منطبقان ولكن هما روحان تعرض ذي لذى ... فيعرف هذا ذي فيلتقيان (¬3) وقال: محمد بن إسحاق بن حبيب الواسطي: تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتقى وخليل كذاك أمور الناس والناس منهم ... خفيف إذا صاحبته وثقيل (¬4) وقال المنتصر بن بلال الأنصاري: يزين الفتى في قومه ويشينه ... وفي غيرهم أخدانه ومداخله لكل امرئ شكل من الناس مثله ... وكل امرئ يهوى إلى من يشاكله (¬5) وقال محمد بن عبد الله بن زنجي البغدادي: إن كنت حلت وبي استبدلت مطرحا ... ودا فلم تأت مكروها ولا بدعا فكل طير إلى الأشكال موقعها ... والفرع يجري إلى الأعراق منتزعا (¬6) ... ¬

(¬1) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص 130). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 108). (¬3) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 108). (¬4) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 108). (¬5) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 109). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 109).

الأمانة

معنى الأمانة لغة واصطلاحاً معنى الأمانة لغة: الأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال: 27]، أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأحزاب: 72] (¬1). معنى الأمانة اصطلاحاً هي كل حق لزمك أداؤه وحفظه (¬2) وقيل هي: (التعفف عما يتصرف الإنسان فيه من مال وغيره وما يوثق به عليه من الأعراض والحرم مع القدرة عليه، ورد ما يستودع إلى مودعه) (¬3). وقال الكفوي في تعريف الأمانة: (كل ما افترض على العباد فهو أمانة كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين وأوكدها الودائع وأوكد الودائع كتم الأسرار) (¬4). ¬

(¬1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (1/ 133). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 288). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 24). (¬4) ((الكليات)) للكفوي (ص 269).

الترغيب في الأمانة من القرآن والسنة

الترغيب في الأمانة من القرآن والسنة الترغيب في الأمانة من القرآن الكريم: - قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]. قال ابن تيمية: (قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة) (¬1). وقال الشوكاني: (هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع؛ لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات، وقد روي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين، والأوّل أظهر، وورودها على سبب، كما سيأتي، لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أوّليا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات، وردّ الظلامات، وتحرّي العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات، والتحري في الشهادات والأخبار. وممن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، واختاره جمهور المفسرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر) (¬2). - وقال سبحانه: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283]. - وقوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 72 - 73] ¬

(¬1) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 12). (¬2) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 719).

قال السعدي في تفسيره لهذه الآية: (عظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن الله عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلكِ الثواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤديها فعليك العقاب. فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها الله على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل) (¬1). - وقال تعالى في ذكر صفات المفلحين وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] (أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية، التي لا يطلع عليها إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار) (¬2). - والقرآن حكى لنا قصة موسى حين سقى لابنتي الرجل الصالح ورفق بهما وكان معهما عفيفاً أمينا: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص: 23 - 26] الترغيب في الأمانة من السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) (¬3). قال ابن عبد البر في التمهيد: (وهذا معناه عند أهل العلم لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك والنهي إنما وقع على الابتداء أو ما يكون في معنى الابتداء كأنه يقول ليس لك أن تخونه وإن كان قد خانك كما من لم يكن له أن يخونك أولا وأما من عاقب بمثل ما عوقب به وأخذ حقه فليس بخائن وإنما الخائن من أخذ ما ليس له أو أكثر مما له) (¬4). عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي) (¬5). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 673). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 887). (¬3) رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، والدارمي (2639) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الإمام الشافعي كما في ((السنن الكبرى للبيهقي)) (10/ 271): ليس بثابت. وقال الإمام أحمد كما في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 150): باطل لا أعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وله طرق ستة كلها ضعاف. وقال أبو حاتم الرازي في ((المحرر)) (328): منكر. (¬4) ((التمهيد)) لابن عبد البر (20/ 159). (¬5) رواه البخاري (7).

- وعنه أيضاً- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (¬1). قال ابن عثيمين: (يعني إذا ائتمنه الناس على أموالهم أو على أسرارهم أو على أولادهم أو على أي شيء من هذه الأشياء فإنه يخون والعياذ بالله فهذه من علامات النفاق) (¬2). - وعنه أيضاً رضي الله عنه- قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاء أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (¬3). - وعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: ((حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة. وحدثنا عن رفعها. قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت. ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط. فتراه منتبرا وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا. ويقال للرجل ما أعقله، وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)) (¬4). (الحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرا محرجا فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرا لاذعا. بيد أنها لا تحيى ضميرا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!! إن الأمانة فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها؟ أو يفرط في حقها. قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. والظلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى وعُنى الإنسان بجهادهما فلن يخلص له إيمان إلا إذا أنقاه من الظلم: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ... [الأنعام: 82]. ولن تخلص له تقوى إلا إذا نَقاها من الجهالة: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر:28]. ولذلك بعد أن تقرأ الآية التي حملت الإنسان الأمانة تجد أن الذين غلبهم الظلم والجهل خانوا ونافقوا وأشركوا فحق عليهم العقاب ولم تكتب السلامة إلا لأهل الإيمان والأمانة: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 73]) (¬5). - وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كن فيك فلا يضرنك ما فاتك من الدنيا: صدق حديث وحفظ أمانة وحسن خليقة وعفة طعمة.)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 48). (¬3) رواه البخاري (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6497) ومسلم (143). (¬5) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص 47). (¬6) رواه أحمد (2/ 177) (6652)، والبيهقي في ((الشعب)) (7/ 202) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 50): أسانيده حسنة. وحسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 298)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (10/ 138).

أقوال السلف والعلماء في الأمانة

أقوال السلف والعلماء في الأمانة - قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة) (¬1). - وعن ابن أبي نجيح قال: (لما أتي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده ويقول: والله إن الذي أدى إلينا هذا لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدّون إليك ما أدّيت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت) (¬2). - وعن هشام أن عمر قال: (لا تغرني صلاة امرئ ولا صومه من شاء صام ومن شاء صلى لا دين لمن لا أمانة له) (¬3). - وقال عبد الله بن مسعود: (القتل في سبيل الله كفارة كل ذنب إلا الأمانة وإن الأمانة الصلاة والزكاة والغسل من الجنابة والكيل والميزان والحديث وأعظم من ذلك الودائع) (¬4). - وعن أبي هريرة قال: (أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة فسلوها الله) (¬5). - وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: (لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة) (¬6). - وقال نافع مولى ابن عمر: (طاف ابن عمر سبعا وصلى ركعتين فقال له رجل من قريش: ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن. فقال ابن عمر أنتم أكثر منا طوافا وصياما، ونحن خير منكم بصدق الحديث. وأداء الأمانة وإنجاز الوعد) (¬7). - وعن سفيان بن عيينة قال: (من لم يكن له رأس مال فليتخذ الأمانة رأس ماله) (¬8). - وقال ميمون بن مهران: (ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة؟ والعهد؟ وصلة الرحم) (¬9). - وقال الشافعي: (آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة) (¬10). - وقال ابن أبي الدنيا: (الداعي إلى الخيانة شيئان: المهانة وقلة الأمانة، فإذا حسمهما عن نفسه بما وصفت ظهرت مروءته) (¬11) - وعن خالد الربعي قال كان يقال: (إن من أجدر الأعمال أن لا تؤخر عقوبته أو يعجل عقوبته الأمانة تخان والرحم تقطع والإحسان يكفر) (¬12). ¬

(¬1) روى نحوه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (13009). (¬2) رواه ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)) (1/ 115). (¬3) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (162). (¬4) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (159). (¬5) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (178). (¬6) ذكره ابن عطية في ((تفسيره)) (2/ 70)، والقرطبي (5/ 256)، وابن حيان في ((البحر المحيط)) (3/ 684). (¬7) رواه الفاكهي في ((أخبار مكة)) (1/ 211)، وذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (4/ 500). (¬8) ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/ 500). (¬9) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 219). (¬10) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (19/ 30). (¬11) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص333). (¬12) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (1/ 172).

فوائد الأمانة

فوائد الأمانة 1 - (الأمانة من كمال الإيمان وحسن الإسلام. 2 - يقوم عليها أمر السموات والأرض. 3 - هي محور الدين وامتحان رب العالمين. 4 - بالأمانة يحفظ الدين والأعراض والأموال والأجسام والأرواح والمعارف والعلوم والولاية والوصاية والشهادة والقضاء والكتابة ... 5 - الأمين يحبه الله ويحبه الناس. 6 - من أعظم الصفات الخلقية التي وصف الله بها عباده المؤمنين بقوله وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، و [المعارج: 32]. 7 - مجتمع تفشو فيه الأمانة مجتمع خير وبركة) (¬1) ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من المؤلفين (3/ 524).

صور الأمانة

صور الأمانة هناك مجالات وصور تدخل فيها الأمانة وهي كثيرة جدا ومنها المجالات الآتية: 1 - الأمانة فيما افترضه الله على عباده: فمن الأمانة: (ما ائتمنه الله على عباده من العبادات التي كلفهم بها فإنها أمانة ائتمن الله عليها العباد) (¬1) 2 - الأمانة في الأموال: (ومن الأمانة العفة عما ليس للإنسان به حق من المال، وتأدية ما عليه من حق لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحق فيه، وتدخل في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصغرى وغير ذلك) (¬2). قال ابن عثيمين رحمه الله: (ومنها الأمانة المالية وهي الودائع التي تعطى للإنسان ليحفظها لأهلها. وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان لمصلحته أو مصلحته ومصلحة مالكها وذلك أن الأمانة التي بيد الإنسان إما أن تكون لمصلحة مالكها أو لمصلحة من هي بيده أو لمصلحتهما جميعا فأما الأول فالوديعة تجعلها عند شخص تقول مثلا هذه ساعتي عندك احفظها لي أو هذه دراهم احفظها لي وما أشبه ذلك فهذه وديعة المودع فيها بقيت عنده لمصلحة مالكها وأما التي لمصلحة من هي بيده فالعارية يعطيك شخص شيئا يعيرك إياه من إناء أو فراش أو ساعة أو سيارة فهذه بقيت في يدك لمصلحتك وأما التي لمصلحة مالكها ومن هي بيده فالعين المستأجرة فهذه مصلحتها للجميع استأجرت مني سيارة وأخذتها فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك وأنا أنتفع بالأجرة وكذلك البيت والدكان وما أشبه ذلك كل هذه من الأمانات) (¬3). 3– الأمانة في الأعراض: (فمن الأمانة في الأعراض العفة عما ليس للإنسان به حق منها، وكف النفس واللسان عن نيل شيء منها بسوء، كالقذف والغيبة. 4 - الأمانة في الأجسام والأرواح: فمن الأمانة في الأجسام والأرواح كف النفس واليد عن التعرض لها بسوء من قتل أو جرح أو ضر أو أذى. 5– الأمانة في المعارف والعلوم: فمن الأمانة في المعارف والعلوم تأديتها دون تحريف أو تغيير، ونسبة الأقوال إلى أصحابها وعدم انتحال الإنسان ما لغيره منها. 6 - الأمانة في الولاية: فمن الأمانة في الولاية تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقيها الأكفياء لها، وحفظ أموال الناس وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم وصيانتها مما يؤذيها أو يضر بها، وحفظ الدين الذي ارتضاه الله لعباده من أن يناله أحد بسوء، وحفظ أسرار الدولة وكل ما ينبغي كتمانه من أن يسرب إلى الأعداء، إلى غير ذلك من أمور) (¬4). قال ابن عثيمين: (ومن الأمانة أيضا أمانة الولاية وهي أعظمها مسئولية الولاية العامة والولايات الخاصة فالسلطان مثلا الرئيس الأعلى في الدولة أمين على الأمة كلها على مصالحها الدينية ومصالحها الدنيوية على أموالها التي تكون في بيت المال لا يبذرها ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين وما أشبه ذلك. وهناك أمانات أخرى دونها كأمانة الوزير مثلا في وزارته وأمانة الأمير في منطقته وأمانة القاضي في عمله وأمانة الإنسان في أهله المهم أن الأمانة بابها واسع جدا) (¬5). أما إذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية. ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 462). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 595). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 462). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 595). (¬5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 463).

وقال ابن تيمية: (واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضررا فيها فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوى الشجاع وان كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى فقال أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر وقد قال النبي ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) (¬1). وروي ((بأقوام لا خلاق لهم)) (¬2)، وإن لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده) (¬3). 7– الأمانة في الشهادة: (وتكون الأمانة في الشهادة بتحملها بحسب ما هي عليه في الواقع، وبأدائها دون تحريف أو تغيير أو زيادة أو نقصان. 8 – الأمانة في القضاء: وتكون الأمانة في القضاء بإصدار الأحكام وفق أحكام العدل التي استؤمن القاضي عليها، وفوض الأمر فيها إليه. 9– الأمانة في الكتابة: وتكون الأمانة في الكتابة بأن تكون على وفق ما يمليه ممليها، وعلى وفق الأصل الذي تنسخ عنه، فلا يكون فيها تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص وإذا كانت من إنشاء كاتبها فالأمانة فيها أن تكون مضامينها خالية من الكذب والتلاعب بالحقائق إلى غير ذلك. 10– الأمانة في الأسرار التي يستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها: وتكون الأمانة فيها بكتمانها) (¬4). قال ابن عثيمين: (ومن الأمانات ما يكون بين الرجل وصاحبه من الأمور الخاصة التي لا يجب أن يطلع عليها أحد فإنه لا يجوز لصاحبه أن يخبر بها فلو استأمنت على حديث حدثك به وقال لك هذا أمانة فإنه لا يحل لك أن تخبر به أحد من الناس ولو كان أقرب الناس إليك سواء أوصاك بأن لا تخبر به أحدا أو علم من قرائن الأحوال أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ولهذا قال العلماء إذا حدثك الرجل بحديث والتفت فهذه أمانة لماذا؟ لأن كونه يلتفت فإنه يخشى بذلك أن يسمع أحد إذا فهو لا يحب أن يطلع عليه أحد فإذا ائتمنك الإنسان على حديث فإنه لا يجوز لك أن تفشيه. ومن ذلك أيضا ما يكون بين الرجل وبين زوجته من الأشياء الخاصة فإن شر الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم يروح ينشر سرها ويتحدث بما جرى بينهما) (¬5) 11– الأمانة في الرسالات: (وتكون الأمانة فيها بتبليغها إلى أهلها تامة غير منقوصة ولا مزاد عليها وعلى وفق رغبة محملها، سواء أكانت رسالة لفظية أو كتابية أو عملية. 12– الأمانة في السمع والبصر وسائر الحواس: وتكون الأمانة فيها بكفها عن العدوان على أصحاب الحقوق، وبحفظها عن معصية الله فيها، وبتوجيهها للقيام بما يجب فيها من أعمال، فاستراق السمع خيانة، واستراق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه خيانة، واستراق اللمس المحرم خيانة) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3062)، ومسلم (111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه النسائي في ((الكبرى)) (8/ 147)، والبزار (13/ 189)، والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 268) من حديث أنس رضي الله عنه. وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 73)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1866). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 254). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 595). (¬5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 464). (¬6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 595).

(ومن معاني الأمانة أن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك? وإلى المواهب التي خصك بها وإلى ما حُبيت من أموال وأولاد؟ فتدرك أنها ودائع الله الغالية عندك؟ فيجب أن تسخرها في قرباته؟ وأن تستخدمها في مرضاته. فإن امتحنت بنقص شيء منها فلا يستخفنك الجزع متوهما أن ملكك المحض قد سُلب منك؟ فالله أولى بك منك. وأولى بما أفاء عليك وله ما أخذ وله ما أعطى! وإن امتحنت ببقائها فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد؟ أو تفتتن بها عن طاعة؟ أو تستقوي بها على معصية. قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27 - 28]) (¬1). 13 - الأمانة في النصح والمشورة: (ومن صور الأمانة أن تنصح من استشارك، وأن تصدق من وثق برأيك، فإذا عرض عليك أحد من الناس موضوعاً معيناً، وطلب منك الرأي والمشورة والنصيحة، فاعلم أن إبداء رأيك له أمانة، فإذا أشرت عليه بغير الرأي الصحيح، فذلك خيانة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن)) (¬2)) (¬3). ¬

(¬1) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 44). (¬2) رواه أبو داود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وقال ابن عدي في ((الكامل)) (6/ 84): لا بأس به. وصححه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 308). (¬3) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 181).

الأمانة صفة الرسل

الأمانة صفة الرسل (إن صفة الأمانة أحد الصفات الواجب توافرها في كل رسول ... فإن كان خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، قد لُقب قبل البعثة (بالأمين) فلك أن تتصور شمائل الرجولة، وخصال الصلاح تتخايل في شخصه الكريم والتي لأجلها وضع في المكان اللائق به. والأَتْباع ما داموا عقلاء، فلابد أن يكون لهم نصيب من تلك الخلال، فقد وصف الله المؤمنين بما وصف به الملائكة والمرسلين، قال تعالى واصفاً للمؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وقد وردت مرتين، في سورة [المؤمنون: 8] وفي سورة [المعارج: 32]. وتلك الصفة بعينها ذكرت خمس مرات متواليات بحق الأنبياء في سورة الشعراء: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ .. فقد قالها نبي الله نوح في آية [107]. ونبي الله هود، في آية [125] ونبي الله صالح في آية [143]. ونبي الله لوط في آية [162] ونبي الله شعيب في آية [178]. بل إن ... جبريل عليه السلام، من أسمائه (الروح الأمين). ولا غرو، فبقدر امتداد معنى الأمانة في النفس، تكون قيمتها، وتكون منزلة صاحبها) (¬1). ¬

(¬1) ((سلوكيات مرفوضة)) لأسامة طه حمودة (ص 31).

نماذج في الأمانة

الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة في الأمانة (أشهر من اتصف بالأمانة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل أمور حياته، قبل البعثة وبعدها. أما أمانته قبل البعثة: فقد عرف بين قومه قبل بعثته بالأمين ولقب به، فها هي القبائل من قريش لما بنت الكعبة حتى بلغ البنيان موضع الركن – الحجر الأسود – اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون القبيلة الأخرى حتى تخالفوا وأعدوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالي أو خمساً، ثم تشاوروا في الأمر، فأشار أحدهم بأن يكون أول من يدخل من باب المسجد هو الذي يقضي بين القبائل في هذا الأمر، ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال عليه الصلاة والسلام: ((هلم إلي ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه)). (¬1) ولقد كان السبب في زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة – رضي الله عنها – هو الأمانة، فقد تاجر صلى الله عليه وسلم في مال خديجة قبل البعثة، وقد اتصف في تجارته بصدق الحديث، وعظيم الأمانة، يقول ابن الأثير في هذا الصدد: (فلما بلغها – أي خديجة – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث، وعظيم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة فأجابها، وخرج معه ميسرة) (¬2)، ولما عاد إلى مكة، وقص عليها ميسرة أخبار محمد صلى الله عليه وسلم قررت الزواج به. والمواقف التي تدل على أمانته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كثيرة. أما أمانته بعد البعثة: فقد أدى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة الكبرى التي تكفل بها، وهي الرسالة أعظم ما يكون الأداء، وتحمل في سبيلها أعظم أنواع المشقة. وقد شهد له العدو قبل الصديق بأمانته، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في حوار أبي سفيان (قبل إسلامه) وهرقل، حيث قال هرقل: (سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي) ... وفي موضع آخر يقول هرقل: (وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون). وقد كان صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على أداء الأمانات والودائع للناس حتى في أصعب وأحلك الأوقات، فهاهي قريش تودع عنده أموالها أمانة لما يتوسمون فيه من هذه الصفة، وها هو صلى الله عليه وسلم يخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة فماذا يفعل في أمانات الناس التي عنده (قال لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: نم على فراشي، واتشح ببردي الأخضر، فنم فيه، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة) (¬3) (¬4). ¬

(¬1) ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 138). (¬2) ((الكامل)) لابن الأثير: (2/ 26)؛ و ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 139). (¬3) رواه الطبري في ((تاريخه)) (2/ 372)، وابن الأثير في ((الكامل)) (2/ 73). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص 173).

نماذج في الأمانة من الأمم الماضية

نماذج في الأمانة من الأمم الماضية - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك منى إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها - قال - فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد فقال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية. قال أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا)) (¬1). - وعنه أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدا قال فأتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بك وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بك وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء قال أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف الدينار راشدا)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3472)، ومسلم (1721). (¬2) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (3472)، ووصله أحمد (2/ 348) (8571) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5800). وصححه ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (1/ 346)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (16/ 241).

ما ترمز إليه الأمانة من معاني

ما ترمز إليه الأمانة من معاني الأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معان شتى، مناطها جميعاً شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسؤول عنه أمام ربه ... والعوام يقصرون الأمانة في أضيق معانيها وآخرها ترتيباً، وهو حفظ الودائع، مع أن حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل. وإنها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، حتى إنه عندما يكون أحدهم على أهبة السفر يقول له أخوه: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) (¬1). وعن أنس قال: ((قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)) (¬2). ولما كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش في الدنيا وسوء المنقلب في الأخرى، فإن رسول الله جمع في استعاذته بين الحالين معاً إذ قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة)) (¬3). فالجوع ضياع الدنيا والخيانة ضياع الدين .. !! (¬4) ¬

(¬1) رواه أبو داود (2600)، والترمذي (3443)، وابن ماجه (2726) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 116)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (9/ 70). (¬2) رواه أحمد (3/ 154) (12589)، وابن حبان (1/ 422) (194)، والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 98). وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 100)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9704)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (7179). (¬3) رواه أبو داود (1547)، والنسائي (5468)، وابن ماجه (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (484)، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 169)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1283). (¬4) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص40 - 41).

العمل بالحيل يفتح باب الخيانة

العمل بالحيل يفتح باب الخيانة قال ابن تيمية: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن أول ما يفقد من الدين الأمانة، وآخر ما يفقد منه الصلاة)) (¬1)، وحدَّث عن رفع الأمانة من القلوب الحديث المشهور وقال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فذكر بعد قرنه قرنين, أو ثلاثة، ثم ذكر أن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) (¬2)، وهذه أحاديث صحيحة مشهورة. ومعلوم أن العمل بالحيل يفتح باب الخيانة والكذب، فإن كثيرا من الحيل لا يتم إلا أن يتفق الرجلان على عقد يظهرانه ومقصودهما أمر آخر، كما ذكرنا في التمليك للوقف، وكما في الحيل الربوية، وحيل المناكح، وذلك الذي اتفقا عليه إن لزم الوفاء به كان العقد فاسدا. وإن لم يلزم فقد جوزت الخيانة والكذب في المعاملات، ولهذا لا يطمئن القلب إلى من يستحل الحيل خوفا من مكره، وإظهاره ما يبطن خلافه وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) (¬3)، والمحتال غير مأمون، وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر: ((كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فكيف أفعل يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم)) (¬4). وهو حديث صحيح وهو في بعض نسخ البخاري، والحيل توجب مرج العهود والأمانات وهو قلقها واضطرابها، فإن الرجل إذا سوغ له من يعاهد عهدا، ثم لا يفي به، أو أن يؤمن على شيء فيأخذ بعضه بنوع تأويل ارتفعت الثقة به وأمثاله، ولم يؤمن في كثير من الأشياء أن يكون كذلك، ومن تأمل حيل أهل الديوان وولاة الأمور التي استحلوا بها المحارم، ودخلوا بها في الغلول والخيانة، ولم يبق لهم معها عهد ولا أمانة علم يقينا أن الاحتيال والتأويلات أوجب عظم ذلك، وعلم خروج أهل الحيل من قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، و [المعارج: 32]، وقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، ومخالفتهم لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، وقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، وقوله تعالى: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) (¬5)) (¬6). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 238)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (4/ 174) والبيهقي في ((الشعب)) (7/ 215) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 1858): تفرد به حكيم بن نافع، وروي من وجه آخر. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 324): فيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات. وذكره السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2819)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2575) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وحسناه. (¬2) رواه الترمذي (2222)، وأحمد (4/ 426) (19836) واللفظ له، وابن حبان (15/ 123) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه أبو نعيم في ((الحلية)) (2/ 294)، وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2222). (¬3) رواه الترمذي (2627)، والنسائي (4995)، وأحمد (2/ 379) (8918) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9207)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6710). (¬4) رواه أبو يعلى (9/ 442) (5593) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/ 57): [فيه] سفيان بن وكيع وهو ضعيف. وروى البخاري شطره الأول (480)، ورواه بتمامه: أبو داود (4342)، وأحمد (2/ 162) (6508) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 291)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (10/ 10). (¬5) رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، والدارمي (2639) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الإمام الشافعي كما في ((السنن الكبرى للبيهقي)) (10/ 271): ليس بثابت. وقال الإمام أحمد كما في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 150): باطل لا أعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وله طرق ستة كلها ضعاف. وقال أبو حاتم الرازي في ((المحرر)) (328): منكر. (¬6) ((إقامة الدليل على إبطال التحليل)) لابن تيمية (ص303 - 306).

الأمانة في واحة الشعر ..

الأمانة في واحة الشعر .. قال كعب المزني أرعى الأمانة لا أخون أمانتي ... إن الخؤون على الطريق الأنكب إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك أسندتها شر مسند وقال المعري: يخونك من أدى إليك أمانة ... فلم ترعه يوما بقول ولا فعل فأحسن إلى من شئت في الأرض أو أسئ ... فإنك تجزي حذوك النعل بالنعل وقال العرجي: وما حمل الإنسان مثل أمانة ... أشق عليه حين يحملها حملا فإن أنت حملت الأمانة فاصطبر ... عليها فقد حملت من أمرها ثقلا ولا تقبلن فيما رضيت نميمة ... وقل للذي يأتيك يحملها مهلا (¬1) وقال آخر أَدِّ الأَمَانَة َ والخِيَانَة َ فاجْتَنِبْ ... وَاعْدُلْ ولا تَظْلِمْ، يَطِبْ لك مَكْسَبُ وإذا بُلِيْتَ بِنكبَة ٍ فاصْبِرْ لها ... من ذا رأيت مسلّماً لا ينكب ثُمَّ في الختام .. أيها القارئ العزيز وبعد جولة حول هذه الصفة التي تتطرق في كل مجالات الحياة البشرية الفردية والاجتماعية، هل عرفنا أهميتها؟ أم أننا ما زلنا نظن أن الأمانة محصورة في الودائع؟ وهل الأمانة في نظرك موجودة الآن في مجتمعاتنا الإسلامية بكثرة أم أنها قليلة جداً؟ وهل مر عليك موقف يتطلب الأمانة في إحدى صورها سواء كان في الأموال، أم في الأسرار أم في غيرها من الصور؟ جعلنا الله وإياك من الذين وصفهم الله بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]. ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 38).

الإيثار

معنى الإيثار لغة واصطلاحاً معنى الإيثار لغة: الإيثار لغة مصدر من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص, ومن ذلك قولهم: استأثر بالشيء: استبد به وخص به نفسه, واستأثر الله بفلان إذا مات ورجي له الغفران, وآثر على نفسه بالمد من الإيثار وهو الاختيار, ومنه الأثرة بمعنى التقدم والاختصاص, ويستعار (الأثر) للفضل والإيثار للتفضيل, وآثرت فلانا عليك بالمد فأنا أوثره. (¬1) معنى الإيثار اصطلاحاً: (الإيثار أن يقدم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه وهو النهاية في الأخوة) (¬2). وقال ابن مسكويه: (الإيثار: هو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه) (¬3). ¬

(¬1) انظر ((كتاب الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (1/ 38) (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (1/ 59) (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص19).

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود:

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود: ذكر ابن القيم رحمه الله فروقاً بين كل من السخاء والجود والإيثار مع أنها كلها أفعال بذل وعطاء, قال ابن القيم رحمه الله: وهذا المنزل – أي الإيثار-: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة: إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء. الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود. الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار (¬1). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 292).

الترغيب والحث على الإيثار من القرآن والسنة

الترغيب والحث على الإيثار من القرآن والسنة الترغيب والحث على الإيثار من القرآن الكريم: يعتبر الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية, فهو مرتبة راقية من مراتب البذل, ومنزلة عظيمة من منازل العطاء, لذا أثنى الله على أصحابه , ومدح المتحلين به, وبين أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة - قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ. مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. (¬1). وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك (¬2). ويقول ابن تيمية: (وأما الإيثار مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا ولا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة) (¬3). - وقال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92]. يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها, ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة) (¬4). - وقال تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] فبين الله تبارك وتعالى أن من البر بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء .. إطعام الطعام لمحتاجيه, وبذله لمريديه, مع حبه واشتهائه والرغبة فيه, وقد جاء به الله تعالى – أي إطعام الطعام - بعد أركان الإيمان مباشرة وفي ذلك دلالة على عظمته وعلو منزلته. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) للطبري (22/ 527). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 70). (¬3) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/ 129) (¬4) ((تفسير السعدي)) (1/ 970).

قال ابن مسعود في قوله (على حبه): هو أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر (¬1). - وقال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 6 – 9] قال الشنقيطي رحمه الله: (اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي (عَلَى حُبِّهِ)، هَلْ هُوَ رَاجِعٌ عَلَى الطَّعَامِ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ لِقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَمْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ؟ وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَسَاقَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، وَقَوْلِهِ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وَالْوَاقِعُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ فِيهِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَقْرَبُ دَلِيلًا وَأَصْرَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (¬2). - وقال الله تبارك وتعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 6 – 9] قال الفخر الرازي: (والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي) (¬3). الترغيب والحث على الإيثار من السنة النبوية: - عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسّويّة، فهم منّي، وأنا منهم)) (¬4). يقول الإمام العيني: (فيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه .... وفيه فضيلة الإيثار والمواساة) (¬5) وقال أبو العباس القرطبي: (هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار، والمواساة عند الحاجة، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت لهم بشهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّهم علماء عاملون، كرماء مؤثرون) (¬6). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((طعام الاثنين كافي الثّلاثة، وطعام الثّلاثة كافي الأربع)) (¬7). وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثّمانية)) (¬8). ¬

(¬1) ذكره السمعاني في ((تفسيره)) (1/ 172). (¬2) ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) للشنقيطي (8/ 394). (¬3) ((مفاتيح الغيب)) للفخر الرازي (30/ 218). (¬4) رواه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬5) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) (13/ 44). (¬6) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 452). (¬7) رواه البخاري (5392)، ومسلم (2058) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه مسلم (2059) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

قال المهلب: والمراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة في الأكل والمواساة والإيثار على النفس الذي مدح الله به أصحاب نبيه، فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] (ولا يراد بها معنى التساوي في الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: (كافي الثلاثة) دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية، وقد هم عمر بن الخطاب في سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم وقال: (لن يهلك أحد عن نصف قوته) (¬1). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (¬2). قال ابن بطال: (فيه أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشي الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار في فعله) (¬3). - وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلاَ عَشِيرَةٌ فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةَ فَمَا لأَحَدِنَا مِنْ ظَهْرٍ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ. (يَعْنِى أَحَدِهِمْ). فَضَمَمْتُ إِلَيَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً قَالَ: مَا لِي إِلاَّ عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ مِنْ جَمَلِي)) (¬4). ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخارى)) ـ لابن بطال (9/ 471) (¬2) رواه البخاري (1319)، ومسلم (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (3/ 417) (¬4) رواه أبو داود (2534)، وأحمد (3/ 358) (14906)، والحاكم (2/ 100) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وسكت عنه أبو داود، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (309)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (239).

أقسام الإيثار:

أقسام الإيثار: أولاً: أقسامه من حيث تعلقه بالغير: ينقسم الإيثار من حيث تعلقه بالغير إلى قسمين: القسم الأول: إيثار يتعلق بالخالق: وهو أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة, وأرفعها قدراً, يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا – أي من الإيثار المتعلق بالخلق- وأفضل وهو إيثار رضاه على رضى غيره وإيثار حبه على حب غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره) (¬1). ولهذا النوع من الإيثار علامات دالة عليه, وشواهد موضحة له, لا بد أن تظهر على مدعيه, وتتجلى في المتحلي به وهي علامتان: إحداها: أن يفعل المرء كل ما يحبه الله تعالى ويأمر به, وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه, ثقيلاً عليه. الثاني: أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه, وإن كان محبباً إليه, تشتهيه نفسه, وترغب فيه. يقول ابن القيم: فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار (¬2). صعوبة هذا الإيثار على النفس: جبلت النفس إلى الراحة والدعة والميل إلى الملاذ والمتع, كما جبلت على البعد عن كل ما يشق عليها أو ينغص متعتها أو يحد من ملذاتها, ولما كان هذا النوع من الإيثار يضاد ما جبلت عليه النفس من الراحة والدعة كان صعباً عليها التلبس به, أو التخلق والتحلي بمعناه. يقول الإمام ابن القيم مبيناً صعوبة هذا النوع من الإيثار وثقله على النفس: ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به وإنه ليسير على من يسره الله عليه (¬3). وإن كان هذا النوع من الإيثار شديد على النفس صعب على الروح إلا أن ثمراته وما يجنيه الشخص منه تفوق ثمرات أي نوع من الأعمال, فنهايته فوز محقق وفلاح محتوم, وملك لا يضاهيه ملك. (فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المحنة ويحمل فيه خطرا يسير لملك عظيم وفوز كبير فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال ويسير منه يرقي العبد ما لا يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (¬4). القسم الثاني: إيثار يتعلق بالخلق: وهذا هو النوع الثاني من أنواع الإيثار من حيث تعلقه بالخلق .. وقد قسم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هذا النوع من الإيثار إلى ثلاثة أقسام فقال: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1. الأول: ممنوع والثاني: مكروه أو مباح، والثالث: مباح. - القسم الأول: وهو الممنوع: وهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعا فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعاً .... فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل لأنه يستلزم إسقاط الواجب عليك. - القسم الثاني: وهو المكروه أو المباح: فهو الإيثار في الأمور المستحبة وقد كرهه بعض أهل العلم وأباحه بعضهم لكن تركه أولى لا شك إلا لمصلحة. - القسم الثالث وهو المباح: وهذا المباح قد يكون مستحباً وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي أي تؤثر غيرك وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي. (¬5) شروط هذا النوع من الإيثار: ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 449) (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450) (¬3) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450). (¬4) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450). (¬5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 416 - 417)

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى شروطاً للإيثار المتعلق بالمخلوقين تنقله من حيز المنع أو الكراهة إلى حيز الإباحة ولعلنا نجملها فيما يلي: 1 - أن لا يضيع على المؤثر وقته. 2 - أن لا يتسبب في إفساد حاله. 3 - أن لا يهضم له دينه. 4 - ألا يكون سبباً في سد طريق خير على المؤثر. 5 - أن لا يمنع للمؤثر وارداً. فإذا توفرت هذه الشروط كان الإيثار إلى الخلق قد بلغ كماله, أما إن وجد شيء من هذه الأشياء كان الإيثار إلى النفس أولى من الإيثار إلى الغير فالإيثار المحمود كما قال ابن القيم رحمه الله هو: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب (¬1). ثانياً: أقسامه من حيث باعثه والداعي إليه: - الأول: قسم يكون الباعث إليه الفطرة والغريزة: كالذي يكون عند الآباء والأمهات وأصحاب العشق وهذا كما يقول عبد الرحمن الميداني الباعث إليه فطري في النفوس ينتج عنه حب شديد عارم, والحب من أقوى البواعث الذاتية الدافعة إلى التضحية بالنفس وكل ما يتصل بها من مصالح وحاجات من أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه أو جلب السعادة أو المسرة إليه (¬2). تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها. فأطعمتها ثلاث تمرات. فأعطت كل واحدة منهما تمرة. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها. فاستطعمتها ابنتاها. فشقت التمرة، التي كانت تريد أن تأكلها، بينهما. فأعجبني شأنها. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة. أو أعتقها بها من النار)) (¬3). فهذا الإيثار دافعه حب الأم لابنتيها ورحمتها بهما. - الثاني: وقسم يكون الدافع هو الإيمان وحب الخير للغير على حساب النفس وملذاتها ومشتهياتها وهو كما قال الميداني: ليس إيثاراً انفعالياً عاطفياً مجرداً ولكنه إيثار يعتمد على محاكمة منطقية سليمة ويعتمد على عاطفة إيمانية عاقلة (¬4). وسنضرب لهذا النوع أمثلة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة وعلمائها. ¬

(¬1) انظر ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 446). (¬2) انظر ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 435). (¬3) رواه مسلم (2630) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) انظر ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 435).

فوائد الإيثار

فوائد الإيثار للإيثار فوائد عظيمة وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخلق العظيم منها: 1. دخولهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين. 2. الإيثار طريق إلى محبة الله تبارك وتعالى والتعرض لمحبته. 3. تحقيق الكمال الإيماني, فالإيثار دليل عليه وثمرة من ثماره فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬1) والنفي هنا لا يقصد به نفي الأصل وإنما نفي الكمال كما هو مقرر عند أهل العلم, وعليه يفهم من الحديث أن من أحب لأخيه ما يحب لنفسه تحقق فيه الإيمان الكامل. 4. ومن أعظم الثمار والفوائد أن التحلي بخلق الإيثار فيه اقتداء بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. 5. أن المؤثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة وذلك بمحبة الناس له وثناؤهم عليه, كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذكر فيكون بذلك قد أضاف عمراً إلى عمره. 6. الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة كالرحمة وحب الغير والسعي لنفع الناس, كما أنه يقوده إلى ترك جملة من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة كالبخل وحب النفس والأثرة والطمع وغير ذلك. 7. وهو جالب للبركة في الطعام والمال والممتلكات. 8. وجود الإيثار في المجتمع دليل على وجود حس التعاون والتكافل والمودة, وفقده من المجتمع دليل على خلوه من هذه الركائز المهمة في بناء مجتمعات مؤمنة قوية ومتكاتفة. 9. بالإيثار تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع فطعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة, والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا. ¬

(¬1) رواه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس رضي الله عنه.

درجات الإيثار

درجات الإيثار ذكر الإمام الهروي رحمه الله في كتابه منازل السائرين أن للإيثار ثلاثة درجات: - الدرجة الأولى: (أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يحرم عليك دينا ولا يقطع عليك طريقا ولا يفسد عليك وقتا) (¬1). قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لهذه الدرجة: (يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين). (¬2) - الدرجة الثانية: (إيثار رضى الله تعالى على رضى غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت به المؤن وضعفت عنه الطول والبدن) (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: (هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولي العزم منهم وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم) (¬4). - الدرجة الثالثة: (إيثار إيثار الله تعالى فإن الخوض في الإيثار دعوى في الملك ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ثم غيبتك عن الترك) (¬5). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت فكأنك سلمت الإيثار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر حقيقة .... وقوله: ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه: بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لابد من الخروج عنها وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك ... وقوله: ثم غيبتك عن الترك يريد: أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية: بقيت عليك بقية أخرى وهي رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك وهي دعوى كاذبة إذ ليس للعبد شيء من الأمر ولا بيده فعل ولا ترك وإنما الأمر كله لله) (¬6). ¬

(¬1) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص57). (¬2) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 297). (¬3) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص58). (¬4) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 299). (¬5) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص58). (¬6) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 302).

موانع اكتساب صفة الإيثار

موانع اكتساب صفة الإيثار موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخالق: يقول ابن القيم رحمه الله في الموانع التي تجعل النفس تتخلف عن هذا النوع من الإيثار: (والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين: 1 - أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات فلا يتخلص له رؤيتها وعيانها. 2 - الثاني أن تكون القريحة وقادة دراكة لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض كلما ساقه خطوة وقف خطوة أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلقت نفسه بشهواته ومألوفاته فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرها) (¬1). موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخلق: 1. ضعف إيمان واليقين, فكما أن الإيمان القوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء والإيثار فإن ضعفه يكون سبباً في الأثرة والشح. 2. الشح المطاع, لذا ذكر الله عز وجل في الآية التي مدح فيها أهل الإيثار أن من يوفق في الوقاية من شح نفسه فقد أفلح. 3. حب النفس, وتملك الأثرة على القلب. 4. قسوة القلب وجموده, فمن رق قلبه ولانت طباعه سهل عليه أمر الإيثار. 5. ضعف الهمة والزهد في الذكر الحسن. ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450).

الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار

الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار المتعلق بالخالق: ذكر ابن القيم رحمه الله أمور تجعل من هذا الإيثار أمراً سهلاً على النفس خفيفاً على الروح فقال: (والذي يسهله على العبد أمور: - أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية بل تنقاد معه بسهولة. - الثاني: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. - الثالث: قوة صبره وثباته. فبهذه الأمور الثلاثة ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه) (¬1). الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار المتعلق بالخلق: قال الإمام ابن القيم: (فإن قيل فما الذي يسهل على النفس هذا الإيثار فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار قيل يسهله أمور: - أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته كما جبلها على بغض المستأثر ومقته لا تبديل لخلق الله - الثاني: النفرة من أخلاق اللئام ومقت الشح وكراهته له. - الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض فهو يرعاها حق رعايتها ويخاف من تضييعها ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده فإن ذلك عسر جدا بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله ومن جرب هذا عرفه ومن لم يجربه فليستقرأ أحوال العالم والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى) (¬2). ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450) (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 448).

نماذج للإيثار

نماذج من إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الأخلاق أوفر الحظ والنصيب, فما من خلق إلا وقد تربع المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرشه, وعلا ذروة سنامه, ففي خلق الإيثار كان هو سيد المؤثرين وقائدهم , بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يشبع لا هو ولا أهل بيته بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه) (¬1). وإليك أخي الكريم بعض الصور من إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم: - عن سهل بن سعد، قال: ((جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه)) (¬2). - وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: ((إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقا فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل أو أهيم فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم بالبرمة. ثمّ جئت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج. فقلت: طعيّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: كم هو؟ فذكرت له فقال: كثير طيّب قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي، فقال: قوموا. فقام المهاجرون والأنصار فلمّا دخل على امرأته. قال: ويحك جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه ثمّ ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتّى شبعوا وبقي بقيّة. قال: كلي هذا وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)) (¬3). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 280). (¬2) رواه البخاري (2093) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (4101) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: ((قال أبو طلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير ثمّ أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ومعه النّاس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال: بطعام؟ قلت: نعم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن معه: قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّاس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هلمّي يا أمّ سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففتّ، وعصرت أمّ سليم عكّة فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأكل القوم كلّهم حتّى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا)) (¬1). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه كان يقول: ((الله الّذي لا إله إلّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع. وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمّ قال: يا أبا هرّ قلت: لبّيك رسول الله قال: الحق ومضى. فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: من أين هذا اللّبن؟ قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: أبا هرّ قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي. قال- وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة؟ كنت أحقّ أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بدّ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: خذ فأعطهم. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد روي القوم كلّهم. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: أبا هرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت. فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: اشرب. حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3578)، ومسلم (2040) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6452) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

نماذج من إيثار الصحابة رضوان الله عليهم:

نماذج من إيثار الصحابة رضوان الله عليهم: ضرب الصحابة أروع أمثلة الإيثار وأجملها, ومن يتأمل في قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربا من خيال لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات وبالأسانيد الصحيحة الصريحة. وإليك بعضاً من النماذج التي تروي لنا صوراً رائعة من الإيثار: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- ((أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلّا الماء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يضمّ- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما عندنا إلّا قوت صبياني. فقال: هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثمّ قامت كأنّها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنّهما يأكلان فباتا طاويين فلمّا أصبح غدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ضحك الله اللّيلة- أو عجب من فعالكما- فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] (¬1). الأنصار ... إيثار منقطع النظير أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يملكون من أمر الدنيا شيئاً, قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم وأقبلوا على ما عند الله عز وجل يرجون رحمته ويخافون عذابه, فاستقبلهم الأنصار الذين تبوؤا الدار, وأكرموهم أيما إكرام ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا بل قاسموهم الأموال والزوجات ... في صورة يعجز عن وصفها اللسان, ويضعف عن تعبيرها البيان: - فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أبذل في كثير منهم لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة ولقد خشينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم)) (¬2). - وهذا عبد الرحمن بن عوف ((لما قدم المدينة آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سعد بن الرّبيع الأنصاريّ وعند الأنصاريّ امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك دلّوني على السّوق ... )) (¬3). إيثار ... حتى بالحياة وقد وصل الحال بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آثروا إخوانهم بحياتهم .. وهذا غاية الجود ومنتهى البذل والعطاء. - يقول حذيفة العدويّ، انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم أجمعين ¬

(¬1) رواه البخاري (3798) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه الضياء في ((المختارة)) (5/ 290) من حديث أنس رضي الله عنه. وصحح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 325). (¬3) رواه البخاري (2048) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

- وفي غزوة اليرموك قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم ... فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا ولم يشربها أحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين. (¬1) صور من إيثار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - لما طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال لابنه عبدالله: (اذهب إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر بن الخطّاب عليك السّلام، ثمّ سلها أن أدفن مع صاحبيّ. قالت كنت أريده لنفسي فلأوثرنّه اليوم على نفسي. فلمّا أقبل قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني، ثمّ سلّموا ثمّ قل: يستأذن عمر ابن الخطّاب فإن أذنت لي فادفنوني، وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين.) (¬2). - ودخل عليها مسكين فسألها وهي صائمة وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إيّاه. قالت: ففعلت. قالت: فلمّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك). (¬3) ابن عمر نموذج آخر من نماذج الإيثار الفذة - مرض ابن عمر فاشتهى عنبا -أول ما جاء العنب-فأرسلت صفية -يعني امرأته-فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتبع الرسولَ السائل، فلما دخل به قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ، فلما دخل قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت: والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به. - وَاشْتَهَى يوماً سَمَكَةً، وَكَانَ قَدْ نَقِهَ مِنْ مَرَضٍ فَالْتُمِسَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدْ حَتَّى وُجِدَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَاشْتُرِيَتْ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَشُوِيَتْ وَجِيءَ بِهَا عَلَى رَغِيفٍ فَقَامَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْغُلَامِ لُفَّهَا بِرَغِيفِهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَأَبَى الْغُلَامُ فَرَدَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: كُلْ هَنِيئًا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَعْطَيْتُهُ دِرْهَمًا وَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لُفَّهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ أَوْ غَفَرَ اللهُ لَهُ)) (¬4) ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 15) (¬2) رواه البخاري (1392) من حديث عمرو بن ميمون رحمه الله. (¬3) رواه مالك في الموطأ (2/ 997). (¬4) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (31/ 142) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال: قال الدارقطني: غريب من حديث حبيب عن نافع تفرد به عمرو. وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (3/ 374): موضوع. وضعف إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 317).

عمر يختبر إيثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخذ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أربعمائة دينار، فجعلها في صرّة، ثمّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، ثمّ تلكّأ ساعة في البيت حتّى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثمّ قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتّى أنفدها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكّأ في البيت ساعة حتّى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسرّ بذلك عمر وقال: إنّهم إخوة! بعضهم من بعض) (¬1). أخي وعياله أحوج .. - قال ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتّى تداولها أهل سبعة أبيات حتّى رجعت إلى الأوّل فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] إيثار ... حتى للحيوان - خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم قال ما رأيت قال فلم آثرت به هذا الكلب قال ما هي بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت أن أشبع وهو جائع قال فما أنت صانع اليوم قال أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر أُلام على السخاء إن هذا الغلام لأسخى مني فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه (¬2) ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 178)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 237)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/ 436) من حديث مالك الدار. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 83): رواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون ومالك الدار لا أعرفه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 127): [فيه] مالك الدار لم أعرفه وبقيه رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (926): حسن موقوف. (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 258).

نماذج من إيثار السلف رحمهم الله:

نماذج من إيثار السلف رحمهم الله: وعلى نفس الطريق سار سلف الأمة وصالحوها يحذون حذو القذة بالقذة ويتبعون آثار من سبقهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإليك أخي الكريم نماذج من إيثارهم رحمهم الله: - عن أبي الحسن الأنطاكيّ: أنّه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الرّيّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرّغفان، وأطفئوا السّراج، وجلسوا للطّعام، فلمّا رفع فإذا الطّعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه - قال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق ـ وكان من أئمة الهدى زهدا وفضلا ـ إلى الحسن بن حيي فأخبره أن ليس عنده شيء فقام الحسن فأخرج ستة دراهم، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها فقال: سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة ". - وروي أن مسروقا أدان دينا ثقيلا وكان على أخيه خيثمة دين قال فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم (¬1) - وقال عباس بن دهقان ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوبا فمات فيه (¬2) هذا غيض من فيض وما أغفلناه أكثر مما ذكرناه ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 174). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 258).

نماذج من إيثار العلماء المعاصرين:

نماذج من إيثار العلماء المعاصرين: ابن باز .. بقية من إيثار السلف يقول محمد بن موسى وهو يتحدث عن الشيخ ابن باز رحمه الله: (والذي بيده ليس له ولو سئل ما سئل, فربما سئل مالاً فأعطاه, وربما أتته الهدية في المجلس فسأله أحد الحاضرين إياها فأعطاها إياه, بل كثيراً ما يبتدر من بجانبه بالهدية التي تقدم لسماحته بل ربما سئل عباءته التي يلبسها فأعطاها من سأله إياها) (¬1). - ويقول: الشيخ عبدالمحسن بن سعد الباز_أحد أقارب سماحة الشيخ، _ أن سماحة الشيخ، وهو يطلب العلم عند المشايخ في مقتبل عمره_كان إذا سلم عليه أحد دعاه إلى غدائه أو عشائه، ولا يحتقر ما يضعه للناس، ويجعل الله في طعامه خيراً كثيراً (¬2). يؤثرون له بعيونهم .. والجزاء من جنس العمل كان الشيخ ابن باز رحمه الله قريباً من الناس .. محبباً إليهم .. ومن أعجب قصص الإيثار التي حصلت مع الشيخ قصتان: - أولاها: لرجل مسلم من بلجيكا وهو مغربي الأصل قدم على سماحة الشيخ فلما مثل أمام سماحته قال: يا سماحة الشيخ أنا فلان من محبيك وقد جئتك مهدياً لك إحدى عيني ولقد سألت طبيباً مختصاً فقال لي: لا مانع وسوف أذهب إلى المستشفى وإلى الطبيب المختص لنزعها وإهدائها لك. فقال له سماحة الشيخ: يا أخي بارك الله لك في عينيك , ونفعك بهما, نحن راضون بما كتب الله لنا. - وفي عام 1418هـ جاء رجل من السودان وأخذ يتجول بين المكاتب في دار الإفتاء في الرياض وهو يقول: لم أجد من يتجاوب معي ولا من يدخلني على سماحة الشيخ, قال الشيخ محمد بن موسى الموسى: فقلت له: وماتريد من سماحته. فقال: أنا أتيت إلى سماحته مهدياً إليه إحدى عيني أدخلوني على سماحته, فأخذت بيده وأدخلته عليه فلما رآه وسلم عليه قال: يا سماحة الشيخ أنا من بلاد السودان جئت إليك مهدياً إحدى عيني فتفضل بقبولها وخذ إحداها. فشكر له سماحة الشيخ صنيعه ومحبته وقال: بارك الله لك في عينيك , نحن راضون بما كتب الله لنا (¬3). ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله)) (182). (¬2) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله)) (181 - 182). (¬3) انظر ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله)) لمحمد بن إبراهيم الحمد ص (506 - 507)

أقوال وحكم في الإيثار ..

أقوال وحكم في الإيثار .. - قال أحدهم: لَا تُوَاكِلَنَّ جَائِعًا إلَّا بِالْإِيثَارِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ غَنِيًّا إلَّا بِالْأَدَبِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ ضَيْفًا إلَّا بِالنَّهْمَةِ وَالِانْبِسَاطِ (¬1) - وقال أبو سليمان الدارني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له. - وقال أيضاً: إني لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي (¬2) - قال أبو حفص: الإيثار هو أن يقدم. حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة. - وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة. - وقال يوسف بن الحسين: من رأى لنفسه ملكاً لا يصح منها الإيثار، لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق؛ فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه (¬3). ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 557). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 174). (¬3) كتاب ((عوارف المعارف)) للسهروردي (2/ 76).

الإيثار في واحة الشعر ..

الإيثار في واحة الشعر .. قال الشاعر: عجبت لبعض الناس يبذل وده ... ويمنع ما ضمت عليه الأصابع إذا أنا أعطيت الخليل مودتي ... فليس لمالي بعد ذلك مانع وقال آخر: وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تنال يدي ظلم لهم وعقوق وإني لأستحيي من الله أن أرى ... بحال اتساع والصديق مضيق وقال آخر: من كان للخير مناعاً فليس له ... عند الحقيقة إخوان وأخدان (¬1) وقال علي بن محمد التهامي: أُسد ولكن يؤثرون بزادهم ... والأُسد ليس تدين بالإيثار يتزين النادي بحسن وجوههم ... كتزيُّن الهالات بالأقمار وقال أحمد محرم: المال للرجل الكريم ذرائعٌ ... يبغي بهن جلائل الأخطار والناس شتى في الخلال وخيرهم ... من كان ذا فضلٍ وذا إيثار وقال آخر: إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى يخال غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود وقال حاتمٌ الطائي: أكلف يدي من أن تنال أكفهم ... إذا ما مددناها وحاجاتنا معا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا (¬2) ... ¬

(¬1) ((موسوعة الأخلاق الإسلامية)) لخالد بن جمعة الخراز (ص 388). (¬2) ((الإمتاع والمؤانسة)) لأبي حيان التوحيدي (1/ 391).

التأني أو (الأناة)

التأني أو (الأناة) • فوائد التأني. • صور التأني. • التأني في واحة الشعر ...

فوائد التأني

فوائد التأني 1 - دلالة على رجاحة العقل ووفور الرزانة وطمأنينة القلب. 2 - يعصم الإنسان من الضلال والخطأ. قال ابن عثيمين: (الأناة: التأني في الأمور وعدم التسرع، وما أكثر ما يهلك الإنسان ويزل بسبب التعجل في الأمور، وسواء في نقل الأخبار، أو في الحكم على ما سمع، أو في غير ذلك. فمن الناس مثلاً من يتخطف الأخبار بمجرد ما يسمع الخبر يحدِّث به، ينقله، .. ومن الناس من يتسرع في الحكم، سمع عن شخص شيئاً من الأشياء، ويتأكد أنه قاله أو أنه فعله ثم يتسرع في الحكم عليه، أنه أخطأ أو ضلّ أو ما أشبه ذلك، وهذا غلط، التأني في الأمور، كله خير) (¬1). 3 - التأني كله خير ومحمود العاقبة في الدنيا والآخرة. 4 - صيانة للإنسان من الأخلاق المذمومة. قال ابن القيم: (إذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما) (¬2). 5 - سبب لنيل محبة الله ورضاه سبحانه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة)) (¬3). 4 - صيانة الإنسان من كيد الشيطان وتسلطه عليه. قال صلى الله عليه وسلم: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) (¬4). قال الغزالي: (الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل والعجلة تمنع من ذلك وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري) (¬5). 5 - التريث عند وصول الخبر إليه: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]. ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 577 - 578) (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 296) (¬3) رواه مسلم (25). (¬4) رواه أبو يعلى (7/ 247)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 178) (20270). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2419)، والهيثمي في ((المجمع)) (8/ 22): رجاله رجال الصحيح. (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 33)

صور التأني

صور التأني التأني مطلوب في جميع الأحوال والمواقف التي تمر على الإنسان ومن هذه الأحوال التي يتطلب فيها التأني: 1 - عند الذهاب إلى الصلاة: فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: ((بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة الرجال فلما صلى قال: ما شأنكم قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬2). ففي الحديثين نهي عن الاستعجال والإسراع لإدراك الصلاة والأمر بالتأني والسكينة في المجيء للصلاة والقيام لها (¬3). 2 - عند قراءة القرآن: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي حرك به لسانه - ووصف سفيان - يريد أن يحفظه فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16])) (¬4). 3 - التأني في طلب العلم: قال تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16]. قال ابن القيم في هذه الآية: (ومن أسرارها – سورة القيامة - أنها تضمنت التأني والتثبت في تلقي العلم وأن لا يحمل السامع شدة محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه بل من آداب الرب التي أدب بها نبيه أمره بترك الاستعجال على تلقي الوحي بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته ثم يقرأه بعد فراغه عليه فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلمه حتى يقضي كلامه) (¬5). 4 - التأني عند مواجهة العدو في ساحة القتال: قال النعمان بن مقرن للمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم في تأخير القتال يوم نهاوند: ((ربما أشهدك الله مثلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يندمك، ولم يخزك، ولكني شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل في أول النهار، انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات)) (¬6). قال ابن حجر: (قوله فلم يندمك أي على التأني والصبر حتى تزول الشمس) (¬7). وقال الشافعي رحمه الله: (لا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه، شجاعا ببدنه، حسن الأناة، عاقلا للحرب بصيرا بها، غير عجل ولا نزق، ويتقدم إليه أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال) (¬8). 5 - التأني في الإنكار في الأمور المحتملة: فعن أبي ابن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة موسى والخضر عليهما السلام وفيه-: ((فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة، فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (635). (¬2) رواه البخاري (636). (¬3) انظر: ((فتح الباري شرح صحيح البخاري))،لابن حجر (2/ 118)، ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري))، لبدر الدين العيني (5/ 150) (¬4) رواه البخاري (4927). (¬5) ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (1/ 159) (¬6) رواه البخاري (3160). (¬7) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (6/ 256) (¬8) ((السنن الكبرى)) للبيهقي (9/ 70) (¬9) رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، واللفظ للبخاري.

قال ابن حجر: (إن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا وعقلا ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر وقد وقع ذلك واضحا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات) (¬1). 6 - التأني في التحدث مع الآخرين: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه)) (¬2). وفي لفظ: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم)) (¬3). قال بدر الدين العيني: (لم يكن يسرد أي: لم يكن يتابع الحديث استعجالا، أي: كان يتكلم بكلام متتابع مفهوم واضح على سبيل التأني لئلا يلتبس على المستمع) (¬4). 7 - عند الفصل في المنازعات وإنزال العقوبات: ففي قصة أمير المؤمنين عمر في قضائه بين علي بن أبي طالب والعباس رضي الله عنهما في فيء الرسول صلى الله عليه وسلم من بني النضير قال لهما عمر رضي الله عنه: (اتئدوا) (¬5). قال ابن حجر: (قوله اتئدوا المراد التأني والرزانة) (¬6). وقال أبو عثمان بن الحداد: (القاضي شأنه الأناة والتثبيت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة) (¬7). وقال مالك بن أنس: (العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، قال: وكان يقال: التأني من الله والعجلة من الشيطان) (¬8). وقال الأصفهاني: (قال بعضهم: ينبغي للسلطان أن يؤخر العقوبة حتى ينقضي سلطان غضبه، ويعجل مكافأة المحسن، ويستعمل الأناة فيما يحدث، ففي تأخير العقوبة إمكان العفو إن أحب ذلك، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان مسارعة الأولياء إلى الطاعة) (¬9). أسباب الوقوع في عدم التأني 1 - الغضب والحزن الشديد: روى ابن عباس عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه: ((اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه فقلت: خابت حفصة وخسرت ... فخرجت فجئت إلى المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا، ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر)) (¬10). قال ابن حجر: (الغضب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف منه لقول عمر ثم غلبني ما أجد ثلاث مرات) (¬11). وقال ابن الجوزي: (أشد الناس تفريطا من عمل مبادرة في واقعة، من غير تثبت ولا استشارة، خصوصا فيما يوجبه الغضب، فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم. وكم مَن غَضب فقتل، وضرب، ثم لما سكن غضبه؛ بقي طول دهره في الحزن والبكاء والندم! والغالب في القاتل أنه يقتل، فتفوته الدنيا والآخرة) (¬12). 2 - استعجال نتائج الأمور: 3 - التفريط: وذلك إذا فرط المرء فيما ينبغي عليه القيام به فإنه يضطر للقيام به على وجه السرعة والعجلة حتى يتدارك الأمر فيسبب له نتائج سلبية. ¬

(¬1) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (1/ 222) (¬2) رواه البخاري (3567)، ومسلم (2493). (¬3) رواه البخاري (3568)، ومسلم (2493). (¬4) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 115) (¬5) رواه البخاري (4033). (¬6) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (1/ 91) (¬7) ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 1127) (¬8) ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/ 128) (¬9) ((الذريعة إلي مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (1/ 242) (¬10) رواه البخاري (5191). (¬11) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (9/ 279) والحديث أخرجه البخاري (5191). (¬12) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (1/ 385).

4 - إجابة داعي الشهوات: وقد يكون في إجابته الهلاك فكم من شهوة أورثت حزنا وندامة. 5 - ترك استشارة ذوي الخبرة في أمور يجهلها: وهذا الجهل يجعل الإنسان لا يحسن التعامل مع الأمور، فربما يعجل فيما حقه التأني، أو يتأني فيما حقه التعجل، وهكذا. الوسائل المعينة على اكتساب صفة التأني 1 - الدعاء: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله بأن يهديه إلى أحسن الأخلاق فكان من دعائه: ((واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) (¬1). 2 - النظر في عواقب الاستعجال: قال أبو إسحاق القيرواني: (قال بعض الحكماء: إياك والعجلة فإنّ العرب كانت تكنيها أم الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة) (¬2). 3 - معرفة معاني أسماء الله وصفاته: فمن أسمائه سبحانه الحليم والرفيق ومن معانيهما التأني في الأمور والتدرج فيها، وترك التعجل في أخذ الظالمين واختبارا لصدق من انتسب للإيمان وذلك إقامة للحجة وقطع للمحاجة وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. (¬3). قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11]. 4 - قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: فنستفيد من سنته صلى الله عليه وسلم التأني والصبر على الإيذاء، قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: ((شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) (¬4). 5 - قراءة سيرة السلف الصالح: سيرة سلفنا الصالح نجد فيها تحليهم بخلق التأني والتريث في أمورهم فقراءة سيرتهم فيها دروس وعبر. 6 - استشارة أهل الصلاح والخبرة: إذا أقدم الشخص على أمر يجهله فعليه أن يستشير أهل الصلاح والخبرة ولا يتعجل في أمره، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]. قال الماوردي: (الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمرا ولا يمضي عزما إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح. فإن الله تعالى أمر بالمشورة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مع ما تكفل به من إرشاده، ووعد به من تأييده، فقال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا) (¬5). نماذج في التأني نماذج من تأني الأنبياء والمرسلين عليهم السلام نبي الله يوسف عليه السلام: ¬

(¬1) رواه مسلم (771). (¬2) ((زهر الآداب وثمر الألباب)) لأبي إسحاق القيرواني (4/ 942). (¬3) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 557)، ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (1/ 139، 180). (¬4) رواه البخاري (3612). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (1/ 300).

تأنى نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه، وامتنع عن المبادرة إلى الخروج ولم يستعجل في ذلك. قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: 50]. قال ابن عطية: (هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا وطلبا لبراءة الساحة) (¬1) نماذج للتأني من سير الصحابة رضي الله عنهم - تأني أبي ذر الغفاري في قصة إسلامه: قال ابن عباس: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت فتزود وحمل شنة له، فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه - يعني الليل - فاضطجع، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي، فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علي معه، ثم قال له: ألا تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني، فعلت، ففعل. فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه) (¬2). فنجد في هذه القصة أن أبا ذر رضي الله عنه لم يظهر ما يريده حتى يتحصل على بغيته وقد تأنى رضي الله عنه في البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال عنه حتى لا تعلم به قريش وتثنيه عن هدفه الذي من أجله تحمل المشاق والمتاعب. ¬

(¬1) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) لابن عطية (3/ 252) (¬2) رواه مسلم (2474).

التأني في واحة الشعر ..

التأني في واحة الشعر .. قال النابغة: الرفق يمن والأناة سعادة ... فتأن في رفق تلاق نجاحا (¬1) وقال الشاعر: استأن تظفر في أمورك كلها ... وإذا عزمت على الهوى فتوكل (¬2) وقال زهير: منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بطاء وفي إبطائنا سرع (¬3) وقال القطامي عمرو بن شييم: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وربما فات قوما بعض أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا (¬4) وقال عبد العزيز بن سليمان الأبرش: تأن في أمرك وافهم عني ... فليس شيء يعدل التأني تأن فيه ثم قل فإني ... أرجو لك الإرشاد بالتأني (¬5) وقال الشاعر: لا تعجلن لأمر أنت طالبه ... فقلما يدرك المطلوب ذو العجل فذو التأني مصيب في مقاصده ... وذو التعجل لا يخلو عن الزلل (¬6) وقال العجاج: أناة وحلما وانتظارا بهم غدا ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر (¬7) وقال الشاعر: لا تعجلن فربما ... عجل الفتى فيما يضره ولربما كره الفتى ... أمرا عواقبه تسره (¬8) وقال آخر: انطق مصيبا لا تكن هذرا ... عيابة ناطقا بالفحش والريب وكن رزينا طويل الصمت ذا فكر ... فإن نطقت فلا تكثر من الخطب ولا تجب سائلا من غير تروية ... وبالذي مثله تسأل فلا تجب ... ¬

(¬1) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (8/ 401) (¬2) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 398) (¬3) ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (13/ 248) (¬4) ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (7/ 137) (¬5) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لأبي حاتم البستي (1/ 140) (¬6) ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 65). (¬7) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (8/ 401). (¬8) ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (4/ 24).

التعاون

معنى التعاون لغة واصطلاحاً معنى التعاون لغة: العون: الظهير على الأمر (¬1)، وأعانه على الشيء: ساعده، واستعان فلان فلانا وبه طلب منه العون (¬2). وتعاون القوم أعان بعضهم بعضًا (¬3). والمعوان: الحسن المعونة للناس، أو كثيرها (¬4). معنى التعاون اصطلاحاً: التعاون هو: (المساعدة على الحق ابتغاء الأجر من الله سبحانه) (¬5). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 298). (¬2) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (2/ 638). (¬3) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص222). (¬4) ((تاج العروس)) للزبيدي (35/ 431). (¬5) ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص441).

الألفاظ المترادفة في التعاون

الألفاظ المترادفة في التعاون ومن الألفاظ المترادفة في التعاون يقولون: (شد على يديه، وأجازه، وأيده، وأمده، وهو في حرمته، وفي جواره، وفي خفارته، ظافره، وصانعه، ومالأه) (¬1). ¬

(¬1) ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) لأبي الحسن الرماني (ص70).

فضل التعاون

فضل التعاون لقد جعل الله سبحانه وتعالى التعاون فطرة جبلية، جبلها في جميع مخلوقاته صغيرها وكبيرها ذكرها وأنثاها إنسها وجنها، فلا يمكن لأي مخلوق أن يواجه كل أعباء الحياة ومتاعبها لوحده منفرداً، بل لابد أن يحتاج إلى من يعاونه ويساعده، لذلك فالتعاون ضرورة من ضروريات الحياة، التي لا يمكن الاستغناء عنها، فبالتعاون ينجز العمل بأقصر وقت وأقل جهد، ويصل إلى الغرض بسرعة وإتقان. والملاحظ أن نصوص الشريعة جاءت بالخطاب الجماعي فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وردت 89 مرة، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عشرين مرة، وقوله يَا بَنِي آدَمَ خمس مرات دلالة على أهمية الاجتماع والتعاون والتكامل. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التعاون ودعا إليه فقال: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) (¬1). وشبه المؤمنين في اتحادهم وتعاونهم بالجسد الواحد فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة)) (¬4). وحث على معونة الخدم ومساعدتهم، فقال: ((ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم)) (¬5). و (دعا يزيد بن المهلب ولده حبيباً ومن حضر من ولده، ودعا بسهام، فحزمت، وقال: أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ فقالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها مفترقة؟ قالوا: نعم، قال: هكذا الجماعة) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (1728). (¬2) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له. (¬3) رواه البخاري (481) ومسلم (2585). (¬4) رواه الترمذي (2166). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 28): وإن لم يكن لفظه صحيحا فإن معناه صحيح، وحسنه السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (315)، وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (6/ 16): رواته كلهم ثقات [وله ما] يؤيده، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) والوادعي في ((الصحيح المسند)). والحديث روي من طرق عن ابن عمر وعرفجة الأشجعي رضي الله عنهم. (¬5) رواه البخاري (31) ومسلم (1661). (¬6) ((صفحات مشرقة من حياة السابقين)) لنذير محمد كتبي (ص362).

الترغيب والحث على التعاون

الترغيب والحث على التعاون الترغيب والحث على التعاون من القرآن الكريم: - قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1 - 3]. وقال السعدي: (والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه) (¬1). وقال ابن باز: (فهذه السورة العظيمة القصيرة اشتملت على معان عظيمة من جملتها التواصي بالحق وهو التعاون على البر والتقوى) (¬2). - وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]. قال ابن كثير (يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم) (¬3). وقال القرطبي: (وهو أمرٌ لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليعن بعضكم بعضًا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافقٌ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدال على الخير كفاعله)) (¬4) ... وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته) (¬5). وقال ابن باز: (والمعنى احذروا مغبة التعاون على الإثم والعدوان وترك التعاون على البر والتقوى ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه وتعدى حدوده) (¬6). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكريم المنان)) للسعدي (1/ 934). (¬2) ((مجموع فتاوى ومقالات متنوعة)) لابن باز (5/ 87). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 12). (¬4) رواه الترمذي (2670)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (6/ 184) (2193). من حديث أنس رضي الله عنه. بلفظ: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله فلم يجد عنده ما يتحمله فدله على آخر فحمله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال الدال على الخير كفاعله)). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. ورواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (3/ 140)، وأبو يعلى في ((المسند)) (7/ 275) (4296)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 69). من حديث أنس رضي الله عنه. بلفظ: ((الدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان)). قال المنذري: رواه البزار من رواية زياد بن عبد الله النميري وقد وثق وله شواهد، وقال الهيثمي: رواه البزار وفيه زياد النميري وثقه ابن حبان وقال: يخطئ وابن عدي وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات. ورواه أبو يعلى كذلك، وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1660). والحديث روي من طرق عن أبي مسعود البدري، وابن مسعود، وسهل بن سعد، وبريدة بن الحصيب، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم. (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (6/ 46 - 47). (¬6) ((محموع فتاوى ومقالات متنوعة)) لابن باز (5/ 93).

- وقال سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. قال القرطبي: (وإياك نستعين: أي: نطلب العون والتأييد والتوفيق) (¬1). وقال الشنقيطي: (وإياك نستعين: أي: لا نطلب العون إلا منك وحدك ; لأن الأمر كله بيدك وحدك) (¬2). - وقوله عز وجل: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. قال أبو جعفر الطبري: (يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعًا. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله) (¬3). وقال السعدي: (فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى) (¬4). - وقوله: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 29 - 32]. قال مقاتل بن سليمان: (اشدد به أزري: يقول اشدد به ظهري وليكون عونا لي وأشركه في أمري الذي أمرتني به، يتعظون لأمرنا ونتعاون كلانا جميعا) (¬5). وقال أبو جعفر الطبري: (قو ظهري، وأعني به) (¬6). وقال السعدي: (علم عليه الصلاة والسلام أن مدار العبادات كلها والدين على ذكر الله فسأل الله أن يجعل أخاه معه يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى فيكثر منهما ذكر الله من التسبيح والتهليل وغيره من أنواع العبادات) (¬7). وقال المراغي: (أي أحكم به قوتي، واجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدي إلى أحسن الغايات، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل) (¬8). الترغيب والحث على التعاون من السنة النبوية: - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) (¬9). قال ابن بطال: (تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا في أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث) (¬10). وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: المعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها) (¬11). وقال أبو الفرج ابن الجوزي: (ظاهره الإخبار ومعناه الأمر، وهو تحريض على التعاون) (¬12). - وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً، فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) (¬13). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 145). (¬2) ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) للشنقيطي (1/ 7). (¬3) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (5/ 643). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص141). (¬5) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/ 26). (¬6) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (16/ 55). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص504). (¬8) ((تفسير المراغي)) (16/ 107). (¬9) رواه البخاري (481) ومسلم (2585) (¬10) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 227). (¬11) ((فتح الباري)) (10/ 450). (¬12) ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 405). (¬13) رواه البخاري (2442) ومسلم (2580)

قال ابن بطال في شرح هذا الحديث: ( ... وباقي الحديث حض على التعاون، وحسن التعاشر، والألفة، والستر على المؤمن، وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه) (¬1). وقال ابن حجر (¬2) والعيني (¬3): (وفي الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة). - وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يده)) (¬4). قال ابن بطال: (والنصرة عند العرب: الإعانة والتأييد، وقد فسره رسول الله أن نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنه إذا تركته على ظلمه ولم تكفه عنه أداه ذلك إلى أن يقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصره، وهذا يدل من باب الحكم للشيء وتسميته بما يئول إليه ... ) (¬5). وقال العيني: (النصرة تستلزم الإعانة) (¬6). - وعن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخيرٍ فقد غزا)) (¬7). قال ابن بطال: (وقال الطبري: وفيه من الفقه أن كل من أعان مؤمنًا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، وإذا أخبر الرسول أن من جهز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطر صائمًا أو قواه على صومه، وكذلك من أعان حاجا أو معتمرًا بما يتقوى به على حجه أو عمرته حتى يأتى ذلك على تمامه فله مثل أجره. ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البر، وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البر فمثله المعونة على معاصي الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم مثل ما لعاملها) (¬8). وقال ابن عثيمين: (وهذا من التعاون على البر والتقوى، فإذا جهز الإنسان غازياً، يعني براحلته ومتاعه وسلاحه، ثلاثة أشياء: الراحلة، والمتاع، والسلاح، إذا جهزه بذلك فقد غزا، أي كتب له أجر الغازي، لأنه أعانه على الخير. وكذلك من خلفه في أهله بخير فقد غزا، يعني لو أن الغازي أراد أن يغزو ولكنه أشكل عليه أهله من يكون عند حاجاتهم، فانتدب رجلاً من المسلمين وقال: اخلفني في أهلي بخير، فإن هذا الذي خلفه يكون له أجر الغازي؛ لأنه أعانه) (¬9). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر عن معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... )) (¬10). قال ابن دقيق العيد: (هذا الحديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب فيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما يتيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة أو غير ذلك) (¬11). وقال ابن حجر (وفي الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة) (¬12). وقال المباركفوري: (وقال النووي هذا الحديث صريحٌ في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم بعضًا وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثمٍ ولا مكروهٍ) (¬13). ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 571). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 97). (¬3) ((عمدة القاري)) للعيني (12/ 289). (¬4) رواه البخاري (2444). (¬5) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 572). (¬6) ((عمدة القاري)) للعيني (12 - 289). (¬7) رواه البخاري (2843)، ومسلم (1895) واللفظ له (¬8) ((عمدة القاري)) للعيني (12 - 289). (¬9) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 374). (¬10) رواه مسلم (2699). (¬11) ((شرح الأربعين النووية)) لابن دقيق العيد (1/ 119). (¬12) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 97). (¬13) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (6/ 47).

أقوال العلماء في التعاون

أقوال العلماء في التعاون - قال عطاء بن أبي رباح: (تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو نسوا فذكروهم) (¬1). - وقال ابن تيمية: (حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعضٍ في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضًا .. ) (¬2). - و (قال أبو حمزة الشيباني- رحمه الله تعالى- لمن سأله عن الإخوان في الله من هم؟ قال: «هم العاملون بطاعة الله- عز وجل- المتعاونون على أمر الله- عز وجل- وإن تفرقت دورهم وأبدانهم) (¬3). - و (قال أبو الحسن العامري: التعاون على البر داعية لاتفاق الآراء، واتفاق الآراء لإيجاد مجلبة المراد، مكسبة للوداد) (¬4). - وقال أبو جعفر بن صهبان: (كان يقال: أول المودة طلاقة الوجه، والثانية: المودة، والثالثة: قضاء حوائج الناس) (¬5). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 176). (¬2) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/ 364). (¬3) ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا (ص99). (¬4) ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (9/ 148). (¬5) ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا (ص191).

أقسام التعاون

أقسام التعاون ينقسم التعاون إلى قسمين: 1 - تعاون على البر والتقوى. 2 - تعاون على الإثم والعدوان. قال ابن تيمية: (فإن التعاون نوعان: الأول: تعاونٌ على البر والتقوى: من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين؛ فهذا مما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضًا على الأعيان، أو على الكفاية متوهمًا أنه متورعٌ. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع؛ إذ كل منهما كف وإمساكٌ. والثاني: تعاونٌ على الإثم والعدوان، كالإعانة على دمٍ معصومٍ، أو أخذ مال معصومٍ، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك؛ فهذا الذي حرمه الله ورسوله. نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وقد تعذر ردها إلى أصحابها، ككثيرٍ من الأموال السلطانية؛ فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور، ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك: من الإعانة على البر والتقوى) (¬1). ¬

(¬1) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص40).

فوائد التعاون

فوائد التعاون من فوائد التعاون: 1 - استفادة كل فرد من خبرات وتجارب الأفراد الآخرين في شتى مناحي الحياة. 2 - إظهار القوة والتماسك. 3 - يزيد في الإخلاص في العمل. 4 - تنظيم الوقت وتوفير الجهد. 5 - ثمرة من ثمرات الأخوة الإسلامية. 6 - رفع الظلم عمن وقع عليه. 7 - حماية للفرد. 8 - تقاسم الحمل وتخفيف العبء. 9 - سهولة التصدي لأي أخطار تواجه الإنسان ممن حوله. 10 - سهولة إنجاز الأعمال الكبيرة التي لا يقدر عليها الأفراد. 11 - القضاء على الأنانية وحب الذات. 12 - من أهم ركائز النجاح والتفوق. 13 - من ثمار الإيمان. 14 - نيل تأييد الله. 15 - نيل محبة الله ورضاه. 16 - يجعل الفرد يشعر بالسعادة. 17 - يزيل الضغائن والحقد والحسد من القلوب. 18 - يساعد الفرد على بذل المزيد من الجهد والقوة. 19 - يساعد على سرعة التنفيذ. 20 - يسرع من عجلة التطور العلمي والتقدم التكنولوجي. 21 - يكسبك حب الخير للآخرين. 22 - يؤدي بالفرد إلى الإتقان في العمل. 23 - يولد عند الفرد الشعور بالقوة. 24 - يجدد طاقة الفرد وينشطها. 25 - العمل بأكثر من عقل. 26 - يسهل العمل وييسره. 27 - يحقق أكبر الاستثمارات. 28 - يحد من الازدواجية في العمل. 29 - يولد سلامة الصدر وحب الآخرين. 30 - يتبين للفرد ما يمتلك من طاقة وخبرات وقدرات. 31 - استغلال الملكات والطاقات المهدرة الاستغلال المناسب لما فيه مصلحة الفرد والمجتمع.

مضار التعاون على الإثم والعدوان

مضار التعاون على الإثم والعدوان 1 - تقلب نظام المجتمع وتساعد على فساد الذمم. 2 - تفتح أبواب الشر وتطمس معالم الحق ليرتع الباطل. 3 - تنبئ عن خسة صاحبها ودناءة نفسه. 4 - دليل كامل على ضعف الإيمان وقلة المروءة. 5 - يبشر صاحبها بعاقبة وخيمة وعذاب أليم. 6 - ينبذ صاحبها ويهمل شأنه إذا كان المجتمع صالحا. 7 - تساعد على طغيان الحاكم وترخص له الظلم. 8 - إذا تحققت في مجتمع كانت سببا في خرابه. 9 - تضيع الحقوق، وتصل لغير أهلها ومستحقيها (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (9/ 4209).

صور من التعاون

صور من التعاون للتعاون صور كثيرة نذكر منها ما يلي: - التعاون على تجهيز الغازي. - التعاون على دفع الظلم. - التعاون في الثبات على الحق والتمسك به. - التعاون في الدعوة إلى الله. - التعاون في تحرير الرقيق من رقهم. - التعاون في تزويج العزاب. - التعاون في طلب العلم والتفقه في الدين. - التعاون لتفريج كربات المهمومين وسد حاجات المعوزين. - التعاون مع الأمير الصالح وتقديم النصح له ومساعدته على القيام بواجباته. - تقديم النصيحة لمن يحتاجها. - معاونة الخدم. - التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - التعاون في جمع التبرعات والصدقات والزكاوات وتوزيعها على مستحقيها. - التعاون على حل الخلافات والنزاعات التي تقع في وسط المجتمع المسلم. - التعاون في إقامة الحدود وحفظ أمن البلاد.

موانع اكتساب التعاون

موانع اكتساب التعاون 1 - التعصب والحزبية. 2 - اتباع الأوهام والشكوك بأن هذا التعاون سيكون في صالح أفراد دون أفراد. 3 - الأنانية، وعدم حب الخير للآخرين. 4 - تعذر الفرد بانشغاله وكثرة أعماله. 5 - تنافس الأفراد. 6 - حب الذات، والظهور والصدارة والزعامة وغيرها من حظوظ النفس. 7 - الحسد للآخرين. 8 - سوء الظن بالآخرين. 9 - عدم التعود على التعاون، والعمل في بيئة متعاونة متكاتفة. 10 - الكبر على الآخرين، وتوهم الفرد أنه أعظم من الآخرين. 11 - الكسل. 12 - النظر في التجارب الفاشلة لبعض حالات التعاون الشاذة.

الأسباب المعينة على اكتساب التعاون:

الأسباب المعينة على اكتساب التعاون: هناك العديد من الطرق والسبل التي تعمل على تقوية التعاون وتثبيته بين المؤمنين ومن ذلك: 1 - (التعارف. 2 - معرفة المسلم لحقوق المسلم عليه. 3 - احتساب الأجر. 4 - تنمية الروح الجماعية. 5 - فقه الواقع. 6 - تطهير القلب من الأمراض) (¬1). 7 - الإخلاص. 8 - إحسان الاختلاط بالناس. ¬

(¬1) ((الرائد دروس في التربية والدعوة)) لمازن بن عبدالكريم الفريح (1/ 223 - 225) بتصرف.

نماذج للتعاون

نماذج تطبيقية من الأنبياء والمرسلين في التعاون: - أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم -عليه السلام- ببناء الكعبة، فقام إبراهيم -عليه السلام- استجابة لأمر الله، وطلب من ابنه إسماعيل أن يساعده على تنفيذ هذا الأمر الإلهي، ويعينه في بناء الكعبة، فقال له: ((يا إسماعيل؛ إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127])) (¬1). - عندما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وكلفه بأن يدعو فرعون إلى عبادة الله وحده، طلب موسى عليه السلام من ربه سبحانه وتعالى المعين والمساعد على هذا الأمر العظيم، فطلب منه أن يجعل له أخاه هارون معاوناً ومساعداً في دعوته فرعون، فقال: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29 - 32] فقال الله له: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، وجعل هارون معاوناً ومساعداً لموسى عليه السلام في دعوته إلى الله، وآتاه النبوة استجابة لدعوة موسى، فباتحادهم وتعاونهم مكنهم الله من النصر على فرعون وجنوده (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3364). (¬2) انظر تفسير قوله تعالى: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *طه:29 - 32*.

نماذج تطبيقية من الأمم السابقة في التعاون:

نماذج تطبيقية من الأمم السابقة في التعاون: - التعاون بين ذو القرنين وأصحاب السد: (لقد مكن الله عز وجل لذي القرنين في الأرض، وآتاه من كل شيء سبباً، فتوفرت القدرة والسلطة، وتهيأت أمامه أسباب القوة والنفوذ التي لم تتوفر لكثير غيره .. وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:83 - 84]، ومع ذلك لم يستغن ذو القرنين عن معونة الآخرين حينما أراد أن يقوم بعمل كبير، وإنجاز عظيم: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف: 93 - 94]، فصارحهم ذو القرنين بأن مثل هذا العمل الضخم يحتاج إلى التعاون، ولا يتم دونه؛ فقال: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف: 95] ... الآيات، فماذا كانت نتيجة هذا التعاون العظيم؟ كانت نتيجته إتمام عمل عظيم، سد منيع، لا يستطيع مهاجموه أن يعلو ظهره، ولا أن يحدثوا فيه خرقاً .. والدرس الذي نخرج به أن التعاون إذا أخلص له أهلوه، وبذلوا فيه بصدق ما استطاعوا حقق لهم من النتائج ما يكفي ويشفي) (¬1). ¬

(¬1) ((الرائد دروس في التربية والدعوة))، لمازن عبدالكريم الفريح (1/ 228 - 229).

نماذج تطبيقية من النبي صلى الله عليه وسلم في التعاون:

نماذج تطبيقية من النبي صلى الله عليه وسلم في التعاون: - كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى لقضاء حوائج المسلمين ويحب إعانتهم والوقوف معهم فيما يلم بهم من نوازل، وكان مجبولاً على ذلك من صغره وقبل بعثته، وقد بينت ذلك أمنا خديجة رضي الله عنها عندما كانت تخفف من روع النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من غار حراء بعد نزول الوحي عليه، وكان فزعاً، فقالت له: (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) (¬1). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة)) (¬2). - وعن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو أغبر بطنه يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع بها صوته: أبينا أبينا)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (3) ومسلم (160). واللفظ للبخاري. (¬2) رواه البخاري (6039). (¬3) رواه البخاري (4104) ومسلم (1803)، واللفظ للبخاري.

نماذج تطبيقية من الصحابة في التعاون:

نماذج تطبيقية من الصحابة في التعاون: كان الصحابة رضوان الله عليهم مثالاً يحتذى بهم في التعاون، وكانوا في ذلك المثل الأسمى، فكانوا كخلية النحل في تكاتفها وتعاونها، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، و (في الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص يفتحون مصر والشام والعراق، كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يسوسون الناس، ويرعون شئونهم، وكان معاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر يعلمون الناس، ويفتونهم ويربونهم، وكان أبو هريرة وأنس وعائشة يحفظون الحديث ويروونه، وكان أبو ذر وأبو الدرداء يعظون الناس والحكام وينصحونهم، فتعاونوا ولم يتعايبوا .. وتناصروا ولم يتدابروا) (¬1). ونقف هنا وقفات بسيطة مع نماذج بسيطة من تعاون الصحابة: تعاون الصحابة رضي الله عنهم في حفر الخندق: - ينقل لنا الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه صورة من تعاون الصحابة وتكاتفهم في حفر الخندق، فيقول: ((جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فبارك في الأنصار والمهاجرة)) (¬2). تعاون أبي بكر وأهل بيته مع النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته: - جهز أبو بكر راحلتين عندما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة، وخاطر بنفسه وهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما وصلا غار ثور دخل أبو بكر أولاً ليستبرأ الغار للنبي صلى الله عليه وسلم كي لا يصيبه أذى، وأعدت أسماء بنت أبي بكر لهما جهاز السفر، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتي لهما بأخبار قريش، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر يريح الغنم عليهما وهما في الغار ليشربا من لبنها، وفي طريقهما إلى المدينة كان أبو بكر إذا طلب قريش للرسول صلى الله عليه وسلم مشى خلفه، وإذا تذكر رصدها له مشى أمامه (¬3). تعاون الصحابة رضوان الله عليهم في بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: - عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار: ((يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنسٌ: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين، وفيه خربٌ وفيه نخلٌ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)) (¬4). تعاون الأنصار مع المهاجرين بعد الهجرة: - قال عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- ((آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا، فأقاسمك مالي شطرين، ولي امرأتان، فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلوني على السوق، فدلوني على سوق بني قينقاع، فما رحت حتى استفضلت أقطاً وسمناً)) (¬5). - وقالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: ((اقسم بيننا وبينهم النخل، قال: لا. قال: يكفوننا المئونة ويشركوننا في التمر. قالوا: سمعنا وأطعنا)) (¬6). ومن تعاون الصحابة أيضاً: - موقفهم في قصة سلمان رضي الله عنه عندما كاتب سيده، وكان فقيراً لا يملك ما كاتب عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: ((أعينوا أخاكم)) فأعانوه، حتى تحرر من رقه وأصبح حراً (¬7). ¬

(¬1) ((التيه والمخرج)) عدنان عرعور (ص53 - 54). (¬2) رواه البخاري (2835). (¬3) انظر ((صحيح البخاري)) حديث رقم (3905). (¬4) رواه البخاري (428)، ومسلم (524). (¬5) رواه البخاري (2048). (¬6) رواه البخاري (3782). (¬7) رواه أحمد (5/ 441) (23788)، والبزار (6/ 462) (2500)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (12/ 228)، والطبراني (6/ 222) (6065). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 335): [روي] بأسانيد وإسناد الرواية الأولى رجالها رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع ورجال الرواية الثانية رجالها رجال الصحيح غير عمرو بن أبي قرة الكندي وهو ثقة، وقال ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (4/ 42): إسناده جيد، وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 556)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (84).

ميادين التعاون

ميادين التعاون (لقد أقام الإسلام التعاون بين المسلمين على أساس محكم، ومدَّ له في كل ناحية من نواحي الحياة بسبب. فالتمثيل القرآني لأهل الإيمان أنهم كالبنيان المرصوص، وفي التمثيل النبوي كالجسد الواحد. فأمور الإسلام ومطلوباته لا تتحقق على وجهها إلا بالتعاون. ودين الله بنيان شامخ لا يقوم ولا يثبت إلا حين تتراص لبناته وتتضامن مبانيه لتسد كل لبنة ثغرتها. وإذا كان الله سبحانه قد خلق الخلق لعبادته وطاعته فإن هذه العبادات والطاعات أنواع: قلبية عقلية كالإيمان، وبدنية كالصلاة، ومالية كالزكاة، ومركبة من البدن والمال كالحج والجهاد. وكل هذه العبادات بأنواعها لا تقام ولا تشاد إلا بوسائلها: من صحة الفكر، وسلامة البدن، وسعة ذات اليد. ولهذه الوسائل وسائل: من التفقه في الدين، والإحسان في الأعمال؛ من زراعة وصناعة وحرف، وإتقان في العلوم والمعارف؛ من الطب والحساب والهندسة والمعامل والمختبرات. ومن المقطوع به - كما سبق - أن الإنسان بمفرده بل حتى الرهط من الناس والجماعة المحدودة من القوم لا تستطيع بهذه الوسائل الانفراد بتحقيق هذه المقاصد. ومنه يتبين حاجة الناس إلى الاجتماع والتآزر، فذلك ما تقتضيه الفطرة، ويتطلبه الدين، وتنتظم به الشؤون، وتستقيم به العلوم. وهذا بعض البسط لصور من التعاون في أحكام الإسلام وآدابه، وإذا استجلاها رجل الدعوة عرف ضرورة التعاون وحاجته إليه في ميدانه ومجاله. فالصلوات الخمس جماعة وجمعة، وصلاة العيدين وآدابهما، والحج بشعائره، وعقد النكاح بوليمته وآدابه، وعقيقة المولود، وإجابة الدعوى حتى للصائم، كلها مناشط عبادية اجتماعية تعاونية، ولا تكون صورتها الشرعية إلا كذلك. وينضم إلى اجتماع الأعياد اجتماع الشدائد والكرب في صلوات الاستسقاء والكسوف والجنازة. إنه انتظام عجيب بين أهل الإسلام في مواطن السرور والحزن، ناهيك بصورة الأخوة، ومبدأ الشورى، وحقوق المسلمين فيما بينهم؛ في القربى والجوار والضيف وابن السبيل واليتامى والمساكين، مع ما يحيط بذلك من سياج الآداب الاجتماعية؛ من إفشاء السلام، وفسح المجالس، ودمح الزلة، مما بسطه قانون الأخلاق في الإسلام، ... أما أنواع المعاملات والتعاملات فذلك جلي في عقود المضاربة والعارية والهبة والمهاداة وفرض الدية على العاقلة. وثمة صور من المعاونات في كف الظلم، ونصرة المظلوم، ودفع الصائل بسلاح أو مال. بل هل يقوم الجهاد، وتقام الحدود، وتستوفى الحقوق، ويقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالتعاون والتآزر. وهناك التعاون بالرأي، بما يدل على الحق، ويخرج من الحيرة، وينقذ من المأزق والهلكة، في النصيحة والمشاورة، وقد يكون تعاوناً بالجاه؛ من الشفاعة لذي الحاجة عند من يملك قضاءها. ومن هنا قال القرطبي رحمه الله: " فواجب على الناس التعاون، فالعالم يعين بعلمه، والغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ". فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، يتقدمهم أولو الأمر والعلماء والدعاة بلغوا المكانة المحفوفة بالعزة المشار إليها بقوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]) (¬1). ¬

(¬1) ((مجلة البحوث الإسلامية)) العدد (51)، ربيع الأول – جمادى الثانية، 1418هـ، ص (212 - 215).

أصناف الناس في التعاون

أصناف الناس في التعاون قال الماوردي- رحمه الله تعالى-: (تنقسم أحوال من دخل في عداد الإخوان أربعة أقسام: منهم من يعين ويستعين، ومنهم من لا يعين ولا يستعين، ومنهم من يستعين ولا يعين، ومنهم من يعين ولا يستعين. فأما المعين والمستعين فهو معاوض منصف يؤدي ما عليه ويستوفي ماله، فهو كالمقرض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الاستغناء، وهو مشكور في معونته، ومعذور في استعانته، فهذا أعدل الإخوان. وأما من لا يعين ولا يستعين فهو متروك قد منع خيره وقمع شره فهو لا صديق يرجى، ولا عدو يخشى، وإذا كان الأمر كذلك فهو كالصورة الممثلة، يروقك حسنها، ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره، ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم أجدر. وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كَلّ، ومهين مستذل قد قطع عنه الرغبة وبسط فيه الرهبة، فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن، وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقل عند استقلاله فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب. وأما من يعين ولا يستعين فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة. فهذا أشرف الإخوان نفساً وأكرمهم طبعاً فينبغي لمن أوجد له الزمان مثله، وقل أن يكون له مثل؛ لأنه البر الكريم والدر اليتيم، أن يثني عليه خنصره، ويعض عليه بناجذه ويكون به أشد ضنا منه بنفائس أمواله، وسني ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعا فهو بالادخار أحق، ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه، وحمد أكثر شيمه؛ لأن اليسير مغفور والكمال معوز) (¬1). وقد علق الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد على تقسيم الماوردي بقوله: (هذا تقسيم من الماوردي - رحمه الله - أشبه بالحصر العقلي. وهو تقسيم جميل لتصوير النفوس وأحوال الناس والشخوص. ولكن واقع الناس، وما قضت به سنة الله في هذه الحياة، من بناء الدنيا واستقامة المعاش على المشاركة والمعاونة واتخاذ الناس بعضهم بعضاً سخرياً، ... يشوش على ما قرره الماوردي، فلا يتصور في الواقع من أحد - فيما نحن بصدده - أن يحقق مبتغاه إلا بتعاضد أطراف من الناس. هذا جانب. ومن جانب آخر، فإن البذل من طرف واحد - على نحو ما ذكر الماوردي - لا يسمى إلا إحساناً ومنة ونعمة، وهذا ليس من باب التعاون في شيء إلا من حيث الأثر والفائدة للمُحسن إليه والمُنْعَم عليه. كما أن من يستعين ولا يعين قد رضي لنفسه أن يكون عالة على غيره، وجعل حياته مبنية على السؤال والطلب والتطلع إلى ما في أيدي الناس. وأما من لا يعين ولا يستعين فتصور وجوده في بني الإنسان بعيد، على نحو ما سبق في المقدمة من تقرير أن التعاون ضرورة إنسانية. فالإنسان لا يستغني عن أخيه الإنسان، كما قضى الله عز وجل في سننه) (¬2). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص171 - 173) بتصرف واختصار. (¬2) ((مجلة البحوث الإسلامية)) العدد (51)، ربيع الأول – جمادى الثانية، 1418هـ، (ص: 209 - 210).

مسائل متفرقة حول التعاون

مسائل متفرقة حول التعاون - التعاون بين الحاكم والمحكوم: إن الحاكم يحتاج إلى المعاونة والمساعدة، مثله مثل غيره من البشر، بل هو أشد حاجةً إلى ذلك من غيره، بسبب الأعمال والتكاليف الكثيرة التي يواجهها في إدارة البلاد، ومحال أن يتصدر لكل شئون البلاد ويديرها دون وجود المعين والمساعد، (فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا، فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائلٌ يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه) (¬1). - وجوه التعاون على البر والتقوى: (قال ابن خويز مندادٍ في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوهٍ، فواجبٌ على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ((المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم). ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه)) (¬2). - وصايا في الحث على التعاون: - قال أبو هلال العسكري: (أجود ما قيل في التضافر والتعاون قول قيس بن عاصم المنقري يوصي ولده وقومه وجدت في كتاب غير مسموع لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة وعاينته وقال يا بني أوصيكم بتقوى الله وليعطف الكبير منكم على الصغير ولا يجهل الصغير حق الكبير وأكرموا مسلمة بن عبد الملك فإنه نابكم الذي عنه تعبرون ومجنكم الذي به تستجيرون ولا تقطعوا من دونه رأياً ولا تعصوا له أمراً، وأكرموا الحجاج بن يوسف فإنه الذي وطأ لكم المغابر وذلل لكم قارب العرب وعليكم بالتعاون والتضافر وإياكم والتقاطع والتدابر. فقال قيس بن عاصم لبنيه: بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد حتى تلين جلدوكم وقلوبكم ... لمسود منكم وغير مسود إن القداح إذا جمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد عزت ولم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد) (¬3) - روي أن أكتم بن صيفي دعا أولاده عند موته فاستدعى بضمامة من السهام وتقدم إلى كل واحد أن يكسرها فلم يقدر أحد على كسرها ثم بددها وتقدم إليهم أن يكسروها فاستهلوا كسرها فقال كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم (¬4). - التعاون في عالم الحيوانات والطيور: توجد العديد من الأمثلة التي تدل على التعاون والتآزر والتكافل بين الكائنات الحية، وكثير من هذه الكائنات تعيش على شكل مجاميع وقطعان، لتكون قوة واحدة لحماية بعضها البعض، وللتصدي لأي خطر قد يحدق بأحد أفرادها. (مخلوقات جعل الله في فطرتها نوع تعاون إما لتأمين غذائها أو الدفاع عن نفسها وجماعتها، ويظهر ذلك في جنسي النمل والنحل. فقد شوهد أن النمل إذا عثر على عسل في وعاء، ولم يتمكن من الوصول إليه مباشرة؛ لوجود ماء أو سائل يحول بينه وبين هذا العسل، فإنه يتعاون بطريقة فدائية انتحارية؛ فتتقدم فرق بعد أخرى فتلتصق بالسائب وتموت، وتتقدم غيرها مثلها حتى تتكون قنطرة من جثث النمل الميت يعبر عليها الأحياء الباقون، فيدخلون الوعاء ويصلون إلى العسل ويبلغون مأربهم. هذا في حال اليسر والغذاء. ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/ 463). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (6/ 46). (¬3) ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (1/ 151). (¬4) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (2/ 135).

أما في حال العسر والتعرض للمخاطر فإن مجاميع النمل إذا تعرضت لتيار مائي داهم - مثلاً - فإن بعضها يمسك ببعض - ثم تكون كتلة كروية متماسكة تتحمل اندفاع التيار، ثم تعمل حركتين في آن واحد، إحداهما: تتحرك فيها الأرجل كالمجاديف في اتجاه واحد نحو أقرب شاطئ، والثانية: حركة دائرية من أعلى إلى أسفل ليتم تقاسم التنفس بين الجميع، فإذا ما تنفس من في الأعلى حصل انقلاب ليرتفع من في جهة القاع، فيأخذ حظه من النفس، وهكذا في حركة دائرية حتى يبلغوا شاطئ الأمان. فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وسبحان من وهب الإنسان العقل المفكر ليتأسى ويعتبر ويكتشف ويرقى بفكره - بعد هداية الله وتوفيقه - ليكون خيراً من الأنعام. أما النحل فنظامه في تكوين مملكته وإنتاج عسله وترتيب الأعمال بين أفراد خليته فعجب عجاب في التعاون والتناوب ولله في خلقه شؤون) (¬1). فهذه الأمثلة وغيرها، تبين عظيم قدرته سبحانه وتعالى في الكون، الذي فطر جميع المخلوقات على التعاون والتكافل والتآزر. - حكم وأمثال في التعاون - في الجريرة تشترك العشيرة: يضرب في الحث على المواساة والتعاون (¬2). - هل ينهض البازي بغير جناحٍ؟ يضرب في الحث على التعاون والوفاق (¬3). - بالساعدين تبطش الكفان: يضرب في تعاون الرجلين وتساعدهما وتعاضدهما في الأمر (¬4). - بال حمارٌ فاستبال أحمرةً: أي حملهن على البول. يضرب في تعاون القوم على ما تكرهه (¬5). - من أقوال الحكماء - من جاد لك بمودته فقد جعلك عديل نفسه، فأول حقوقه اعتقاد مودته، ثم إيناسه والانبساط إليه في غير محرَّم، ثم نصحه في السر والعلانية، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة أو يناله من نكبة، فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم (¬6). - فضيلة الفلاحين التعاون بالأعمال، وفضيلة التجار التعاون بالأموال، وفضيلة الملوك التعاون بالآراء والسياسة، وفضيلة العلماء التعاون بالحكم (¬7). ¬

(¬1) ((مجلة البحوث الإسلامية)) العدد (51)، ربيع الأول – جمادى الثانية، 1418هـ، (ص: 198 - 199). (¬2) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (ص116). (¬3) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (2/ 404). (¬4) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (1/ 95). (¬5) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (1/ 98). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص176). (¬7) ((الكشكول)) لبهاء الدين الهمذاني (2/ 289).

التعاون في واحة الشعر ..

التعاون في واحة الشعر .. قال الشاعر: لولا التعاون بين الناس ما شرفت ... نفس ولا ازدهرت أرض بعمران (¬1) ويرحم الله شوقي حيث يقول: إن التعاون قوةٌ علويةٌ ... تبني الرجال وتبدع الأشياء (¬2) وقال آخر: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن إخوان الثقات الذخائر (¬3) وقال آخر: يعرفك الإخوان كل بنفسه ... وخير أخ ما عرفتك الشدائد (¬4) وقال آخر: أعين أخي أو صاحبي في بلائه ... أقوم إذا عض الزمان وأقعد ومن يفرد الإخوان فيما ينوبهم ... تنبه الليالي مرةً وهو مفرد (¬5) وقال حافظ إبراهيم: لا تعجبن لملكٍ عز جانبه ... لولا التعاون لم تنظر له أثرا (¬6) وقال آخر: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح (¬7) ولله در القائل: كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى ... خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا تأبى القداح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا (¬8) وقال آخر: الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ ... بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم (¬9) وقال آخر: إذا العبء الثقيل توزعته ... رقاب القوم خف على الرقاب (¬10) وقال آخر: وإن قام منهم قائم قال قاعد ... رشدت فلا غرم عليك ولا خذل وقال آخر: إذا ما تأملنا الأمور تبينت ... لنا وأمير القوم للقوم خادم (¬11) وقال آخر: إذا سيدٌ منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم وقال أحد الشعراء: هموم رجال في أمور كثيرة ... وهمي من الدنيا صديق مساعد نكون كروح بين جسمين قسمت ... فجسماهما جسمان والروح واحد (¬12) وقال آخر: إني رأيت نملة ... في حيرة بين الجبال لم تستطع حمل الطعام ... وحدها فوق الرمال نادت على أخت لها ... تعينها فالحمل مال لم يستطيعا حمله ... تذكرا قولا يقال تعاونوا جميعكم ... فالخير يأتي بالوصال نادت على إخوانها ... جاءوا جميعا بالحبال جروا معا طعامهم ... لم يعرفوا شيئا محال وقال حافظ إبراهيم: إذا ألمت بوادي النيل نازلةٌ ... باتت لها راسيات الشام تضطرب وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألمٍ ... أجابه في ذرا لبنان منتحب لو أخلص النيل والأردن ودهما ... تصافحت منهما الأمواه والعشب وقال آخر: وكل عضوٍ لأمرٍ ما يمارسه ... لا مشي للكف بل تمشي به القدم (¬13) وقال آخر: وبلوت أسباب الحياة وقستها ... فإذا التعاون قوة ٌ ونجاح وقال آخر: وإن ضاع التعاون في أناس ... عفت آثارهم في الضائعينا ... ¬

(¬1) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص303). (¬2) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص303). (¬3) ((عيون الأخبار)) للدينوري (3/ 4). (¬4) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص87). (¬5) ((موارد الظمآن لدروس)) لعبد العزيز السلمان (3/ 491). (¬6) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص303). (¬7) ((عيون الأخبار)) للدينوري (3/ 4). (¬8) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص86). (¬9) ((موارد الظمآن لدروس)) لعبد العزيز السلمان (4/ 155). (¬10) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص303). (¬11) ((موارد الظمآن لدروس)) لعبد العزيز السلمان (4/ 156). (¬12) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (ص666). (¬13) ((موارد الظمآن لدروس)) لعبد العزيز السلمان (4/ 156).

التواضع

معنى التواضع لغة واصطلاحاً معنى التواضع لغة: يقال وضَعَ فُلانٌ نَفْسَهُ وضْعاً، ووُضُوعاً بالضَّم، وَضَعَةً، بالفَتْحِ: أي أزلها. وتَوَاضَعَ الرَّجُلُ: إذا تَذَلَّلَ، وقيلَ: ذَلَّ وتَخاشَعَ (¬1). وقال في (الصحاح): (وَضُع الرجل بالضم يوضع ضِعَةً بفتح الضاد وكسرها أي صار وضيعا) (¬2). معنى التواضع اصطلاحاً: التواضع هو: (ترك الترؤس، وإظهار الخمول، وكراهية التعظيم، والزيادة في الإكرام، وأن يتجنب الإنسان المباهات بما فيه من الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال، وأن يتحرز من الإعجاب والكبر) (¬3). وقيل هو: (رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه فضله ومنزلته. وهو وسط بين الكبر والضعة، فالضعة: وضع الإنسان نفسه مكانا يزري به بتضييع حقه. والكبر: رفع نفسه فوق قدره) (¬4). وقيل هو: (إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه وقيل هو تعظيم من فوقه فضله) (¬5). ¬

(¬1) ((تاج العروس)) (22/ 343) لمرتضى الزبيدي. (¬2) ((مختار الصحاح)) للجوهري (3/ 1300). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص25) (¬4) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 299). (¬5) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 341).

الفرق بين التواضع وبعض الصفات

الفرق بين التواضع وبعض الصفات الفرق بين التواضع والتذلل: (أن التذلل: إظهار العجز عن مقاومة من يتذلل له. والتواضع: إظهار قدرة من يتواضع له سواء كان ذا قدرة على المتواضع أو لا ألا ترى أنه يقال العبد متواضع لخدمه أي يعاملهم معاملة من لهم عليه قدرة ولا يقال يتذلل لهم لأن التذلل إظهار العجز عن مقاومة المتذلل له وإنه قاهر وليست هذه صفة الملك مع خدمه) (¬1). الفرق بين التواضع والخشوع: (التواضع: يعتبر بالأخلاق والأفعال الظاهرة والباطنة. والخشوع: يقال باعتبار الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح) (¬2). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 122). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 216).

الترغيب والحث على التواضع من القرآن والسنة

الترغيب والحث على التواضع من القرآن والسنة الترغيب والحث على التواضع من القرآن - قال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] قال ابن القيم: (أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين قال الحسن: علماء حلماء وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين والهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران) (¬1). (وقال تعالى مخاطباً رسوله ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]) (¬2). - كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين وأن يتواضع لهم فقال: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم) (¬3). وقال عز من قائل: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] - ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين) (¬4) حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54] وقال ابن كثير: (هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]) (¬5) وقال ابن القيم: (لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل) (¬6). - وقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24] (حيث أمر الله بالتواضع - للوالدين- ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر) (¬7). وقال سبحانه: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 108). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 148). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) (10/ 56). (¬4) ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 75). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 136). (¬6) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 327) (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) لعبد الرحمن السعدي (1/ 456).

قال ابن كثير: (يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ، أي: ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم، ولا فسادًا فيهم) (¬1). الترغيب والحث على التواضع من السنة رغب الإسلام في التواضع وحث عليه ابتغاء مرضات الله، وأن من تواضع جازاه الله على تواضعه بالرفعة، وقد وردت نصوص من السنة النبوية تدل على ذلك: - منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (¬2). قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (¬3): (فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى يمنحه ذلك في الدنيا جزاء على تواضعه له، وأن تواضعه يثبت له في القلوب محبة ومكانة وعزة. والثاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه) (¬4). - وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (¬5). قال ابن عثيمين: (يعني: أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان من عادة السلف رحمهم الله، أن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه ومن هو أكبر مثل أبيه ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى من هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحد على أحد وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتصف بها، أي بالتواضع لله عز وجل ولإخوانه من المسلمين) (¬6). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من امرئ إلا وفي رأسه حكمة والحكمة بيد ملك إن تواضع قيل للملك: ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع قيل للملك: ضع الحكمة أو حكمته)) (¬7). - وعن معاذ بن أنس الجهني- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من ترك اللّباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ حلل الإيمان شاء يلبسها)) (¬8). قال ابن عثيمين: (وهذا يعني أن الإنسان إذا كان بين أناس متوسطي الحال لا يستطيعون اللباس الرفيع فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلا تنكسر قلوبهم، ولئلا يفخر عليهم، فإنه ينال هذا الأجر العظيم أما إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم ويلبسون الثياب الرفيعة لكنها غير محرمة، فإن الأفضل أن يلبس مثلهم لأن الله تعالى جميل يحب الجمال ولاشك أن الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال يلبسون الثياب الجميلة ولبس دونهم فإن هذا يعد لباس شهرة فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال) (¬9). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 258) (¬2) رواه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((إكمال المعلم شرح صحيح مسلم)) للقاضي عياض (8/ 59). (¬5) رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 524). (¬7) رواه البزار في ((كشف الأستار)) (4/ 223) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: لا نعلمه رواه عن علي عن سعيد عن أبي هريرة إلا المنهال. وحسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 86). (¬8) رواه الترمذي (2481) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. وحسنه، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8584)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6145). (¬9) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 317 - 318).

- وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ قالوا: بلى. قال صلّى الله عليه وسلّم: كل ضعيف متضعّف لو أقسم على الله لأبره. ثم قال: ألا أخبركم بأهل النّار؟ قالوا: بلى. قال: كل عتل جواظ مستكبر)) (¬1). قال القاضي عياض: (وقوله: في أهل الجنة: كل ضعيف متضعف ... هو صفة نفي الكبرياء والجبروت التي هي صفة أهل النار، ومدح التواضع والخمول والتذلل لله عز وجل وحض عليه) (¬2). - عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((ابغوني في ضعفائكم، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) (¬3). قال الطيبي في معنى الحديث: (وفيه نهي عن مخالطة الأغنياء وتحذير من التكبر على الفقراء والمحافظة على جبر خواطرهم، ولهذا قال لقمان لابنه: لا تحقرن أحدا لخلقان ثيابه فإن ربك وربه واحد. وقال ابن معاذ: (حبك الفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامات الصالحين وفرارك منهم من علامات المنافقين). (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853) من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه. (¬2) ((إكمال المعلم شرح صحيح مسلم)) للقاضي عياض (8/ 383). (¬3) رواه أبو داود (2594)، والترمذي (1702)، وابن حبان (11/ 85) (4767) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وحسن إسناده البزار في ((البحر الزخار)) (10/ 75)، والنووي في ((الخلاصة)) (2/ 873). (¬4) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (1/ 109).

أقوال السلف والعلماء في التواضع

أقوال السلف والعلماء في التواضع - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (إنكم لتغفلون أفضل العبادة: التواضع) (¬1). - وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبد ذرى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف وما قل من الدنيا أحب إليه مما كثر ويكون من أحب وأبغض في الحق سواء يحكم للناس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) (¬2). - و (سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله) (¬3). - وقال ابن المبارك (رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل) (¬4). - وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: (رأيت أم الدرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس) (¬5). - وقال قتادة: (من أعطي مالا أو جمالا وثيابا وعلما ثم لم يتواضع كان عليه وبالا يوم القيامة) (¬6). - وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: (أي الرجال أفضل قال من تواضع عن رفعة وزهد على قدرة وترك النصرة على قومه) (¬7). - وقال إبراهيم بن شيبان: (الشرف في التواضع والعز في التقوى والحرية في القناعة) (¬8). - وقال علوان بن داود البجلي حدثني شيخ من همدان عن أبيه قال: (بعثني قومي في الجاهلية بخيل أهدوها لذي الكلاع فأقمت ببابه سنة لا أصل إليه ثم أشرف إشرافة على الناس من غرفة له فخروا له سجودا ثم جلس فلقيته بالخيل فقبلها ثم لقد رأيته بحمص وقد أسلم يحمل الدرهم اللحم فيبتدره قومه ومواليه فيأخذونه منه فيأبى تواضعا وقال: أف لذي الدنيا إذا كانت كذا ... أنا منها كل يوم في أذى ولقد كنت إذا ما قيل من ... أنعم الناس معاشا قيل ذا ثم بدلت بعيش شقوة ... حبذا هذا شقاء حبذا (¬9) - وعن صالح المري قال (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع: التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا) (¬10). - (وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير.) (¬11). - وقال يحيى ابن أبي كثير: (رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر) (¬12). ¬

(¬1) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10/ 405) (11852)، وابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 132)، وأبو داود في ((الزهد)) (286) من حديث الأسود بن يزيد رحمه الله. وقال ابن حجر العسقلاني في ((الأمالي المطلقة)) (96): حسن غريب اختلف فيه على ابن المبارك والمشهور عنه أنه موقوف. (¬2) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (2/ 52) من حديث مكحول رحمه الله. (¬3) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 329). (¬4) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص142). (¬5) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص149). (¬6) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص142) (¬7) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص144). (¬8) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 330). (¬9) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص146). (¬10) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص154). (¬11) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (67/ 373). (¬12) ((التواضع والخمول)) لابن أبي الدنيا (ص155).

أقسام التواضع

أقسام التواضع (والتواضع تواضعان أحدهما محمود والآخر مذموم والتواضع المحمود ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها) (¬1). - التواضع المحمود على نوعين: النوع الأول: (تواضع العبد عند أمر الله امتثالا وعند نهيه اجتنابا فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره فيبدو منها نوع إباء وشراد هربا من العبودية وتثبت عند نهيه! طلبا للظفر بما منع منه فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية. والنوع الثاني: تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى وتفرده بذلك وغضبه الشديد على من نازعه ذلك فتواضعت إليه نفسه وانكسر لعظمة الله قلبه واطمأن لهيبته وأخبت لسلطانه فهذا غاية التواضع وهو يستلزم الأول من غير عكس والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين والله المستعان). (¬2) التواضع المذموم: قال ابن القيم: (ومن التواضع المذموم المهانة، والفرق بين التواضع والمهانة، أن التواضع: يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة بعباده فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السفل في نيل شهواتهم وتواضع المفعول به للفاعل وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه فهذا كله ضعة لا تواضع والله سبحانه يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة وفي الصحيح عنه وأوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) (¬3). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) (ص 59). (¬2) ((الروح)) لابن القيم (ص 234) (¬3) ((الروح)) لابن القيم (ص 234)

من آثار خلق التواضع

من آثار خلق التواضع لا شك أن التواضع من أخلاق الصالحين والفضلاء، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من سماته التواضع، فمن آثاره: 1 - (أن التواضع يرفع المرء قدرا ويعظم له خطرا ويزيده نبلا). (¬1). 2 - (التواضع يؤدي إلى الخضوع للحق والانقياد له. 3 - التواضع هو عين العز، لأنه طاعة لله ورجوع إلى الصواب. 4 - يكفي المتواضع محبة عباد الله له ورفع الله إياه) (¬2). 5 - (التواضع فيه مصلحة الدين والدنيا ويزيل الشحناء بين الناس، ويريح من تعب المباهاة والمفاخرة) (¬3). 6 - (التواضع يكسب السلامة ويورث الألفة ويرفع الحقد ويذهب الصد) (¬4). 7 - (ثمرة التواضع المحبة كما أن ثمرة القناعة الراحة وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته) (¬5). 8 - التواضع يؤلف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة. ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) (ص 61). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي – بتصرف- (ص 209) (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر بتصرف – (11/ 341). (¬4) ((روضة العقلاء)) (ص 61). (¬5) ((روضة العقلاء) (ص 61).

درجات التواضع

درجات التواضع ذكر شيخ الإسلام الهروي للتواضع ثلاث درجات فقال: (الدرجة الأولى: التواضع للدين وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا ولا يتهم للدين دليلا ولا يرى إلى الخلاف سبيلا) (¬1) قال ابن القيم: (التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان وذلك بثلاثة أشياء: الأول: أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة: بالمعقول والقياس والذوق والسياسة فالأولى: للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض وإما عزل تأويل والثاني: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص: قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه والثالث: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق والحال ولم يعبأوا بالأمر والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر والتواضع: التخلص من ذلك كله. الثاني: أن لا يتهم دليلا من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها أو أن غيره كان أولى منه ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم وهكذا الواقع في الواقع حقيقة: أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنزا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك وأما بالنسبة إلى غيرك: فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو .. ولو .. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله: لم يحل له أن يدعها لقول أحد. الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلا البتة لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله بل إذا أحس بشيء من الخلاف: فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك وهو داع إلى النفاق وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم واعلم أن المخالف للنص لقول متبوعه وشيخه ومقلده أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته إن كان عند الله معذورا ولا والله ما هو بمعذور فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين من عباده فواعجبا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا أو تأويلا أو لغير ذلك فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم وجعلوه أسوأ حالا من أرباب الجرائم فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذا لهم ومعاذا والله أعلم). (¬2) قال صاحب المنازل: (ولا يصح ذلك إلا بأن يعلم: أن النجاة في البصيرة والاستقامة بعد الثقة وأن البينة وراء الحجة) (¬3) قال ابن القيم: (يقول: إن ما ذكرناه من التواضع للدين بهذه الأمور الثلاثة: ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 120) (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 120) (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 124)

الأولى: علمه أن النجاة من الشقاء والضلال: إنما هي في البصيرة فمن لا بصيرة له: فهو من أهل الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب يفرق به العبد بين الحق والباطل ونسبته إلى القلب: كنسبة ضوء العين إلى العين وهذه البصيرة وهبية وكسبية فمن أدار النظر في أعلام الحق وأدلته وتجرد لله من هواه: استنارت بصيرته ورزق فرقانا يفرق به بين الحق والباطل. الثاني: أن يعلم أن الاستقامة إنما تكون بعد الثقة أي لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم وأنه مقتبس من مشكاة النبوة ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة. الثالث: أن يعلم أن البينة وراء الحجة والبينة مراده بها: استبانة الحق وظهوره وهذا إنما يكون بعد الحجة إذا قامت استبان الحق وظهر واتضح وفيه معنى آخر وهو: أن العبد إذا قبل حجة الله بمحض الإيمان والتسليم والانقياد: كان هذا القبول هو سبب تبينها وظهورها وانكشافها لقلبه فلا يصبر على بينة ربه إلا بعد قبول حجته وفيه معنى آخر أيضا: أنه لا يتبين له عيب عمله من صحته إلا بعد العلم الذي هو حجة الله على العبد فإذا عرف الحجة اتضح له بها ما كان مشكلا عليه من علومه وما كان معيبا من أعماله. وفيه معنى آخر أيضا: وهو أن يكون وراء بمعنى أمام والمعنى: أن الحجة إنما تحصل للعبد بعد تبينها فإذا لم تتبين له لم تكن له حجة يعني فلا يقنع من الحجة بمجرد حصولها بلا تبين فإن التبين أمام الحجة والله أعلم) (¬1). قال صاحب المنازل رحمه الله: (الدرجة الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبدا من المسلمين أخا وأن لا ترد على عدوك حقا وأن تقبل من المعتذر معاذيره) (¬2). قال ابن القيم: (يقول:- أي الهروي-إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدا أفلا ترضى أنت به أخا فعدم رضاك به أخا وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده عبدا لنفسه عين الكبر وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته وسيده راض بعبوديته؟ فيجيء من هذا: أن المتكبر غير راض بعبودية سيده إذ عبوديته توجب رضاه بأخوة عبده وهذا شأن عبيد الملوك فإنهم يرون بعضهم خشداشية (¬3) بعض. ومن ترفع منهم عن ذلك: لم يكن من عبيد أستاذهم. قوله: (وأن لا ترد على عدوك حقا) أي لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا لم ترد عليه حقه فكيف تمنعه حقا له قبلك بل حقيقة التواضع أنه إذا جاءك قبلته منه وإذا كان له عليك حق أديته إليه فلا تمنعك عداوته من قبول حقه ولا من إيتائه إياه. وأما (قبولك من المعتذر معاذيره) فمعناه: أن من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقا كانت أو باطلا وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وعلامة الكرم والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه وقل يمكن أن يكون الأمر كما تقول ولو قضي شيء لكان والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك) (¬4). قال صاحب المنازل رحمه الله: (الدرجة الثالثة: أن تتضع للحق فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة ورؤية حقك في الصحبة وعن رسمك في المشاهدة) (¬5). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 124) (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 126) (¬3) الخشداش: لفظ فارسي معناه: الزميل في الخدمة، والخشداشية: هم الأمراء الذين نشؤوا مماليك عند سيد واحد فنبتت بينهم رابطة الزمالة. (¬4) ((مدارج السالكين)) (3/ 126) (¬5) ((مدارج السالكين)) (3/ 127)

قال ابن القيم: (يقول:-أي الهروي- التواضع، بأن تخدم الحق سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك ولا يكون الباعث لك داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه ولو اعتاد ضده لكان كذلك. وحاصله: أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي وموافقة هوى ومحبة ولاعادة بل الباعث مجرد الأمر والرأي والمحبة والهوى والعوائد: منفذة تابعة لا أنها مطاعة باعثة وهذه نكتة لا يتنبه لها إلا أهل البصائر. (وأما نزوله عن رؤية حقه في الصحبة) فمعناه: أن لا يرى لنفسه حقا على الله لأجل عمله فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض والذل والانكسار فمتى رأى لنفسه عليه حقا فسدت الصحبة وصارت معلولة وخيف منها المقت ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم. فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق والناس فيه ثلاث فرق: فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقا فقالت: لا يجب على الله شيء البتة وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه. وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله وأن أعماله كانت سببا لهذا الإيجاب والفرقتان غالطتان. والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحا ولا يدخل أحدا عمله الجنة أبدا ولا ينجيه من النار والله تعالى بفضله وكرمه ومحض جوده وإحسانه أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب ولو بـ (عسى ولعل) ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (عسى من الله واجب) (¬1) ووعد اللئيم خلف ولو اقترن به العهد والحلف. والمقصود: أن عدم رؤية العبد لنفسه حقا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقا لعبده قال النبي لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه: أن لا يعذبهم بالنار. فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق ولا يضيع لديه سعي كما قيل: ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع وأما قوله: (وتنزل عن رسمك في المشاهدة) أي من جملة التواضع للحق: فناؤك عن نفسك فإن رسمه هي نفسه والنزول عنها: فناؤه عنها حين شهوده الحضرة وهذا النزول يصح أن يقال كسبي باعتبار وإن كان عند القوم غير كسبي لأنه يحصل عند التجلي والتجلي نور والنور يقهر الظلمة ويبطلها والرسم عند القوم ظلمة فهي تنفر من النور بالذات فصار النزول عن الرسم حين التجلي ذاتيا. ووجه كونه كسبيا: أنه نتيجة المقامات الكسبية ونتيجة الكسبي كسبي. وثمرته وإن حصلت ضرورة بالذات: لم يمتنع أن يطلق عليها كونها كسبية باعتبار السبب والله أعلم) (¬2). ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (3/ 905). (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 127)

صور التواضع

صور التواضع 1 - تواضع الإنسان في نفسه: ويكون ذلك بألا يظن أنه أعلم من غيره، أو أتقى من غيره أو أكثر ورعاً من غيره، أو أكثر خشية لله من غيره، أو يظن أن هناك من هو شر منه، ولا يظن أنه قد أخذ صكاً بالغفران!! وآخر بدخول الجنة!!؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. وقال أبو زيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، فقيل له: فمتى يكون متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالا. ومن التواضع ألا يعظم في عينك عملك، إن عملت خيراً، أو تقربت إلى الله تعالى بطاعة، فإن العمل قد لا يقبل، وإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]. ولهذا قال بعض السلف: لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة لتمنيت أن أموت الآن! ومن ذلك التواضع عندما تسمع نصيحة، فإن الشيطان يدعوك إلى ردها، وسوء الظن بالناصح، لأن معنى النصيحة أن أخاك يقول لك: إن فيك من العيوب كيت وكيت: وكم مرة أتعبتكم بنصيحتي ... وقد يستفيد البغضة المتنصح! أما من عصمه الله تعالى فإنه إذا وجد من ينصحه ويدله على عيوبه قهر نفسه، وقبل منه، ودعا له وشكره. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكبر: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (¬1). يعني: رد الحق، وبخس الناس أشياءهم. فالمستكبر صاحب نفسية متعاظمة لا يكاد يمدح أحداً أو يذكره بخير، وإن احتاج على ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه. أما إن سمع من يذكره ببعض عيوبه فهيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلا لمركب النقص في نفسه، ولهذا كان من كمال الإنسان أن يقبل النقد والملاحظة بدون حساسية أو انزعاج أو شعور بالخجل والضعف وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الراية، ويرفع الشعار: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا (¬2). 2 - التواضع في التعلّم: قال الشافعي: لا يطلب هذا العلم أحد بالملك وعزة النفس فيفلح، لكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النفس أفلح. وعن الأصمعي قال: من لم يحمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبداً. قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. وقد نظم أبو عامر النسوي فقال: العلم يأتي كل ذي ... خفض، ويأبى كل آبي كالماء ينزل في الوها ... د، وليس يصعد في الروابي وكذلك ينبغي أن يتحمل الطالب ما يكون من الشيخ أو من بقية الطلبة لئلا يفوته العلم، فتفوته الدنيا والآخرة، مع حصول العدو وطلبه، وشماتة الأعداء من الأربعة الأمور بالاستعاذة منهن في الصحيحين في قوله عليه السلام: ((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (¬3). وقد قيل: لمحبرة تجالسني نهاري ... أحب إلي من أنس الصديق ورزمة كاغد في البيت عندي ... أعز إلي من عدل الرقيق ولطمة عالم في الخد مني ... ألذ إلي من شرب الرحيق وقال الشافعي: غضب الأعمش يوماً على رجل من الطلبة فقال آخر: لو غضب علي مثلك لم أعد إليه. فقال له الأعمش: إذا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي. ذكره البيهقي (¬4). وأن لا ينظر الشاب المبتدئ إلى نفسه على أنه ند لهذا العالم أو ذاك، ويقول: هم رجال .. ونحن رجال!! ¬

(¬1) رواه مسلم (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه الدارمي (1/ 506)، وذكره ابن المبرد في ((محض الصواب)). (¬3) رواه البخاري (6616)، ومسلم (2707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 111 - 115).

والحال أن الرجولة تختلف .. فإن صفة الرجولة في القرآن الكريم سيقت مساق المدح في مواضع عدة: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ [التوبة: 108]. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور: 36 - 37]. وقد يعبر بالرجولة عن الفحولة والذكورية فحسب كما في مواضع أخرى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ [الجن: 6]. فالرجال ليسوا سواء، وأين الثرى من الثريا؟! ولربما رأيت طويلب علم لا يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولا يكاد يحفظ حديثاً من البخاري أو مسلم بحروفه، فضلاً عن سنده ومعناه. ومع هذا قد يقف أمام جهابذة العلماء وكأنه أبو حنيفة أو الشافعي! وهجيراه أن يقول: أرى، وأنا، وقلت، وعندي! يقولون: هذا عندنا غير جائز!! ... ومن أنتم حتى يكون لكم (عندُ)!! جلس الشافعي ذات يوم مع تلميذه أحمد بن حنبل، فنظر إليه وقال: أحب الصالحين ولست منهم ... لعلي أن أنال بهم شفاعه وأكره من تجارتهم معاصي ... وإن كنا سوياً في البضاعة فنظر إليه تلميذه أحمد ثم قال: تحب الصالحين وأنت منهم ... ومنكم سوف يلقون الشفاعة وتكره من تجارتهم معاصي ... وقاك الله من شر البضاعة. 3 - التواضع مع الناس: فالمسلم يخالط الناس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلامية، ومن طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يعظم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقا، بل عليه أن يعرف أن جميع ما عنده هو فضل من الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظاً في كلامه مع الآخرين، ومن تواضع المسلم مع الناس أن يجالس كل طبقات المجتمع، ويكلم كلا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء. يقول تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. 4 - التواضع مع الأقران: ومن التواضع أن يتواضع المرء مع أقرانه، وكثيراً ما تثور بين الأقران والأنداد روح المنافسة والتحاسد، وربما استعلى الإنسان على قرينه، وربما فرح بالنيل منه، والحط من قدره وشأنه، وعيبه بما ليس فيه، أو تضخيم ما فيه، وقد يظهر ذلك بمظهر النصيحة والتقويم وإبداء الملاحظات، ولو سمى الأمور بأسمائها الحقيقة لقال: الغيرة. 5 - تواضع الإنسان مع من هو دونه: ومن التواضع: التواضع مع من هو دونك، فإذا وجدت أحداً أصغر منك سناً، أو أقل منك قدراً فلا تحقره، فقد يكون أسلم منك قلباً، أو أقل منك ذنباً، أو أعظم منك إلى الله قرباً. حتى لو رأيت إنساناً فاسقاً وأنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه، واحمد الله على أن نجاك مما ابتلاه به، وتذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب يحبطه، وقد يكون عند هذا المذنب من الندم والانكسار والخوف من خطيئته ما يكون سبباً في غفران ذنبه. عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث ((أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)) (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (2621) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

فلا تستكبر على أحد، وحتى حين ترى الفاسق فلا تستعل عليه، أو تعامله بأسلوب المتسلط المستكبر. 6 - تواضع صاحب المال: فإن مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوة، والنفوذ، أحوج الخلق إلى خلق التواضع. لأن هذه النعم مدعاة إلى الكبر والفخر. وما ابتليت الأمة بمصيبة الكبر إلا من هؤلاء، ولو نظر صاحب المال مثلاً إلى سالف أمره، إذا ما رزق مالاً أن يشكر ربه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمنه بعد خوف، وأن يجعل التواضع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشكر العملي الحقيقي، فكن أخي عثماني المنهج، ولا تكن قاروني!! أما أن يتكبر وهذا حاله، فلا أدري بما يوصف هذا الإنسان، وقد بدلت لديه المفاهيم والموازين. وكذلك يقال لصاحب كل نعمة أن عليك بالتواضع، فلربما دارت عليك الأيام، وبدل الحال. 7 - تواضع القائد مع الأفراد: القائد الناجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين هم تحته؛ لأنه كلما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محبباً إليهم، فهم يطيعونه عن حب وإخلاص، يقول تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]. ومن مظاهر هذا التواضع، عدم الاستبداد بالرأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أن استفراغ ما عند الأفراد من آراء وأفكار لاشك أن ذلك يفتح أبواباً كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنزول عن الرأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلل من نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشورى قد يجبر الله ما بها من قصور، ولله در القائل: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها وألا يجد القادة في نفوسهم شيئاً إذا تحولوا إلى جنود أو أفراد في الصف بعد أن كانوا قادة؛ وذلك لأن الأجر والثواب يكون بالإخلاص والتجرد، والصدق مع الله. وكما يقول الفضيل بن عياش: (من أحب الرياسة لم يفلح أبدا) ولا شك أن المؤمن كلما ازداد تواضعاً ازداد إيماناً بالله وقرباً منه، وكلما ازداد عتواً وترفعاً على الناس ازداد مقتاً وبعداً منه سبحانه (¬1). ¬

(¬1) انظر ((الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع)) لجمال نصار- بتصرف – (ص 238) ((دروس إيمانية في الأخلاق الإسلامية)) لخميس السعيد - بتصرف (ص 39) ((من أخلاق الداعية)) لسلمان العودة - بتصرف (ص 29).

الأسباب التي تعين على التواضع

الأسباب التي تعين على التواضع 1 - (تقوى الله: وهذا من أول الأمور والأسباب التي تعين المرء على التواضع، وتردعه عن أخلاق أهل السفه والكبر. لأن التقوى وقاية من كل ما يغضب الله تعالى، وفعل جميع الطاعات التي أمر الله تعالى بها، فالكبر كبيرة من الكبائر ولا يتصف بها أهل التقوى، والتواضع من محاسن الأخلاق وحتماً ولابد أنه يكون في أهل التقوى. وهذا شيء يجب أن يكون مركوزاً في فطرة كل إنسان، وخاصة إذا كان بالمرء تيه وعجب، عليه أن يعلم أن الأيام دول، يوم لك ويوم عليك، فلا ينبغي للعاقل أن يفرح بدنيا أقبلت عليه ومن ثم يشمخ بها، ويتعالى بنعم الله على عباد الله والله يقول: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فمن تذكر دائماً هذه السنة الكونية خضع لإخوانه ولعامة الناس، وخفض جناحه لهم، لأنه ربما تقلبت به الدنيا، فيذل بعد أن كان عزيزاً، ويفتقر بعد أن كان غنياً، ويعلو عنه من كان يترفع عليه، فلم الكبر والتيه والعجب؟! قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ ولا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]. 2 - عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به: مما لا شك فيه أن المرء يحب أن يتواضع له الناس، ويخفضوا جناحهم له، ويعاملوه برفق ولين، ويبغض من ناحية أخرى، من يغلظ له، ومن يتكبر عليه بأي صورة من الصور. ولو كان المرء جراباً حشي كبراً لتألم وتأفف أيضاً ممن يتكبر عليه، فلم الكيل بمكيالين؟!! 3 - التفكر في أصل الإنسان (¬1): إذا عرف الإنسان نفسه، علم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه نظرة في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً، بعد أن كان لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئاً، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه. وقد أشار الله – سبحانه وتعالى – إلى هذا بقوله: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 18 - 19]. ثم امتن عليه بقوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 20]. وبقوله: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2]. لقد أحياه الله بعد موت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه، وقواه. فمن هذا بدايته، فأي وجه لتكبره وفخره وخيلائه؟! قال ابن حبان رحمه الله: وكيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة، وآخره يعود إلى جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة. اهـ (¬2) 4 - معرفة الإنسان قدره: قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]. قال العلامة الشنقيطي: أي أنت أيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين أنت عاجز عن التأثير فيها، فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثر فيها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها، فاعرف قدرك، ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحاً. اهـ (¬3) 5 - تذكر الأمراض والأوجاع والمصائب: وما أجمل التواضع واللين!! فلو رأيت أهل البلاء بشتى صنوفهم للمست التواضع يعلو وجوههم وأبدانهم! انظر إلى من غله المرض، واستوثق منه الوجع، وهده الألم، انظر إليه إذا جاء الزائر يزوره! وطالع محياه، فسترى فاقة وكسرة وحاجة إلى كل إنسان! فهو يأنس بهذا! ويشد على يد هذا! ويطلب الدعاء من آخر! ويتشوف إلى رنين الهاتف فلربما سمع كلمة تشد من أزره أو ربما سعد بدعوة مجابة أو ... أليس في هذا الحال درس لكل من اختال يوماً، أو تطاول حيناً، أو تكبر زمناً؟! بلى والله. وما قيل هنا، يقال في أهل المصائب كافة، فلماذا التجمل بالتواضع عند الضر، والافتخار والمباهاة والأشر والكبر عند الرخاء والنعمة في العلن والسر؟! 6 - تطهير القلب: القلب إذا صلح صلح العمل كله بإذن الله تعالى فعلى من أراد اكتساب خلق التواضع أن يطهر قلبه من الأمراض التي عصفت به من حقد وحسد وعجب وغرور لأن القلب هو موطن هذه الأمراض كلها) (¬4). ¬

(¬1) ((التواضع في ضوء القرآن والسنة الصحيحة)) (ص: 31، 32) سليم الهلالي، دار ابن القيم، الدمام. (¬2) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص: 61). (¬3) ((أضواء البيان)) (3/ 592). (¬4) ((دروس إيمانية في الأخلاق الإسلامية)) (ص 57) لخميس السعيد - بتصرف.

نماذج في التواضع

نماذج من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جم التواضع، لا يعتريه كبر ولا بطر على رفعة قدره وعلو منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ... )) (¬1). وقال له رجل: يا محمد أيا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) (¬2). - وكان صلى الله عليه وسلم من تواضعه يتفقد أحوال أصحابه ويقوم بزيارتهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له صومي فدخل علي فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه فقال أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام، قال: قلت يا رسول الله قال خمسا قلت يا رسول الله قال سبعا قلت يا رسول الله قال تسعا قلت يا رسول الله قال إحدى عشرة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صوم فوق صوم داود - عليه السلام - شطر الدهر صم يوما وأفطر يوما)) (¬3). وكان يتفقدهم حتى في الغزوات والمعارك، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي برزة ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه هل تفقدون من أحد. قالوا نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال هل تفقدون من أحد. قالوا نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال هل تفقدون من أحد. قالوا لا. قال لكني أفقد جليبيبا فاطلبوه. فطلب في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقف عليه فقال: قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه، قال فوضعه على ساعديه ليس له إلا ساعدا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فحفر له ووضع في قبره.)) (¬4). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4698)، والنسائي (4991) من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما. وسكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (4698). (¬2) رواه أحمد (3/ 153) (12573)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9/ 103) من حديث أنس رضي الله عنه. وجوَّد إسناده الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (1/ 336)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 611). (¬3) رواه البخاري (1980)، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬4) رواه مسلم (2472) من حديث أبي برزة رضي الله عنه.

- وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم القيام بخدمة أصحابه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة وفيه في قصة نومهم عن صلاة الفجر: (( ..... قال ودعا بالميضأة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم- أي أصحابه- فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا الملأ كلكم سيروى. قال ففعلوا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم- يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي اشرب. فقلت لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله قال: إن ساقي القوم آخرهم شربا. قال فشربت وشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: فأتى الناس الماء جامين رواء)) (¬1). - ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه إذا مر على الصبيان سلم عليهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه ((أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله)) (¬2). ((وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم)) (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟)) (¬4). - ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يشارك في خدمة أهله في البيت فقد روى البخاري عن الأسود، قال: ((سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)) (¬5). - وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ويستردف فيه، يحكي لنا أنس عن حال النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ((كان صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار)) (¬6). وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ((كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويخصف النعل، ويرقع القميص، ويلبس الصوف، ويقول من رغب عن سنتي فليس مني)) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6247)، ومسلم (2168) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه ابن حبان (2/ 205)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 291)، والبغوي في ((شرح السنة)) (12/ 264) من حديث أنس رضي الله عنه. وقال البغوي: حسن صحيح. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7034)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 149): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) رواه البخاري (6129)، ومسلم (2150) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (676) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) رواه الحاكم (4/ 132) (7128) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7030)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4945). (¬7) رواه السهمي في ((تاريخ جرجان)) (358)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 77) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7032).

وعن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس، رضي الله عنهما يحدث أنه قال: ((مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه ... )) (¬1). الحديث. وفيه: ((وإنه – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا مصبوبا وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك، فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)) (¬2). - ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم استجابته للدعوة وقبوله الهدية مهما قلت قيمتها، روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دعيت إلى ذراع، أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع، أو كراع لقبلت)) (¬3). قال الشاعر: يا جاعلاً سنن النبي ... شعاره ودثاره متمسكاً بحديثه ... متتبعاً أخباره سنن الشريعة خذ بها ... متوسماً آثاره وكذا الطريقة فاقتبس ... في سبلها أنواره قد كان يقري ضيفه ... كرماً ويحفظ جاره ويجالس المسكين يؤ ... ثر قربه وجواره الفقر كان رداءه ... والجوع كان شعاره يلقي بغرة ضاحك ... مستبشراً زواره بسط الرداء كرامةً ... لكريم قوم زاره ما كان مختالاً ولا ... مرحاً يجر إزاره قد كان يركب بالردي ... ف من الخضوع حماره من مهنة هو أو صلا ... ةٍ ليله ونهاره فتراه يحلب شاة من ... زله ويوقد ناره ما زال كهف مهاجري ... هـ ومكرماً أنصاره براً بمحسنهم مقي ... لاً للمسيء عثاره يهب الذي تحوي يدا ... هـ لطالبٍ إيثاره زكّى عن الدنيا الدن ... ية ربه مقداره جعل الإله صلاته ... أبدا عليه نثاره فاختر من الأخلاق ما ... كان الرسول اختاره لتعد سنّيًّا وتو ... شك أن تبوّأ داره (¬4). ... ¬

(¬1) رواه البخاري (4913) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (4913) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (2568) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (18/ 176).

نماذج من تواضع الصحابة رضوان الله عليهم:

نماذج من تواضع الصحابة رضوان الله عليهم: اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان صحابته رضوان الله عليهم يقومون بما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الجليلة والخلق الكريم من التواضع وخفض الجناح. (فكان أبوبكر رضي الله عنه يحلب الشاة لجيرانه، وكان عمر رضي الله عنه يحمل قربة الماء، وكان عثمان رضي الله عنه - وهو يومئذ خليفة - يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصباء في جنبه، وكان علي رضي الله عنه يحمل التمر في ملحفة ويرفض أن يحمله عنه غيره، وكان أبو الدرداء ينفخ النار تحت القدر حتى تسيل دموعه. وصنوة القول إنهم رضي الله عنهم ساروا على نهج الرسول الكريم فلم يستكبر منهم أحد أو يستنكف عن القيام بتلك الأعمال اليسيرة النافعة مهما عظمت مكانة الواحد منهم) (¬1). تواضع الصديق رضي الله عنه: يحلب للحي أغنامهم: (لما استُخلف - أبو بكر الصديق رضي الله عنه - أصبح غادياً إلى السوق وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة فلما بويع قالت جارية من الحي الآن لا يحلب لنا فقال بلى لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه) (¬2). وكان يقول: (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن) (¬3). قال هذا وهو من المبشرين بالجنة، وهو الصديق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده!! تواضع عمر رضي الله عنه يخلع خفيه ويضعهما على عاتقه ويأخذ بذمام ناقته: عن طارق بن شهاب، قال: (خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) (¬4). يدعو المساكين والأرقاء فيأكل معهم عن أبي محذورة قال: (كنت جالسا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء صفوان بن أمية بجفنة يحملها نفر في عباءة، فوضعوها بين يدي عمر، فدعا عمر ناسا مساكين وأرقاء من أرقاء الناس حوله، فأكلوا معه، ثم قال عند ذلك: فعل الله بقوم أو قال لحى الله قوما يرغبون عن أرقائهم أن يأكلوا معهم!! فقال صفوان: أما والله، ما نرغب عنهم، ولكنا نستأثر عليهم، لا نجد والله من الطعام الطيب ما نأكل ونطعمهم) (¬5). - يرفع على عاتقه قربة ماء وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها) (¬6). تواضع عثمان رضي الله عنه يقيل في المسجد وأثر الحصبى بجنبه وهو خليفة!! ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لجمال نصار - بتصرف - (ص 237). (¬2) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص 408). (¬3) رواه أحمد في ((الزهد)) (90) رقم (560)، وذكره ابن الجوزي في ((المنتظم)) (4/ 63) من حديث أبي عمر الجوني رحمه الله. (¬4) رواه الحاكم (1/ 130) (207) من حديث طارق بن شهاب رحمه الله. وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2893). (¬5) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (201) والحسين بن حرب في ((البر والصلة)) (182) من حديث أبي محذورة رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (148). (¬6) ذكره القشيري في ((الرسالة القشيرية)) (1/ 279) من حديث عروة بن الزبير رحمه الله.

قال الحسن: (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة ويقوم وأثر الحصى بجنبه فنقول هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين) (¬1). يركب على البغلة ويردف عليها غلامه وهو خليفة عن ميمون بن مهران قال: (أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة) (¬2). تواضع علي رضي الله عنه يلبس الإزار المرقوع ليقتدي به المؤمن ويخشع به القلب: عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال: (رئي على علي بن أبي طالب إزار مرقوع فقيل له تلبس المرقوع فقال يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب) (¬3). (وأنه رضي الله عنه قد اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفته فقيل له نحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال لا أبو العيال أحق أن يحمل) (¬4). تواضع عبد الله بن سلام رضي الله عنه يحمل حزمة من حطب ليدفع به الكبر: أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه مر في السوق وعليه حزمة من حطب فقيل له أليس الله قد أعفاك عن هذا قال بلى ولكن أردت أن أدفع به الكبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) (¬5). ¬

(¬1) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص 437). (¬2) ((الزهد)) لأحمد (ص158). (¬3) ((الزهد)) لهناد بن السري (2/ 368) (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 368) (¬5) رواه أحمد في ((الزهد)) (150)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (29/ 133) من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وصحح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 375)، وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3257).

نماذج من تواضع السلف:

نماذج من تواضع السلف: تواضع عمر بن عبد العزيز: - (كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه، فأصلحه، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ ألا نكفيك؟ قال: وما ضرني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز) (¬1). - (ونادى رجل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله في الأرض. فقال له عمر: مه، إني لما وُلِدت اختار لي أهلي اسما، فسموني عمر، فلو ناديتني: ياعمر؛ أجبتك. فلما كبرت اخترت لنفسي الكنى، فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني: يا أبا حفص، أجبتك. فلما وليتموني أموركم سميتموني أمير المؤمنين، فلو ناديتني: يا أمير المؤمنين؛ أجبتك. وأما خليفة الله في الأرض، فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داود النبي عليه السلام وشبهه، قال الله تبارك وتعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص:26]) (¬2). - وقال سعيد بن سويد: (صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست فنكس رأسه مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء لمرضاته كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة) (¬3). تواضع الإمام أحمد بن حنبل قال المروزي: (لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله؛ كان مائلا إليهم مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر) (¬4). (وكان ربما خرج إلى البقال، فيشتري الجرزة الحطب والشيء فيحمله بيده، ويتنور في البيت) (¬5). وقال يحيى ابن معين: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل!! صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من والخير) (¬6). وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: (قلت لأبي عبد الله أول ما رأيته: يا أبا عبد الله، ائذن لي أن أقبل رأسك. فقال: لم أبلغ أنا ذاك) (¬7). ¬

(¬1) ((سيرة عمر بن عبد العزيز)) لابن عبد الحكم (ص 46). (¬2) ((سيرة عمر بن عبد العزيز) لابن عبد الحكم (ص51 - 52). (¬3) ((إحياء علوم الدين) للغزالي (3/ 356). (¬4) ((سير أعلام النبلاء) للذهبي (11/ 218). (¬5) ((سير أعلام النبلاء) للذهبي (11/ 209). (¬6) ((سير أعلام النبلاء) للذهبي (11/ 214). (¬7) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 258).

نماذج من تواضع العلماء المتقدمين:

نماذج من تواضع العلماء المتقدمين: تواضع ابن تيمية: قال البزار وهو يذكر تواضع ابن تيمية: (وأما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير والجليل والحقير والغني الصالح والفقير وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء حتى أنه ربما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرا لقلبه وتقربا بذلك إلى ربه. وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيرا كان أو صغيرا رجلا أو امرأة حرا أو عبدا عالما أو عاميا حاضرا أو باديا ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التواضع في حضوره من الناس ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غيره. وحكى البزار عن بعض أصحابه قال: ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام – يعني ابن تيمية - حتى إنه لا يذكرني باسمي، بل يلقبني بأحسن الألقاب، وأظهر لي من الأخلاق والمبالغة في التواضع بحيث أنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدا منا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفا من سوء الأدب فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلى الله وعليه وسلم ـ؟ وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صد المجلس، حتى إني لأستحي من مجلسه هناك، وأعجب من شدة تواضعه، وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكل من يرد عليه أو يصحبه أو يلقاه، حتى أن كل من لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحو مما حكيته وأكثر من ذلك، فسبحان من وفقه وأعطاه وأجراه على خلال الخير وحباه) (¬1). ¬

(¬1) ((الأعلام العلية) للبزار (ص 50).

نماذج من تواضع العلماء المعاصرين:

نماذج من تواضع العلماء المعاصرين: تواضع الشيخ ابن باز: (كان الشيخ ابن باز رحمه الله آية في التواضع فلا يكاد يعرف له مثيل في زمانه في هذه الخصلة؛ فهو لا يرى لنفسه فضلا، ولا يرغب في المديح، ولا في التميز على الناس، وكان محبا للفقراء والمساكين، حريصاً على مجالستهم، والأكل معهم. ومن صور تواضعه: - لا يحتقر النصيحة، أو الفائدة من أي أحد حتى من الصغير: في يوم من الأيام اتصل شاب صغير بسماحة الشيخ، وقال: يا سماحة الشيخ! الناس بأشد حاجة إلى علماء يفتونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كل مدينة مفتياً؛ ليسهل الاتصال. فقال له سماحة الشيخ: ما شاء الله أصلحك الله، كم عمرك؟ فقال ثلاثة عشر عاماً. - يقول الراوي للقصة - فقال لي سماحة الشيخ: هذا اقتراح طيب، يستحق الدراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبت ما أملى به، ومما جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض الناصحين، وقال: إنه يقترح وضع مفتين في كل بلد، ونرى عرضه على اللجنة الدائمة؛ لنتبادل الرأي في الموضوع) (¬1). - (تواضعه للمرأة والمسكين والسائل، ... قيل له وهو خارج من مسجد الجامع، هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلا أن اتكأ على عصاه وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت!) (¬2). تواضع الشيخ ابن عثيمين: كان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يتحلى بالصفات والأخلاق النبيلة فكان من صفاته الصدق والإعراض عن الدنيا والتواضع، ومن صور تواضعه: - طفل صغير يأخذ بيد الشيخ ويذهب به إلى والده: (يأتيه طفل صغير لم يبلغ السادسة من عمره فيمسك يد الشيخ من وسط طلابه مخاطبا إياه: أبي قدم إلى عنيزة للسلام عليك، أرجو أن تسلم عليه قبل أن تخرج، والشيخ يبتسم له ويلاطفه والطفل آخذ بيد الشيخ إلى والده، فيتفاجأ والد الطفل بالشيخ أمامه، فيتعجب الوالد من هذا الخلق النبيل الذي يتحلى به الشيخ) (¬3). - تتوقف سيارة أحد محبيه فينزل ويدفع السيارة: (ركب الشيخ مع أحد محبيه سيارة قديمة كثيرة الأعطال فتتوقف أثناء الطريق، فقال الشيخ للسائق: ابق مكانك وأنزل أنا لأدفع السيارة، فنزل الشيخ ودفع السيارة بنفسه حتى تحركت، وهذا قمة التواضع) (¬4). - يقطع الدرس ليشارك طلابه في إصلاح أنبوبة منكسرة: (ففي أثناء درسه في المسجد الذي بجوار بيته ذهب أحد الطلاب إلى دورة المياه – الحمام- فإذا أنبوبة منكسرة يتدفق منها الماء، فأخبر الشيخ بذلك أثناء الدرس، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن قطع الدرس وذهب إلى منزله وأحضر عدة الإصلاح وشارك الطلاب بنفسه في إصلاح هذا العطل) (¬5). ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) لمحمد إبراهيم الحمد – بتصرف – (ص136). (¬2) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) لمحمد إبراهيم الحمد – بتصرف – (ص134). (¬3) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) (ص 39) لوليد بن أحمد الحسين. (¬4) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) (ص 42) لوليد بن أحمد الحسين. (¬5) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) (ص 43) لوليد بن أحمد الحسين.

التواضع في واحة الشعر ..

التواضع في واحة الشعر .. ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع فإن كنت في عز وخير ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أوضع (¬1) تواضع تكن كالنجم تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجو وهو وضيع رفيع القوم من يتواضع تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة ... فإن رفيع القوم من يتواضع من يلتمس التواضع يكن رفيعا وكفى بملتمس التواضع رفعة ... وكفى بملتمس العلوِّ سفالا جلالة القدر في التواضع وأحسن مقرونين في عين ناظرٍ ... جلالة قدرٍ في خمول تواضع التواضع من شيم العقل تواضع إذا ماكان قدرك عالياً ... فإن اتضاع المرء من شيم العقل التواضع من خصال المتقين إن التواضع من خصال المتقي ... وبه التَّقِيُّ إلى المعالي يرتقي ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) (ص 61).

الجود، والكرم، والسخاء، والبذل

معنى الجود، والكرم، والسخاء، والبذل، لغة واصطلاحاً معنى الجود لغة واصطلاحاً: معنى الجود لغة: الجود: شيءٌ جيدٌ على فيعلٍ، والجمع جيادٌ، والجود: المطر العزيز، وجاد الرجل بماله يجود جوداً بالضم، فهو جوادٌ، وقوم جود (¬1). وقيل: الجواد: هو الذي يعطي بلا مسألة صيانة للآخذ من ذل السؤال (¬2). ويفسر الجود أيضاً في البيت بالسخاء (¬3). معنى الجود اصطلاحاً: قال الجرجاني: (الجود: صفة، هي مبدأ إفادة ما ينبغي لا بعوض) (¬4). (وقال الكرماني: الجود: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي) (¬5). وقيل هو: (صفة تحمل صاحبها على بذل ما ينبغي من الخير لغير عوض) (¬6). معنى الكرم لغة واصطلاحاً: معنى الكرم لغة: والكرم: مصدر الكريم، يقال: رجل كرم, وقوم كرم وامرأة كرم (¬7). والكرم: ضد اللؤم، كرم الرجل يكرم كرماً فهو كريم (¬8). والكرامة: اسم للإكرام (¬9). معنى الكرم اصطلاحاً: قال الجرجاني: (الكرم: هو الإعطاء بسهولة) (¬10). وقال المناوي هو: (إفادة ما ينبغي لا لغرض) (¬11). وقال القاضي عياض هو: (الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه) (¬12). معنى السخاء لغة واصطلاحاً: معنى السخاء لغة: السخاوة والسخاء: الجود. والسخي: الجواد، والجمع أسخياء وسخواء. وفلانٌ يتسخى على أصحابه أي يتكلف السخاء، وإنه لسخي النفس عنه (¬13). معنى السخاء اصطلاحاً: قال المناوي: (السخاء: الجود أو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي أو بذل التأمل قبل إلحاف السائل) (¬14). وقال الراغب: (السخاء: هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات، حصل معه البذل أو لم يحصل، وذلك خلق) (¬15). وقال القاضي عياض: (السخاء: سهولة الإنفاق، وتجنب اكتساب ما لا يحمد) (¬16). معنى البذل لغة واصطلاحاً: معنى البذل لغة: بذل الشيء أعطاه وجاد به (¬17). والبذل نقيض المنع، وكل من طابت نفسه لشيءٍ فهو باذلٌ (¬18). ورجلٌ بذال، وبذول إذا كثر بذله للمال (¬19). يقال: بذل له شيئاً، أي: أعطاه إياه (¬20). معنى البذل اصطلاحاً: قال المناوي: (البذل: الإعطاء عن طيب نفس) (¬21). ¬

(¬1) ((الصحاح في اللغة))، للجوهري (2/ 461). (¬2) ((تاج العروس)) للزبيدي (7/ 527). (¬3) ((تاج العروس)) للزبيدي (7/ 531). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص79). (¬5) ((تاج العروس)) للزبيدي (7/ 527). (¬6) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (ص146). (¬7) ((إصلاح المنطق)) لابن السكيت (ص: 51). (¬8) ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 798). (¬9) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد الفراهيدي (5/ 369). (¬10) ((التعريفات)) للجرجاني (ص184). (¬11) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص281). (¬12) ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض (1/ 230). (¬13) ((لسان العرب)) لابن منظور (14/ 373). (¬14) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص192). (¬15) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص286). (¬16) ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض (1/ 230). (¬17) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص31). (¬18) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد الفراهيدي (8/ 187). (¬19) ((تهذيب اللغة)) للهروي (14/ 312). (¬20) ((معجم ديوان الأدب)) للفارابي (2/ 138). (¬21) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص73).

الفرق بين صفة الجود وبعض الصفات

الفرق بين صفة الجود وبعض الصفات الفرق بين الجود والسخاء: قال الراغب: (السخاء: اسم للهيئة التي عليها الإنسان. والجود: اسم للفعل الصادر عنها. وإن كان قد يسمى كل واحد باسم الآخر من فضله) (¬1). وقال أبو هلال العسكري: (الفرق بين السخاء والجود: أن السخاء هو أن يلين الإنسان عند السؤال ويسهل مهره للطالب من قولهم سخوت النار أسخوها سخوا إذا ألينتها وسخوت الأديم لينته وأرض سخاوية لينة ولهذا لا يقال لله تعالى سخي. والجود كثرة العطاء من غير سؤال من قولك جادت السماء إذا جادت بمطر غزير، والفرس الجواد الكثير الإعطاء للجري والله تعالى جواد لكثرة عطائه فيما تقتضيه الحكمة. ويظهر من كلام بعضهم: الترادف. وفرق بعضهم بينهما: بأن من أعطى البعض وأبقى لنفسه البعض فهو صاحب سخاء. ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئا، فهو صاحب جود) (¬2). الفرق بين الجود والكرم: قال الكفوي: (الجود: هو صفة ذاتية للجواد ولا يستحق بالاستحقاق ولا بالسؤال. والكرم: مسبوق باستحقاق السائل والسؤال منه) (¬3). وقال أبو هلال العسكري في الفرق بينهما: (أن الجواد هو الذي يعطي مع السؤال. والكريم: الذي يعطي من غير سؤال. وقيل بالعكس. وقيل: الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض. والكرم: إيثار الغير بالخير) (¬4). الفرق بين الجود والإفضال والإنعام: قال الكفوي: (والإفضال أعم من الإنعام والجود، وقيل: هو أخص منهما لأن الإفضال إعطاء بعوض وهما عبارة عن مطلق الإعطاء. والكرم: إن كان بمال فهو جود. وإن كان بكف ضرر مع القدرة فهو عفو وإن كان ببذل النفس فهو شجاعة) (¬5). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص97). (¬2) ((معجم الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص353). (¬3) ((الكليات)) للكفوي (ص353). (¬4) ((معجم الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص171 - 172) بتصرف. (¬5) ((الكليات)) للكفوي (ص: 53).

الألفاظ المترادفة في الجود والكرم

الألفاظ المترادفة في الجود والكرم (جواد، وفياض، وسخي، وكريم، وجحجاج، وحر، ومعطاء، ونفاح، وخضرم، وهين، وسهل، وسري، وسميدع، ولبيب) (¬1). ¬

(¬1) ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) لأبي الحسن الرماني (ص: 83).

الحث على الجود والكرم والسخاء من القرآن والسنة

الحث على الجود والكرم والسخاء من القرآن والسنة الترغيب والحث على الجود والكرم والسخاء من القرآن الكريم: - هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 24 - 26]. قال الطبري: (عن مجاهدٍ، قوله: ضيف إبراهيم المكرمين قال: أكرمهم إبراهيم، وأمر أهله لهم بالعجل حينئذٍ) (¬1). قال الزجاج: (جاء في التفسير أنه لما أتته الملائكة أكرمهم بالعجل. وقيل: أكرمهم بأنه خدمهم، صلوات الله عليه وعليهم) (¬2). - وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]. قال الطبري: (قال: يزيد من يشاء، كان هذا كله عطاءً، ولم يكن أعمالًا يحسبه لهم، فجزاهم به حتى كأنهم عملوا له، قال: ولم يعملوا إنما عملوا عشرًا، فأعطاهم مائةً، وعملوا مائةً، فأعطاهم ألفًا، هذا كله عطاءٌ، والعمل الأول، ثم حسب ذلك حتى كأنهم عملوا، فجزاهم كما جزاهم بالذي عملوا) (¬3). وقال الزجاج: (أي جواد لا ينقصه ما يتفضل به من السعة، عليم حيث يضعه) (¬4). وقال ابن كثير: (هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ) (¬5). - وقال تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 272]. قال ابن أبي حاتم (عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمر بألا يصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية ليس عليك هداهم إلى قوله: وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم وأنتم لا تظلمون فأمر بالصدقة بعدها، على كل من سألك من كل دينٍ) (¬6). وقال السيوطي: (وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ قال: هو مردود عليك فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله والله يجزيك) (¬7). - وقال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274]. قال ابن كثير: (هذا مدحٌ منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ، والأحوال من سر وجهارٍ، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا) (¬8). وقال السمرقندي: (هذا حث لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) (¬9). وقال الرازي: (الآية عامةٌ في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاجٍ عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقتٍ ولا حالٍ) (¬10). الترغيب والحث على الجود والكرم والسخاء من السنة النبوية: ¬

(¬1) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (21/ 525). (¬2) ((مفردات القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 54). (¬3) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (24/ 45). (¬4) ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/ 346). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 691). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (2/ 539). (¬7) ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (2/ 88). (¬8) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 707). (¬9) ((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/ 181). (¬10) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (7/ 70).

- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دينارٌ أنفقته في سبيل الله ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ، ودينارٌ تصدقت به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) (¬1). قال النووي: (في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهةٍ بعينها) (¬2). - وعن أبي ذر، قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظل الكعبة، فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم، ما من صاحب إبلٍ، ولا بقرٍ، ولا غنمٍ لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها، عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس)) (¬3). قال النووي: (فيه الحث على الصدقة في وجوه الخير) (¬4). وقال المباركفوري: (فقوله: (قال هكذا) الخ كناية عن التصدق العام في جميع جهات الخير) (¬5). - وعن أبي سعيدٍ الخدري، قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجلٌ على راحلةٍ له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهرٍ، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زادٍ، فليعد به على من لا زاد له)) (¬6). قال النووي: (في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب والاعتناء بمصالح الأصحاب وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج وأنه يكتفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤالٍ) (¬7). - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته وقلت له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا فحثى لي حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال لي خذ مثيلها)) (¬8). قال ابن عثيمين في شرح هذا الحديث: (وفيه دليل على كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يحثو المال حثيا ولا يعده عدا لأنه قال بيديه وهذا يدل على الكرم وأن المال لا يساوي عنده شيئا صلوات الله وسلامه عليه) (¬9). ¬

(¬1) رواه مسلم (995). (¬2) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (7/ 81). (¬3) رواه البخاري (6638) ومسلم (990). (¬4) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (7/ 73). (¬5) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للمباركفوري (2/ 92). (¬6) رواه مسلم (1728). (¬7) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (12/ 33). (¬8) رواه البخاري (2297) ومسلم (2314)، واللفظ للبخاري. (¬9) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 52).

- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى جوادٌ يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها)) (¬1). قال المناوي: ((إن الله جواد) أي كثير الجود أي العطاء (يحب الجود) الذي هو سهولة البذل والإنفاق وتجنب ما لا يحمد من الأخلاق وهو يقرب من معنى الكرم والجود يكون بالعبادة والصلاح وبالسخاء بالدنيا والسماح) (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو عبيد في ((فضائل القرآن)) (52)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (9/ 100)، وهناد في ((الزهد)) (2/ 423) (828) والشاشي في ((المسند)) (1/ 80)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (4)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 426) (10840) وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 29). من حديث طلحة بن عبيدالله بن كريز رضي الله عنه. قال البيهقي: في هذا الإسناد انقطاع بين سليمان بن سحيم وطلحة، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 302): مرسل، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1723)، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4/ 169): مرسل ضعيف. ورواه ابن أبى الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (1/ 19) (8)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (14/ 289)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. بلفظ: ((إن الله كريم يحب الكرماء جواد يحب الجود يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها)). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1800): صحيح. ورواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 29) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: ((إن الله عز وجل جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافها)) قال أبو نعيم: غريب من حديث طلحة وكريب تفرد به نوح عن أبي عصمة، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1723)، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1744): صحيح. (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 226).

أقوال السلف والعلماء في الكرم والجود والسخاء

أقوال السلف والعلماء في الكرم والجود والسخاء - قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء (¬1). - وعنه رضي الله عنه: الجود حارس الأعراض) (¬2). - و (قال علي رضي الله عنه: السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم) (¬3). - وروي عنه مرفوعاً: الكرم أعطف من الرحم (¬4). - (وقيل لحكيم: أي فعل للبشر أشبه بفعل الباري تعالى، فقال: الجود) (¬5). - وقال يحيى البرمكي: (أعط من الدنيا وهي مقبلة، فإن ذلك لا ينقصك منها شيئا. فكان الحسن بن سهل يتعجب من ذلك ويقول: لله دره! ما أطبعه على الكرم وأعلمه بالدنيا!.) (¬6). - و (قال محمد بن يزيد الواسطي: حدثني صديق لي: «أن أعرابيا انتهى إلى قوم فقال: يا قوم أرى وجوها وضيئة، وأخلاقا رضية، فإن تكن الأسماء على أثر ذلك فقد سعدت بكم أمكم، تسموا بأبي أنتم، قال أحدهم: أنا عطية، وقال الآخر: أنا كرامة، وقال الآخر: أنا عبد الواسع، وقال الآخر: أنا فضيلة، فأنشأ يقول: كرم وبذل واسع وعطية ... لا أين أذهب أنتم أعين الكرم من كان بين فضيلة وكرامة ... لا ريب يفقؤ أعين العدم قال: فكسوه وأحسنوا إليه وانصرف شاكراً) (¬7). - و (قال أبو سليمان الداراني: جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل في قلبه خصالاً: الكرم والسخاء والحلم والرأفة والشكر والبر والصبر) (¬8). - و (كان يقال: من جاد بماله جاد بنفسه، وذلك أنه جاد بما لا قوام لنفسه إلا به) (¬9). - و (قال الماوردي- رحمه الله تعالى-: اعلم أن الكريم يجتزي بالكرامة واللطف، واللئيم يجتزي بالمهانة والعنف، فلا يجود إلا خوفاً، ولا يجيب إلا عنفاً، كما قال الشاعر: رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطي خيره حين يكسر فاحذر أن تكون المهانة طريقاً إلى اجتدائك، والخوف سبيلاً إلى عطائك، فيجري عليك سفه الطغام، وامتهان اللئام، وليكن جودك كرماً ورغبة، لا لؤماً ورهبة) (¬10). - و (عن حسن بن صالحٍ، قال: سئل الحسن عن حسن الخلق، فقال: الكرم، والبذلة، والاحتمال) (¬11). - (وقال جعفر بن محمد الصادق: إن لله وجوها من خلقه، خلقهم لقضاء حوائج عباده، يرون الجود مجداً، والإفضال مغنماً، والله يحب مكارم الأخلاق) (¬12). - وقال بكر بن محمد العابد: (ينبغي أن يكون المؤمن من السخاء هكذا، وحثا بيديه) (¬13). - وقال بعض الحكماء: (أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه) (¬14). - وقال ابن المبارك: (سخاء النفس عما في أيدي الناس أعظم من سخاء النفس بالبذل) (¬15). - وقال بعض العلماء: (الكرم هو اسم واقع على كل نوع من أنواع الفضل، ولفظ جامع لمعاني السماحة والبذل) (¬16). - وقالوا: (السخي من كان مسروراً ببذله، متبرعاً بعطائه، لا يلتمس عرض دنياه فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقى الحب للطائر، ولا يريد نفعها ولكن نفع نفسه) (¬17). ¬

(¬1) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 357). (¬2) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 357). (¬3) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 380). (¬4) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 357). (¬5) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص287). (¬6) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 368). (¬7) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (ص200). (¬8) ((عدة الصابرين)) لابن قيم الجوزية (ص143). (¬9) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 365). (¬10) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص200). (¬11) ((الكرام والجود وسخاء النفوس)) للبرجلاني (ص55). (¬12) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 357). (¬13) ((مكارم الأخلاق ومعاليها)) للخرائطي (ص179). (¬14) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص168). (¬15) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 357). (¬16) ((عين الأدب والسياسة)) لأبي الحسن بن هذيل (ص105). (¬17) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (2/ 616 - 617).

أقسام الجود

أقسام الجود الجود خمسة أضرب: (جود الإله تعالى: وهو البذل لكل أحد على قدر استحقاقه. وجود الملوك: وهو بسط المال على العفاة غنيهم وفقيرهم. وجود السوقة: الذين هما دون الملوك: وهو بذل المال للسؤال. وجود الصعاليك: وهو البذل للندامى والعاشرين والشرب. وجود عوام الناس: وهو الإحسان إلى الأقارب) (¬1). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص288).

فوائد الكرم والجود والسخاء

فوائد الكرم والجود والسخاء 1 - أن الكرم والجود والعطاء من كمال الإيمان وحسن الإسلام. 2 - دليل حسن الظن بالله تعالى 3 - الكرامة في الدنيا ورفع الذكر في الآخرة. 4 - الكريم محبوب من الخالق الكريم وقريب من الخلق أجمعين. 5 - الكريم قليل الأعداء والخصوم لأن خيره منشور على العموم. 6 - الكريم نفعه متعد غير مقصور. 7 - حسن ثناء الناس عليه. 8 - دليل عراقة الأصل. 9 - يبعث على التكافل الاجتماعي والتواد بين الناس. 10 - هو صفة كمال في الإنسان. 11 - دليل زهد الإنسان في الدنيا. 12 - هو موافق للفطرة الصحيحة لذلك كان العرب يتمادحون به. 13 - الكرم يزيد البركة في الرزق والعمر. 14 - يولد في الفرد شعوراً بأنه جزء من الجماعة، وليس فرداً منعزلاً عنهم إلا في حدود مصالحه ومسؤولياته الشخصية. 15 - يزكي الأنفس ويطهرها من رذائل الأنانية المقيتة، والأثرة القبيحة، والشح الذميم. 16 - حل مشكلة حاجات ذوي الحاجات من أفراد المجتمع الواحد. 17 - إقامة سد واق يمنع الأنفس عن الجنوح الخطير في مجال حب التملك والأثرة (¬1). ¬

(¬1) انظر: ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (8/ 3235). و ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن الميداني (2/ 363 - 365) بتصرف واختصار.

صور الكرم والجود والسخاء

صور الكرم والجود والسخاء المجالات التي يشملها الكرم والجود والعطاء متنوعة وكثيرة فمنها: 1 - (العطاء من المال من كل ما يمتلك الإنسان من أشياء ينتفع بها، كالذهب والفضة، والخيل، والأنعام، والحرث، وكل مأكول، أو مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكون، أو يؤوي إليه، وكل آلة أو سبب أو وسيلة ينتفع بها، وكل ما يتداوى به أو يقي ضراً أو يدفع بأساً، إلى غير ذلك من أشياء يصعب إحصاؤها. 2 - ومنها العطاء من العلم والمعرفة، وفي هذا المجال من يحبون العطاء، وفيه بخلاء ممسكون ضنينون، والمعطاء في هذا المجال هو الذي لا يدخر عنده علماً ولا معرفة عمن يحسن الانتفاع بذلك، والبخيل هو الذي يحتفظ بمعارفه وعلومه لنفسه، فلا ينفق منها لمستحقيها، ضناً بها ورغبة بالاستئثار. 3 - ومنها عطاء النصيحة، فالإنسان الجواد كريم النفس لا يبخل على أخيه الإنسان بأي نصيحة تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نصحه الذي نفعه مبتغياً به وجه الله تعالى. 4 - ومنها العطاء من النفس، فالجود يعطي من جاهه، ويعطي من عطفه وحنانه، ويعطي من حلو كلامه وابتسامته وطلاقة وجهه، ويعطي من وقته وراحته، ويعطي من سمعه وإصغائه، ويعطي من حبه ورحمته، ويعطي من دعائه وشفاعته، وهكذا إلى سائر صور العطاء من النفس. 5 - ومنها العطاء من طاقات الجسد وقواه، فالجواد يعطي من معونته، ويعطي من خدماته، ويعطي من جهده، فيعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يحمل له عليها، ويميط الأذى عن طريق الناس وعن المرافق العامة، ويأخذ بيد العاجز حتى يجتاز به إلى مكان سلامته، ويمشي في مصالح الناس، ويتعب في مساعدتهم، ويسهر من أجل معونتهم، ومن أجل خدمتهم، وهكذا إلى سائر صور العطاء من الجسد. 6 - ويرتقي العطاء حتى يصل على مستوى التضحية بالحياة كلها: كالمجاهد المقاتل في سبيل الله يجود بحياته لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ابتغاء مرضاة ربه، والذي يؤثر أخاه بشربة الماء، وهو على وشك الهلاك، لينقذ أخاه من الموت، يضحي ويجود بحياته من أجل غيره) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن الميداني (2/ 361 - 363) بتصرف واختصار.

الأسباب المعينة على الكرم والجود والسخاء

الأسباب المعينة على الكرم والجود والسخاء دوافع البذل والعطاء عند الإنسان كثيرة؛ منها (¬1): 1 - نفسه الطيبة. 2 - حب عمل الخير. 3 - توفيق الله له بالبذل والنفقة. 4 - حث أهل الخير له على النفقة والعطاء والكرم. 5 - مقتضيات المجتمع الإسلامي وحاجاته الملحة إلى التعاون؛ والتكامل لبناء الاقتصاد الإسلامي بناء قويًا وعزيزًا. ¬

(¬1) ((التصوير النبوي للقيم الخلقية)) لعلي علي صبح (ص181) بتصرف.

نماذج في الكرم والجود والسخاء

نماذج من كرم الأنبياء والمرسلين: إبراهيم الخليل عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان أول من أضاف الضيف إبراهيم)) (¬1). قال المناوي: (كان يسمى أبا الضيفان، كان يمشي الميل والميلين في طلب من يتغدى معه ... وفي الكشاف: كان لا يتغدى إلا مع ضيف) (¬2). قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ .. [الذاريات: 24]. قال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه (¬3). وقال الرازي: (أكرموا إذ دخلوا، وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول، فإن قيل: بماذا أكرموا؟ قلنا: ببشاشة الوجه أولا، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً، وتعجيل القرى ثالثاً، وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس) (¬4). يوسف بن يعقوب عليهما السلام وكرم الأصل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) (¬6). قال المناوي: (وأي كريم أكرم ممن حاز مع كونه ابن ثلاثة أنبياء متراسلين شرف النبوة وحسن الصورة وعلم الرؤيا ورئاسة الدنيا وحياطة الرعايا في القحط والبلاء؟ قال الشاعر: إن السرى إذا سرى فبنفسه. . . وابن السرى إذا سرى أسراهما) (¬7). وقال أيضاً: (أي أكرمهم أصلا يوسف فإنه جمع شرف النبوة وشرف النسب وكونه ابن ثلاثة أنبياء متناسقة فهو رابع نبي في نسق واحد ولم يقع ذلك لغيره وضم له أشرف علم الرؤيا ورئاسة الدنيا وحياطة الرغبة وشفقته عليهم) (¬8). (كان يوسف عليه السلام وهو على خزائن الأرض لا يشبع، ويقول: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وكان جود يوسف وكرمه جود فتوة، جود صبر على شهوات النفس، وصبر عن المعصية، وهو جود سادات الرجال) (¬9). ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 395) (8641). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال البيهقي: الصحيح موقوف، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4451). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (ص4/ 543). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (17/ 45). (¬4) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (28/ 174). (¬5) رواه البخاري (3390). (¬6) رواه الطبراني (10/ 149) (10278). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1417)، والألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (1217). والحديث روي من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 94). (¬8) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 90). (¬9) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (2/ 519).

نماذج من كرم العرب وجودهم في العصر الجاهلي:

نماذج من كرم العرب وجودهم في العصر الجاهلي: لقد كان الكرم من أبرز الصفات في العصر الجاهلي، بل كانوا يتباهون بالكرم والجود والسخاء، ورفعوا من مكانة الكرم وكانوا يصفون بالكرم عظماء القوم، واشتهر بعض العرب بهذه الصفة الحميدة حتى صار مضرباً للمثل، ونذكر بعض النماذج من هؤلاء الذين اشتهروا بفيض كرمهم وسخاء نفوسهم، ومن أولئك: حاتم الطائي: كان حاتم الطائي من أشهر من عرف عند العرب بالجود والكرم حتى صار مضرب المثل في ذلك. (قالت النوار امرأته: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير (¬1)، وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة، وجلفت السنة المال (¬2)، وأيقنا أنه الهلاك. فو الله إني لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين (¬3)، إذ تضاغى أصيبيتنا (¬4) من الجوع، عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبية، فو الله ما سكنوا إلا بعد هدأة من الليل، ثم ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهورت النجوم (¬5) إذا شيء قد رفع كسر البيت (¬6)، فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد، فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد في آخر الليل، فقال: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند أصيبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع، فما وجدت معولا إلا عليك أبا عدي، فقال: والله لأشبعنهم، فقلت: من أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته، فخر، ثم كشطه، ودفع المدية إلى المرأة فقال: شأنك (الآن)، فاجتمعنا على اللحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصرم؟! (¬7) ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا ويقول؛ هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، لا والله ما ذاق منه مزعة (¬8)، وإنه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس، إلا عظم أو حافر، (فعذلته على ذلك)، فأنشأ حاتم يقول: مهلا نوار أقلى اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات: ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا، وإن كنت أعطي الجن والخبلا (¬9) يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا لا تعذليني في مال وصلت به ... رحماً، وخير سبيل المال ما وصلا (¬10) (¬11) ¬

(¬1) الحدب: جمع حدباء، وهى التى بدت حراقفها وعظم ظهرها. الحدابير: جمع حدبار وحدبير، بكسر الحاء فيهما، وهى العجفاء الضامرة التى قد يبس لحمها من الهزال. (¬2) جلفت: أصل الجلف: القشر، فكأن السنة قشرت المال، والجالفة: السنة التى تذهب بأموال الناس. (¬3) الصنبر: الباردة، وليل الشتاء طويل، ويزيده الجوع طولا. (¬4) نص في اللسان على أنه «قد جاء في الشعر أصيبية، كأنه تصغير أصيبة». (¬5) تهورت النجوم: ذهب أكثرها. (¬6) كسر البيت: أسفل الشقة التى تلي الأرض من الخباء من حيث يكسر جانباه من عن يمين ويسار. (¬7) الصرم، بالكسر: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس. (¬8) المزعة: القطعة من اللحم ونحوه. وفي س ف «مضغة». (¬9) الخبل، بفتحتين: الجن، أو ضرب من الجن يقال لهم الخابل. (¬10) الرحم، بكسر الراء وسكون الحاء، والرحم، بفتح فكسر: القرابة. (¬11) ((الشعر والشعراء)) للدينوري (1/ 238).

و (قيل سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدم إلي، وكان فيما قدم إلي الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل أنت إذاً أكرم منه فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملكه وإنما جدت بقليل من كثير) (¬1). عبد الله بن جدعان: من الكرماء المشهورين في العصر الجاهلي عبد الله بن جدعان فقد اشتهر بكرمه وجوده، وسخائه وعطائه. و (كان عبد الله بن جدعان: من مطعمي قريش كهاشم بن عبد مناف، وهو أول من عمل الفالوذ للضيف، وقال فيه أمية بن أبي الصلت. له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى درج من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالهشادة وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بظل جفنته في الجاهلية) (¬2). و (حدث إبراهيم بن أحمد قال: قدم أمية بن أبي الصلت مكة على عبد الله بن جدعان، فلما دخل عليه قال له عبد الله: أمر ما جاء بك فقال أمية: كلاب غرمائي قد نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله: قدمت علي وأنا عليل من ديون لزمتني، فأنظرني قليلاً يجم ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه، فأقام أمية أياماً وأتاه فقال: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟ وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والثناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا ماء تباري الريح مكرمة وجوداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء إذا خلفت عبد الله فاعلم ... بأن القوم ليس لهم جزاء فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تميم وأنت لها سماء فأبرز فضله حقاً عليهم ... برزت لناظرها السماء وهل تخفى السماء على بصير ... وهل للشمس طالعة خفاء فلما أنشده أمية هذه الأبيات كانت عنده قينتان فقال لأمية: خذ أيتهما شئت فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا لقد أجحفت به في انتزاعها منه فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتهما، لكان ذلك أقرب لك عنده وأكرم من كل حق ضمته لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم، فرجع إليه ليردها عليه، فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها، وقالوا لك كذا وكذا ووصف لأمية ما قال له القوم فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير مما قالوا شيئاً. قال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أمية: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... يبذل وما كل العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين فقال له عبد الله خذ الأخرى، فأخذهما جميعاً وخرج، فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول: ذكر ابن جدعان بخ؟ ... ير كلما ذكر الكرام من لا يجور ولا يعق ... ولا يبخله اللئام يهب النجيبة والنجيب ... له الرجال والزمام) (¬3) و (كان عبد الله بن جدعان التيمي حين كبر أخذ بنو تيم عليه ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه قال: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه ثم قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله. وفيه يقول ابن قيس: والذي إن أشار نحوك لطما ... تبع اللطم نائل وعطاء وابن جدعان هو القائل: إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... وهاب ما ملكت كفي من المال لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حال عن الحال) (¬4) ... ¬

(¬1) ((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي. (¬2) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 239). (¬3) ((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي. (¬4) ((عيون الأخبار)) للدينوري (1/ 458).

نماذج من كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده:

نماذج من كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده: لقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الجود والكرم، فكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة. (وقد بلغ صلوات الله عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء من لا يحسب حساباً للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله، وإيماناً بأنه هو الرزاق ذو الفضل العظيم) (¬1). - عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: ((ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة)) (¬2). - وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرصده لدينٍ)) (¬3). (إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم بهذا النموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيما حينما نلاحظ أنه كان في عطاءاته الفعلية مطبقاً لهذه الصورة القولية التي قالها، فقد كانت سعادته ومسرته عظيمتين حينما كان يبذل كل ما عنده من مال. ثم إنه يربي المسلمين بقوله وعمله على خلق حب العطاء، إذ يريهم من نفسه أجمل صورة للعطاء وأكملها) (¬4). - وعن جبير بن مطعمٍ، أنه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس، مقبلًا من حنينٍ، علقت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرةٍ، فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاه نعمًا، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا)) (¬5). - وأهدت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام شمله منسوجة فقالت: ((يا رسول الله, أكسوك هذه فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام, محتاجاً إليها, فلبسها, فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله, ما أحسن هذه! فاكسنيها, فقال: نعم، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام لامه أصحابه, فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها, ثم سألته إياها, وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه, فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها)) (¬6). - وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر على نفسه, فيعطي العطاء ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. - (وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرماً في محله, ينفق المال له وبالله, إما لفقير, أو محتاج, أو في سبيل الله, أو تأليفاً على الإسلام، أو تشريعاً للأمة) (¬7). فما أعظم كرمه وجوده وسخاء نفسه، صلى الله عليه وسلم، وما هذه الصفة الحميدة إلا جزء من مجموع الصفات التي اتصف بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فلا أبلغ مما وصفه القرآن الكريم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 377). (¬2) رواه مسلم (2312). (¬3) رواه البخاري (2389). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن الميداني (2/ 378). (¬5) رواه البخاري (3148). (¬6) رواه البخاري (6036). (¬7) ((مكارم الأخلاق)) لابن عثيمين (ص55).

نماذج من كرم الصحابة وجودهم:

نماذج من كرم الصحابة وجودهم: - عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه: وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا)) (¬1). - و (عن أبي عبد الرحمن، أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حفر رومة فله الجنة؟)) فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة؟)) فجهزتهم، قال: فصدقوه بما قال وقال عمر في وقفه: لا جناح على من وليه أن يأكل وقد يليه الواقف وغيره فهو واسعٌ لكل) (¬2). - وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالكٍ، يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، قال أنسٌ: فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، وإن أحب أموالي إلي بيرحى، وإنها صدقةٌ لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها، يا رسول الله، حيث شئت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (¬3). - (وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل له إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده) (¬4). - وقال عطاء: (ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباسٍ، أكثر فقهًا، وأعظم جفنةً, إن أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النحو عنده، وأصحاب الشعر، وأصحاب الفقه، يسألونه كلهم، يصدرهم في وادٍ واسعٍ) (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، والدارمي (1/ 480) (1660)، والبزار (1/ 394) (270)، والحاكم (1/ 574)، والبيهقي (4/ 180) (8026). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال البزار: [فيه] هشام بن سعد حدث عنه جماعة كثيرة من أهل العلم، ولم نر أحداً توقف عن حديثه ولا اعتل عليه بعلة توجب التوقف عن حديثه، وصححه النووي في ((المجموع)) (6/ 236)، وابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (1/ 337) كما اشترط على نفسه في المقدمة، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (996) (¬2) رواه البخاري (2778). (¬3) رواه مسلم (998). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 247). (¬5) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1175)، وأبو الشيخ في ((الكرم والجود وسخاء النفوس)) (60)، والفاكهي في ((أخبار مكة)) (2/ 340) (1628)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3805)

- (وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم فأتوه حتى ملئوا عليه الدار فقال ما هذا فأخبر الخبر فأمر عبيد الله بشراء فاكهة وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم قالوا نعم قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم) (¬1). - وقال المدائني: (أول من سن القرى إبراهيم الخليل - عليه السلام -. وأول من هشم الثريد هاشمٌ. وأول من فطر جيرانه على طعامه في الإسلام عبيد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، وهو أول من وضع موائده على الطريق، وكان إذا خرج من بيته طعامٌ لا يعاود منه شيءٌ، فإن لم يجد من يأكله تركه على الطريق) (¬2). - و (ذُكر أن عبيد الله بن العباس أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له. تصدق علي بشيء فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال: وأين أنا من عبيد الله فقال: أين أنت منه في الحسب أم في الكرم؟ قال: فيهما جميعاً، قال: أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت (وإذا فعلت) كنت حسيباً. فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق نفقته. فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن العباس فأنت خير منه، وإن كنت إياه فأنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى فقال له السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك، فما أخطأت إلا باعتراض السر من جوانحي) (¬3). - وقال الأصمعي: (حدثنا ابن عمران قاضي المدينة أن طلحة كان يقال له: طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الطلحات وأنه فدى عشرة من أسارى بدر وجاء يمشي بينهم، وأنه سئل برحم فقال: ما سئلت بهذه الرحم قبل اليوم، وقد بعت حائطا لي بتسعمائة ألف درهم وأنا فيه بالخيار، فإن شئت ارتجعته وأعطيتكه، وإن شئت أعطيتك ثمنه) (¬4). - وقال المدائني: (إنما سمي طلحة بن عبيد الله الخزاعي طلحة الطلحات لأنه اشترى مائة غلام وأعتقهم وزوجهم، فكل مولود له سماه طلحة) (¬5). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 247). (¬2) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 150). (¬3) ((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي. (¬4) ((عيون الأخبار)) للدينوري (1/ 454). (¬5) ((عيون الأخبار)) للدينوري (1/ 466).

نماذج من السلف في الكرم والجود:

نماذج من السلف في الكرم والجود: - قال محمد بن صبيحٍ: (لما قدم أبو الزناد الكوفة على الصدقات، كلم رجلٌ حماد بن أبي سليمان في رجلٍ يكلم له أبا الزناد، يستعين في بعض أعماله، فقال حمادٌ: كم يؤمل صاحبك من أبي الزناد أن يصيب معه؟ قال: ألف درهمٍ، قال: فقد أمرت له بخمسة آلاف درهمٍ، ولا يبذل وجهي إليه، قال: جزاك الله خيرًا، فهذا أكثر مما أمل ورجا. قال عثمان: وقال ابن السماك: فكلمه آخر في ابنه أن يحوله من كتابٍ إلى كتابٍ، فقال للذي يكلمه: إنما نعطي المعلم ثلاثين كل شهرٍ، وقد أجريناها لصاحبك مائةً، دع الغلام مكانه) (¬1). - (وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني فإن أهلي لا يتركوني محبوساً ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس) (¬2). - (وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقيين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن إذا دخل الأمير البستان فعرفني فلما دخل الأمير البستان أعلمه فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس الماء فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها: أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فما لي إلى معن سواك شفيع فقال: من صاحب هذه؟ فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقال له، فأمر له بعشر بدر فأخذها ووضع الأمير الخشبة تحت بسطاه فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه، فخرج فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل، فطلب فلم يوجد، فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار) (¬3). - وقال حماد بن أبي حنيفة: (لم يكن بالكوفة أسخى على طعامٍ ومالٍ من حماد بن أبي سليمان، ومن بعده خلف بن حوشبٍ) (¬4). - و (كان مورقٌ يتجر، فيصيب المال، فلا يأتي عليه جمعةٌ وعنده منه شيءٌ، وكان يأتي الأخ، فيعطيه الأربع مائةٍ والخمس مائةٍ، ويقول: ضعها لنا عندك. ثم يلقاه بعد، فيقول: شأنك بها، لا حاجة لي فيها) (¬5). - وقال عبد الله بن الوسيم الجمال: (أتينا عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله نسأله في دينٍ على رجلٍ من أصحابنا، فأمر بالموائد فنصبت، ثم قال: لا، حتى تصيبوا من طعامنا، فيجب علينا حقكم وذمامكم، قال: فأصبنا من طعامه، فأمر لنا بعشرة آلاف درهمٍ في قضاء دينه، وخمسة آلاف درهمٍ نفقةً لعياله) (¬6). - و (كان هشام بن حسان إذا ذكر يزيد بن المهلب يقول: إن كادت السفن لتجري في جوده) (¬7). - و (كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل) (¬8). - وقال أبو السوار العدوي: (كان رجالٌ من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحدٌ منهم على طعامٍ قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس، وأكل الناس معه) (¬9). - وقال الليث بن سعدٍ: (كان ابن شهابٍ من أسخى من رأيت قط، كان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيءٌ تسلف من أصحابه، فيعطونه، حتى إذا لم يبق معهم شيءٌ حلفوا له أنه لم يبق معهم شيءٌ، فيستلف من عبيده، فيقول لأحدهم: يا فلان، أسلفني كما تعرف، وأضعف لك كما تعلم فيسلفونه، ولا يرى بذلك بأسًا، وربما جاءه السائل، فلا يجد ما يعطيه، فيتغير عند ذلك وجهه، فيقول للسائل: أبشر، فسوف يأتي الله بخيرٍ قال: فيقيض الله لابن شهابٍ على قدر صبره واحتماله) (¬10). - و (كان يقال للفضل بن يحيى حاتم الإسلام وخاتم الأجواد. وكان يقال: حدث عن البحر ولا حرج وعن الفضل ولا حرج) (¬11). ¬

(¬1) ((الكرم والجود وسخاء النفوس)) للبرجلاني (ص57). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 248). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 248 - 249). (¬4) ((الكرم والجود وسخاء النفوس)) للبرجلاني (ص55). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 351). (¬6) ((الكرم والجود وسخاء النفوس)) للبرجلاني (ص55). (¬7) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 364). (¬8) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 393). (¬9) ((الكرم والجود وسخاء النفوس)) للبرجلاني (ص53). (¬10) ((مكارم الأخلاق ومعاليها)) للخرائطي (ص197). (¬11) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 365).

نماذج من العلماء المعاصرين في الكرم والجود:

نماذج من العلماء المعاصرين في الكرم والجود: كرم الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1): لا يكاد يعلم في زمان سماحة الشيخ أحد أسخى ولا أجود ولا أكرم من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وذلك في وجوه السخاء، وصوره المتعددة. والحديث عن كرمه وسخائه وجوده يبدأ ولا ينتهي، وحسبنا الأسطر التالية بعض صور كرمه وسخائه ــ رحمه الله تعالى ــ، ومن هذه الصور: 1 - كان مجبولاً على حب الضيوف، والرغبة في استضافتهم منذ صغره. 2 - كان يوصي بشراء أحسن ما في السوق من الفاكهة، والتمر، والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدم لضيوفه. 3 - وكان يلح إلحاحاً شديداً إذا قدم عليه أحد أو سلم عليه، فكان يلح عليهم بأن يحلوا ضيوفاً عنده على الغداء، والعشاء، والمبيت، ولو طالت مدة إقامتهم. 4_ وكان يرغب القادمين إليه بأن يتواصلوا معه في الزيارة، فيذكرهم بفضل الزيارة، والمحبة في الله، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك؛ مما يبعثهم إلى مزيد من الزيارة؛ لأن بعضهم لا يرغب في الإثقال على سماحة الشيخ وإضاعة وقته؛ فإذا سمع منه ذلك انبعث إلى مزيد من الزيارات. 5 - وكان يحرص أشد الحرص على المواعيد التي يضربها لضيوفه، فكان يعطينا خبراً بذلك، ويقول: سيقدم علينا اليوم فلان من الناس، أو فلان من أهل العلم، ويتقدم للمجيء قبل ضيفه؛ ليكون في استقباله. 6 - لا يتلذذ بالأكل وحده، بل لا يجد أنسه إلا بالأكل مع الضيوف والفقراء، ولهذا لا يكاد سماحته يتناول غداءه أو عشاءه إلا ومعه أناس على المائدة. 7 - وكان يلاطف ضيوفه، بمحاسن كلامه، ولطيف ترحيبه. 8 - وكان لا يقوم من المائدة حتى يسأل عن ضيوفه: هل قاموا؟ فإذا قيل له قاموا قام؛ كيلا يعجلهم بقيامه قبلهم، وإذا قام قال: كل براحته، لا تستعجلوا. 9 - وكان لا يتبرم من كثرة الضيوف، ولا تضيق نفسه إذا فاجأه الزائرون وهو لم يحسب حسابهم، بل يرحب بهم، ويلاطفهم، ويقول: حياكم الله، ويبارك الله في الطعام الذي يقدم، ولو لم يؤخذ حساب القادمين، وربما أمر بأن يحضر زيادة في الطعام. 10 - وكان من عادته أنه ينيب من يقوم على إكرام الضيوف، والقيام بشأنهم إذا كان لديه موعد محاضرة, أو مناسبة، أو وليمة. وكان إذا جاء من موعده سأل عن الضيوف وعن راحتهم، وعما قدم إليهم. 11 - وكان دائماً يسأل: عسى ما نقص عليهم شيء، وإن قيل له: لا، فرح وتهلل، وحمد الله. 12 - وإذا قدم الضيوف من بعيد، ثم استضافهم وأكرمهم، وأرادوا توديعه ألح عليهم بأن يمكثوا، وأن يتناولوا وجبة أخرى، وأن يبيتوا عنده؛ فلا يخلصوا منه إلا بعد أن يتأكد بأنهم مسافرون أو مرتبطون. بل إذا قالوا: إنهم مرتبطون، قال: ألا يمكن أن تتخلصوا من ارتباطكم؟ ألا تهاتفون صاحب الارتباط، وتعتذروا منه؟ 13 - وإذا كان مجهداً، أو لم يكن له رغبة في الطعام جلس مع ضيوفه؛ إيناساً لهم، وتطييباً لنفوسهم؛ خصوصاً إذا رغبوا في ذلك. 14 - وكان يفرح بالقادم إليه ولو لم يعرفه من قبل، خصوصاً إذا قدم من بعيد، أو لمصلحة عامة. 15 - وكان يرفع من شأن ضيوفه، ويعلي من منزلتهم، ولو لم يكونوا كباراً، ولو لم تكن لهم مكانة اجتماعية. 16 - ومن لطائف كرمه أنه إذا قدم عليه قادم وهو في السيارة أخذ يتحفز، ويتحرك ويدعو القادم للركوب معه، ولو كان المكان ضيقاً، لكن سماحته يريه أنه محب لصحبته، أو أن يأمر أحد السائقين التابعين للرئاسة ليوصله، أو أن يأخذ سيارة للأجرة؛ لتنقل من يأتون إليه إذا كانوا كثيرين. 17 - وكان يراعي مشاعر ضيوفه، ولا يرضى أن يهانوا بحضرته. 18 - كان منزل أسرة سماحة الشيخ في الرياض لا يتسع لكثرة الضيوف القادمين إليه، وكثيراً ما يأتيه أناس بأسرهم إما من المدينة أو غيرها؛ إما طلباً لشفاعة أو مساعدة، أو نحو ذلك، فكانوا يسكنون عند سماحة الشيخ في المنزل. 19 - لدى سماحة الشيخ مكان مهيأٌ للضيوف، وهذا المكان في بدروم بيت الرياض. 20 - هناك عدد من الناس يرتادون منزل سماحته وقت الغداء بصورة مستمرة. ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) محمد بن إبراهيم الحمد (ص: 181 - 190) بتصرف واختصار.

حكم وأمثال في الكرم والجود

حكم وأمثال في الكرم والجود - (أقرى من زاد الركب: زعم ابن الأعرابي أن هذا المثل من أمثال قريش، ضربوه لثلاثة من أجودهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبي أمية بن المغيرة، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، سموا زاد الركب لأنهم كانوا إذا سافروا مع قومٍ لم يتزودوا معهم. - أقرى من حاسي الذهب: هذا أيضاً من قريش، وهو عبد الله بن جدعان التيمي الذي قال فيه أبو الصلت الثقفي: له داعٍ بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردحٍ من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد وسمي (حاسي الذهب) لأنه كان يشرب في إناء من الذهب. - أقرى من غيث الضريك: هذا المثل ربعي، وغيث الضريك: قتادة بن مسلمة الحنفي، والضرٍيك: الفقير - أقرى من مطاعيم الريح: زعم ابن الأعرابي أنهم أربعة: أحدهم عم محجن الثقفي، ولم يسم الباقين. قال أبو الندى: هم كنانة بن عبد ياليل الثقفي عم أبي محجن، ولبيد بن ربيعة، وأبوه، كانوا إذا هبت الصبا أطعموا الناس، وخصوا الصبا لأنها لا تهب إلا في جدب) (¬1). - (أكرم من الأسد: لأنه إذا شبع تجافى عما يمر به ولم يتعرض له - أكرم من العذيق المرجب: تصغير عذق وهو النخلة والمرجب المدعوم وإنما يدعم لكثرة حمله وذاك كرمه وأكثر العرب تنكره فتقول من عذيق مرجب. - أكرم من نجر الناجيات نجره: أي أكرم أصل الإبل السراع أصله يضرب للكريم) (¬2). أجواد أهل الإسلام: قال ابن عبد ربه: (وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلاً في عصر واحد، لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم: فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص. وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم: عبد الله بن عامر بن كريز، وعبيد الله ابن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم بن زياد، وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التيمي. وطلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وله يقول الشاعر يرثيه، ومات بسجستان وهو وال عليها: نضر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد، وهم: عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة الفزاري. وعكرمة بن ربعي الفياض) (¬3). الطلحات المشهورون بالكرم: قال الأصمعي: الطلحات المعروفون بالكرم: طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الفياض. وطلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر وهو طلحة الجواد. وطلحة بن عبد الله بن عوف الزهري وهو طلحة الندي. وطلحة بن الحسن بن علي وهو طلحة الخير. وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وهو طلحة الطلحات. سمي بذلك لأنه كان أجودهم) (¬4). لطيفة (¬5): قال الشبلي قال لي خاطري يوماً: أنت بخيل فقلت: ما أنا بخيل فقال: نعم أنت بخيل، فنوديت أن أول شيء يفتح أن أرفعه لأول فقير ألقاه، فما تم خاطري حتى دفع إلي رجل خمسين ديناراً فخرجت، فرأيت فقيراً أعمى بين يدي حلاق يحلق رأسه فناولته إياها فقال: ادفعها للمزين فقلت: إنها دنانير فقال: ما قلنا لك إنك بخيل فدفعتها للمزين فقال: أنا حلقت له لله تعالى فتعجب الشبلي من زهدهما وأخذها. ¬

(¬1) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (2/ 127). (¬2) ((المستقصي في الأمثال)) للزمخشري (1/ 281). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 245 - 246). (¬4) ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر العسقلاني (5/ 17). (¬5) ((شرح البخاري)) للسفيري (1/ 348 - 349).

الكرم والجود في واحة الشعر ..

الكرم والجود في واحة الشعر .. قال كلثوم بن عمرو التغلبي من شعراء الدولة العباسية: إن الكريم ليخفى عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود إذا تكرمت عن بذل القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود بث النوال ولا تمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود (¬1) وقال المنتصر بن بلال الأنصاري: الجود مكرمة والبخل مبغضة ... لا يستوي البخل عند الله والجود والفقر فيه شخوص والغنى دعة ... والناس في المال مرزوق ومحدود (¬2) وقال قيس بن عاصم لزوجته: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف ملامات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف من غير ذلة ... وما في إلا ذاك من شيمة العبد (¬3) وقال الحسين بن سهل: يقولون إني مسرف إذ يرونني ... أطوق أعناق الرجال بإحساني فقلت لهم موتوا لئاماً بغيظكم ... فإني شريت المجد بالتافه الداني إذا جئتم يوم الحساب بكنزكم ... أجيء بعفو من إلهي وغفران وقال أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه اليماني: سأبذل مالي كلما جاء طالب ... وأجعله وقفاً على القرض والفرض فإما كريماً صنت بالجود عرضه ... وإما لئيماً صنت عن لؤمه عرضي (¬4) وقال حجبة بن المضرب: أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهر يصونون أحسابا ومجدا مؤثلا ... ببذل أكف دونها المزن والبحر سموا فِي المعالي رتبةً فوق رتبةٍ ... أحلتهم حيث النعائم والنسر أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المنيرة والبدر فلو لامس لهم الصخر الأصم أكفهم ... لفضت ينابيع الندى ذَلِكَ الصخر ولو كَانَ فِي الأرض البسيطة منهم ... لمختبط عاف لما عرف الفقر شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاع معروف يكافئه شكر (¬5) وقال آخر: ويظهر عيب المرء في الناس بخله ... ويستره عنهم جميعاً سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه (¬6) وقال آخر: حر إذا جئته يوماً لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا يخفي صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا (¬7) وقال الراضي العباسي: لا تعذلوا كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الإتلاف والإخلاف (¬8) وقال حاتم الطائي: أماوى إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوى إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً: حل في ما لنا نذر أماوى إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أماوى إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر وقد علم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر (¬9) وقال آخر: لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف فإن تولت فأخرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف (¬10) وقال أحمد بن إبراهيم العبرتاني: لا تكثري في الجود لائمتي ... وإذا بخلت فأكثري لومي كفي فلست بحامل أبداً ... ما عشت هم غدٍ على يومي (¬11) ... ¬

(¬1) ((الحماسة البصرية)) لأبي الحسن البصري (2/ 63). (¬2) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص235). (¬3) ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي (2/ 310). (¬4) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص238). (¬5) ((الأمالي)) للقالي (1/ 54) (¬6) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص227). (¬7) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (1/ 92) (¬8) ((الأوراق قسم أخبار الشعراء)) للصولي (2/ 54). (¬9) ((الشعر والشعراء)) للدينوري (1/ 239). (¬10) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص262). (¬11) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 369).

الحلم

معنى الحلم لغة واصطلاحاً معنى الحلم لغة: الحِلْمُ بالكسر الأَناةُ والعقل وجمعه أَحْلام وحُلُومٌ (¬1) والحِلْم خلافُ الطَّيش. يقال حَلُمْتُ عنه أحلُم، فأنا حليمٌ. (¬2) وقال الجوهري: والحِلْمُ: بالكسر الأناةُ. تقول منه: حَلُمَ الرجل بالضم. وتَحَلَّمَ: تكلّفَ الحِلْمَ. وقال: تَحَلَّمَ عن الأَدنَيْنَ واسْتَبْقِ وُدَّهُمْ ... ولن تستطيعَ الحِلْمَ حتّى تَحَلّما (¬3) معنى الحلم اصطلاحا: عرف الحلم بعدة تعريفات منها: الحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام (¬4). وقيل هو: (الطمأنينة عند سورة الغضب وقيل تأخير مكافأة الظالم) (¬5). وقيل الحلم: (اسم يقع على زمالنفس عن الخروج عند الورود عليها ضد ما تحب إلى ما نهي عنه. فالحلم يشتمل على المعرفة والصبر والأناة) (¬6). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 145) (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 93) (¬3) ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (5/ 1903). (¬4) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب (ص253). (¬5) ((التعريفات)) للجرجاني (ص92). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 208).

الفرق بين الحلم وبعض الصفات

الفرق بين الحلم وبعض الصفات الفرق بين الحلم والصبر: (أن الحلم هو الإمهال بتأخير العقاب المستحق، والحلم من الله تعالى عن العصاة في الدنيا فعل ينافي تعجيل العقوبة من النعمة والعافية، ولا يجوز الحلم إذا كان فيه فساد على أحد من المكلفين وليس هو الترك لتعجيل العقاب لأن الترك لا يجوز على الله تعالى لأنه فعل يقع في محل القدرة يضاد المتروك ولا يصح الحلم إلا ممن يقدر علىالعقوبة وما يجري مجراها من التأديب بالضرب وهو ممن لا يقدر على ذلك ولهذا قال الشاعر: لا صفح ذلٍ ولكنْ صفح أحلام ولا يقال لتارك الظلم حليم إنما يقال حلم عنه إذا أخر عقابه أو عفا عنه ولو عاقبه كان عادلا ... والصبر: حبس النفس لمصادفة المكروه، وصبر الرجل حبس نفسه عن إظهار الجزع، والجزع إظهار ما يلحق المصاب من المضض) (¬1). الفرق بين الحلم والوقار: (الوقار: هو الهدوء وسكون الأطراف وقلة الحركة في المجلس، ويقع أيضا على مفارقة الطيش عند الغضب، مأخوذ من الوقر وهو الحمل) (¬2). الفرق بين الحلم والإمهال: (أن كل حلم إمهال وليس كل إمهال حلما لأن الله تعالى لو أمهل من أخذه لم يكن هذا الإمهال حلما لأن الحلم صفة مدح والإمهال على هذا الوجه مذموم وإذا كان الأخذ والإمهال سواء في الاستصلاح فالإمهال تفضل والانتقام عدل) (¬3). الفرق بين الحلم والأناة والرفق: (الحلم: أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب إذا حصل غضب وهو قادر فإنه يحلم ولا يعاقب ولا يعجل بالعقوبة. وأما الأناة: فهو التأني في الأمور وعدم العجلة، وألا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجل ويحكم على الشيء قبل أن يتأنى فيه وينظر. وأما الرفق: فهو معاملة الناس بالرفق والهون حتى وإن استحقوا ما يستحقون من العقوبة والنكال فإنه يرفق بهم) (¬4). قال الشاعر: إذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا أناءةٍ ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا ... ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 199). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 575). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 197). (¬4) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 573).

الترغيب على صفة الحلم من القرآن والسنة

الترغيب على صفة الحلم من القرآن والسنة الترغيب على الحلم من القرآن الكريم: وردتْ آيات قرآنية كثيرة تشير إلى صفة الحلم، ووصف الله نفسه بالحلم، وسمى نفسه الحليم، ووردت آيات تدعو المسلمين إلى التحلي بهذا الخلق النبيل، وعدم المعاملة بالمثل ومقابلة الإساءة بالإساءة، والحث على الدفع بالتي هي أحسن، والترغيب في الصفح عن الأذى والعفو عن الإساءة. - قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133 - 134]، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] (أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقامات الإحسان) (¬1). - وقال - عز وجل -: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. - ووصف الله عز وجل بعضَ أنبيائه بالحلم؛ قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] يقول ابن تيمية: (وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليما، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]؟ وقيل: لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم وذلك لعزة وجوده ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] لأن الحادثة شهدت بحلمهما: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَالصَّابِرِينَ [الصافات:102]) (¬2). - قال ابن كثير في قوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] (أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك. ثم قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35] أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم) (¬3). الترغيب على الحلم من السنة النبوية: (في هذا العصر الذي نحيا فيه، لهث الناس خلف الحياة المادية، وتركوا التعاليم الربانية، إلا من رحم ربي. ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 122). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 332). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 181).

ولذا ظهر في هذه الحقبة من الزمان من الأمراض الخطيرة، والعلل الوبيلة التي لم تظهر في أسلافنا الصالحين. ومن الأدوية التي تهدأ النفس، وتريح القلب الحلم والتحالم. فكم من بيت خرب بسبب الغضب. وكم من امرأة طلقت بسبب غضب زوجها. وكم من رجل شل بسبب الغضب. وكم من أولاد قد شردوا بسبب الغضب. لذا تبدوا أهمية التداوي بالحلم والتحالم واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء عند الظهيرة) (¬1). وصفة الحلم قبل أن تكون دواء فهي صفة يحبها الله عز وجل، وقد وردت أحاديث نبوية تدل على هذا المعنى منها قولهصلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: - ((إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة)) (¬2). - وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: ((قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: التّأنّي من الله، والعجلة من الشّيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحبّ إلى الله من الحلم)) (¬3). - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)) (¬4). - وعنه أيضاً ((قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬5). قال ابن بطال: (مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك) (¬6). وقال ابن عبد البر: (في هذا الحديث من الفقه فضل الحلم وفيه دليل على أن الحلم كتمان الغيظ وأن العاقل من ملك نفسه عند الغضب لأن العقل في اللغة ضبط الشيء وحبسه منه) (¬7) - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليليني منكم أولو الأحلام والنهى .. )) (¬8). (أي ذوو الألباب والعقول واحدها حلم بالكسر فكأنه من الحلم الأناة والتثبت في الأمور، وذلك من شعائر العقلاء، وواحد النهى نهية بالضم سمي العقل بذلك؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبيح) (¬9). ¬

(¬1) ((دواء القلوب وصلاح النفوس)) (121) لمجدي السيد. (¬2) رواه مسلم (18) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو يعلى (7/ 247)، والبيهقي في ((الشعب)) (6/ 211)، والحارث بن أسامة في ((مسنده)) (2/ 828) كلهم بلفظ: (الحمد) بدلا من (الحلم) من حديث أنس رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 359) والهيثمي في ((المجمع)) (8/ 22): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 31): رجال إسناده ثقات. (¬4) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 118)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 174)، والبيهقي في ((الشعب)) (13/ 236) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وضعفه الذهبي في ((تلخيص العلل)) (249)، وضعف إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 218)، وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2577). (¬5) رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال. (¬7) ((التمهيد)) لابن عبد البر (¬8) رواه مسلم (432) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬9) ((حاشية السيوطي والسندي على سنن النسائي)) (2/ 423).

أقوال السلف والعلماء في الحلم

أقوال السلف والعلماء في الحلم - قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي النّاس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى) (¬1). - وقال- رضي الله عنه- أيضا: (إنّ أوّل ما عوّض الحليم من حلمه أنّ النّاس كلّهم أعوانه على الجاهل) (¬2). - (وبلغ عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّ جماعة من رعيّته اشتكوا من عمّاله؛ فأمرهم أن يوافوه، فلمّا أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها النّاس، أيّتها الرّعيّة، إنّ لنا عليكم حقّا: النّصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيّتها الرّعاة إنّ للرّعيّة عليكم حقّا فاعلموا أنّه لا شيء أحبّ إلى الله ولا أعزّ من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله ولا أغمّ من جهل إمام وخرقه) (¬3). - وقال- رضي الله عنه-: (تعلّموا العلم وتعلّموا للعلم السّكينة والحلم) (¬4). - وقال ابن مسعود- رضي الله عنه-: (ينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا صخّابا ولا صيّاحا ولا حديدا) (¬5). - وقال معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما-: (لا يبلغ العبد مبلغ الرّأي حتّى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلّا بقوّة الحلم) (¬6) - وسأل عمرو بن الأهتم: (أيّ الرّجال أشجع؟ قال من ردّ جهله بحلمه، قال فأيّ الرّجال أسخى؟ قال من بذل دنياه لصالح دينه) (¬7). - وقال مرّة لعرابة بن أوس: (بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل، ومن قصّر عنّي فأنا خير منه) (¬8). - وقال أيضا: (عليكم بالحلم والاحتمال حتّى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصّفح والإفضال) (¬9). - وأسمعه رجل كلاما شديدا، فقيل له: لو عاقبته، فقال: (إنّي أستحيي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيّتي) (¬10). - وعن أبي الدرداء قال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك وأن تنادي الناس في عبادة الله فإذا أحسنت حمدت الله وإذا أسأت استغفرت الله) (¬11). - وقال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- (نحن معشر قريش نعدّ الحلم والجود السّؤدد، ونعدّ العفاف وإصلاح المال المروءة) (¬12). ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 75)، والبيهقي في ((الزهد الكبير)) (276) موقوفًا على علي رضي الله عنه. (¬2) ذكره أبو حامد الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 178). (¬3) رواه هناد في ((الزهد)) (2/ 602)، والطبري في ((التاريخ)) (4/ 224). (¬4) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (6/ 200)، ووكيع في ((الزهد)) (538)، وأحمد في ((الزهد)) (99). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (35584)، وأحمد في ((الزهد)) (133)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 129) موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (25 - 26). (¬7) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 178). (¬8) رواه ابن أبي الدنيا في ((الحلم)) (40)، وذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 178). (¬9) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 184). (¬10) رواه ابن أبي الدنيا في ((حلم معاوية)) (22)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 179). (¬11) رواه ابن أبي شيبة (34585)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 212)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/ 158). (¬12) ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 215).

- وقال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63]: (حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا) (¬1). - وقال أيضا: (اطلبوا العلم وزيّنوه بالوقار والحلم) (¬2). - وقال أكثم بن صيفيّ- رحمه الله تعالى: (دعامة العقل الحلم، وجماع الأمر الصّبر وخير الأمور العفو) (¬3) - وعن رجاء بن أبي سلمة قال: (الحلم خصلة من خصال العقل) (¬4). - (وقال محمد بن عليّ رضوان الله عنهما: مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه، ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه، ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى، ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه، ومَن صَبر حُمِد أمرُه، ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه، ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه، ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه) (¬5). - وقال أبو رزين في قوله كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] حلماء علماء (¬6) - وعن معاوية بن قرة قال: (مكتوب في الحكمة لا تجالس بحلمك السفهاء ولا تجالس بسفهك الحلماء). (¬7) - وعن الحسن قال: (المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل عليه، حليم لا يظلم وإن ظلم غفر، لا يقطع وإن قطع وصل، لا يبخل وإن بخل عليه صبر) (¬8). - وقال وهب بن منبه: (العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيمته، والصبر أمير جنوده، والرفق أبوه، واللين أخوه) (¬9). - وقال عطاء بن أبي رباح- رحمه الله تعالى-: (ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم) (¬10). ¬

(¬1) رواه يحيى بن سلام في ((تفسيره)) (489)، وذكره القرطبي في ((تفسيره)) (13/ 69). (¬2) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 178). (¬3) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص27). (¬4) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص21). (¬5) ((العقد الفريد)) (1/ 181) (¬6) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص23). (¬7) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص53). (¬8) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص54 - 55). (¬9) ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (ص 251) للحافظ ابن شاهين. (¬10) رواه الدارمي (1/ 470) (596).

آثار وفوائد خلق الحلم

آثار وفوائد خلق الحلم 1 - الحليم يفوز برضى الله وثوابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله -عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة، يخيره من الحور العين ما شاء)) (¬1). 2 - الحليم عظيم الشأن، رفيع المكان، محمود الأمر، مرضي الفعل. (¬2) 3 - (أنها دليل كمال العقل وسعة الصّدر، وامتلاك النّفس. 4 - قليل من الخلق من يتّصف به. 5 - صفة من صفات الله سبحانه، وهي من صفات أنبيائه، وأوليائه أيضا. 6 - تعمل على تآلف القلوب ونشر المحبّة بين النّاس. 7 - تزيل البغضاء بين الناس وتمنع الحسد وتميل القلوب. 8 - يستحقّ صاحبها الدّرجات العلى والجزاء الأوفى) (¬3). 9 - صفة الحلم عواقبها محمودة. 10 - أن أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل (¬4) 11 - الحليم له القوة في التحكم في انفعالاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ليس الشديد بالصُّرْعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4777)، وابن ماجه (4186)، وأحمد (3/ 440) (15675) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. قال الذهبي في المهذب)) ((6/ 3265)): فيه أبو مرحوم عبد الرحيم ليس بذاك. وضعف إسناده ابن الملقن في ((شرح البخاري لابن الملقن)) (28/ 490)، وحسنه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3394). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (208) (¬3) ((نضرة النعيم - بتصرف)) لمجموعة من العلماء (5/ 1752). (¬4) هذا القول ينسب لعلي رضي الله عنه. انظر ((العقد الفريد)) (1/ 182) (¬5) رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الوسائل المعينة للتخلق بصفة الحلم

الوسائل المعينة للتخلق بصفة الحلم السبب الأول من الأسباب التي تعين على التخلق بصفة الحلم: تذكر كثرة حلم الله على العبد، فالله سبحانه وتعالى حليم، يرى معصية العاصي ومخالفته لأمره فيمهله قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235] قال أبو حاتم: (الواجب على العاقل، إذا غضب واحتدَّ أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعديه حرماته، ثم يحلم، ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي) (¬1). وقال محمد بن السعدي لابنه عروة لما ولي اليمن: (إذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثم عظم خالقهما) (¬2). السبب الثاني: تذكر الثواب من الله للعافين عن الناس، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133 - 134]، عن أبي جعفر الخطمي أن جده عمير وكانت له صحبة أوصى بنيه: (يا بني إياكم ومجالسة السفهاء فإن مجالستهم دناءة من يحلم على السفيه يسر بحلمه ومن يجبه يندم ومن يصبر على ما يكره يدرك ما يحب وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى ويثق بالثواب من الله فإن من وثق بالثواب لم يجد مس الأذى) (¬3). السبب الثالث: الرحمة بالجاهل، ومن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مه مه. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه)) (¬4). السبب الرابع: القدرة على الانتصار وهذا ناتج عن سعة الصدر والثقة بالنفس ومن ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعةرضي الله عنه. قال أبو حاتم: (ولم يقرن شيء إلى شيء أحسن من عفو إلى مقدرة. والحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام) (¬5). السبب الخامس: الترفّع عن المعاملة السيئة بالمثل، وهذا يدل على شرف النفس، وعلو الهمة ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله، قال: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاة فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه فتفرق الناس في الشجر يستظلون وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتا قال من يمنعك مني قلت الله فشامه ثم قعد فهو هذا قال ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬6). السبب السادس: التفضّل على المسيء، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أعرابي , فأخذ بردائه, فجبذه جبذةً شديدة .... ) والحديث تقدم. ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 212). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 212). (¬3) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص 30). (¬4) رواه مسلم (285) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬5) ((روضة العقلاء)) (ص 208) لابن حبان البستي. (¬6) رواه البخاري (4139) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

السبب السابع: الاستهانة بالمسيء لا عن كبر وإعجاب بالنفس، إنما هو نأي عن منافس لا يساويك قدراً، ومن ذلك (أن الأحنف بن قيس شتمه رجل فسكت عنه، وأعاد الرجل فسكت عنه، وأعاد فسكت عنه، فقال الرجل: والهفاه!! ما يمنعه من أن يرد عليَّ إلا هواني عنده) (¬1). قال أبو حاتم: أنشدني الكريزي إذا أنا كافيت الجهول بفعله ... فهل أنا إلا مثله إذ أحاوره؟ ولكن إذا ما طاش بالجهل طائش ... علي، فإني بالتحلم قاهر (¬2). وكان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه رجل بشتمٍ أو قولٍ سيئ لم يجبه وقال: إني أتركك رفعاً لنفسي عنك (¬3) .. السبب الثامن: قطع السباب والخصام، قال الأصمعي: (بلغني أن رجلاً قال لآخر: والله لئن قلت واحدةً لتسمعن عشراً، فقال له الآخر: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدةً) (¬4). وكان شبيب بن شيبة يقول: (من سمع كلمة يكرهها فسكت عنهم انقطع عنه ما يكره، فإن أجاب عنهم سمع أكثر مما يكره. وكان يتمثل بهذا البيت: وتجزع نفس المرء من وقع شتمةٍ ... ويشتئم ألفاً بعدها ثم يصبر) (¬5). السبب التاسع: الاستحياء من جزاء الجواب، وكان الأحنف بن قيس يقول: (من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه، وأنشد: رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه ... كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض (¬6) السبب العاشر: الرعاية ليدٍ سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء، وحُسنِ العهد، وكمال المروءة، عن حفص بن غياث قال: (كنت جالساً عند جعفر بن محمد، ورجل يشكو رجلا عنده، قال لي كذا، وفعل لي كذا، فقال له جعفر: من أكرمك فأكرمه، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه) (¬7) (¬8). قال الشاعر: إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلافِ وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً ... وترى اللئيم مجانب الإنصافِ ... ¬

(¬1) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 283). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (210) (¬3) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 287). (¬4) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 285). (¬5) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 285). (¬6) ((العقد الفريد)) (2/ 279). (¬7) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (213) (¬8) بعض هذه الأسباب مستفادة من كتاب ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي. بتصرف.

نماذج في الحلم

نماذج من حلم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم غاية الحلم والعفو وأن السنة النبوية حافلة بمواقف الرسول الكريم في الحلم ومن ذلك قصة الأعرابي الذي جبذ النبي صلى الله عليه وسلم بردائه جبذة شديدة، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته ثمّ قال: يا محمّد مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ضحك ثمّ أمر له بعطاء)) (¬1). وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: ((إنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه فأغلظ، فهمّ به أصحابه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعوه فإنّ لصاحب الحقّ مقالا. ثمّ قال: أعطوه سنّا مثل سنّه، قالوا: يا رسول الله، إلّا أمثل من سنّه، فقال: أعطوه، فإنّ من خيركم أحسنكم قضاء)) (¬2). وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: ((كأنّي أنظر إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكي: نبيّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدّم عن وجهه ويقول: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)) (¬3). قال النووي (فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد) (¬4). وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا)) (¬5). ((وعن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟. قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثمّ قال: يا محمّد فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3149) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (2306) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3477) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬4) ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 150). (¬5) رواه مسلم (2310) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (3231) ومسلم (1795) من عائشة رضي الله عنه.

وحلمه صلى الله عليه وسلم على ذي الخويصرة فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْماً إذ أتاه ذو الخُوَيصرة - رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل فمن يعدل؟ " فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعْه فإنّ له أصحاباً يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقَيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرُق السهم من الرَّميَّة، ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رُصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيَّة- وهو قِدْحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قُذَذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تَدَرْدَرُ، ويخرجون على حين فُرْقة من الناس، قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتُمس فأُتي به حتى نظرت إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت)) (¬1). وحلمه على كفار قريش حينما أرادوا الغدر يوم الحديبية، عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح من قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأُخذوا، قال عفان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]) (¬2). وكذلك حلمه عليه السلام على اليهودي الذي سحره، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود لذلك أياماً، قال: فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إنَّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا فأرسل إليها من يجيىء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (علياً رضي الله تعالى عنه) فاستخرجها فجاءه بها فحلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشِط من عَقال، فما ذكر ذلك لليهود ولا رآه في وجهه حتى مات (¬3). ومن تلك النماذج حلمه عليه السلام على المرأة اليهودية التي أتته بشاة مسمومة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك عليَّ - أو قال: على ذلك - قالوا: ألا تقتلها؟ قال أنس: فما زلت أعرفها في لَهَوات رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3610)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (1808)، وأحمد (3/ 122) (12249) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه النسائي (4080)، وأحمد (4/ 367) (19286) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه. قال ابن حجر في الفتح (10/ 239): [له طرق]. وصحح إسناده الألباني في ((صحيح النسائي)) (4091). (¬4) رواه البخاري (2617)، ومسلم (2190) من حديث أنس رضي الله عنه.

نماذج من حلم الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من حلم الصحابة رضي الله عنهم: حلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: (واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك؟ قال: معك يَدْخل لا مَعي.) (¬1). وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: (جاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أبي بكر وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انزل عن مجلس أبي فقال: صدقت: إنه مجلس أبيك وأجلسه في حجره وبكى، فقال علي رضي الله عنه: والله ما هذا عن أمري، فقال أبو بكر: صدقت، والله ما أتهمك) (¬2). حلم عمر رضي الله عنه: عن إبراهيم بن حمزة، قال: (أُتي عمر رضي الله عنه ببرود فقسمها بين المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - وكان فيها برد فاضل لها، فقال: إن أعطيته واحداً منهم غضب أصحابه ورأوا أني فضلته عليهم، فدلّوني على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة أعطيه إياه. فسمّوا له المسور ابن مخرمة، فدفعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: تكسوني هذا البرد وتكسوا ابن أخي مسوراً أفضل منه؟، قال: يا أبا إسحاق، إني كرهت أن أعطيه واحداً منكم فيغضب أصحابه، فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة لا يتوهم فيه أني أفضله عليكم، فقال سعد: إني قد حلفت لأضربن بالبرد الذي أعطيه رأسك، فخضع له عمر رأسه وقال: عندك يا أبا إسحاق وليرفق الشيخ بالشيخ.) (¬3). وعن أصبغ بن نُباتة، قال: (خرجت أنا وأبي من زَرُوْد حتى ننتهي إلى المدينة في غلس، والناس في الصلاة فانصرف الناس من صلاتهم وخرج الناس إلى أسواقهم، فدخل إلينا رجل معه درّه، فقال: "يا أعرابي أتبيع؟ "، فلم يظل يساوم أبي حتى أرضاه على ثمن، وإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل يطوف في السوق، ويأمرهم بتقوى الله يقبل فيه ويدبر، ثم مرّ على أبي، فقال: "حبستني ليس هذا وعدتني"، ثم مرّ الثانية، فقال له مثل ذلك، فردّ عليه عمر: "لا أريم حتى أوفيك"، ثم مرّ به الثالثة فوثب أبي مغضباً.) حلم أبي ذر رضي الله عنه: شَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال: (يا هذا، لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً، فإنا لا نًكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه) (¬4). حلم معاوية رضي الله عنه: كان الرجل يقول لمعاوية: (والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك، فيقول: بماذا؟ فيقولون بالخشب، فيقول إذا أستقيم) (¬5). حلم عمرو بن العاص رضي الله عنه: وقال رجل لعمرو بن العاص: (والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشغل؟ قال: كأنك تهددني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً، قال: وأنت والله لئن قلت لي عشراً لم أقل لك واحدة) (¬6). حلم ابن عباس رضي الله عنه: وسب رجلٌ ابن عباس رضي الله عنه، فقال ابن عباس: (يا عكرمة هل للرّجل حاجة فنقضيها؟ فنكّس الرّجل رأسه واستحى ممّا رأى من حلمه عليه) (¬7). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 275) (¬2) رواه ابن الأعرابي في ((معجمه)) (2/ 426)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 307) من حديث عبد الرحمن الأصفهاني رحمه الله. (¬3) ذكره ابن المبرد في ((محض الصواب)) (2/ 600). (¬4) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 113)، والبيهقي في ((الشعب)) (11/ 30) (8106) وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 29). (¬5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 184)، وذكره الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 149). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 275) (¬7) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 178).

نماذج من حلم السلف:

نماذج من حلم السلف: حلم عمر بن عبد العزيز: وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره، فقال: (لا عليك، إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً، انصرفْ إذا شئت) (¬1). حلم الشعبي: وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ، فقال له: إن كنتَ صادقاً فغَفر الله لي، وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك. (¬2). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 279) (¬2) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 276)

نماذج من حلم العلماء المعاصرين:

نماذج من حلم العلماء المعاصرين: حلم الشيخ ابن باز: الحلم والسكينة يلازمان – الشيخ ابن باز - في شتى أطواره، يستوي بذلك حاله في السفر والحضر، وفي الصحة والمرض، وفي الزحام والوحدة، ومع القريب والبعيد ... فهو يحلم على من يجهل عليه، ويحلم على من يرفع الصوت بحضرته، ويحلم على من يسيء فهمه، ويحلم على من يرد عليه بالباطل ... وقبل سنتين من وفاة سماحته رحمه الله كان في الطائف، وفي يوم من الأيام جاء سماحته من الدوام قريباً من الساعة الثالثة إلا ربعاً، ولا يخفى عليك أنه قد قام في آخر الليل للتهجد، وأنه يجلس للدرس حتى الثامنة صباحاً، ثم يذهب للدوام ويقوم بما يقوم به من الأعمال العظام، فلما قدم من الدوام في ذلك اليوم دخل مجلسه، فحيا الجموع التي كانت تأتي كالعادة إليه، وبدأت الأسئلة تترى، والهاتف يستأنف رنينه. وفي هذه الأثناء دخل على سماحته رجل ثائر، ومعه أوراق يطلب فيها شفاعة الشيخ؛ ليحصل على مال؛ ليتزوج، فشرع الرجل يتكلم بصوت مرتفع أزعج الحاضرين في المجلس، فوجهه سماحة الشيخ بما يلزم، وقال: اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية، ويقوم باللازم، ثم يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك. فقال الرجل: يا شيخ ارفعها إلى المسؤول الفلاني- يعني أحد المسؤولين الكبار_فقال سماحة الشيخ: ما يكون إلا خير، فرفع الرجل صوته، وأخذ يكرر: لابد أن ترفعها إلى فلان، وما زال يردد، وما زال الشيخ يلاطفه، ويرفق به، ويعده بالخير، حتى إن الحاضرين تكدروا، وبدا الغضب من على وجوههم، بل إن بعضهم هَمَّ بإخراج الرجل، ولكنهم تأدبوا بحضرة الشيخ. ولم يرغبوا بالتقدم بين يديه. فقال الرجل: يا شيخ عمري يزيد على الخمسين، وماعندي زوجة، وما بقي من عمري إلا القليل، فتبسم سماحة الشيخ، وقال: ياولدي إن شاء الله ستتزوج، ويزيد عمرك_إن شاء الله_على التسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك. فما كان من ذاك الرجل الثائر المستوفز إلا أن تَبلَّجت أساريره، وأقبل على سماحة الشيخ، وأخذ برأس الشيخ يُقَبِّله، ويدعو له. فلما همَّ بالانصراف ودع الشيخ، فقال له سماحته: لا نسمح لك؛ غداؤك معنا، فقال: يا شيخ أنا على موعد، فقال له الشيخ: هذا الهاتف اعتذر، فما زال يحاول التخلص، وما زال سماحة الشيخ يلح عليه بتناول الغداء، ولم يقبل سماحته الاعتذار إلا بعد لأْيٍ وجَهْد. حينئذٍ تعجب الحاضرون من تحمل الشيخ، وأصبحت ترى الدهشة بادية على وجوههم، فكأنه أعطاهم درساً عملياً في فضل الحلم، وحميد عاقبته (¬1). ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله)) لمحمد إبراهيم الحمد. بتصرف (ص 220)

مسائل متفرقة حول الحلم

مسائل متفرقة حول الحلم - أول الحلم قال أبو حاتم: (العاقل يلزم الحلم عن الناس كافة فإن صعب ذلك عليه فليتحالم لأنه يرتقي به إلى درجة الحلم. وأول الحلم: المعرفة، ثم التثبت، ثم العزم، ثم التصبر، ثم الصبر، ثم الرضا، ثم الصمت والإغضاء، وما الفضل إلا للمحسن إلى المسيء فأما من أحسن إلى المحسن وحلم عمن لم يؤذه فليس ذلك بحلم ولا إحسان) (¬1). - أوصاف الحليم (يقال فلان حليم الطبع، واسع الخلق، واسع الحبل (¬2)، واسع السرب (¬3)، رحب الصدر، رحب المجم (¬4)، واسع المجسة، وواسع المجس (¬5)، واسع الأناة، بعيد الأناة، رحب البال، وقور النفس، راجح الحلم، راسخ الوطأة (¬6)، رزين الحصاة (¬7).، ساكن الريح، راكد (¬8) الريح، واقع الطائر، سكان الطائر، ساكن القطاة (¬9)، خافض الطائر (¬10)، خافض الجناح، محتب (¬11) بنجاد (¬12) الحلم، رصين، رزين، وزين، ركين (¬13)، رفيق (¬14)، وادع (¬15)، وقور، حصيف (¬16)، رميز (¬17)، متئد (¬18)، ومتوئد، متأن، متثبت ... وهو بعيد غور (¬19) الحلم، طويل حبل الأناة، واسع فسحة الصبر، راجح حصاة العقل. وإنه لا تصدع (¬20) صفاة حلمه، ولا تستثار قطاة رأيه، ولا يستنزل عن حلمه، ولا يزدهف (¬21) عن وقاره، ولا يحفز (¬22) عن رزانته، ولا يحل حبوته (¬23) الطيش، ولا يستفزه (¬24) نزق، ولا يستخفه غضب، ولا يروع (¬25) حلمه رائع، ولا يتسفه رأيه (¬26) متسفه. وهو الطود (¬27)) (¬28). - الأمثال في الحلم 1 - (قولهم: إذا نزل بك الشر فاقعد. أي: فاحلم ولا تسارع إليه. 2 - وقولهم: الحليم مطية الجاهل. 3 - وقولهم: لا ينتصف حليم من جاهل. 4 - وقولهم في الحليم: إنه لواقع الطير، ولساكن الريح. 5 - وقولهم: ربما أسمع فأذر. 6 - وقولهم: حلمي أصم وأذني غير صماء. 7 - وقولهم في الحلماء: كأنما على رؤوسهم الطير) (¬29). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 210). (¬2) بمعنى الخلق (¬3)) أي البال (¬4) أي الصدر مأخوذ من مجم البئر وهو مجتمع مائها (¬5) كلاهما بمعنى الصدر (¬6) من وطأة القدم أي وقور مثبت (¬7) واحدة الحصى لصغار الحجارة وتستعار للعقل. والرزانة الثقل والوقار (¬8) بمعنى ساكن (¬9) واحدة القطا وهي طائر معروف (¬10) يقال خفض الطائر جناحه إذا ضمه إلى جنبه ليسكن من طيرانه (¬11) يقال احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. ويستعمل الاحتباء كناية عن الحلم ونقضه كناية عن الطيش (¬12) من نجاد السيف وهو حمالته (¬13) كل ذلك بمعنى الوقور (¬14) متأن (¬15) من الدعة وهي السكينة (¬16) مستحكم العقل (¬17) عاقل رزين (¬18) رزين متأن (¬19) قعر (¬20) الصدع الشق في شيء صلب (¬21) يستخف (¬22) يعجل (¬23) الاسم من الاحتباء (¬24) بمعنى يستخفه (¬25) يفزع ويقلق (¬26) يحمله على السفه وهو الخفة والطيش (¬27) الجبل العظيم (¬28) ((نجعة الرائد)) لليازجي (ص 96). (¬29) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 104).

الحلم في واحة الشعر ..

الحلم في واحة الشعر .. يخاطبني السفيه: يخاطبني السّفيه بكلّ قبح ... فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة فأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا (¬1) إذا نطق السفيه: إذا نطق السّفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السّكوت فإن كلّمته فرّجت عنه ... وإن خلّيته كمدا يموت (¬2) إذا سبني نذل: إذا سبّني نذل تزايدت رفعة ... وما العيب إلّا أن أكون مساببه ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة ... لمكّنتها من كلّ نذل تحاربه ولو أنّني أسعى لنفعي وجدتني ... كثير التّواني للّذي أنت طالبه ولكنّني أسعى لأنفع صاحبي ... وعار على الشّبعان إن جاع صاحبه (¬3) وإني لأترك عور الكلام: وإني لأترك عور الكلا ... م لئلا أجاب بما أكره وأغضى على الكلم المحفظا ... ت وأحلم والحلم بي أشبه فلا تغترر برواء الرجال ... وما زخرفوا لك أو موهوا فكم من فتى يعجب الناظري ... ـن له ألسن وله أوجه ينام إذا حضر المكرما ... ت وعند الدناءة يستنبه) (¬4) تخالهم للحلم صما عن الخنا: تخالهم للحلم صما عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر ومرضى إذا لقوا حياء وعفة ... وعن الحفاظ كالليوث الخوادر لهم ذل إنصاف ولين تواضع ... بذلهم ذلت رقاب المعاشر كأن بهم وصما يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاير (¬5) ألم تر أن الحلم زين مسوِّدٌ: ألمِ تَرَ أنّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ ... لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ فكن دافناً للجهل بالحِلْم تَسْتَرح ... من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ يارب هب لي منك حلماً: ألاَ إنّ حِلم المَرْء أكبر نِسْبةٍ ... يُسامى بها عند الفخار كريمُ فيا ربِّ هَبْ لي منك حلماً فإنني ... أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم وفي الحلم ردع للسفيه: وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى ... وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا فَتَنْدَمَ إذ لا تَنْفَعَنْك ندامةٌ ... كما ندِم المغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا) (¬6) رجعت على السفيه بفضل حلم: رجعت على السفيه بفضل حلم ... وكان الفعل عنه له لجاما وظن بي السفاه فلم يجدني ... أسافهه وقلت له سلاما فقام يجر رجليه ذليلا ... وقد كسب المذمة والملاما وفضل الحلم أبلغ في سفيه ... وأحرى أن ينال به انتقاما (¬7) لا ترجعن إلى السفيه خطابه: لا ترجعن إلى السفيه خطابه ... إلا جواب تحية حياكها فمتى تحركه تحرك جيفة ... تزداد نتنا إن أردت حراكها) (¬8) أيا من تدعي شتمي سفاها: أيا من تدعي شتمي سفاها ... عجلت علي خيرا يا أخيا أكسيك الثواب ببنت شتمي ... وأستدعي به إثما إليا فأنت إذن وقد أصبحت ضدا ... أعز علي من نفسي عليا (¬9) لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا .. لن يدرِك المجد أقوام وإن كرُموِا ... حتى يذلُوا وإن عزُوا لأقوام ويُشتموا فترى الألوان كاسفةَ ... لا ذلَ عَجْزٍ ولكن ذلِّ أحْلام وإذا استشارك من تود فقل له: وإذا استشارك مَنْ تَوَدّ فُقل له ... أَطع الحلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا واعلم بأنك لن تَسود ولن ترى ... سُبل الرشاد إذا أَطعتَ هَواكا كن معدنا للحلم: وكن مَعْدِناً للحِلم واصفَح عن الأذى ... فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ وأَحْبِب إذا أجبتَ حُثا مُقارِباً ... فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع وأَبْغِض إذا أبغضتَ غيرَ مُباين ... فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع (¬10) ... ¬

(¬1) ((ديوان الإمام الشافعي)) (ص 33). (¬2) ((ديوان الإمام الشافعي)) (ص 39). (¬3) ((ديوان الإمام الشافعي)) (ص 33). (¬4) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص29). (¬5) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص34). (¬6) ((العقد الفريد)) (1/ 180) (¬7) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص34). (¬8) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص32). (¬9) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص48). (¬10) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 182).

الحياء

معنى الحياء لغة واصطلاحاً معنى الحياء لغة: تقول: رجل حَيِيٌّ ذو حَياءٍ بوزن فَعِيلٍ، والأُنثى بالهاء وامرأَة حَيِيَّة واسْتَحْيا الرجل واسْتَحْيَت المرأَة، وللعرب في هذا الحرف لغتان يقال اسْتَحَى الرجل يَسْتَحي بياء واحدة، واسْتَحْيا فلان يَسْتَحْيِي بياءَين، والقرآن نزل بهذه اللغة الثانية في قوله عز وجل إنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مثلاً [البقرة:26] (¬1).ويقال استحيت بياء واحدة وأصله استحييت. والحياء ممدود الاستحياء (¬2).والحياءمشتق من الحياة (¬3). (قَالَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ وَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ مِنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ فِيهِ لِشِدَّةِ علمه بمواقع الغيب) (¬4). معنى الحياء اصطلاحاً: هو: (انقباض النفس من شيء وتركه حذراً عن اللوم فيه) (¬5). وقال الحافظ ابن حجر: (الحياء: خلق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير فيحق ذي الحق) (¬6). وقيل هو: (تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ومحله الوجه ومنعه من القلب) (¬7). ¬

(¬1) [937]- ((لسان العرب)) لابن منظور. بتصرف يسير (14/ 218) (¬2) [938]- ((مختار الصحاح)) (ص86). (¬3) [939]- ((الجواب الكافي)) (ص69). (¬4) [940]- ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 5). (¬5) [941]- ((التعريفات للجرجاني)) (ص94). (¬6) [942]- ((فتح الباري)) (1/ 52). (¬7) [943]- ((التبيان تفسير غريب القرآن)) (ص61).

الحياء صفة من صفات الله عز وجل

الحياء صفة من صفات الله عز وجل (حياء الله صفة من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة وهي صفة كمال تدل على الكرم والفضل والجود والجلال، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إذا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)) (¬1). قال ابن القيم في (النونية) (2/ 80): وهو الحييُّ فليسَ يفضحُ عبده ... عندَ التجاهُرِ منهُ بالعصيانِ لكنَّهُ يُلقِي عليه سِترهُ ... فَهُو السِّتِّيرُ وصاحب الغفرانِ قال الهرَّاس: (وحياؤه تعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين، الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر). اهـ) (¬2). ¬

(¬1) [944]- رواه أبو داود (1488)، وابن حبان (3/ 160) (876)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 220) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه. وسكت عنه أبو داود، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (2/ 259): في إسناده جعفر بن ميمون قال أحمد: ليس بالقوي. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (1488). (¬2) [945]- ((صفات الله الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص148 - 149).

الفرق بين الحياء والخجل

الفرق بين الحياء والخجل (الخجل: معنى يظهر في الوجه لغم يلحق القلب عند ذهاب حجة أو ظهور على ريبة وما أشبه ذلك فهو شيء تتغير به الهيبة. والحياء: هو الارتداع بقوة الحياء ولهذا يقال فلان يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال يخجل أن يفعله في هذه الحال لأن هيئته لا تتغير منه قبل أن يفعله فالخجل مما كان والحياء مما يكون. وقد يستعمل الحياء موضع الخجل توسعا، وقال الأنباري: أصل الخجل في اللغة الكسل والتواني وقلة الحركة في طلب الرزق ثم كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام. وفي الحديث (إذا جعتن وقعتن وإذا شبعتن خجلتن) (¬1) وقعتن أي: ذللتن، وخجلتن: كسلتن. وقال أبو عبيدة: الخجل هاهنا الأشر وقيل هو سوء احتمال العناء. وقد جاء عن العرب الخجل بمعنى: الدهش. قال الكميت: فلم يدفعوا عندنا ما لهم ... لوقع الحروب ولم يخجلوا أي لم يبقوا دهشين مبهوتين) (¬2). ¬

(¬1) [946]- ذكره المتقي الهندي في ((كنز العمال)) (6/ 377) وقال: رواه ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن منصور بن المعتمر مرسلا. (¬2) [947]- ((الفروق اللغوية)) (ص244).

فضل الحياء

فضل الحياء الحياء فضيلة من فضائل الفطرة, وهو مادة الخير والفضيلة وبهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الحياء خير كله)) (¬1). ومن فضائله أنه: - يحبه الله: روي في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ((عَنْ يَعْلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإذا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ)) (¬2). - الحياء من سنن الأنبياء والمرسلين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَمْسٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحَيَاءُ وَالْحِلْمُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ.)) (¬3). - الحياء خلق الإسلام: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ)) (¬4). - الحياء مفتاح لكل خير: روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه, قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬5). يقول ابن حجر رحمه اللَّه: (إذا صار الحياء عادة وتخلق به صاحبه يكون سببًا يجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب) (¬6). - الحياء مغلاق لكل شر: وجاء في الصحيح عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬7). قال الخطابي: (الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء فإذا تركه صار كالمأمور بارتكاب كل شر) (¬8). وقال ابن القيم: (خُلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة كما أنه ليس معه من الخير شيء) (¬9). - الحياء يكسب محبة الله تعالى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف ويحب الحيي العفيف المتعفف)) (¬10). ¬

(¬1) [948]- رواه مسلم (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬2) [949]- رواه أبو داود (4012)، والنسائي (406) من حديث يعلى رضي الله عنه. وصححه النووي في ((الخلاصة)) (1/ 204)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1729)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (1/ 317): رجال إسناده رجال الصحيح. (¬3) [950]- رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (11/ 186) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3959)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2857). (¬4) [951]- رواه ابن ماجه (4181)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2/ 210)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 363) من حديث أنس رضي الله عنه. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2411)، وحسنه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3389). (¬5) [952]- رواه البخاري (6117)، ومسلم (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬6) [953]- ((فتح الباري)) (10/ 522). (¬7) [954]- رواه البخاري (3484) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. (¬8) [955]- ((فتح الباري)) (10/ 523). (¬9) [956]- ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 277) بتصرف يسير. (¬10) [957]- رواه البيهقي في شعب ((الإيمان)) (8/ 263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: في إسناده ضعف. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1668)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1711).

- الحياء مفتاح من مفاتيح الزينة: عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ)) (¬1). وقال القرطبي: من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يُوقر غيره ويتوقر هو في نفسه (¬2). - الحياء يؤمن صاحبه يوم القيامة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) (¬3). - الحياء يدخل الجنة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ)) (¬4). ¬

(¬1) [958]- رواه الترمذي (1974)، وابن ماجه (4185)، وأحمد (3/ 165) (12712) من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. وقال ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (4/ 386): رجاله رجال الصحيح. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7963). (¬2) [959]- ((فتح الباري)) (10/ 522). (¬3) [960]- رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) [961]- رواه الترمذي (2009)، وابن ماجه (4184)، وأحمد (2/ 501) (10519) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 384): رجاله رجال الصحيح. وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1447).

الترغيب والحث على الحياء من القرآن والسنة

الترغيب والحث على الحياء من القرآن والسنة الترغيب والحث على الحياء من القرآن الكريم: - قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] أي: لا يمنعه الحياء من أن يضرب مثلاً ولو كان مثلاً حقيراً ما دام يثبت به الحق (¬1). - وقال تعالى: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى [الأعراف:26] فُسر لباس التقوى بأنه الحياء كما روي عن الحسن (¬2)، ومعبد الجهني (¬3). - وقال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25]. قال مجاهد: (يَعْنِي: وَاضِعَةً ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا لَيْسَتْ بِخَرَّاجَةٍ وَلَا وَلَّاجَةٍ) (¬4). قال الطبري: (فَأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، وَهِيَ تَسْتَحْيِي مِنْهُ) (¬5). - وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]. قال ابن كثير: (وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَتَأَذَّى بِهِ، لَكِنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ) (¬6). وقال الشوكاني: (أَيْ يَسْتَحْيِي أَنْ يَقُولَ لَكُمْ: قُومُوا، أَوِ اخْرُجُوا) (¬7). الترغيب والحث على الحياء من السنة النبوية: - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬8). قال الخطابي: (قال الشيخ: معنى قوله النبوة الأولى أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى وأنه ما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم يبدل فيما بدل منها) (¬9). وقال ابن دقيق العيد: (معنى قوله: "من كلام النبوة الأولى" إن الحياء لم يزل ممدوحاً مستحسناً مأموراً به لم ينسخ في شرائع الأنبياء الأولين) (¬10). وقال المناوي: (والمراد الحياء الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر وهو محمود) (¬11). ¬

(¬1) [962]- ((تفسير القرآن)) للعثيمين (1/ 96). (¬2) [963]- ((تفسير الآلوسي)) (4/ 344). (¬3) [964]- ((تفسير الثعالبي)) (3/ 19). (¬4) [965]- ((تفسير مجاهد)) (ص529). (¬5) [966]- ((جامع البيان)) للطبري (18/ 221). (¬6) [967]- ((تفسير ابن كثير)) (6/ 454). (¬7) [968]- ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 342). (¬8) [969]- رواه البخاري (3484) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. (¬9) [970]- ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 109). (¬10) [971]- ((شرح الأربعين النووية)) لابن دقيق العيد (ص78). (¬11) [972]- ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 428).

- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعبة، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1). قال الخطابي: (ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان) (¬2). وقال السفيري: (إنما أفرد - صلى الله عليه وسلم - هذه الخصلة من خصال الإيمان في هذا الحديث وخصها بالذكر دون غيرها من باقي شعب الإيمان، لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، فإن صاحب الحياء يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلما كان الحياء كالسبب لفعل باقي الشعب خص بالذكر ولم يذكر غيره معه) (¬3). وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: (هذا الحديث من جملة النصوص الدالة على أن الإيمان اسم يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان فكل ما يقرب إلى الله، وما يحبه ويرضاه، من واجب ومستحب فإنه داخل في الإيمان. وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو الحياء ولعل ذكر الحياء؛ لأنه السبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإن من استحيا من الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجليه عليه بأسمائه الحسنى، والعبد -مع هذا كثير التقصير مع هذا الرب الجليل الكبير يظلم نفسه ويجني عليها- أوجب له هذا الحياء التوقِّي من الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبات) (¬4). - وعن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((الحياء لا يأتي إلّا بخير)) (¬5). قال ابن بطال: (معناه أن من استحيا من الناس أن يروه يأتى الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه، ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأن كل ذى فطرة صحيحة يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحى والمميت، فإذا علم ذلك فينبغى له أن يستحى منه عز وجل) (¬6). قال ابن رجب: («الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»: فَإِنَّهُ يَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَدَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ، وَيَحُثُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيهَا، فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ) (¬7). - ومَرَّ النَّبِى عليه السلام عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ)) (¬8). ¬

(¬1) [973]- رواه مسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) [974]- ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 312). (¬3) [975]- ((المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم من صحيح الإمام البخاري)) للسفيري (1/ 365). (¬4) [976]- ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) لعبد الرحمن السعدي (ص179). (¬5) [977]- رواه البخاري (6117)، ومسلم (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬6) [978]- ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 297). (¬7) [979]- ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 501). (¬8) [980]- رواه البخاري (24) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

قال ابن بطال: (معناه أن الحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله. وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويقيده عن المعاصى ويحمله على الطاعة صار كالإيمان لمساواته له فى ذلك، وإن كان الحياء غريزة والإيمان فعل المؤمن فاشتبها من هذه الجهة) (¬1). وقال العيني: (قَوْله: (فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان) أَي: من كَمَال الْإِيمَان، قَالَه أَبُو عبد الْملك، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: جعل الْحيَاء وَهُوَ غريزة من الْإِيمَان وَهُوَ الِاكْتِسَاب لِأَن المستحي يَنْقَطِع بحيائه عَن الْمعاصِي، وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة فَصَارَ كالإيمان الْقَاطِع بَينه وَبَينهَا) (¬2). - وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)) (¬3). قال ابن رجب: (يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عنا لإصرار على ما حرم الله ويتضمن أيضًا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله - عز وجل - اللسان والفرج) (¬4). وقال المباركفوري في شرح الحديث: (قوله ((استحيوا من الله حق الحياء)) (¬5) أي حياء ثابتا ولازما صادقا قاله المناوي وقيل أي اتقوا الله حق تقاته. (قلنا يا نبي الله إنا لنستحيي) لم يقولوا حق الحياء اعترافا بالعجز عنه. (والحمد لله) أي على توفيقنا به. (قال ليس ذاك) أي ليس حق الحياء ما تحسبونه بل أن يحفظ جميع جوارحه عما لا يرضى. (ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس) أي عن استعماله في غير طاعة الله بأن لا تسجد لغيره ولا تصلي للرياء ولا تخضع به لغير الله ولا ترفعه تكبرا. (وما وعى) أي جمعه الرأس من اللسان والعين والأذن عما لا يحل استعماله. (وتحفظ البطن) أي عن أكل الحرام. (وما حوى) أي ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي بل في مرضاة الله تعالى. (وتتذكر الموت والبلى) بكسر الباء من بلى الشيء إذا صار خلقا متفتتا يعني تتذكر صيرورتك في القبر عظاما بالية. (ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا) فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء قاله القاري. وقال المناوي لأنهما ضرتان فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى). (¬6). ¬

(¬1) [981]- ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 298). (¬2) [982]- ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (22/ 165). (¬3) [983]- رواه الترمذي (2458) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال: غريب. وحسن إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 105)، وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2458). (¬4) [984]- ((جامع العلوم والحكم)) (ص464). (¬5) [985]- رواه الترمذي (2458) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال: غريب. وحسن إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 105)، وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2458). (¬6) [986]- ((تحفة الأحوذي)) (7/ 130 - 131).

أقوال السلف والعلماء في الحياء

أقوال السلف والعلماء في الحياء - وقال عمر رضي الله عنه: (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه) (¬1). - قال ابن القيم في حقيقة الحياء: (قال صاحب المنازل: الحياء: من أول مدارج أهل الخصوص يتولد من تعظيم منوط بود إنما جعل الحياء من أول مدارج أهل الخصوص: لما فيه من ملاحظة حضور من يستحيي منه وأول سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحق سبحانه حاضرا معهم وعليه بناء سلوكهم وقوله: إنه يتولد من تعظيم منوط بود يعني: أن الحياء حالة حاصلة من امتزاج التعظيم بالمودة فإذا اقترنا تولد بينهما الحياء والجنيد يقول: إن تولده من مشاهدة النعم ورؤية التقصير ومنهم من يقول: تولده من شعور القلب بما يستحيي منه فيتولد من هذا الشعور والنفرة حالة تسمى الحياء ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن للحياء عدة أسباب) (¬2). - وقال أيضاً: (حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم. - قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق. - ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيي منه وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق. - وقال السري: إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا وفي أثر إلهي يقول الله عز وجل: ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة (¬3). - وفي أثر آخر: أوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: عظ نفسك فإن اتعظت وإلا فاستحي مني: أن تعظ الناس (¬4). - وقال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقاوة: القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل (¬5)، وفي أثر إلهي ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده ويعصيني ولا يستحيي مني) (¬6). - وقال أبو عبيدة الناجي: سمعت الحسن يقول: (الحياء والتكرم خصلتان من خصال الخير، لم يكونا في عبد إلا رفعه الله عز وجل بهما) (¬7) - (وقال ابن عطاء: العلم الأكبر: الهيبة والحياء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحياء لم يبق فيه خير. - وقال ذو النون المصري: الحياء وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربك تعالى. - وقال أبو عثمان: من تكلم في الحياء ولا يستحي من الله عز وجل فيما يتكلم به، فهو مستدرج. - وقال الجريري: تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين، حتى رق الدين .. ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة. - وقيل: من علامات المستحي: أن لا يرى بموضع يستحيا منه.) (¬8) - وقال ابن أبي الدنيا: قيل لبعض الحكماء: ما أنفع الحياء؟ قال: أن تستحي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره (¬9). - وقال ربيط بني إسرائيل: (زين المرأة الحياء، وزين الحكيم الصمت) (¬10) ¬

(¬1) [987]- رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2/ 370)، والبيهقي في ((الشعب)) (7/ 59) من حديث الأحنف بن قيس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 305): فيه دويد بن مجاشع ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. (¬2) [988]- ((مدارج السالكين)) (2/ 253). (¬3) [989]- رواه القشيري في ((رسالته)) (2/ 368)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (34/ 150) عن أبي سليمان الداراني رحمه الله. (¬4) [990]- ((وصية الشيخ السلمي)) (42). (¬5) [991]- رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (10/ 182)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (48/ 416). (¬6) [992]- ((الرسالة القشيرية)) (2/ 370). (¬7) [993]- ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (1/ 43). (¬8) [994]- ((الرسالة القشيرية)) (2/ 368 - 369) بتصرف. (¬9) [995]- ((التوبة)) لابن أبي الدنيا (ص91). (¬10) [996]- ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص263).

أقسام الحياء

أقسام الحياء (ينقسم الحياء باعتبار محله إلى قسمين: 1 - القسم الأول: حياء فطري: وهو الذي يولد مع الإنسان متزوداً به، ومن أمثلته: حياء الطفل عندما تنكشف عورته أمام الناس، وهذا النوع من الحياء منحة أعطاها الله لعباده. 2 - والقسم الثاني: حياء مكتسب: وهو الذي يكتسبه المسلم من دينه، فيمنعه من فعل ما يذم شرعاً، مخافة أن يراه الله حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. وينقسم باعتبار متعلقه إلى قسمين: 1 - القسم الأول: الحياء الشرعي: وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام، وهو محمود. 2 - القسم الثاني: الحياء غير الشرعي: وهو ما يقع سبباً لترك أمر شرعي، وهذا النوع من الحياء مذموم، وهو ليس بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة) (¬1). ¬

(¬1) [997]- ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد المرسي (ص146).

فوائد الحياء

فوائد الحياء للحياء فوائد عديدة وسمات حميدة، فيزيد عزة المرء بنفسه، ويعظم قدره عند غيره، ويكسب رضا ربه. فمن فوائده: - الحياء من خصال الإيمان. - هجر المعصية خجلا من الله سبحانه وتعالى. - الإقبال على الطاعة بوازع الحب لله عز وجل. - يبعد عن فضائح الدنيا والآخرة. - أصل كل شعب الإيمان. - يكسو المرء الوقار فلا يفعل ما يخل بالمروءة والتوقير ولا يؤذي من يستحق الإكرام. - لا يمنع من مواجهة أهل الباطل ومرتكبي الجرائم. - هو دليل على كرم السجية وطيب المنبت. - صفة من صفات الأنبياء والصحابة والتابعين (¬1). - من استحى من الله ستره الله في الدنيا والآخرة. - يعد صاحبه من المحبوبين عند الله وعند الناس. - يمنع الشخص عن الفواحش، ويجعله يستتر بها إذا هو سقط في شيء من أوحالها. - يدفع المرء إلى التحلي بكل جميل محبوب، والتخلي عن كل قبيح مكروه (¬2). ¬

(¬1) [998]- ((نضرة النعيم)) (5/ 1814). (¬2) [999]- ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 491).

درجات الحياء

درجات الحياء قسم شيخ الإسلام الهروي الحياء إلى ثلاث درجات: (الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه فيجذبه إلى تحمل هذه المجاهدة ويحمله على استقباح الجناية ويسكته عن الشكوى. الدرجة الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب؛ فيدعوه إلى ركوب المحبة ويربطه بروح الأنس ويكره إليه ملابسة الخلق. الدرجة الثالثة: حياء يتولد من شهود الحضرة وهي التي لا تشوبها هيبة ولا تقارنها تفرقة ولا يوقف لها على غاية) (¬1). ¬

(¬1) [1000]- ((مدارج السالكين)) (2/ 246 - 267).

صور الحياء

صور الحياء صور الحياء المحمود: الحياء المحمود من الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة التي حثنا عليها الشرع والتي تدل على ترك القبيح، ولهذه الصفة صور نذكر منها: - الحياء من الله: وذلك بالخوف منه ومراقبته، وفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه، وأن يستحي المؤمن أن يراه الله حيث نهاه، وهذا الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي والآثام لأنه مرتبط بالله يراقبه في حله وترحاله. - الحياء من الملائكة: وذلك عندما يستشعر المؤمن بأن الملائكة معه يرافقونه في كل أوقاته، ولا يفارقونه إلا عند الغائط وعند أن يأتي الرجل أهله، فهذا يدل على قوة إيمان المؤمن، وهو بهذا يستحي أن يقترف ما حرم الله. - الحياء من الناس: وهو دليل على مروءة الإنسان؛ فالمؤمن يستحي أن يؤذي الآخرين سواء بلسانه أو بيده، فلا يقول القبيح ولا يتلفظ بالسوء، ولا يطعن أو يغتاب أو ينم على الآخرين، وكذلك يستحي من أن تنكشف عوراته فيطلع عليها الناس. - الحياء من النفس: وذلك عندما يكون الإنسان لوحده بعيداً عن أنظار الناس، فيستحي عن اقتراف الذنوب والآثام حياء من نفسه التي بين جنبيه، وهذا الحياء هو يثبت حقيقة الحياء من الله. - الحياء من الوالدين. - والحياء من الضيف والمبادرة بإكرامه. صور الحياء المذموم: من صور الحياء المذموم الذي يرفضه الإسلام: - الحياء في طلب العلم: إذا تعلق الحياء بأمر ديني، يمنع الحياء من السؤال فيه أو عرضه في تعليم أو دعوة، فإن مما ينبغي العمل به هو رفع الحرج، ومدافعة هذا الحياء الذي يمنع من التحصيل العلمي أو الدعوة إلى الله سواء عند الرجال أو النساء (¬1). وورد أن أم سليم رضي الله عنها ((جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأت الماء. فغطت أم سلمة تعني وجهها وقالت يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ قال نعم تربت يمينك فيم يشبهها ولدها)) (¬2). وعن مجاهد، قال: (إن هذا العلم لا يتعلمه مستح ولا متكبر) (¬3). في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب ((أن أباموسى قال لعائشة - رضي الله عنها: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ. فَقَالَتْ لاَ تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلاً عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ((إذا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ)) (¬4). ¬

(¬1) [1001]- ((المرأة المسلمة المعاصرة .. إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة)) لأحمد بن محمد أبا بطين (ص388 - 389) (¬2) [1002]- رواه البخاري (130)، ومسلم (313) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬3) [1003]- ((حلية الأولياء)) (3/ 287). (¬4) [1004]- رواه مسلم (349) من حديث عائشة رضي الله عنه.

وروي عَنِ الأَسْوَدِ وَمَسْرُوقٍ قَالَ ((أَتَيْنَا عَائِشَةَ لِنَسْأَلَهَا عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَاسْتَحَينَا فَقُمْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهَا فَمَشَيْنَا لاَ أَدْرِي كَمْ ثُمَّ قُلْنَا جِئْنَا لِنَسْأَلَهَا عَنْ حَاجَةٍ ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهَا فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا جِئْنَا لِنَسْأَلَكِ عَنْ شَيءٍ فَاسْتَحَيْنَا فَقُمْنَا. فَقَالَتْ مَا هُوَ سَلاَ عَمَّا بَدَا لَكُمَا. قُلْنَا أَكَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَ لإِرْبِهِ مِنْكُمْ)) (¬1). - الحياء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الحياء لا يمنع المسلم من أن يقول الحق أو يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، قال تعالى: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، [الأحزاب:53] بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سمة من سمات هذه الأمة قال عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. والنبي صلى الله عليه وسلم مع شدة حيائه لم ينثني عن قول الحق، ويتبين ذلك في موقفه مع أسامة بن زيد حينما أراد أن يشفع في حد من الحدود، فلم يمنعه حياؤه صلى الله عليه وسلم من أن يقول لأسامة في غضب أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ((إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ فَإذا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ مِنَ النَّاسِ)) (¬3). - فعل أمر نهى عنه الشارع: فمن دفعه حياؤه إلى فعل أمر نهى عنه الشارع، أو إلى ترك واجب مرغوب في الدين فليس حييا شرعاً، وإنما هذا يعتبر ضعفاً ومهانة. فليس من الحياء أن يترك الصلاة الواجبة بسبب ضيوف عنده حتى فاتته الصلاة. وليس من الحياء أن يمتنع الشخص من المطالبة بالحقوق التي كفلها له الشرع (¬4). صور الحياء كما ذكرها ابن القيم ذكر ابن القيم صوراً للحياء وقسمها إلى عشرة أوجه وهي: (حياء جناية وحياء تقصير وحياء إجلال وحياء كرم وحياء حشمة وحياء استصغار للنفس واحتقار لها وحياء محبة وحياء عبودية وحياء شرف وعزة وحياء المستحيي من نفسه. فأما حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السلام لما فر هاربا في الجنة قال الله تعالى: أفرارا مني يا آدم قال: لا يا رب بل حياء منك. وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك. ¬

(¬1) [1005]- رواه أحمد (6/ 216) (25857) من حديث عائشة رضي الله عنه. والحديث مروي في الصحيحين بدون ذكر القصة. (¬2) [1006]- رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬3) [1007]- رواه ابن ماجه (4017)، والحميدي في ((مسنده)) (756) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 155): إسناده لا بأس به. وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3260)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (403). (¬4) [1008]- ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد (ص 155).

وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه. وحياء الكرم: كحياء النبي من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطولوا الجلوس عنده فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا. وحياء الحشمة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسأل رسول الله عن المذي لمكان ابنته منه. وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه عز وجل حين يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها. وفي أثر إسرائيلي أن موسى عليه السلام قال: يا رب إنه لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك هي يا رب فقال الله تعالى: سلني حتى ملح عجينتك وعلف شاتك. وقد يكون لهذا النوع سببان: أحدهما: استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه. والثاني: استعظام مسؤوله. وأما حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به في وجهه ولا يدرى ما سببه وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعة شديدة ومنه قولهم: جمال رائع وسبب هذا الحياء والروعة مما لا يعرفه أكثر الناس. ولا ريب أن للمحبة سلطانا قاهرا للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق. وقهر المحبوب لهم وذلهم له فإذا فاجأ المحبوب محبه ورآه بغتة: أحس القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعة وخوف ... وأما الحياء الذي يعتريه منه وإن كان قادرا عليه كأمته وزوجته فسببه والله أعلم أن هذا السلطان لما زال خوفه عن القلب بقيت هيبته واحتشامه فتولد منها الحياء وأما حصول ذلك له في غيبة المحبوب: فظاهر لاستيلائه على قلبه فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنه معه. وأما حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة. وأما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان فإنه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزة وهذا له سببان: أحدهما: هذا. والثاني: استحياؤه من الآخذ حتى كأنه هو الآخذ السائل حتى إن بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياء منه وهذا يدخل في حياء التلوم لأنه يستحيي من خجلة الآخذ. وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى وهذا أكمل ما يكون من الحياء فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر) (¬1). ¬

(¬1) [1009]- ((مدارج السالكين)) لابن القيم. بتصرف. (2/ 250 - 252).

من مظاهر قلة الحياء

من مظاهر قلة الحياء - المجاهرة بالذنوب والمعاصي وعدم الخوف من الله. - لبس النساء الكاسيات العاريات الملابس التي تصف الأجسام أو الضيقة أو المفتوحة من الأعلى والأسفل. - حديث المرأة مع الرجل الأجنبي عند خروجها واختلاطها به مثل البائع وغيره. - التلفظ والتفوه بالألفاظ البذيئة والسيئة التي تجرح الآخرين. - كلام الرجل مع غيره بالأسرار الزوجية والأمور الخاصة التي تحصل بينه وبين زوجته. - عدم ستر العورات، فقد ((رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإذا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ)) (¬1). ¬

(¬1) [1010]- رواه أبو داود (4012)، والنسائي (406) من حديث يعلى رضي الله عنه. وصححه النووي في ((الخلاصة)) (1/ 204)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1729)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (1/ 317): رجال إسناده رجال الصحيح.

موانع اكتساب الحياء

موانع اكتساب الحياء - الغناء: روى البيهقي وابن أبي الدنيا عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: (يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة) (¬1) - ارتكاب المعاصي: بين ابن القيم أن الذنوب والمعاصي تذهب الحياء فقال: (ومن عقوباتها ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير وذهاب كل خير بأجمعه وفي الصحيح عنه أنه قال: ((الحياء خير كله)) (¬2). وقال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬3). وفيه تفسيران أحدهما أنه على التهديد والوعيد والمعنى من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح إذ الحامل على تركها الحياء فإذا لم يكن هناك حياء نزعه من القبائح فإنه يواقعها وهذا تفسير أبي عبيدة والثاني أن الفعل إذا لم تستح فيه من الله فافعله وإنما الذي ينبغي تركه ما يستحي فيه من الله وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية ابن هاني فعلى الأول يكون تهديدا كقوله اعملوا ما شئتم وعلى الثاني يكون إذنا وإباحة فإن قيل فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين قلت لا ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية حتى ربما أنه لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعله والحامل على ذلك انسلاخه من الحياء وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع وإذا رأى إبليس طلعة وجهه) (¬4). ¬

(¬1) [1011]- ((روح المعاني)) (11/ 68) (¬2) [1012]- رواه مسلم (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬3) [1013]- رواه البخاري (3484) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. (¬4) [1014]- (الجواب الكافي) لابن القيم (ص69 - 70).

الوسائل المعينة على اكتساب الحياء

الوسائل المعينة على اكتساب الحياء الحياء موجود في فطرة الإنسان، وعلينا أن نجعله رفيقاً لنا في كل أقوالنا وأفعالنا، وهناك بعض الوسائل التي تنمي هذه الصفة وتقويها في نفوسنا، ومن هذه الوسائل: - اتباع أوامر الله سبحانه والخوف منه ومراقبته في كل حين واستشعار معيته. - اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في حياته القولية والفعلية. - غض البصر عما حرم الله سبحانه وتعالى، وعدم تتبع عورات الآخرين. - الصبر عن المعصية: لأن الصبر على البعد عن المعصية تعين على ملازمة الحياء. - تربية الأولاد على الحياء. - مجالسة من يتصف بصفة الحياء.

نماذج للحياء

نماذج من حياء الأنبياء والمرسلين: - حياء أبينا آدم وأمنا حواء: إن الحياء خاصية من الخصائص التي حبا الله بها الإنسان ليبتعد عن مزاولة الذنوب والمعاصي والشهوات، وحينما أكل آدم وحواء من شجر الجنة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما سوءاتهما، فأسرعا يأخذان من أوراق الجنة ليسترا عوراتهما، فتحدث القرآن الكريم عن ذلك بقوله: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ... . [الأعراف:22] وهذا يدل على أن الإنسان مفطور على الحياء، وأما قلة الحياء فهي منافية للفطرة، بل من اتباع الشيطان. - حياء نبي الله موسى عليه السلام: جاء في وصف موسى عليه السلام أنه كان حيّيّا ستِّيراً، حتى كان يستر بدنه، ويستحي أن يظهر مما تحت الثياب شيئاً حتى مما ليس بعورة. وبسبب تستره الزائد آذاه بعض بني إسرائيل في أقوالهم، فقالوا: ما يبالغ في ستر نفسه إلا من عيب في جسمه، أو من أدرة (¬1) هو مصاب بها (¬2). فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا فذلك قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا. [الأحزاب:69])) (¬3). ¬

(¬1) [1015]- الأدرة: هي انتفاخ في الخصي بسبب فتق. (¬2) [1016]- ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 495). (¬3) [1017]- رواه البخاري (3404) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

نماذج من حياء الأمم السابقة:

نماذج من حياء الأمم السابقة: - حياء ابنة شعيب: قال تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25]. وهذه الآية تتحدث عن حياء ابنة شعيب حين جاءت إلى موسى عليه السلام تدعوه إلى أبيها ليجزيه على صنيعه، فجاءت إليه تمشي على استحياء، فمن شدة حيائها، قد فاض حياؤها حتى ملأ الأرض حياء (¬1). وقال عمر رضي الله عنه: (فأقبلت إليه ليست بسلفع من النساء لا خراجة ولا ولاجة، واضعة، ثوبها على وجهها) (¬2). - حياء العرب في الجاهلية: كان أهل الجاهلية يتحرجون من بعض القبائح بدافع الحياء، فها هو هرقل يسأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه) (¬3)، فمنعه الحياء الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يوصف بالكذب، ويشاع عنه ذلك (¬4). قال عنترة: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها ... ¬

(¬1) [1018]- ((الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع)) لجمال نصار (ص242). (¬2) [1019]- رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 334) (31842). (¬3) [1020]- رواه البخاري (7) من حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه. (¬4) [1021]- ((الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع)) لجمال نصار (244).

نماذج من حياء النبي صلى الله عليه وسلم:

نماذج من حياء النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياءً، بل كان أشد حياء من العذراء في خدرها؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)) (¬1).وكان إذا كره شيئًا عرفه الصحابة في وجهه. قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. - حياؤه من الله: ومن مظاهر حيائه صلى الله عليه وسلم حياؤه من خالقه سبحانه وتعالى؛ وذلك لما طلب موسى عليه السلام من نبينا صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء أن يراجع ربه في قضية تخفيف فرض الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام: ((استحييت من ربي)) (¬2). فحياء النبي صلى الله عليه وسلم منعه من مراجعة ربه بعد أن سأله مرات أن يخفف عن أمته عدد الصلوات. - حياؤه من الناس: من ذلك ما روي عن عائشة، ((أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قالت: فستر وجهه بطرف ثوبه وقال: سبحان الله تطهري بها. قالت عائشة: فاجتذبت المرأة فقلت: تتبعي بها أثر الدم)). (¬3) - حياؤه عند زواجه من زينب رضي الله عنها: ومن صور حيائه صلى الله عليه وسلم، ما جاء في الصحيحين، عن أنس بن مالك قال: ((بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب ابنة جحش بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقلت: يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه قال: ارفعوا طعامكم وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته قالت: وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه وأنزل آية الحجاب)) (¬4). - حياؤه في تعامله مع من بلغه عنه شيئاً: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- ((إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا)) (¬5). - حياء النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي أهله: روى الخطيب في تاريخه عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى امرأة من نسائه غمض عينيه وقنع رأسه زاد الخلال وقال للتي تكون تحته عليك بالسكينة والوقار)) (¬6). وكان في بيته أشد حياء من العاتق لا يسألهم طعاماً ولا يتشهاه عليهم إن أطعموه أكل وما أعطوه قبل وما سقوه شرب وكان ربما قام فأخذ ما يأكل بنفسه أو يشرب (¬7). بل كان إذا أراد أن يغتسل اغتسل بعيدًا عن أعين الناس، ولم يكن لأحد أن يراه، وإن ذلك على شيء فإنما يدل على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتٍ، وَمَا رَأَى عَوْرَتَهُ أَحَدٌ قَطُّ)) (¬8). ومن حيائه صلى الله عليه وسلم ما ورد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَيِيًّا لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَى)) (¬9). ¬

(¬1) [1022]- رواه البخاري (3562) ومسلم (2320) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) [1023]- رواه البخاري (349) ومسلم (163) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬3) [1024]- رواه البخاري (314) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) [1025]- رواه البخاري (4793) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) [1026]- رواه أبو داود (4788)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (15/ 114)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10/ 427) من حديث عائشة رضي الله عنه. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6614)، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1612): صحيح على شرط الشيخين. (¬6) [1027]- رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (6/ 379) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬7) [1028]- ((إحياء علوم الدين)) (2/ 197). (¬8) [1029]- رواه الطبراني في ((الكبير)) (11/ 85) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬9) [1030]- رواه الدارمي (1/ 211) (72)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 33) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

نماذج من حياء الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من حياء الصحابة رضي الله عنهم: - حياء أبي بكر الصديق رضي الله عنه: خطب الصديق الناس يوماً فقال: (يا معشر المسلمين، استحيوا من الله، فو الذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعا بثوبي استحياء من ربي عز وجل) (¬1). - حياء عثمان بن عفان رضي الله عنه: عرف عثمان رضي الله عنه بشدة الحياء، حتى أن الملائكة كانت تستحي منه، فعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوى ثيابه - قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد - فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) (¬2). وذكر الحسن البصري عن عثمان رضي الله عنه وحياؤه: فقال: (إن كان ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه) (¬3). - حياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ ((كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَكُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ)) (¬4). - حياء عائشة رضي الله عنها: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَ اللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَي ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) (¬5). - حياء فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ((جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ تُبَايِعُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَزْنِينَ. الآيَةَ قَالَتْ فَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا حَيَاءً فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا رَأَى مِنْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَقِرِّى أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ فَوَاللَّهِ مَا بَايَعْنَا إِلاَّ عَلَى هَذَا. قَالَتْ فَنَعَمْ إذا. فَبَايَعَهَا بِالآيَةِ)) (¬6). - حياء أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال (إخ إخ). ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه قالت حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك خادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني) (¬7). ¬

(¬1) [1031]- ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص40). (¬2) [1032]- رواه مسلم (2401). (¬3) [1033]- ((صفة الصفوة)) (1/ 144) (¬4) [1034]- رواه البخاري (132)، ومسلم (303) واللفظ له، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬5) [1035]- رواه أحمد (6/ 202) (25701) والحاكم (3/ 63) (4402) من حديث عروة بن الزبير رحمه الله. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 29): رجاله رجال الصحيح. ومثله قال الألباني في ((تخريج المشكاة)) (1712). (¬6) [1036]- رواه أحمد (6/ 151) (25216)، وابن حبان (10/ 418)، وابن منده في ((الإيمان)) (2/ 581) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 40): رجال رجاله صحيح. وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1636): صحيح، وبيعة النساء مذكورة في الصحيحين. (¬7) [1037]- رواه البخاري (5224)، ومسلم (2182) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

نماذج من حياء السلف:

نماذج من حياء السلف: الأمثلة من حياء السلف كثيرة، ونذكر منها على سبيل المثال بعض النماذج: - عن الشعبي، قال: سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تقول: دعتني النفس بعد خروج عمرو ... إلى اللذات تطلع اطلاعا فقلت لها عجلت فلن تطاعي ... ولو طالت إقامته رباعا أحاذر أن أطيعك سب نفسي ... ومخزاة تحللني قناعا فقال لها عمر: (ما الذي منعك من ذلك؟ قالت: الحياء وإكرام روحي فقال عمر: إن في الحياء لهنات ذات ألوان من استحيى اختفى ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي) (¬1). - وقال محمد بن الفضل: (ما خطوت أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل، وما نظرت أربعين سنة في شيء أستحسنه حياء من الله عز وجل، وما أمليت على ملكي ثلاثين سنة شيئاً، ولو فعلت ذلك لاستحييت منهما) (¬2). - وقال الجراح الحكمي: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع (¬3). - وروي أن عمرو بن عتبة بن فرقد كان يصلي ذات ليلة فسمعوا صوت الأسد فهرب من كان حوله، وهو قائم يصلي فلم ينصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ فقال: إني لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه (¬4). - وقال جعفر الصانع: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل ممن يمارس المعاصي والقاذورات فجاء يوماً إلى مجلس أحمد يسلم عليه فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه فقال له: يا أبا عبد الله! لم تنقبض مني؟ فإني قد انتقلت عما كنت تعهدني برؤيا رأيتها قال: وأي شيء رأيت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وناس كثير أسفل جلوس قال: فيقوم رجل رجل منهم إليه فيقول: ادع لي! فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري قال: فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه قال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني أدعو لك؟ قال: قلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه فقال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدع لك فإنك لا تسب أحداً من أصحابي قال: فقمت فدعا لي فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه قال: فقال لنا أبو عبد الله: يا جعفر! يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع (¬5). - وكان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن بعض الناس أنه أعمى، وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء، فكان يضحك ابن مسعود من قولها، وكان إذا دق الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقاً غاضاً بصره. (¬6) - ولما احتُضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزعُ؟ ومَنْ أحق مني بذلك؟ والله لو أُتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه ممَّا قد صنعت، وإن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذَّنْبَ الصغير، فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه (¬7). الحياء في واحة الشعر .. قال الشاعر: إذا لم تخشَ عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاءُ يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ... ويبقى العود ما بقي اللحاءُ وما في أن يعيش المرء خيرٌ ... إذا ما الوجه فارقه الحياءُ وقال أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان بالحياء: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياءُ وعلمك بالأمور وأنت قِرْمٌ ... لك الحسب المؤثَّلُ والثناءُ وقالت ليلى الأخيلية تصف توبة بن الحُمَيِّر: فإن تكن القتلى بواءً فإنكم ... فتىً ما قتلتم آل عوف بن عامرِ ¬

(¬1) [1038]- ((محاسبة النفس)) لابن أبي الدنيا (ص113). (¬2) [1039]- ((صفة الصفوة)) (2/ 342). (¬3) [1040]- ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 190). (¬4) [1041]- ((حلية الأولياء)) (2/ 40). (¬5) [1042]- ((التوابين)) لابن قدامة (ص152). (¬6) [1043]- ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 181) (¬7) [1044]- ((حلية الأولياء)) (2/ 103).

فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخفَّان خادرِ وقال الفضل بن عباس بن عُتبة: إنا أناسٌ من سجيَّتنا ... صدق الحديث ورأيُنا حتْمُ لبسوا الحياء فإن نظرتَ حسبتهم ... سقموا ولم يمسسهم سُقمُ وقال آخر: حياءك فاحفظه عليك فإنما ... يدل على فضل الكريم حياؤهُ إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤهُ ... ولا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ وقال آخر: ورُبَّ قبيحةٍ ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياءُ إذا رُزق الفتى وجهاً وقاحاً ... تقلبَ في الأمور كما يشاءُ وقال محمد بن حازم: وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وشتم ذوي القُربى خلائقُ أربعُ حياءٌ وإسلامٌ وتقوى وأنني ... كريمٌ، ومثلي قد يضرُّ وينفعُ وقال آخر: كريمٌ يغضُّ الطرفَ فضلَ حيائهِ ... ويدنو وأطراف الرماح دواني وكالسيفِ إن لاينتهُ لانَ متنُهُ ... وحدّاهُ إن خاشنتهُ خَشِنانِ وقال آخر: أعاذلتي قد جربت حسبي ... وتم العقل وانكشف الغِطاءُ فما في أن يعيش المرء خيرٌ ... إذا ما المرءُ زايله الحياءُ يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ... ويبقى العود ما بقي اللحاءُ وقال العرجي: إذا حُرم المرء الحياء فإنه ... بكل قبيحٍ كان منه جديرُ له قِحةٌ في كل شيءٍ، وسرُّهُ ... مباحٌ، وخدناه خناً وغرورُ يرى الشتمَ مدحاً والدناءةَ رفعةً ... وللسمع منه في العظات نفورُ ووجه الحياءِ ملبسٌ جلد رقةٍ ... بغيضٌ إليه ما يشين كثيرُ له رغبةٌ في أمره وتجردٌ ... حليمٌ لدى جهل الجهولِ وقورُ فرجِّ الفتى مادام بحيا فإنه ... إلى خير حالاتِ المنيب يصيرُ (¬1) وقال آخر: ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا نهاني الحياء والكرم فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لريبة قدم وقال آخر: إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب فيالأمور كما يشاء ولم يك للدواء ولا لشيء ... يعالجه به فيه غناء فما لك فيمعاتبه الذي لا ... حياء لوجهه إلا العناء وقال آخر: إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه ... ويجهل منكالحق فالصرم أوسع ... ¬

(¬1) [1045]- ((لباب الآداب)) للأمير أسامة بن منقذ (ص287).

وأخيرا:

وأخيراً: أخي يا رعاك الله، بعد هذه الرحلة القصيرة في جنبات الحياء، والتعرف على فضائله وفوائده، فلننظر لأنفسنا ونقف معها وقفة صادقة، ونسألها: هل نحن ممن يستحي من الله في الخلوات؟ ويراقبه في الظلمات؟ هل نحن ممن يتأدب بآداب الحياء؟ ويجعله رفيقاً له كظله؟ هل نحن ممن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ((كان أشد حياء من العذراء في خدرها))؟ (¬1). ¬

(¬1) [1046]- رواه البخاري (3562) ومسلم (2320) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الرحمة

معنى الرحمة لغة واصطلاحاً معنى الرحمة لغة: قال الجوهري: الرحمة: الرقة والتعطف (¬1). وقال ابن منظور: والرَّحْمَةُ في بني آدم عند العرب رِقَّةُ القلب وعطفه (¬2). ومنها الرَّحِم: وهي عَلاقة القرابة، ثم سمِّيت رَحِمُ الأنثى رَحِماً من هذا، لأنّ منها ما يكون ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ له مِن ولد (¬3). وقد تطلق الرحمة ويراد بها ما تقع به الرحمة كإطلاق الرحمة على الرزق والغيث (¬4) معنى الرحمة اصطلاحاً: (الرَّحْمَةُ رقّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ، وقد تستعمل تارة في الرّقّة المجرّدة، وتارة في الإحسان المجرّد عن الرّقّة) (¬5) وقيل: (هي رقة في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه) (¬6) وقال عبد الرحمن الميداني: (الرحمة رقة في القلب يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص آخر أو يلامسها السرور حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند شخص آخر) (¬7) ¬

(¬1) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1929) و ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 498). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 230). (¬3) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 498). (¬4) ((لسان العرب)) (12/ 230). (¬5) ((مفردات القرآن)) للراغب (1/ 347). (¬6) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (26/ 21). (¬7) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/ 3).

مقتضى الرحمة

مقتضى الرحمة ومقتضى الرحمة هو إيصال الخير إلى الغير, حتى وإن كان هذا الخير مكروهاً إليه مبغضاً من قبله, وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل) (¬1). فأساسها قائم على ود وجزع, حب وخوف .. ود وحب للمرحوم يدفع الراحم إلى إرادة الخير له والسعي في إيصاله إليه, وجزع وخوف على المرحوم من أن يقع في مكروه أو يصيبه أذى. قال الجاحظ: (الرّحمة خلق مركّب من الودّ والجزع، والرّحمة لا تكون إلّا لمن تظهر منه لراحمه خلّة مكروهة، فالرّحمة هي محبّة للمرحوم مع جزع من الحال الّتي من أجلها رحم) (¬2). ¬

(¬1) ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (2/ 174). (¬2) ((تهذيب الأخلاق للجاحظ)) (ص 24).

الفرق بين الرحمة والرأفة

الفرق بين الرحمة والرأفة الرحمة والرأفة كلمتان مترادفتان في المعنى إلا أن بينهما فرق لطيف, فبينهما عموم وخصوص مطلق, فالرأفة خاصة في دفع المكروه عن المرحوم بينما الرحمة تشمل هذا المعنى وغيره. قال ابن عاشور: (والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرؤوف به. يقال: رؤوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق) (¬1). وقال القفال: (الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الانفصال والإنعام) (¬2) وقال أبو البقاء الكفوي: (الرحمة هي أن يوصل إليك المسار والرأفة هي أن يدفع عنك المضار ... فالرحمة من باب التزكية والرأفة من باب التخلية والرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة هي رفع المكروه وإزالة الضر فذكر الرحمة بعدها في القرآن مطرداً لتكون أعم وأشمل) (¬3) وقيل أن: (الرأفة أشد من الرحمة)، وقيل: (الرحمة أكثر من الرأفة، والرأفة أقوى منها في الكيفية، لأنها عبارة عن إيصال النعم صافية عن الألم) (¬4). ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) (10/ 239). (¬2) ((مفاتيح الغيب)) (4/ 93). (¬3) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (1/ 742). (¬4) ((الفروق اللغوية)) (1/ 246).

فضل الرحمة

فضل الرحمة الرحمة خلق سام, وسجية عظيمة لا بد أن يتخلق بها المؤمن ويتصف بها, فهي من مبادئ الإسلام الأساسية, وأخلاقه الكريمة. وتتجلى أهميتها في أن الله عز وجل تسمَّى واتصف بها, فمرة باسم الرحمن ومرة باسم الرحيم فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. قال تعالى: الرحمن الرحيم فجمعهما الله في مكان واحد لتستغرقان جميع معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها (¬1). وتكمن أهمية هذه الصفة أيضاً في كونها ركيزة من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم بجميع أفراده, يستشعرون من خلالها معنى الوحدة والألفة فيصيرون كالجسد الواحد الذي يشتكي إذا اشتكى أحد أعضائه ويئن إذا أنَّ. ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬2). وتتضح أهميتها أيضاً في أن أهلها مخصوصون برحمة الله تبارك وتعالى دون سواهم, معنيون بها دون غيرهم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (¬3). كما تتضح أهميتها في جوانب أخرى سنعرض لها عند ذكر الآيات والأحاديث الدالة على هذه الصفة العظيمة والسجية الكريمة. ¬

(¬1) ((صحيح مسلم)) (2586). (¬2) رواه البخاري (6011)،ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160) (6494) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3522).

الترغيب والحث على الرحمة في القرآن والسنة

الترغيب والحث على الرحمة في القرآن والسنة الترغيب والحث على الرحمة من القرآن الكريم: ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير آية من كتابه الكريم, إما في معرض تسميه واتصافه بها, أو في معرض الامتنان على العباد بما يسبغه عليهم من آثارها, أو تذكيرهم بسعتها, أو من باب المدح والثناء للمتصفين بها المتحلين بمعانيها, أو غير ذلك من السياقات. وسنذكر بعض هذه السياقات القرآنية والتي يتضح من خلالها مقدار هذا الخلق العظيم الذي أثنى الله على أصحابه, وحث على التخلق به واكتسابه. تسميه جل وعلا باسم الرحمن والرحيم واتصافه بصفة الرحمة: وهذا كثير جداً في القرآن نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر: - قال الله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2 - 3] فقد سمى الله نفسه بهذين الاسمين المشتملين على صفة الرحمة, قال ابن عباس: (هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة) (¬1). - ومن ذلك بيان أن من كمال رحمته قبول توبة التائبين, والتجاوز عن المسيئين, قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37]. وقوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102]. - ومن ذلك أيضاً بيان أن من رحمته عدم مؤاخذة الناس بذنوبهم, أو عقابهم بأخطائهم ومعاصيهم, وأنه لو فعل لعاجلهم بالعذاب, قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58]. - ومن ذلك امتنانه على الخلق بأن رحمته وسعت كل شيء, وأنها رغم سعتها لا يستحقها إلا الذين اتقوه واستجابوا لأمره, قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156]. - ومن ذلك امتنانه على خلقه بما شرع لهم من أحكام وأن ذلك من كمال رحمته ورأفته بهم. قال تعالى: وكذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143]. - ومن ذلك أن الله جعل هذه الصفة خلق لصفوة خلقه وخيرة عباده وهم الأنبياء والمرسلين, ومن سار على نهجهم من المصلحين, فقد قال الله تعالى ممتناً على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما ألقاه في قلبه من فيوض الرحمة جعلته يلين للمؤمنين ويرحمهم ويعفو عنهم, ويتجاوز عن أخطائهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]. أي فبسبب رحمة من الله أودعها الله في قلبك يا محمد، كنت هينا لين الجانب مع أصحابك، مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك (¬2). ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (1/ 51). (¬2) ((صفوة التفاسير)) للصابونى (1/ 154).

- ومن ذلك ثناء الله على المتصفين بالرحمة والمتخلقين بها, فقد قال تعالى واصفاً رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] فهم أشداء على الكفار رحماء بينهم, بحسب ما يقتضيه منهم إيمانهم, فالإيمان بالله واليوم الآخر متى تغلغل في القلب حقاً غرس فيه الرحمة بمقدار قوته وتغلغله ولكن جعل لها طريقاً لا تتعداه (¬1). وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 – 18]. قال محمد الطاهر عاشور: خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَاصِيَهِمْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصِيَهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ صِفَاتِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِلَاكُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ كَبْحِ الشَّهْوَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ. وَالْمَرْحَمَةُ مِلَاكُ صَلَاحِ الْجَماعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29].وَالتَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ مَنْ يُوصِي بِالْمَرْحَمَةِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ قَدْرَهَا وَفَضْلَهَا، فَهُوَ يَفْعَلُهَا قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا. (¬2) الترغيب والحث على الرحمة من السنة النبوية: أما السنة فقد استفاضت نصوصها الداعية إلى الرحمة, الحاثة عليها, المرغبة فيها إما نصاً أو مفهوماً, كيف لا .. وصاحبها صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة كما وصف نفسه فقال: ((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة)) (¬3) , وهو الرحمة المهداة إلى جميع العالمين حيث قال: ((إنما أنا رحمة مهداة)) (¬4). - فعن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى)) (¬5). يقول الإمام النووي – رحمه الله - معلقاً على هذا الحديث: (هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه) (¬6). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/ 17). (¬2) ((التحرير والتنوير)) (30/ 361). (¬3) رواه مسلم (2355) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬4) رواه الحاكم (1/ 91) (100)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 223) (2981)، والبزار (16/ 122) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال البزار: هذا الحديث لا نعلم أحدا وصله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا مالك بن سعير وغيره يرسله فلا يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه, إنما يقول عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 300): رجال البزار رجال الصحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2583). (¬5) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586). (¬6) ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 139).

وقال بن أبي جمرة: (الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف الثوب عليه ليقويه) (¬1) اهـ ملخصاً. - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة)) (¬2). قال ابن بطال: (رحمة الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التي يرضاها الله ويجازي عليها، ألا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: ((من لا يرحم لا يرحم)) (¬3). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السّماء)) (¬4). قال شمس الدين السفيري: (فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى الرحمة والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته) (¬5). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ)) (¬6). قال ابن العربي: (حقيقة الرحمة إرادة المنفعة وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الإيمان والإسلام). (¬7) ويقول المناوي: (لأن الرحمة في الخلق رقة القلب ورقته علامة الإيمان ومن لا رأفة له لا إيمان له ومن لا إيمان له شقي فمن لا رحمة عنده شقي) (¬8). - وعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يرحم الله من لا يرحم النّاس)) (¬9). يقول العلامة السعدي رحمه الله: (رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 439). (¬2) رواه البخاري (5998). (¬3) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160) (6494). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3522). (¬5) ((شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين السفيري (2/ 50 - 51). (¬6) رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (2/ 301) (7988). وحسنه الترمذي، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9870)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7467). (¬7) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (6/ 547). (¬8) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 962). (¬9) رواه البخاري (7376).

فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم) (¬1). أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخلق ظلوماً غشوماً, شقياً, فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده. - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ((قبّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحسن بن عليّ وعنده الأقرع بن حابس التّميميّ جالسا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: من لا يرحم لا يرحم)) (¬2). قال ابن بطال بعد أن ذكر عدداً من الأحاديث وذكر هذا الحديث من جملتها: (في هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفى كل حيوان) (¬3). وقد دل الواقع والمشاهدة أن من لا يرحم الناس ولا يعطف عليهم إذا صادف موقفاً يحتاج فيه إلى رحمتهم فإنهم لا يرحمونه ولا يعطفون عليه, وقد ذكر صاحب الأغاني أن محمد بن عبد الملك كان يقول: الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة, ما رحمت شيئاً قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول, فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني فقالوا له: وهل رحمت شيئاً قط فترحم. هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها. (¬4) واستفاضت الأحاديث الدالة على الرحمة بمفهومها وهي لا تكاد تحصى, وذلك لأنه ما من معاملة من المعاملات أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة. فمن علاقة الإنسان بنفسه التي بين جنبيه, وعلاقته بذويه وأهله, إلى علاقته بمجتمعه المحيط به, إلى معاملته لجميع خلق الله من إنسان أو حيوان كل ذلك مبني على هذا الخلق الرفيع والسجية العظيمة. ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار)) لعبدالرحمن السعدي (ص 269). (¬2) رواه البخاري (5997) ومسلم (2318). (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 219). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 219).

أقسام الرحمة

أقسام الرحمة أقسامها من حيث المدح والذم: إن في خلق الرحمة ما هو محمود – وهو الأصل – وما هو مذموم. أما المحمود فهو ما ذكرناه آنفاً واستدللنا عليه من كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بما يغني عن إعادة ذكره هنا. - وأما المذموم: فهو ما حصل بسببه تعطيل لشرع الله أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره, كمن يشفق على من ارتكب جرماً يستحق به حداً, فيحاول إقالته والعفو عنه, ويحسب أن ذلك من رحمة الخلق وهو ليس من الرحمة في شيء, بل الرحمة هي إقامة الحد على المذنب, والرأفة هي زجره عن غيِّه وردُّه عن بغيه بتطبيق حكم الله فيه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِيَةٌ نَافِعَةٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهَا مَرَضُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ النَّافِعَةَ لِرَأْفَةِ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ) (¬1). لذا نهى الله تعالى المؤمنين أن تأخذهم رأفة أو رحمة في تطبيق حدود الله وإقامة شرعه فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ مُضَيِّعَةً لِدِينِ اللَّهِ) (¬2). ومن الرحمة المذمومة ما كانت سببا في فساد المرحوم وهلاكه, كما يفعل كثير من الآباء من ترك تربية الأبناء وتأديبهم وعقوبتهم رحمة بهم, وعطفاً عليهم, فيتسببون في فسادهم وهلاكهم وهم لا يشعرون قال شيخ الإسلام: (مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ وَبِمَنْ يُرَبُّونَهُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الشَّرِّ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ رَأْفَةً بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ) (¬3). ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم) (¬4). أقسامهما من حيث الغريزة والاكتساب: يقول العلامة السعدي رحمه الله: (والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان: النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم. والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجل مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب; فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخوانا متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء، والعداوات، والتدابر) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 291). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 290). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 291). (¬4) ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (2/ 174). (¬5) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (270).

فوائد الرحمة وآثارها

فوائد الرحمة وآثارها للتحلي بخلق الرحمة فوائد عظيمة وثمار جليلة, فما إن يتحلى المؤمن بهذه الحلية ويتجمل بهذه السجية حتى تظهر آثارها وتؤتي أكلها .. ليس عليه فقط بل عليه وعلى من حوله, وسنعرض لبعض هذه الآثار والفوائد إجمالاً, فمن ذلك: 1. أنها سبب للتعرض لرحمة الله, فأهلها مخصوصون برحمته جزاء لرحمتهم بخلقه. 2. ومن أعظم ثمارها أن المتحلي بها يتحلى بخلق تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3. أن من ثمارها محبة الله للعبد, ومن ثم محبة الناس له. 4. أنها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك يحس بعضه ببعض, ويعطف بعضه على بعض, ويرحم بعضه بعضاً. 5. أنها تشعر المرء بصدق انتمائه للصف المسلم, إذ أن من لا يرحم لا يستحق أن يكون فرداً في المجتمع أو جزء منه لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) (¬1). 6. على قدر حظ الإنسان من الرحمة تكون درجته عند الله تبارك وتعالى, لذا كان الأنبياء هم أشد الناس رحمة, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أوفرهم حظاً منها. 7. أنها سبب لمغفرة الله تبارك وتعالى وكريم عفوه, كما أن نقيضها سبب في سخطه وعذابه. 8. أن في الاتصاف بها دليل على أن الإسلام دين رحمة للبشرية لا كما يقول أعداؤه أنه دين يقوم على العنف وسفك الدماء. 9. ومن أعظم فوائدها أنها خلق متعدٍ إلى جميع خلق الله من إنسان أو حيوان, بعيد أو قريب, مسلم أو غير مسلم. 10. أنها سبب للالتفات إلى ضعفة المجتمع من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والكبار والعجزة, فمجتمع يخلو من هذا الخلق لا يلتفت فيه إلى هؤلاء ولا يهتم بشأنهم. وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي يجنيها المجتمع المسلم من هذا الخلق الكريم. ¬

(¬1) رواه الترمذي (1920)، وأحمد (2/ 185) (6733) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7692)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5444).

صور الرحمة

صور الرحمة ولعلنا بعد هذا نستعرض بعضاً من مظاهر الرحمة وجانباً من تطبيقاتها على الواقع ومن ذلك: 1 - شفقة الإمام برعيته, وتجنب ما من شأنه أن يجلب المشقة لهم: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((أعتم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، حتّى ذهب عامّة اللّيل، وحتّى نام أهل المسجد ثمّ خرج فصلّى، فقال: إنّه لوقتها لولا أن أشقّ على أمّتي)) (¬1). عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا صلّى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإنّ في النّاس الضّعيف والسّقيم وذا الحاجة)) (¬2). 2 - الأمر بالتوسط في العبادات وعدم الإشقاق على النفس وإجهادها: عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه. قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه)) (¬3). 3 - البر بالوالدين .. وخفض جناح الذل من الرحمة لهما: عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: ((سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: الصّلاة على وقتها. قال: ثمّ أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قال: ثمّ أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) (¬4). عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليمن. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((هجرت الشّرك ولكنّه الجهاد. هل باليمن أبواك؟. قال: نعم. قال: أذنا لك قال: لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى أبويك فإن فعلا، وإلّا فبرّهما)) (¬5). 3 - الحث على الاستيصاء بالمرأة خيراً والإحسان إليها: ((استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوانٌ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) (¬6). 4 - الشفقة على الأبناء والعطف عليهم والحزن إذا أصابهم مكروه: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة)) (¬7). وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال أرسلت ابنة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليه: إنّ ابنا لي قبض، فأتنا. فأرسل يقرأ السّلام ويقول: ((إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلّ عنده بأجل مسمّى. فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها. فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّبيّ ونفسه تتقعقع, قال حسبته أنّه قال: كأنّها شنّ ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟. فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء)) (¬8). 5 - الرحمة بمن هم تحت اليد من العبيد والخدم والعمال وغيرهم: ¬

(¬1) رواه مسلم (638). (¬2) رواه البخاري (703)، ومسلم (467). (¬3) رواه البخاري (43)، مسلم (785). (¬4) رواه البخاري (527)، ومسلم (85). (¬5) رواه أبو داود (2530)، أحمد (3/ 75) (11739)، وابن حبان (2/ 165) (422). وصحح إسناده الحاكم، وحسن إسناده الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 138)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (892). (¬6) رواه مسلم (1218) بلفظ مقارب، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (5998) من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (1284)، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(عن المعرور بن سويد- رحمه الله تعالى- قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه فقال لي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((يا أبا ذرّ أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم)) (¬1). 6 - الأمر بإحسان القتلة والذبحة: عن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- أنّه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) (¬2). 7 - النهي عن تعذيب الحيوان أو إخافته أو إجهاده أو إجاعته: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) (¬3). وعلى نقيض هذه الصورة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة أخرى لامرأة غفر الله لها ذنبها بسبب كلب: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((بينما كلب يطيف بركيّة كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به)) (¬4). قال السعدي رحمه الله معلقاً على هذين الحديثين: (ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها، عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة، إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها) (¬5) ا. هـ. وغير ذلك من الأحاديث التي تدل بمفهومها على الرحمة والحث عليها والتخلق بها. ¬

(¬1) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3318)، ومسلم (2242) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (3467). (¬5) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (1/ 190).

الأسباب المعينة على التخلق بخلق الرحمة

الأسباب المعينة على التخلق بخلق الرحمة يقول العلامة السعدي رحمه الله: (فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل، ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل. وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم) (¬1). وهاك أخي الكريم بعض الأسباب المعينة على التخلق بهذا الخلق الكريم والسجية العظيمة: من أهم الأسباب المعينة على التخلق بهذا الخلق الكريم القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتدبر في معالمها, والتأسي به في مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم. مجالسة الرحماء ومخالطتهم, والابتعاد عن ذوي الغلظة والفضاضة, فالمرء يكتسب من جلسائه طباعهم وأخلاقهم. تربية الأبناء على هذا الخلق العظيم ومحاولة غرسه في قلوبهم, ومتى نشأ الناشئ على الرحمة ثبتت في قلبه وأصبحت سجية له. معرفة جزاء الرحماء وثوابهم , وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم, ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية, فإن هذا مما يدفع للرحمة ويردع عن القسوة. معرفة الآثار المترتبة عن التحلي بهذا الخلق, والثمار التي يجنيها الرحماء في الدنيا قبل الآخرة. الاختلاط بالضعفاء والمساكين وذوي الحاجة فإنه مما يرقق القلب ويدعو إلى الرحمة والشفقة بهؤلاء وغيرهم. 7 - التعرض لرحمة الله والسعي وراء أسبابها, فالله تبارك وتعالى لا يرحم إلا الرحماء. ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (ص189).

نماذج في الرحمة

نماذج من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى واصفاً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس وأرأفهم بهم, وعندما نقول (الناس) فإننا لا نعني المؤمنين فقط, ولكننا نعني المؤمنين ومن لم يكن يدين بدين الإسلام أصلاً, بل إن رحمته صلى الله عليه وسلم تعدت ذلك إلى الحيوان والجماد وسنعرض هنا بعض النماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم: رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفار: - (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟. قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثمّ قال: يا محمّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا)) (¬1). يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: (في هذا الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] , وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107]). (¬2) رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان: عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: ((أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل قال فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)) (¬3).? - عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: ((كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمّرة فجعلت تفرّش جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد حرّقناها، فقال: من حرّق هذه؟. قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلّا ربّ النّار)) (¬4). رحمته بالجماد: - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3231). (¬2) ((فتح الباري)) ابن حجر (6/ 316). (¬3) رواه أبو داود (2549)، وأحمد (1/ 204) (1745). وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2269). (¬4) رواه أبو داود (2675). وصحح إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (455)، وجوَّد إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 357). (¬5) رواه البخاري (3584).

نماذج من رحمة الصحابة:

نماذج من رحمة الصحابة: وقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه واقتدوا به في التمسك بهذا الخلق الكريم, حتى صار الرجل المعروف بشدته وصرامته هيناً ليناً رحيماً رؤوفاً: - فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عرف بشدته وقوته تغير الرحمة من طباعه فيصبح رقيقاً يمتلأ قلبه رحمة ويفيض فؤاده شفقة، ومما يدل على ذلك قوله لعبد الرحمن بن عوف حينما أتاه يكلمه في أن يلين لهم لأنه أخاف الناس حتى خاف الأبكار في خدورهن، فقال: (إني لا أجد لهم إلاَّ ذلك، والله لو أنهم يعلمون ما لهم عندي من الرأفة والرحمة والشفقة لأخذوا ثوبي عن عاتقي) (¬1). - و (رآه عيينة بن حصن يوماً يقبل أحد أبنائه وقد وضعه في حجره وهو يحنو عليه، فقال عيينة: أتقبل وأنت أمير المؤمنين؟ لو كنت أمير المؤمنين ما قبلت لي ولداً. فقال عمر: الله، الله حتى استحلفه ثلاثاً، فقال عمر: فما أصنع إن كان الله نزع الرحمة من قلبك؟ إن الله إنما يرحم من عباده الرحماء) (¬2). - (واشتهى الحوت يوماً، فقال: لقد خطر على قلبي شهوة الطري من حيتان، فخرج يرفأ في طلب الحوت لعمر رضي الله عنه، ورحل راحلته، فسار ليلتين مدبراً، وليلتين مقبلاً، واشترى مكتلاً، وجاء بالحوت، ثم غسل يرفأ الدابة، فنظر إليها عمر فرأى عرقاً تحت أذنها، فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر، لا والله لا يذوقه عمر، عليك بمكتلك) (¬3). (ومرّ رضي الله عنه براهب فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني رحمته، ذكرت قول الله عزّ وجلّ: عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية: 3 - 4] رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النار) (¬4). - وتُحدثنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن امرأة من الصحابة تجلت فيها أروع صور الرحمة وأعظمها وهي الرحمة بالولد والشفقة عليه .. تقول عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها. فأطعمتها ثلاث تمرات. فأعطت كل واحدة منهما تمرة. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها. فاستطعمتها ابنتاها. فشقت التمرة، التي كانت تريد أن تأكلها، بينهما. فأعجبني شأنها. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة. أو أعتقها بها من النار)) (¬5). - وهذا أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه من رحمته أنه كان له جفنة من ثريد غدوة , وجفنة عشية للأرامل واليتامى والمساكين (¬6). ¬

(¬1) ((المجالسة وجواهر العلم)) (4/ 43) (1199). (¬2) ((جامع معمر بن راشد)) (11/ 299) (20590). (¬3) رواه أحمد (1/ 319) (443)، وابن عساكر (44/ 301). (¬4) رواه عبد الرزاق (3/ 420) (3584). (¬5) رواه مسلم (2630) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 299)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (62/ 99).

نماذج من رحمة السلف:

نماذج من رحمة السلف: رحمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى حيان بمصر إنه بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل وكتب إلى صاحب السكك أن لا يحملوا أحدا بلجام ثقيل من هذه الرستنية ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة) (¬1). ¬

(¬1) ((سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه)) لأبي محمد المصري (ص141).

نماذج من رحمة العلماء المتقدمين:

نماذج من رحمة العلماء المتقدمين: رحمة شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الحافظ عمر بن علي البزار: (وحدثني من أثق به أن الشيخ رضي الله عنه كان ماراً يوماً في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه فنزع ثوباً على جلده ودفعه إليه وقال بعه بما تيسر وأنفقه واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شيء من النفقة) (¬1). ¬

(¬1) ((الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية)) لسراج الدين (65).

نماذج من رحمة العلماء المعاصرين:

نماذج من رحمة العلماء المعاصرين: رحمة الشيخ ابن باز رحمه الله: يقول الشيخ محمد بن موسى الموسى: (في يوم من الأيام طلب مني أحد السائقين لدى سماحة الشيخ أن يتصل عبر الهاتف بأهله خارج البلاد أي يريد الاتصال من الهاتف الذي في منزل سماحة الشيخ فقلت له: لا بد من الاستئذان من سماحته فأتيت إلى سماحة الشيخ وقلت له: فلان طلب مني الإذن له بالاتصال بأهله. فقال سماحته: لعلك منعته فقلت: لا بد من إذن سماحتكم, فقال: اتركه يتصل, لا تمنعوهم ارحموهم, أما لكم أولاد أعوذ بالله, الرسول - صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم لا يرحم))) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قالوا عن الرحمة:

قالوا عن الرحمة: يقول العلامة السعدي رحمه الله عن علامة وجود الرحمة في قلب العبد: (وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محبا لوصول الخير لكافة الخلق عموما، وللمؤمنين خصوصا، كارها حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته) (¬1). فمتى ما وجدت هذه العلامة في قلب العبد دلت على أن قلبه عامر بالرحمة, مفعم بالرأفة. وقال الرافعي: (إن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفولتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل) (¬2). وقال مصطفى لطفي المنفلوطي: (إن الرحمة كلمة صغيرة .. ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها, والشمس في حقيقتها. لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا مغبون ولا مهضوم ولأقفرت الجفون من المدامع ولاطمأنت الجنوب في المضاجع. ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام. أيها الإنسان ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غير صبية صغار ودموع غزار ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها فتؤثر الموت على الحياة. ارحم الزوجة أم ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك لأنها ضعيفة ولأن الله قد وكل أمرها إليك وما كان لك أن تكذب ثقته بك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم ولا تتخذ عقله متجراً تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم ويبكي بغير دموع ويتوجع. ارحم الطير لا تحبسها في أقفاصها ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير إن الله وهبها فضاء لا نهاية لها فلا تغتصبها حقها فتضعها في محبس لا يسع مد جناحها أطلق سبيلها وأطلق سمعك وبصرك وراءها لتسمع تغريدها فوق الأشجار وفي الغابات وعلى شواطئ الأنهار وترى منظرها وهي طائرة في جو السماء فيخيل إليك أنها أجمل من منظر الفلك الدائر والكوكب السيار. أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء, وامسحوا دموع الأشقياء وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (¬3). ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (ص189). (¬2) ((وحي القلم)) للرافعي (3/ 11). (¬3) ((مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة)) (ص: 88).

الرحمة في واحة الشعر ..

الرحمة في واحة الشعر .. قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنما ... ولا تكن من قليل العرف محتشما واشكر لمولاك ما أولاك من نعمٍ ... فالشكر يستوجب الإفضال والكرما وارحم بقلبك خلقَ الله وارعَهُم ... فإنَّما يرحم اللهُ منْ رَحِما وقال الحافظ زين الدين العراقي: إنْ كنتَ لا ترحم المسكين إن عَدِما ... ولا الفقير إذا يشكو لك العَدما فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وإنَّما يرحم الرحمنُ من رَحِما وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر: إنّ منْ يرحمُ أهلَ الأرضِ قد عَدِما ... جاءنا يرحمه من في السَّما فارحمِ الخلقَ جميعاً إنّما ... يرحمُ الرحمنُ منّا الرُّحما وقال الحافظ رضوان: الحبُّ فيكَ مسلسلٌ بالأوّل ... فاحْنِنْ ولا تسمع كلامَ العُذَّلِ ارحمْ عبادَ الله يا من قد علا ... من يرحمِ السُّفلاء يرحمْه العلي وقال صاحبنا الشهاب المنصوري: يا ملوكَ الجمال نحن أُسارى ... في هواكم وقد عدمنا الفداءَ فارحمونا فإنَّما يرحم اللـ ... ـه تعالى من خلقه الرحماءَ وقال أيضاً: أخْلِقْ بمن يظلم أن يُظلما ... وبالذي يرحم أن يُرحما من لم يكن يرحم بالقلب منْ ... في الأرض لم يرحمه من في السَّما وقال أيضاً: إن تُرِدْ أن تكونَ من رحمة اللـ ... ـه قريباً وفي النعيم مقيما فارحمِ الناسَ رأفةً واعف عنهم ... إنَّما يرحمُ الرحيم الرحيما وقال أبو الفتح محمد بن أحمد الكندي: سامحْ أخاك الدَّهر مهما بدَتْ ... منه ذنوبٌ وقعُها يعظُمُ وارحم لتلقى رحمة في غدٍ ... فربُّنا يرحمُ من يرحمُ (¬1) وقال ابن معصوم المدني: معصيتي أعظمُ من طاعَتي ... لكن رجائي منهما أعظمُ وأنت ذو الرحمَة يا سيِّدي ... إن لم تكن ترحمُ من يَرحمُ وقال السهمي: خالل خليل أخيك وأخو إخاءه ... واعلم بأن أخا أخيك أخوكا وبنيك ثم بني بنيك فكن بهم ... براً فإن بني بنيك بنوكا وارفق بجدك رحمة وتعطفاً ... ترحم فإن أبا أبيك أبوكا (¬2) وقال آخر يا راحم الضعفاء نظرة رحمة ... لمعذب مضني الفؤاد تشوقا يرجوك فضلا أن تمن ترحما ... بشفاعة تمحو ذنوبا سبقا (¬3) وقال ابن يعقوب: إن كنت ترجو من الرحمن رحمته ... فارحم ضعاف الورى يا صاح محترماً واقصد بذلك وجه الله خالقنا ... سبحانه من إله قد برى النسما واطلب جزا ذاك من مولاك رحمته ... فإنما يرحم الرحمن من رحما (¬4) وقال ابن الرومي: أرائمتي رجِّي من اللَّه رحمةً ... مُوكَّلةً بالأمهاتِ الروائمِ وإنّ الذي تَسترْحِمُ الأمُّ لابنِها ... بها وبه لاشكَّ أرْحَمُ راحم (¬5) وقال ابن الشوائطي: بادر إلى الخير يا ذا اللب واللسن ... واشكر لربك ما أولى من المنن وارحم بقلبك خلق الله كلهم ... ينلك رحمته في الموقف الخشن (¬6) ... ¬

(¬1) ((الازدهار في ما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار)) (ص: 98). (¬2) ((البصائر والذخائر)) (3/ 49). (¬3) ((ذيل نفحة الريحانة)) (ص6). (¬4) ((الضوء اللامع)) (8/ 137). (¬5) ((ديوان ابن الرومي)) (3/ 268). (¬6) ((الضوء اللامع)) (5/ 174).

الرفق

معنى الرفق لغة واصطلاحاً معنى الرفق لغةً: قال ابن منظور: (الرِّفْق ضد العنْف رَفَق بالأَمر وله وعليه يَرْفُق رِفْقاً ورَفُقَ يَرْفُقُ ورَفِقَ لطف ورفَقَ بالرجل وأَرْفَقه بمعنى وكذلك تَرفَّق به) (¬1). معنى الرفق اصطلاحاً: قال ابن حجر في تعريف الرفق: (هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف) (¬2). وقال القاري: (هو المداراة مع الرفقاء ولين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها) (¬3). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (10/ 118) (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 449). (¬3) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3170).

الترغيب والحث على الرفق في القرآن والسنة

الترغيب والحث على الرفق في القرآن والسنة الترغيب والحث على الرفق من القرآن الكريم: (أوصى الإسلام بالرفق وحث عليه، واعتبر المحروم منه محروم من خير كثير، وذلك لأن الرفق في الأمور من شأنه أن يصلح ويعطي أفضل النتائج وأجود الثمرات، بخلاف العنف فمن شأنه أن يفسد ويعطي نتائج سيئة) (¬1). قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]. (يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم) (¬2). وقال سبحانه مخاطباً الرسول: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] (أي: أرفق بهم وألن جانبك لهم) (¬3). وقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43 - 44]. فقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا (أي: سهلا لطيفا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال، لَّعَلَّهُ بسبب القول اللين يَتَذَكَّرُ ما ينفعه فيأتيه، أَوْ يَخْشَى ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه) (¬4). الترغيب والحث على الرفق من السنة النبوية: - عن عائشة- رضي الله عنها- ((أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش. قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟. قال: أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في)) (¬5). - وعن جرير- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يحرم الرفق يحرم الخير (¬6). قال ابن عثيمين: (يعني أن الإنسان إذا حرم الرفق في الأمور فيما يتصرف فيه لنفسه، وفيما يتصرف فيه مع غيره، فإنه يحرم الخير كله أي فيما تصرف فيه، فإذا تصرف الإنسان بالعنف والشدة فإنه يحرم الخير فيما فعل وهذا شيء مجرب ومشاهد أن الإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشدة؛ فإنه يحرم الخير ولا ينال الخير، وإذا كان يتعامل بالرفق والحلم والأناة وسعة الصدر؛ حصل على خيرٍ كثير، وعلى هذا فينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يكون دائماً رفيقاً حتى ينال الخير) (¬7). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)) (¬8). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 337). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 148). (¬3) ((معالم التنزيل)) للبغوي (6/ 207). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (506). (¬5) رواه البخاري (6030). (¬6) رواه مسلم (2592). (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 592). (¬8) رواه مسلم (1828).

قال ابن عثيمين: (قد يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون وليس الأمر كذلك بل الرفق أن تسير بالناس حسب أوامر الله ورسوله ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق بالناس ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله فإن شققت عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله فإنك تدخل في الطرف الثاني من الحديث وهو الدعاء عليك بأن يشق الله عليك) (¬1). - وعنها أيضاً رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (¬2). - وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير)) (¬3) (إذ به تنال المطالب الأخروية والدنيوية وبفوته يفوتان) (¬4). وهذه النصوص التي مرت معنا تدل (على أن الرفق في الأمور والرفق بالناس واللين والتيسير من جواهر عقود الأخلاق الإسلامية، وأنها من صفات الكمال، وأن الله تعالى من صفاته أنه رفيق، وأنه يحب من عباده الرفق، فهو يوصيهم به ويرغبهم فيه، ويعدهم عليه عطاءً لا يعطيه على شيءٍ آخر. ويفهم من النصوص أن العنف شَيْن خلقي، وأنه ظاهرة قبيحة، وأن الله لا يحبه من عباده) (¬5). ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 634). (¬2) رواه مسلم (2594). (¬3) رواه الترمذي (2013) واللفظ له، وأحمد (6/ 451) (27593)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (464). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6055). (¬4) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 75). (¬5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبدالرحمن الميداني (2/ 339).

أقوال السلف والعلماء في الرفق

أقوال السلف والعلماء في الرفق - (بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقا فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرقه واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه) (¬1). - و (روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية أما بعد: فإن الفهم في الخير زيادة رشد وإن الرشيد من رشد عن العجلة وإن الجانب من خاب عن الأناة وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيبا وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئا وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي) (¬2). - وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله ما الرفق قال: (تكون ذا أناة فتلاين الولاة قال فما الخرق قال معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك) (¬3). - وعن عروة بن الزبير قال: (كان يقال: الرفق رأس الحكمة) (¬4). - وعن الشعبي قال: (غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته فسمى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئاً، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب، قال: ما أردت لي يا بُنية؟ قالت: الرفق، قال. يا بنية، إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، وفي رواية: (إنما طلبت الرفق لتعبي) - وقال سفيان لأصحابه: (تدرون ما الرفق قالوا قل يا أبا محمد قال أن تضع الأمور من مواضعها الشدة في موضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه) (¬5). - قال وهب بن منبه: (الرفق ثني الحلم) (¬6). - وعن قيس بن أبي حازم قال كان يقال: (الرفق يمن، والخرق شؤم) (¬7). - وعن حبيب بن حجر القيسيّ قال: (كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق) (¬8). - وقال ابن القيم: (من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه) (¬9). - قال ابن حجر: (لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب) (¬10). - وقال أَبُو حاتم: (الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها وترك العجله والخفة فيها إذ اللَّه تعالى يحب الرفق في الأمور كلها ومن منع الرفق منع الخير كما أن من أعطي الرفق أعطي الخير ولا يكاد المرء يتمكن من بغيته في سلوك قصده في شيء من الأشياء على حسب الذي يحب إلا بمقارنة الرفق ومفارقة العجلة) (¬11). - وقال أيضاً: (العاقل يلزم الرفق في الأوقات والاعتدال في الحالات لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب كما أن النقصان فيما يجب من المطلب عجز وما لم يصلحه الرفق لم يصلحه العنف ولا دليل أمهر من رفق كما لا ظهير أوثق من العقل ومن الرفق يكون الاحتراز وفي الاحتراز ترجى السلامة وفي ترك الرفق يكون الخرق وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة) (¬12). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تاريخه)) (4/ 224). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 186). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 186). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (5/ 209) (25308)، ووكيع في ((الزهد)) (ص776)، وأحمد في ((الزهد)) (ص44)، وهناد في ((الزهد)) (2/ 653). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 186). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 186). (¬7) ((الزهد)) لهناد بن السري (2/ 654). (¬8) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 396). (¬9) ((الوابل الصيب)) (ص35). (¬10) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 94). (¬11) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 215). (¬12) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 216).

فوائد الرفق

فوائد الرفق 1 - طريق موصل إلى الجنة. 2 - دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام. 3 - يثمر محبة الله ومحبة الناس. 4 - ينمي روح المحبة والتعاون بين الناس. 5 - دليل على صلاح العبد وحسن خلقه. 6 - بالرفق ينشأ المجتمع سالما من الغل والعنف. 7 - عنوان سعادة العبد في الدارين. 8 - الرفق يزين الأشياء. 9 - رفق الوالي بالرعية مدعاة لأن يرفق الله بالرعية 10 - الرفق بالحيوان في إطعامه أو ذبحه من مظاهر الإحسان. 11 - الرفيق دليل على فقهه وأناته وحكمته (¬1). 12 - الرفق ينتج منه حسن الخلق. 13 - بالرفق ينال الخير. ¬

(¬1) من 1 - 11 من كتاب ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (6/ 2168) بتصرف يسير.

صور الرفق

صور الرفق 1 - الرفق بالنفس في أداء ما فرض عليه: المسلم لا يحمل نفسه من العبادة مالا تطيقه فالإسلام دين يسر وسهولة فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها: أن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فقلت هذه الحولاء بنت تويت وزعموا أنها لا تنام بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنام بالليل خذوا من العمل ما تطيقون فو الله لا يسأم الله حتى تسأموا (¬2). قال ابن القيم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن تشديد العبد، على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم) (¬3). 2 - الرفق مع الناس عامة: ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع الناس بالسماحة، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ)) (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) (¬5). 3 - الرفق بالرعية: الراعي سواء كان حاكما، أو رئيسا، أو مسؤولا عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم، ويؤدي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) (¬6). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الرعاء الحطمة)) (¬7). (وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلاً لكل راع عنيف قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من الناس، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت، فشر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تلين سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفاً وتحطيماً، ويدفعهم دائماً إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرفق والحكمة في الإدارة والسياسة) (¬8). قال ابن عثيمين: (أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرفق بالرعية والإحسان إليهم واتباع مصالحهم وتولية من هو أهل للولاية ودفع الشر عنهم وغير ذلك من مصالحهم لأنهم مسئولون عنهم أمام الله عز وجل) (¬9). 4 - الرفق بالمدعوين: ¬

(¬1) رواه البخاري (39). (¬2) رواه مسلم (785). (¬3) ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) لابن القيم (1/ 132). (¬4) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 130)،والبيهقي في ((الشعب)) (10/ 447) (7777) من حديث مكحول مرسلا. ورواه القضاعي في ((مسنده)) (1/ 114)، والبيهقي في ((الشعب)) (10/ 448) (7778) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال البيهقي: المرسل أصح. وضعف السيوطي المتصل والمرسل في ((الجامع الصغير)) (9163)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6669). (¬5) رواه البخاري (6927)، ومسلم (2593). (¬6) رواه مسلم (1828). (¬7) رواه مسلم (1830). (¬8) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 341) بتصرف يسير. (¬9) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 627).

الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على الناس ولا يشق عليهم، ولا ينفرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف، (وأولى الناس بالتخلق بخلق الرفق الدعاة إلى الله والمعلمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة) (¬1). قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. فيدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلطف مع العاصي بكلام ليِّن وبرفق ولا يعين الشيطان عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا نقول في أحد شيئاً حتى نعلم علام يموت؟ فإن ختم له بخير علمنا أن قد أصاب خيراً، وإن ختم بشر خفنا عليه) (¬2). وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام مع أبيه قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]. قال الشنقيطي: (بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان أي معرض عنها لا يريدها لأنه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا وهدده جل وعلا وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما والأول أظهر ثم أمره بهجره مليا أي زمانا طويلا ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ... [مريم: 47]) (¬3). 5 - الرفق بالخادم والمملوك: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)) (¬4). قال الشنقيطي: (فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم; كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن) (¬5). 6 - الرفق بالحيوان: فمن الرفق بالحيوان أن تدفع عنه أنواع الأذى كالعطش والجوع والمرض والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - ((بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر)) (¬6). - وعن سعيد بن جبير قال: ((مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر من فعل هذا لعن الله من فعل هذا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا)) (¬7). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 340). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (9/ 110) (8574)، وابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 313) (896)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 205)، والبغوي في ((شرح السنة)) (13/ 137). قال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 250): رجاله ثقات، إلا أن عبيدة لم يسمع من أبيه. (¬3) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/ 427). (¬4) رواه مسلم (1662). (¬5) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/ 30). (¬6) رواه البخاري (2363). (¬7) رواه مسلم (1958).

نماذج في الرفق

نماذج في الرفق نماذج من رفق النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقاً هيناً ليناً سهلاً في تعامله وفي أقواله وأفعاله، وكان يحب الرفق، ويحث الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، فعن عبادة بن شرحبيل قال: أصابنا عام مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطا من حيطانها، فأخذت سنبلا ففركته فأكلته، وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط، فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال للرجل ما أطعمته إذ كان جائعا، أو ساغبا، ولا علمته إذ كان جاهلا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام، أو نصف وسق (¬1). - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا بقومه رغم أذيتهم له، فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا (¬2). - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا في تعليمه للجاهل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مه مه. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه)) (¬3). - وعن معاوية بن الحكم السلمي قال ((بينا أنا أصلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (3/ 273) (1654)، وابن الأثير في ((أسد الغابة)) (3/ 49). (¬2) رواه البخاري (3231) ومسلم (1795). (¬3) رواه مسلم (285). (¬4) صحيح مسلم (537).

- كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يبين للناس توضيح الأمور بالرفق، ومن ذلك الشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنى، فعن أبي أمامة قال ((إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه فقال أدنه فدنا منه قريبا قال فجلس قال أتحبه لأمك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال أفتحبه لابنتك قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال أفتحبه لعمتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لعماتهم قال أفتحبه لخالتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) (¬1). - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقاً بنسائه، فعن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على أزواجه وسَوَّاق يسُوقُ بهنّ يُقال له: أَنْجَشَة، وكان يَحْدُو للإبل ببعض الشعر حتى تسرع على حِدَائه، فقال له النبي: ويحك يا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَك القوارير)) (¬2). - كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفق بأبناء المسلمين، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما)) (¬3). نماذج من رفق الصحابة رضي الله عنهم: رفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - عن زيد بن وهب قال: خرج عمر رضي الله عنه ويداه في أذنيه وهو يقول يا لبيكاه يا لبيكاه قال الناس ماله قال جاءه بريد من بعض أمرائه أن نهرا حال بينهم وبين العبور ولم يجدوا سفنا فقال أميرهم اطلبوا لنا رجلا يعلم غور الماء فأتي بشيخ فقال إني أخاف البرد وذاك في البرد فأكرهه فأدخله فلم يلبثه البرد فجعل ينادي يا عمراه يا عمراه فغرق فكتب إليه فأقبل فمكث أياما معرضا عنه وكان إذا وجد على أحد منهم فعل به ذلك ثم قال ما فعل الرجل الذي قتلته قال يا أمير المؤمنين ما تعمدت قتله لم نجد شيئا يعبر فيه وأردنا أن نعلم غور الماء ففتحنا كذا وكذا وأصبنا كذا وكذا فقال عمر رضي الله عنه لرجل مسلم أحب إلي من كل شيء جئت به لولا أن تكون سنة لضربت عنقك اذهب فأعط أهله ديته واخرج فلا أراك (¬4). - وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال خرجت مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا والله ما ينضجون كراعا، ولا لهم زرع، ولا ضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض ثم قال مرحبا بنسب قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما وحمل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها بخطامه ثم قال اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير فقال رجل يا أمير المؤمنين أكثرت لها قال عمر ثكلتك أمك والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه (¬5). - وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذهب إلى العوالي كل يوم سبت فإذا وجد عبدا في عمل لا يطيقه وضع عنه (¬6). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 256) (22265)، والبيهقي في ((الشعب)) (7/ 295). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (370): سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح. (¬2) رواه مسلم (2323). (¬3) رواه البخاري (6003). (¬4) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 559) (17555). (¬5) رواه البخاري (4160). (¬6) رواه مالك (2/ 980) (41).

الرفق في واحة الشعر ..

الرفق في واحة الشعر .. قال المنتصر بن بلال: الرفق ممن سيلقى اليمن صاحبه ... والخرق منه يكون العنف والزلل والحزم أن يتأنى المرء فرصته ... والكف عنها إذا ما أمكنت فشل والبر لله خير الأمر عاقبة ... والله للبر عون ماله مثل خير البرية قولا خيرهم عملا ... لا يصلح القول حتى يصلح العمل (¬1) وقال القاضي التنوخي: الق العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات الرفق يمن وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات (¬2) وقال منصور بن محمد الكريزي: الرفق أيمن شيء أنت تتبعه ... والخرق أشأم شيء يقدم الرجلا وذو التثبت من حمد إلى ظفر ... من يركب الرفق لا يستحقب الزللا (¬3) وقال النابغة: الرفق يمن والأناة سلامة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا (¬4) وقال أحمد بن موسى الأزرق: وزن الكلام إذا نطقت، فإنما ... يبدي العقول أو العيوب المنطق لا ألفينك ثاوياً في غربة ... إن الغريب بكل سهم يرشق لو سار ألف مدجج في حاجة ... لم يقضها إلا الذي يترفق (¬5) وقال آخر: ينال بالرفق ما يغني الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل وقال محمد بن حبيب الواسطي: بني إذا ما ساقك الضر فاتئد ... فللرفق أولى بالأريب وأحرز فلا تحمين عند الأمور تعززاً ... فقد يورث الذل الطويل التعزز (¬6) وقال أبو عثمان التجيبي: خذ الأمور برفق واتئد أبدا ... إياك من عجل يدعو إلى وصب الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيبه ذو الرفق أو ينجو من العطب (¬7) وقال المنتصر بن بلال: وعليك في بعض الأمور صعوبة ... والرفق للمستصعبات مدان وبحسن عقل المرء يثبت حاله ... وعلى المغارس تثمر العيدان (¬8) وقال أبو الحسن الربعي: الرفق ألطف ما اتخذت رفيقا ... ويسوء ظنك أن تكون شفيقا فخذ المجاز من الزمان وأهله ... ودع التعمق فيه والتحقيقا وإذا سألت الله صحبة صاحب ... فاسأله في أن يصحب التوفيقا وانظر بعينك حازماً متعذراً ... في حيث شئت وعاجزا مرزوقا (¬9) ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 215). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 182). (¬3) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 216). (¬4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 202). (¬5) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 216). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 218). (¬7) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 194). (¬8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 218). (¬9) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 193).

سماحة النفس

معنى السماحة لغة واصطلاحاً معنى السماحة لغة: سَمُحَ، ككَرُمَ، سَماحاً وسَماحَةً وسُموحاً وسُموحَةً وسَمْحاً وسِماحاً (¬1). ومادة (سمح) تدل عَلَى سَلَاسَةٍ وَسُهُولَةٍ (¬2). والمسامَحة: المساهَلة. وتَسامحوا: تَساهَلوا (¬3). معنى السماحة اصطلاحاً: السماحة في الاصطلاح تطلق على معنيين: الأول: (السماحة: هي بذل ما لا يجب تفضلا) (¬4). الثاني: (في معنى التسامح مع الغير في المعاملات المختلفة ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها التي تتجلى في التيسير وعدم القهر، وسماحة المسلمين التي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى) (¬5). ¬

(¬1) ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص: 225). (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 99). (¬3) ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 99). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 160). (¬5) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (6/ 2287).

الترغيب على السماحة من القرآن والسنة

الترغيب على السماحة من القرآن والسنة الترغيب على السماحة من القرآن الكريم: - قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. قال السعدي: (هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم) (¬1). - وقال سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 237]. قال ابن عاشور: (ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه) (¬2). - ونفى الله عن رسوله الفظاظة وغلظ القلب فقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]. قال السعدي: (أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك. وَلَوْ كُنتَ فَظًّا أي: سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ أي: قاسيه، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ) (¬3). - وقال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]. ففي هذه الآية (وجه الله الدائنين إلى التيسير على المدينين المعسرين، فعلمهم الله بذلك سماحة النفس، وحسن التغاضي عن المعسرين) (¬4). الترغيب على السماحة من السنة النبوية: - وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)) (¬5). قال ابن بطال: (فيه الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه لأن النبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة) (¬6). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 313). (¬2) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (2/ 465). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 154). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 467). (¬5) رواه البخاري (2076) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬6) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 210).

وقال المناويّ: (رحم الله عبدا) دعاء أو خبر وقرينة الاستقبال المستفاد من إذا تجعله دعاء (سَمْحا) بفتح فسكون جوادا أو متساهلا غير مضايق في الأمور وهذا صفة مشبهة تدل على الثبوت ولذا كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي حيث قال: (إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى) أي وفى ما عليه بسهولة (سمحا إذا اقتضى) أي طلب قضاء حقه وهذا مسوق للحث على المسامحة في المعاملة وترك المشاححة والتضييق في الطلب والتخلق بمكارم الأخلاق وقال القاضي: رتب الدعاء على ذلك ليدل على أن السهولة والتسامح سبب لاستحقاق الدعاء ويكون أهلا للرحمة والاقتضاء والتقاضي وهو طلب قضاء الحق) (¬1). - وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل)) (¬2). قال القاري: (أي: تحرم على كل سهل طلق حليم لين الجانب، قيل: هما يطلقان على الإنسان بالتثقيل والتخفيف، ... (قريب) أي: من الناس بمجالستهم في محافل الطاعة وملاطفتهم قدر الطاعة (سهل) أي: في قضاء حوائجهم، أو معناه أنه سمح القضاء سمح الاقتضاء سمح البيع سمح الشراء) (¬3). - وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب)) (¬4). قال الطيبي: (ولما كانت الأوصاف الأربعة ظاهرة في الإنسان والأرض أجريت على حقيقتها، وأولت الأربعة الأخيرة لأنها من الأخلاق الباطنة، فإن المعني بالسهل الرفق واللين، وبالحزن الخرق والعنف، وبالطيب الذي يعني به الأرض العذبة المؤمن الذي هو نفع كله، بالخبيث الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر كله، والذي سبق له الحديث هو الأمور الباطنة؛ لأنها داخلة في حديث القدر بالخير والشر، وأما الأمور الظاهرة من الألوان، وإن كانت مقدرة فلا اعتبار لها فيه) (¬5). (والنفس السمحة كالأرض الطيبة الهينة المستوية، فهي لكل ما يراد منها من خير صالحة، إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء فيها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت) (¬6). - وروي عن مكحول مرسلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإن أنيخَ على صخرةٍ، استناخ)) (¬7). (والمراد بالهين سهولته في أمر دنياه ومهمات نفسه ... واللين لين الجانب وسهولة الانقياد إلى الخير والمسامحة في المعاملة (كالجمل) أي كل واحد منهم) (¬8). - وعن حذيفة قال ((أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالا فقال له ماذا عملت فى الدنيا - قال ولا يكتمون الله حديثا - قال يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر. فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي)) (¬9). قال النووي: (والتجاوز والتجوز معناهما المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء وقبول ما فيه نقص يسير كما قال وأتجوز في السكة وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسر والوضع عنه إما كل الدين وإما بعضه من كثير أو قليل وفضل المسامحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء سواء استوفي من موسر أو معسر وفضل الوضع من الدين وأنه لا يحتقر شيء من أفعال الخير فلعله سبب السعادة والرحمة) (¬10). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما السماحة والصبر فخلقان في النفس. قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17] وهذا أعلى من ذاك وهو أن يكون صبارا شكورا فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره وهذا ضد الذي خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا؛ فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة ولا صبر عند المصيبة) (¬11). ¬

(¬1) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 441). (¬2) رواه الترمذي (2488)، وابن حبان (2/ 215) (469)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 231). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2697): إسناده جيد. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1744). (¬3) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3179). (¬4) رواه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (4/ 400) (19597). قال الترمذي حسن صحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1734)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1759). (¬5) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/ 176). (¬6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 446). (¬7) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 130) (387)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10/ 447) (7777)، والشهاب في ((مسنده)) (1/ 115). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9163)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6669). (¬8) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 258). (¬9) رواه البخاري (2077)، ومسلم (1560) واللفظ له. (¬10) ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 225). (¬11) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 264).

فوائد سماحة النفس

فوائد سماحة النفس - (يستطيع سمح النفس الهين اللين أن يغنم في حياته أكبر قسط من السعادة وهناءة العيش، لأنه بخلقه هذا يتكيف مع الأوضاع الطبيعية والاجتماعية بسرعة مهما كانت غير ملائمة لما يحب أو لما يهوى نفسه. - ويستطيع أن يستقبل المقادير بالرضى والتسليم مهما كانت مكروهة للنفوس. - ويستطيع سمح النفس الهين اللين أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له، وثقة الناس به، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب، والتغاضي عن السيئات والنقائص، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رفيقاً ليناً، سمحاً هيناً، يسر بالنصيحة، ولا يريد الفضيحة، يسد الثغرات، ولا ينشر الزلات والعثرات. - ويعامل الناس أيضاً بالسماحة في الأمور المادية، فإذا باع كان سمحاً وإذا اشترى كان سمحاً، وإذا أخذ كان سمحاً، وإذا أعطى كان سمحاً، وإذا قضى ما عليه كان سمحاً وإذا اقتضى ما له كان سمحاً. - ويجلب سمح النفس الهين اللين لنفسه الخير الدنيوي بتسامحه، وذلك لأن الناس يحبون المتسامح الهين اللين، فيميلون إلى التعامل معه، فيكثر عليه الخير بكثرة محبيه والواثقين به. - ويجلب سمح النفس الهين اللين لنفسه رضى الله تعالى والخير الأخروي العظيم، ما ابتغى بسماحته رضوان الله عز وجل) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 443).

صور السماحة

صور السماحة (الناس على اختلاف مستوياتهم في الذكاء واختلاف نماذجهم الخلقية يوجد فيهم من يتمتعون بخلق سماحة النفس، فهم هينون لينون سمحاء، ويوجد فيهم آخرون نكدون متشددون يتذمرون من كل شيء لا يوافق هواهم) (¬1). وقد قال صلى الله عليه وسلم كما مر معنا في الحديث: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)) (¬2) وصور سماحة النفس كثيرة فمنها: 1 - السماحة في التعامل مع الآخرين: ويكون بعدم التشديد والغلظة في التعامل مع الآخرين حتى ولو كان خادماً فعن أنس قال ((خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت)) (¬3). 2 - السماحة في البيع والشراء: وتكون السماحة في البيع والشراء، بأن لا يكون البائع مغالياً في الربح، ومكثرا في المساومة، بل عليه أن يكون كريم النفس. وبالمقابل على المشتري أيضاً أن يتساهل وأن لا يدقق في الفروق البسيطة، وأن يكون كريماً مع البائع وخاصة إذا كان فقيراً. 3 - السماحة في قضاء الحوائج: فإن الذي يقضي حوائج الناس فينفس كربتهم وييسر على معسرهم ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم، قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) (¬4). 4 - السماحة في الاقتضاء: قال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]. قال السعدي: (وَإِن كَانَ المدين ذُو عُسْرَةٍ لا يجد وفاء فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إما بإسقاطها أو بعضها) (¬5). فمن السماحة في الاقتضاء أن يراعي حال المدين، وأن لا يطالبه بشدة وأمام الناس، قال صلى الله عليه وسلم: ((من طلب حقا فليطلبه في عفاف، واف أو غير واف)) (¬6). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 441). (¬2) رواه البخاري (2076) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (6038)، ومسلم (2309)، واللفظ للبخاري. (¬4) رواه مسلم (2699). (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (116). (¬6) رواه ابن ماجه (2421)، وابن حبان (11/ 474) (5080)، والحاكم (2/ 38) (2238) من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6384).

وسائل اكتساب خلق سماحة النفس

وسائل اكتساب خلق سماحة النفس هناك وسائل لاكتساب خلق سماحة النفس فمنها: 1 - (التأمل في الترغيبات التي رغب الله بها الذين يتحلون بخلق السماحة، والفوائد التي يجنونها في العاجلة والآجلة، والسعادة التي يظفرون بها في الحياة الدنيا والآخرة. 2 - التأمل في المحاذير التي حذر الله منها النكدين المشتددين العسيرين، وما يجلبه لهم خلقهم وظواهره السلوكية من مضار عاجلة وآجله، ومتاعب وآلام كثيرة، وخسارة مادية ومعنوية. 3 - الاقتناع الإيماني بسلطان القضاء والقدر، وأنه هو المهيمن على كل الأحداث التي تخرج عن حدود الإرادة الإنسانية المسؤولة عن الأعمال الصادرة عنها) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 451) بتصرف.

نماذج في السماحة

نماذج من سماحة النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحاً في تعامله وهو المثل الأكمل في السماحة، يحكي لنا أنس رضي الله عنه ما لاقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة فيقول: ((خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت)) (¬1). وروى عنه أنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين، خدمته عشر سنين، فما لامني على شيء قط أتي فيه على يدي، فإن لامني لائم من أهله قال: دعوه فإنه لو قضي شيء كان) (¬2). - وعنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: ((يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟ قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله)) (¬3). - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم قضاء حوائج الناس فقد روى البخاري عن أنس قال: (إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) (¬4). - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم عفوه عمن أراد قتله، فعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه غزا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل نجد فلما قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: ((إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس)) (¬5). - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم تعامله مع الأعرابي الذي جذب رداءه بشدة ليأمر له بعطاء، فعن أنس قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (6038)، ومسلم (2309)، واللفظ للبخاري. (¬2) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص43). (¬3) رواه مسلم (2310) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6072). (¬5) رواه البخاري (2910). (¬6) رواه البخاري (5809)، ومسلم (1057).

نماذج من سماحة السلف مع غير المسلمين:

نماذج من سماحة السلف مع غير المسلمين: - في خلافة أبي بكر رضي الله عنه كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق- وكانوا من النصارى -: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله) (¬1). - كما أن أبا بكر رضي الله عنه كان يوصي الجيوش الإسلامية بقوله: (وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا يزعمون أنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم) (¬2). - ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) (¬3) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. - وأوصى عمر رضي الله عنه الخليفة من بعده بأهل الذمة أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم (¬4). - وأن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) (¬5). - وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: (وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه) (¬6). - وعندما أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله مناديه ينادي: (ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد قم فاردد عليه ضيعته فردها عليه) (¬7). ¬

(¬1) ((كتاب الخراج)) لأبي يوسف (ص157). (¬2) رواه الواقدي في ((فتوح الشام)) (1/ 8). (¬3) ((كتاب الخراج)) لأبي يوسف (ص139). (¬4) رواه البخاري (1392). (¬5) رواه أبو داود (5152)، الترمذي (1943)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (6/ 214). قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((الترغيب والترهيب)) (2574). (¬6) ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص 56). (¬7) ((أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز رحمه الله وسيرته)) للآجري (ص 58).

علامات سمح النفس

علامات سمح النفس هناك علامات للمتصف بخلق السماحة منها: 1 - (طلاقة الوجه واستقبال الناس بالبشر، ومشاركتهم بالسمع والفكر والقلب. وطلق الوجه حسن البشر بالناس محبب إليهم، مألوف في نفوسهم، قريب إلى قلوبهم. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الظاهرة بقوله وعمله، فمن ذلك ما يلي: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)) (¬1) ... وهكذا يكون سمح النفس طلق الوجه باسماً مشرق المحيَّا، بخلاف النكد الصعب، حتى يبدو كأنه قرف من كل شيء فإذا واجه الناس واجههم بسحنة منقبضة لا انبساط فيها ولا بشر، وإذا اجتمع معهم لم يشاركهم بمشاعره ولا بحواسه، وكان بينهم كأنه غريب عنهم، وكأنهم غرباء عنه، وفي وجهه ولسانه ونفسه، وهذا الوضع يجعله ممقوتا مكروهاً بعيدا عن قلوب الناس، لأنه وضع يلازمه في معظم أحواله بسبب نكد نفسه الملازم له ... 2 - مبادرة الناس بالتحية والسلام والمصافحة وحسن المحادثة: فمن كان سمح النفس بادر إلى هذه المحاسن، ووجودها في الإنسان طبيعية غير متكلفة، يدل على أنه سمح هين لين رقيق حاشية النفس، ألوف ودود لا فظ ولا غليظ ... 3 - حسن المصاحبة والمعاشرة والتغاضي وعدم التشدد في الأمور: فمن كان سمح النفس كان حسن المصاحبة لإخوانه، ولأهله، ولأولاده، ولخدمه، ولكل من يخالطه، ولكل من يرعاه. وكان حسن المعاشرة خفيف المحاسبة والمؤاخذة، متغاضياً عن المخالفات التي تتعلق به، لا يتشدد في الأمور، ولا يعظم الصغائر، بل يلتمس العذر لمن يقصر معه أو لا يعطيه من الاحترام أو الخدمة حقه (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (1970)، وأحمد (3/ 360) (14920). وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2684). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 447) بتصرف.

سماحة الإسلام

سماحة الإسلام كما دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بخلق السماحة، فإن السماحة من خلق الإسلام نفسه ... فمن السماحة عفو الله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى على عباده، وتيسير الشريعة عليهم، وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين، ونهيهم عن التشديد في الدين على عباد الله (¬1). - قال تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. - وقال مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. - وقال سبحانه: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (¬2). - ونهى النبي عن التنطع والتشدد في الدين، فعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((هلك المتنطعون)). قالها ثلاثا (¬3). - ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)) (¬4). - وأمر بالتخفيف على المسلمين ونهى عن التثقيل في أمور الدين فعن أبي مسعود، رضي الله عنه، قال: ((أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ قال: فقال يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة)) (¬5). - ومن سماحة الإسلام تيسيره لشؤون مناسك الحج فعن عبد الله بن عمرو بن العاص: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال اذبح، ولا حرج فجاء آخر فقال لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم، ولا حرج فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم، ولا أخر إلا قال افعل، ولا حرج)) (¬6). - سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين؛ فالإسلام لم تقتصر سماحته على المسلمين فحسب بل أبعد من ذلك ليشمل غير المسلمين من اليهود والنصارى والمشركين، حتى في حالة الحرب، فنهى الإسلام عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، فعن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام)) (¬7). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا)) (¬8). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 465) بتصرف. (¬2) رواه البخاري (39). (¬3) رواه مسلم (2670). (¬4) رواه مسلم (1828) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) رواه البخاري (6110). (¬6) رواه البخاري (83)، ومسلم (1306). (¬7) رواه مسلم (1731). (¬8) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (19/ 61) (112)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 214) من حديث ابن كعب بن مالك رحمه الله. قال الذهبي: مرسل مليح الإسناد.

السماحة في واحة الشعر ..

السماحة في واحة الشعر .. قال زهير: على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل (¬1). وقال أوس بن حجر: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع السماحة والنجدة ... والحزم والقوى جمعا (¬2). وقال محمد بن أشكاب العجمي: وإذا جدت للصديق بوعد ... فصل الوعد بالفعال الجميل ليس في وعد ذي السماحة مطل ... إنما المطل في عدات البخيل (¬3). وقال آخر: الحمد لله الذي ... جعل السماحة خير متجر (¬4). وقال الشافعي: وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً ... وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا ... وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب ... يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ ولا ترجُ السماحة من بخيلٍ ... فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ وقال آخر: قد تحابى الجواد نائبة الدَّهْر ... وفيهَا على الْبَخِيل وقاحة كم رَأينَا من نعْمَة قادها الْبُخْل ... وأخرى تذود عَنْهَا السماحة (¬5). ... ¬

(¬1) ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (2/ 460). (¬2) ((الفوائد والأخبار)) لأبي بكر بن دريد (ص 34). (¬3) ((البخلاء)) للخطيب البغدادي (ص 150). (¬4) ((البخلاء)) للخطيب البغدادي (ص 199). (¬5) ((يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)) لأبي منصور الثعالبي (2/ 353).

الشجاعة

معنى الشجاعة لغة واصطلاحاً معنى الشجاعة لغة: شجع من باب ظرف فهو شجاعٌ وقوم شِجْعَةٌ وشِجْعَانٌ نظير غلام وغلمة وغلمان ورجل شَجِيعٌ وقوم شُجْعانٌ مثل جريب وجربان، وشُجَعاءُ كفقيه وفقهاء، وهي: شدَّة القلب عند البأس (¬1). معنى الشجاعة اصطلاحاً: هي: (هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها كالقتال مع الكفار ما لم يزيدوا على ضعف المسلمين) (¬2). وقيل هي: (الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت) (¬3). وقال ابن حزم: (حد الشجاعة: بذل النفس للموت عن الدين والحريم وعن الجار المضطهد وعن المستجير المظلوم وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض وفي سائر سبل الحق سواء قل من يعارض أو كثر) (¬4). ¬

(¬1) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (8/ 173) و ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (3/ 1235) و ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 354). (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (ص125). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 27). (¬4) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص 80).

الفرق بين الشجاعة وبعض الصفات

الفرق بين الشجاعة وبعض الصفات الفرق بين البسالة والشجاعة: (أن أصل البسل الحرام: فكأن الباسل حرام أن يصاب في الحرب بمكروه لشدته فيها وقوته. والشجاعة الجرأة: والشجاع الجريء المقدام في الحرب ضعيفا كان أو قويا، والجرأة قوة القلب الداعي إلى الإقدام على المكاره فالشجاعة تنبئ عن الجرأة والبسالة تنبئ عن الشدة) (¬1). الفرق بين الشجاعة والجرأة: (أن الشجاعة من القلب: وهي ثباته واستقراره عند المخاوف وهو خلق يتولد من الصبر وحسن الظن فإنه متى ظن الظفر وساعده الصبر ثبت كما أن الجبن يتولد من سوء الظن وعدم الصبر فلا يظن الظفر ولا يساعده الصبر ... وأما الجرأة: فهي إقدام سببه قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة بل تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عن ملاحظة العارض فإما عليها وإما لها) (¬2). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 99). (¬2) ((الروح)) لابن القيم (ص 237) بتصرف.

الترغيب في الشجاعة من القرآن والسنة

الترغيب في الشجاعة من القرآن والسنة الترغيب في الشجاعة من القرآن الكريم: - أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالقتال في سبيل الله والثبات عليه والإقدام في الحروب، وعدم الجبن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 16] - وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65] قال السعدي: (يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم) (¬1). - وقال سبحانه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190] - وأمر الله المسلمين بالثبات في الجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] - وقال تعالى في حق المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] الترغيب في الشجاعة من السنة النبوية: - عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬2). قال النووي: (والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه، وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها، ومحافظة عليها، ونحو ذلك) (¬3). - وعن عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر فحدثت به مصعبا فصدقه)) (¬4). قال المهلب: (أما استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الجبن فإنه يؤدي إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفر من قرنه في الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ [الأنفال: 16] الآية، وربما يفتن في دينه، فيرتد لجبن أدركه) (¬5). - وعن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال ((بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)) (¬6). - الأحاديث التي ترغب وتحث على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله وهي كثيرة. ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 325). (¬2) رواه مسلم (2664). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (ص 4/ 2052). (¬4) رواه البخاري (2822). (¬5) ((شرح البخاري)) لابن بطال (ص 5/ 35). (¬6) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1709).

ما قيل في الشجاعة

ما قيل في الشجاعة - قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: (احرص على الموت توهب لك الحياة) (¬1). - وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الجبن والشجاعة غرائز في الناس تلقى الرجل يقاتل عمن لا يعرف وتلقى الرجل يفر عن أبيه) (¬2). - وخطب عبد الله بن الزبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: (إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه) (¬3). - وكتب زياد إلى ابن عباس: (أن صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل فكتب إليه: كتبت تسألني عن طبائع ركبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أن الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عرسه، وأن الجواد يعطي من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه.) (¬4). - وقالوا: (حد الشجاعة سعة الصدر بالإقدام على الأمور المتلفة. - وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال: جبلة نفس أبية، قيل له: فما النجدة؟ قال: ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت، حتى تحمد بفعلها دون خوف. - وقيل لبعضهم: ما الشجاعة؟ فقال: صبر ساعة. وقال بعض أهل التجارب: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل، فالفارس: الذي يشد إذا شدوا، والشجاع: الداعي إلى البراز والمجيب داعيه، والبطل: الحامي لظهور القوم إذا ولوا. قال يعقوب بن السكيت في كتاب الألفاظ: العرب تجعل الشجاعة في أربع طبقات، تقول: رجلٌ شجاعٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: بطلٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: بهمةٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: اليس. - وقال بعض الحكماء: جسم الحرب: الشجاعة، وقلبها: التدبير، ولسانها: المكيدة، وجناحها: الطاعة، وقائدها: الرفق، وسائقها: النصر. - وعن أبي بكر بن عياش قال قيل للبطال: ما الشجاعة قال صبر ساعة) (¬5). - وقال عمرو بن معد يكرب: (الفزعات ثلاثة فمن كانت فزعته في رجليه فذاك الذي لا تقله رجلاه ومن كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفر عن أبويه ومن كانت فزعته في قلبه فذاك الذي لا يقاتل) (¬6). - وقال ابن تيمية: (ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم بين الله سبحانه أنه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك ومن تولى عنه بإنفاق ماله أبدل الله به من يقوم بذلك) (¬7). - وقال ابن القيم: (الجبن والشجاعة غرائز وأخلاق فالجبان يفر عن عرسه والشجاع يقاتل عن من لا يعرفه كما قال الشاعر: يفر جبان القوم من أم نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه والشجاع ضد البخيل لأن البخيل يضن بماله والشجاع يجود بنفسه كما قال القائل: كم بين قوم إنما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا) (¬8). - وقال الذهبي: (الشجاعة والسخاء أخوان، فمن لم يجد بماله، فلن يجود بنفسه) (¬9). - وقال أعرابي: (الله مخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما جمعوا؛ وكم من منية علتها طلب الحياة، وحياة سببها التعرض للموت) (¬10). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 92). (¬2) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 70). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 101). (¬4) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 347). (¬5) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 208). (¬6) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 491). (¬7) ((الاستقامة)) لابن القيم (2/ 269). (¬8) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 491). (¬9) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (19/ 235). (¬10) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 100).

أقسام الشجاعة

أقسام الشجاعة ذكر الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) خمسة أنواع للشجاعة وهي: - (سبعية كمن أقدم لثوران غضب وتطلب غلبة. - وبهيمية كمن حارب توصلا إلى مأكل أو منكح. - وتجريبية كمن حارب مرارا فظفر. فجعل ذلك أصلا يبني عليه. - وجهادية كمن يحارب ذبا عن الدين. - وحكمية وهي ما تكون في كل ذلك عن فكر وتمييز وهيئة محمودة بقدر ما يجب وعلى ما يجب، ألا ترى أنه يحمد من أقدم على كافر غضبا لدين الله أو طمعا في ثوابه أو خوفا من عقابه أو اعتمادا على ما رأى من إنجاز وعد الله في نصرة أوليائه، فإن كل ذلك محمود وإن كان محض الشجاعة هو أن لا يقصد بالإقدام حوز ثواب أو دفع عقاب ... ومن الشجاعة المحمودة مجاهدة الإنسان نفسه أو غيره، وكل واحد منهما ضربان: - مجاهدة النفس بالقول: وذلك بالتعلم. وبالفعل: وذلك بقمع الشهوة، وتهذيب الحمية. - ومجاهدة الغير بالقول. وذلك تزيين الحق وتعليمه، وبالفعل وذلك مدافعة الباطل ومتعاطيه بالحرب) (¬1). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 328).

فوائد وآثار الشجاعة

فوائد وآثار الشجاعة الشجاعة لها فوائد تعود على الفرد والمجتمع فمنها: 1 - الشجاعة سبب لانشراح الصدر: قال ابن القيم: (فإن الشجاع منشرح الصدر واسع البطان متسع القلب والجبان أضيق الناس صدرا وأحصرهم قلبا لا فرحة له ولا سرور ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي وأما سرور الروح ولذتها ونعيمها وابتهاجها فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل وعلى كل معرض عن الله سبحانه غافل عن ذكره جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ودينه متعلق القلب بغيره) (¬1). 2 - الشجاعة أصل الفضائل: فمن يتصف بالشجاعة يتحلى أيضاً بكبر النفس، والنجدة، وعظم الهمة، والثبات، والصبر، والحلم، وعدم الطيش، والشهامة، واحتمال الكد. 3 - الشجاعة تحمل صاحبها على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم: قال ابن القيم: (والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه) (¬2). 4 - الرجل الشجاع يحسن الظن بالله: قال ابن القيم: (والجبن خلق مذموم عند جميع الخلق وأهل الجبن هم أهل سوء الظن بالله وأهل الشجاعة والجود هم أهل حسن الظن بالله كما قال بعض الحكماء في وصيته عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله والشجاعة جنة للرجل من المكاره والجبن إعانة منه لعدوه على نفسه فهو جند وسلاح يعطيه عدوه ليحاربه به وقد قالت العرب الشجاعة وقاية والجبن مقتلة وقد أكذب الله سبحانه أطماع الجبناء في ظنهم أن جبنهم ينجيهم من القتل والموت فقال الله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب: 16] ولقد أحسن القائل وهو قطري بن الفجاءة الساري: أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع وما ثوب الحياة بثوب عز ... فيطوي عن أخي الخنع اليراع سبيل الموت غاية كل حي ... وداعيه لأهل الأرض داعي ومن لم يعتبط يسام ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع) (¬3). 5 - لا تتم مصلحة الإمارة والسياسة إلا بالشجاعة: ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/ 22). (¬2) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 491). (¬3) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 491).

قال ابن تيمية: (لا يتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء والنجدة التي هي الشجاعة بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر ونقله إلى غيره كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38 - 39] وقال تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]، وقد قال الله تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هو الشجاعة وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]) (¬1). وقال في موضع آخر: (كما أن عليهم- أي ولاة الأمور - من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك) (¬2). وأيضاً من آثار الشجاعة: 6 - كبر النفس: وهو الاستهانة باليسير والاقتدار على حمل الكرائه فصاحبه أبدا يؤهل نفسه للأمور العظام مع استخفافه لها. 7 - النجدة: وهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع. 8 - عظم الهمة: وهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجد وضدها حتى الشدائد التي تكون عند الموت. 9 - الثبات: وهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام ومقاومتها في الأهوال خاصة. 10 - الحلم: وهو فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة. 11 - السكون: وهو عدم الطيش فهو إما عند الخصومات وإما في الحروب التي يذب بها عن الحريم أو عن الشريعة. وهو قوة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها. 12 - الشهامة: وهي الحرص على الأعمال العظام توقعا للأحدوثة الجميلة. 13 - احتمال الكد: وهو قوة للنفس بها تستعمل آلات البدن في الأمور الحسية بالتمرين وحسن العادة) (¬3). ¬

(¬1) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص 74). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 180). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص18) بتصرف.

مراتب الشجعان

مراتب الشجعان تحدث ابن القيم عن مراتب الشجعان فذكر: (أول مراتبهم الهمام: وسمي بذلك لهمته وعزمه وجاء على بناء فعال كشجاع. الثاني المقدام: وسمي بذلك من الإقدام وهو ضد الإحجام وجاء على أوزان المبالغة كمعطاء ومنحار لكثير العطاء والنحر وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث كامرأة معطار كثيرة التعطر ومذكار تلد الذكور. الثالث الباسل: وهو اسم فاعل من بسل يبسل كشرف يشرف والبسالة الشجاعة والشدة وضدها فشل يفشل فشالة وهي على وزنها فعلا ومصدرا وهي الرذالة. الرابع البطل: وجمعه أبطال وفي تسميته قولان: أحدهما: لأنه يبطل فعل الأقران فتبطل عند شجاعة الشجعان فيكون بطل بمعنى مفعول في المعنى لأن هذا الفعل غير متعد والثاني: أنه بمعنى فاعل لفظا ومعنى لأنه الذي يبطل شجاعة غيره فيجعلها بمنزلة العدم فهو بطل بمعنى مبطل ويجوز أن يكون بطل بمعنى مبطل بوزن مكرم وهو الذي قد بطله غيره فلشجاعته تحاماه الناس فبطلوا فعله باستسلامهم له وترك محاربتهم إياه الخامس: الصنديد بكسر الصاد) (¬1). ¬

(¬1) ((الفروسية)) لابن القيم (503).

صور الشجاعة

صور الشجاعة 1 - الإقدام في ساحات الوغى في الجهاد في سبيل الله والاستهانة بالموت. 2 - الجرأة في إنكار المنكر وبيان الحق: قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)). 3 - الشجاعة في الأعمال التي تحتاج إلى تحمل المخاطر ورباطة الجأش: كرجال المطافئ، وعمال المناجم، والأطباء والممرضون وغيرهم ... 4 - (حضور الذهن عند الشدائد: من أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات ويتصرف فيه بذهن حاضر وعقل غير مشتت) (¬1). 5 - الشجاعة الأدبية: ونعني بها أن يبدي الإنسان رأيه، وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به أو تقولوا عليه من غضب عظيم، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صواباً (¬2). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لجمال نصار. بتصرف (ص 206). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لجمال نصار. بتصرف (ص 206).

وسائل اكتساب خلق الشجاعة

وسائل اكتساب خلق الشجاعة خلق الشجاعة كسائر الأخلاق، فالأخلاق كلها منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، فمن الشجاعة شجاعة فطرية، ومنها شجاعة مكتسبة. ولاكتساب خلق الشجاعة وسائل ومن تلك الوسائل: 1 - اللجوء إلى الله بالدعاء والذكر: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] ( ... أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النهي عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على سواء. وهذا تأكيد على الوقوف للعدو والتجلد له. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الأول: اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد. الثاني: اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250]. وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس. الثالث: اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم) (¬1). 2 - (ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الإنسان لن يصيبه إلا ما كتب الله له. 3 - ترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر. 4 - غرس اليقين بما أعده الله من النعيم في الجنة، للذين يقاتلون في سبيل الله. 5 - التدريب العملي بدفع الإنسان إلى المواقف المحرجة التي لا يتخلص منها إلا بأن يتشجع. 6 - الإقناع بأن معظم مثيرات الجبن لا تعدو أنها أوهام لا حقيقة لها. 7 - القدوة الحسنة وعرض مشاهد الشجعان، وذكر قصصهم. 8 - إثارة دوافع التنافس، ومكافأة الأشجع بعطاءات مادية) (¬2). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (8/ 23). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبدالرحمن حبنكة الميداني. بتصرف (2/ 568).

نماذج في الشجاعة

نماذج من شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأمضاهم عزما وإقداما، كان الناس يفرون وهو ثابت (¬1). - وقال رجل للبراء ((يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبني نصر فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل فاستنصر وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب. ثم صفهم)) (¬2). - وعن علي رضي الله عنه قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا) (¬3). - وعن أنس قال ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول لن تراعوا لن تراعوا وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج في عنقه سيف فقال لقد وجدته بحرا، أو إنه لبحر)) (¬4). - وعن ابن عمر، قال: ((ما رأيت أحدا أجود ولا أنجد ولا أشجع ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬5). - وعن عمران بن الحصين، قال: ((ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب)) (¬6). - وعن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: ((شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم نفارقه ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركض بغلته قبل الكفار قال عباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي عباس ناد أصحاب السمرة. فقال عباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا يا لبيك يا لبيك - قال - فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا حين حمى الوطيس)) (¬7). ¬

(¬1) ((مكارم الأخلاق)) لابن عثيمين (ص57). (¬2) رواه البخاري (2930)، ومسلم (1776). (¬3) رواه أحمد (1/ 86) (654)، وابن أبي شيبة (6/ 426) (32614). وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (2/ 64). (¬4) رواه البخاري (6033). (¬5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 373)، وابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (60)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 32). (¬6) قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (867): أخرجه أبو الشيخ وفيه من لم أعرفه. (¬7) رواه مسلم (1775).

نماذج من شجاعة الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من شجاعة الصحابة رضي الله عنهم: (وقد كان الموروث صلوات الله وسلامه عليه أشجع الناس فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمة بالقياس ويكفي أن عمر بن الخطاب سهم من كنانته وخالد بن الوليد سلاح من أسلحته والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته وما منهم إلا من اعترف أنه يستمد من ثباته وشجاعته) (¬1). شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (وكان الصديق رضي الله عنه أشجع الأمة بعد رسول الله ... برز على الصحابة كلهم بثبات قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال وهو في ذلك ثابت القلب ربيط الجأش يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم فيثبتهم ويشجعهم ولو لم يكن له إلا ثبات قلبه يوم الغار وليلته وثبات قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي يا رسول الله كفاك بعض مناشدتك ربك فإنه منجر لك ما وعدك وثبات قلبه يوم أحد وقد صرخ الشيطان في الناس بأن محمدا قد قتل ولم يبق أحد مع رسول الله إلا دون عشرين في أحد وهو مع ذلك ثابت القلب ساكن الجأش وثبات قلبه يوم الخندق وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قلق فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصديق ليثبته ويسكنه ويطمئنه وثبات قلبه يوم حنين حيث فر الناس وهو لم يفر وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع وكادت تزول لها الجبال وعقرت لها أقدام الأبطال وماجت لها قلوب أهل الإسلام كموج البحر عند هبوب قواصف الرياح وصاح لها الشيطان في أقطار الأرض أبلغ الصياح وخرج الناس بها من دين الله أفواجا وأثار عدو الله بها أقطار الأرض عجاجا وانقطع لها الوحي من السماء وكاد لولا دفاع الله لطمس نجوم الاهتداء وأنكرت الصحابة بها قلوبهم وكيف لا وقد فقدوا رسولهم من بين أظهرهم وحبيبهم وطاشت الأحلام وغشي الآفاق ما غشيها من الظلام واشرأب النفاق ومد أهله الأعناق ورفع الباطل رأسا كان تحت قدم الرسول موضوعا وسمع المسلمون من أعداء الله ما لم يكن في حياته بينهم مسموعا وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام وأن يصرف وجوههم عن البيت الحرام وأن يصد قلوبهم عن الإيمان والقرآن ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التهود والتمجس والشرك وعبادة الصلبان فشمر الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خوار وانتضى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار وامتطى من ظهور عزائمه جوادا لم يكن يكبو يوم السباق وتقدم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنما همه اللحاق وقال والله لأجاهدن أعداء الإسلام جهدي ولأصدقنهم الحرب حتى تنفرد سالفتي أو أفرد وحدي ولأدخلنهم في الباب الذي خرجوا منه ولأردنهم إلى الحق الذي رغبوا عنه فثبت الله بذلك القلب الذي لو وزن بقلوب الأمة لرجحها جيوش الإسلام وأذل بها المنافقين والمرتدين وأهل الكتاب وعبدة الأصنام حتى استقامت قناة الدين من بعد اعوجاجها وجرت الملة الحنيفية على سننها ومنهاجها وتولى حزب الشيطان وهم الخاسرون وأذن مؤذن الإيمان على رؤوس الخلائق فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56]. هذا وما ضعفت جيوش عزماته ولا استكانت ولا وهنت بل لم تزل الجيوش بها مؤيدة ومنصورة وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر في موطن من المواطن بل لم تزل مغلوبة مكسورة تلك لعمر الله الشجاعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم والهمة التي تصاغرت عندها عليات الهمم ويحق لصديق الأمة أن يضرب من هذا المغنم بأوفر نصيب وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوة بكمال التعصب) (¬2). ¬

(¬1) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 502). (¬2) ((الفروسية)) لابن القيم (ص 502).

- فعن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ الآية [غافر: 28])) (¬1). - وعن أبى هريرة قال ((لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.)) (¬2). - وعن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: (خطبنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: أيها الناس، أخبروني بأشجع الناس، قالوا: لو قلنا أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق، إنا لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا: من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، وهذا أشجع الناس قال علي: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فوالله ما دنا منه إليه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضل لحيته، ثم قال علي: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ قال: فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه) (¬3). شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) (¬4). - وعن ابن عمر قال: (لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدا إلى المسجد، فنادى أندية قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذب ولكني أسلمت وآمنت بالله، وصدقت رسوله، فثاوروه، فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، حتى فتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم، فبينما هم كذلك قيام عليه، إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي، فقال: ما بالكم؟ فقالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: ذكر وصف إسلام عمر رضوان الله عليه وقد فعل) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3856). (¬2) رواه البخاري (1399)، ومسلم (20). (¬3) رواه البزار (3/ 14)، وأبو نعيم في ((فضائل الخلفاء)) (181). (¬4) رواه البخاري (3863). (¬5) رواه ابن حبان (15/ 302) (6879).

- وعن ابن عمر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب قال وكان أحبهما إليه عمر)) (¬1). - وعن محمد بن إسحاق قال: (فلما قدم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهم النجاشي بما يكرهون، أسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلا ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة بن عبد المطلب، حتى غزا قريشا، فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه، وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة) (¬2). شجاعة علي رضي الله عنه: - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (( ... قال: فلما قدمنا خيبر قال خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب ... أقبلت تلهب قال: وبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر قال فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه. قال سلمة فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه قال فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قال ذلك. قال قلت ناس من أصحابك. قال كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين. ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله. قال فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب ... أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع ... كيل السندره قال فضرب رأس مرحب فقتله ثم كان الفتح على يديه.)) (¬3). شجاعة الزبير رضي الله عنه: - عن عمرو بن دينار قال كان يقال: (أشجع الناس الزبير وأبسلهم علي رضي الله عنهما والباسل فوق الشجاع) (¬4). - وعن هشام بن عروة، عن أبيه، (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك ألا تشد فنشد معك فقال إني إن شددت كذبتم فقالوا لا نفعل فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد ثم رجع مقبلا فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر قال عروة كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير قال عروة، وكان معه عبد الله بن الزبير يومئذ وهو ابن عشر سنين فحمله على فرس وكل به رجلا) (¬5). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3681)، وأحمد (2/ 95) (5696). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه ابن حبان كما في ((المقاصد الحسنة)) (113)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (8/ 60). (¬2) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 278). (¬3) رواه مسلم (1807). (¬4) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 57). (¬5) رواه البخاري (3975).

- وعن عبد الله بن الزبير قال: ((كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين، أو ثلاثا فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف قال أو هل رأيتني يا بني قلت نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال فداك أبي وأمي)) (¬1). شجاعة خالد بن الوليد رضي الله عنه: قال خالد بن الوليد: (لقد رأيتني يوم مؤتة تقطعت في يدي تسعة أسياف وصيرت في يدي صفيحة لي يمانية) (¬2). ولما احتضر قال: (لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس بترسي والسماء تهلبني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار ثم قال إذا أنا مت فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوها عدة في سبيل الله عز وجل) (¬3). شجاعة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: عن عامر بن سعد عن أبيه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه قال كان رجل من المشركين قد خرق المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد ارم فداك أبي وأمي قال فنزعت بسهم لي فيه نصل فأصبت جنبه فوقع وانكشفت عوراته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه)) (¬4). نماذج أخرى من شجاعة الصحابة رضي الله عنهم: - فعن إياس بن سلمة قال: حدثني أبى قال: ((قدمنا الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها - قال - فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبا الركية فإما دعا وإما بسق فيها - قال - فجاشت فسقينا واستقينا. قال ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس قال بايع يا سلمة. قال قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس قال وأيضا. قال ورآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزلا - يعني ليس معه سلاح - قال فأعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجفة أو درقة ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال ألا تبايعني يا سلمة. قال قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس قال وأيضا. قال فبايعته الثالثة ثم قال لي يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك. قال قلت يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها - قال - فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال إنك كالذي قال الأول اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي. ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا. قال وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وآكل من طعامه وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها - قال - فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى وعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم. قال فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم. فجعلته ضغثا في يدي قال ثم قلت والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. ¬

(¬1) رواه البخاري (3720). (¬2) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 61). (¬3) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 62). (¬4) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 63).

قال ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - قال - وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز. يقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فرس مجفف في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24] كلها. قال ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون فاستغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن رقى هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - قال سلمة - فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا ثم قدمنا المدينة فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهره مع رباح غلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستاقه أجمع وقتل راعيه قال فقلت يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين قد أغاروا على سرحه - قال - ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا يا صباحاه. ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق رجلا منهم فأصك سهما في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه - قال - قلت خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة - قال - فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون - يعني يتغدون - وجلست على رأس قرن قال الفزاري ما هذا الذي أرى قالوا لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال فليقم إليه نفر منكم أربعة. قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل - قال - فلما أمكنوني من الكلام - قال - قلت هل تعرفوني قالوا لا ومن أنت قال قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني رجل منكم. فيدركني قال أحدهم أنا أظن. قال فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخللون الشجر - قال - فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي - قال - فأخذت بعنان الأخرم - قال - فولوا مدبرين قلت يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. قال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة.

قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن - قال - فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه ولحق أبو قتادة فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الرحمن فطعنه فقتله فوالذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش - قال - فنظروا إلي أعدو وراءهم فحليتهم عنه - يعني أجليتهم عنه - فما ذاقوا منه قطرة - قال - ويخرجون فيشتدون في ثنية - قال - فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في نغض كتفه. قال قلت خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال يا ثكلته أمه أكوعه بكرة قال قلت نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة - قال - وأردوا فرسين على ثنية قال فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - قال - ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على الماء الذي حلأتهم عنه فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وبردة وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم وإذا هو يشوي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبدها وسنامها - قال - قلت يا رسول الله خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته - قال - فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه في ضوء النار فقال يا سلمة أتراك كنت فاعلا. قلت نعم والذي أكرمك. فقال إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان. قال فجاء رجل من غطفان فقال نحر لهم فلان جزورا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا فقالوا أتاكم القوم فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة. قال ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة - قال - فبينما نحن نسير قال وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا - قال - فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق فجعل يعيد ذلك - قال - فلما سمعت كلامه قلت أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا قال لا إلا أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال قلت يا رسول الله بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل قال إن شئت. قال قلت أذهب إليك وثنيت رجلي فطفرت فعدوت - قال - فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي ثم عدوت في إثره فربطت عليه شرفا أو شرفين ثم إني رفعت حتى ألحقه - قال - فأصكه بين كتفيه - قال - قلت قد سبقت والله قال أنا أظن. قال فسبقته إلى المدينة قال فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا. قال أنا عامر. قال غفر لك ربك. قال وما استغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان يخصه إلا استشهد. قال فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبي الله لولا ما متعتنا بعامر ... )) (¬1). وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: ((قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أرأيت إن قتلت فأين أنا قال في الجنة فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)) (¬2). - وعن أنس، رضي الله عنه، قال ((غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية)) (¬3). - وعنه أيضاً قال: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ سيفا يوم أحد فقال من يأخذ مني هذا. فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول أنا أنا. قال فمن يأخذه بحقه. قال فأحجم القوم فقال سماك بن خرشة أبو دجانة أنا آخذه بحقه. قال فأخذه ففلق به هام المشركين)) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (1807). (¬2) رواه البخاري (4046). (¬3) رواه البخاري (2805). (¬4) رواه مسلم (2470).

نماذج من شجاعة العلماء المتقدمين:

نماذج من شجاعة العلماء المتقدمين: شجاعة سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله في إنكار المنكر: (شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها العارف بمقاصدها لم ير مثل نفسه ولا رأى من رآه مثله علما وورعا وقياما في الحق وشجاعة وقوة جنان وسلاطة لسان) (¬1). يذكر الباجي موقفا من مواقف سلطان العلماء فيقول: (طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور فقال هل جرى هذا فقال نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون فقال يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي فقال أنت من الذين يقولون إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22]، فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة. يقول الباجي: سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه فقلت يا سيدي أما خفته فقال والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامي كالقط) (¬2). شجاعة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يقول البزار: (كان - رحمه الله - من أشجع الناس وأقواهم قلبا ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم، وأخبر غير واحد أن الشيخ – رحمه الله - كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إن رأى من بعضهم هلعا أو رقة أو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة. وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان ويكبر تكبيرا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها. قالوا ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره ولما ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالا كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ووصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان فلما رآهم السلطان قال من هؤلاء فقيل هم رؤساء دمشق فأذن لهم فحضروا بين يديه، فتقدم الشيخ – رحمه الله- أولا فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولا في عكس رأيه عن تسليط المخزول ملك الكرج على المسلمين وضمن له أموالا وأخبره بحرمة دماء المسلمين وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعا وحقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم.) (¬3). ¬

(¬1) ((طبقات الشافعية)) للسبكي (8/ 209). (¬2) ((طبقات الشافعية)) للسبكي (8/ 211). (¬3) ((الأعلام العلية)) للبزار. بتصرف (ص 67).

ويقول البزار أيضاً: (وحدثني من أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا قدس الله روحه قال: كنت حاضرا مع الشيخ حينئذ فجعل يعني الشيخ يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه حتى جثا على ركبتيه وجعل يقرب منه في أثناء حديثه حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه وإن السلطان من شدة ما أوقع الله ما في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته من هذا الشيخ وقال ما معناه إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا مني لأحد منه فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل فقال الشيخ للترجمان قل لغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت وسأله إن أحببت أن أعمر لك بلد آبائك حران وتنتقل إليه ويكون برسمك فقال لا والله لا أرغب عن مهاجر إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأستبدل به غيره، فخرج من بين يديه مكرما معززا قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه ما أراده. وكان ذلك أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم. وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة الجأش) (¬1). ¬

(¬1) ((الأعلام العلية)) للبزار (ص 67).

نماذج من شجاعة العلماء المعاصرين:

نماذج من شجاعة العلماء المعاصرين: شجاعة الشيخ ابن باز رحمه الله في إنكار المنكر: (من شجاعة - الشيخ ابن باز- وقوته في الحق أنه ينكر المنكر، ويبين الحق، ويرد على من أخطأ كائناً من كان. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وهذا الأمر معروف عند سماحة الشيخ في مقتبل عمره، وبعد أن طعن في السن. ومن الأمثلة على ذلك أنه لما نشرت صحيفة الجيش السورية كلاماً كفرياً، يتضمن إنكار وجود الله – سبحانه وتعالى – كتب سماحة الشيخ للرئيس السوري آنذاك، وهو نور الدين الأتاسي، وبين له الحكم في ذلك، وأن الواجب التوبة، وإعلانها في الصحف. ومن ذلك أنه لما نشرت بعض الصحف الخارجية أن بعض الرؤساء طعن في القرآن، وذكر أنه متناقض، وتكلم في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إليه سماحة الشيخ، وبين له فداحة ما قال، وأوضح له أن ذلك كفر وردة، وأن الواجب عليه إعلان التوبة في الصحف التي نشرت كلامه. ولما لم ينشر ذلك الشخص ما أشار به سماحة الشيخ، ولم يعلن توبته ورجوعه – كتب سماحته مقالاً مطولاً بين فيه كفر ذلك الشخص، وردته، ونشرت ذلك بعض الصحف) (¬1). ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص 207).

ما يترتب على الشجاعة

ما يترتب على الشجاعة - أن يستعان بالشجاعة في الجهاد في سبيل الله: فيجب استعمال الشجاعة فيما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى من مقارعة الأعداء والإقدام في ساحات الوغى في الجهاد في سبيل الله. قال ابن تيمية: (ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى فشجاعة علي والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة قال الله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:51 - 52]. فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال ولم يؤذن له وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن) (¬1). - أن تكون الشجاعة في موضعها: فيُقدِم الشجاع في موضع الإقدام، ويثبت في موضع الثبات، ويحجم في موضع الإحجام. قال ابن القيم: (ولما كانت الشجاعة خلقا كريما من أخلاق النفس ترتب عليها أربعة أمور وهي مظهرها وثمرتها الإقدام في موضع الإقدام والإحجام في موضع الإحجام والثبات في موضع الثبات والزوال في موضع الزوال. وضد ذلك مخل بالشجاعة وهو إما جبن وإما تهور وإما خفة وطيش). - أن يقترن مع الشجاعة الرأي الصحيح: قال ابن القيم: (وإذا اجتمع في الرجل الرأي والشجاعة فهو الذي يصلح لتدبير الجيوش وسياسة أمر الحرب. والناس ثلاثة رجل ونصف رجل ولا شيء فالرجل من اجتمع له أصالة الرأي والشجاعة فهذا الرجل الكامل كما قال أحمد بن الحسين المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان ونصف الرجل وهو من انفرد بأحد الوصفين دون الآخر والذي هو لا شيء من عري من الوصفين جميعا) (¬2). وقال أيضاً: (وصحة الرأي لقاح الشجاعة فإذا اجتمعا كان النصر والظفر وإن قعدا فالخذلان والخيبة وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب والصبر لقاح البصيرة فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما قال الحسن إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك) (¬3). ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/ 63). (¬2) ((الفروسية)) لابن القيم (505). (¬3) ((الفوائد)) لابن القيم (ص 200).

من أوصاف الشجاع

من أوصاف الشجاع (يقال فلان شجاع، بطل، باسل، شديد، بئيس، مقدام، حمس، جريء، فاتك، صارم، ثبيت، نجيد، ذمر، بهمة، صمة. وهو ثبت الجنان (¬1)، واقر (¬2) الجنان، ثبت الغدر (¬3)، جميع الفؤاد (¬4)، جريء الصدر، جريء المقدم (¬5)، رابط الجأش، وربيط الجأش (¬6)، قوي الجأش، صدق اللقاء (¬7) صلب المعجم (¬8)، صلب المكسر (¬9)، صليب النبع (¬10)، صليب العود، صادق البأس، مشيع (¬11) القلب. وهو من ذوي الشجاعة، والبسالة، والشدة، والبأس، والإقدام، والحماسة، والجرأة، والصرامة، والنجدة. وأقدم على ذلك بثبات جنانه، وصرامة بأسه، ورباطة جأشه، وقد ربط لذلك الأمر جأشا. وإنه لذو مصدق (¬12) في اللقاء، وإنه لصادق الحملة، وإنه لصدق (¬13) المعاجم. وهو رجل مغوار (¬14)، فتاك، محرب (¬15)، مصدام (¬16)، مسعر حرب، ومحش حرب (¬17)، ومردي حرب (¬18). وهو ابن كريهة (¬19)، وخواض غمرات (¬20)، وهو فارس بهمة (¬21)، وكبش كتيبة اسم للحرب (¬22)، وليث عرينة (¬23)، وهو أسد خادر (¬24)، وهو أشجع من أسامة (¬25)، ومن ليث عفرين (¬26)، وليث خفان، ومن أسود بئشة، وأسود الشرى، ومن ليث غيل (¬27)، وليث غابة، وليث خفية، وأجرأ من ذي لبدة (¬28) وهو الأسد، وأجرأ من السيل، ومن الليل، وأجرأ من فارس خصاف (¬29). وتقول في درع فلان أسد، ورأيت منه رجلا قد جمع ثيابه على أسد. ويقال للرجل الشجاع هو حبيل براح أي كأنه لثباته قد شد بالحبال، وهو أيضا اسم للأسد. ويقال فلان حية ذكر أي شجاع شديد، وهو حية الوادي إذا كان شجاعا مانعا لحوزته. وإنه لذو مساع ومداع وهي المناقب في الحرب خاصة. وبنو فلان أسود الوقائع، وأحلاس الخيل (¬30)، وحاطة الحريم (¬31)، ومانعو الحريم، وحماة الحقائق (¬32)، وسقاة الحتوف (¬33)، وأباة الذل) (¬34). ¬

(¬1) ثابت القلب (¬2) يقال جنان واقر أي لا يستخفه الفزع (¬3) أي ثابت الموقف (¬4) أي غير متفرق العزم (¬5) مصدر بمعنى الإقدام (¬6) الجأش رواع القلب عند الفزع ويراد به القلب نفسه (¬7) أي ثبت اللقاء (¬8) من عجم العود إذا تناوله بأسنانه ليختبر صلابته من لينه (¬9) موضع الكسر من العود ونحوه (¬10) الصليب الصلب. والنبع ضرب من الشجر (¬11) جريء (¬12) ثبات وإقدام (¬13) أي صلب (¬14) كثير الغارات (¬15) شديد الحرب (¬16) بمعنى محرب (¬17) كلاهما الذي يهيج الحرب ويوقدها واصل المسعر والمحش ما تحرك به النار (¬18) المردى الحجر يرمى به وفلان مردى حرب ومردى حروب أي يرمي الحروب بنفسه. (¬19) اسم للحرب (¬20) شدائد (¬21) البهمة هنا بمعنى الجيش (¬22) قائد جيش (¬23) الليث الأسد. والعرينة مأواه (¬24) مقيم في الخدر وهو الأجمة (¬25) علم جنسي للأسد (¬26) موضع يوصف بكثرة الأسود. ومثله خفان وبئشة والشرى (¬27) بمعنى غابة وكذلك الخفية (¬28) الشعر المتراكب على كتفي الأسد (¬29) هو مالك بن عمرو الغساني يضرب به المثل في الجرأة وخصاف اسم فرسه (¬30) أي ملازمون لظهورها. والأحلاس جمع حلس بالكسر وهو كساء رقيق يجعل تحت السرج (¬31) حاطة أي حفظة. والحريم كل ما تحميه وتقاتل عنه. (¬32) كل ما تحق حمايته. (¬33) جمع حتف وهو الموت. (¬34) ((نجعة الرائد)) لليازجي (1/ 82 - 84).

الشجاعة في واحة الشعر ..

الشجاعة في واحة الشعر .. قالوا: أشجع بيت قاله العرب قول العباس بن مرداس السلمي: أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها وقد مدح الشعراء الشجاعة وأهلها، وأوسعوا في ذلك، فمن ذلك قول المتنبي: شجاعٌ كأن الحرب عاشقةٌ له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل وقال أيضا: وكم رجالٍ بلا أرضٍ لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل ما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشى الشارب الثمل وقال العماد الأصفهاني: قوم إذا لبسوا الحديد إلى الوغى ... لبس الحداد عدوهم في المهرب المصدرون الدهم عن ورد الوغى ... شقراً تجلل بالعجاج الأشهب وقال أبو الفرج الببغاء: واليوم من غسق العجاجة ليلةٌ ... والكر يخرق سجفها الممدودا وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... ردعٌ أحال بياضها توريدا والطعن يغصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التليل وقودا وعلى النفوس من الحمام طلائعٌ ... والخوف ينشد صبرها المفقودا وأجل ما عند الفوارس حثها ... في طاعة الهرب الجياد القودا حتى إذا ما فارق الرأي الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا لم يغن غير أبي شجاعٍ والعلا ... عنه تناجي النصر والتأييدا وقال آخر من كل متسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل يسعى به البرق إلا أنه فرسٌ ... في صورة الموت إلا أنه رجل يلقى الرماح بصدرٍ منه ليس له ... ظهرٌ وهادي جوادٍ ما له كفل وقال البحتري: معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لولاهم أن تميدا فإذا الجدب جاء كانوا غيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا وكأن الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارةً أو حديدا وقال مسلم: لو أن قوما يخلقون منيةً ... من بأسهم كانوا بني جبريلا قوم إذا حمي الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا وقال آخر: عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حربٍ والقنا آجام وبدور تم والشوائك في الوغى ... هالاتها والسابري غمام جادوا بممنوع التلاد وجودوا ... ضربا تخد به الطلا والهام وتجاورت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام وقال آخر: قوم شراب سيوفهم ورماحهم ... في كل معتركٍ دم الأشراف رجعت إليهم خيلهم بمعاشرٍ ... كل لكل جسيم أمرٍ كاف يتحننون إلى لقاء عدوهم ... كتحنن الألاف للألاف ويباشرون ظبا السيوف بأنفسٍ ... أمضى وأقطع من ظبا الأسياف وقال ابن حيوس: إن ترد خبر حالهم عن قريبٍ ... فأتهم يوم نائلٍ أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار ال ... نقع خضر الأكناف حمر النصال (¬1). وقال مسلم بن الوليد الأنصاري في يزيد بن مزيد: تلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمود بجود بالنفس إذ ظن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود (¬2). ... ¬

(¬1) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 211). (¬2) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 108 - 109).

الشهامة

تعريف الشهامة لغة واصطلاحا تعريف الشهامة لغة: يقال شهم الرجل شهامة وشهومة، ومادة (شهم) تدل على الذكاء. يقال: رجل شهم (¬1). قال ابن منظور: (شهم: الشهم: الذكي الفؤاد المتوقد، الجلد، والجمع شهام؛ قال: الشهم وابن النفر الشهام، وقد شهم الرجل، بالضم، شهامة وشهومة إذا كان ذكيا، فهو شهم أي جلد) (¬2). قال أبو بكر الأنباري: (قال الفراء: الشهم معناه في كلام العرب: الحمول، الجيد القيام بما يحمل، الذي لا تلقاه إلا حمولا، طيب النفس بما حمل ... وقال الأصمعي: الشهم معناه في كلامهم الذكي الحاد النفس الذي كأنه مروع من حدة نفسه) (¬3). تعريف الشهامة اصطلاحا: قال ابن مسكويه: (الشهامة هي الحرص على الأعمال العظام توقعا للأحدوثة الجميلة) (¬4). وقيل هي: (الحرص على الأمور العظام توقعا للذكر الجميل عند الحق والخلق) (¬5). وقيل الشهامة هي: (عزة النفس وحرصها على مباشرة أمور عظيمة تستتبع الذكر الجميل) (¬6). ¬

(¬1) (([1354] انظر ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 223). (¬2) (([1355] ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 328)، ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (3/ 405)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (4/ 196)، ((معجم ديوان الأدب)) لأبي إبراهيم الفارابي (2/ 277). (¬3) (([1356] ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) لأبي بكر الأنباري (1/ 114). (¬4) (([1357] ((تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)) لابن مسكويه (ص: 30). (¬5) (([1358] ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص: 5). (¬6) (([1359] ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى, وآخرون (ص: 498).

مدح الشهامة والترغيب عليها من القرآن والسنة

مدح الشهامة والترغيب عليها من القرآن والسنة مدح الشهامة في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]. قال ابن عطية: (استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهد أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما) (¬1). قال الحجازي: (فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما) (¬2). - وقال سبحانه: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104]. قال السعدي: (ذكر - سبحانه - ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين: الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى) (¬3). الترغيب على الشهامة من السنة النبوية: - عن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرا. يعني الفرس)) (¬4). قال القرطبي: (في هذا الحديث ما يدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل، والشجاعة، والشهامة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس، ولذلك قال أصحابه عنه: إنه كان أشجع الناس، وأجرأ الناس في حال الباس، ولذلك قالوا: إن الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروب، وناهيك به؛ فإنَّه ما ولَّى قطٌّ منهزمًا، ولا تحدَّث أحد عنه قط بفرار) (¬5). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا، قال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء، فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم)) (¬6). قال ابن حجر: (قوله فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت إنما قال لمضر لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز وكان الدعاء بالقحط على قريش وهم سكان مكة فسرى القحط إلى من حولهم فحسن أن يطلب الدعاء لهم ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش لئلا يذكرهم فيذكر بجرمهم فقال لمضر ليندرجوا فيهم ويشير أيضا إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم وقد وقع في الرواية الأخيرة وإن قومك هلكوا ولا منافاة بينهما لأن مضر أيضا قومه وقد تقدم في المناقب أنه صلى الله عليه وسلم كان من مضر قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمضر إنك لجريء أي أتأمرني أن أستسقي لمضر مع ما هم عليه من المعصية والإشراك به) (¬7). ووجه الشهامة في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رغم عداوة قريش وإيذائها للمؤمنين، لما جاءه أبو سفيان يطلب منه الاستسقاء لم يرفض لحسن خلقه وشهامته ورغبته في هدايتهم فإن الشهامة ومكارم الأخلاق مع الأعداء لها أثر كبير في ذهاب العداوة أو تخفيفها. ¬

(¬1) (([1360] ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (4/ 283). (¬2) (([1361] ((التفسير الواضح)) للحجازي محمد محمود (2/ 825). (¬3) (([1362] ((تسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص: 199). (¬4) (([1363] رواه البخاري (3040) واللفظ له ومسلم (2307). (¬5) (([1364] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (6/ 100). (¬6) (([1365] رواه البخاري (1007) ومسلم (2798). واللفظ للبخاري. (¬7) (([1366] ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 571).

من صور الشهامة

من صور الشهامة 1. النجدة: عن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرا. يعني الفرس)) (¬1). 2. إغاثة الملهوف: عن أسلم مولى عمر قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغارا، والله ما ينضجون كراعا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها؟ قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه) (¬2). 3. الحرص على الأعمال العظام. ¬

(¬1) (([1367] رواه البخاري (3040)، ومسلم (2307). واللفظ للبخاري. (¬2) (([1368] رواه البخاري (4160).

فوائد الشهامة

فوائد الشهامة 1 - الشهامة من مكارم الأخلاق الفاضلة. 2 - إنها من صفات الرجال العظماء. 3 - تشيع المحبة في النفوس. 4 - تزيل العداوة بين الناس. 5 - فيها حفظ الأعراض ونشر الأمن في المجتمع. 6 - إنها علامة على علو الهمة وشرف النفس.

موانع اكتساب صفة الشهامة

موانع اكتساب صفة الشهامة 1. قسوة القلب. 2. الأنانية وخذلان المسلمين واللامبالاة بمعاناتهم: إن خذلان المسلم لأخيه المسلم أمر تنكره الشريعة وأن من حق المسلم على المسلم أن لا يخذله، (وهو إن حدث ذريعة لخذلان المسلمين جميعا حيث تنتشر عدوى الأنانية وحب الذات، وإيثار الراحة والمصلحة الخاصة على مشاركة الغير آلامهم وآمالهم، فيكثر التنصل من المسئولية بين المسلمين، حتى يقضي عليهم أعداؤهم واحدا تلو الآخر فتموت فيهم خلال الآباء والشهامة ونجدة الملهوف، وإغاثة المنكوب وسوف يجنح المظلوم والضعيف إلى الأعداء طوعا أو كرها، لما يقع به من ضيم وما يصيبه من خذلان من إخوانه ثم ينزوي بعيدا عنهم، وتنقطع عرى الأخوة بينه وبين من خذلوه وأسلموه للأعداء) (¬1). 3. الجبن والبخل: فالشهامة إنما تقوم على الشجاعة لنجدة المحتاج والكرم لإعانة أصحاب الحاجات فمن فقدهما ضعفت شهامته وماتت مروءته. 4. الذل والهوان وضعف النفس: فالإنسان الذليل والأمة الذليلة أبعد الناس عن النصرة وتلبية نداء الإغاثة ففاقد الشيء لا يعطيه. 5. الحقد والعداوة والبغضاء. 6. لبس الرجال للحرير. قال ابن القيم: (حرم – الذهب – لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث وضد الشهامة والرجولة، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث؛ ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها، وإن لم يذهبها) (¬2). 7. الوقوع في الفواحش. 8. اختلاط النساء بالرجال. ¬

(¬1) (([1369] ((الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية)) لمحماس الجلعود (2/ 937). (¬2) (([1370] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 73).

الوسائل المعينة على اكتساب صفة الشهامة

الوسائل المعينة على اكتساب صفة الشهامة 1 - الصبر. قال الراغب الأصفهاني: (الصبر يزيل الجزع ويورث الشهامة المختصة بالرجولية) (¬1). 2 - الشجاعة. 3 - علو الهمة وشرف النفس. قال الشيخ بكر أبو زيد: (كبر الهمة في العلم، من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، مركز السالب والموجب في شخصك، الرقيب على جوارحك، كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيراً غير مجذوذ، لترقى إلى درجات الكمال، فيجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديك إلا لمهمات الأمور) (¬2). 4 - العدل والإنصاف (¬3). 5 - مصاحبة ذوي الشهامة والنجدة. 6 - الإيمان بالقضاء والقدر. قال الشيخ صالح الفوزان: (ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت لأنه يعلم أن الموت لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر؛ لا يمنع منه حصون ولا جنود، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة [النساء: 78] قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، وهكذا حينما يستشعر المجاهد هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر على الأعداء وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين) (¬4). ¬

(¬1) (([1371] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 115). (¬2) (([1372] ((حلية طالب العلم)) لبكر أبوزيد (ص 173)، ((مواد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (3/ 409) (¬3) (([1373] ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 154). (¬4) (([1374] ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)) لصالح الفوزان (ص 303 – 304).

نماذج في الشهامة

نماذج من حيات النبي صلى الله عليه وسلم في الشهامة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفى من هذه الصفة، فكان صلوات الله وسلامه عليه ((أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرا. يعني الفرس)) (¬1). - وعن أبي إسحاق قال سأل رجل البراء رضي الله عنه، فقال يا أبا عمارة أوليتم يوم حنين قال البراء وأنا أسمع: ((أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول يومئذ كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) (¬2). - وعن عمران بن الحصين، قال: ((ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب)) (¬3). - وعن ابن عمر، قال: ((ما رأيت أحدا أجود ولا أنجد ولا أشجع ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). وغيرها من الآثار التي تدل على شهامة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) (([1375] رواه البخاري (3040)، ومسلم (2307). واللفظ للبخاري. (¬2) (([1376] رواه البخاري (3042). (¬3) قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (867): أخرجه أبو الشيخ وفيه من لم أعرفه. (¬4) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 373)، وابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (60)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 32).

نماذج من الصحابة رضي الله عنهم في الشهامة:

نماذج من الصحابة رضي الله عنهم في الشهامة: - عن عبد الرحمن ابن عوف قال: (إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه يا عم أرني أبا جهل فقلت يا ابن أخي وما تصنع به قال عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله فما سرني أني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء) (¬1). قال ابن حجر: (قوله الصقرين .. شبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة والشهامة والإقدام على الصيد ولأنه إذا تشبت بشيء لم يفارقه حتى يأخذه) (¬2). - وعن أسلم، مولى عمر قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغارا، والله ما ينضجون كراعا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها؟ قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه) (¬3). ¬

(¬1) (([1379] رواه البخاري (3988). (¬2) (([1380] ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (7/ 308). (¬3) (([1381] رواه البخاري (4160).

- وعن سلمة بن الأكوع قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، قال: فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع، فألحق رجلا منهم فأصك سهما في رحله، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله، ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل، فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا، يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتوا متضايقا من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون - يعني يتغدون - وجلست على رأس قرن، قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله، ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا، قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، قال: فلما أمكنوني من الكلام، قال: قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني، قال أحدهم: أنا أظن، قال: فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي، قال: فأخذت بعنان الأخرم، قال: فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن، فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فخليتهم عنه - يعني أجليتهم عنه - فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية، قال: فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في نغض كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلته أمه، أكوعه بكرة؟ قال: قلت: نعم يا عدو نفسه، أكوعك بكرة، قال: وأردوا فرسين على ثنية، قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، قال: قلت: يا رسول الله، خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: يا سلمة، أتراك كنت فاعلا؟ قلت: نعم، والذي أكرمك، فقال: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان، قال: فجاء رجل من غطفان، فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة، قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعا، ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة)) (¬1). ¬

(¬1) (([1382] رواه البخاري (4194) ومسلم (1807) واللفظ له.

الشهامة في واحة الشعر ..

الشهامة في واحة الشعر .. قال أوس: حتى أتيح له أخو قنص ... شهم، يطر ضواريا كثبا (¬1) وقال ابن سيده: شهم إذا اجتمع الكماة، وألهمت ... أفواهها بأواسط الأوتار (¬2) وقال الشاعر: شهم الفؤاد ذكاؤه ما مثله ... عند العزيمة في الأنام ذكاء (¬3) وقال الشاعر: يابس الجنبين من غير بؤس ... وندى الكفين شهم مدل (¬4) وقال ابن هرمة: حيي تقي ساكن الطير وادع ... إذا لم يتر، شهم إذا تير مانع (¬5) وقال الشاعر: جميع الكتب يدرك من قراها ... فتور أو كلال أو سآمة سوى القرآن فافهم واستمع لي ... وقول المصطفى يا ذا الشهامة (¬6) وقال الشاعر: لك في الشهامة والصرامة موقف ... لصفاته اعجاز كل مفوه (¬7) ... ¬

(¬1) (([1383] ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 498). (¬2) (([1384] ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 427). (¬3) (([1385] ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) لأبي بكر الأنباري (2/ 366). (¬4) (([1386] ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (9/ 402). (¬5) (([1387] ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (9/ 531). (¬6) (([1388] ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (1/ 474) (¬7) (([1389] ((البرق الشامي)) لعماد الدين الأصبهاني (5/ 64)

الصبر

معنى الصبر لغة واصطلاحاً معنى الصبر لغة الصَبْرُ: حَبس النفس عن الجزع. وقد صَبَر فلانٌ عند المصيبة يَصْبِرُ صَبْراً (¬1). وقال في اللسان: (الصَّبْرُ نقيض الجَزَع صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْراً فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور والأُنثى صَبُور أَيضاً بغير هاء وجمعه صُبُرٌ. وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئاً فقد صَبَرَه) (¬2). معنى الصبر اصطلاحا: عرفه ابن القيم بقوله: (هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها) (¬3). وقيل هو: (ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله) (¬4). وقيل الصبر: (حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه) (¬5). ¬

(¬1) ((الصحاح)) للجوهري (ص706). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 437). (¬3) ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص 34) (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص131). (¬5) ((مفردات ألفاظ القرآن الكريم)) للراغب الأصفهاني (474).

الفرق بين الصبر، والتصبر، والاصطبار، والمصابرة، والاحتمال

الفرق بين الصبر، والتصبر، والاصطبار، والمصابرة، والاحتمال (الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره: - فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقا له وملكة سمي صبراً. - وإن كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرا. كما يدل عليه هذا البناء لغة، فإنه موضوع للتكلف كالتحلم والتشجع والتكرم والتحمل ونحوها وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له. كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن يتصبر يصبره الله)) (¬1) وكذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية، كذلك سائر الأخلاق ... - وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر: فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أن التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً. - وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر: فإنها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهي حالة في الصبر مع خصمه والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته) (¬2). والفرق بين الاحتمال والصبر: (أن الاحتمال للشيء يفيد كظم الغيظ فيه، والصبر على الشدة يفيد حبس النفس عن المقابلة عليه بالقول والفعل، والصبر عن الشيء يفيد حبس النفس عن فعله، وصبرت على خطوب الدهر أي حبست النفس عن الجزع عندها، ولا يستعمل الاحتمال في ذلك لأنك لا تغتاظ منه) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1469) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) ((عدة الصابرين)) لابن القيم – بتصرف- (ص 41). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 22).

لماذا سمي الصبر صبرا؟

لماذا سمي الصَبرُ صبراً؟ حكى أبو بكر بن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: (إنما سمي الصبر صبرا لأن تمرره في القلب وإزعاجه للنفس كتمرر الصِبْر في الفم) (¬1). ¬

(¬1) ((ذم الهوى)) لابن الجوزي (ص 58).

فضل الصبر والحث عليه من القرآن والسنة

فضل الصبر والحث عليه من القرآن والسنة فضل الصبر والحث عليه من القرآن الكريم: الصبر من أكثر الأخلاق التي اعتنى بها القرآن الكريم، وهو من أكثر ما تكرر ذكره في القرآن. قال الإمام أحمد رحمه الله: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعاً) (¬1). وقد سيق الصبر في القرآن في عدة أنواع ذكرها ابن القيم في كتابه (عدة الصابرين) ونحن نذكر بعضها: - أحدها: الأمر به كقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127] وقال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور:48]. - الثاني: النهي عما يضاده كقوله تعالى: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:46] وقوله: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]. - الثالث: تعليق الفلاح به كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 3] فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور. - الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54] وقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. - الخامس: تعليق الإمامة في الدين، به وباليقين قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] (¬2). فضل الصبر والحث عليه من السنة النبوية: - من فضائل الصبر أن من يتصبر يصبره الله، فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-: ((أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)) (¬3). (قوله صلى الله عليه وسلم ((ومن يتصبر)): أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُك إِلَّا بِاَللَّهِ [النحل:127] أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه. ((يصبِّره الله)): بالتشديد أي: يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات. ويؤيد إرادة معنى العموم. قوله: ((وما أعطي أحد من عطاء)): أي معطى أو شيئا. ((أوسع)): أي أشرح للصدر. ((من الصبر)): وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات) (¬4). - وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصبر عند الصدمة الأولى، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((مرّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتّقي الله واصبري. قالت: إليك عنّي فإنّك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فقيل لها: إنّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتت باب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم تجد عنده بوّابين. فقالت: لم أعرفك. فقال: إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى)) (¬5). ¬

(¬1) ((عدة الصابرين)) لابن القيم (113). (¬2) ((عدة الصابرين)) لابن القيم – بتصرف يسير (ص: 114) (¬3) رواه البخاري (1469) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) لشمس الحق العظيم أبادي (5/ 59). (¬5) رواه البخاري (1283) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

قال ابن القيم رحمه الله: (فإن مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر وأيضا فإن المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه وهى الصدمة الأولى وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطن لها وعلم أنه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار وهذه المرأة لما علمت أن جزعها لا يجدي عليها شيئا جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت فأخبرها أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى) (¬1). - وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: ((أنّه قال لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنّة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السّوداء أتت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: إنّي أصرع وإنّي أتكشّف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنّة. وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت: أصبر. قالت: فإنّي أتكشّف فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها)) (¬2). - وبين صلى الله عليه وسلم أن من صبر على فقد عينيه عوضه الله الجنة فعن أنس- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ الله- عزّ وجلّ- قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر عوّضته منهما الجنّة يريد عينيه)) (¬3). قال ابن بطال: (في هذا الحديث حجة في أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على العبد وإن كانت من أجل نعم الله تعالى فعوض الله عليها الجنة أفضل من نعمتها في الدنيا لنفاد مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنة) (¬4). - وعن صهيب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له)) (¬5). قال ابن عثيمين: (قوله: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان لأمر المؤمن أي لشأنه فإن شأنه كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. ثم فصل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر الخير فقال: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. هذه حال المؤمن وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين: إما سراء وإما ضراء والناس في هذه الإصابة ينقسمون إلى قسمين مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله وانتظر الفرج من الله واحتسب الأجر على الله فكان خيراً له فنال بهذا أجر الصابرين. وإن أصابته سراء من نعمة دينية كالعلم والعمل الصالح ونعمة دنيوية كالمال والبنين والأهل شكر الله وذلك بالقيام بطاعة الله عز وجل. فيشكر الله فيكون خيراً له، ويكون عليه نعمتان نعمة الدين ونعمة الدنيا، نعمة الدنيا بالسراء ونعمة الدين بالشكر هذه حال المؤمن. وأما الكافر فهو على شر والعياذ بالله إن أصابته الضراء لم يصبر بل يضجر ودعا بالويل والثبور وسب الدهر وسب الزمن ... وفيه الحث على الصبر على الضراء وأن ذلك من خصال المؤمنين فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابراً محتسباً تنتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى وتحتسب الأجر على الله فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت بالعكس فلم نفسك وعدل مسيرك وتب إلى الله) (¬6). ¬

(¬1) ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص 121). (¬2) رواه البخاري (5652)، ومسلم (2576) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (5653) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 377). (¬5) رواه مسلم (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه. (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/ 197 - 199).

أقوال السلف والعلماء في الصبر

أقوال السلف والعلماء في الصبر - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما) (¬1). - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له) (¬2). وقال: (الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو) (¬3). - وقال عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر، إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزع منه، ثم قرأ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].) (¬4). - (وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما بذلك فقال: (أيسرك ببصرك مئة ألف؟ قال: لا. قال: فبسمعك؟ قال: لا. قال: فبلسانك؟ قال: لا. قال: فبعقلك؟ قال: لا ... في خلال. وذكره نعم الله عليه، ثم قال يونس: أرى لك مئين ألوفا وأنت تشكو الحاجة؟!). (¬5). - وعن إبراهيم التيمي، قال: (ما من عبد وهب الله له صبرا على الأذى، وصبرا على البلاء، وصبرا على المصائب، إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله) (¬6). - وعن الشعبي، قال شريح: (إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني) (¬7). - وقال ميمون بن مهران: (الصبر صبران، الصبر على المصيبة حسن، وأفضل من ذلك الصبر عن المعاصي) (¬8). - وقال أبو حاتم: (الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائدالمصيبات. فأفضلها الصبر عن المعاصي. فالعاقل يدبر أحواله بالتثبت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبل، حتى يرتقي بها إلى درجة الرضا عن الله جل وعلا في حال العسر واليسر معاً) (¬9). - وقال زياد بن عمرو: (كلنا نكره الموت وألم الجراح، ولكنا نتفاضل بالصبر) (¬10). - وقال زهير بن نعيم: (إن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين: الصبر واليقين، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتم، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتم، وقد ضرب لهما أبو الدرداء مثلا فقال: مثل اليقين والصبر مثل فَدَّادين يحفران الأرض فإذا جلس واحد جلس الآخر) (¬11). وقال عبد الواحد بن زيد: (ما أحببت أن شيئاً من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة) (¬12). ¬

(¬1) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص23). (¬2) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص24). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص294). (¬4) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص30). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 292). (¬6) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص28). (¬7) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 105). (¬8) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص29). (¬9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 162). (¬10) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص44). (¬11) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (4/ 8). (¬12) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 161).

- وقال أبو عبد الرحمن المغازلي: (دخلت على رجل مبتلى بالحجاز فقلت كيف تجدك قال أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به وأجد نعمه علي أكثر من أن أحصيها قلت أتجد لما أنت فيه ألما شديدا فبكى ثم قال: سلِّي نفسي ألمَ ما بي: ما وعد عليه سيدي أهل الصبر من كمال الأجور في شدة يوم عسير قال: ثم غشي عليه فمكث مليا ثم أفاق فقال: إني لأحسب أن لأهل الصبر غدا في القيامة مقاما شريفا لا يتقدمه من ثواب الأعمال شيء إلا ما كان من الرضا عن الله تعالى) (¬1). - وعن عمرو بن قيس الملائي: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال: (الرضا بالمصيبة، والتسليم) (¬2). - وعن ميمون بن مهران قال (ما نال عبد شيئاً من جسم الخير من نبي أو غيره إلا بالصبر) (¬3). - وعن الحسن قال: (سب رجل رجلا من الصدر الأول، فقام الرجل وهو يمسح العرق عن وجهه، وهو يتلو: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43]. قال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون) (¬4). - وقال يحيى بن معاذ: (حفت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء إن صبر نفسه على مضض الدواء اكتسب بالصبر عافية وإن جزعت نفسه مما يلقي طالت به علة الضنا) (¬5). - وقال أبو حاتم: (الصبر جماع الأمر، ونظام الحزم ودعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له. وأول درجته الاهتمام، ثم التيقظ، ثم التثبت، ثم التصبر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات) (¬6). - وقال عمر بن ذر: (من أجمع على الصبر في الأمور فقد حوى الخير، والتمس معاقل البر وكمال الأجور) (¬7). ¬

(¬1) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (4/ 384). (¬2) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص86). (¬3) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 162). (¬4) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص87). (¬5) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (4/ 94). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 161). (¬7) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص113).

أقسام الصبر

أقسام الصبر ينقسم الصبر بعدة اعتبارات: - فباعتبار محله ينقسم إلى ضربين: (ضرب بدني وضرب نفساني، وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري، فهذه أربعة أقسام: الأول: البدني الاختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختياراً وإرادة. الثاني: البدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات، والبرد والحر وغير ذلك. الثالث: النفساني الاختياري، كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا. الرابع: النفساني الاضطراري، كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه. فإذا عرفت هذه الأقسام فهي مختصة بنوع الإنسان دون البهائم ومشاركة للبهائم في نوعين منها وهما: صبر البدن والنفس الاضطراريين، وقد يكون بعضها أقوى صبراً من الإنسان، وإنما يتميز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين، وكثير من الناس تكون قوة صبره في النوع الذي يشارك فيه البهائم لا في النوع الذي يخص الإنسان فيعد صابراً وليس من الصابرين ... فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة، وإن غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين وإن غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم – قال قتادة: خلق الله سبحانه الملائكة عقولا بلا شهوات وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان وجعل له عقلا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم، ولما خلق الإنسان في ابتداء أمره ناقصا لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، فصبره في هذه الحال بمنزلة صبر البهائم، وليس له قبل تمييزه قوة الاختيار، فإذا ظهرت فيه شهوة اللعب استعد لقوة الصبر الاختياري على ضعفها فيه، فإذا تعلقت به شهوة النكاح ظهرت فيه قوة الصبر، وإذا تحرك سلطان العقل وقوي، استعان بجيش الصبر) (¬1). - وباعتبار متعلقه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: (صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها ... فأما الذي من جهة الرب فهو أن الله تعالى له على عبده حكمان: حكم شرعي ديني. وحكم كوني قدري. فالشرعي متعلق بأمره. والكوني متعلق بخلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر. وحكمه الديني الطلبي نوعان بحسب المطلوب، فإن المطلوب إن كان محبوبا له فالمطلوب فعله إما واجبا وإما مستحبا. ولا يتم ذلك إلا بالصبر. وإن كان مبغوضاً له فالمطلوب تركه إما تحريما وإما كراهة. وذلك أيضا موقوف على الصبر. فهذا حكمه الديني الشرعي. وأما حكمه الكوني فهو ما يقضيه ويقدره على العبد من المصائب التي لا صنع له فيها، ففرضه الصبر عليها وفي وجوب الرضا بها قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد أصحهما أنه مستحب فمرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث: فعل المأمور وترك المحظور. والصبر على المقدور وأما الذي من جهة العبد فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفا ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف. فقيام عبودية الأمر والنهي والقدر على ساق الصبر. ولا تستوي إلا عليه كما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها. فالصبر متعلق بالأمور والمحظور والمقدور بالخلق والأمر) (¬2). - وباعتبار تعلق الأحكام الخمسة به ينقسم إلى خمسة أقسام: (إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح. فالصبر الواجب ثلاثة أنواع: أحدها: الصبر عن المحرمات. والثاني: الصبر على أداء الواجبات. والثالث الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها، كالأمراض والفقر وغيرها. ¬

(¬1) ((عدة الصابرين)) لابن قيم الجوزية – بتصرف- (ص: 43) (¬2) ((عدة الصابرين)) لابن قيم الجوزية – بتصرف- (ص: 52)

وأما الصبر المندوب: فهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله. وأما المحظور فأنواع: أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بتركه الموت قال طاوس وبعده الإمام أحمد (من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار) ... ومن الصبر المحظور: صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله، بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له بل يستحب، كما دلت عليه النصوص الكثيرة. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها فقال: ((كن كخير ابني آدم)) (¬1) وفي لفظ ((كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)) (¬2) ... وأما الصبر المكروه فله أمثلة: أحدها: أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه. الثاني: صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به. الثالث: صبره على المكروه. الرابع: صبره عن فعل المستحب. وأما الصبر المباح: فهو الصبر عن كل فعل مستوى الطرفين خير بين فعله وتركه والصبر عليه. وبالجملة فالصبر على الواجب واجب وعن الواجب حرام، والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام. والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه، والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه، والصبر عن المباح مباح والله أعلم) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4259)، وابن ماجه (3961)، وأحمد (4/ 416) (19745) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (101)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2049). (¬2) رواه أحمد (5/ 110) (21101)، والطبراني في ((الكبير)) (4/ 59)، وأبو يعلى (13/ 176) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 305): [فيه من] لم أعرف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/ 103): رجاله ثقات غير الرجل الذي لم يسم وله شاهد. (¬3) ((عدة الصابرين)) لابن قيم الجوزية – بتصرف- (ص: 57)

الصبر المحمود وأقسامه

الصبر المحمود وأقسامه قسم العلماء الصبر المحمود إلى أقسام عدة، فقسمه الماوردي إلى ستة أقسام كما سيأتي، وذكر له ابن القيم ثلاثة أنواع وهو: (صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله فالأول: الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127]. يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر. والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض. والثالث: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها، فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين) (¬1). وقسمه الماوردي إلى ستة أقسام فقال: (فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه؛ لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب، كما قال في محكم الكتاب: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] ... وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر ولا نصيب من صلاح ... وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع وشدة الخوف فإن من خاف الله - عز وجل - وصبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره. الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كده الهم بها فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها. فإن صبر طائعا وإلا احتمل هما لازما وصبر كارها آثما وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: (إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور) (¬2) ... الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق. ... وقال بعض الحكماء: (اجعل ما طلبته من الدنيا فلم تنله مثل ما لا يخطر ببالك فلم تقله) الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بالصبر يتوقع الفرج ومن يدمن قرع باب يلج)) (¬3). وقال الحسن البصري رحمه الله: (لا تحملن على يومك هم غدك، فحسب كل يوم همه.) الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه. وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصبر ضياء)) (¬4). يعني - والله أعلم - أنه يكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور. السادس: الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف. فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه. وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]. ... واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر) (¬5). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 429). (¬2) ذكره الماوردي في ((أدب الدنيا والدين)) (288). (¬3) ذكره الماوردي في ((أدب الدنيا والدين)) (289). (¬4) رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي - بتصرف (295 - 298).

فوائد الصبر

فوائد الصبر من فوائد الصبر أن الصبر: 1 - (دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام. 2 - يورث الهداية في القلب. 3 - يثمر محبّة الله ومحبّة النّاس. 4 - سبب للتّمكين في الأرض. 5 - الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار. 6 - معيّة الله للصّابرين. 7 - الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة. 8 - مظهر من مظاهر الرّجولة الحقّة وعلامة على حسن الخاتمة. 9 - صلاة الله ورحمته وبركاته على الصّابرين) (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (6/ 2471 - 2472).

مراتب الصبر

مراتب الصبر ذكر ابن القيم رحمه الله أربعة مراتب للصبر: (إحداها: مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر لله وبالله. فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها. الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان. الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرئ من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ... الرابع: من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فنصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله، فهذا حال المؤمن الضعيف. وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. فصابر لله وبالله: عزيز حميد، ومن ليس لله ولا بالله: مذموم مخذول، ومن هو بالله لا لله: قادر مذموم، ومن هو لله لا بالله: عاجز محمود) (¬1). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 450).

صور الصبر

صور الصبر إن صور الصبر ومجالاته كثيرة في حياة الإنسان فلا يستغني عنه بحال من الأحوال يقول ابن القيم: (إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال، فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات، وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما) (¬1). ومن هذه المجالات التي ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه عليها: 1 - (ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب ومس المكاره. 2 - ضبط النفس عن السأم والملل، لدى القيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة خلال مدة مناسبة. 3 - ضبط النفس عن العجلة والرعونة، لدى تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية. 4 - ضبط النفس عن الغضب والطيش، لدى مثيرات عوامل الغضب في النفس. 5 - ضبط النفس عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النفس. 6 - ضبط النفس عن الطمع لدى مثيرات الطمع فيها. 7 - ضبط النفس عن الاندفاع وراء أهوائها وشهواتها وغرائزها. 8 - ضبط النفس لتحمل المتاعب والمشقات والآلام الجسدية والنفسية) (¬2). ¬

(¬1) ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم الجوزية (ص 101). (¬2) ملخص من كتاب ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (2/ 294).

موانع التحلي بالصبر

موانع التحلي بالصبر على المسلم الذي يريد أن يتحلى بالصبر أن يحذر من الموانع والعوائق التي تعترض طريقه حتى لا تكون سدا منيعاً أمامه، ومن هذه الموانع: 1 - (الاستعجال: فالنفس مولعة بحب العاجل؛ والإنسان عجول بطبعه حتى جعل القرآن العجل كأنه المادة التي خلق الإنسان منها: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنعام: 37] فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره، وضاق صدره، ناسياً أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل: وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، ولكل ثمرة أوان تنضج فيه، فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه، ولا الشجرة التي تحملها، إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها، وتجري عليها بحساب ومقدار ... 2 - الغضب: فقد يستفز الغضب صاحب الدعوة، إذا ما رأى إعراض المدعوين عنه، ونفورهم من دعوته، فيدفعه الغضب إلى ما يليق به من اليأس منهم، أو النأي عنهم. مع أن الواجب على الداعية أن يصبر على من يدعوهم، ويعاود عرض دعوته عليهم مرة بعد مرة. وعسى أن يتفتح له قلب واحد يوماً، تشرق عليه أنوار الهداية، فيكون خيراً له مما طلعت عليه الشمس وغربت. وفي هذا يقول الله لرسوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاتَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم: 48 - 50] ... 3 - شدة الحزن والضيق مما يمكرون. فليس أشد على نفس المرء المخلص لدعوته من الإعراض عنه، والاستعصاء عليه. فضلاً عن المكر به، والإيذاء له، والافتراء عليه، والافتنان في إعناته. وفي هذا يقول الله لرسوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] ثم يؤنسه بأنه في معيته سبحانه ورعايته فيقول: إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 128] ... 4 - اليأس: فهو من أعظم عوائق الصبر، فإن اليأس لا صبر له، لأن الذي يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده، هو أمله في الحصاد، فإذ غلب اليأس على قلبه، وأطفأ شعاع أمله، لم يبق له صبر على استمرار العمل في أرضه وزرعه. وهكذا كل عامل في ميدان عمله ... ولهذا حرص القرآن على أن يدفع الوهم عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، ولما أمر موسى قومه بالصبر إزاء طغيان فرعون وتهديده، أضاء أمامهم شعلة الأمل، فقال: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 128 - 129]) (¬1). ¬

(¬1) ((الصبر في القرآن الكريم)) ليوسف القرضاوي باختصار (ص 109).

الوسائل المعينة على الصبر

الوسائل المعينة على الصبر من الوسائل التي تعين على الصبر: 1 - أن يتدبر المرء القرآن الكريم وينظر إلى آياته نظرة تأمل: قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155 - 157] 2 - أن يستعين بالله في مصابه: من أصيب بمصيبة أن حظّه من المصيبة ما يحدث له من رضا فمن رضي فله الرضا، ومن تسخط فله السخط. 3 - أن يعلم أن ما أصابه مقدر من الله: قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ?لأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلا تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22، 23]. 4 - أن يتذكر أعظم المصائب التي حلت بالأمة الإسلامية؛ وهي موت الرسول صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب)) (¬1). 5 - أن يتجنب الجزع وأنه لا ينفعه بل يزيد من مصابه: قال ابن القيم رحمه الله: (إن الجزع يشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات والكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور) (¬2). 6 - أن يتيقن بأن نعم الدنيا فانية ولا تستقر لأحد، فلا يفرح بإقبالها عليه، حتى لا يحزن بإدبارها عنه. 7 - أن يتسلى المصاب بمن هم أشد منه مصيبة. قال ابن القيم رحمه الله: (ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا خيرة إلا ملأتها عبرة ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور) (¬3). 8 - أن يتسلى المصاب بأنه لله وأن مصيره إليه: قال ابن القيم رحمه الله: (إذا تحقق العبد بأنه لله وأن مصيره إليه تسلى عن مصيبته وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته. أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ... الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ولكن بالحسنات والسيئات فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود.) (¬4). 9 - أن يعلم أن ابتلاء الله له هو امتحان لصبره: ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (7/ 167)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9678)، والبغوي في ((معجم الصحابة)) (4/ 20)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/ 1440) من حديث سابط القرشي رضي الله عنه. قالابن حجر العسقلاني في ((الإصابة)) (2/ 2): إسناده حسن، لكن اختلف فيه على علقمة. (¬2) ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 173). (¬3) ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 173). (¬4) ((زاد المعاد)) لابن القيم – بتصرف- (4/ 173).

يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: (أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه) (¬1). 10 - أن يعلم أن مرارة الدنيا هي حلاوة الآخرة: قال ابن القيم رحمه الله: (إن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) (¬2) وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة) (¬3). 11 - (أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ. 12 - أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] 13 - أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40]. 14 - أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا. 15 - أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلا يجده في نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: ((ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)) (¬4). 16 - أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له. 17 - أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه مالا يمكن استدراكه. 18 - إن أوذي على ما فعله لله، أو على ما أمر به من طاعته ونهى عنه من معصيته، وجب عليه الصبر، ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله فأجره على الله. 19 - أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر، ورضاه. ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى والمضرات مالا يدفعه عنه أحد من خلقه، قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]. ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 173). (¬2) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822) واللفظ له، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 173). (¬4) رواه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

20 - أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعا لها سامعا منها مقهورا معها، لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. 21 - أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فالله وكيل من صبر، وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها. 22 - أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه، وندامته واعتذاره، ولوم الناس له، فيعود بعد إيذائه له مستحييا منه نادما على ما فعله، بل يصير مواليا له. 23 - ربما كان انتقامه ومقابلته سببا لزيادة شر خصمه، وقوة نفسه، وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه، كما هو المشاهد. فإذا صبر وعفا أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما. 24 - أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالما ينتظر المقت والعقوبة. 25 - أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب إما لتكفير سيئته، أو رفع درجته، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته. 26 - أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه وخوفه وخشيته منه ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه، وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله. 27 - أنه إذا عفا عن خصمه استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه. 28 - أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد له أخرى، وهلم جرا) (¬1). ¬

(¬1) من 11 إلى 28، ملخص من كتاب ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/ 168 - 174).

نماذج في الصبر

نماذج من صبر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم صَبرُ أولي العزم من الرسل على مشاق الدعوة إلى الله صَبَر أولي العزم من الرسل على مشاق الدعوة إلى الله فأبلوا بلاءً حسنا، صبر نوح عليه السلام وقضَّى ألف سنة إلا خمسين عاماً كلها دعوة، وصبر إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به فجُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، فألقي فيها، فكانت بردا وسلاما. وموسى عليه السلام يصبر على أذى فرعون وجبروته وطغيانه. ويصبر عيسى عليه السلام على تكذيب بني إسرائيل له، ورفض دعوته، ويصبر على كيدهم ومكرهم حتى أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، إلا أن الله سبحانه وتعالى نجاه من شرهم. وأما نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما أكثر ما مر عليه من المصائب العظام في سبيل هذا الدين فصبر صلوات ربي وسلامه عليه. قال تعالى آمراً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] قال السعدي رحمه الله: (أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم، وتم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم) (¬1). أيوب عليه السلام وصبره على البلاء كان نبي الله أيوب عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك، قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 32 - 84]. (يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثير، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره) (¬2). نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وصبرهما على طاعة الله رأى نبي الله إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل ورؤيا الأنبياء وحي، فأخبر ابنه بذلك وعرض عليه الأمر. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] (قَالَ إسماعيل صابرا محتسبا، مرضيا لربه، وبارا بوالده: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أي: امض لما أمرك الله سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى. فَلَمَّا أَسْلَمَا أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: تل إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه. وَنَادَيْنَاهُ في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادتنا، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم) (¬3). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (783). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 359). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (705).

نماذج من صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

نماذج من صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغ صبره مبلغاً عظيماً و (لا يُعلم أحد مر به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مر به صلى الله عليه وسلم وهو صابر محتسب وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ [النحل: 127]. صبر على اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحياناً، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب، وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء، وتحزب الخصوم، واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب، وجفاء البادية ومكر اليهود، وعتو النصارى وخبث المنافقين وضراوة المحاربين، وصبر على تجهم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين ... صبر عن الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء وصبر على إغراء الولاية، وبريق المنصب، وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلباً لمرضاة ربه. فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكر واصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه: 13] وكلما بلغ به الحال أشده والأمر أضيقه تذكر: فَصَبْر جَمِيلٌ [يوسف: 18] وكلما راعه هول العدو وأقض مضجعه تخطيط الكفار تذكر فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. فهو مضرب المثل في سعة الصدر، وجليل الصبر، وعظيم التجمل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين، وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم) (¬1). فصبر على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، والجنون: - قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع)) (¬2). - وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا)) (¬3). - وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً)) (¬4). - وصبر صلى الله عليه وسلم على المنافقين: ¬

(¬1) ((محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه)) لعائض القرني – بتصرف - (ص: 31 - 33). (¬2) رواه البخاري (3185)، ومسلم (1794) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه البخاري (3856) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكَاف، تحته قطيفة فدَكِيَّة، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال: فلما غشيت المجلس عجاجة الدَّابة، خمَّر عبد الله بن أبي أنفه ثم قال: لا تغبِّروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء ـ يريد النبي صلى الله عليه وسلم ـ لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى همّوا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبي ـ قال كذا وكذا؟ فقال سعد ـ رضي الله عنه: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة أن يتوجوه فيعصِّبوه بالعصابة ـ أي يجعلوه ملكًا عليهم ـ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت، قال: فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬1). - وصبر صلى الله عليه وسلم على مشاق الحياة وشدتها: فعن عائشة رضي الله عنها-أنها قالت لعروة: ((ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه)) (¬2). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد أخِفتُ في الله، وما يخاف أحد، وقد أوذيت في الله، وما يُؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال)) (¬3). - وصبر صلى الله عليه وسلم على فقد الأولاد والأحباب: فمات عمه أبو طالب، وتوفيت زوجته خديجة، وتوفي ابنه، وقتل عمه حمزة، فصلوات ربي وسلامه عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري (6254)، ومسلم (1798) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (6459) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه الترمذي (2472)، وابن ماجه (151)، وأحمد (3/ 286) (14087) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/ 299)، وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2472).

نماذج من صبر الصحابة رضوان الله عليهم

نماذج من صبر الصحابة رضوان الله عليهم (علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يصبرون في مختلف الأمور وضروبها، فقد علمهم الصبر من أجل هذا الدين، والتضحية في سبيله) (¬1). (والصحابة رضي الله عنهم لهم مواقف كثيرة جدا لا يستطيع أحد أن يحصرها، لأنهم رضي الله عنهم باعوا أنفسهم، وأموالهم، وحياتهم لله، ابتغاء مرضاته، وخوفاً من عقابه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة) (¬2). وإليك نماذج من صبرهم رضي الله عنهم وأرضاهم: صَبرُ آل ياسر رضي الله عنهم وآل ياسر رضي الله عنهم - عمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية - يعذبهم المشركون بسبب إيمانهم فيصمدون، عن عثمان رضي الله عنه قال: (أما إني سأحدثكم حديثا عن عمار: أقبلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم في البطحاء حتى أتينا على عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون. فقال ياسر للنبي صلى الله عليه وسلم: الدهر هكذا. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: اصبر. ثم قال: اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت) (¬3). وروى الحاكم في المستدرك عن ابن إسحاق قال: ((كان عمار بن ياسر وأبوه وأمه أهل بيت إسلام وكان بنو مخزوم يعذبونهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) (¬4). بلال رضي الله عنه يُعَذَّب فيصبر: فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه يعذب من أجل إيمانه فيصبر. (فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد) (¬5). وعن زر، عن عبد الله قال: (أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد. فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر: فمنعهما الله بقومهما. وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد) (¬6). أم سلمة رضي الله عنها وصبرها عند فقد ابنها وهذه أم سلمة تصبر عن موت فلذة كبدها، يروي لنا أنس رضي الله عنه قصتها فيقول: ((أن أبا طلحة كان له ابن يكنى أبا عمير قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبا عمير ما فعل النغير؟ قال: فمرض وأبو طلحة غائب في بعض حيطانه فهلك الصبي فقامت أم سليم فغسلته وكفنته وحنطته وسجت عليه ثوبا وقالت: لا يكون أحد يخبر أبا طلحة حتى أكون أنا الذي أخبره فجاء أبو طلحة كالا وهو صائم فتطيبت له وتصنعت له وجاءت بعشائه فقال: ما فعل أبو عمير؟ فقالت: تعشى وقد فرغ قال: فتعشى وأصاب منها ما يصيب الرجل من أهله ثم قالت: يا أبا طلحة أرأيت أهل بيت أعاروا أهل بيت عارية فطلبها أصحابها أيردونها أو يحبسونها؟ فقال: بل يردونها عليهم قالت: احتسب أبا عمير قال: فغضب وانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول أم سليم فقال صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما)) (¬7). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد (ص 197). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لخميس السعيد (ص 89). (¬3) رواه أحمد (1/ 62) (439) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (1/ 410): مرسل، وله إسناد آخر لين، وآخر غريب. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 230): رجاله رجال الصحيح إلا أنه منقطع. وضعف إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 217). (¬4) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 432)، والبيهقي في ((الشعب)) (1515) من حديث ابن إسحاق رحمه الله. (¬5) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 148) من حديث ابن إسحاق رحمه الله. (¬6) ((سير أعلام النبلاء)) (1/ 302). (¬7) رواه مسلم (2144)،وابن حبان في ((صحيحه)) (16/ 158) واللفظ له، من حديث أنس رضي الله عنه.

نماذج من صبر السلف رحمهم الله

نماذج من صبر السلف رحمهم الله عروة بن الزبير رحمه الله وصبره على الابتلاء (وقعت الآكلة في رجل عروة بن الزبير، فصعدت في ساقه، فبعث إليه الوليد، فحُمل إليه ودعا الأطباء فقالوا: ليس له دواء إلا القطع، وقالوا له: اشرب المرقِد، فقال عروة للطبيب: امض لشأنك، ما كنت أظن أن خلقا يشرب ما يزيل عقله حتى يعرف به. فوضع المنشار على ركبته اليسرى، فما سُمع له حسّ، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وما ترك جزءه من القرآن تلك الليلة. قال الوليد: ما رأيت شيخا قط أصبر من هذا. ثم إنه أصيب بابنه محمد في ذلك السفر، ركضته بغلة في اصطبل، فلم يُسمع من عروة في ذلك كلمة. فلما كان بوادي القرى قال: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:63]، اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدا وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت) (¬1). ¬

(¬1) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 430).

نماذج من صبر العلماء المتقدمين

نماذج من صبر العلماء المتقدمين صبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على محنة خلق القرآن (أخذ أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن أيام المأمون، ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، وأخذ معه أيضاً محمد بن نوح مقيدين، ومات المأمون قبل أن يلقاه أحمد، فَرُدَّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في أقيادهما، فمات محمد بن نوح في الطريق، ورد أحمد إلى بغداد مقيدًا. ودخل على الإمام أحمد بعض حفاظ أهل الحديث بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذاكرونه ما يروى في التقيَّة من الأحاديث، فقال أحمد: وكيف تصنعون بحديث خباب: ((إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، ثم لا يصده ذلك عن دينه)) (¬1)؟! فيئسوا منه. وقال إبراهيم البوشنجي: ذكروا أن المعتصم رق في أمر أحمد، لما علق في العقابين، ورأى ثبوته وتصميمه، وصلابته في أمره، حتى أغراه ابن أبي دؤاد، وقال له: إن تركته قيل: إنك تركت مذهب المأمون، وسخطت قوله. فهاجه ذلك على ضربه. وقال أبو غالب ابن بنت معاوية: ضرب أحمد بن حنبل بالسياط في الله، فقام مقام الصِّدِّيقين، في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3612) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه. (¬2) ((صلاح الأمة)) لسيد العفاني (4/ 409).

نماذج من صبر العلماء المعاصرين

نماذج من صبر العلماء المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله وصبره على العلم والتعليم يقول أحد تلامذة الشيخ: (أن الشيخ جلس ليلة ساهرًا، حتى أذن الفجر في المدينة، وهو في نقاش مع الشباب، وبعد أداء الصلاة في المسجد النبوي أراد الشيخ أن يسافر إلى مكة لأداء العمرة، فقلنا له: أنت لم تنم. قال: أجد بي قوة ونشاطًا. فركب السيارة وسافرنا معه إلى مكة وعند الساعة التاسعة صباحًا تقريبًا أوقف السيارة عند ظل شجرة، وقال سأنام ربع ساعة فقط، فإن لم أستيقظ فأيقظوني. فضمرنا في أنفسنا أن لا نوقظ الشيخ حتى يستريح، وبعد ربع ساعة من الوقت استيقظ الشيخ وحده، فركب السيارة وتوجهنا إلى مكة، فأدينا العمرة، ثم ذهبنا إلى بيت صهره ... فإذا طلبة العلم ينتظرون الشيخ، فجلس معهم كما هي عادة الشيخ في نقاش ومناظرة إلى ساعة متأخرة من الليل دون تعب) (¬1). ويقول: (ومما يدل على صبره وجلده في طلب العلم ما حدثني به الدكتور محمود الميرة حفظه الله بأن الشيخ ناصر صعد على السلم في المكتبة الظاهرية ليأخذ كتابًا مخطوطا، فتناول الكتاب وفتحه، فبقي واقفًا على السلم يقرأ في الكتاب لمدة تزيد على الست ساعات) (¬2). ¬

(¬1) ((مقالات الألباني)) نور الدين طالب (218). (¬2) ((مقالات الألباني)) نور الدين طالب (220).

ما هو الباعث على الصبر؟

ما هو الباعث على الصبر؟ يجب أن يكون الباعث على الصبر ابتغاء وجه الله عز وجل، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس وغير ذلك من الأغراض، قال تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22] قال السعدي في تفسيره للآية: (ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة) (¬1). وقال سبحانه: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل) (¬2). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 416). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 264).

كلام نفيس في شروط الصبر

كلام نفيس في شروط الصبر عن أبي ميمون، قال: (إن للصبر شروطا، قلت: - الراوي- ما هي يا أبا ميمون؟ قال: إن من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وما تريد بصبرك؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه، لعلك أن يخلص لك صبرك، وإلا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك، ثم هدأ فهدأت، فلا هي عقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت ولا هي صبرت، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها فحمدت الله على ذلك وشكرت) (¬1). ¬

(¬1) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص53).

الصبر في واحة الشعر ..

الصبر في واحة الشعر .. صبراً جميلاً صبراً جميلاً على ما ناب منحدث ... والصبر ينفع أحياناً إذا صبروا الصبر أفضل شيء تستعين به ... على الزمان إذا مامسك الضرر للصبر عاقبة إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في شيء يحاوله ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر أتاك الروح أتاك الروح والفرج القريب ... وساعدك القضاء، فلا تخيب صبرت، فنلت عقبى كل خير ... كذلك لكل مصطبر عقيب (¬1). فما شدة يوماً فما شدة يوماً، وإن جل خطبها ... بنازلة إلا سيتبعها يسر وإن عسرت يوماً على المرء حاجة ... وضاقت عليه كان مفتاحها الصبر الصبر بالحر أجمل تعز، فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول فإن تكن الأيام فينا تبدلت ... بنعمى وبؤسى، والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ... ولا ذللتنا للذي ليس يجمل ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تحمل مالا تستطيع فتحمل حسبك من صبر إني رأيت الخير في الصبر مسرعاً ... وحسبك من صبر تحوز به أجرا عليك بتقوى الله في كل حالة ... فإنك إن تفعل تصيب به ذخراً (¬2). وإذا عرتك بلية وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم، فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (¬3). تعز بحسن الصبر تعز بحسن الصبر عن كل هالك ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم إذا أنت لم تسل اصطباراً وخشية ... سلوت على الأيام مثل البهائم وليس يذود النفس عن شهواتها ... من الناس إلا كل ماضي العزائم غاية الصبر غاية الصبر لذيذ طعمها ... وبدى الصبر منه كالصبر إن في الصبر لفضلا بينا ... فاحمل النفس عليه تصطبر ومن يصبر يجد غب صبره صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ... ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم ومن لا يطب نفساً، ويستبق صاحبا ... ويغفر لأهل الود يضرم ويصرم (¬4). إذا لم تسامح إذا لم تسامح في الأمور تعقدت ... عليك فسامح واخرج العسر باليسر فلم أر أوفى للبلاء من التقى ... ولم أر للمكروه أشفى من الصبر (¬5) اصبر لكل مصيبة اصبر لكل مصيبة، وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد أوما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد مرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة ... هذا سبيل لست فيه بأوحد فإذا ذكرت محمداً ومصابه ... فاذكر مصابك بالنبي محمد (¬6). مفتاح باب الفرج مفتاح باب الفرج الصبر ... وكل عسر معه يسر والدهر لا يبقى على حاله ... والأمر يأتي بعده الأمر والكره تفنيه الليالي التي ... يفنى عليها الخير والشر وكيف يبقى حال من حاله ... يسرع فيها اليوم والشهر (¬7) يعزى المعزى يعزى المعزى، ثم يمضي لشأنه ... ويبقى المعزى في أحر من الجمر ويرمى المعزى بعد ذاك بسلوة ... ويثوي المعزى عنه في وحشة القبر من يسبق السلوة من يسبق السلوة بالصبر ... فاز بفضل الحمد الأجر ياعجبي من هلع جازع ... يصبح بين الذم والوزر مصيبة الإنسان في دينه ... أعظم من جائحة الدهر تجري المقادير تجري المقادير إن عسرا وإن يسرا ... حاذرت واقعها أو لم تكن حذرا والعسر عن قدر يجري إلى يسر ... والصبر أفضل شيء وافق الظفرا (¬8). ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 161). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 162). (¬3) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 435). (¬4) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 163). (¬5) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص45). (¬6) ((غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب)) للسفاريني (ص 276). (¬7) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص58). (¬8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 164).

وأخيرا ... ؟

وأخيراً ... ؟ وأخيراً أيها القارئ العزيز هل حدثت نفسك عن الصبر؟ وهل عرفت كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وما تريد بصبرك؟ ومن خلال قراءتك للموضوع هل استفدت من الوسائل المعينة على الصبر؟ وربما مررت بنماذج من صبر الأنبياء عليهم السلام، وصبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصبر الصحابة رضي الله عنهم، وصبر السلف والعلماء رحمهم الله، فهل حدثت نفسك لأن تحذو حذوهم وتتحلى بهذه الصفة النبيلة؟

الصدق

معنى الصدق لغة واصطلاحاً معنى الصدق لغة: قال ابن منظور: (الصِّدْق نقيض الكذب صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقاً وصِدْقاً وتَصْداقاً وصَدَّقه قَبِل قولَه وصدَقَه الحديث أَنبأَه بالصِّدْق قال الأَعشى: فصدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُه كِذابُهْ ويقال صَدَقْتُ القومَ أي قلت لهم صِدْقاً) (¬1). معنى الصدق اصطلاحاً: الصدق: (هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب) (¬2). وقال الباجي: (الصدق الوصف للمخبر عنه على ما هو به) (¬3). وقال الراغب الأصفهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما) (¬4). معنى الصديقية: الصديقية: هي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل (¬5). وقال القرطبي: (الصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقوله بلسانه) (¬6). وقال ابن تيمية: (فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق وقد يراد به الكامل في التصديق) (¬7). وقال ابن العربي: (وأما الصديق فهو من أسماء الكمال ومعناه الذي صدق علمه بعمله) (¬8). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (10/ 193). (¬2) ((الواضح في أصول الفقه)) لابن عقيل (1/ 129). (¬3) ((إحكام الفصول)) للباجي (ص235). (¬4) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 270). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 8). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (6/ 449) (¬7) ((منهاج السنة)) لابن تيمية (4/ 266). (¬8) ((كتاب التعريفات الاعتقادية)) لسعد آل عبد اللطيف (ص218)، نقلاً عن كتاب: ((قانون التأويل)) لابن العربي (ص343).

الفرق بين الصدق وبعض الصفات

الفرق بين الصدق وبعض الصفات الفرق بين الحق والصدق: (الحق في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره من حق الشيء، يحق، إذا ثبت ووجب. وفي اصطلاح أهل المعاني: الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد، والأديان، والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل. وأما الصدق، فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب. وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق: من جانب الواقع وفي الصدق: من جانب الحكم. فمعنى صدق الحكم: مطابقته للواقع. ومعنى حقيته: مطابقة الواقع إياه، وقد يطلق الحق على الموجد للشيء، وعلى الحكمة، ولما يوجد عليه، كما يقال: الله: حق، وكلمته: حق) (¬1). الفرق بين الوفاء والصدق: (قيل: هما أعم وأخص. فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء. فإن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول، لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول) (¬2). الفرق بين الصادق والصديق: قال الماوردي: (والفرق بين الصادق والصديق أن الصادق في قوله بلسانه، والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره، فصار كل صديق صادقاً وليس كل صادق صديقاً) (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 194). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 575). (¬3) ((تفسير الماوردي)) (3/ 43).

أهمية الصدق

أهمية الصدق قال ابن القيم في منزلة الصدق: (وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان: أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]) (¬1). وقال أبو حاتم: (إن الله جل وعلا فضل اللسان على سائر الجوارح ورفع درجته وأبان فضيلته بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده فلا يجب للعاقل أن يعود آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق وما يعود عليه نفعه في داريه لأن اللسان يقتضي ما عود إن صدقا فصدقا وإن كذبا فكذبا) (¬2). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 5). (¬2) ((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص51).

معنى: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق

معنى: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق ذكر ابن القيم معاني هذه الأمور في كتابه (مدارج السالكين) فقال: (وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا [الإسراء: 80] - وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء: 84]. - وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى:: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] - وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر: 54 - 55] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق) (¬1). ثم بعد أن سرد الآيات قال: (وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة. - فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله صلى الله عليه وسلم المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضات الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم. فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق. وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك. يريد: أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه من مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته. وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان. - وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] والمراد باللسان هاهنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه. فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] وقوله: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22] وقوله: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16]. - وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة. وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك. فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق. - وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى. ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل) (¬2). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 5). (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 9).

الحث على الصدق من القرآن والسنة

الحث على الصدق من القرآن والسنة الحث على الصدق من القرآن الكريم: أمر الإسلام بالصدق وحث عليه في كل المعاملات التي يقوم بها المسلم والأدلة كثيرة من القرآن والكريم والسنة النبوية على هذا الخلق النبيل ففي القرآن: - قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]. (أي: اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم، ومخرجا) (¬1). وعن عبد الله بن عمر: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] (مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما. وقال الحسن البصري: إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة) (¬2). - ووصف الله به نفسه فقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87] وقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122]. - وقوله: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]. قال الشوكاني: (قوله: وَمَن يُطِعِ الله والرسول [النساء: 69] كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله: فَأُوْلَئِكَ إلى المطيعين، كما تفيده من مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم [النساء: 69] بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم. والصدّيق المبالغ في الصدق، كما تفيده الصيغة. وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة) (¬3). - وقوله: قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119]. (أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا) (¬4). - وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم (أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم (بالمغفرة) لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات وَأَجْرًا عَظِيمًا لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم) (¬5). الحث على الصدق من السنة النبوية: جاءت الأحاديث النبوية متضافرة في الحث على الصدق والأمر به وأنه وسيلة إلى الجنة. ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 230). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 231). (¬3) ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 172). (¬4) ((معالم التنزيل)) للبغوي (3/ 123). (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (664).

- فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (¬1). قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده، والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه، فعرف به، وكتبه الله لمبالغته صديقا إن اعتاده، أو كذابا إن اعتاده. ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، وكما يوضع له القبول والبغضاء وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق بكل ذلك) (¬2). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)) (¬3). - وعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) (¬4). (أي: ((اضمنوا لي ستا)) من الخصال ((من أنفسكم)) بأن تداوموا على فعلها ((أضمن لكم الجنة)) أي دخولها ((اصدقوا إذا حدثتم)) أي لا تكذبوا في شيء من حديثكم إلا إن ترجح على الكذب مصلحة أرجح من مصلحة الصدق في أمر مخصوص كحفظ معصوم ... ) (¬5). - وعن أبي محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) (¬6). (أي: اترك ما تشك في كونه حسنا أو قبيحا أو حلالا أو حراما (إلى ما لا يريبك) أي واعدل إلى ما لا شك فيه يعني ما تيقنت حسنه وحله (فإن الصدق طمأنينة) أي يطمئن إليه القلب ويسكن وفيه إضمار أي محل طمأنينة أو سبب طمأنينة (وإن الكذب ريبة) أي يقلق القلب ويضطرب وقال الطيبي: جاء هذا القول ممهدا لما تقدمه من الكلام ومعناه إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب فارتيابك من الشيء منبئ عن كونه مظنة للباطل فاحذره وطمأنينتك للشيء مشعر بحقيقته فتمسك به والصدق والكذب يستعملان في المقال والأفعال وما يحق أو يبطل من الاعتقاد وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية المطهرة عن دنس الذنوب ووسخ العيوب) (¬7). - وعن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هرقل عظيم الروم قال هرقل: فماذا يأمركم – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – قال أبو سفيان قلت يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة. (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 241 - 243). (¬3) رواه أحمد (2/ 177) (6652)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 449). وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 16)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 298)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1718). (¬4) رواه أحمد (5/ 323) (22809)، والحاكم (4/ 399)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (12691). وقال الذهبي في ((المهذب)) (2/ 2451)، وحسن إسناده ابن كثير في جامع ((المسانيد والسنن)) (5807)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1095). (¬5) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (1/ 684). (¬6) رواه الترمذي (2518)، والنسائي (5711). وقال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه النووي في ((المجموع)) (1/ 181)، وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (318). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 724). (¬8) رواه البخاري (7)، ومسلم (1773).

أقوال السلف والعلماء في الصدق

أقوال السلف والعلماء في الصدق - قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما بويع للخلافة: (أيها النّاس، فإنّي قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة) (¬1). - وقال عمر: (لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المرء وهو محق ويدع الكذب في المزاح وهو يرى أنه لو شاء لغلب) (¬2). - وعن عبد الله بن عمرو قال: (ذر ما لست منه في شيء ولا تنطق فيما لا يعنيك واخزن لسانك كما تخزن دراهمك) (¬3). - وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 42]: (أي لا تخلطوا الصدق بالكذب) (¬4). - وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: (كان عبد الملك بن مروان يأمرني أن أجنب بنيه السمن وكان يأمرني أن لا أطعم طعاما حتى يخرجوا إلى البراز وكان يقول علم بني الصدق كما تعلمهم القرآن وجنبهم الكذب وإن فيه كذا وكذا يعني القتل) (¬5). - وقال ابن سيرين: (الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف) (¬6). - وقال ميمون بن ميمون: (من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه) (¬7). - وقال الفضيل بن عياض: (ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب) (¬8). - وقالوا: (من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه) (¬9). - وقال الأحنف لابنه: (يا بني، يكفيك من شرف الصدق، أن الصادق يقبل قوله في عدوه ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوه، لكل شيء حليةٌ، وحليةٌ المنطق الصدق يدل على اعتدال وزن العقل) (¬10). - وقال إبراهيم الخواص: (الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه) (¬11). - وقيل: (ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة) (¬12). - وقال أبو حاتم: (الصدق يرفع المرء في الدارين كما أن الكذب يهوى به في الحالين ولو لم يكن الصدق خصلة تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قبل كذبه وصار صدقا عند من يسمعه لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب والعي في بعض الأوقات خير من النطق لأن كل كلام أخطأ صاحبه موضعه فالعي خير منه) (¬13). - وقال الجنيد: (حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب) (¬14). - وقال القيني: (أصدق في صغار ما يضرني لأصدق في كبار ما ينفعني) (¬15). - وقال بعض البلغاء: (الصادق مصان خليل، والكاذب مهان ذليل. وقال بعض الأدباء: لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق) (¬16). - وقال بعضهم: (من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وقيل: ما أملق تاجر صدوق) (¬17). - (وروي أن بلالا لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده، فقال: اليوم أكذبه فسايره، فقال له: يا بلال ما سن فرسك؟ قال عظم، قال: فما جريه؟ قال: يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمي، قال: ابن من أنت قال ابن أبي وأمي، قال: فكم أتي عليك؟ قال: ليالٍ وأيامٌ، الله أعلم بعدها، قال: هيهات، أعيت فيك حيلتي، ما أتعب بعد اليوم أبدا) (¬18). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((التاريخ)) (3/ 210)، وابن الأثير في ((الكامل)) (2/ 192). (¬2) رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص 55). (¬3) رواه البيهقي في ((الشعب)) (7/ 66) (4653)، وابن حبان ((روضة العقلاء)) (55). (¬4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (1/ 568). (¬5) ((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 51). (¬6) ((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 56). (¬7) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 27). (¬8) ((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 52). (¬9) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 26). (¬10) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 224). (¬11) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 20). (¬12) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 20). (¬13) ((روضة العقلاء)) لأبي حاتم البستي (ص 54). (¬14) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 20). (¬15) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 28). (¬16) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص270). (¬17) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 22). (¬18) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 225).

فوائد وآثار الصدق

فوائد وآثار الصدق إذا تمكن الصدق من القلب سطع عليه نوره، وظهرت على الصادق آثاره، في عقيدته وعباداته، وأخلاقه وسلوكياته، ومن هذه الآثار: 1 - سلامة المعتقد: فمن أبرز آثار الصدق على صاحبه: سلامة معتقده من لوثات الشرك ما خفي منه وما ظهر. 2 - البذل والتضحية لنصرة الدين: فالصادق قد باع نفسه وماله وعمره لله، ولنصرة دين الله؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، همه رضا مولاه. 3 - الهمة العالية: الصادقون أصحاب همة عالية، وعزيمة قوية ماضية، همهم رضا ربهم، يسيرون معها أين توجهت ركائبها، ويستقلون معها أين استقلت مضاربها؛ ترى الصادق قد عمر وقته بالطاعات، وشغله بالقربات، (فبينما هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو، ثم في حج، ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع، ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا، ثم في عيادة مريض، أو تشييع جنازة، أو نصر مظلوم – إن أمكن – إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع) (¬1). 4 - تلافي التقصير واستدراك التفريط: الصادق قد تمر به فترة ولكنها إلى سنة، وقد يعتريه تقصير ولكنه سرعان ما يتلاقاه بتكميل، وقد يلم بذنب ولكنه سريع التيقظ والتذكر فيقلع ويندم ويرجع: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. وقد يحصل منه تفريط فيستدرك، فبالصدق (يتلاقى كل تفريط، فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة، ويعمر منه ما خربته يد البطالة، ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة) (¬2). 5 - حب الصالحين وصحبة الصادقين: من علامات الصادق، وأثر الصدق في قلبه، أنه يضيق بصحبة أهل الغفلة، ولا يصبر على مخالطتهم إلا بقدر ما يبلغهم به دعوة الله وينشر الخير بينهم، فلا يصحبهم إلا لضرورة من دين أو دنيا؛ ذلك لأن ((المرء على دين خليله)) (¬3)، والصاحب ساحب، وكل قرين بالمقارن يقتدي؛ ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]، وقال الله تعالى للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]. فمجالسة الصالحين نعمة يستعين بها المرء للوصول إلى رضا ربه. 6 - الثبات على الاستقامة: فمن آثار الصدق تمسك الصادق بدينه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، سلوكاً وهدياً؛ فالتزامه بهذا الدين ليس انتقائياً، يلتزم بما يهوى ويترك ما لا يروق له ولا تشتهيه نفسه، كما أنه التزام ثابت راسخ غير متذبذب ولا متردد، لا تغويه الشبهات، ولا تغريه الشهوات، ولا تستزله الفتن، ولا تزلزله المحن. 7 - البعد عن مواطن الريب: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)) (¬4). 8 - حصول البركة في البيع والشراء: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) (¬5). 10 - الوفاء بالعهود: قال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: (وعلامة الصادق: ألا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد)) (¬6) (¬7). ¬

(¬1) ((المدارج)) (ص: 310). (¬2) ((المدارج)) (ص: 315). (¬3) رواه أحمد (2/ 334) (8398)، والحاكم (4/ 188)، والطيالسي (4/ 299) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 470): حسن غريب. وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (151)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (15/ 178). (¬4) رواه الترمذي (2518)، والنسائي (5711). وقال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه النووي في ((المجموع)) (1/ 181)، وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (318). (¬5) رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532). (¬6) ((المدارج)) (2/ 315). (¬7) ((الرائد ... دروس في التربية والدعوة)) لمازن بن عبد الكريم الفريح (3/ 255). بتصرف يسير.

الوسائل المعينة على الصدق

الوسائل المعينة على الصدق (الصدق شاق على النفس؛ ولهذا قال ابن القيم: فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل، والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلاً البتة، فهو حامل له في أي موضع اتفق، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة، فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله). ولكن مع هذا، فإن المرء إذا جد وجاهد أدرك وعد الله للمجاهدين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]. ومما يعين على الصدق: 1 - مراقبة الله تعالى: إن إيمان المرء بأن الله عز وجل معه، يبصره ويسمعه، يدفعه للخشية والتحفظ، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7]. وعندما يستحضر أن كلماته وخطراته، وحركاته وسكناته كلها محصية مكتوبة: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10 - 11]، فإن ذلك يقوده إلى رياض الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال. 2 - الحياء: الحياء يحجب صاحبه عن كل ما هو مستقبح شرعاً وعرفاً وذوقاً، والمرء يستحيي أن يعرف بين الناس أنه كذاب، وهذا هو الذي حمل أبا سفيان – وهو يومئذ مشرك – أن يصدق هرقل وهو يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه) (¬1)، أي: ينقلوا عليَّ الكذب لكذبت عليه. قال ابن حجر: (وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب، إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعرف .. وقد ترك الكذب استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذاباً) (¬2). قلت: فالمسلم أولى بالحياء من ربه أن يسمعه يقول كذباً أو يطلع على عمل أو حال هو فيه كاذب. 3 - صحبة الصادقين: فقد أمر الله – عز وجل – المؤمنين أن يكونوا مع أهل الصدق، فقال –عز وجل-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، أي: اقتدوا بهم واسلكوا سبيلهم، وهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم، ووفوا بعهودهم وصدقوا في أقوالهم وأعمالهم. 4 - إشاعة الصدق في الأسرة: (الإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها). فعن عبد الله بن عامر قال: ((دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها: أما لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة!)) (¬3). 5 - الدعاء: لما كان حمل النفس على الصدق في جميع أمورها شاق عليها، ولا يمكن لعبد أن يأتي به على وجهه إلا بإعانة الله له وتوفيقه إليه، أمر الله نبيه أن يسأله الصدق في المخرج والمدخل، فقال عز وجل: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا [الإسراء: 80]. وقد ذكر المفسرون عدة أقوال في تأويلها. 6 - معرفة وعيد الله للكذابين وعذابه للمفترين: قد جاءت النصوص الكثيرة التي تحذر من الكذب وتبين سوء عاقبته في الدنيا والآخرة؛ ولهذا فإن تذكير النفس بها، مما يعين المرء على الصدق في أحواله كلها) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (7). (¬2) ((الفتح)): (1/ 35)، بتصرف يسير. (¬3) رواه أبو داود (4991)، وأحمد (3/ 447) (15740). وسكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (4/ 395)، والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4991). (¬4) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن بن عبد الكريم الفريح (3/ 251). بتصرف يسير.

نماذج في الصدق

نماذج من حياة الأنبياء عليهم السلام مع الصدق الأنبياء عليهم السلام كلهم موصوفون بالصدق، وقد ذكر الله أنبياءه بالصدق فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [مريم: 41] وقال سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [مريم: 56] وقد أخبر الله عن نبيه إبراهيم عليه السلام بأنه سأله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين فقال: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء: 84]. كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم السلام وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] والمراد باللسان الثناء الحسن من سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب. وأثنى الله على إسماعيل، فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً [مريم: 54]. وَوُصف يوسف عليه السلام بالصدق حينما جاءه الرجل يستفتيه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ [يوسف:46]. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً [الإسراء: 80] وقال تعالى: وَالَّذِي جَاءبِالصِّدْقِوَصَدَّقَبِهِ [الزمر: 33] قال السعدي في تفسير قوله: وَالَّذِي جَاءبِالصِّدْقِ (أي: في قوله وعمله، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم، ممن صدق فيما قاله عن خبر الله وأحكامه، وفيما فعله من خصال الصدق وَصَدَّقَبِهِ أي: بالصدق لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق، ولكن قد لا يصدق به، بسبب استكباره، أو احتقاره لمن قاله وأتى به، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق، فصدقه يدل على علمه وعدله، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره) (¬1). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 724).

الرسول صلى الله عليه وسلم إمام الصادقين:

الرسول صلى الله عليه وسلم إمام الصادقين: (الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: أو كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال: هرقل فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل (¬1)) (¬2). وكانت حياته صلى الله عليه وسلم (أفضل مثال للإنسان الكامل الذي اتخذ من الصدق في القول والأمانة في المعاملة خطا ثابتا لا يحيد عنه قيد أنملة، وقد كان ذلك فيه بمثابة السجية والطبع فعرف بذلك حتى قبل البعثة، وكان لذلك يلقب بالصادق الأمين، واشتهر بهذا وعرف به بين أقرانه، وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم من الصدق الذي اشتهر به بين أهله وعشيرته مدخلا إلى المجاهرة بالدعوة، إذ إنه لما نزل قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] جمع أهله وسألهم عن مدى تصديقهم له إذا أخبرهم بأمر من الأمور، فأجابوا بما عرفوا عنه قائلين: ما جربنا عليك إلا صدقا، روى ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((لما نزلت وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ... [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 1 - 2])) (¬3). وقد كان الصدق من خصائص أقواله صلى الله عليه وسلم، يقول صاحب (جلاء الأفهام) ما خلاصته: لقد كان صلى الله عليه وسلم محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا .. وكانت قريش كلها تعرف عنه ذلك، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله أعصم وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه (الصادق المصدوق) وصدق الله عز وجل إذ قال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 1 - 4]) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (7)، ومسلم (1773). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 605). (¬3) رواه البخاري (4770). (¬4) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من المؤلفين (6/ 2475).

نماذج من صدق الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من صدق الصحابة رضي الله عنهم: 1 - أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار، وقد سمي صديقاً لتصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبا بكر الصديق رضي الله عنه. (¬1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت في أول الأمر، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها)) (¬2). 2 - أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة: كان أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وهو شبيه عيسى بن مريم)) (¬3). 3 - كعب بن مالك رضي الله عنه ينجو بالصدق: ¬

(¬1) رواه الحاكم (3/ 81) (4458)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (5/ 321)، والآجري في ((الشريعة)) (1030). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (306): متواتر. (¬2) رواه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (3802)، وابن حبان (16/ 76) (7132) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 342): رجاله موثوقون كلهم. وقال الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (6191): حسن غريب.

وإليك قصة كعب بن مالك تبين صدق الصحابة رضي الله عنهم وهذه القصة وقعت في غزوة تبوك، ولنترك الحديث لعبد الله بن كعب بن مالك حتى يروي لنا القصة، فعن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك قال كعب: ((لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر ... قال كعب بن مالك فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس قلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست يديه فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك. فقلت بلى إني والله - يا رسول الله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما؟ قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ...

فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما لقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ - إلى قوله - وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 117 - 119]. فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ - إلى قوله – فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 95 - 96])) (¬1). 4 - عبد الله بن جحش رضي الله عنه يتمنى بالصدق: عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال حدثني أبي ((أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: ألا نأتي ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا سعد قال يا رب إذا لقينا القوم غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده فأقاتله فيك ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه فأمن عبد الله بن جحش ثم قال اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا حرده شديدا بأسه أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك فأقول فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم فتقول صدقت قال سعد بن أبي وقاص يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وأن أذنه وأنفه لمعلقان في خيط)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769). (¬2) رواه الحاكم (2/ 86)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (12769)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/ 1607). قال الهيثمي في ((المجمع)) (9/ 304): رجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 285).

صور الصدق

صور الصدق (اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق لأنه مبالغة في الصدق. 1 - صدق اللسان: وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها. فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق ولكن لهذا الصدق كمالان، فالكمال الأول في اللفظ أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضا إلا عند الضرورة والكمال الثاني أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه. 2 - صدق النية والإرادة: ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يسمى كاذبا. 3 - صدق العزم: فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه إن رزقني الله مالا تصدقت بجميعه أو بشطره أو إن لقيت عدوا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة. 4 - صدق الوفاء بالعزم: فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم وهذا يضاد الصدق فيه ولذلك قال الله تعالى رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فقد روي عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع قال فشهد أحدا في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا أبا عمرو إلى أين فقال واها لريح الجنة إني أجد ريحها دون أحد، فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر ما عرفت أخي إلا بثيابه فنزلت هذه الآية رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] (¬1). 5 - صدق في الأعمال: وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به لا بأن يترك الأعمال ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر وهذا مخالف ما ذكرناه من ترك الرياء لأن المرائي هو الذي يقصد ذلك ورب واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة فمن ينظر إليه يراه قائما بين يدي الله تعالى وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعرابا هو فيه كاذب وهو مطالب بالصدق في الأعمال وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفا بذلك الوقار فهذا غير صادق في عمله وإن لم يكن ملتفتا إلى الخلق ولا مرائيا إياهم ولا ينجو من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية بأن يكون باطنه مثل ظاهرة أو خيرا من ظاهره. 6 - الصدق في مقامات الدين: وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل وغيرها من الأمور) (¬2). ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (2805). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي. بتصرف.

عظمة الصدق

عظمة الصدق ذكر ابن القيم من الفوائد المستنبطة من قصة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك قال: (ومنها عظم مقدار الصدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ولا أهلك من أهلكه إلا أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]. وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين سعداء وأشقياء فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس. فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب. وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم. وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه بل هو لبه وروحه. والكذب بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ولبه فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده والله المستعان) (¬1). ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 480).

دواعي الصدق

دواعي الصدق تحدث الماوردي عن دواعي ودوافع الصدق التي تجعل الشخص صادقاً فذكر منها: (العقل؛ لأنه موجب لقبح الكذب، لا سيما إذا لم يجلب نفعا ولم يدفع ضررا. والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسنا، ويمنع من إتيان ما كان مستقبحا. ومنها: الدين الوارد باتباع الصدق وحظر الكذب؛ لأن الشرع لا يجوز أن يرد بإرخاص ما حظره العقل، بل قد جاء الشرع زائدا على ما اقتضاه العقل من حظر الكذب؛ لأن الشرع ورد بحظر الكذب وإن جر نفعا أو دفع ضررا. والعقل إنما حظر ما لا يجلب نفعا ولا يدفع ضررا. ومنها: المروءة فإنها مانعة من الكذب باعثة على الصدق؛ لأنها قد تمنع من فعل ما كان مستكرها، فأولى من فعل ما كان مستقبحا. ومنها: حب الثناء والاشتهار بالصدق حتى لا يرد عليه قول ولا يلحقه ندم) (¬1). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي. بتصرف.

حاجة المجتمع إلى خلق الصدق

حاجة المجتمع إلى خلق الصدق تبدو لنا حاجة المجتمع الإنساني إلى خلق الصدق، حينما نلاحظ أن شطراً كبيرا من العلاقات الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية، تعتمد على شرف الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيراً صادقاً عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى كافية نعرف فيها إرادات الناس، ونعرف فيها حاجاتهم ونعرف فيها حقيقة أخبارهم. لولا الثقة بشرف الكلمة وصدقها لتفككت معظم الروابط الاجتماعية بين الناس، ويكفي أن نتصور مجتمعاً قائما على الكذب لندرك مبلغ تفككه وانعدام صور التعاون بين أفراده. كيف يكون لمجتمع ما كيان متماسك وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق؟ وكيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة أو تاريخ أو حضارة؟ كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني؟ كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع؟ كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟ كيف يوثق بالدعاوى والشهادات ودلائل الإثبات القولية ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟ (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 485).

الأمور التي تخل بالصدق

الأمور التي تخل بالصدق هذه بعض الآفات التي تخل بصدق المسلم، وتوهن أركان الصدق في شخصيته؛ ولذا يجب الحذر منها، ومجاهدة النفس على الابتعاد عنها، والتخلص منها، ومن هذه الأمور: 1 - الكذب الخفي: الرياء، وهو الشرك الخفي، الذي تختلف فيه سريرة المرء عن علانيته، وظاهره عن باطنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، اتقوا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل. قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه)) (¬1). 2 - الابتداع: إن من كمال الصدق حسن الاتباع، وبقدر استمساك المرء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون صدقه مع ربه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31]، أي: إن كنتم صادقين في محبتكم لربكم اتبعوا سنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فعلامة صدق المحبة كمال الاتباع؛ ولهذا (كانت الصديقيَّة: كمال الإخلاص والانقياد، والمتابعة للخبر والأمر، ظاهراً وباطناً). 3 - كثرة الكلام: من كثر كلامه كثر سقطه؛ إذ لا يخلو – في كثير من الأحيان – من التزيد واللغو أو الهذر الذي إذا لم يضر فإنه لا ينفع، وقد قال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114]. ومن الكذب أن يحدث الإنسان بكل ما يسمع من أحاديث وأخبار دون تحرير لها ولا تنقيح؛ لأنه بتهاونه وإهماله وعدم تحريه الصدق في الأخبار يساهم في نشر الأكاذيب وإشاعتها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) (¬2). 4 - مداهنة النفس: الاسترسال مع النفس في أهوائها وشهواتها، ليست من صفات الصادقين؛ ولهذا قيل: (لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره) (¬3). فكلما ألجمها بلجام المجاهدة وزمها بزمام المراقبة والمحاسبة ثبتت على الصدق قدمه. 5 - التناقض بين القول والعمل: لقد عد بعض السلف مخالفة عمل المرء لقوله أمارة كذب ونفاق. قال إبراهيم التيمي: (ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً) (¬4) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 403) (19622)، وابن أبي شيبة (6/ 70) (29547)، والطبراني في ((الأوسط)) (4/ 10) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 226): رجاله رجال الصحيح غير أبي علي ووثقه ابن حبان. وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (36). (¬2) رواه مسلم في المقدمة (باب النهي عن الحديث بكل ما سمع). (¬3) ((المدارج)) (2/ 311). (¬4) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (48)، ووصله ابن أبي شيبة (7/ 160) (34970)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1580). (¬5) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن بن عبد الكريم الفريح (3/ 255). بتصرف يسير.

الأمثال في الصدق

الأمثال في الصدق 1 - قولهم: سُبَّنِي واصْدُق: يقال ذلك في الحض على الصدق والنهي عن الكذب، يقول إني لا أبالي إن تسبني بما أعرفه من نفسي بعد أن تجانب الكذب (¬1). 2 - لا يكذب الرائد أهله: والرائد هو الذي يقدمونه ليرتاد لهم كلأً أو منزلا أو ماء أو موضع حرز يلجؤون إليه من عدو يطالبهم، فإنَّ كذبهم أو غرهم صار تبذيرهم على خلاف الصواب، فكانت فيه هلكتهم (¬2). 3 - الصِّدْقُ عِزٌّ وَالْكَذِبُ خُضُوعٌ: يضرب في مَدْحِ الصدق وذم الكذب (¬3). 4 - إنَّ الكَذُوب قد يَصْدُق: يقال في الرجل المعروف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحياناً (¬4). 5 - لا يعدم الحسناء ذماً: يقال في الرجل المعروف بالإصابة والصدق، تكون منه الزلة والسقطة (¬5). ¬

(¬1) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص46). (¬2) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص49). (¬3) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (ص 408). (¬4) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص50) (¬5) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص51).

الصدق في واحة الشعر ..

الصدق في واحة الشعر .. قال الشاعر: عود لسانك قول الخير تحظ به ... إن اللسان لما عودت معتاد موكل بتقاضي ما سننت له ... فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد وقال آخر: كذبت ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدقا إذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذابا وإن كان صادقا ومن آفة الكذاب نسيان كذبه ... وتلقاه إذا فقه إذا كان حاذقا وأنشد محمد بن عبد الله البغدادي: إذا ما المرء أخطأه ثلاث ... فبعه ولو بكف من رماد سلامة صدره والصدق منه ... وكتمان السرائر في الفؤاد وقال آخر: وإذا الأمور تزاوجت ... فالصدق أكرمها نتاجا الصدق يعقد فوق رأس ... حليفه بالصدق تاجا والصدق يقدح زنده ... في كل ناحية سراجا تحدث بصدق إن تحدثت وليكن ... لكل حديث من حديثك حين فما القول إلا كالثياب فبعضها ... عليك وبعض في التخوت مصون وقال آخر: كم من حسيب كريم كان ذا شرف ... قد شانه الكذب وسط الحي إن عمدا وآخر كان صعلوكا فشرفه ... صدق الحديث وقول جانب الفندا فصار هذا شريفا فوق صاحبه ... وصار هذا وضيعا تحته أبدا ...

الصمت

معنى الصمت لغة واصطلاحاً معنى الصمت لغة: صَمَتَ يَصْمُتُ صَمْتاً وصُموتاً وصُماتاً: سَكَتَ. وأَصْمَتَ مثله. والتَصْميتُ: التَسكيتُ (¬1). وَيُقَال لغير النَّاطِق صَامت وَلَا يُقَال سَاكِت (¬2). وأصمته أَنا إصماتا إِذا أسكته. وَيُقَال: أَخذه الصمات إِذا سكت فَلم يتَكَلَّم (¬3). معنى الصمت اصطلاحاً: قال المناوي: (الصمت: فقد الخاطر بوجد حاضر. وقيل: سقوط النطق بظهور الحق. وقيل: انقطاع اللسان عند ظهور العيان) (¬4). وقال الكفوي: (والصمت إمساك عن قوله الباطل دون الحق) (¬5). أسماء مرادفة للصمت: و (قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء: 1 - الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم (مال ناطق أو صامت). 2 - والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام. 3 - والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى: فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ [الأعراف:204]. 4 - والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد) (¬6). ¬

(¬1) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (1/ 256). (¬2) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (ص: 522). (¬3) ((جمهرة اللغة)) لابن دريد الأزدي (1/ 400). (¬4) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) لزين الدين المناوي (ص: 219). (¬5) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 806). (¬6) ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (4/ 537).

الفرق بين الصمت والسكوت

الفرق بين الصمت والسكوت (الفرق بينهما من وجوه: 1 - أنّ السّكوت هو ترك التّكلّم مع القدرة عليه، وبهذا القيد الأخير يفارق الصّمت؛ فإنّ القدرة على التّكلّم غير معتبرة فيه. 2 - كما أنّ الصّمت يراعى فيه الطّول النّسبيّ فمن ضمّ شفتيه آناً يكون ساكتا ولا يكون صامتا إلّا إذا طالت مدّة الضّمّ. 3 - السّكوت إمساك عن الكلام حقّا كان أو باطلا، أمّا الصّمت فهو إمساك عن قول الباطل دون الحقّ) (¬1). (قال الرّاغب: الصّمت أبلغ من السّكوت؛ لأنّه قد يستعمل فيما لا قوّة له للنّطق وفيما له قوّة النّطق؛ ولهذا قيل لما لا نطق له الصّامت والمصمت، والسّكوت يقال لما له نطق فيترك استعماله) (¬2). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (7/ 2634). (¬2) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) لأبي الحسن الهروي (7/ 3038).

المفاضلة بين الصمت والكلام

المفاضلة بين الصمت والكلام (الصمت في موضعه ربّما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنّك لم تصمت عنه عيّا ولا رهبة. فليزدك في الصّمت رغبة ما ترى من كثرة فضائح المتكلّمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة) (¬1). قال النووي: (وروّينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيريّ رحمه الله قال: الصّمت بسلامة وهو الأصل والسّكوت في وقته صفة الرّجال كما أنّ النّطق في موضعه من أشرف الخصال قال وسمعت أبا عليّ الدّقّاق يقول من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس قال فأمّا إيثار أصحاب المجاهدة السّكوت فلما علموا ما في الكلام من الآفات ثمّ ما فيه من حظّ النّفس وإظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميّز من بين أشكاله بحسن النّطق وغير هذا من الآفات) (¬2). (فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السّكوت كذلك، بل لابدّ من الكلام بالخير والسّكوت عن الشّرّ، وكان السّلف كثيرًا يمدحون الصّمت عن الشّرّ، وعمّا لا يعني لشدّته على النّفس، وذلك يقع فيه النّاس كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السّكوت عمّا لا يعنيهم) (¬3). (ومن مدح الصمت، فاعتباراً بمن يسيء في الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. فإذا ما اعتبرا بأنفسهما، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر عن فضلهما فقال: الصمت عن الخنا، أفضل من الكلام بالخطا) (¬4). وقال شمس الدين السفاريني: (المعتمد أنّ الكلام أفضل لأنّه من باب التّحلية، والسّكوت من التّخلية، والتّحلية أفضل، ولأنّ المتكلّم حصل له ما حصل للسّاكت وزيادةٌ، وذلك أنّ غاية ما يحصل للسّاكت السّلامة وهي حاصلةٌ لمن يتكلّم بالخير مع ثواب الخير) (¬5). وقال ابن تيمية: (فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في صحيح البخاري ‍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه) (¬6). (وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيّهما أفضل الصّمت أو النّطق؟ فقال قوم: الصّمت أفضل، فقال الأحنف: النّطق أفضل، لأنّ فضل الصّمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه. وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصّامت على علم كالمتكلّم على علم، فقال عمر: إنّي لأرجو أن يكون المتكلّم على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً) (¬7). وقال ابن عبد البر: (الكلام بالخير من ذكر الله وتلاوة القرآن وأعمال البرّ أفضل من الصّمت وكذلك القول بالحقّ كلّه والإصلاح بين النّاس وما كان مثله) (¬8). وقال أيضاً: (ممّا يبيّن لك أنّ الكلام بالخير والذّكر أفضل من الصّمت أنّ فضائل الذّكر الثّابتة في الأحاديث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يستحقّها الصّامت) (¬9). وقال النيسابوري: (والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم)) (¬10)). وقال علي بن أبي طالب: (لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل) (¬11). ¬

(¬1) ((الرسائل السياسية)) للجاحظ (ص: 79). (¬2) ((شرح النووي على مسلم)) للنووي (2/ 19 - 20). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 341). (¬4) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (9/ 100). (¬5) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 74). (¬6) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) لابن تيمية (ص: 61). (¬7) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 341). (¬8) ((التمهيد)) لابن عبد البر (22/ 20). (¬9) ((التمهيد)) لابن عبد البر (22/ 20). (¬10) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص71) من حديث خالد بن أبي عمران رحمه الله. وقال السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4427): مرسل حسن. (¬11) ذكره الرازي في ((تفسيره)) (2/ 401)، والنيسابوري في ((غرائب القرآن)) (1/ 227).

فضل الصمت

فضل الصمت إن الشرع قد حث على الصمت ورغب فيه؛ لأنه يحفظ الإنسان من الوقوع في آفات اللسان ومنكرات الأقوال، ويَسْلَمْ به من الاعتذار للآخرين. (عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: أربعٌ لا يصبن إلّا بعجبٍ: الصّمت وهو أوّل العبادة، والتّواضع، وذكر الله، وقلّة الشّيء) (¬1). (وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج) (¬2). و (عن وهيب بن الورد رحمه الله، قال: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاءٍ: فتسعةٌ منها في الصّمت، والعاشرة عزلة النّاس) (¬3). (ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة. أما الذي هو ضرر محض؛ فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر؛ فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر، إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجاً يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم قطعاً أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال: ((من صمت نجا)) (¬4). فلقد أوتي والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص262)، وابن أبي عاصم في ((الزهد)) (ص36)،وابن شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (ص116)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (9/ 366) موقوفا. (¬2) ((البيان والتبيين)) (1/ 245). (¬3) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 62). (¬4) رواه الترمذي (2501)، وأحمد (2/ 159) (6481)، والدارمي (3/ 1781) (2755) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 343): رواته ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6367). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 111 - 112).

الترغيب والحث على الصمت من القرآن والسنة

الترغيب والحث على الصمت من القرآن والسنة الترغيب والحث على الصمت من القرآن الكريم: - قَوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]. قال ابن كثير: (ما يلفظ أي: ابن آدم مِنْ قَوْلٍ أي: ما يتكلم بكلمة إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12]) (¬1). وقال الشوكاني: (أي: ما يتكلم من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه، أي: على ذلك اللافظ رقيب، أي: ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد: الحاضر المهيأ. قال الجوهري: العتيد: الحاضر المهيأ، ... والمراد هنا أنه معد للكتابة مهيأ لها) (¬2). وقال الشنقيطي: (قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ما يلفظ من قول، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه، أي إلا والحال أن عنده رقيبا، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء. عتيد: أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر) (¬3). وقال السمعاني: (أي: رقيب حاضر. قال الحسن: يكتب الملكان كل شيء حتّى قوله لجاريته اسقيني الماء، وناوليني نعلي، أو أعطيني ردائي، ويقال: يكتب كل شيء حتّى صفيره بشرب الماء) (¬4). - وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3]. قال الطبري: (قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ يقول تعالى ذكره: والذين هم عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه معرضون) (¬5). وقال الزجاج: (اللغو كل لعب وهزل، وكل معصية فمطرحة ملغاة، وهم الذين قد شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو) (¬6). وقال السعدي: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، مُعْرِضُونَ رغبة عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه، وإذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا لأمره،) (¬7). - وقوله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72]. قال الطبري: (إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح ... فتأويل الكلام: وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن ينهوا عن ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكل ذلك مرورهم كراما) (¬8). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 398). (¬2) ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 89).بتصرف (¬3) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 427). (¬4) ((تفسير القرآن)) للسمعاني (5/ 240). (¬5) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (19/ 9 – 10). (¬6) ((معاني القرآن)) للزجاج (4/ 6). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 547). (¬8) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (19/ 315 - 316)

وقال السعدي: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم مَرُّوا كِرَامًا أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه وفي قوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه) (¬1). - وقال عز وجل: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. قال القرطبي: (أصل القفو البهت والقذف بالباطل ... فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة) (¬2). وقال الطبري: (معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحق، فذلك هو القفو. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه) (¬3). وقال السعدي: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً، أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له وكفها عما يكرهه الله تعالى) (¬4). الترغيب والحث على الصمت من السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (¬5). قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث آداب وسنن منها التّأكيد في لزوم الصّمت وقول الخير أفضل من الصّمت لأنّ قول الخير غنيمة والسّكوت سلامة والغنيمة أفضل من السّلامة) (¬6). وقال النووي: (وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((فليقل خيرًا أو ليصمت)) (¬7) فمعناه: أنّه إذا أراد أن يتكلّم؛ فإن كان ما يتكلّم به خيرًا محقّقًا يثاب عليه واجبًا أو مندوباً فليتكلّم، وإن لم يظهر له أنّه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنّه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطّرفين؛ فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه مخافةً من انجراره إلى المحرّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا) (¬8). - عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من صمت نجا)) (¬9). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 587) (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 258) (¬3) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (17/ 448) (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 457) (¬5) رواه البخاري (6475)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (21/ 35). (¬7) رواه البخاري (6475)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((شرح النووي على مسلم)) للنووي (2/ 18). (¬9) رواه الترمذي (2501)، وأحمد (2/ 159) (6481)، والدارمي (3/ 1781) (2755). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 343): رواته ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6367).

قال الهروي: (مَنْ صَمَتَ: أَيْ: سَكَتَ عَنِ الشَّرِّ. نَجَا: أَيْ: فَازَ وَظَفَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، أَوْ نَجَا مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ) (¬1). قال الغزالي: (من تأمل جميع ... آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين) (¬2). - عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) (¬3). قال ابن عبد البر: (في هذا الحديث دليل على أن أكبر الكبائر وإنما هي من الفم والفرج وما بين اللحيين الفم وما بين الرجلين الفرج ومن الفم ما يتولد من اللسان وهو كلمة الكفر وقذف المحصنات وأخذ أعراض المسلمين ومن الفم أيضا شرب الخمر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلما ومن الفرج الزنى واللواط) الاستذكار (8/ 565) قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فالمعنى من أدّى الحقّ الّذي على لسانه من النّطق بما يجب عليه أو الصّمت عمّا لا يعنيه - ضمن له الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة - ... فإن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم وقال بن بطال دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر) (¬4). - عن عبد الله- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ألا إنّ الله- عزّ وجلّ- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) (¬5). قال الصديقي الشافعي: (أو ليصمت) بضم الميم أي: يسكت بالقصد عن الحلف بغير الله تعالى، أي: مريد اليمين مخير بين الحلف بالله تعالى وترك الحلف بغيره) (¬6). قال ابن عثيمين: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت يعني إما ليحلف بالله أو لا يحلف أما أن يحلف بغير الله فلا) (¬7). قال عبد الله البسام: (ما يستفاد من الحديث: ... أن من أراد الحلف بغير اللَه فليلزم الصمت، فإنه أسلم له) (¬8). ¬

(¬1) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للهروي (7/ 3038). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 162) بتصرف. (¬3) رواه البخاري (6474). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 309 - 310). (¬5) رواه البخاري (6108)، ومسلم (1646) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬6) ((دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين)) للصديقي الشافعي (8/ 529) (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 453) (¬8) ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) لعبد الله البسام (ص 685)

أقوال السلف والعلماء في الصمت

أقوال السلف والعلماء في الصمت - أخذ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه بطرف لسانه وقال: (هذا الذي أوردني الموارد) (¬1). - وعن علي رضي الله عنه قال: (بكثرة الصمت تكون الهيبة) (¬2). - و (عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تعلّموا الصّمت كما تعلّمون الكلام، فإن الصمت حلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكاً من غير عجب، ولا مشّاء إلى غير أرب) (¬3). - و (قال: أبو عمر الضّرير: سمعت رياحًا القيسيّ، يقول: قال لي عتبة: يا رياح إن كنت كلّما دعتني نفسي إلى الكلام تكلّمت فبئس النّاظر أنا، يا رياح إنّ لها موقفًا تغتبط فيه بطول الصّمت عن الفضول) (¬4). - وقالوا: (اللسان سبع عقور) (¬5). - (وقال الحسن رحمه الله: إملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر) (¬6). - وقال عبد الله بن أبي زكريّا: (عالجت الصّمت ثنتي عشرة سنةً، فما بلغت منه ما كنت أرجو، وتخوّفت منه فتكلّمت) (¬7). ¬

(¬1) رواه مالك (2/ 988)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10/ 402) (11841). (¬2) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136)، و ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (1/ 360). (¬3) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص136). (¬4) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (6/ 232). (¬5) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 170). (¬6) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 78). (¬7) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 303).

أقسام الصمت

أقسام الصمت الصمت ينقسم إلى قسمين: 1 - صمت محمود: أي أن تصمت عن كل ما حرم الله ونهى عنه مثل الغيبة والنميمة والبذاءة وغيرها، وكذلك الصمت عن الكلام المباح الذي يؤدي بك إلى الكلام الباطل. قال ابن عبد البر: (وإنّما الصّمت المحمود الصّمت عن الباطل) (¬1). وقال العيني: (الصمت المباح المرغوب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح الّذي يجر إلى شيء من ذلك) (¬2). 2 - صمت مذموم: كالصمت في المواطن التي يتطلب منك أن تتكلم فيها مثل الأماكن التي ترى فيها المنكرات، وكذلك الصمت عن نشر الخير، وكتم العلم. (وقد اختلف الفقهاء في الصمت هل هو حرام أو مكروه والتّحقيق أنه إذا طال وتضمن ترك الواجب صار حرامًا كما قال الصّديق رضي الله عنه) (¬3). (قال عليّ بن أبي طالبٍ: لا خير في الصّمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل) (¬4). وقال ابن تيمية: (والصّمت عمّا يجب من الكلام حرام سواء اتّخذه دينًا أو لم يتّخذه) (¬5). وقال أيضاً: (فقول الخير وهو الواجب أو المستحبّ خير من السّكوت عنه) (¬6). وقال الباجي: (وأمّا الصّمت عن الخير وذكر الله عزّ وجلّ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فليس بمأمور به بل هو منهيّ عنه نهي تحريم، أو نهي كراهة) (¬7). وقال العيني (والصمت المنهي عنه ترك الكلام عن الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح الّذي يستوي طرفاه) (¬8). ¬

(¬1) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (22/ 20). (¬2) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 291). (¬3) ((مختصر الفتاوى المصرية)) للبعلي (25/ 294). (¬4) ذكره الرازي في ((تفسيره)) (2/ 401)، والنيسابوري في ((غرائب القرآن)) (1/ 227). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/ 294). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/ 293). (¬7) ((المنتقى شرح الموطأ) للباجي (7/ 242). (¬8) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 291).

فوائد الصمت

فوائد الصمت وللصمت فوائد عديدة يعود نفعها على الفرد المتحلي به ومنها: 1. دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام. 2. السّلامة من العطب في المال، والنّفس، والعرض. 3. دليل حسن الخلق، وطهارة النّفس. 4. يثمر محبّة الله، ثمّ محبّة النّاس. 5. يهيّأ المجتمع الصّالح، والنّشء الصّالح. 6. سبب للفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار. 7. من أقوى أسباب التوقير. 8. دليل على الحكمة. 9. داعية للسلامة من اللغط. 10. يجمع للإنسان لبه. 11. الفراغ للفكر والذكر والعبادة. 12. جمع الهم ودوام الوقار. 13. السلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة. 14. بالصمت تسيطر على من أمامك. 15. ترغم من معك على التحدث بما يدور في خلده. 16. يكسبك احترام الآخرين لك، ولاسيما في المواقف التي يدور فيها الجدال والصراع. 17. يساعدك على تعلم حسن الإنصات والاستماع (¬1). ¬

(¬1) انظر ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (7/ 2644)، ((منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول)) لعبدالله بن سعيد الشحاري (ص: 418)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 111).

نماذج في الصمت

صمت النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، كثير الذكر، قليل الضحك، فـ ((عن سماك بن حرب، قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم، فيضحكون، وربما يتبسم)) (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 86) (20829)،والطيالسي (2/ 129) (808) والطبراني في ((الأوسط)) (7/ 120) (7031). قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 300)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6839)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4822).

نماذج من صمت الصحابة:

نماذج من صمت الصحابة: - (عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اطلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته)) (¬1). - (وروي عن الصّدّيق أنّه كان يضع حصاةً في فيه يمنع بها نفسه من الكلام) (¬2). - (وقال ابن بريدة: رأيت ابن عبّاسٍ آخذٌ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلّا فاعلم أنّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبّاسٍ، لم تقول هذا؟ قال: إنّه بلغني أنّ الإنسان - أراه قال - ليس على شيءٍ من جسده أشدّ حنقًا أو غيظًا يوم القيامة منه على لسانه إلّا ما قال به خيرًا، أو أملى به خيرًا) (¬3). - (عن خالد بن سمير، قال: كان عمّار بن ياسر طويل الصّمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامّة كلامه عائذًا بالله من فتنته) (¬4). - و (دخلوا على بعض الصّحابة في مرضه ووجهه يتهلّل، فسألوه، عن سبب تهلّل وجهه، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص50)، وأبو يعلى (1/ 17) (5)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 24) (4596). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7605)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (535): صحيح الإسناد على شرط البخاري. (¬2) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) لملا علي القاري (7/ 3054). (¬3) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 952)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 327)، والفاكهي في ((أخبار مكة)) (1/ 178). (¬4) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 142). (¬5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 557) من حديث زيد بن أسلم.

نماذج من صمت السلف:

نماذج من صمت السلف: - (قال عمرو بن قيس الملائيّ: مرّ رجل بلقمان والنّاس عنده، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى، قال: الّذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، فقال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث وطول السّكوت عمّا لا يعنيني) (¬1). - (وقال أرطأة بن المنذر: تعلم رجل الصمت أربعين سنة، بحصاة يضعها في فيه، لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم. - وقال الفضيل بن عياض: كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة) (¬2). - (وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت، فقال له الشعبي يوماً: ألا تتكلم فقال: أسكت فأسلم وأسمع فأعلم؛ إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره) (¬3). - (وقال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بطول الصمت. - وقال الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فأطولهم سكوتاً: أفضلهم في أنفسهم) (¬4). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 293). (¬2) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 375). (¬3) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 14). (¬4) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 376).

نماذج من صمت العلماء:

نماذج من صمت العلماء: - عن أبي إسحاق الفزاري قال: (كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يطيل السكوت؛ فإذا تكلم ربما انبسط قال: فأطال ذات يوم السكوت فقلت: لو تكلمت؟ فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، والفضل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقل ما لك في تركه خفة المؤنة على بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره، قال خلف: فقلت لأبي إسحاق: أراه قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام؟ قال: نعم) (¬1). - و (قال إبراهيم التيمي: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة، فلم يتكلم بكلام لا يصعد) (¬2). - (وقيل ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء) (¬3). - (قال إسماعيل بن أميّة: كان عطاء: يطيل الصّمت، فإذا تكلّم يخيّل إلينا أنّه يؤيّد) (¬4). - (قال خارجة بن مصعب: صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون) (¬5). - (قال مورّق العجليّ: أمر أنا في طلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدًا، قال، وما هو يا أبا المعتمر، قال: الصّمت عمّا لا يعنيني) (¬6). ¬

(¬1) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 67). (¬2) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 374). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 111). (¬4) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 313). (¬5) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 377). (¬6) ((المصنف)) لابن أبي شيبة (7/ 180).

الوسائل المعينة على اكتساب الصمت

الوسائل المعينة على اكتساب الصمت الوسائل المعينة على اكتساب صفة الصمت كثيرة نذكر منها ما يلي: 1 - النظر في سيرة السلف الصالح والاقتداء بهم في صمتهم. 2 - التأمل في العواقب الوخيمة والسيئة للكلام الذي لا فائدة فيه والذي يفضي إلى الكلام الباطل. 3 - الابتعاد عن المجالس التي يكثر فيها اللغط والفحش والكلام البذيء. قال الغزالي: (وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى) (¬1). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 76).

حكم وأمثال في الصمت

حكم وأمثال في الصمت - (الصمت أخفى للنقيصة، وأنفى للغميصة) (¬1). - (كان يقال: إذا فاتك الأدب فالزم الصّمت) (¬2). - (إنّ في الصّمت لحكماً) (¬3). - (عي الصمت أحمد من عي المنطق) (¬4). - (الندم على السكوت خير من الندم على القول) (¬5). - (الزم الصمت إذا لم تسأل) (¬6). - (الصمت يكسب المحبّة) (¬7). - (عيي صامت خير من عيي ناطق) (¬8). - (الصمت زين العاقل، وستر الجاهل) (¬9). - (الصّمت في غير فكرة سهو ... - والقول في غير حكمة لغو) (¬10). - وقال عمرو بن العاص: (الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل) (¬11). - وقال لقمان لابنه: (يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك) (¬12). - (وقالوا: بقدر ما يصمت اللسان يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان. وقالوا أيضًا: إذا كثر العلم قلّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام. وقالوا أيضًا: من عرف الله كلّ لسانه. وقيل لبعض العلماء: هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر؟ قال: العلم فيما سلف أكثر، والكلام اليوم أكثر) (¬13). - (خير الخلال حفظ اللسان: يضرب في الحث على الصمت (¬14). - (قولهم: سكت ألفاً ونطق خلفاً: يضرب مثلاً للرجل يطيل الصمت ثمّ يتكلّم بالخطأ. والخلف الرّديء من القول. وكان للأحنف بن قيس جليس طويل الصمت فاستنطقه يومًا فقال أتقدر يا أبا بحر أن تمشي على شرف المسجد فقال الأحنف: سكت ألفا ونطق خلفا) (¬15). - (ربّ كلمةٍ سلبت نعمةً: يضرب في اغتنام الصّمت (¬16). - (الصّمت حكمٌ وقليلٌ فاعله: يقال: إن لقمان الحكيم دخل على داود عليهما السلام وهو يصنع درعاً، فهمّ لقمان أن يسأله عما يصنع، ثم أمسك ولم يسأل حتى تم داود الدرع وقام فلبسها، وقال: نعم أداة الحرب، فقال لقمان: الصّمت حكمٌ وقليل فاعله (¬17). - (مخرنبق لينباع: ومعنى مخرنبق لينباع: مطرق وساكت ليثب إذا أصاب فرصة. والمعنى إنّه ساكت لداهية يريدها. ويضرب في الرجل يطيل الصمت حتى يسحب مغفلا وهو ذو نكراء (¬18). ¬

(¬1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 134). (¬2) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 192). (¬3) ((الأمثال المولدة)) لأبي بكر الخوارزمي (ص: 101). (¬4) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 494). (¬5) ((الأمثال)) لأبي عبيد (ص: 44). (¬6) ((الأمثال المولدة)) لأبي بكر الخوارزمي (ص: 602). (¬7) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 602). (¬8) ((الأمثال)) لأبي عبيد (ص: 44). (¬9) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 142). (¬10) ((السحر الحلال في الحكم والأمثال)) لأحمد الهاشمي (ص: 112). (¬11) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136). (¬12) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136). (¬13) ((البحر المديد في تفسير القرآن المجيد)) لأبي العباس الفاسي (1/ 560). (¬14) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 242). (¬15) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 509 - 510). (¬16) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 305). (¬17) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 402). (¬18) ((زهر الأكم في الأمثال والحكم)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 402).

وصايا في الصمت

وصايا في الصمت - (قال رجل لسلمان رضي الله عنه: أوصني؟ قال: لا تتكلم قال: وكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: فإن كنت لا تصبر عن الكلام فلا تتكلم إلا بخير أو اصمت) (¬1). - و (قال رجل لبعض العارفين: أوصني قال: اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف لئلا يدنسه، قال: وما غلاف الدين؟ قال: ترك الكلام إلا فيما لا بد منه وترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه) (¬2). - وعن (عقيل بن مدركٍ، يرفعه إلى أبي سعيدٍ أنّ رجلًا أتاه، فقال: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصّمت، فإنّك به تغلب الشّيطان) (¬3). - و (عن أبي الذّيّال، قال: تعلّم الصّمت كما تعلّم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك فإنّ الصّمت يقيك، ألا في الصّمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك) (¬4). - و (عن حبيب بن عيسى، قال: كان ابن مريم يقول: ابن آدم الضّعيف؛ علّم نفسك الصّمت كما تعلّمها الكلام، وكن مكينًا حتّى تسمع، ولا تكن مضحاكًا في غير عجبٍ، ولا هشًّا في غير أربٍ) (¬5). - (وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة) (¬6). - و (لما خرج يونس من بطن الحوت أطال الصمت فقيل له ألا تتلكم فقال الكلام صيرني في بطن الحوت) (¬7). - و (قال بعض البلغاء: الزم الصمت فإنّه يكسبك صفو المحبّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويكفيك مؤونة الاعتذار. وتكلم أربعة من حكماء الملوك بأربع كلمات كأنّها رمية عن قوس فقال ملك الرّوم: أفضل علم العلماء السّكوت، وقال ملك الفرس: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وقال ملك الهند: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الصين: ندمت على الكلام ولم أندم على السّكوت) (¬8). - (وقد قال بعض الصالحين: الزم الصمت يكسبك صفو المحبة, ويأمنك سوء المغبة, ويلبسك ثوب الوقار, ويكفك مؤنة الاعتذار, وقيل: الصمت آية الفضل, وثمرة العقل, وزين العلم, وعون الحلم؛ فالزمه تلزمك السلامة) (¬9). ¬

(¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص65). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 82). (¬3) ((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 33). (¬4) ((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 51). (¬5) ((الجامع في الحديث)) لابن وهب (ص: 532). (¬6) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص7 - 8). (¬7) ((أدب المجالسة وحمد اللسان)) لابن عبد البر (ص: 87). (¬8) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) للماوردي (ص: 59). (¬9) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال)) لحسين المهدي (ص: 496).

صوم الصمت

صوم الصمت - وهو الامتناع عن الكلام فلا يتكلم يومه وليلته، وهذا كان في الجاهلية، ومنعه الإسلام: - (قال الخطّابيّ في شرح حديث: (لا يتم بعد احتلام ولا صمت يوم إلى اللّيل): (¬1) كان من نسك أهل الجاهليّة الصّمت فكان أحدهم يعتكف اليوم واللّيلة ويصمت فنهوا عن ذلك وأمروا بالنّطق بالخير) (¬2). - (قال ابن الهمام: يكره صوم الصمت، وهو أن يصوم، ولا يتكلم، يعني يلتزم عدم الكلام، بل يتكلم بخير، وبحاجة) (¬3). ¬

(¬1) رواه النيسابوري في ((الزيادات على كتاب المزني)) (ص551). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 150). (¬3) ((شرح مسند أبي حنيفة)) لأبي الحسن الهروي (ص: 488).

صمت العيي

صمت العيي - (كان رجل يجلس إلى أبي يوسف فيطيل الصمت. فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم؟ فقال: بلى متى يفطر الصائم. قال: إذا غابت الشمس، قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ قال: فضحك أبو يوسف وقال: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثمّ تمثل: عجبت لإزراء العييّ بنفسه ... وصمت الّذي قد كان للقول أعلما وفي الصمت ستر للعيي، وإنّما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما) (¬1) ... ¬

(¬1) ((تاريخ بغداد وذيوله)) للخطيب البغدادي (14/ 251).

الصمت في واحة الشعر ..

الصمت في واحة الشعر .. قال الشافعي: قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح أما ترى الأسود تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى لعمري وهو نباح وقال أيضاً: وجدت سكوتي متجرا فلزمته ... إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر وما الصمت إلا في الرجال متاجر ... وتاجره يعلو على كل تاجر وقال آخر: قالوا نراك تطيل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عي ولا خرس لصمت أحمد في الحالين عاقبة ... عندي وأحسن بي من منطق شكس قالوا فأنت مصيب لست ذا خطأ ... فقلت ماذا أردتني وجه مفترس أأفرش البر فيمن ليس يعرفه؟ ... أم أنثر الدر بين العمي في الغلس وقال آخر: متى تطبق على شفتيك تسلم ... وإن تفتحهما فقل الصوابا فما أحد يطيل الصمت إلا ... سيأمن أن يذم وأن يعابا فقل خيراً أو اسكت عن كثير ... من القول المحل بك العتابا وأجاد من قال: مهلاً سليماً أقلي اللوم أو فلمي ... من أقعدته صروف الدهر لم يقم حظي يقصر بي عن كل مكرمة ... ولا تقصر بي عن نيلها هممي سألزم الصمت ما دام الزمان كذا ... وأمنع الدهر من نطق اللسان فمي إن لامني لائم في الصمت قلت له ... حبس الفتى نطقه حرز من الندم وقال أبو جعفر القرشيّ: استر العيّ ما استطعت بصمت ... إنّ في الصّمت راحةً للصّموت واجعل الصّمت إن عييت جوابًا ... ربّ قول جوابه في السّكوت (¬1) وقال آخر: إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيار ولئن ندمت على سكوت مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا وإذا تقرب خاسر من خاسر ... زادا بذاك خسارة وتبارا وأنشد الأبرش: ما ذل ذو صمت وما من مكثر ... إلا يزل وما يعاب صموت إن كان منطق ناطق من فضة ... فالصمت در زانه الياقوت وقال آخر: وكن رزينا طويل الصّمت ذا فكر ... فإن نطقت فلا تكثر من الخطب ولا تجب سائلا من غير تروية ... وبالّذي مثله تسأل فلا تجب قال أحيحة بن الجلاح: والصمت أجمل بالفتى ... ما لم يكن عيّ يشينه والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لب يعينه وقال مخرّز بن علقمة: لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلم وقليل عاب صموتا في المجالس غير عيّ ... جديرا حين ينطق بالصواب وقال مكّيّ بن سوادة: تسلّم بالسكوت من العيوب ... فكان السكت أجلب للعيوب ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشد الخطيب (¬2) وقال آخر: عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للعييّ وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما (¬3) وقال أحد الشعراء: أرى الصّمت أدنى لبعض الصّواب ... وبعض التّكلّم أدنى لعيّ (¬4) وقال أبو العتاهية: إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز يخوض أناس في المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز (¬5) وقال آخر: استر النفس ما استطعت بصمت ... إن في الصمت راحة للصموت واجعل الصمت إن عييت جواباً ... رب قول جوابه في السكوت (¬6) وقال آخر: قد أفلح الصّامت السكوت ... كلام راعي الكلام قوت ما كل نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت العدل ¬

(¬1) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 300). (¬2) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 29). (¬3) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 189). (¬4) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 190). (¬5) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص: 6). (¬6) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص: 7).

معنى العدل لغة واصطلاحا

معنى العدل لغة واصطلاحاً معنى العدل لغة: عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادِلٌ من عُدولٍ وعَدْلٍ بلَفْظ الواحِدِ وهذا اسمٌ للجَمع. رجُلٌ عَدْلٌ وامرأةٌ عَدْلٌ وعَدْلَةٌ. وعَدَّلَ الحُكْمَ تَعديلاً: أقامَهُ. والعدل: خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ ومَعْدِلَتَهُ ومَعْدَلَتَهُ. وفلان من أهل المَعْدَلَةِ. وهو ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم. (¬1) معنى العدل اصطلاحاً: العدل هو: (أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه) (¬2). وقيل هو: (عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينا) (¬3). وقيل هو: (استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير) (¬4). ¬

(¬1) ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (5/ 1760)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 430). ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص1030). (¬2) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 81). (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص147). (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 28).

الفرق بين العدل وبعض الصفات

الفرق بين العدل وبعض الصفات الفرق بين العدل والقسط: (القسط: هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط) (¬1). الفرق بين العدل والإنصاف: (الإنصاف: إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل إنه عدل عليه ولا يقال إنه أنصف، وأصل الإنصاف أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل أطلب منك النصف كما يقال أطلب منك الإنصاف ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشيء إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه) (¬2). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 428). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 80).

أهمية العدل

أهمية العدل أرسل الله رسله وأنزل معهم ميزان العدل، ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ووردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تأمر بالعدل وترغب فيه، وتمدح من يقوم به، يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له) (¬1). ¬

(¬1) ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 19).

آثار وفوائد العدل

آثار وفوائد العدل 1 - العدل ميزان الله في الأرض به يؤخذ للمظلوم من الظالم. 2 - من قام بالعدل نال محبة الله سبحانه قال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] 3 - بالعدل يحصل الوئام بين الحاكم والمحكوم. 4 - العدل أساس الدول والملك. 5 - بالعدل يستتب الأمن في البلاد. 6 - بالعدل تحصل الطمأنينة في النفوس. 7 - العدل سبب لدخول غير المسلمين إلى الإسلام. 8 - بالعدل يسود في المجتمع التعاون والتماسك.

الأمر بالعدل ومدح من يقوم به

الأمر بالعدل ومدح من يقوم به الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في القرآن الكريم أمر الله بإقامة العدل وحث عليه ومدح من قام به وذلك في آيات كثيرة منها: 1 - آيات فيها الأمر بالعدل منها: - قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] قال السعدي رحمه الله: (فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي. والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب) (¬1). - وقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135] يقول ابن كثير رحمه الله: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه. وقوله: شُهَدَاءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مَضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه) (¬2). - وقال سبحانه: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15] يقول تعالى ذكره: (وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ... وعن قتادة، قوله: ((وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه)) (¬3). والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه) (¬4). 2 - آيات فيها مدح من يقوم بالعدل: - قال سبحانه: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] ¬

(¬1) ((تفسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 447). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 433). (¬3) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (21/ 517). (¬4) ((جامع البيان)) للطبري (21/ 517).

قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أي: ومن الأمم أُمًّةٌ قائمة بالحق، قولا وعملا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يقولونه ويدعون إليه، وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعملون ويقضون. وقد جاء في الآثار: أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية. قال سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (¬1) [الأعراف:159]) (¬2). - وقال عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76] (يقول الله تعالى هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه) (¬3). الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في السنة النبوية: لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم العدل، ورغب فيه، وقد وردت نصوص حديثية تدل على تطبيقه قواعد العدل، منها: - عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم)) (¬4). - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) (¬5). قال ابن عثيمين رحمه الله: (فالعدل واجب في كل شيء لكنه في حق ولاة الأمور آكد وأولى وأعظم لأن الظلم إذا وقع من ولاة الأمور حصلت الفوضى والكراهة لهم حيث لم يعدلوا) (¬6). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (13/ 286). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 516). (¬3) ((جامع البيان)) للطبري (17/ 262). (¬4) رواه النسائي (4153)، وأحمد (3/ 441) (15691) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/ 272)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 91)، والألباني في ((صحيح النسائي)) (4164). (¬5) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485). (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 641).

- وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ أحبّ النّاس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل، وأبغض النّاس إلى الله، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر)) (¬1). قال الحافظ: (المراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: ((إن المقسطين عند الله .... )) (¬2) قال وأحسن ما فسر به العادل الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط وقدمه في الذكر لعموم النفع به) (¬3). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السّماء ويقول: بعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) (¬4). قال الغزالي: (فيه أن الإمارة والخلافة من أفضل العبادات إذا كانتا مع العدل والإخلاص ولم يزل المتقون يحترزون منها ويهربون من تقلدها لما فيها من عظيم الخطر إذ تتحرك به الصفات الباطنة ويغلب على النفس حب الجاه والاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا) (¬5). - وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عدل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) (¬6). قال ابن رجب: (وأول هذه السبعة: الإمام العادل. وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها. وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي (1329)، وأحمد (3/ 55) (11542) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. ومثله قال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 314)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4069): فيه عطية ضعيف. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1156). (¬2) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 145). (¬4) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 304) (8030) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 152)، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير)) (3520)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (15/ 189). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 324). (¬6) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) ((فتح الباري)) لابن رجب (4/ 59).

أقوال السلف والعلماء في العدل

أقوال السلف والعلماء في العدل - قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (إنّ الله إنّما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيا القلوب، فإنّ القلوب ميّتة في صدورها حتّى يحييها الله، من علم شيئا فلينفع به، إنّ للعدل أمارات وتباشير، فأمّا الأمارات فالحياء والسّخاء والهين واللّين. وأمّا التّباشير فالرّحمة. وقد جعل الله لكلّ أمر بابا، ويسّر لكلّ باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزّهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزّهد أخذ الحقّ من كلّ أحد قبله حقّ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ... ). (¬1). - (وقدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق فقال لقد جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب فقال عمر ما هو قال شهادات الزور ظهرت بأرضنا فقال عمر أو قد كان ذلك قال نعم فقال عمر والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول) (¬2). - وقال ربعيّ بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس لما سأله ما جاء بكم؟ فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتّى نفيء إلى موعود الله ... ) (¬3). - وقال عمرو بن العاص: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) (¬4). - وقال ميمون بن مهران: (سمعت عمر يقول: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم فأخرج معه طمعا من الدنيا فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا) (¬5). - (وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل) (¬6). - وقال ابن حزم رحمه الله: (أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه، وعلى الحقّ وإيثاره) (¬7). - وقال ابن تيمية رحمه الله: (العدل نظام كلّ شيء فإذا أقيم أمر الدّنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة) (¬8). - وقال أيضا: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) (¬9). - وقال ابن القيّم رحمه الله تعالى: (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق وأنه عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة. فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها) (¬10). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 485)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 43). (¬2) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 720). (¬3) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 520)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 39). (¬4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 33). (¬5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 181)، وذكره الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (7/ 197). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 27). (¬7) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 90). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146). (¬10) ((الطرق الحكمية)) (ص: 5).

أقسام العدل

أقسام العدل (والعدل ضربان: - مطلق: يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا، ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو: الإحسان إلى من أحسن إليك، وكف الأذية عمن كف أذاه عنك. - وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة، كالقصاص وأروش الجنايات، وأصل مال المرتد. ولذلك قال: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ [البقرة:194]، وقال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40]، فسمي اعتداء وسيئة، وهذا النحو هو المعني بقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فإن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه) (¬1). ¬

(¬1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص552).

صور العدل

صور العدل لا ريب أن المظاهر والصور التي يدخل فيها العدل كثيرة فمنها: 1 - عدل الوالي: والوالي سواء كانت ولايته ولاية خاصة أو عامة يجب عليه أن يعدل بين الرعية. قال ابن تيمية رحمه الله: بعد أن ذكر عموم الولايات وخصوصها كولاية القضاء، وولاية الحرب، والحسبة، وولاية المال: (وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين) (¬1). وقال أيضاً: (يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل) (¬2). 2 - العدل في الحكم بين الناس: سواء كان قاضياً، أو صاحب منصب، أو كان مصلحاً بين الناس، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] 3 - العدل مع الزوجة أو بين الزوجات: بأن يعامل الزوج زوجته بالعدل سواء في النفقة والسكنى والمبيت، وإن كن أكثر من واحدة فيعطي كلا منهن بالسوية. قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] أما إذا كان له ميل قلبيُ فقط إلى إحداهن فهذا لا يدخل في عدم العدل، قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129] 4 - العدل بين الأبناء: قال صلى الله عليه وسلم: ((فاتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) (¬3) كما مر في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. ويكون العدل بين الأولاد في العطية وغيرها. 5 - العدل في القول: فلا يقول إلا حقاً، ولا يشهد بالباطل، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135] 6 - العدل في الكيل والميزان: قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152] (يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1 - 6]. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان) (¬4). 7 - العدل مع غير المسلمين: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8] (وفي كون العدل مع الأعداء الذين نبغضهم أقرب للتقوى احتمالان: الأول: أن يكون أقرب إلى كمال التقوى، وذلك لأن كمال التقوى يتطلب أموراً كثيرة، منها هذا العدل، والأخذ بكل واحد من هذه الأمور يقرب من منطقة التقوى الكاملة. الثاني: أن يكون أقرب إلى أصل التقوى فعلاً من ترك العدل مع الأعداء ملاحظين في ذلك مصلحة للإسلام وجماعة المسلمين، وذلك لأنه قد يشتبه على ولي الأمر من المسلمين في قضية من القضايا المتعلقة بعدو من أعدائهم، هل التزام سبيل العدل معه أرضى لله؟ أو ظلمه هو أرضى لله باعتباره معادياً لدين الله؟ وأمام هذا الاشتباه يعطي الله منهج الحل فيقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] أي: مهما لاحظتم أن ظلمه لا يتنافى مع التقوى فالعدل معه أقرب للتقوى. ولا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنه هو الدين الحق، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 68). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 67). (¬3) رواه البخاري (2587) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 364). (¬5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 581).

نماذج في العدل

نماذج من عدل الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام هو دين العدالة وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم العدل وكان نموذجا في أعلى درجاته، وطبقه خلفاؤه من بعده. - فقد روى أبو نعيم في (معرفة الصحابة) ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار قال: وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه، وقال: استو يا سواد فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقد قال: يا رسول الله إنك طعنتني وليس علي قميص قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقدقال: فاعتنقه، وقبل بطنه، وقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير)) (¬1). - وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ((أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أتشفع في حد من حدود الله فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (¬2). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. - وعن خولة بنت قيس - امرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما - قالت: ((كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتاه يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره فأبى أن يقبله، فقال: أتردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: ((صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدّس الله أمةً لا يأخذ ضعيفها حقّه من شديدها، ولا يتعتعه)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/ 1404)، قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 808): إسناده حسن إن شاء الله تعالى. (¬2) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688). (¬3) رواه الطبراني في ((الكبير)) (24/ 233)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (11/ 104) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1816): صحيح لغيره.

نماذج من عدالة الصحابة رضي الله عنهم

نماذج من عدالة الصحابة رضي الله عنهم عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - عمر رضي الله عنه -الخليفة الثاني- يمثِّل العدل في الإسلام، فعن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: (يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، ولا من أعراضكم إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين) (¬1). - وعن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو - رضي الله عنهما- يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط واضربه. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني) (¬2). - ولما أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: (إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا) (¬3). عدل علي رضي الله عنه: وهذا نموذج آخر من إقامة العدل قام بتطبيقه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو خليفة: فقد افتقد درعا له في يوم من الأيام ووجده عند يهودي فقال لليهودي: (الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودي: درعي وفي يدي فقال: نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وأصغروهم من حيث أصغرهم الله)) فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين فقال: نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب فقال شريح: إيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم: قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن الدرع درعك) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 293) من حديث عطاء. (¬2) رواه أبو القاسم المصري في ((فتوح مصر والمغرب)) (195). (¬3) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (13033). (¬4) ذكره السيوطي في ((تاريخ الخلفاء)) (142) وقال: أخرجه الدراج في جزئه المشهور بسند مجهول عن ميسرة عن شريح القاضي.

مفهوم خاطئ للعدل:

مفهوم خاطئ للعدل: كل من أراد أن يُسوِّق بضاعته المزجاة ويروِّج لباطله يأتي بعبارات براقة وألفاظ محبوبة تستسيقها الفطر السليمة فيقوم بتحريف معانيها على ما يريده من المعاني الباطلة، ومن ذلك تحريف معنى العدل على المفهوم الخاطئ من قبل المعتزلة، والجبرية، ودعاة التحرر من الكفرة والعلمانيين. 1 - العدل عند المعتزلة: فقد جعل المعتزلة العدل من أصولهم الخمسة وتسمية أنفسهم بأهل العدل والتوحيد: ومعنى العدل عندهم: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله. 2 - العدل عند الجبرية: الجبرية استعملوا العدل وأطلقوه في حق الله على كل مقدور. والجبرية يعتقدون أن الإنسان مجبور على أفعاله، ويعتقدون أن أفعاله كلها اضطرارية، كحركات المرتعش وحركات الأشجار، والفاعل هو الله، وإضافتها إلى الإنسان مجازًا. 3 - العدل عند الكفار والعلمانيين والحداثيين: يدعي الكفرة والعلمانيون والحداثيون بأنهم أهل الحرية والعدل والمساواة وهم أبعد من العدل. والعدل والحرية الذي يدندنون حوله هو هدم ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام.

العدل في واحة الشعر ..

العدل في واحة الشعر .. قال ابن حزم: زمام أصول جميع الفضائل ... عدل وفهم وجود وبأس فمن هذه ركبت غيرها فمن ... حازها فهو في الناس رأس كذا الرأس فيه الأمور التي ... بإحساسها يكشف الالتباس وقال الزمخشري: قدم المنصور البصرة قبل الخلافة، فنزل بواصل بن عطاء، فقال: أبيات بلغتني عن سليمان بن يزيد العدوي في العدل، فمر بنا إليه، فأشرف عليهم من غرفة فقال لواصل: من هذا الذي معك؟ قال: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: رحب على رحب، وقرب إلى قرب، فقال: يحب أن يستمع إلى أبياتك في العدل، فأنشده: حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألوانا يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد ذي عمى يقتاد عميانا (¬1) وقال الزهاوي: العدلُ كالغيثِ يحيي الأرضَ وابلهُ ... والظلمُ في الملكِ مثلُ النارِ في القصبِ وقال آخر: أدِّ الأمانةَ والخيانةَ فاجتنبْ ... واعدلْ ولا تظلمْ يطيبُ المكسبُ وقال أبو الفتح البستي: عليكَ بالعدلِ إِن وُليتَ مملكةً ... واحذرْ من الجورِ فيها غايةَ الحذرِ فالعدلُ ينفيهِ أنى احتلَّ من بلدٍ ... والجورُ ينفيح في بدوٍ وفي حضرِ وقال آخر: عن العدل لا تعدل وكن متيقظاً ... وحكمك بين الناس فليك بالقسط وبالرفق عاملهم وأحسن إليهم ... ولا تبدلن وجه الرضا منك بالسخط وحل بدر الحق جيد نظامهم ... وراقب إله الخلق في الحل والربط وقال آخر: نخاف على حاكم عادل ... ونرجو فكيف بمن يظلم إذا جار حكم امرئ ملحد ... على مسلم هلك المسلم ... ¬

(¬1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 391 - 392).

العزم والعزيمة

معنى العزم والعزيمة لغة واصطلاحاً معنى العزم والعزيمة لغة: قال ابن سيده: (العَزْم: الجد. عَزَم على الأمر يَعْزِم عَزْما ومَعْزِما، وعُزْمانا، وعَزِيما، وعَزِيمة. وعَزَمَه، واعْتَزَمه، واعتزم عليه .... وتَعَزَّم: كعَزَم ... وعزم عليه ليفعلن أقسم) (¬1). قال ابن منظور: (العَزْمُ الصَّبْرُ في لغة هذيل يقولون ما لي عنك عَزْمٌ أي صَبْرٌ) (¬2). والصريمة والعزيمة والَعزِيم والعزيمة واحدة .. وهي الحاجة التي قد عزمت على فعلها .. يقال: طوى فلان فؤاده على عزيمة أمرٍ. إذا أسرّها في فؤاده (¬3). قال أبو جعفر: (أصل العزم اعتقاد القلب على الشيء) (¬4). معنى العزم والعزيمة اصطلاحاً: قال ابن عاشور العزم: (إمضاء الرأي، وعدم التردد بعد تبين السداد) (¬5). وقال الهروي: (العزم تحقيق القصد طوعا أو كرها) (¬6). وقال ابن الأثير: العزيمة (هي ما وكدت رأيك وعزمك عليه ووفيت بعهد الله فيه. والعزم: الجد والصبر) (¬7). الفرق بين العزم والحزم والنية الفرق بين العزم والحزم في العزم والحزم وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. قال مؤرج: العزم: الحزم، بلغة هذيل. الثاني: معناهما مختلف: والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين، فليس أحدهما أصلاً للآخر. - وفي اختلافهما وجهان: - الحزم جودة النظر في الأمر، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء وعليه فالحزم الحذر والعزم القوة، ومنه المثل: لا خير في عزم بغير حزم. الثاني: أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه، ومنه قولهم في بعض الأمثال: رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم (¬8). الفرق بين العزم والنية: (الصلة بين النية والعزم: أنهما مرحلتان من مراحل الإرادة، والعزم اسم للمتقدم على الفعل، والنية اسم للمقترن بالفعل مع دخوله تحت العلم بالمنوي) (¬9). ¬

(¬1) ((المحكم والمحيط الأعظم)) ابن سيده (1/ 533). (¬2) ((لسان العرب)) ابن منظور (12/ 399). (¬3) ((انظر تهذيب اللغة)) الأزهري (2/ 91). (¬4) ((تفسير الطبري)) (18/ 385). (¬5) ((التحرير والتنوير))، ابن عاشور (4/ 190). (¬6) ((منازل السائرين))، عبد الله الأنصاري الهروي (1/ 65). (¬7) ((النهاية في غريب الأثر)) (3/ 231). (¬8) انظر: ((تفسير النكت والعيون)) للماوردي (2/ 214)، ((البحر المحيط))، أبو حيان الأندلسي (3/ 464). (¬9) ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (42/ 60).

الترغيب على العزم والعزيمة في فعل الخير من القرآن والسنة

الترغيب على العزم والعزيمة في فعل الخير من القرآن والسنة الترغيب والحث على العزم والعزيمة من القرآن الكريم: العزم والعزيمة على فعل الخير وعدم التردد والمسارعة لفعل الخيرات من شيم الصالحين والعزيمة هي الدافع لفعل الخير ولهذا حث الله عليها في كتابه في غير آية ومن ذلك: - قال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]. قال أبو الهيثم: في قوله تعالى (فإذا عزم الأمر: .. هو فاعل معناه المفعول، وإنما يُعْزم الأمر ولا يعزم، والعزم للإنسان لا للآمر) (¬1). وقال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: (أما قوله: فإذا عزمت فتوكل على الله فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك، أو خالفها وتوكل، فيما تأتي من أمورك وتدع، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم فإن الله يحب المتوكلين، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه) (¬2). وقال الجصاص: (فِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا) (¬3). وقال البخاري رحمه الله تعالى: (فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله) (¬4). - وقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]. قال الشوكاني: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي (مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها) (¬5). وقال الرازي: (من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه، فتأخذ نفسه لا محالة به ... ولا يجوز ذلك الترخص في تركه، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه) (¬6). وقال ابن عاشور: (وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور) (¬7). وكذلك فهو من حقيقة الإيمان ومن الأمور التي ينافس فيها من أشدها وأحسنها لما فيها من كمال الشرف والعز حسن العاقبة في الدنيا والآخرة ولايوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية (¬8). - وقوله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]. ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) الأزهري (2/ 90). (¬2) ((تفسير ابن جرير الطبري)) (7/ 343). (¬3) ((أحكام القرآن)) الجصاص (2/ 331). (¬4) ((صحيح البخاري))، باب قول الله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ *الشورى 38* (6/ 2681). (¬5) ((تفسير فتح القدير)) الشوكاني (1/ 468). (¬6) ((تفسير الرازي)) الرازي (9/ 455). (¬7) ((التحرير والتنوير)) ابن عاشور (4/ 190). (¬8) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 160) بتصرف.

قال أبو حيان الأندلسي: (العزم مصدر، فاحتمل أن يراد به المفعول، أي من معزوم الأمور، واحتمل أن يراد به الفاعل، أي عازم الأمور) (¬1). قال القرطبي: (إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور أي مما عزمه الله وأمر به قاله ابن جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة وقول ابن جريج أصوب) (¬2). - وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُون [الأحقاف: 35]. قال ابن جرير الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، مثبته على المضيّ لما قلَّده من عبْء الرسالة، وثقل أحمال النبوّة صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد) (¬3). وقال ابن عجيبة: (فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم) (¬4). - وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. قال الماوردي: (يحتمل قوله: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وجهين: أحدهما: لمن عزائم الله التي أمر بها. الثاني: لمن عزائم الصواب التي وفق لها) (¬5). وقال ابن كثير: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ أي: لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل) (¬6). وقال السعدي: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ أي: لمن الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر) (¬7). وقال الواحدي: (إن ذلك أَيْ: الصَّبر والغفران لمن عزم الأمور لأنَّه يوجب الثَّواب، فهو أتمُّ عزمٍ) (¬8). - وقوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد: 21]. وقوله: فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ (فعن مجاهد فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ قال: إذا جد الأمر ... وقتادة فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول: طواعية الله ورسوله، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم) (¬9). قال الرازي: (جوابه -أي جواب إذا- محذوف تقديره فَإِذَا عَزَمَ الأمر خالفوا وتخلفوا، وهو مناسب لمعنى قراءة أُبي كأنه يقول في أول الأمر قالوا سمعاً وطاعة، وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم، ونسب العزم إلى الأمر والعزم لصاحب الأمر معناه: فإذا عزم صاحب الأمر. هذا قول الزمخشري، ويحتمل أن يقال هو مجاز كقولنا جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال عَزَمَ والوجهان متقاربان) (¬10). ¬

(¬1) ((البحر المحيط)) أبوحيان الأندلسي (8/ 415). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (14/ 69). (¬3) ((تفسير الطبري)) ابن جرير الطبري (22/ 145)، وانظر ((تفسير السعدي)) (1/ 783). (¬4) ((تفسير البحر المديد)) ابن عجيبة (6/ 49). (¬5) ((تفسير النكت والعيون)) الماوردي (5/ 209). (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 213). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان))، عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (1/ 760). (¬8) ((الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) الواحدي (ص967). (¬9) انظر ((تفسير الطبري)) (22/ 176 - 177). (¬10) ((مفاتيح الغيب)) فخر الدين الرازي (28/ 53 - 54).

- وقال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115]. قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: ولم نَجِدْ له عَزْماً العَزْمُ في اللغة: توطينُ النفس على الفعل. وفي المعنى أربعة أقوال. أحدها: لم نجد له حفظاً، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى: لم يحفظ ما أُمِر به. والثاني: صبراً، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى: لم يصبر عمَّا نُهي عنه. والثالث: حزماً، قاله ابن السائب. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم. وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب. والرابع: عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب) (¬1). وقال الرازي: (قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يحتمل ولم نجد له عزماً على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب، ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزماً على ترك المعصية أو لم نجد له عزماً على التحفظ والاحتراز عن الغفلة، أو لم نجد له عزماً على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا: إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد) (¬2). ورحج ابن جرير الطبري أن تأويل وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً هو (لم نجد له عزم قلب، على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه) (¬3). وقال ابن عاشور: (واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلا لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث) (¬4). الترغيب والحث على العزم والعزيمة من السنة النبوية: - (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ. لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لاَ مُكْرِهَ لَهُ) (¬5). قال المباركفوري: (عزم المسألة الشدة في طلبها والحزم به من غير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها) (¬6). وقال ابن حجر: (قوله فليعزم المسألة في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور الدعاء ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى وإن كان مأمورا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة ... وقال الداودي معنى قوله ليعزم المسألة أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير) (¬7). قال بدر الدين العيني: (قوله فليعزم المسألة أي فليقطع بالسؤال ولا يعلق بالمشيئة إذ في التعليق صورة الاستغناء عن المطلوب منه والمطلوب) (¬8). قال السيوطي: (ليعزم المسألة أي يعري دعاءه وسؤاله من لفظ المشيئة) (¬9). ¬

(¬1) ((زاد المسير)) ابن الجوزي (3/ 179). (¬2) ((مفاتيح الغيب)) الرازي (22/ 106). (¬3) ((تفسير الطبري)) ابن جرير الطبري (18 - 383 - 385). (¬4) ((التحرير والتنوير)) ابن عاشور (1/ 2677). (¬5) رواه البخاري (6339) ومسلم (2679). (¬6) ((تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي)) المباركفوري (9/ 330). (¬7) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) ابن حجر (11/ 140). (¬8) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) بدر الدين العيني (22/ 299). (¬9) ((تنوير الحوالك شرح موطأ مالك)) السُّيوطي (1/ 221).

- و (عن ابْن مسعود، قَالَ: لَقَدْ سَأَلَنِي رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ إِلا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَعَسَى أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ، وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيءٌ سَأَلَ رَجُلا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِي كَدَرُهُ) (¬1). قال بدر الدين العيني: (قوله فيعزم علينا أي الأمير يشدد علينا في أشياء لا نطيقها وقال الكرماني فيعزم إن كان بلفظ المجهول فهو ظاهر يعني لا يحتاج إلى تقدير الفاعل ظاهرا هذا إن كان جاءت به رواية قوله حتى نفعله غاية لقوله لا يعزم أو للعزم الذي يتعلق به المستثنى) (¬2). - وعن جماعة من الصحابة مرفوعا (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (¬3). قال المناوي: (عزائمه أي مطلوباته الواجبة فإن أمر الله في الرخص والعزائم واحد) (¬4). قال القاري: (الرخصة إذا كانت حسنا فالعزيمة أولى بذلك) (¬5). - وعن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- قال: ((إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في صلاته اللهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر، والعزيمة على الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم)) (¬6). قال المناوي: (وأسألك عزيمة الرشد وفي رواية العزيمة على الرشد قال الحرالي وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم) (¬7). من أقوال العلماء في العزم والعزيمة - قال ابن منظور: (لا خَيرَ في عَزْمٍ بغير حَزْمٍ فإِن القُوَّة إِذا لم يكن معها حَذَرٌ أَوْرَطَتْ صاحبَها) (¬8). - وقال فخر الدين الرازي: (منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار) (¬9). - وقال الغزالي: (التَّقْوَى في قول شُيوخنا: تنزيهُ القَلْب عن ذَنْب لم يسبق منك مِثْلُه حتى يَحْصُلَ للعبدِ من قُوّة العَزْم على تركِه وِقايةٌ بينه وبين المعاصي) (¬10). - وقال ابن الجوزي) ليس في سياط التأديب أجود من سوط العزم) (¬11). ¬

(¬1) رواه البخاري (2964). (¬2) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) بدر الدين العيني (22/ 299). (¬3) رواه ابن حبان (2/ 69) (354)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (6/ 276)، والضياء في ((المختارة)) (12/ 278) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه ابن حبان (8/ 333) (3568)، والبزار (12/ 250)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 200) (5415) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الكبير)) (10/ 84)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (2/ 101) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (8/ 82)، والقضاعي في ((مسنده)) (2/ 151) من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسن المنذري إسناد البزار في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 88)، وجوّد النووي إسناد البيهقي في ((الخلاصة)) (2/ 729)، وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/ 388) في إسناد ابن عباس: هذا إسناد رجاله ثقات. وصحح الحديث الألباني في ((صحيح الجامع)) (1885). (¬4) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) المناوي (1/ 547). (¬5) ((مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) المباركفوري برقم (2049). (¬6) رواه الترمذي (3407)، والنسائي (1304). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1501)، والألباني في ((ضعيف الجامع)) (1190). (¬7) ((فيض القدير)) المناوي (2/ 165). (¬8) ((لسان العرب)) ابن منظور (12/ 399). (¬9) ((تفسير الرازي)) (4/ 49). (¬10) ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) الفيروز آبادي (5/ 257). (¬11) ((صيد الخاطر)) ابن الجوزي (67).

أقسام الصفة

أقسام الصفة قال الهروي: (وهو- أي العزم - على ثلاث درجات: 1 - الدرجة الأولى إباء الحال على العلم بشيم برق الكشف واستدامة نور الأنس والإجابة لإماتة الهوى. 2 - والدرجة الثانية الاستغراق في لوائح المشاهدة واستنارة ضياء الطريق واستجماع قوى الاستقامة. والدرجة الثالثة معرفة علة العزم ثم العزم على التخلص من العزم ثم الخلاص من تكاليف ترك العزم فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثا أكرم من وقوفهم على علل العزائم) (¬1). ¬

(¬1) ((منازل السائرين)) عبد الله الهروي (1/ 65 - 66).

فوائد العزم والعزيمة

فوائد العزم والعزيمة 1 - مظنة قبول الدعاء: فقوة العزم والجزم في الدعاء وعدم تعليقه بالمشيئة من آداب الدعاء وأرجى للقبول. 2 - قوة العزم والعزيمة من وسائل تهذيب النفس وتحصيل الأخلاق الفاضلة قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. قال أحمد بن قدامة المقدسي: (وأشد حاجة الرائض لنفسه، قوة العزم، فمتى كان متردداً بعد فلاحه، ومتى أحس من نفسه ضعف العزم تصبر، فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئلا تعاود، كما قال رجل لنفسه: تتكلمين فيما لا يعنيك؟ لأعاقبنك بصوم سنة) (¬1) ومن صفات المؤمن القوي قوة العزم على الأمر. 3 - قوة العزم والعزيمة تعين على تحقيق التقوى: وذلك بحمل النفس على فعل المأمورات وترك المنهيات وهذه هي حقيقة التقوى قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]. 4 - قوة العزم والعزيمة تعين على ترك المعاصي. 5 - العزم والعزيمة من وسائل التخلص من تلبيس الشيطان ووسوسته: قال الشيخ عطية سالم (إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله [آل عمران: 159]، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل [الأحقاف: 35] .... فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف، مما يقضي على نوازع الشك والتردد، ولم يبق في قلب المؤمن جال لشك ولا محل لوسوسة) (¬2). 6 - العزم على ترك الذنب من شروط قبول التوبة: فالتَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب لَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط: ومنها العزم على عدم العودة للذنب أبدأً (¬3). قال أبو حازم: (عند تصحيح الضّمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أمّه الفتوح) (¬4). 7 - قوة العزم والعزيمة من علامات التوفيق: قال ابن القيم: (الدين مداره على أصلين العزم والثبات وهما الأصلان المذكوران في (الحديث عن النبي اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأصل الشكر صحة العزيمة وأصل الصبر قوة الثبات فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق) (¬5). 8 - قوة العزم والعزيمة تحصل للمرء كل مقام شريف ومنزلة رفيعة: قال ابن القيم: (فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل ولهذا في دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)) (¬6) ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر) (¬7). 9 - صاحب العزم والعزيمة القوية الصادقة أكثر الناس صبراً على البلاء. قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. 10 - قوة العزم والعزيمة في الخير من صفات الأنبياء والمرسلين والصالحين قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. 11 - العزيمة دليل حسن الظّنّ. ومتانة الدّين وعلامة اليقين (¬8). 12 - تصنع المستحيلات وتليّن الصعوبات. 13 - هي خير معين على طلب العلم. 14 - العزيمة على طلب الحقّ تثمر نور الحقّ وجلال الإيمان. 15 - حسن العزيمة في الجهاد يضاعف قوّة الرّجال إلى ما لا نهاية. ¬

(¬1) ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة المقدسي (201). (¬2) ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي، تكملة عطية سالم (9/ 189). (¬3) انظر ((رياض الصالحين)) النووي (1/ 22). (¬4) ((حلية الأولياء)) أبو نُعيم الأصبهاني (3/ 230). (¬5) ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) ابن القيم (1/ 90). (¬6) رواه الترمذي (3407)، والنسائي (1304). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1501)، والألباني في ((ضعيف الجامع)) (1190). (¬7) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) ابن القيم (1/ 401). (¬8) من رقم (11) وما بعده انظر موسوعة نضرة النعيم (7/ 2864)

موانع اكتساب العزم والعزيمة وتقويتها

موانع اكتساب العزم والعزيمة وتقويتها 1 - مرض القلب وضعف النفس وانهزامها: إذا فقد القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] فإن ضعف العزيمة من ضعف حياة القلب وهي دليل على حياته، وعلى مرضه أو موته. 2 - العجز والكسل: من أعظم المصائب الهدامة العجز والكسل، والجبن، والبخل، قال محمد إسماعيل المقدم: (وهما العائقان اللذان أكثر الرسول من التعوذ بالله سبحانه منهما (¬1) وقد يعذر العاجز لعدم قدرته بخلاف الكسول الذي يتثاقل ويتراخى مما ينبغي مع القدرة قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة: 46] (¬2). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ)) (¬3). 3 - التسويف والتمني وترك الأخذ بالأسباب: قال محمد إسماعيل المقدم (وهما صفة بليد الحس عديم المبالاة الذي كلما همت نفسه بخير- وعزمت عليه – إما يعيقها بسوف حتى يفجأه الموت فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون: 10]، وإما يركب بها بحر التمني وهو بحر لا ساحل له يدمن ركوبه مفاليس العالم ... وما أحسن ما قال أبو تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا) (¬4) 4 - الخوف من الفشل: إن الخوف الدائم من الفشل ووضع نتائجه سلبية للعمل قبل تنفيذه وتوقع انتقاد الآخرين من العوامل المؤثرة في ضعف عزيمة النفس ويورث شعوراً دائما بالاستكانة وذل النفس وهوانها فيجب عليك أن تقاوم الخوف وتتأسى بأصحاب العزم الصادق الذين قال الله تعالى عن عزمهم وقوتهم في مواجهة الحياة وحسن توكلهم عليه سبحانه في تقوية عزائمهم على مواجهة الصعوبات الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173 - 174] واعلم أن عليك أن تسعى وليس عليك إدراك النجاح ويكفيك شرف المحاولة قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23]. 5 - التردد وعدم وضوح الأهداف: ¬

(¬1) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال) رواه البخاري (2893). (¬2) ((علو الهمة)) محمد إسماعيل المقدم (336). (¬3) رواه مسلم (2664). (¬4) ((علو الهمة)) محمد إسماعيل المقدم (338 - 339) بتصرف. وانظر مدارج السالكين، ابن القيم (1/ 457).

قال محمد الغزالي: (إن الإسلام يكره لك أن تكون متردداً في أمورك تحار في اختيار أصوبها وأسلمها وتكثر الهواجس في رأسك فتخلق أمامك جو من الريبة والتوجس فلا تدري كيف تفعل وتضعف قبضتك في الإمساك بما ينفعك فيفلت منك ثم يذهب سدى) (¬1)، ولهذا شرع لنا الله سبحانه مشاورة أهل الرأي والخبرة من أهل الصلاح قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 43]، وشرع لنا الرسول الاستخارة (¬2)، إعانة للمرء على بلوغ الصواب وبعد المشاورة يكن التنفيذ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]. 6 - سوء الظن بالله سبحانه وتعالى واليأس وفقدان الأمل والنظرة التشاؤمية للحياة. إن فقدان الأمل يقعد الإنسان عن طلب المعالي ليأسه وحكمه على المستقبل بما يعيشه من واقع أليم، قال محمد الغزالي: (عمل الشيطان هو تشييع الماضي بالنحيب والإعوال هو ما يلقيه في النفس من أسى وقنوط على ما فات، إن الرجل لا يلتفت وراءه إلا بمقدار ما ينتفع به في حاضره ومستقبله أما الوقوف مع هزائم الأمس واستعادة أحزانها والتعثر في عقابيلها وتكرار لو، وليت، فليس ذلك من خلق المسلم ... قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156] (¬3). وانظر لنبي الله يعقوب لم يمنعه طول الزمان بعد فقدانه ليوسف في الأمل في الله أن يعيده له بل ازداد أمله بعد حبس ابنه الثاني بمصر فقال لأولاده يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. 7 - قلة الصبر وعدم الثبات واستطالة الطريق واستعجال النتائج قلة الصبر وعدم الثبات تحرم الإنسان من بلوغ أي هدف وتحقيق أي كمال وما أخرج آدم عليه الصلاة والسلام من جنة الخلد وجوار الرحمن والعيش الهني والمسكن الطيب إلى شقاء الدنيا وتعبها وهمومها إلا قلة الصبر عما نهاه الله عنه وعدم الثبات على ما أمر به قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] (¬4). 8 - صحبة أصحاب العزائم الخاوية والبطالين: المرء على دين خليله، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم البعض. الفتور والغفلة: الغفلة ذهول المرء عن دوره في الحياة وتحقيق العبادة والفتور التقصير فيما ينبغي فعله وهما رأس البلاء ومكمن الداء وإن كانا يبتلى بهما الإنسان كما قال ابن القيم: (لابد من سنة الغفلة ورقاد الغفلة ولكن كن خفيف النوم) (¬5) فلا يعني ذلك ترك الواجبات وفعل المحرمات ولهذا قَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- ((إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةً وَلِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةً فَمَنْ كَانَتْ شِرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)) (¬6). ومن مظاهر ذلك: (تضييع الوقت وعدم الإفادة منه، وتزجيته بما لا يعود بالنفع، وتقديم غير المهم على المهم، والشعور بالفراغ الروحي والوقتي وعدم البركة في الأوقات، عدم إنجاز شيئاً من العمل مع طول الزمن - عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي؛ - الفوضوية في العمل: فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، الأعمال ارتجالية، التنقل بين الأعمال بغير داع. - خداع النفس؛ بالانشغال مع الفراغ، وبالعمل وهي عاطلة، الانشغال بجزئيات لا قيمة لها ولا أثر يذكر، ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، وإنما هي أعمال تافهة ومشاريع وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع. النقد لكل عمل إيجابي؛ تنصلا من المشاركة والعمل، وتضخيم الأخطاء والسلبيات؛ تبريرا لعجزه وفتوره، تراه يبحث عن المعاذير، ويصطنع الأسباب؛ للتخلص والفرار وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] (¬7). ¬

(¬1) ((خلق المسلم)) محمد الغزالي (88). (¬2) البخاري برقم (1109) عن ابن مسعود رضي الله عنه) (¬3) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (89). (¬4) راجع أقوال المفسرين حول هذه الآية من هذا البحث. (¬5) ((علو الهمة)) للمقدم (ص 337). (¬6) رواه أحمد (2/ 188) (6764)، وابن حبان (1/ 187) (11)، والبزار (6/ 337) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2426)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2152). (¬7) انظر ((الفتور)) ناصر العمر (19 - 20).

الوسائل المعينة على تقوية العزم والعزيمة

الوسائل المعينة على تقوية العزم والعزيمة - التوكل على الله وحسن الظن به سبحانه في الوصول للهدف. أرشدنا الله سبحانه لهذا بقوله سبحانه: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] (ذكر الأستاذ المودودي في كتابه القيم: مبادئ الإسلام آثار عقيدة التوحيد ... قوة العزم والصبر والثبات لعلمه أن الله معه وأنه مؤيده وناصره، ذاكرا قول الله تعالى: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] التي قالها إبراهيم عندما أريد إلقاءه في النار، ومحمد صلى الله عليه وسلم عندما خوف بصناديد المشركين، وقول هود عليه السلام لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّه [هود: 55 - 56]) (¬1). 1 - الدعاء: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بأن يهدى لأحسن الأخلاق والعزم والعزيمة من الأخلاق الحسنة فكان من دعائه: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) (¬2). 2 - صدق الإيمان وسلامة العقيدة: قال محمد الغزالي: (العقيدة المكينة معين لا ينضب للنشاط الموصول والحماسة المذخورة واحتمال الصعاب ومواجهة الأخطار بل هي سائق حثيث يدفع إلى لقاء الموت دون تهيب إن لم يكن لقاء محب مشتاق!! تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله فإذا تكلم كان واثقا من قوله وإذا اشتغل كان راسخا في عمله وإذا اتجه كان واضحا في هدفه) (¬3). 3 - الاقتداء بذوي العزم والعزيمة من أهل الصلاح والدين: قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. وقال تعالى في الاقتداء بالصالحين قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]. 4 - مصاحبة أهل العزائم القوية والهمم العالية: فالمرء على دين خليله قال ابن تيمية: (الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض) (¬4)، وقال لقمان الحكيم لابنه: (من يُقارِنْ قَرِينَ السّوء لا يَسْلَمْ، ومن لا يَمْلِكْ لِسانَه يَنْدَم. يا بني كُنْ عبداً للأَخيار ولا تكن خَليلاً للأَشْرار) (¬5). أحب الصالحين ولست منهم ... عسى أن يدركني بحبهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي ... وإن كنا سواءً في البضاعة 5 - المسارعة في التنفيذ وعدم التردد بعد عقد العزم على العمل: قال تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد: 21]. 6 - الثبات والصبر على الصعوبات أثناء العمل: قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]. 7 - أخذ الأمور بجدية: الجدية في الحياة كلها وإلزام النفس بما يراد تحقيقه طريق الناجحين في حياتهم ومن جد وجد ومن زرع حصد , قال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12]، وقال تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63]. ¬

(¬1) ((مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة))، العدد 32 توحيد الله (12/ 36). (¬2) رواه مسلم (771). (¬3) ((خلق المسلم)) محمد الغزالي (86). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (28/ 150) .. (¬5) ((بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز))، الفيروز آبادي (6/ 91).

8 - النجاح الحقيقي بما أنجزت لا بما ورثت: والقاعدة الإسلامية لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ولا يستوي العالم والجاهل ولا المؤمن والكافر ولا المجتهد والكسول ولا القوي والضعيف. قال المتنبي: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي ولسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا إذا ما المرء لم يبن افتخاراً لنفسه ... تضايق عنه ما بنته جدوده (¬1) 9 - الرغبة الصادقة في تغيير الذات وتقوية العزم والعزيمة: وهذا يشمل خطوات: - تغيير العادات السلبية إلى أخرى إيجابية: السعي الحثيث لرفع العزيمة وتقويتها يبدأ بالرغبة في إصلاح مواطن الضعف في النفس والصدق في تحويلها لمواطن قوة ولهذا فلم تمنع قاتل التسعة والتسعين نفساً آثامه من السعي للتغيير بل ولما أكمل المائة مازال عازما على التوبة فبحث وسأل بل وترك ما يحب من أهل ووطن في سبيل ما يرجو حتى كانت العاقبة مغفرة الله ورضوانه (¬2). - تحديد الهدف المراد تحقيقه ووضوحه. - معرفة فائدة العمل في حياتك الدينية والدنيوية. فمعرفة فائدة العمل تعين على تحمل مشاق العمل ولهذا جاءت الشريعة بنصوص الترغيب في العمل الصالح وأن ثوابه رضا الله والجنة والترهيب من المعاصي وأن عاقبتها غضب الله والنار. - تقسيم العمل إلى أهداف قصيرة ذات وقت قصير. - مكافأة النفس بعد كل عمل تنجزه والمكافأة بقدر العمل. - محاسبة النفس على التقصير ومعاقبتها بترك بعض ما تحب. ¬

(¬1) ((العود الهندي مجالس أدبية في ديوان المتنبي)) عبد الرحمن السقاف، (2/ 367 – 374 - 388). (¬2) الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبى سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال (كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله، فقال له هل من توبة قال لا. فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي. وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي. وقال قيسوا ما بينهما. فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له).

نماذج من قوة العزم والعزيمة

نماذج من عزم الأنبياء والمرسلين: نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام والعزم على طلب العلم (¬1). قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60]. (يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لخادمه لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا أي: مسافة طويلة وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه) (¬2)، ولم يمنعه من الاستمرار في رحلته قوله لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا أي تعبا ً وكذلك لم يثني عزمه صلى الله عليه وسلم أنهم أخطأوا الطريق قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 64 - 66]. وسبب رحلة نبي الله موسى لطلب العلم أنه (بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لَا فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ) (¬3). ¬

(¬1) ((العود الهندي مجالس أدبية في ديوان المتنبي)) عبد الرحمن السقاف (2/ 367 – 374 - 388). (¬2) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) السعدي (480 - 481). (¬3) البخاري، (74).

نماذج من عزم الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من عزم الصحابة رضي الله عنهم: - عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِى طَالِبٍ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلاَّ بِلاَلاً فَإِنَّهُ قَدْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ) (¬1). قال السيوطي: (قد وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106]، والصبر على أذاهم مستحب وقد علموا على الرخصة وعمل بلال على العزيمة) (¬2). - عزيمة لا يخمدها إلا الموت (أنس بن النضر رضي الله عنه). قال ابن الجوزي: (ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه وقد سمعت من أثر عزمته لئن أشهدني الله مشهداً ليرين الله ما أصنع، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف والله لا تكسر سن الربيع) (¬3). - زيد بن ثابت يتعلم العبرية في نصف شهر: عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أتعلّم له كتاب يهود قال: ((إنّي والله ما آمن يهود على كتاب))، قال: فما مرّ بي نصف شهر حتّى تعلّمته له. قال: فلمّا تعلّمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم) (¬4). - هؤلاء لو أرادوا هدم الجبال لفعلوا: أرسل يزدجرد كسرى فارس إلى ملك الصين يطلب المدد لمحاربة المسلمين الذين استولوا على بلاد فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل ملك الصين يعتذر عن نجدته بقوله: (إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلي سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ولا تهجهم ما لم يهيجوك) (¬5). - من صفوف الخدم إلى صفوف الأمراء: في (سنة سبع وثمانين وأربعمائة في شهر ربيع، وقيل في جمادى الأولى، أمير الجيوش: أبو النجم بدر الجمالي كان مملوكاً أرمنياً لجمال الدولة بن عمار، فلذلك عرف: بالجمال، وما زال يأخذ بالجد من زمن سبيه فيما يباشره، ويوطن نفسه على قوة العزم، وينتقل في الخدم، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر) (¬6). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (150)، وابن حبان (15/ 558) (7083). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/ 23)، وحسنه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) ((شرح سنن ابن ماجة)) السيوطي، (1/ 14). (¬3) ((صيد الخاطر)) ابن الجوزي (139). (¬4) رواه أبو داود (3645)، والترمذي (2715)، وأحمد (5/ 186) (21658). قال الترمذي حسن صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬5) ((تاريخ الأمم والملوك))، ابن جرير الطبري (2/ 549). (¬6) ((المواعظ والاعتبار)) المقريزي (2/ 214).

متفرقات في العزم والعزيمة

متفرقات في العزم والعزيمة - قوة العزم تذيب الحجرا (¬1). - رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم (¬2). - قد أحزم لو أعزم (¬3). - العمر فرصة واحدة فلاتكن نسيا منسيا واترك أثراً طيباً قبل الرحيل. - أنت تستطيع فأعط لنفسك فرصة للنجاح. - رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. - ليكن عزمك من إمكانياتك وقدراتك لا من قدرات الآخرين. - لا تكلف نفسك إلا ما تطيق وقم بما تستطيع من الأعمال. - عليك أن تسعى والله يقدر ما شاء ويكفيك فخراً شرف المحاولة. - لكل عمل ناجح خطوات وأسباب فخذ بالأسباب مطبقاً للخطوات مستعينا في ذلك كله بالله سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) ((دواوين الشعر العربي على مر العصور)) (87/ 201). (¬2) ((تفسير النكت والعيون)) الماوردي (4/ 332). (¬3) ((البحر المحيط)) أبو حيان الأندلسي (3/ 464).

العزم والعزيمة في واحة الشعر ..

العزم والعزيمة في واحة الشعر .. إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمه ... ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانباً ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه ... ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحباً (¬1) قال امرؤ القيس: ولو أنما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنَّما أسعى لمجد مؤثَّل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي (¬2) وقال أبودُلَف: وليس فراغ القلب مجداً ورفعة ... ولكنَّ شغل القلب للمرء رافع إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيم وقال المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم ... ¬

(¬1) ((تفسير التحرير والتنوير)) لابن عاشور (4/ 151). (¬2) ((العود الهندي مجالس أدبية في ديوان المتنبي)) عبد الرحمن السقاف (3/ 12،9).

العفة

معنى العفة لغة واصطلاحاً: معنى العفة لغة: تقول عَفَّ عن الحرام يعِف بالكسر عِفَّةٌ وعَفًّا وعَفَافَةً أي كفَّ فهو عَفُّ وعَفِيفٌ والمرأة عَفَّةٌ وعَفِيفَةٌ وأعَفَّهُ الله واسْتَعَفَّ عن المسألة أي عفَّ وتَعَفَّفَ تكلف العِفَّةَ. والعِفّة الكَفُّ عما لا يَحِلّ ويَجْمُلُ عَفَّ عن المحارِم والأُطْماع الدَّنِية. والاسْتِعْفاف طلَبُ العَفافِ (¬1). معنى العفة اصطلاحاً: هي: (هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطها فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة) (¬2). وقيل هي: (ضبط النّفس عن الشّهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحّته فقط، واجتناب السّرف في جميع الملذّات وقصد الاعتدال) (¬3). وقيل هي: (ضبط النّفس عن الملاذّ الحيوانيّة، وهي حالة متوسّطة من إفراط وهو الشّره وتفريط وهو جمود الشّهوة) (¬4). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 253). ((مختار الصحاح)) للرازي (4/ 1405) (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (ص151). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 21) (¬4) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 318)

الأمر بالعفة

الأمر بالعفة الأمر بالعفة في القرآن الكريم: - قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. [النور:30] - وقال سبحانه: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] (أي: ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: يوسع عليهم من رزقه) (¬1). - وقال سبحانه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور: 60] (وقوله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي: وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزًا خير وأفضل لهن، والله سميع عليم) (¬2). - وقال سبحانه: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273] (الْجَاهِل بحالهم أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال: عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك. تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ السيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هاهنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم، لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال) (¬3). - وقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء:6] ¬

(¬1) ((معالم التنزيل)) للبغوي (6/ 41). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 84) (¬3) ((معالم التنزيل)) للبغوي (1/ 338).

(أي: من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم) (¬1). الأمر بالعفة في السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) (¬2). (أي العفة من الزنا. قال الطيبي: إنما آثر هذه الصيغة إيذانا بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم ظهره، لولا أن الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف لأنه قمع الشهوة الجبلية المركوزة فيه، وهي مقتضى البهيمية النازلة في أسفل السافلين، فإذا استعف وتداركه عون الله تعالى ترقى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين) (¬3). - وعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) (¬4). قال ابن عبد البر في شرحه لهذا الحديث: (اضمنوا لي ستا: من الخصال ((من أنفسكم)) بأن تداوموا على فعلها ((أضمن لكم الجنة)) أي دخولها ((اصدقوا إذا حدثتم)) أي لا تكذبوا في شيء من حديثكم إلا إن ترجح على الكذب مصلحة أرجح من مصلحة الصدق في أمر مخصوص كحفظ معصوم ((وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم)) (¬5). ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)) قال البيهقي ودخل فيه ما تقلد المؤمن بإيمانه من العبادات والأحكام وما عليه من رعاية حق نفسه وزوجه وأصله وفرعه وأخيه المسلم من نصحه وحق مملوكه أو مالكه أو موليه فأداء الأمانة في كل ذلك واجب ((واحفظوا)) أيها الرجال والنساء ((فروجكم)) عن فعل الحرام لثنائه تعالى على فاعليه بقوله وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ [الأحزاب: 35] ((وغضوا أبصاركم)) كفوها عما لا يجوز النظر إليه ((وكفوا أيديكم)) امنعوها من تعاطي ما لا يجوز تعاطيه شرعا فلا تضربوا بها من لا يسوغ ضربه ولا تناولوا بها مأكولا أو مشروبا حراما ونحو ذلك فمن فعل ذلك فقد حصل على رتبة الاستقامة المأمور بها في القرآن وتخلقوا بأخلاق أهل الإيمان) (¬6). - وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أنه قال: ((إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم. حتى إذا نفد ما عنده. قال: ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله. ومن يصبر يصبره الله. وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر)) (¬7). قال ابن عبد البر: (فيه الحض على التعفف والاستغناء بالله عن عباده والتصبر وأن ذلك أفضل ما أعطيه الإنسان وفي هذا كله نهي عن السؤال وأمر بالقناعة والصبر) (¬8). - وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: ((سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه الله عز وجل ومن استعف أعفه الله عز وجل ومن استكفى كفاه الله عز وجل ومن سأل وله قيمة أوقية، فقد ألحف فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت ولم أسأله)) (¬9). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (¬10). قال النووي رحمه الله: (أما العفاف والعفة فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم) (¬11). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 216). (¬2) رواه الترمذي (1655)، والنسائي (3120)، وابن ماجه (2518). وحسنه الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (5/ 6)، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 5). (¬3) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (5/ 296). (¬4) رواه أحمد (5/ 323) (22809)، وابن حبان (1/ 506)، والحاكم (4/ 399). وصحح إسناده الحاكم، وقال الذهبي في ((المهذب)) (5/ 2451): إسناده صالح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1095). (¬5) رواه أحمد (5/ 323) (22809)، وابن حبان (1/ 506)، والحاكم (4/ 399). وصحح إسناده الحاكم، وقال الذهبي في ((المهذب)) (5/ 2451): إسناده صالح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1095). (¬6) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 683) (¬7) رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053). (¬8) ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/ 133). (¬9) رواه النسائي (2595)، وأحمد (3/ 9) (11075). وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 329)، وجود إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 401). (¬10) رواه مسلم (2721). (¬11) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 41).

أقوال السلف والعلماء في العفة

أقوال السلف والعلماء في العفة - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة، ومروءة باطنة، فالمروءة الظاهرة الرياش، والمروءة الباطنة العفاف.) (¬1). - وقال رضي الله عنه وهو على المنبر: (لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب؛ فإنكم متى كلفتموها ذلك كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصغير الكسب؛ فإنه إذا لم يجد يسرق، وعفوا إذا أعفكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها) (¬2). - وقال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما: (نحن معشر قريش نعد الحلم والجود السؤدد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة) (¬3). - وقدم وفد على معاوية فقال لهم: (ما تعدون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة، قال اسمع يا يزيد) (¬4). - وقال محمد بن الحنفية (الكمال في ثلاثة: العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة) (¬5). - وقال عمر بن عبد العزيز: (خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة: أن يكون فهما حليما عفيفا صليبا، عالما سؤولا عن العلم) (¬6). - وقال أيوب السختياني: (لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم) (¬7). - وقال الحسن البصري: (لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه) - وقال الشافعي رحمه الله: (الفضائل أربع: إحداها: الحكمة, وقوامها الفكرة. والثانية: العفّة, وقوامها الشهوة. والثالثة: القوة, وقوامها الغضب. والرابعة: العدل, وقوامه في اعتدال قوى النفس). - وقال أبو حاتم رحمه الله: (أعظم المصائب سوء الخلق والمسألة من الناس والهم بالسؤال نصف الهرم فكيف المباشرة بالسؤال ومن عزت عليه نفسه صغرت الدنيا في عينيه ولا ينبل الرجل حتى يعف عما في أيدي الناس ويتجاوز عما يكون منهم والسؤال من الإخوان ملال ومن غيرهم ضد النوال) (¬8). - وعن المديني قال: (كان يقال مروءة الصبر عند الحاجة والفاقة بالتعفف والغنى أكثر من مروءة الإعطاء) (¬9). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 150). (¬2) رواه مالك (2/ 981) (42)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (2/ 86) (622)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (11/ 89) موقوفًا على عثمان بن عفان رضي الله عنه. (¬3) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 215). (¬4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 150). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (329). (¬6) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7163). (¬7) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 319). (¬8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 146). (¬9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 151).

أقسام العفة

أقسام العفة (العفة نوعان: أحدهما العفة عن المحارم والثاني العفة عن المآثم فأما العفة عن المحارم فنوعان: أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام. والثاني: كف اللسان عن الأعراض. فأما ضبط الفرج عن الحرام فلأنه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة، وهتكة واضحة ... وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحب العفاف إلى الله تعالى عفاف الفرج والبطن)) (¬1) ... وأما العفة عن المآثم فنوعان: أحدهما: الكف عن المجاهرة بالظلم، والثاني: زجر النفس عن الإسرار بخيانة) (¬2). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (321). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص329) بتصرف.

آثار وفوائد العفة

آثار وفوائد العفة من آثار وفوائد العفة: 1 - أن من عف عن محارم الله لا تمسه النار: قال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أعين لا تمسهم النار عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين عفت عن محارم الله)) (¬1). 2 - سلامة المجتمع من الفواحش: فالمجتمع الذي تتسم فيه العفة يكون بعيدا من الفواحش والرذائل. 3 - أن العفيف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. 4 - العفة سبب للنجاة من الابتلاءات والمضائق: فقد جاء في قصة أصحاب الغار، الذين انطبقت عليهم الصخرة أن أحدهم توسل إلى الله بقوله: ((اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمئة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها فقالت اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المئة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا)) (¬2). 5 - أن العفيف من أول من يدخل الجنة: كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف ... )) (¬3). 6 - إعانة الله لمن أراد العفاف: إن الله سبحانه وتعالى تكفّل بمقتضى وعده إعانة من يريد النكاح حتى يعف، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حقّ على الله عزّ وجل عونهم: المكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (19/ 416)، وأبو يعلى (1/ 186) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 191): رواته ثقات إلا أن أبا حبيب العنقري لا يحضرني الآن حاله. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1900): حسن لغيره. (¬2) رواه البخاري (3465) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (1642) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (4/ 16)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3702). (¬4) رواه الترمذي (1655)، والنسائي (3120)، وابن ماجه (2518). وحسنه الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (5/ 6)، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 5).

شروط العفة

شروط العفة ذكر الراغب الأصفهاني شروطاً للعفة في كتابه (الذريعة) وهي كالتالي: 1 - (أن لا يكون تعففه عن الشيء انتظارا لأكثر منه. 2 - أو لأنه لا يوافقه. 3 - أو لجمود شهوته. 4 - أو لاستشعار خوف من عاقبته. 5 - أو لأنه ممنوع من تناوله. 6 - أو لأنه غير عارف به لقصوره. فإن ذلك كله ليس بعفة بل هو إما اصطياد، أو تطبب، أو مرض، أو خرم، أو عجز، أو جهل، وترك ضبط النفس عن الشهوة أذم من تركها عن الغضب. فالشهوة مغتالة مخادعة، والغضب مغالب والمتحيز عن قتال المخادع أردأ حالا من المتحيز عن قتال المغالب. ولهذا قيل عبد الشهوة أذل من عبد الرق، وأيضا بالشره قد يجهل عيبه) (¬1). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص319) بتصرف.

صور العفة

صور العفة 1 - العفة عما في أيدي الناس: وهي أن يعف عما في أيدي الناس وعدم سؤالهم المسألة فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة)). فقال ثوبان أنا. فكان لا يسأل أحدا شيئا. (¬1). 2 - العفة عما حرم الله: وهي أن يعف عن المحرمات والفواحش ونذكر هنا عفة نبي الله يوسف عليه السلام حيث وجدت دواعي الفتنة ولم يستسلم أمام التهديدات والإغراءات وقد (ذكر الله عن نبيه يوسف عليه السلام من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فكان شاب في ريعان الشباب، مكتمل الرجولة، رائع الفتوة، تدعوه إلى نفسها امرأة ذات منصب وجمال، والأبواب مغلقة، والسبل ميسرة كما حكى القرآن الكريم: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]. فماذا كان موقفه أمام هذا الإغراء وتلك الفتنة التي تخطف الأبصار هل لانت نفسه فاستسلم وخان عرضا اؤتمن عليه؟ كلا إنما قال: مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23]. ولقد حاولت امرأة العزيز بكيدها ومكرها وبكل ما لديها من ألوان الإغراء والتهديد أن تذيب من صلابته وتضعضع من شموخه، وأعلنت ذلك للنسوة في ضيق وغيظ: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32]. كانت فتنة بين ضمير المؤمن وخشيته الربانية ومغريات الإثم ففشلت المغريات وانتصر الإيمان) (¬2). - نموذج آخر في العفة عما حرم الله، وهو جريج العابد؛ تتعرض له بغي من بغايا بني إسرائيل، فيعف نفسه ولم يلتفت إليها فتحاول أن تنتقم منه لامتناعه: فقد روى مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه (( ... تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت إن شئتم لأفتننه لكم - قال - فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم قالوا زنيت بهذه البغي فولدت منك. فقال أين الصبي فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي - قال - فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب. قال لا أعيدوها من طين كما كانت (¬3). 3 - كف اللسان عن الأعراض: يجب على المسلم كف لسانه عن أعراض الناس، وأن لا يقول إلا طيباً فعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (¬4). وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: قل ربي الله ثم استقم قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا. (¬5) ¬

(¬1) رواه أبو داود (1643)، وأحمد (5/ 276) (22428)، والحاكم (1/ 571). وصحح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 39)، وصحح إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (237)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (1643). (¬2) ((مسؤولية التربية الجنسية)) عبد الله علوان (ص85 - 86). (¬3) رواه مسلم (2550). (¬4) رواه البخاري (10). (¬5) رواه الترمذي (2410)، وابن ماجه (3972)، وأحمد (3/ 413) (15457). قال الترمذي: حسن صحيح. وصحح إسناده الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/ 230)، وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2410).

موانع وعوائق العفة

موانع وعوائق العفة المعوقات التي تقف في طريق العفة في هذا الزمن كثيرة جداً وقد كشر المفسدون عن أنيابهم حتى يُعلوا الرذيلة في المجتمع المسلم واتخذوا الوسائل العديدة فمنها: 1 - وسائل الإعلام: فإن الناظر إلى أغلب وسائل الإعلام الموجودة في البلاد الإسلامية فضلا عن غيرها، يجد فيها الكثير من الفساد سواء كان في القنوات الفضائية، أوالشبكة العنكبوتية، أوالإذاعة والمجلات والصحف، فتجدها تبث السموم وتنشر الرذيلة، وبذلك تضيع العفة. 2 - الاختلاط: (إن العِفَّة حجاب يُمَزِّقه الاختلاط، ولهذا صار طريق الإسلام التفريق والمباعدة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، فالمجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، فللرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن، ولا تخرج المرأة إلى مجتمع الرجال إلا لضرورة أو حاجة بضوابط الخروج الشرعية. كل هذا لحفظ الأعراض والأنساب، وحراسة الفضائل، والبعد عن الرِّيب والرذائل، وعدم إشغال المرأة عن وظائفها الأساس في بيتها، ولذا حُرِّم الاختلاط، سواء في التعليم، أم في العمل، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات العامة والخاصة، وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض ومرض القلوب، وخطرات النفس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة) (¬1). قال تعالى وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو قال الحمو الموت.)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان)) (¬3). 3 - تبرج النساء: قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب: 33]، وقال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31]، قال السعدي في تفسيره لهذه الآية: (أي، لا يضربن الأرض بأرجلهن، ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة إلى الفتنة. ويؤخذ من هذا ونحوه، قاعدة سد الوسائل، وأن الأمر إذا كان مباحا، ولكنه يفضي إلى محرم، أو يخاف من وقوعه، فإنه يمنع منه، فالضرب بالرجل في الأرض، الأصل أنه مباح، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة، منع منه) (¬4). 4 - استماع الأغاني والمعازف: فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: ((والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) (¬5). (والحكمة في التحريم ظاهرة: حيث أن المتتبع لمجالس الغناء الفاسق ومسارح الطرب وأماكن اللهو وما يصاحبها من معازف وآلات في ذلك يجد الرقص الخليع الفاجر من نساء امتهنَّ الرذيلة والفاحشة ويجد العربدة والصياح المتعالي من أفواه السكارى ويجد الكلمات البذيئة الفاحشة العارية من الحياء والخجل والمتخمة بالوقاحة وسوء الأدب، يجد الاختلاط الشائن بين عوائل متحللة حيث التخلع والمراقصة وهدر النخوة والشرف ... وباختصار يجد التحلل والإباحية في أسوأ تبذلها ومظاهرها) (¬6). قال الفُضَيل بن عِيَاض: الغناء رُقْيَة الزنا. (¬7). وقال ابن القيم رحمه الله: (فإنه رُقْيَة الزنا ومُنبِت النفاق وشَرَك الشيطان وخمرة العقل، وصَدُّه عن القرآن أعظم من صدِّ غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس ورغبتها فيه) (¬8). ¬

(¬1) ((حراسة الفضيلة)) لبكر أبو زيد (ص97 - 98) (¬2) رواه البخاري (5232)، ومسلم (2172). (¬3) رواه أحمد (3/ 339) (14692) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (180). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (566) (¬5) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (5590)، وصححه ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (10/ 153). (¬6) ((تربية الأولاد في الإسلام)) لعبد الله العلوان (2/ 921 - 922). (¬7) رواه ابن أبي الدنيا في ((ذم الملاهي)) (55). (¬8) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 240).

الوسائل المعينة للعفة

الوسائل المعينة للعفة 1 - أن يتقي الله في سره وعلانيته: قال الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] ويقول تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] قال ابن عباس في قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ قال: (هو الرجل يكون بين الرجال، فتمر بهم امرأة فينظر إليها، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره) (¬1). 2 - أن يدعو الله بأن يصرف عنه السوء والفحشاء: قال سبحانه وتعالى عن نبيه يوسف عليه السلام وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33]، قال ابن تيمية رحمه الله: (فلا بد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور كما فعل يوسف عليه السلام اتقى الله بالعفة عن الفاحشة وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس واستعان الله ودعاه حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن وصبر على الحبس) (¬2). 3 - تنشئة الأبناء على التربية الإسلامية: التربية الإسلامية تغرس الفضيلة والعفة في الأبناء، وتربيهم على الالتزام بالأحكام الشرعية منذ صغرهم 4 - الزواج: الزواج المبكر من أقوى الوسائل المعينة للعفاف، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشاب من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) (¬3). 5 - سد الذرائع التي تؤدي إلى الفساد: - عدم الخلوة بالمرأة الأجنبية. قال صلى الله عليه وسلم: ((الحمو الموت))، وقال: ((ما خلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) (¬4). قال ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة) (¬5). - عدم التبرج: قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. - الاستئذان عند الدخول: وقد جعل الاستئذان من أجل البصر كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور: 27]. - غض البصر: قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور: 30]. قال ابن القيم: (فلما كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره ... وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن)) لأبي المظفر السمعاني (5/ 13) (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/ 131) (¬3) رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400) واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (5232)، ومسلم (2172). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/ 251) (¬6) ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص 92)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) (¬1). وكما قال الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر - التفريق في المضاجع: لابد من التفريق في المضاجع بين الإخوة، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) (¬2). قال بكر أبو زيد رحمه الله: (فهذا الحديث نص في النهي عن بداية الاختلاط داخل البيوت، إذا بلغ الأولاد عشر سنين، فواجب على الأولياء التفريق بين أولادهم في مضاجعهم، وعدم اختلاطهم، لغرس العفة والاحتشام في نفوسهم، وخوفاً من غوائل الشهوة التي تؤدّي إليها هذه البداية في الاختلاط، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) (¬3). 6 - إقامة الحدود: فإقامة الحدود تردع لمن تسول له نفسه أن يقوم بأمر حذر منه الشارع. ¬

(¬1) رواه مسلم (2657). (¬2) رواه أبو داود (495)، وأحمد (2/ 187) (6756) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (11/ 36)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (298). (¬3) ((حراسة الفضيلة)) لبكر أبو زيد (ص129).

نماذج في العفة

النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً في العفة: - كان النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات العفة، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) (¬1). - وعنه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)) (¬2). - وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق قال: ((لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1491)، ومسلم (1069). (¬2) رواه البخاري (2432)، ومسلم (1070). (¬3) رواه البخاري (2431).

نماذج من عفة الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من عفة الصحابة رضي الله عنهم: عفة حكيم بن حزام رضي الله عنه: - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل، ولا يشبع اليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم، فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر، رضي الله عنه، يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه ثم إن عمر، رضي الله عنه، دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا فقال عمر إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي)) (¬1). عفة مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه: - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق وكانت صديقة له، وإنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إليَّ عرَفَتْ، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أُسراءَكم، قال: فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت، فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي وعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكبله فجعلت أحمله ويعييني حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا حتى نزلت الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها)) (¬2). عفة عثمان بن طلحة رضي الله عنه: - حادثة تبين لنا عفة وشهامة عثمان بن طلحة رضي الله عنه، ولنترك المجال لصاحبة الموقف أم سلمة رضي الله عنها تروي لنا القصة فتقول: (( ... وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسى سنة أو قريبا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، قالت: فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله، قالت: قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معك أحد؟ قلت: لا والله إلا الله وبني هذا، قال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي به، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني، حتى إذا نزلنا استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة، قال: وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب أبو سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1472) ومسلم (1035). واللفظ للبخاري. (¬2) رواه الترمذي (3177)، والنسائي (3228). قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال ابن عربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 260): حسن صحيح جدًا. وحسن إسناده الألباني في ((صحيح النسائي)) (3228). (¬3) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 469)، وذكره ابن منده في ((الفوائد)) (ص292 - 293).

نماذج من عفة السلف:

نماذج من عفة السلف: عفة سالم بن عبد الله بن عمر: - قال ابن عيينة: (دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة. قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره. فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة. فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟) (¬1). عفة الربيع بن خثيم رحمه الله: - عن سعدان قال: (أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة فقال لها الربيع كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير فصرخت صرخة فسقطت مغشيا عليها فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق) (¬2). عفة الأشرف، صاحب دمشق: - قال سبط الجوزي: (كان الأشرف يحضر مجالسي بحران، وبخلاط، ودمشق، وكان ملكا عفيفا، قال لي: ما مددت عيني إلى حريم أحد، ولا ذكر ولا أنثى، جاءتني عجوز من عند بنت صاحب خلاط شاه أرمن بأن الحاجب عليا أخذ لها ضيعة، فكتبت بإطلاقها. فقالت العجوز: تريد أن تحضر بين يديك. فقلت: باسم الله، فجاءت بها، فلم أر أحسن من قوامها، ولا أحسن من شكلها، فخدمت، فقمت لها، وقلت: أنت في هذا البلد وأنا لا أدري؟ فسفرت عن وجه أضاءت منه الغرفة، فقلت: لا، استتري. فقالت: مات أبي، واستولى على المدينة بكتمر، ثم أخذ الحاجب قريتي، وبقيت أعيش من عمل النقش وفي دار بالكراء. فبكيت لها، وأمرت لها بدار وقماش، فقالت العجوز: يا خوند، ألا تحظى الليلة بك؟ فوقع في قلبي تغير الزمان وأن خلاط يملكها غيري، وتحتاج بنتي أن تقعد هذه القعدة، فقلت: معاذ الله، ما هذا من شيمتي. فقامت الشابة باكية تقول: صان الله عواقبك) (¬3). ¬

(¬1) رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1/ 384). (¬2) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (3/ 191) (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (42/ 126).

أساس العفة وتمامها

أساس العفة وتمامها قال الراغب الأصفهاني وهو يبين أساس وتمام العفة: (وأسها يتعلق: بضبط القلب عن التطلع للشهوات البدنية وعن اعتقاد ما يكون جالباً للبغي والعدوان. وتمامها يتعلق: بحفظ الجوارح، فمن عدم عفة القلب يكون منه التمني وسوء الظن اللذان هما أس كل رذيلة، لأن من تمنى ما في يد غيره حسده، وإذا حسده عاداه، وإذا عاداه نازعه، وإذا نازعه ربما قتله. ومن أساء الظن عادى وبغى وتعدى ولذلك نهى الله سبحانه عنهما جميعاً فقال: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء: 32] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] فأمر فيهما بقطع شجرتين يتفرع عنهما جل الرذائل والمآثم. ولا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر. فمن عدمها في اللسان: السخرية والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابز بالألقاب. ومن عدمها في البصر: مد العين إلى المحارم وزينة الحياة الدنيا المولدة للشهوات الرديئة. ومن عدمها في السمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة. وعماد عفة الجوارح كلها ألا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحد منهما إلا فيما يسوغه العقل والشرع دون الشهوة والهوى) (¬1). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 318).

العفة في واحة الشعر ..

العفة في واحة الشعر .. قال الشافعي: عفوا تعفُّ نساؤكم في المحرم ... وتجنبوا ما لا يليق بمسلم إن الزنا دين إذا أقرضته ... كان الوفا من أهل بيتك فاعلم يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً ... سبل المودة عشت غير مُكرم لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ ... ما كنت هتّاكاً لحرمه مسلم من يزن ُيزن به ولو بجداره ... إن كنت يا هذا لبيباً فافهم وقال معن بن أوس: لعمرك ما أهويتُ كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابتْ فتى قبلي ولست بماشٍ ما حييتُ لمنظر ... من الأمر لا يسعى إلى مثله مثلي ولا موتراً نفسي على ذي قرابة ... وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي وقال آخر: تقنع بالكفاف تعش رخيا ... ولا تبغ الفضول من الكفاف ففي خبز القفار بغير أدم ... وفي ماء الفرات عني وكاف وفي الثوب المرقع ما يغطى ... به من كل عرى وانكشاف وكل تزين بالمرء زين ... وأزينه التزين بالعفاف وقال آخر: لا تخضعن لمخلوق على طمع ... فإنّ ذلك نقص منك في الدين لن يقدر العبد أن يعطيك خردلة ... إلا بإذن الذي سواك من طين فلا تصاحب غنياً تستعز به ... وكن عفيفاً وعظم حرمة الدين واسترزق الله مما في خزائنه ... فإن رزقك بين الكاف والنون ...

هل تعلم ..

هل تعلم .. هل تعلم أنَّ عِز الأمة في تمسكها بدينها وبعفتها وأخلاقها؟ هل تعلم أن أعداء الإسلام من كفار وعلمانين يحاولون نزع لباس العفة من المجتمع الإسلامي؟ هل تعلم أن القنوات الفضائية السيئة قد هدمت بيوت العفة؟ هل تعلم أن من دعته نفسه إلى الفجور ولم يستجب مخافة الله فهو عفيف؟ هل تعلم أن من استغنى عما في أيدي الناس فهو عفيف؟ هل تعلم أن من كف لسانه عن أعراض الناس فهو عفيف؟

لحظة من فضلك ..

لحظة من فضلك .. وأخيراً أخي القارئ الكريم هل وقف في طريقك عائق من معوقات العفة؟ وهل استطعت أن تتغلب على هذا العائق أم كنت فريسة له؟ هل حدثتك نفسك على فعل محرم فقلت لها إني أخاف الله؟ وهل سألت الله الهدى والتقى والعفاف والغنى؟

العفو والصفح

معنى العفو والصفح لغة واصطلاحاً معنى العفو لغة واصطلاحاً معنى العفو لغة: يقال عَفَا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوُّ، والعَفُوُّ؛ من العَفْوِ وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس (¬1). وقال الخليل: (وكلُّ مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق) (¬2). معنى العفو اصطلاحاً: العفو اصطلاحاً: (هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب وأصله المحو والطمس) (¬3). وقال الراغب: (العفو هو التجافي عن الذنب. قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى:40]، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ [البقرة:52]، إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ [التوبة:66]، فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران:159]) (¬4). وقيل: (هو القصد لتناول الشيء والتجاوز عن الذنب) (¬5). معنى الصفح لغة واصطلاحاً معنى الصفح لغة: تقول: (صَفَحَ عنه يَصْفَح صَفْحاً أَعرض عن ذنبه وهو صَفُوحٌ وصَفَّاحٌ عَفُوٌّ والصَّفُوحُ الكريم لأَنه يَصْفَح عمن جَنى عليه واستَصْفَحَه ذنبه استغفره إِياه وطلب أَن يَصْفَحَ له عنه) (¬6). معنى الصفح اصطلاحاً: الصفح: (هو ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو فقد يعفو ولا يصفح، وصفحت عنه أوليته مني صفحة جميلة معرضا عن ذنبه بالكلية ولذلك قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. قال: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ [الزخرف:89]، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) (¬7). الألفاظ المترادفة للعفو: ورد في كلام العرب ألفاظ مترادفة للعفو منها: (الصفح، والإقالة، والتغابن، والتغاضي، والغفران، والتجاوز، والعتبى) (¬8). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 72). (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 56). (¬3) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (ص6/ 143). (¬4) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص574). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 518). (¬6) ((لسان العرب)) لابن منظور (2/ 512). (¬7) انظر: ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 457). (¬8) ((الألفاظ المترادفة)) للرماني (ص 69).

الفرق بين لفظة العفو ومترادفاتها

الفرق بين لفظة العفو ومترادفاتها الفرق بين العفو والصفح: (العفو والصفح متقاربان في المعنى: قال الراغب: الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. وقال البيضاوي: العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك لومه. ويدل عليه قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109]. ترقيا في الأمر بمكارم الأخلاق من الحسن إلى الأحسن، ومن الفضل إلى الأفضل) (¬1). الفرق بين العفو والعافية والمعافاة: (قيل: الأول هو التجاوز عن الذنوب ومحوها. الثاني: دفاع الله - سبحانه - الأسقام والبلايا عن العبد. وهو اسم من عافاه الله وأعفاه، وضع موضع المصدر. والثالث: أن يعافيك الله عن الناس ويعافيهم عنك، أي: يغنيك عنهم ويغنيهم عنك، ويصرف أذاهم عنك وأذاك عنهم) (¬2). الفرق بين العفو والمغفرة: (العفو: ترك العقاب على الذنب. والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب المثوبة. ولذلك كثرت المغفرة من صفات الله تعالى دون صفات العباد، فلا يقال: استغفر السلطان كما يقال: استغفر الله. وقيل: العفو: إسقاط العذاب. والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صونا له عن عذاب الخزي والفضيحة، فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطلب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالعفو: إسقاط العذاب الجسماني. والمغفرة: إسقاط العذاب الروحاني، والتجاوز يعمهما. وقال الغزالي: (في العفو مبالغة ليست في الغفور، فإن الغفران ينبئ عن الستر والعفو ينبئ عن المحو، وهو أبلغ من الستر، لأن السبر للشيء قد يحصل مع إبقاء أصله، بخلاف المحو فإن إزالته جملة ورأسا) (¬3). الفرق بين العفو والذل: (أن العفو إسقاط حقك جودا وكرما وإحسانا مع قدرتك على الانتقام فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق. بخلاف الذل فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا وخوفا ومهانة نفس فهذا مذموم غير محمود ولعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه قال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]) (¬4). ¬

(¬1) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص 362). (¬2) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص 363). (¬3) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص 363). (¬4) ((الروح)) لابن قيم الجوزية (ص 241).

العفو صفة من صفات الله عز وجل

العَفْو صفة من صفات الله عز وجل (العفو صفةٌ فعليَّةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ له بالكتاب والسنة، ومعناها الصفح عن الذنوب، و (العَفُوُّ) اسم لله تعالى. قال تعالى: إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 43]. وقال تعالى: عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهمْ [التوبة: 43]. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء على الجنازة: ((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه ... )) (¬1). وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ... )) (¬2). ولا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفاته) (¬3). وقال الحليمي في معنى العفو: (إنه الواضع عن عباده تبعات خطاياهم وآثامهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا، أو تركوا لوجهه أعظم ما فعلوا ليكفر عنهم ما فعلوا بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به وجزاء له بعمله، قال أبو سليمان: العفو وزنه فعول من العفو وهو بناء المبالغة، والعفو الصفح عن الذنب، وقيل: إن العفو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (963). (¬2) رواه مسلم (486). (¬3) ((صفات الله الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف. بتصرف (ص 254). (¬4) ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (1/ 149).

الحث على العفو والصفح من القرآن والسنة

الحث على العفو والصفح من القرآن والسنة الحث على العفو والصفح من القرآن الكريم: - وردت آيات متضافرة في ذكر العفو والصفح والترغيب فيه، ومن هذه الآيات قوله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]. قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، ... فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه، شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يُعطِّفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته) (¬1). - وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133] قال السعدي: (قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-،هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم. وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]) (¬2). - وقال سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] (قال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 31). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 148). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 41).

قال السعدي: (ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم) (¬1). - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14]. قال السعدي في تفسيره لهذه الآية: (هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره) (¬2). - وقال تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]. قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس) (¬3). الحث على العفو والصفح من السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (¬4). قال القاضي عياض: (وقوله: ((ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)) (¬5). فيه وجهان: أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه. الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك) (¬6). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 760). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 868). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 210). (¬4) رواه مسلم (2588). (¬5) رواه مسلم (2588). (¬6) ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (8/ 28).

- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفا عليهن لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر (¬1). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم)) (¬2). قال المناوي في قوله: (واغفروا يغفر لكم) (لأنه سبحانه وتعالى يحب أسمائه وصفاته التي منها الرحمة والعفو ويحب من خلقه من تخلق بها) (¬3). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((تعافوا فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)) (¬4). - وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟. فصمت!، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت!، فلما كان في الثالثة، قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 193) (1674)، والبزار (3/ 244)، وأبو يعلى (2/ 159). وصححه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 177)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2462). (¬2) رواه أحمد (2/ 219) (7041)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (380)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/ 651). وجود إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 286)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (49)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 119). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 474). (¬4) رواه أبوداود (4376)، والنسائي (4886). وسكت عنه أبو داود، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3308)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2954). (¬5) رواه أبو داود (5164)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/ 326)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 18) (15799). وسكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (3/ 341)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (488).

أقوال السلف والعلماء في العفو والصفح

أقوال السلف والعلماء في العفو والصفح - عن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- (أنه قام يوم مات المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد، فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي (والنصح لكل مسلم). فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل) (¬1). - (وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاما فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه) (¬2). - وقيل لأبي الدرداء: من أعز الناس؟ فقال: (الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى) (¬3). - وقال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه) (¬4). - وقال معاوية- رضي الله عنه-: (عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال) (¬5). - وعن وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال والله ما أمر بها أن تؤخذ إلا من أخلاق الناس والله لآخذنها منهم ما صحبتهم) (¬6). - وأتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: (ماذا ترى؟). قال: (إن الله- تعالى- قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم) (¬7). - وقال مالك بن دينار: (أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف- عليه السلام- وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس، ثم قال: أيها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92]، يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته) (¬8). - وعن عمر بن عبد العزيز قال: أحب الأمور إلى الله ثلاثة العفو في القدرة والقصد في الجدة والرفق في العبادة وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة) (¬9). - وعن سعيد بن المسيب- رحمه الله- قال: (ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه ما لم يكن حدا عن عباده) (¬10). - وعن الحسن، قال: (أفضل أخلاق المؤمن العفو) (¬11). - وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: (إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان) (¬12). - وقال إبراهيم النخعي: (كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا) (¬13). - وعن أيوب قال: (لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان العفة عما في أيدي الناس والتجاوز عنهم) (¬14). ¬

(¬1) رواه البخاري (58). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 184). (¬3) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) (6/ 58). (¬4) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 302). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 184). (¬6) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (244)، وهناد في ((الزهد)) (2/ 596). وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (244). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (260). (¬8) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 184). (¬9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 167). (¬10) رواه مالك (2/ 843) (4). (¬11) ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 71) وعزاه للخلال. (¬12) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3280)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (8/ 112). (¬13) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 210). (¬14) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 167).

نماذج في العفو

نماذج من عفوه صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ القمة والدرجة العالية في العفو والصفح، كما هو شأنه في كل خلُقٍ من الأخلاق الكريمة، فكان عفوه يشمل الأعداء فضلاً عن الأصدقاء. (وكان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحاً، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم أو تعنيفهم أو مقابلتهم بمثل عملهم، ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلق منهم شيئاً. وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر:85 - 86] ثم أنزل عليه قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف:89] فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل، وهو الصفح الذي لا يكون مقروناً بغضب أو كبر أو تذمر من المواقف المؤلمة وكان كما أدبه الله تعالى. ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلاً: سلام. وفي العهد المدني لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة أنواعاً من الخيانة فأنزل الله عليه قوله: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وعفا وصفح، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم، ومعاقبة ناقضي العهد منهم) (¬1). - فعن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله- تعالى-: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الآية [آل عمران: 186]. وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الآية [البقرة: 109]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمر الله به ... )) (¬2). - وعن أبي عبد الله الجدلي قال: ((قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله قالت كان أحسن الناس خلقا لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا بالأسواق ولا يجزئ بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح)) (¬3). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبدالرحمن الميداني (1/ 432). (¬2) رواه البخاري (4566). (¬3) رواه الترمذي (2016)، أحمد (6/ 236) (26032)، وابن حبان (14/ 355). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1592).

- وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا، عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية. وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج. وذاك قبل وقعة بدر. حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود. فيهم عبد الله بن أبي. وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه. ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل. فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء لا أحسن من هذا. إن كان ما تقول حقا، فلا تؤذنا في مجالسنا. وارجع إلى رحلك. فمن جاءك منا فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا. فإنا نحب ذلك. قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود. حتى هموا أن يتواثبوا. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة. فقال: (أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال: اعف عنه يا رسول الله، واصفح. فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه، فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه، شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬1). - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله. عز وجل)) (¬2). - وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- ((أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي. فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا)، فقال: من يمنعك مني؟. فقلت: (الله) (ثلاثا) ولم يعاقبه وجلس)) (¬3). - موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل ثقيف حينما طلب منهم الحماية وعرض عليهم نفسه فلم يجيبوه، بل قابلوه بالأذى والعدوان، فصبر عليهم وعفا عنهم حينما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبى -صلى الله عليه وسلم- حدثته أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: ((لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي. ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) (¬4). - موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة: ¬

(¬1) رواه مسلم (1798). (¬2) رواه مسلم (2328). (¬3) رواه البخاري (2910). (¬4) رواه مسلم (1795).

((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت، فصلى بين الساريتين، ثم وضع يديه على عضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا، ونظن خيرا: أخ كريم، وابن أخ، وقد قدرت، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92])) (¬1). - موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل: عن عروة بن الزبير قال: ((قال عكرمة بن أبي جهل: لما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا محمد، إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت آمن فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبر الناس، وأصدق الناس، وأوفى الناس، قال عكرمة: أقول ذلك وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه، ثم قلت: يا رسول الله، استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصد عن سبيلك قلت: يا رسول الله، مرني بخير ما تعلم فأعلمه، قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالا في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله، ثم اجتهد في القتال حتى قتل يوم أجنادين شهيدا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/ 121)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (73/ 53)، وابن زنجويه في ((الأموال)) (1/ 293) من حديث عطاء والحسن وطاوس رحمهم الله. (¬2) رواه الحاكم (3/ 270)، والطبري في ((تاريخه)) (11/ 502)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (41/ 64).

نماذج من عفو الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من عفو الصحابة رضي الله عنهم: عفو أبي بكر رضي الله عنه: - عفوه عن مسطح بن أثاثة: و ((كان مسطح بن أثاثة ممن تكلم في الإفك فلما أنزل الله براءة عائشة قال أبو بكر الصديق -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر الصديق بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا)) (¬1). - وعن أبي هريرة: ((أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة)) (¬2). عفو عمر رضي الله عنه: - عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا، أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله)) (¬3). علية بن زيد رضي الله عنه يتصدق بعرضه: - لما حض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الزكاة، قال علية بن زيد الحارثي: ((اللهم إنه ليس عندي شيء أتصدق به، إلا أعواد عليها شجب من ماء، ووسادة حشوها ليف، اللهم إني أتصدق بعرضي على من ناله من الناس، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر مناديا فنادى: أين المتصدق بعرضه على الناس البارحة؟ فصمت، ثم أعاد ذلك مرتين أو ثلاثا، ثم قال علبة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظر إليه: ألا إن الله قد قبل صدقتك يا أبا محمد)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (2661). (¬2) رواه أحمد (2/ 436) (9622)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 400) (21096).: قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 192): رجاله رجال الصحيح. وقالالبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/ 478): رواته ثقات. وجوَّد إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 271). (¬3) رواه البخاري (4642). (¬4) رواه أبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (4/ 2251).

نماذج من عفو السلف:

نماذج من عفو السلف: عفو مصعب بن الزبير: - حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوما لعطاء الجند وأمر مناديه فنادى أين عمرو بن جرموز؟ وهو الذي قتل أباه الزبير، فقيل له: (أيها الأمير إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أوَ يظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنا ليأخذ عطاءه موفرا) (¬1). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (311).

نماذج من عفو الملوك

نماذج من عفو الملوك عفو سليمان بن عبد الملك: - (غضب سليمان بن عبد الملك على خالد القسري، فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وإنك تجل عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل لذلك أنا، فعفا عنه) (¬1). - (واحتال يزيد بن راشد في الدخول على سليمان متنكراً بعد أن ولي الخلافة فقعد في السماط، وكان سليمان قد نذر أنه إن أفضت إليه الخلافة قطع لسانه لأنه كان ممن دعا إلى خلع سليمان والبيعة لعبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين كن كنبي الله أيوب عليه السلام، ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر، قال: ومن أنت قال: يزيد بن راشد، فعفا عنه) (¬2). عفو أبي جعفر المنصور: - عن مبارك بن فضالة قال: (كنا عند المنصور فدعا برجل ودعا بالسيف فقال المبارك: يا أمير المؤمنين سمعت الحسين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند الله ينادي ليقم الذين أجرهم على الله فلا يقوم إلا من عفا)) فقال المنصور: خلوا سبيله) (¬3). - وعن الأصمعي قال: (أتي المنصور برجل يعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين فعفا عنه) (¬4). عفو المأمون: - (أتي المأمون برجل يريد أن يقتله وعلي بن موسى الرضا جالس فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول: إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزاً؛ فعفا عنه. وكان المأمون مؤثراً للعفو كأنه غريزة له؛ وهو الذي يقول: لقد حبب إلي العفو حتى إني أظن أني لا أثاب عليه. - وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب، فقال له المأمون: أنت الذي فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك؛ فعفا عنه. - قال: ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: وليّ الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مد له الاعتذار في الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد جعل الله كل ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقك؛ قال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا علي به؛ قال: أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا، ولكن أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله، ثم استعبر باكياً؛ فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته، ثم قال: إنه وإن كان جرمي بلغ سفك دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه، ولي بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب؛ قال المأمون: لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلغك إليه حسن تنصلك) (¬5). ¬

(¬1) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/ 425). (¬2) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/ 425). (¬3) ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي (ص 229). (¬4) ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي (ص 229). (¬5) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/ 55).

فوائد العفو والصفح

فوائد العفو والصفح 1 - (في العفو رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري، وامتثال لأمر الله، وطلب لعفوه وغفرانه. 2 - في العفو توثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضهم إلى بعض، وجناية بعضهم على بعض) (¬1). 3 - العفو والصفح عن الآخرين سبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى. 4 - العفو والصفح سبب للتقوى قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237]. 5 - العفو والصفح من صفات المتقين، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133]. 6 - من يعفو ويصفح عن الناس يشعر بالراحة النفسية. 7 - بالعفو تنال العزة، قال صلى الله عليه وسلم: (( .. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا .. )) (¬2). 8 - العفو والصفح سبيل إلى الألفة والمودة بين أفراد المجتمع. 9 - في العفو والصفح الطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس. 10 - بالعفو تكتسب الرفعةً والمحبة عند الله وعند الناس. وغيرها من الفوائد التي تعود على الفرد والمجتمع بالعمل بهذا الخلق النبيل. ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 408). (¬2) رواه مسلم (2588).

قالوا عن العفو ..

قالوا عن العفو .. قالوا نثرا: - قال الأحنف: (إياك وحميّة الأوغاد؛ قيل: وما هي؟ قال: يرون العفو مغرماً والتحمل مغنماً. - وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال: وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو. - وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم. - وقيل للإسكندر: أي شيء أنت أسرّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إليّ بأكثر من إحسانه، وعفوي عمّن أساء بعد قدرتي عليه. - وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلي قبيحات الصور) (¬1). - وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم رجاء عفو الله جل وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه لأن صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء وصاحب العقاب وإن انتقم كان إلى الندم أقرب فأما من له أخ يوده فإنه يحتمل عنه الدهر كله زلاته) (¬2). - وقال بعض البلغاء: (ما ذب عن الأعراض كالصفح والإعراض) (¬3). - وقال بعضهم: (أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر) (¬4) - وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة وترك الخروج لمجازاة الإساءة إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها) (¬5). - وقال أيضاً: (من أراد الثواب الجزيل واسترهان الود الأصيل وتوقع الذكر الجميل فليتحمل من ورود ثقل الردى ويتجرع مرارة مخالفة الهوى باستعمال السنة التي ذكرناها في الصلة عند القطع والإعطاء عند المنع والحلم عند الجهل والعفو عند الظلم لأنه من أفضل أخلاق أهل الدين والدنيا) (¬6). - (وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما تقول في العفو والعقوبة؟ قال: هما بمنزلة الجود والبخل فتمسك بأيهما شئت) (¬7). قالوا أمثالاً: 1 - قولهم: ملكت فأسجح. أي: ظفرت فأحسن. 2 - وقولهم: إن المقدرة تذهب الحفيظة. 3 - وقولهم: إذا ارجحنَّ شاصياً فارفع يدا. أي: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه. (¬8). ¬

(¬1) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/ 54). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 168). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (309). (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (311). (¬5) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 166). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 167). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص349). (¬8) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 104).

العفو والصفح في واحة الشعر ..

العفو والصفح في واحة الشعر .. قال الشافعي- رحمه الله-: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحياتي وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنما قد حشى قلبي محباتي الناس داء، وداء الناس قربهم ... وفي اعتزالهم قطع المودات وقال أيضاً: قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب ... نعم وفيه لصون العرض إصلاح إن الأسود لتخشى وهي صامتة ... والكلب يحثى ويرمى وهو نباح وقال منصور بن محمد الكريزي: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه إلى الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الحلم للفضل حاكم وقال أبو الفتح البستي: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكل الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين وقال آخر: إذا كنت لا أعفو عن الذنب من أخ ... وقلت أكافيه فأين التفاضل ولكنني أغضي جفوني على القذى ... وأصفح عما رابني وأجامل متى أقطع الإخوان في كل عثرة ... بقيت وحيدا ليس لي من أواصل ولكن أداريه، فإن صح سرني ... وإن هو أعيا كان عنه التجاهل ...

وختاما ... ؟

وختاماً ... ؟ أخي القارئ الكريم، هل مر عليك موقف يتطلب منك أن تعفو أو أن يعفو عنك؟ هل تجد صعوبة بالنطق بكلمات عفوت عنك، سامحتك؟ ومتى تجد نفسك مستعداً بالنطق بهذه الكلمات؟ هل تحب أن يقال لك عفوت عنك، سامحتك، صفحت عنك؟ وما هو شعورك عندما تسمع هذه الكلمات؟

علو الهمة

علو الهمة • معنى علو الهمة لغة واصطلاحاً. • الفرق بين الهمة والهم. • الحث على علو الهمة من القرآن والسنة. • أقوال السلف والعلماء في علو الهمة. • درجات علو الهمة. • صور علو الهمة. • موانع اكتساب علو الهمة. • أسباب علو الهمة. • نماذج في علو الهمة. • دلائل عالي الهمة. • أوصاف عالي الهمة. • علو الهمة في واحة الشعر ...

معنى علو الهمة لغة واصطلاحا

معنى علو الهمة لغة واصطلاحاً معنى العلو لغة: قال ابن منظور: (عُلْو كل شيء وعِلْوه وعَلْوُه وعُلاوَتُه وعالِيه وعالِيَتُه أَرْفَعُه، ... وعلا الشيءُ عُلُوًّا فهو عَليٌّ وعَلِيَ وتَعَلَّى، ... ويقال عَلا فلانٌ الجَبَلَ إذا رَقِيَه يَعْلُوه عُلُوّاً وعَلا فلان فلاناً إذا قَهَرَه والعَليُّ الرَّفيعُ وتَعالَى تَرَفَّع) (¬1). معنى الهمة لغة: الهَمَّةُ والهِمَّةُ ما هَمَّ به من أَمر ليفعله وتقول إِنه لَعظيمُ الهَمّ وإِنه لَصغيرُ الهِمّة وإِنه لَبَعيدُ الهِمَّةِ والهَمّةِ بالفتح والهُمامُ الملكُ العظيم الهِمّة (¬2). وقال ابن القيم في تعريف الهمة: (والهمة فعلة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهم مبدؤها، والهمة نهايتها) (¬3). معنى علو الهمة اصطلاحاً: (هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات، والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنان ولا اعتداد به) (¬4). وقال المناوي: (عظم الهمة عدم المبالاة بسعادة الدنيا وشقاوتها) (¬5). وقال الراغب الأصفهاني: (والكبير الهمة على الإطلاق هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه فلا يصير عبد رعاية بطنه وفرجه بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة) (¬6). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 83). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 83). (¬3) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 83). (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص: 28). (¬5) ((التوقيف)) للمناوي (ص: 517). (¬6) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 291).

الفرق بين الهمة والهم

الفرق بين الهمة والهم الهمة: اتساع الهم وبعد موقعه ولهذا يمدح بها الإنسان فيقال فلان ذو همة وذو عزيمة، وأما قولهم فلان بعيد الهمة وكبير العزيمة، فلان بعض الهمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض، وحقيقة ذلك أنه يهتم بالأمور الكبار. والهم: هو الفكر في إزالة المكروه واجتلاب المحبوب ومنه يقال أهم بحاجتي (¬1). ¬

(¬1) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص: 558).

الحث على علو الهمة من القرآن والسنة

الحث على علو الهمة من القرآن والسنة الحث على علو الهمة من القرآن الكريم علو الهمة خلق رفيع وغاية نبيلة، تتعشقه النفوس الكريمة وتهفو إليه الفطر القويمة، وعلو الهمة من الأسس الأخلاقية الفاضلة وإليه يرجع مجموعة من الظواهر الخلقية، كالجد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، وكالطموح إلى المعالي (¬1). والإسلام يحث على هذا الخلق النبيل، وقد وردت آيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السنة النبوية تدل على ذلك، فمن القرآن الكريم: - قوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. ففي هذه الآية (ندب الله عباده إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات) (¬2) وهو أمر من الله بالهمة العالية. - وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. فهذه الآية فيها ثناء (على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ... وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله عز وجل في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) (¬3) - وقال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بوصف الرجال الذين هم أصحاب الهمم العالية فصدقوا ما عاهدوا الله (وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبلوا أنفسهم في طاعته. فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديا لحقه، لم ينقصه شيئا. وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد) (¬4). - وقال سبحانه: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ [النور: 37]. فهؤلاء الرجال هم أصحاب الهمم العالية (ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا، ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه، لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: وَلا بَيْعٌ من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه) (¬5). - وقال الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عدداً من الأنبياء ومواقفهم، ودعوتهم لقومهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] الحث على علو الهمة من السنة النبوية ¬

(¬1) ((الهمة العالية معوقاتها ومقوماتها)) لمحمد الحمد (ص: 81). (¬2) ((تفسر القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 117). (¬3) ((علو الهمة)) لمحمد إسماعيل المقدم (ص: 128). (¬4) ((علو الهمة)) لمحمد إسماعيل المقدم (ص: 128). (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 569).

- عن الحسين بن علي- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحب معالي الأمور، وأشرافها، ويكره سفسافها)) (¬1). قال المناوي: (وهي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية فإن العلو فيها نزول (ويكره) في رواية البيهقي ويبغض (سفسافها) بفتح أوله أي حقيرها ورديئها فمن اتصف من عبيده بالأخلاق الزكية أحبه ومن تحلى بالأوصاف الرديئة كرهه وشرف النفس صونها عن الرذائل والدنايا والمطامع القاطعة لأعناق الرجال فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك وليس المراد به التيه فإنه يتولد من أمرين خبيثين إعجاب بنفسه وازدراء بغيره والأول يتولد بين خلقين كريمين إعزاز النفس وإكرامها وتعظيم مالكها فيتولد من ذلك شرف النفس وصيانتها وقد خلق سبحانه وتعالى لكل من القسمين أهلا لما مر أن بني آدم تابعون للتربة التي خلقهم منها فالتربة الطيبة نفوسها علية كريمة مطبوعة على الجود والسعة واللين والرفق لا كزازة ولا يبوسة فيها فالتربة الخبيثة نفوسها التي خلقت منها مطبوعة على الشقوة والصعوبة والشح والحقد وما أشبهه) (¬2). - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)) (¬3). قال ابن بطال: (فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالي الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالي الأمور) (¬4). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) (¬5). (وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر) (¬6). ومن الأحاديث التي تبعث الهمة بالترغيب قوله صلى الله عليه وسلم: - لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا. - وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) (¬7). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الكبير)) (3/ 131) (2894)، القضاعي في ((مسنده)) (2/ 150) (1076). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 191): فيه خالد بن إلياس، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي، وبقية رجاله ثقات. وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (2/ 608): خالد هذا متروك الحديث، وتفرد به عنه المغيرة بن عبد الرحمن. وصححه الألباني بشواهده في ((السلسلة الصحيحة)) (1627). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 375). (¬3) رواه البخاري (1427) ومسلم (1034). واللفظ للبخاري. (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/ 431). (¬5) رواه مسلم (2664). (¬6) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 660). (¬7) رواه أبو داود (1464)، الترمذي (2914)، وأحمد (2/ 192) (6799) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (8122).

أقوال السلف والعلماء في علو الهمة

أقوال السلف والعلماء في علو الهمة - روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تصغرن همتكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم) (¬1). - وقال الإمام مالك (وعليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتق رذائلها وما سف منها؛ فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) (¬2). - وعن دكين الراجز قال: (أتيت عمر بن عبد العزيز بعد ما استخلف أستنجز منه وعدا كان وعدنيه وهو والي المدينة، فقال لي: يا دكين، إن لي نفسا توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة) (¬3). - وقال ابن الجوزي: (من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دني) (¬4). - وقال ابن القيم: (فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل) (¬5). - وقال أيضا: (الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكر أو إطاعة وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت في أودية الوساوس والخطرات من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده؟) (¬6). - وقال أيضاً: (العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة) (¬7). - وقال أيضاً: (لا تكون الروح الصافية إلا في بدن معتدل ولا الهمة العالية إلا في نفس نفيسة) (¬8). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص319). (¬2) ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (2/ 65). (¬3) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (334). (¬4) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (28). (¬5) ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 97). (¬6) ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 99). (¬7) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (ص: 747). (¬8) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (ص: 750).

درجات علو الهمة

درجات علو الهمة قسم الهروي درجات علو الهمة على ثلاث: 1 - (الدرجة الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني) (¬1). يقول ابن القيم: (الفاني الدنيا وما عليها. أي يزهد القلب فيها وفي أهلها. وسمى الرغبة فيها وحشة لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها. أما الراغبون فيها: فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم. إذ فاتها ما خلقت له. فهي في وحشة لفواته. وأما الزاهدون فيها: فإنهم يرونها موحشة لهم. لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم. ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه. ولذلك كان من نازع الناس أموالهم، وطلبها منهم أوحش شيء إليهم وأبغضه. وأيضا: فالزاهدون فيها: إنما ينظرون إليها بالبصائر. والراغبون ينظرون إليها بالأبصار فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب. كما قيل: وإذا أفاق القلب واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأبصار وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته. وهو الحق سبحانه. والباقي بإبقائه: هو الدار الآخرة. وتصفيه من كدر التواني أي تخلصه وتمحصه من أوساخ الفتور والتواني، الذي هو سبب الإضاعة والتفريط. والله أعلم) (¬2). 2 - قال الهروي: (الدرجة الثانية: همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل، والنزول على العمل والثقة بالأمل) (¬3). يقول ابن القيم: (العلل هاهنا: هي علل الأعمال من رؤيتها، أو رؤية ثمراتها وإرادتها. ونحو ذلك. فإنها عندهم علل. فصاحب هذه الهمة: يأنف على همته، وقلبه من أن يبالي بالعلل. فإن همته فوق ذلك. فمبالاته بها، وفكرته فيها: نزول من الهمة. وعدم هذه المبالاة: إما لأن العلل لم تحصل له؛ لأن علو همته حال بينه وبينها. فلا يبالي بما لم يحصل له. وإما لأن همته وسعت مطلوبه، وعلوه يأتي على تلك العلل، ويستأصلها. فإنه إذا علق همته بما هو أعلى منها تضمنتها الهمة العالية. فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية. وهذا موضع غريب عزيز جدا. وما أدري قصده الشيخ أو لا؟ وأما أنفته من النزول على العمل: فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين. وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد. وأعلى منه. فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي، إلى مجرد العمل والعبادة، دون السفر بالقلب إلى الله، ليحصل له ويفوز به. فإنه طالب لربه تعالى طلبا تاما بكل معنى واعتبار في عمله، وعبادته ومناجاته، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وعزلته وخلطته، وسائر أحواله. فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة. وهذا الأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة. فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال، ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط. وأما أنفته من الثقة بالأمل: فإن الثقة توجب الفتور والتواني. وصاحب هذه الهمة: ليس من أهل ذلك، كيف؟ وهو طائر لا سائر.) (¬4). 3 - قال الهروي: (الدرجة الثالثة: همة تتصاعد عن الأحوال والمعاملات. وتزري بالأعواض والدرجات. وتنحو عن النعوت نحو الذات) (¬5). يقول ابن القيم: (أي هذه الهمة أعلى من أن يتعلق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات، أو يتعلق بالمعاملات. وليس المراد تعطيلها. بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها، والتعلق بها. ووجه صعود هذه المهمة عن هذا: ما ذكره من قوله: تزري بالأعواض والدرجات، وتنحو عن النعوت نحو الذات، أي صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة. فإن ذلك نزول من همته. ومطلبه أعلى من ذلك. فإن صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، الذي لا شيء أعلى منه. والأعواض والدرجات دونه. وهو يعلم أنه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية. وأما نحوها نحو الذات فيريد به: أن صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات. بل الذات الجامعة لمتفرقات الأسماء والصفات والأفعال.) (¬6). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 6). (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 6). (¬3) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 7). (¬4) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 7). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 8). (¬6) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 8).

صور علو الهمة

صور علو الهمة مظاهر وصور علو الهمة كثيرة جداً فالأعمال الجادة كلها تحتاج إلى علو الهمة وسنتحدث عن بعض مظاهر علو الهمة وهي كالتالي: 1 - علو الهمة في طلب العلم: من مظاهر علو الهمة الاهتمام في طلب العلم فبالعلم تعلو الهمة ويُرفع طالبه قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. قال الشوكاني في الحث على علو الهمة في طلب العلم: (فإن الله سبحانه قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته فقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]. وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم فقال (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28]. وأخبره عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات فقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة:11] وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن العلماء ورثة الأنبياء. وناهيك بهذه المزية الجليلة والمنقبة النبيلة فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة ولا تساميه منقبة ولا تقاربه مكرمة) (¬1). 2 - علو الهمة في الدعوة إلى الله: من مظاهر علو الهمة الدعوة إلى الله فالمسلم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بما علم قال صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) (¬2) والداعية إلى الله سبحانه وتعالى همه هداية الناس ودعوتهم إلى الحق فيقوم ببذل نفسه في سبيل الدعوة إلى الله، قال ابن حزم: (لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق وفي حماية الحريم وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى وفي نصر مظلوم وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى) ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة القدوة الحسنة، فقد بذلوا كل غال ونفيس في سبيل الدعوة إلى الله. 3 - علو الهمة في الجهاد في سبيل الله: من مظاهر علو الهمة الاندفاع إلى الجهاد في سبيل الله بثبات فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغى القتل والموت مظانه ... )) (¬3) والمواقف من الصحابة والسلف كثيرة في اندفاعهم إلى الجهاد في سبيل الله والبذل والعطاء الذي قدموه لهذا الدين. 4 - علو الهمة في العبادة: من مظاهر علو الهمة الجد والاجتهاد في عبادة الله سبحانه وتعالى والاستقامة على دينه و (لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشير بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفاً من عباراتهم ... قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل) (¬4). ويقول ابن حزم في علو همة من امتحن بمكروه وعاقه عن هذا الطريق: (ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر إذ رجاؤه في عاقبه ما ينال به عون له على ما يطلب وزايد في الغرض الذي إياه يقصد ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤاخذا بذلك فهو غير مؤثر في ما يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبدا) (¬5). ¬

(¬1) ((أدب الطلب ومنتهى الأدب)) للشوكاني (ص: 128). (¬2) رواه البخاري (3461) (¬3) رواه مسلم (1889). (¬4) ((علو الهمة)) لمحمد إسماعيل المقدم (ص: 209). (¬5) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 15).

موانع اكتساب علو الهمة

موانع اكتساب علو الهمة 1 - (الذنوب والمعاصي: قال ابن القيم – رحمه الله -: (فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي ستسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعاً يبعد تداركه، فالله المستعان). 2 - الخوف والهم والحزن: آفات قلبية وعوائق نفسية توهن الهمة وتضعف الإرادة، وتقود إلى الخور والفتور؛ ولهذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة منها فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال)) (¬1). 3 - فتنة الفقر أو الغنى: كلاهما قد يشغل القلب عن غايته والوصول إلى هدفه، وربما يشتت همته، ويفرق جمعيته، ولهذا فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر الفتنة بهما فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتة الفقر)) (¬2). قال الإمام النووي: (وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى وفتنة الفقر فلأنهما حالتان تخشى الفتنة فيهما بالتسخط وقلة الصبر، والوقوع في حرام أو شبهة للحاجة، ويخاف في الغنى من الأشر والبطر والبخل بحقوق المال، أو إنفاقه في إسراف أو في باطل أو في مفاخر) (¬3). 4 - اليأس والتشاؤم: عندما يرى فريق من الدعاة تفوق الأعداء، وتفرق الأصدقاء، والتضييق على الدعاة، وتشريدهم، والزج بهم في السجون، ونحوها من الابتلاءات، ييأسوا ويتشاءموا ويدب الوهن إلى قلوبهم؛ فتضعف هممهم، ويقعدوا عن العمل، ويفقدوا الأمل .. على الرغم من انتصارات الدعوة والبشائر التي تبدو في الأفق؛ ولكن يأبى بعضهم إلا النظرة المتشائمة. 5 - مجالسة القاعدين: مجالس البطالين والقاعدين توهن العزائم وتضعف الهمم بما يعلق في القلب من أقوالهم من الشبه، وما يحصل بمجالستهم من ضياع للوقت، وإشغال بتوافه الأمور .. وكلما أردت العمل ثبطك وقال: (أمامك ليل طويل فارقد). 6 - الإكثار من الطعام والنوم والكلام: لأن الشبع من أسباب موت القلب وصدئه، كما قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله -: لكل شيء صدأ، وصدأ القلب شبع البطن. 7 - الانشغال الكثير بالدنيا: لابد للمرء من اشتغال بشيء من الدنيا ليكف به نفسه عن سؤال الناس، وقد كان أنبياء الله – صلوات الله وسلامه عليهم – يعملون بأيديهم ويتكسبون؛ ولكن الشين هو الانشغال بها والركض وراءها واللهث الدائم عليها ابتغاء المزيد من متاعها (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (2893). (¬2) رواه البخاري (6377). (¬3) ((شرح مسلم)) للنووي (17/ 28). (¬4) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (4/ 271).

أسباب علو الهمة

أسباب علو الهمة (إن الارتقاء بالهمة والعلو بها عن السفاسف يحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وهناك بعض الأسباب التي لها أثر كبير في كبر الهمة وارتفاعها: 1 - العلم: العلم يعلي الهمة، ويرفع طالبه به، قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، فهو يرشد طالبه إلى العمل ويحث عليه، كما يعرفه بمخاطر الطريق وعوائق السبيل، ويحذره من آفات القعود وأمراض الجمود. فكلما ازداد العلم وخلصت النية علت الهمة وازداد العمل؛ ولهذا كانت همم العلماء الصادقين أكبر من غيرهم عملا ودعوة وجهاداً. 2 - الذكر: من أفضل أسباب قوة القلب، وعلو همته ذكر الله ودوام الصلة به بأنواع العبادات، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – وهو يعدد فوائد الذكر: (السادسة عشرة: أنه يورث حياة القلب. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله تعالى روحه – يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! السابعة عشرة: أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته). 3 - الدعاء: وهو من خير الأسلحة التي يقاوم بها فتور الهمة وضعف العزيمة. ولذلك كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل ... )) (¬1). 4 - تذكر اليوم الآخر: تذكر الموت وسكراته، والقبر وضمته، والحشر وكربته والصراط وزلته. هذه المواقف تبعث في القلب الهمة .. توقظه عن غفلته، وتبعثه من رقدته وسكرته؛ ولذا كان من أسلوب القرآن للحث على العمل وبعث الهمم التذكير باليوم الآخر وبالجنة والنار. تدبر قوله – عز وجل - وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بالجنة والنار كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن طلحة الأسدي) (¬2). 5 - طبيعة الإنسان: (فهناك من الناس من جبل على علو الهمة، فلا يرضى بالدون، ولا يقنع بالقليل، ولا يلتفت إلى الصغائر، ولا تغدو بلبه الدنايا ومحقرات الأمور. ولهذا قيل: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة في النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً (¬3). قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفساً تواقة؛ لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة! (¬4) 6 - أثر الوالدين، ودورهما في التربية الصحيحة: فأثر الوالدين في التربية عظيم، ودورهما في إعلاء همم الأولاد خطير وجسيم؛ فإذا كان الوالدان قدوة في الخير، وحرصا على تربية الأولاد، واجتهدا في تنشئتهم على كريم الخلال وحميد الخصال، مع تجنيبهم ما ينافي ذلك من مساوئ الأخلاق ومرذول الأعمال – فإن لذلك أثراً عظيماً في نفوس الأولاد؛ لأن الأولاد سيشبون – بإذن الله – متعشقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور، متصفين بمكارم الأخلاق، مبغضين لسفساف الأمور، نافرين عن مساوئ الأخلاق. 7 - النشأة في مجتمع مليء بالقمم: فمن بواعث الهمة، ومهيئات النبوع – أن يشب الناشئ الذكي في مجتمع مليء بالقمم الحقيقية من الأبطال المجاهدين، والعلماء العاملين؛ فهذا مما يحرك همته، ويبعث عزمته؛ كي يحذو حذوهم، ويسير على نولهم. 8 - تقديم النوابغ، ورعاية المواهب: ¬

(¬1) رواه البخاري (6369). (¬2) من 1 - 4 من كتاب ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) (4/ 265) باختصار. (¬3) ((عيون الأخبار)) (1/ 233). (¬4) ((عيون الأخبار)) (1/ 231).

فالنوابغ يحتاجون إلى توجيه مستمر، وإلى رعاية وصيانة، وإلى أن تهيء لهم مقومات النبوغ والألمعية. فإذا نشأ الألمعي النابغة في مجتمع يقدره قدره، وينظر إليه بعين الإكبار والتجلة – هفت نفسه لكل فضيلة، ورنت عينه إلى كل بطولة، فيزداد بذلك جدا في الطلب، وسعياً إلى أقصى درجات الكمال. 9 - وجود المربين الأفذاذ، والمعلمين القدوات: الذين يستحضرون عظم المسؤولية، ويستشعرون ضخامة الأمانة، والذين يتسمون ببعد النظرة، وعلو الهمة، وسعة الأفق وحسن الخلق، والذين يتحلون بالحلم والعلم، والصبر والشجاعة، وكرم النفس والسماحة. 10 - الأحداث التي تمر بالأمة: فالأحداث الجسام التي مرت بالأمة هي مما يبعث الهمم، ويوقظ العزائم؛ لأن تلك الأحداث بمثابة جرس الإنذار، وناقوس الخطر الذي يؤذن بهلاك الأمة وفنائها. فإذا رأت الأمة ما هي عليه من الضعف، والتردي، وتسلط الأعداء – بدأت في التفكير السليم، والعمل الجاد، الذي ترد به المعتدي، وتستعيد به عزها ومجدها. 11 - المواقف التي تمر بالإنسان: فكما أن الأحداث والمواقف التي تمر بالأمة تكون سبباً من أسباب علو الهمة – فكذلك الفرد نفسه إذا مرت به أحداث ومواقف، وتقلبات في حياته، من محن، وبلايا وغير ذلك – فإنها تؤثر فيه، وتترك أثرها في نفسه، وقد تكون سبباً لنهوضه ورفعته. 12 - مطالعة سير الأبطال والمصلحين والنابغين: فإن مطالعة سيرهم، وقراءة تراجمهم، المحررة بأقلام تشرح نواحي العظمة فيهم، وتصف آثارهم، وتبين ما يخصه بهم عظماء الرجال من تقدير وتمجيد – كل ذلك مما يبعث الهمة، ويوقظ العزمة؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم. 13 - استشعار المسؤولية: وذلك بأن يستشعر الإنسان مسؤوليته، ويعمل ما في وسعه ومقدوره، ويحذر كل الحذر من التهرب من المسؤولية، والإلقاء باللائمة والتبعة على غيره؛ ذلك أن المسؤولية في الإسلام عامة، تشمل كل فرد من المسلمين؛ فهم جميعاً داخلون في عموم قوله – صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته)) (¬1). فالمسؤولية مشتركة، كل امرئ بحسبه، هذا بتعليمه وكلامه، وهذا بوعظه وإرشاده، وهذا بقوته وماله، وهذا بجاهه وتوجيهه إلى السبيل النافع وهكذا. 14 - السلامة من الغرور ومن المبالغة في احتقار النفس: فهذان الأمران من أعظم الأسباب لدنو الهمم، والسلامة منهما من أعظم الأسباب لعلوها. أما الغرور فهو أن يحتقر المرء كل من عداه، وأن يتطاول إلى ما ليس في قدرته، وأن يتدخل فيما ليس من شأنه، وأن يحكم على ما لم يخط به علمه ... أما المرض الثاني فهو المبالغة في احتقار النفس؛ فتجد من الناس من هو محطم النفس، مسلوب الإرادة، فاقد الأمل، قليل الثقة بنفسه وبأمته، لا يرى أن باستطاعته أن يقوم بشيء في هذه الحياة. وما أقسى هذا الداء، وما أمره على الأمة؛ إذ يشل حركتها، ويجعلها ذليلة أمام كل جبار، ضعيفة أمام كل قوي) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (893)، ومسلم (1829). (¬2) من 5 - 14 من كتاب ((الهمة العالية)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 101) باختصار.

نماذج في علو الهمة

نماذج من علو همة النبي صلى الله عليه وسلم: (الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، والقدوة الرائعة، في علو الهمة والشجاعة والإقدام، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس في الحرب كان أكثر الناس شجاعة، وأعظمهم إقداماً، وأعلاهم همة، وقد قاد صلوات الله عليه بنفسه خلال عشر سنين سبعاً وعشرين غزاة، وكان يتمنى أن يقوم بنفسه كل البعوث التي بعثها والسرايا التي سيرها، ولكن أقعده عن ذلك أنه كان لا يجد ما يزود به جميع أصحابه للخروج معه في كل بعث، وكان أكثرهم لا تطيب نفسه أن يقعد ورسول الله قد خرج إلى الجهاد. - روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى، ثم أقتل ثم أحيى، ثم أقتل ثم أحيى، ثم أقتل)) (¬1). فأية همة علية أعلى من هذه الهمة النبوية) (¬2). - وكان صلى الله عليه وسلم القدوة في الهمة العالية في العبادة فعن عائشة رضي الله عنها قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يارسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (¬3). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام، حتى هممت بأمر سوء، قيل وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه (¬4). فعلو همته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر بالأمثلة فحياته كانت مليئة بالهمم العالية. ¬

(¬1) رواه البخاري (2797). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 480). (¬3) رواه البخاري (4837) ومسلم (2819) واللفظ للبخاري. (¬4) رواه مسلم (773).

نماذج للصحابة في علو الهمة:

نماذج للصحابة في علو الهمة: الصحابة رضي الله عنهم قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في الهمة العالية والتضحية في سبيل هذا الدين سواء كان في الجهاد في سبيل الله أو في طلب العلم وكذا سار التابعون على منوالهم وإليك بعض من النماذج. علو الهمة في طلب العلم: 1 - عبد الله بن مسعود: - عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: ((يا غلام، هل من لبن؟ قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص فقلص، قال: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله، فإنك غليم معلم)) (¬1). - وعنه أيضاً قال: (والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم) (¬2)، قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادا يقول غير ذلك 2 - أبو هريرة رضي الله عنه: - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: ((لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها، حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لولا آيتان في كتاب الله، ما حدثتكم شيئا أبدا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة: 159] إلى قوله الرَّحِيمُ [البقرة: 160])) (¬3). - وعنه أيضاً قال: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي، ولا صفق بالأسواق إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها وأكلة يطعمنيها، فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه (¬4). 3 - جابر بن عبد الله الأنصاري: ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 379) (3598)، وابن حبان (15/ 536) (7061)، والطبراني في ((الكبير)) (9/ 79). (¬2) رواه البخاري (5000). (¬3) رواه البخاري (2350). (¬4) رواه البخاري (118)، ومسلم (2492)،وأحمد (2/ 2) (4453) واللفظ له.

- عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة - أو قال: العباد - عراة غرلا بهما. قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار، أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)) (¬1). 4 - عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال: فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني) (¬2). علو الهمة في الجهاد: 1 - أنس ابن النضر رضي الله عنه: - عن أنس، رضي الله عنه قال: ((غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] إلى آخر الآية (¬3). 2 - سعد بن خيثمة رضي الله عنهما: - عن سليمان بن بلال- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد- رضي الله عنهما-: إنه لابد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لأثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقتله عمرو بن عبد ود ... الحديث (¬4). 3 - عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه: - عن سعد- رضي الله عنه- قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟، قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد- رضي الله عنه- يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 495) (16085)، والحاكم (2/ 475)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 265). وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 218)، والهيثمي في ((المجمع)) (10/ 354)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3608). (¬2) رواه الحاكم (1/ 188)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 367). قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (1/ 212): إسناده رجاله ثقات. (¬3) رواه البخاري (2805). (¬4) رواه الحاكم (3/ 209). (¬5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 149)، وذكره الحافظ ((الإصابة)) (4/ 603).

نماذج للسلف في علو الهمة:

نماذج للسلف في علو الهمة: علو الهمة في طلب العلم: 1 - سفيان الثوري: - عن أبي شهاب الحناط قال: بعثت أخت سفيان الثوري معي بجراب إلى سفيان وهو بمكة فيه كعك وخشكنانج. فقدمت مكة فسألت عنه فقيل لي إنه ربما قعد دبر الكعبة مما يلي باب الحناطين. قال فأتيته هناك. وكان لي صديقا. فوجدته مستلقيا فسلمت عليه فلم يسائلني تلك المسائلة ولم يسلم علي كما كنت أعرف منه. فقلت له: إن أختك بعثت إليك معي بجراب فيه كعك وخشكنانج. قال: فعجل به علي. واستوى جالسا. فقلت: يا أبا عبد الله أتيتك وأنا صديقك فسلمت عليك فلم ترد علي ذاك الرد. فلما أخبرتك أني أتيتك بجراب كعك لا يساوي شيئا جلست وكلمتني. فقال: يا أبا شهاب لا تلمني فإن هذه لي ثلاثة أيام لم أذق فيها ذواقا. فعذرته (¬1). وعن سفيان بن عيينة، قال: جاع سفيان الثوري جوعا شديدا مكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئا فمر بدار فيها عرس فدعته نفسه إلى أن يدخل فعصمه الله ومضى إلى منزل ابنته فأتته بقرص فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال: سيكفيك عما أغلق الباب دونه ... وضن به الأقوام ملح وجردق وتشرب من ماء فرات وتغتدي ... تعارض أصحاب الثريد الملبق تجشى إذا ما هم تجشوا كأنما ... ظللت بأنواع الخبيص تفتق 2 - القاضي شريك بن عبد الله النخعي: - عن يزيد بن يحيى قال: (مر شريك القاضي بالمستنير بْن عَمْرو النخعي، فجلس إليه فَقَالَ: يا أبا عَبْد اللهِ، من أدبك؟ قال: أدبتني نفسي والله، ولدت ببخارى من أرض خراسان، فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إِلَى معلم لهم تعلق بقلبي يعلم القرآن؛ فجئت إِلَى شيخهم فقلت: يا عماه الذي كنت تجري علي ها هنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة والجماعة وقومي، ففعل؛ قَالَ: فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه فأشتري دفاتر وطروساً فأكتب فيها العلم والحديث ثم طلب الفقه فقلت: ما نرى ? فَقَالَ المستنير بْن عَمْرو لولده: قد سمعتم قول ابن عمكم وقد أكثرت عليكم، فلا أراكم تفلحون فِيْهِ فليؤدب كل رجل نفسه ثم من أحسن فلها، ومن أساء فعليها) (¬2). - وعن عمر بن الهياج بن سعيد: قال: (كنت من صحابة شريك، فأتيته يوما وهو في منزله باكرا، فخرج إلي في فرو ليس تحته قميص، عليه كساء. فقلت له: قد أضحت عن مجلس الحكم، فقال: غسلت ثيابي أمس فلم تجف، فأنا أنتظر جفوفها، اجلس. فجلست فجعلنا نتذاكر باب العبد يتزوج بغير إذن مواليه، فقال: ما عندك فيه؟ ما تقول فيه؟ ... ) (¬3). ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (6/ 350). (¬2) ((أخبار القضاة)) لوكيع (3/ 150). (¬3) ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (9/ 288).

نماذج للعلماء المتقدمين في علو الهمة:

نماذج للعلماء المتقدمين في علو الهمة: 1 - أبو الفرج ابن الجوزي: يصف ابن الجوزي علو همته في طلب العلم وهو يخاطب ابنه فيقول: (وانظر يا بني إلى نفسك عند الحدود، فتلمَّح كيف حِفظُكَ لها؟ فإنه من راعى رُوعي، ومن أهملَ تُرِك ... فإني أذكر نفسي ولي همةٌ عالية وأنا في المكتب ولي نحو من ست سنين، وأنا قرينُ الصبيان الكبار قد رُزِقتُ عقلاً وافرًا في الصغر يزيدُ على عقلِ الشيوخ، فما أذكر أني لعبتُ في طريقٍ معَ صبيٍ قط، ولا ضحِكتُ ضحكًا جارحًا، حتى إني كنتُ ولي سبعُ سنين أو نحوُها أحضرُ رحبةَ الجامع، ولا أتخيّرُ حلقةَ مشعبذٍ، بل أطلب المحدّث، فيتحدث بالسند الطويل، فأحفظُ جميعَ ما أسمع، وأرجع إلى البيت فأكتبه. ولقد وُفِّقَ لي شيخنا أَبُو الفضل ابن ناصر رحمه الله، فكان يحملني إلى الأشياخ، وأسمعني (المسندَ) وغيرَه من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يُراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها، ولازمته إلى أن توفي رحمه الله، فأدركتُ به معرفة الحديث والنقل. ولقد كان الصبيان ينزلون دِجلة، ويتفرجون على الجسر، وأنا في زمن الصغر آخذ جزءًا، وأقعد حُجزةً من الناس إلى جانب الرِّقة فأتشاغلُ بالعلم) (¬1). ثم قال: (ولم أقنع بفن واحد من العلم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث وأتّبع الزهاد. ثم قرأت اللغة ولم أترك أحدًا ممن قد انزوى أو يعظ، ولا غريبًا يقدُمُ إلا وأحضره وأتخيّر الفضائل ... ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفَسي من العَدْوِ لئلا اُسبَق، وكنت أصبح وليس لي ما آكل، وأمسي وليس لي شيء، وما أذلني الله لمخلوق، ولكنه ساق رزقي لصيانة عِرضي، ولو شرحتُ أحوالي لطال الشرح) (¬2). 2 - يحيى بن شرف النووي: كان النووي عالي الهمة في طلب العلم منذ صغره، فقد ذكر ابن داود العطار عن ياسين بن يوسف المراكشي قال: (رأيت الشيخ محيي الدين، وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي، لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام (¬3). ¬

(¬1) ((لفتة الكبد في نصيحة الولد)) لابن الجوزي (ص10). (¬2) ((لفتة الكبد في نصيحة الولد)) لابن الجوزي (ص11) بتصرف. (¬3) ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 396 - 397).

نماذج للعلماء المعاصرين في علو الهمة:

نماذج للعلماء المعاصرين في علو الهمة: 1 - محمد الأمين الشنقيطي: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب (أضواء البيان) (حفظ القرآن في بيت أخواله وعمره عشر سنوات، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش، وقالون من رواية أبي نشيط، وعمره ست عشرة سنة ... وقد صور الشيخ شدة انشغاله في شأن طلب العلم في شبابه، بقوله رحمه الله: ومما قلت في شأن طلب العلم، وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج؛ لأنه ربما عاق عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغب في زواجي ويطمع فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال، أيست مني، فتزوجت ببعض الأغنياء، فقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن من تصلح لك؛ تزوّجتْ عنك ذوات الحسب والجمال، ولم تجد من يصلح لمثلك. يريد أن يُعجلني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات: دعاني الناصحون إلى النكاح ... غداة تزوجت بيض الملاح فقالوا لي تزوج ذات دلٍّ ... خلوب اللحظ جائلة الوشاح ضحوكاً عن مؤشرة رقاق ... تمج الراح بالماء القراح كأن لحاظها رشقات نبل ... تذيق القلب آلام الجراح ولا عجب إذا كانت لحاظ ... لبيضاء المحاجر كالرماح فكم قتلت كميا ذا دلاص ... ضعيفات الجفون بلا سلاح فقلت لهم دعوني إن قلبي ... من الغيِّ الصُّراح اليوم صاح ولي شغل بأبكار عذاري ... كأن وجوهها غرر الصحاح أبيت مفكرا فيها فتضحي ... لفهم الفدم خافضة النجاح) (¬1) 2 - محمد ناصر الدين الألباني: كان الشيخ الألباني همته عالية وشغفه بالعلم ليس له حدود في عصر وصف بـ (عصر الفتن والغوايا وخساسة الهمم، عصر الزهد في العلم، والقصور في طلبه) (¬2). فقيض الله لهذه الأمة عالماً (بكَّر في طلبه للعلم ودوَّنه، وصبر على تلقيه صبرا طويلا، وحرض شباب الأمة على طلبه، ودلهم على مصادره ومظانه) (¬3). فاهتم بعلم الحديث وأصبح شغله الشاغل (حتى كان يغلق محله ويذهب إلى المكتبة الظاهرية ويبقى فيها اثنتي عشرة ساعة، لا يفتر عن المطالعة والتعليق والتحقيق، إلا أثناء فترات الصلاة، وكان يتناول طعامه البسيط في المكتبة في كثير من الأحيان فيها ... ولهذا قدّرته إدارة المكتبة، فخصصت له غرفة خاصة به؛ ليقوم فيها مع بعض أمهات المصادر بأبحاثه العلمية المفيدة، فكان يدخل قبل الموظفين صباحاً، وفي بعض الأحيان كان من عادة الموظفين الانصراف إلى بيوتهم ظهرا ثم لا يعودون؛ ولكن الشيخ يبقى في المكتبة ما شاء الله له البقاء فربما يصلي العشاء ثم ينصرف. وإن كل من رآه في المكتبة يعرف مدى اجتهاده وحرصه على الاستفادة من وقته ... وكان يجيب عن بعض الأسئلة التي توجه إليه وهو ينظر في الكتاب، دون أن يرفع بصره إلى محدثه، بأوجز عبارة تؤدي إلى الغرض ... ) (¬4). (ويقول محمد بن إبراهيم الشيباني: الشيخ لم تسنح له الفرصة ليكتب قصة حياته بنفسه؛ لانشغاله بطلب العلم والتنقل في فنونه، وإلا لأصبحت قصته مؤثرة حزينة مبكية، وقد قال لي يوماً: لو كان عندي فسحة من الوقت، لكتبت ما لم تسمع به من القصص. ومن شدة العنت والفقر الذي عاشه الشيخ، أنه كان لا يملك قيمة ورقة يشتريها ليسودها بما مَنَّ الله تعالى عليه من علم فيها فكان يطوف في الشوارع والأزقة يبحث عن الأوراق الساقطة فيها من هنا وهناك ليكتب على ظهرها) (¬5). ¬

(¬1) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (1/ 576). (¬2) ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/ 27). (¬3) ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/ 27). (¬4) ((حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه)) لمحمد الشيباني (1/ 52). (¬5) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (1/ 590).

دلائل عالي الهمة

دلائل عالي الهمة توجد هناك دلائل لأهل الهمم العالية تظهر تلك الهمم نذكرها على شكل نقاط وهي كالتالي: 1 - الزهد في الدنيا. 2 - المسارعة في الخيرات والتنافس في الصالحات. 3 - الحياء. 4 - التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص. 5 - الترفع عن محقرات الأمور وصغائرها ونشدان معالي الأمور وكمالاتها (¬1). 6 - الأخذ بالعزائم. 7 - الاستدراك على ما فات. 8 - أداء الواجبات وتحمل المسؤوليات. 9 - الاهتمام بواقع الأمة والسعي لإصلاحه. 10 - حسن إدارة الأوقات (¬2). ¬

(¬1) انظر للتوسع في هذه النقاط ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 480 - 508). (¬2) انظر للتوسع ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) مازن الفريح (4/ 261 - 265).

أوصاف عالي الهمة

أوصاف عالي الهمة يقال: فلان خطير النفس، رفيع الأهواء، بعيد الهمة، وبعيد مرتقى الهمة، وإن له همة بعيدة المرمى، ونفسا رفيعة المصعد، وإنه ليسمو إلى معالي الأمور، ويصبو إلى شريف المطالب، وتطمح نفسه إلى خطير المساعي، وتنزع همته إلى سني المراتب، وتحفزه إلى بعيد المدارك، وتحثه على طلب الأمور العالية، وتوقل الدرجات الرفيعة، وبلوغ الأقدار الخطيرة. وإن فلانا لطلاع ثنايا، وطلاع أنجد، أي يؤم معالي الأمور، وإنه ليجري في غلاء المجد، ويتوقل في معارج الشرف (¬1). ¬

(¬1) ((مجمع الأمثال)) لليازجي (1/ 295).

علو الهمة في واحة الشعر ..

علو الهمة في واحة الشعر .. قال علي رضي الله عنه: إذا أظمأتك أكف الرجال ... كفتك القناعة شبعاً وريا فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا وقال: ما اعتاضَ باذلُ وجهٍ بسؤالهِ ... عِوَضاً ولو نالَ المنى بسؤالِ وإِذا السؤالُ معَ النوالِ وزنتَه ... وجَحَ السؤالُ وخفَّ كُلُّ نوالِ وإِذا ابتُليْتَ ببذلِ وجهِكَ سائلاً ... فابذلْهِ للمتكرمِ المفضالِ وقال: ومحترسٍ من نفسِه خوفَ ذلةٍ ... تكونُ عليه حجةً هي ماهي فقَلِّصَ بُرْدَيهِ وأفضى بقلبهِ ... إِلى البِرِّ والتقوى فنالَ الأمانيا وجانب أسبابَ السفاهةِ والخَنا ... عفافاً وتنزيهاً فأصبحَ عاليِا وصانَ عن الفحشاءِ نفساً كريمةً ... أبتْ همةً إلا العلى والمعاليا تراهُ إِذا ما طاشَ ذو الجهلِ والصَّبا ... حليماً وقوراً ضائنَ النفسِ هاديا له حِلْمُ كهلٍ في صرامةِ حازمٍ ... وفي العينِ إِن أبصرتَ أبصرتَ ساهياً يروقُ صفاءُ الماءِ منه بوجهِه ... فأصبحَ منه الماءُ في الوجهِ صافياً ومن فضلِه يرعى ذِماماً لجارهِ ... ويحفظُ منه العهد إِذا ظلَّ راعيا صَبوراً على صَرْفِ اليالي ودرئِها ... كَتوماً لأسرارِ الضميرِ مُداريا له هِمَّةُ تعلو على كُلِّ همةٍ ... كما قد علا البَدرُ النجومَ الداريا (¬1) وقال المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال وله أيضا: وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام (¬2) وقال أيضاً: ولم أر في عيوب الناس عَيْبًا ... كنقص القادرين على التَّمامِ وقال ابن هانئ الأندلسي: ولم أجِد الإِنسانَ إِلا ابن سعيِه ... فمن كان أسعى كان بالمجدِ أجدرا وبالهمةِ العلياءِ يرقى إِلى العلا ... فمن كان أرقى هِمَّةٍ كان أظهرا ولم يتأخرْ من يريد تقدماً ... ولم يتقدمْ من يريدُ تأخراً (¬3) ... ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (165). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 318). (¬3) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (217).

الغيرة

معنى الغيرة لغة واصطلاحاً معنى الغيرة لغة: الغَيْرة بالفتح المصدر من قولك غار الرجل على أَهْلِه قال ابن سيده: وغار الرجل على امرأَته والمرأَة على بَعْلها تَغار غَيْرة وغَيْراً وغاراً وغِياراً (¬1). معنى الغيرة اصطلاحاً: الغيرة: كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه (¬2). وقال الجرجاني: (الغيرة كراهة شركة الغير في حقه) (¬3). وقال النووي: (الغيرة بفتح الغين وأصلها المنع والرجل غيور على أهله أي يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر أو حديث أو غيره) (¬4). ¬

(¬1) انظر ((مختار الصحاح)) (ص 232). و ((لسان العرب)) (5/ 34). (¬2) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص 671). (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 163). (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (10/ 132).

الغيرة من صفات الله سبحانه وتعالى

الغيرة من صفات الله سبحانه وتعالى قال ابن القيم: (والغيرة من صفات الرب جل جلاله والأصل فيها قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33]) (¬1). (وفي الصحيح عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحد أغير من الله، ومن غيرته: حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وما أحد أحب إليه المدح من الله. ومن أجل ذلك أثنى على نفسه. وما أحد أحب إليه العذر من الله. من أجل ذلك: أرسل الرسل مبشرين ومنذرين)) (¬2). وفي الصحيح أيضا، من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله: أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)) (¬3). وفي الصحيح أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه. والله أغير مني)) (¬4). ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا [الإسراء: 45]. قال السري لأصحابه: أتدرون ما هذا الحجاب؟ حجاب الغيرة. ولا أحد أغير من الله. إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه، ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته. فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا به) (¬5). قال ابن القيم: (إنَّ الغيرة تتضمن البغض والكراهة، فأخبر أنَّه لا أحد أغير منه، وأنَّ من غَيْرته حرَّم الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه، والغيرةُ عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية، كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية، فيستحيل وصفه عندهم بذلك، ومعلومٌ أنَّ هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، وأضدادها مذمومة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، فإنَّ الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشةُ وتركها؛ مذمومٌ غايةَ الذمِّ مستحقٌ للذمِّ القبيح) (¬6). ¬

(¬1) ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص 295). (¬2) روى أوله أبو يعلى في ((المسند)) (9/ 59) (5123). والحديث بنحوه رواه مسلم (2760) عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)). (¬3) رواه البخاري (5223) ومسلم (2761) واللفظ له. (¬4) رواه البخاري (6846) ومسلم (1499)، واللفظ للبخاري. (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 44). (¬6) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/ 1497).

ما ورد في الغيرة من السنة النبوية

ما ورد في الغيرة من السنة النبوية (جعل اللَّه سبحانه – الغيرة - في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته) (¬1). - فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) (¬2). (معناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأن انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره. وغيرة الله تعالى من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها) (¬3). - وعن أنس- رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: ((غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه)) (¬4). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن يغار والله أشد غيرا)) (¬5). (وأشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة فالمؤمن الذي يغار في محل الغيرة قد وافق ربه في صفة من صفاته ومن وافقه في صفة منها قادته تلك الصفة بزمامه وأدخلته عليه وأدنته منه وقربته من رحمته ومن الغيرة غيرة العلماء لمقام الوراثة وهو مقام العلم) (¬6). - وعن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الغيرة ما يحب الله- عز وجل- ومنها ما يبغض الله- عز وجل- ومن الخيلاء ما يحب الله- عز وجل- ومنها ما يبغض الله- عز وجل- فأما الغيرة التي يحب الله- عز وجل- فالغيرة في الريبة. وأما الغيرة التي يبغض الله- عز وجل- فالغيرة في غير ريبة والاختيال الذي يحب الله- عز وجل- اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة. والاختيال الذي يبغض الله- عز وجل- الخيلاء في الباطل)) (¬7). قال العظيم آبادي: (فالغيرة في الريبة: نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا رأى منهم فعلا محرما فإن الغيرة في ذلك ونحوه مما يحبه الله ... والغيرة في غير ريبة: نحو أن يغتار الرجل على أمه أن ينكحها زوجها وكذلك سائر محارمه فإن هذا مما يبغضه الله تعالى لأن ما أحله الله تعالى فالواجب علينا الرضى به فإن لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على ما شرعه الله لنا) (¬8). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 347). (¬2) رواه البخاري (5223). (¬3) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) لعبد الله الغنيمان (1/ 335). (¬4) رواه البخاري (5225). (¬5) رواه مسلم (2761). (¬6) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 253). (¬7) رواه أبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78) واللفظ له، وأحمد (5/ 445) (23801)، والدارمي (2/ 200) (2226)، والبيهقي (7/ 308) (15198). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (25/ 108): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 325)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬8) ((نيل الأوطار)) للشوكاني (7/ 287).

أقوال السلف والعلماء في الغيرة

أقوال السلف والعلماء في الغيرة - كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لا تكثر الغيرة على أهلك فترامى بالسوء من أجلك) (¬1). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: وتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله- عز وجل- تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ [الأحزاب: 51] قالت: قلت: والله! ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك)) (¬2). (قولها: ((ما أرى ربك ... )) كناية عن ترك التنفير والتقبيح لما رأت من مسارعة الله تعالى في مرضاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي: كنت أنفر النساء عن ذلك، فلما رأيت الله جل ذكره يسارع في مرضاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تركت ذلك لما فيه من الإخلال بمرضاته صلى الله تعالى عليه وسلم، والله تعالى أعلم) (¬3). - وقال أبو الأسود لابنته: (إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وعليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل؛ وعليك بالطيب، وأطيب الطيب إسباغ الوضوء) (¬4). - وقال ابن القيم: (إن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا، ولم يجد دافعا، فتمكن، فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه) (¬5). - وقال الراغب الأصفهاني: (الغيرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم وأكثر ما تراعى في النساء، وجعل اللَّه سبحانه هذه القوة في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته) (¬6). ¬

(¬1) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (2/ 46). (¬2) رواه البخاري (4788) ومسلم (1464) واللفظ له. (¬3) ((حاشية السندي على صحيح البخاري)) للسندي (3/ 65). (¬4) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (4/ 76). (¬5) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص 68). (¬6) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 347).

أقسام الغيرة

أقسام الغيرة قسم ابن القيم الغيرة إلى نوعين: (غيرة للمحبوب، وغيرة عليه. 1 - فأما الغيرة له: فهي الحمية له والغضب له إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته وناله مكروه من عدوه فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه فهذه غيرة المحبين حقا وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها أو يفعل ما يبغضه عليه ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة ومتى خلت من القلب خلا من الدين فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحب والغيرة تصفي القلب وتخرج خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد. 2 - وأما الغيرة على المحبوب فهي: أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره وهذه أيضا نوعان: غيرة المحب أن يشاركه غيره في محبوبه، وغيرة المحبوب على محبه أن يحب معه غيره) (¬1). ¬

(¬1) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن قيم الجوزية (ص 347).

الغيرة المذمومة

الغيرة المذمومة قال ابن القيم: (وغيرة العبد على محبوبه نوعان: 1 - غيرة ممدوحة يحبها الله. 2 - وغيرة مذمومة يكرهها الله. فالتي يحبها الله: أن يغار عند قيام الريبة. والتي يكرهها: أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه وفي المسند وغيره عنه قال: ((الغيرة غيرتان فغيرة يحبها الله وأخرى يكرهها الله قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيرة التي يحب الله قال أن تؤتى معاصيه أو تنتهك محارمه قلنا فما الغيرة التي يكره الله قال غيرة أحدكم في غير كنهه)) (¬1)) (¬2). (وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته وعرضه، فإنه يطلب منه الاعتدال في الغيرة، فلا يبالغ فيها حتى يسيء الظن بزوجته، ولا يسرف في تقصي حركاتها وسكناتها لئلا ينقلب البيت ناراً، وإنما يصح ذلك إن بدت أسباب حقيقية تستدعي الريبة) (¬3). قال صلى الله عليه وسلم ((إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة)) (¬4). وقد نهى النبي - صلي الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلا ًيتخونهم ويطلب عثراتهم (¬5). ¬

(¬1) رواه الخرائطي في ((اعتلال القلوب)) (717). من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. (¬2) ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص 297). (¬3) ((خلق المؤمن)) لمصطفى مراد (ص 109). (¬4) رواه أبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، وأحمد (5/ 445) (23801)، والدارمي (2/ 200) (2226)، والبيهقي (7/ 308) (15198). من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (25/ 108): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 325)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬5) رواه البخاري (1801) ومسلم (715) واللفظ له.

فوائد الغيرة

فوائد الغيرة 1 - الغيرة دليل على قوة الإيمان بالله. 2 - خصلة يحبها الله سبحانه وتعالى ما دامت من أجل حفظ أعراض المسلمين. 3 - هي السياج المعنوي لحماية الحجاب، ودفع التبرج والسفور والاختلاط (¬1). 4 - الغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة (¬2). 5 - وهي مظهر من مظاهر الغضب لله إذا رأى حرمات الله تنتهك. 6 - وهي من الأسباب الدافعة لإنكار المنكر. 7 - تطهر المجتمع من الرزائل. 8 - الغيرة سبب لصون الأعراض. ¬

(¬1) ((حراسة الفضيلة)) لبكري أبو زيد (ص: 87). (¬2) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 68).

أسباب ضعف الغيرة

أسباب ضعف الغيرة من الناس من ضعفت غيرتهم في ما حرم الله وذلك لأسباب عديدة، ومن هذه الأسباب: 1 - ضعف الإيمان: وذلك لأن قوي الإيمان يغار في دين الله وله قلب حي مفعم بالإيمان، بخلاف ضعيف الإيمان الذي مات قلبه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يغار وإن المؤمن يغار)) (¬1). 2 - كثرة الذنوب: قال ابن القيم: (ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة) (¬2). 3 - الجهل بالدين: الجهل بالدين الإسلامي قد انتشر بين كثير من أبنائه فأصبحوا لا يفرقون بين الحق والباطل والحلال والحرام حتى أرداهم إلى المعاصي والآثام، ونزع منهم باعث الغيرة بسبب هذا الجهل المطبق. 4 - قلة الحياء: الحياء فضيلة من فضائل الفطرة, وهو مادة الخير والفضيلة وبهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الحياء خير كله)) (¬3). ومن مظاهر قلة الحياء، المجاهرة بالذنوب والمعاصي وعدم الخوف من الله، ولبس النساء الملابس الكاسية العارية وضعف الغيرة على دين الله وحرماته. 5 - التقليد للكفار والمفسدين: حينما ضيعنا ديننا صرنا نستورد من أعدائنا كل عادة قبيحة وخلق ذميم، ونشرها في المجتمع حتى نشأ فيها الصغير واعتادها الكبير، فأماتت فيه خلق الغيرة، وأصبحت العادات السيئة سنة تتبع، وقد حذر الإسلام من التقليد والتشبه بالكفرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬4). 6 - وسائل الإعلام الفاسدة: إن لوسائل الإعلام دور كبير في إفساد الناس كالإذاعة والتلفاز والصحف والشبكة العنكبوتية وغيرها، فالكثير من هذه الوسائل مليء بالأغاني الفاحشة، والصور الخليعة، والمسلسلات الماجنة التي اعتاد الناس مشاهدتها، فزرع فيهم انعدام الغيرة. 7 - انتشار المنكرات: إن انتشار المنكر بين المجتمع الإسلامي يصبح مألوفا لديه إذا لم يوجد من ينكره، وعدم القيام بواجب إنكار المنكر دليل على ضعف الغيرة. ¬

(¬1) رواه البخاري (5223) ومسلم (2761) واللفظ له. (¬2) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص 66). (¬3) رواه مسلم (37). (¬4) رواه أبو داود (4031) واللفظ له، وأحمد (2/ 50) (5114)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 75) (1199). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حبان في ((بلوغ المرام)) (437): صحيح، وصحح إسناده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 509)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 359)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و]، إسناده حسن، (8593)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8593)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. والحديث روي من طرق عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

أسباب الغيرة المذمومة

أسباب الغيرة المذمومة 1 - قلة الإيمان ونسيان الله عز وجل 2 - وسوسة الشيطان. 3 - أمراض القلوب. 4 - إحساس البعض بنقص ما. 5 - عدم إنصاف الرجل لزوجته وهضمه لحقوقها. 6 - ذكر الزوج لمحاسن زوجة له عند الأخرى (¬1). ¬

(¬1) انظر ((أحكام التعدد)) لإحسان محمد العتيبي (ص: 140) نقلا عن (تهذيب الغيرة عند المرأة)) لمازن الفريح.

نتائج الغيرة المذمومة

نتائج الغيرة المذمومة 1 - الغيبة والسخرية. 2 - الإحجام عن بذل الخير للآخرين. 3 - الإضرار بالغير وإفساد حاجاته أو إتلافها. 4 - بغض أقارب الزوج وهضم حقوقهم والضيق بهم. 5 - الحسد والحقد. 6 - التجسس ومراقبة الزوج ومتابعته. 7 - الظهور بالمظاهر المزيفة. 8 - الآلام النفسية والأمراض البدنية والكهولة المبكرة. 9 - الاحتيال والكيد. 10 - السحر، وهو ما تفعله بعض الجاهلات لزوجها أو ضرتها أو كليهما حتى يصفو لها زوجها أو تنتقم منه. 11 - القتل، وهو ما فعلته بعض النسوة بزوجها ... وهو مشاهد عند النساء إما نية وإما فعلا. 12 - الكفر، إذ قد تقود الغيرة إلى الكفر بالقول أو بالفعل (¬1). ¬

(¬1) انظر ((أحكام التعدد)) لإحسان محمد العتيبي (ص 140) نقلا عن (تهذيب الغيرة عند المرأة)) لمازن الفريح.

علاج الغيرة المذمومة

علاج الغيرة المذمومة 1 - تقوى الله. 2 - تذكر الأجر العظيم لمن يصبر. 3 - الابتعاد عن مجالس السمعة والرياء. 4 - حسن الظن. 5 - القناعة. 6 - تذكر الموت واليوم الآخر. 7 - الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: ((وأدعو الله أن يذهب بالغيرة)) (¬1) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (918). (¬2) انظر ((أحكام التعدد)) لإحسان محمد العتيبي (ص 141) نقلا عن (تهذيب الغيرة عند المرأة)) لمازن الفريح.

الوسائل المعينة لتنمية الغيرة

الوسائل المعينة لتنمية الغيرة يمكن أن تنمى الغيرة بأمور كثيرة ومنها: 1 - تربية البنات الصغار على الحشمة والحياء في اللباس وغيره. 2 - تربية الأولاد على الغيرة، بأن نجعل الولد هو الذي يقوم بالحديث مع البائع وليست البنت أو المرأة. 3 - عدم ترك الأسباب التي تدمر الغيرة، فنخرج الأطباق والشاشات والمجلات الهابطة من البيوت وغيرها من وسائل الهدم. 4 - الرجوع إلى قيم الدين وغرسها في نفوس الناس. 5 - التأكيد على دور الرجل. 6 - توعية المجتمع توعية شاملة بجميع وسائل الإعلام والخطب والمحاضرات. 7 - تعظيم قدر الأعراض والتوضيح أن المساس بها هلاك وضياع (¬1). ¬

(¬1) انظر ((الغيرة على المرأة)) لعبد الله المانع (ص: 235) نقلا عن شريط (الغيرة على الأعراض)) لخالد السبت، بتصرف.

صور الغيرة

صور الغيرة 1 - غيرة الله على محارمه: - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)) (¬1). قال العيني: (وأما معنى غيرة الله تعالى فالزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها لأن الغيور هو الذي يزجر عما يغار عليه وقد بين ذلك بقوله ومن غيرته حرم الفواحش أي زجر عنها ومنع منها وقال غيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرم الله عليه) (¬2). 2 - الغيرة لله سبحانه وتعالى: ومن صور هذه الغيرة: 1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن القيام بهذه الشعيرة من أعظم الواجبات، وهو دليل على الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬3). 2 - عدم تعظيم الكفار والركون إليهم: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. قال ابن كثير: (نهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬4). 3 - الفرح بزوال الظلم والظلمة: إن المسلم الغيور ليفرح إذا أزيل منكر، وقمعت فاحشة، وأخمدت فتنة، كيف لا، وربنا يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور: 19]. (بل إن الفرح بما يصيب الناس من البلاء وإن كان مذموماً فإنه حين يكون لإصابة مفسد أو ظالم ببلاء يمنعه من فساده وظلمه، ويجعله لغيره من الظلمة عبرة، فلا يكون مذموماً، بل غيرة في الدين، والغيرة من الإيمان، ففرحه حينئذ بزوال الفساد والظلم لا بإصابة البلاء والمصيبة، كما ذكره بعض العلماء (¬5)) (¬6). وكيف لا يفرح المسلم إذا رأى الظلمة والمستبدين يزولون ويتساقطون كأوراق الخريف!!. 3 - الغيرة للمخلوق والغيرة عليه والغيرة للمخلوق كما قال ابن القيم: (إما أن تكون غيرة للمحبوب، أو غيرة عليه. فالغيرة للمحبوب هي الحمية له والغضب له إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته وناله مكروه من عدوه فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه فهذه غيرة المحبين حقا وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه. وأما الغيرة على المحبوب فهي: أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (2760). (¬2) ((عمدة القاري)) للعيني (20/ 205). (¬3) رواه مسلم (49). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 132). (¬5) ((بريقة محمودية)) (2/ 266/238). (¬6) ((الغيرة على المرأة)) لعبد الله المانع (ص: 72). (¬7) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن قيم الجوزية (ص: 347).

أقسام الناس في الغيرة على محارم الله

أقسام الناس في الغيرة على محارم الله عد ابن تيمية أقسام الناس في الغيرة على محارم الله بعد أن بين الغيرة التي يحبها الله والغيرة التي يبغضها الله فقال: (وهنا انقسم بنو آدم أربعة أقسام: 1 - قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ومنهم من يجعل ذلك سلوكا وطريقا وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [الأعراف: 28]. 2 - وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة فيكره أحدهم من غيره أمورا يحبها الله ورسوله ومنهم من جعل ذلك طريقا ودينا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة. 3 - وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] 4 - وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلاء هم أهل الإيمان) (¬1). ¬

(¬1) ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/ 10).

نماذج في الغيرة

نماذج من غيرة الأنبياء عليهم السلام: غيرة داود عليه السلام: - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان داود النبي فيه غيرة شديدة وكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت من أين دخل هذا الرجل الدار والدار مغلقة والله لتفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت قال أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمتنع مني شيء فقال داود أنت والله ملك الموت فمرحبا بأمر الله فرمل داود مكانه حيث قبضت روحه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس فقال سليمان للطير أظلي على داود فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا قال أبو هريرة يرينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فعلت الطير وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبت عليه يومئذ المضرحية)) (¬1). غيرة موسى عليه السلام: - قال الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 9 - 10] قال ابن عباس وغيره: (هذا حين قضى الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا: يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة لما سبق في علم الله تعالى وكانت ليلة مظلمة) (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 419) (9422). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 16): إسناده جيد قوي رجاله ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 209): فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب وثقه أبو زرعة وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (11/ 171).

نماذج من غيرة النبي صلى الله عليه وسلم:

نماذج من غيرة النبي صلى الله عليه وسلم: - غيرته على حرمات الله: النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس غيرة لله فكان يغضب إذا انتهكت حرمات الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من حرمات الله، فينتقم لله)) (¬1) والنماذج والصور على غيرته على محارم الله كثيرة جداً. - غيرته على نسائه: كان أعدل البشر غيرة على نسائه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة)) (¬2). قال الحافظ بن حجر: (والمعنى تأملن ما وقع من ذلك هل هو رضاع صحيح بشرطه من وقوعه في زمن الرضاعة ومقدار الارتضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط قال المهلب معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسد الرضاعة المجاعة) (¬3). - وعن أم سلمة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وفي البيت مخنث، فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله لكم الطائف غدا، أدلك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن هذا عليكن)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (6853). (¬2) رواه البخاري (2647) ومسلم (1455). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 148). (¬4) رواه البخاري (5235) ومسلم (2180)، واللفظ للبخاري.

نماذج من غيرة الصحابة

نماذج من غيرة الصحابة غيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: - عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ((أن نفرا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق، وهي تحته يومئذ، فرآهم، فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لم أر إلا خيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد برأها من ذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: لا يدخلن رجل، بعد يومي هذا، على مغيبة، إلا ومعه رجل أو اثنان)) (¬1). غيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أعظم الصحابة غيرة على النساء، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم غيرته في الرؤيا التي رأى فيها قصر عمر بن الخطاب في الجنة والمرأة التي كانت بجانب القصر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فوليت مدبرا. فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!)) (¬2). - وعن ابن عمر قال: ((كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار قالت وما يمنعه أن ينهاني قال يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) (¬3). - وقد أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحجب نساءه ثم نزل القرآن موافقاً له، فعن أنس رضي الله عنه قال: (قال عمر وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] وآية الحجاب قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية) (¬4). غيرة عائشة رضي الله عنها: - فعن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا. قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع. فقال: ((ما لك؟ يا عائشة! أغرت؟. فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟. قالت: يا رسول الله! أو معي شيطان؟. قال: نعم. قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. قلت: ومعك؟ يا رسول الله! قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)) (¬5). - وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجنا معه جميعا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين، وأنظر قلت: بلى فركبت حفصة على بعير عائشة وركبت عائشة على بعير حفصة فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم، ثم سار معها حتى نزلوا، فافتقدته عائشة فغارت فلما نزلت جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أقول له شيئا) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (2173). (¬2) رواه البخاري (3242) ومسلم (2395)، واللفظ للبخاري. (¬3) رواه البخاري (900) ومسلم (442) واللفظ للبخاري. (¬4) رواه البخاري (402). (¬5) رواه مسلم (2815). (¬6) رواه البخاري (5211) ومسلم (2445) واللفظ له.

- وعنها رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذاك، قالت: تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أباديه بما أمرتني به فرقا منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. فقالت: جرست نحله العرفط، فلما دار إلي قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه. قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي)) (¬1). غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه: - وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: (لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (¬2). غيرة الزبير رضي الله عنه: - وعن أسماء رضي الله عنها، تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأسقى الماء، وأخرز غربه، وأعجن ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه النبي على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثم قال: (إخ، إخ، ليحملني خلفه)، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته - وكان أغير الناس - فعرف النبي (صلى الله عليه وسلم) أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلى أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (5268) ومسلم (1474) واللفظ للبخاري. (¬2) رواه البخاري (7416) ومسلم (1499). (¬3) رواه البخاري (5224) ومسلم (2182) واللفظ للبخاري.

الغيرة في واحة الشعر ..

الغيرة في واحة الشعر .. قال الخريمي: ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في كلّ حين من لم يزل متّهما عرسه ... مناصبا فيها لريب الظّنون أو شك أن يغريها بالّذي ... يخاف أن يبرزها للعيون حسبك من تحصينها وضعها ... منك إلى عرض صحيح ودين لا تطّلع منك على ريبة ... فيتبع المقرون حبل القرين (¬1) وقال آخر في غيرته على زوجته: أغار عليك من نفسي ومني ... ومنك ومن مكانك والزمان ولو أني خبأتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني (¬2) وقال ابن مطروح: ولو أمسى على تلفي مصرّا ... لقلت معذبي بالله زدني ولا تسمح بوصلك لي فإني ... أغار عليك منك فكيف منّي (¬3) ... ¬

(¬1) ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (9/ 148). (¬2) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص: 433). (¬3) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص: 433).

القناعة

معنى القناعة لغة واصطلاحاً معنى القناعة لغة: هي الرضا بالقسمة (¬1)، والقنوع الرضا باليسير من العطاء. وقد قنع، بالكسر، يقنع قنوعاً وقناعةً إذا رضي، وقنع، بالفتح، يقنع قنوعاً إذا سأل (¬2). وقال بعض أهل العلم: إن القنوع قد يكون بمعنى الرضا، والقانع بمعنى الراضي، وهو من الأضداد (¬3). وسميت قناعةً لأنه يقبل على الشيء الذي له راضيًا (¬4). معنى القناعة اصطلاحاً: (القناعة: هي الرضي بما أعطى الله) (¬5). وقال السيوطي: (القناعة: الرضا بما دون الكفاية (¬6)، وترك التشوف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود) (¬7). وقال المناوي: (هي: السكون عند عدم المألوفات. وقيل: الاكتفاء بالبلغة. وقيل سكون الجأش عند أدنى المعاش. وقيل: الوقوف عند الكفاية) (¬8). ¬

(¬1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص179). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (8/ 298). (¬3) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (3/ 1273). (¬4) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 32). (¬5) ((مشارق الأنوار)) لأبي الفضل البستي (2/ 187). (¬6) ((معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم)) للسيوطي (ص205). (¬7) ((معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم)) للسيوطي (ص217). (¬8) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص275).

الفرق بين القناعة وبعض الصفات

الفرق بين القناعة وبعض الصفات الفرق بين القصد والقناعة: (أن القصد: هو ترك الإسراف والتقتير جميعا. والقناعة: الاقتصار على القليل والتقتير، ألا ترى أنه لا يقال هو قنوع إلا إذا استعمل دون ما يحتاج إليه ومقتصد لمن لا يتجاوز الحاجة ولا يقصر دونها وترك الاقتصاد مع الغنى ذم وترك القناعة معه ليس بذم وذلك أن نقيض الاقتصاد الإسراف، وقيل الاقتصاد من أعمال الجوارح لأنه نقيض الإسراف وهو من أعمال الجوارح والقناعة من أعمال القلوب) (¬1). الفرق بين القناعة والزهد: قال الراغب: (القناعة: الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار على الزهيد، أي: القليل وهما يتقاربان، لكن القناعة تقال اعتبارًا برضا النفس، والزهد يقال اعتبارًا بالمتناول لحظ النفس وكل زهد حصل لا عن قناعة فهو تزهد لا زهد) (¬2). ¬

(¬1) ((معجم الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص430). (¬2) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص225).

الترغيب على القناعة في القرآن والسنة

الترغيب على القناعة في القرآن والسنة الترغيب والحث على القناعة من القرآن الكريم: - قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97]. عن محمد بن كعبٍ في قوله تعالى: فلنحيينه حياةً طيبةً، قال: القناعة (¬1). (وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسرها بالقناعة) (¬2). و (عن الحسن البصري، قال: الحياة الطيبة: القناعة) (¬3). - وقال تعالى: إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32]. قال البغوي: (قيل: الغنى: هاهنا القناعة) (¬4). وقال الخازن: (قيل الغنى: هنا القناعة) (¬5). - وقال سبحانه: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36]. قال الطبري: (وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي، فإنه من قنعت بكسر النون أقنع قناعة وقنعا وقنعانا) (¬6). وقال مجاهد: (القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته) (¬7). وقال أبو إسحاق الثعلبي: (القانع من القناعة وهي الرضا والتعفف وترك السؤال) (¬8). وقال الرازي: (قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعةً إذا رضي بما قسم له وترك السؤال) (¬9). - وقال تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]. قال النسفي: (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً عفواً ومغفرة أو المال والجنة أو ثناء الخلق ورضا الحق أو الإيمان والأمان أو الإخلاص والخلاص أو السنة والجنة أو القناعة والشفاعة .. ) (¬10). وقال أبو حيان الأندلسي عند تفسير قوله تعالى: حَسَنَةً: ( .. القناعة بالرزق، أو: التوفيق والعصمة، أو: الأولاد الأبرار .. قاله جعفر) (¬11). - قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13]. قال الرازي: (قال بعضهم: النعيم القناعة، والجحيم الطمع) (¬12). وقال النيسابوري: (وقال آخرون: النعيم القناعة والتوكل) (¬13). الترغيب والحث على القناعة من السنة النبوية: - عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله)) (¬14). قال ابن حجر: (ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة) (¬15). وقال المناوي: (رزق كفافا وقنعه الله بالكفاف فلم يطلب الزيادة) (¬16). وقال المباركفوري: ((كفافا) أي ما يكف من الحاجات ويدفع الضرورات (وقنعه الله) أي جعله قانعًا بما آتاه) (¬17). ¬

(¬1) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (61). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 346). (¬3) ((جامع البيان)) للطبري (14/ 351). (¬4) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) للبغوي (6/ 40). (¬5) ((لباب التأويل في معاني التنزيل)) للخازن (3/ 294). (¬6) ((جامع البيان)) للطبري (16/ 569). (¬7) ((جامع البيان)) للطبري (16/ 563). (¬8) ((الكشف والبيان عن تفسير القرآن)) للثعلبي (7/ 23). (¬9) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (23/ 226). (¬10) ((مدارك التنزيل وحقائق التأويل)) للنسفي (1/ 172). (¬11) ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (2/ 310). (¬12) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (31/ 80). (¬13) ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (6/ 460). (¬14) رواه مسلم (1054). (¬15) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 275). (¬16) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 508). (¬17) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (4/ 508).

وقال القرطبي: (معنى الحديث أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدارين) (¬1). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان يومًا يحدث، وعنده رجلٌ من أهل البادية: ((أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله، عز وجل: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيءٌ، فقال الأعرابي: والله لا نجده إلا قرشيا، أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرعٍ، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرعٍ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬2). قال ابن بطال: (وقوله: (دونك يا ابن آدم، لا يشبعك شيء) يدل على فضل القناعة، والاقتصار على البلغة، وذم الشره والرغبة) (¬3). وقال ابن حجر (وفيه إشارةٌ إلى فضل القناعة وذم الشره) (¬4). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا)) (¬5). قال ابن حجر: (أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضولٌ تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجةٌ لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال) (¬6). وقال النووي: (قال أهل اللغة العربية القوت ما يسد الرمق وفيه فضيلة التقلل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك) (¬7). - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح وأمسى آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها)) (¬8). قال النووي: (فيه فضيلة هذه الأوصاف) (¬9). وقال المناوي: ((عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك يعني من جمع الله له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره) (¬10). وقال المباركفوري: ((عنده قوت يومه) أي كفاية قوته من وجه الحلال (فكأنما حيزت) ... والمعنى فكأنما أعطي الدنيا بأسرها انتهى) (¬11). - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟) قلت: أنا يا رسول الله! فأخذ يدي فعد خمسًا، فقال: (اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك ; فإن كثرة الضحك تميت القلب)) (¬12). قال المناوي: ((وارض بما قسم الله لك) أي: أعطاك (تكن أغنى الناس) فإن من قنع بما قسم له ولم يطمع فيما في أيدي الناس استغنى عنهم ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) (¬13). ¬

(¬1) ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل الحريملي (ص341). (¬2) رواه البخاري (2348). (¬3) ((شرح البخاري)) لابن بطال (6/ 489). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 27). (¬5) رواه مسلم (1055). (¬6) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 275). (¬7) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (7/ 146). (¬8) رواه الترمذي (2346)، وابن ماجه (3357)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (300)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 294) (10362)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 335). من حديث عبيدالله بن محصن رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقال البيهقي: أصح ما روي في الباب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 15) كما قال في المقدمة، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (8455)، والسفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (99)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬9) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 275). (¬10) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 68). (¬11) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (7/ 10). (¬12) رواه الترمذي (2305)، وابن ماجه (3417)، وأبو يعلى في ((المسند)) (11/ 113) (6240)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7/ 125) (7054)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 78) (9543). قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان والحسن لم يسمع من أبي هريرة، وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 790): حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 8) كما قال في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬13) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (1/ 27).

أقوال السلف والعلماء في القناعة

أقوال السلف والعلماء في القناعة - (قال عبد الله بن عباس: القناعة مال لا نفاد له) (¬1). - (وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الرزق رزقان: فرزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك) (¬2). - (وقال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني: إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر؛ وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه) (¬3). - و (قال عمر بن عبد العزيز: الفقه الأكبر القناعة وكف اللسان) (¬4). - وقال الراغب: (الفقر أربعة: فقر الحسنات في الآخرة، وفقر القناعة في الدنيا، وفقر المقتني، وفقرها جميعا والغني بحسبه، فمن حصل له في الدنيا فقد القناعة والمقتني فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ولا يقال له غني بوجه وهو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام ((كاد الفقر أن يكون كفراً)) (¬5)، ومن فقد القناعة دون القنية، فهو الغني بالمجاز فقير بالحقيقة. ولهذا قال: قد يكثر المال والإنسان مفتقر) (¬6). - و (قال أكثم بن صيفي لابنه يا بني من لم يأس على ما فاته ودع بدنه ومن قنع بما هو فيه قرت عينه) (¬7). - (وقال بكر بن عبد الله المزني: يكفيك من الدنيا ما قنعت به ولو كف تمرٍ، وشربة ماءٍ، وظل خباءٍ، وكل ما انفتح عليك من الدنيا شيءٌ ازدادت نفسك به تعبًا) (¬8). - وقال (نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول مروءة القناعة أفضل من مروءة الإعطاء - وقال أبو حاتم: (من أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطراً القناعة وليس شيء أروح للبدن من الرضا بالقضاء والثقة بالقسم ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل لكان الواجب على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال) (¬9). - وقال أيضاً (القناعة تكون بالقلب فمن غني قلبه غنيت يداه ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه ومن قنع لم يتسخط وعاش آمنا مطمئنا ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته والجد والحرمان كأنهما يصطرعان بين العباد) (¬10). - و (قال أبو سليمان الداراني: إن قومًا طلبوا الغنى فحسبوا أنه في جمع المال ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق ألا وهي في التقوى، وطلبوا النعمة في اللباس الرقيق واللين وفي طعامٍ طيبٍ، والنعمة في الإسلام الستر والعافية») (¬11). - و (قال أبو الحسن البوشنجي، وسئل عن القناعة؟ فقال: المعرفة بالقسمة) (¬12). - و (عن أبي سليمان أنه قال: سمعت أختي تقول: الفقراء كلهم أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة والرضا بفقره) (¬13). - و (قال أبو محرز الطفاوي: شكوت إلى جارية لنا ضيق المكسب علي وأنا شاب فقالت لي: يا بني استعن بعز القناعة عن ذل المطالب، فكثيراً، والله ما رأيت القليل عاد سليماً. قال أبو محرز: ما زلت بعد أعرف بركة كلامها في قنوعي) (¬14). - و (عن الحسن، قال: لا تزال كريمًا على الناس - أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك) (¬15). - (وقال مالك بن دينارٍ: أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بلغته) (¬16). - (وكان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل ويقول من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد) (¬17). ¬

(¬1) ذكره ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)) (3/ 169). (¬2) ذكره ابن عبد ربه في ((العقد الفريد)) (3/ 169) ورواه الجرجاني مرفوعاً في ((تاريخ جرجان)) (ص 366). (¬3) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/ 363). (¬4) ((أدب المجالسة وحمد اللسان)) لابن عبد البر (ص87). (¬5) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (9/ 12)، والطبراني في ((الدعاء)) (ص 319). والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (1/ 342). قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (9/ 94)، غير محفوظ. وقال القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (3/ 1723)، [فيه] يحيى بن يمان ضعفه ابن معين، والرقاشي ضعيف. وقال ابن الملقن في ((شرحه للبخاري)) مرسل لا تثبت به الحجة وهو غير صحيح. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 231)، من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد ضعيف. (¬6) ((تفسير الراغب)) للراغب الأصفهاني (1/ 564). (¬7) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان (ص149). (¬8) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص62). (¬9) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان (ص149). (¬10) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان (ص150). (¬11) ((الزهد الكبير)) للبيهقي (ص80). (¬12) ((الزهد الكبير)) للبيهقي (ص84). (¬13) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 431). (¬14) ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 258). (¬15) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 20). (¬16) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص227). (¬17) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 239).

مراتب القناعة

مراتب القناعة قال الماوردي: (والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجهٍ: فالوجه الأول: أن يقنع بالبلغة من دنياه، ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه. وهذا أعلى منازل القناعة. والوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة. وهذه أوسط حال المقتنع. والوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرًا. وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركةٌ بين رغبةٍ ورهبةٍ. أما الرغبة؛ فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت. وأما الرهبة؛ فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت) (¬1). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص126 - 127).

فوائد القناعة

فوائد القناعة 18 - سبب لنيل محبة الله. 19 - علامة كمال الإيمان. 20 - تبعد الإنسان عن الذنوب والمعاصي التي تحبط الحسنات. 21 - تجعل الإنسان يعيش حياة هنيئة طيبة. 22 - تشيع المودة وتنشر المحبة بين الناس. 23 - تكسب الإنسان قوة الإيمان والثقة به والرضا بما قسم. 24 - سبيل لراحة النفس والبعد عن الهموم. 25 - وقاية من الغيبة والنميمة والحسد. 26 - طريق موصل إلى الجنة. 27 - سبب للبركة. 28 - عز للنفس وبعد المهانة والذل. 29 - عين الغنى. 30 - فيها تحقيق لشكر الله تعالى على نعمه. 31 - تعفف عما في أيدي الناس (¬1). ¬

(¬1) انظر ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (8/ 3235). و ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن الميداني (2/ 363 - 365) بتصرف واختصار.

موانع اكتساب القناعة

موانع اكتساب القناعة 1. مجالسة ذوي الأموال واللاهثين وراء جمعها. 2. اتباع الشهوات لطلب الدنيا والتزود منها. 3. طلب الزيادة عن الكفاية والتوسع في جمع الأموال. 4. عدم قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته. 5. عدم تذكر الموت والدار الآخرة. 6. الانغماس في شهوات الدنيا.

الأسباب المعينة على اكتساب القناعة:

الأسباب المعينة على اكتساب القناعة: 1. اكتفاء الإنسان بما رزق، وعدم الاهتمام بالمستقبل. 2. الاطلاع على سيرة السلف الصالح، وزهدهم وقناعتهم في الدنيا، والاقتداء بهم. 3. الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير. 4. الإلحاح في الدعاء بأن يرزقه الله القناعة، كما فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. 5. الإيمان الجازم بأن الله قد كتب الأرزاق قبل أن يخلقنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها. 6. تعويد النفس على القناعة والبعد عن الطمع. 7. تقوية الإيمان بالله تعالى. 8. النظر إلى من هو أقل منه في الرزق، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه. 9. الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها. 10. تذكر الموت وزيارة القبور. 11. قراءة القرآن والتأمل في الآيات القرآنية التي تناولت قضية الرزق والمعيشة. 12. أن يعلم أن في القناعة عزة للنفس، وفي الطمع ذل ومهانة. 13. أن يعرف أن في جمع المال انشغال للقلب؛ من هم وغم وخوف عليه.

نماذج في القناعة

نماذج للنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة: كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعاً زاهداً، فكان من أبعد الناس عن ملذات الدنيا وأرغبهم إلى الآخرة، وقد خيره ربه جل وعلا بين الدنيا وأن يعيش فيها ما شاء، وبين الآخرة، فاختار الآخرة وما عند الله، وخيره أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبيناً. - قال عمر رضي الله عنه: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجعٌ على حصيرٍ، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحو الصاع، ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة، وإذا أفيقٌ معلقٌ، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوته، وهذه خزانتك، فقال: يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟، قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت، وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن، فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكائيل، وأنا، وأبو بكرٍ، والمؤمنون معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلامٍ، إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول .. )) (¬1). - وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير)) (¬2). - وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: ((ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم، فيسقيناه)) (¬3). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارزق آل محمد قوتاً)) (¬4). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدم وحشوه ليف)) (¬5). - وعن قتادة- رضي الله عنه- قال: ((كنا نأتي أنس بن مالك وخبازه قائم، وقال: كلوا، فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط)) (¬6). - وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني)) (¬7). - وعن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت، في يوم واحد، مرتين)) (¬8). - وعن أنس- رضي الله عنه- قال: ((لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات)) (¬9). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين)) (¬10). - وعن عروة؛ عن عائشة- رضي الله عنهما- قالت: ((ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)) (¬11). - وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير، يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬12). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض)) (¬13). ¬

(¬1) رواه البخاري (4913) ومسلم (1479) واللفظ له. (¬2) رواه ابن خزيمة (4/ 217) (2728)، والحاكم (1/ 626). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 383)، وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (3/ 276): [روي] من طرق. (¬3) رواه البخاري (6459) ومسلم (2972) واللفظ للبخاري. (¬4) رواه مسلم (1055). (¬5) رواه البخاري (6456) ومسلم (2082) واللفظ للبخاري. (¬6) رواه البخاري (5421). (¬7) رواه البخاري (6451) ومسلم (2973). (¬8) رواه مسلم (2974). (¬9) رواه البخاري (6450). (¬10) رواه البخاري (2389). (¬11) رواه البخاري (6455). (¬12) رواه مسلم (2970). (¬13) رواه البخاري (5416) ومسلم (2970).

نماذج للصحابة في القناعة:

نماذج للصحابة في القناعة: لقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما كان عليه واتبعوا آثاره، وتخلقوا بأخلاقه، وعاشوا التقشف والزهد في أول أمرهم نظراً لقلة ذات اليد، ثم انتشر الإسلام وجاءتهم الغنائم وفتح الله عليهم، فلم تؤثر هذه الأموال التي اكتسبوها من الغنائم على زهدهم، بل استمروا على ما هم فيه من قناعة وتقشف، وهنا نذكر بعض النماذج من قناعة الصحابة وبعدهم عن الطمع: - وعن عائشة قالت: (من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم فلما افتتح صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك) (¬1). - وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع قالوا ما يجزعك يا أبا عبد الله وقد كانت لك سابقةٌ في الخير شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغازي حسنةً وفتوحًا عظامًا قال يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم حين فارقنا عهد إلينا قال: (ليكف اليوم منكم كزاد الراكب" فهذا الذي أجزعني فجمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر دينارا) (¬2). - وعن أبي العالية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تكفل لي أن لا يسأل أحداً شيئاً، وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحداً شيئاً)) (¬3). - وعن أبي هريرة، قال: (لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجلٌ عليه رداءٌ، إما إزارٌ وإما كساءٌ، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده، كراهية أن ترى عورته) (¬4). - وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - قوله: (لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة وكانوا من أهل الصفة أيضًا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة (¬5) - وعن الحسن قال: (كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين، وكان يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، فإذا خرج عطاؤه تصدق به، وأكل من سفيف يده) (¬6). - و (التقى عبد الرحمن بن عوف وأبو ذر الغفاري، فقبل عبد الرحمن ما بين عيني أبي ذر لكثرة سجوده، وقبل أبو ذر يمين عبد الرحمن لكثرة صدقته. فلما افترقا بعث عبد الرحمن إليه ببدرة، وقال لغلامه: إن قبلها منك فأنت حر. فأبى أن يقبلها، فقال الغلام: اقبل رحمك الله فإن في قبولها عتقي، فقال أبو ذر: إن كان عتقك فيه ففيه رقي، ورده) (¬7). ¬

(¬1) رواه ابن حبان (2/ 460) (684)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 96). والحديث صححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3278)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق (صحيح ابن حبان): إسناده قوي. (¬2) رواه ابن حبان (2/ 481) (706)، والطبراني (6/ 268) (6182)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (26/ 3)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 112). والحديث صححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3319)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح. والحديث رواه ابن ماجه (3328) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: (قال اشتكى سلمان. فعاده سعد. فرآه يبكي. فقال له سعد ما يبكيك؟ يا أخي أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس أليس؟ قال سلمان ما أبكي واحدة من اثنتين. ما أبكى ضنا للدنيا ولا كراهية للآخرة. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا. فما أراني إلا قد تعديت. قال وما عهد إليك؟ قال عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب. ولا أراني إلا قد تعديت. وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت وعند قسمك إذا قسمت وعند همك إذا هممت. قال ثابت فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما. من نفقة كانت عنده). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه أبو داود (1643)، وأحمد (5/ 276) (22428)، والطبراني (2/ 98) (1433)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 272) (3521). من حديث ثوبان رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده ابن جرير في ((مسند عمر)) (1/ 30)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 39)، والنووي في ((رياض الصالحين)) (237)، وصححه الألباني ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه البخاري (442). (¬5) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 536). (¬6) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 197 - 198)، ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (21/ 434). (¬7) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (5/ 339).

نماذج للسلف في القناعة:

نماذج للسلف في القناعة: - (ورث داود الطائي من أبيه دارا ودنانير، فكان كلما خرب في الدار بيت انتقل إلى غيره ولم يعمره، ولم يزل يتقوت بالدنانير حتى كفن في آخرها) (¬1). - و (عن يحيى بن عروة بن أذينة قال: لما أتى أبي وجماعةٌ من الشعراء هشام بن عبد الملك فأنشدوه فلما عرف أبي قال: ألست القائل: لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني فهلا جلست في بيتك حتى يأتيك؟ فسكت أبي ولم يجبه فلما خرجوا من عنده جلس أبي على راحلته حتى أتى المدينة وأمر هشامٌ بجوائزهم فقعد أبي فسأل عنه فلما خبر بانصرافه قال: لا جرم والله ليعلمن أن ذلك سيأتيه. ثم أضعف له ما أعطى واحدًا من أصحابه وكتب له فريضتين) (¬2). - (وقال زمعة بن صالحٍ: كتب إلى أبي حازمٍ بعض بني أمية يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه، فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تعزم علي أن أرفع إليك حوائجي وهيهات قد رفعت حوائجي إلى ربي، ما أعطاني منها قبلت، وما أمسك علي منها قنعت) (¬3). - و (عن الحسن، قال: لما حضر سلمان الموت بكى، فقيل له ما يبكيك يا أبا عبد الله، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما إني لا أبكي جزعًا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا، فتركنا عهده: أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب قال: فلما مات نظروا فإذا نحوٌ من قيمة ثلاثين درهمًا) (¬4). - (وعن حفصٍ الجعفي، قال: ورث داود الطائي من أمه أربع مائة درهمٍ، فمكث يتقوت بها ثلاثين عاماً، فلما نفدت، جعل ينقض سقوف الدويرة، فيبيعها. - وقال عطاء بن مسلمٍ: عاش داود عشرين سنةً بثلاث مائة درهمٍ) (¬5). - (وذكر إبراهيم بن السري الزجاج: أنه كان يجرى على أبي جعفرٍ في الشهر أربعة دراهم، يتقوت بها. قال: وكان لا يسأل أحداً شيئاً) (¬6). ¬

(¬1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (5/ 338). (¬2) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص156). (¬3) ((القناعة)) لابن السني (ص40). (¬4) ((القناعة)) لابن السني (ص51). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (7/ 424). (¬6) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (13/ 546).

نماذج للعلماء المعاصرين في القناعة:

نماذج للعلماء المعاصرين في القناعة: الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: كان الشيخ رحمه الله قنوعاً بما رزقه الله، زاهداً في الدنيا، عفيفاً عما في أيدي الناس، كريماً بما يملك. وقد ذكر عنه بعض أقاربه وطلابه شيء من قناعته وزهده، نذكر طرفاً منها: قال عنه ابنه عبد الله: (كان -رحمه الله – لا يريد الدنيا، ولا يهتم بها، ويحرص على الاقتصاد). ويقول: (الذي يفرحنا أن الدنيا لو كانت ميتة لأباح الله منها سد الخلة. وكان يقول: "لم أقترض قط لأحد، ولم أبع، ولم أشتر، وترك لي والدي ثروة فكنت أعيش منها، وكان عندي كنز عظيم أرجو الله أن لا يضيع مني؛ هو القناعة) (¬1). وقال عنه أيضا: (أنه كان في المدينة، وكان لا يوجد عنده أي مال، وقد وعده أحد جيرانه أن يقترض له مالاً. ولما أراد الشيخ - رحمه الله - أن يأتيه وجده يشتغل، وعليه ملابس متبذلة، فرجع عنه وكأنه وجد في نفسه قليلاً أنه في عازة. قال: ولم أشعر حتى خررت ساجداً في الطريق في الغبار، ورفعت رأسي وعندي فرح ونشوة لا يعلمها إلا الله إكراماً لما أعطاني من العلم، فكيف أريد دنيا وربي أكرمني بالعلم، وبفهم كتاب الله. فذهبت إلى البيت وكأن الدنيا كملت لي لاستشعاري نعمة الله علي بما أعطاني من فهم القرآن. وقد سد الله لي تلك الحاجة من غير أن أسأل أحداً ونذهب لأحد إكراماً منه وفضلاً) (¬2). وقال عنه الشيخ عطية سالم: (والواقع أن الدنيا لم تكن تساوي عنده شيئا فلم يكن يهتم لها. ومنذ وجوده في المملكة وصلته بالحكومة حتى فارق الدنيا لم يطلب عطاء ولا مرتبا ولا ترفيعاً لمرتبه ولا حصولاً على مكافأة أو علاوة. ولكن ما جاءه من غير سؤال أخذه وما حصل عليه لم يكن ليستبقيه بل يوزعه في حينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إلى كل من مكة والمدينة. ومات ولم يخلف درهما ولا دينارا وكان مستغنياً بعفته وقناعته. بل إن حقه الخاص ليتركه تعففاً عنه كما فعل في مؤلفاته وهي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بها وتركها لطلبة العلم. وسمعته يقول: لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه الضياع. فقلت له وما هو قال القناعة. وكان شعاره في ذلك قول الشاعر: الجوع يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثر حسرتي ووساوسي) (¬3). ¬

(¬1) ((جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف)) لعبد العزيز الطويان (1/ 38). (¬2) ((جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف)) لعبد العزيز الطويان (1/ 38). (¬3) ((مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله)) لعطية محمد سالم (ص54).

مسائل متفرقة حول القناعة

مسائل متفرقة حول القناعة - مواعظ حول القناعة: موعظة عمر بن عبد العزيز في القناعة: (قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: من وعظ أخاه بنصيحةٍ له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصيحةٌ لكم في دينكم فاقبلوها، وموعظةٌ منجيةٌ من العواقب فالزموها، فالرزق مقسومٌ، ولن يعدو المرء ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع سعةً وبلغةً، وكفا عن كلفةٍ، لا يحل الموت في أعناقكم، وجهته أيامكم، وما ترون ذاهبٌ، وما مضى كأن لم يكن، وكل ما هو آتٍ قريبٌ، أما رأيتم حالات المنيب وهو يشرف ويعد فراغه، وقد ذاق الموت وعائلهم تعجيل إخراج أهله إياه من داره إلى قبره، وسرعة انصرافهم إلى مسكنه، وجهه مفقودٌ، وذكره منسي، وبابه عن قليلٍ مهجورٌ، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا يومًا لا تخفى فيه مثقال حبةٍ في الموازين) (¬1). موعظة وهب بن منبه لعطاء الخرساني في القناعة: (وقال وهب بن منبهٍ لعطاءٍ الخراساني: ويحك يا عطاء ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، ويحك يا عطاء تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه! وتدع من يفتح لك بابه ويظهر لك غناه، ويقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]. يا عطاء أترضى بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولا ترضى بالدون من الحكمة مع الدنيا، ويحك يا عطاء إن كان يغنيك ما يكفيك، وأن أدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيءٌ يكفيك. ويحك يا عطاء إنما بطنك بحرٌ من البحور ووادٍ من الأودية، ولا يملؤه شيءٌ إلا التراب) (¬2). - أقوال الأدباء والحكماء في القناعة - (قال أكثم بن صيفي: من باع الحرص بالقناعة ظفر بالغنى والثروة. - وقال بعض السلف: قد يخيب الجاهد الساعي، ويظفر الوادع الهادي. فأخذه البحتري فقال: لم ألق مقدورًا على استحقاقه ... في الحظ إما ناقصًا أو زائدا وعجبت للمحدود يحرم ناصبًا ... كلفًا وللمجدود يغنم قاعدا ما خطب من حرم الإرادة قاعدًا ... خطب الذي حرم الإرادة جاهدا - وقال بعض الحكماء: إن من قنع كان غنيا وإن كان مقترًا، ومن لم يقنع كان فقيرًا وإن كان مكثرًا. - وقال بعض البلغاء إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة، وإذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فمن أطاع الله - عز وجل - عن نصره، ومن لزم القناعة زال فقره. - وقال بعض الأدباء: القناعة عز المعسر، والصدقة حرز الموسر) (¬3). - (وقيل لبعض الحكماء: اكتسب فلانٌ مالا، قال: فهل اكتسب أيامًا يأكله فيها؟ قيل: ومن يقدر على ذلك؟ قال: فما أراه اكتسب شيئًا) (¬4). - و (كتب حكيمٌ إلى أخٍ له: أما بعد فاجعل القنوع ذخرًا ولا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنك تدركها في أوانها عذبةً، والمدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح لما تؤمل فثق بخيرته لك في أمورك كلها) (¬5). - و (قال الحكيم: أربعةٌ طلبناها فأخطأنا طرقها: طلبنا الغنى في المال، فإذا هو في القناعة، وطلبنا الراحة في الكثرة فإذا هي في القلة، وطلبنا الكرامة في الخلق، فإذا هي في التقوى، وطلبنا النعمة في الطعام واللباس، فإذا هي في الستر والإسلام) (¬6). - (وقال بعض الحكماء: ما فوق الكفاف إسرافٌ. - وقال بعض البلغاء: من رضي بالمقدور قنع بالميسور) (¬7). - (وقال بعض الحكماء: الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف) (¬8). - و (قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم) (¬9). - حكم وأمثال في القناعة - يقال في المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع (¬10). - القناعة مال لا ينفد (¬11). - (وحسبك من غنى شبع وري - وقولهم: يكفيك ما بلغك المحل) (¬12). - شر الفقر الخضوع، وخير الغنى القناعة (¬13). - ¬

(¬1) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص64). (¬2) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص67 - 68). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص226). (¬4) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص62). (¬5) ((التبصرة)) لابن الجوزي (ص156). (¬6) ((تنبيه الغافلين بأحاديث سيد المرسلين)) للسمرقندي (ص245). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص227). (¬8) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص227). (¬9) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 206). (¬10) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (3/ 1273). (¬11) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 14). (¬12) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 43). (¬13) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 45).

القناعة في واحة الشعر ..

القناعة في واحة الشعر .. قال بشر بن الحارث: أفادتنا القناعة أي عز ... ولا عز أعز من القناعه فخذ منها لنفسك رأس مالٍ ... وصير بعدها التقوى بضاعه تحز حالين تغنى عن بخيلٍ ... وتسعد في الجنان بصبر ساعه (¬1) وقال محمد بن حميد الأكاف: تقنع بالكفاف تعش رخيا ... ولا تبغ الفضول من الكفاف ففي خبز القفار بغير أدم ... وفي ماء الفرات عني وكاف وفي الثوب المرقع ما يغطى ... به من كل عري وانكشاف وكل تزين بالمرء زين ... وأزينه التزين بالعفاف (¬2) وقال آخر: هي القناعة لا ترضى بها بدلا ... فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن (¬3) وقال عبد العزيز بن سليمان الأبرش: إذا المرء لم يقنع بعيش فإنه ... وإن كان ذا مال من الفقر موقر إذا كان فضل الناس يغنيك بينهم ... فأنت بفضل الله أغنى وأيسر (¬4) وقال آخر: نصف القنوع وأينا يقنع ... أو أينا يرضى بما يجمع لله در ذوي القناعة ما ... أصفى معاشهم وما أوسع من كان يبغي أن يلذ وأن ... تهدى جوارحه فما يطمع فقر النفوس بقدر حاجتها ... وغنى النفوس بقدر ما تقنع (¬5) وقال محمود الوراق: غنى النفس يغنيها إذا كنت قانعا ... وليس بمغنيك الكثير من الحرص وإن اعتقاد الهم للخير جامعا ... وقلة هم المرء يدعو إلى النقص (¬6) وقال آخر: رضيت من الدنيا بقوتٍ يقيمني ... فلا أبتغي من بعده أبدًا فضلا ولست أروم القوت إلا لأنه ... يعين على علمٍ أرد به جهلا فما هذه الدنيا بطيب نعيمها ... لأيسر ما في العلم من نكتةٍ عدلا (¬7) وقال آخر: عليك بتقوى الله واقنع برزقه ... فخير عباد الله من هو قانع ولا تلهك الدنيا ولا تطمع بها ... فقد يهلك المغرور فيها المطامع (¬8) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجدت القناعة ثوب الغنى ... فصرت بأذيالها أتمسك فألبسني جاهها حلةً فصرت غنيا بلا درهمٍ ... يمر الزمان ولم تنتهك أمر عزيزًا كأني ملك (¬9) وما أحسن قول الإمام الشافعي: خبرت بني الدنيا فلم أر منهم ... سوى خادعٍ والخبث حشو إهابه فجردت عن غمد القناعة صارمًا ... قطعت رجائي منهم بذبابه فلا ذا يراني واقفًا بطريقه ... ولا ذا يراني قاعدًا عند بابه غني بلا مالٍ عن الناس كلهم ... وليس الغنى إلا عن الشيء لا به (¬10) وقال آخر: إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعاً وريا فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا أبياً لنائل ذي ثروةٍ ... تراه بما في يديه أبيا فإن إراقة ماء الحياة ... دون إراقة ماء المحيا (¬11) ... ¬

(¬1) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 537). (¬2) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص150). (¬3) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 537). (¬4) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص150). (¬5) ((التبصرة)) لابن الجوزي (2/ 156). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 158). (¬7) ((القناعة)) لابن السني (1/ 46). (¬8) ((التبصرة)) لابن الجوزي (2/ 156). (¬9) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 538). (¬10) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 543). (¬11) ((الكشكول)) لبهاء الدين الهمذاني (2/ 268).

كتمان السر

كتمان السر لغة واصطلاحاً الكتمان لغة: كتم الشيء من باب نصر وكتمانا أيضا بالكسر، واكتتمه. وسر كاتم: أي مكتوم، ومكتم بالتشديد بولغ في كتمانه. واستكتمه سره: سأله أن يكتمه وكاتمه سره. ورجل كتمة، بوزن همزة إذا كان يكتم سره (¬1). الكتمان اصطلاحاً: الكتمان هو: ستر الحديث (¬2). وعرفه الميداني بقوله: (هو ضبط النفس ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها) (¬3). السر لغة: السِّرُّ: الَّذِي يُكْتَمُ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ. والسَّرِيرَةُ مِثْلُهُ وَجَمْعُهَا سَرَائِرُ، وَرَجُلٌ سِرِّيٌّ: يصنع الأَشياءَ سِرّاً مِنْ قَوْمٍ سِرِّيِّين. والسرِيرةُ: كالسِّرِّ، وَالْجَمْعُ السرائرُ (¬4). السر اصطلاحاً: السر هو: الحديث المكتتم في النفس (¬5). الكلمات المترادفة لكتمان السر: (يقال: كتم فلان سره، واكتتمه وقد كتمه عني، وكتمه مني، وكتمنيه، وكاتمنيه، وأخفاه عني، وواراه عني، ووراه، وستره، وأضمره، وغيبه، وزواه، وطواه، ولواه، ودفنه، وكنه، وأكنه، وأجنه، وخزنه، وصانه، وحصنه، وضنبه، وقد أسر نجواه عني، وأسر عني ذات نفسه، وستر عني مخبآت صدره، ودافعني عن دخلة ضميره، وأمسك على ما في نفسه) (¬6). ¬

(¬1) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 266). (¬2) ((المفردات)) للراغب الأصفهاني (ص 702). (¬3) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 343). (¬4) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 356). و ((تاج العروس)) للزبيدي (12/ 5). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 193). (¬6) ((نجعة الرائد)) لليازجي (2/ 89).

الفرق بين الكتمان والسر والنجوى والاختفاء

الفرق بين الكتمان والسر والنجوى والاختفاء الفرق بين النجوى والسر: (أن النجوى: اسم للكلام الخفي الذي تناجي به صاحبك كأنك ترفعه عن غيره وذلك أن أصل الكلمة الرفعة، ومنه النجوة من الأرض، وسمي تكليم الله تعالى موسى عليه السلام مناجاة لأنه كان كلاما أخفاه عن غيره. والسر: إخفاء الشيء في النفس، ولو اختفى بستر أو وراء جدار لم يكن سرا، ويقال في هذا الكلام سر تشبيها بما يخفي في النفس، ويقال سري عند فلان تريد ما يخفيه في نفسه من ذلك ولا يقال نجواي عنده، وتقول لصاحبك هذا ألقيه إليك تريد المعنى الذي تخفيه في نفسك، والنجوى تتناول جملة ما يتناجى به من الكلام، والسر يتناول معنى ذلك وقد يكون السر في غير المعاني مجازا تقول فعل هذا سرا وقد أسر الأمر، والنجوى لا تكون إلا كلاما) (¬1). الفرق بين الكتمان والسر: (قيل: المكتوم يختص بالمعاني كالأسرار والأخبار، لأن الكتمان لا يستعمل إلا فيهما. والمستور يختص بالجثث والأعيان، لأن الأصل في السر تغطية الشيء بغطاء. ثم استعمل في غيرها تجوزا) (¬2). الفرق بين الكتمان والاختفاء: (أن الكتمان هو السكوت عن المعنى وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة: 159] أي يسكتون عن ذكره. والإخفاء: يكون في ذلك وفي غيره، والشاهد أنك تقول أخفيت الدرهم في الثوب ولا تقول كتمت ذلك وتقول كتمت المعنى وأخفيته فالإخفاء أعم من الكتمان) (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص533). (¬2) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص448). (¬3) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص447).

الحث على كتمان السر في القرآن والسنة

الحث على كتمان السر في القرآن والسنة الحث على كتمان السر من القرآن الكريم: - قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27 - 28]. (كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون) (¬1). - قال تعالى حكاية عن كتمان يوسف عليه السلام للرؤيا التي رآها بأمر من أبيه: قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف: 5]. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما فخشي يعقوب، عليه السلام، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدا منهم له؛ ولهذا قال له: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5] أي: يحتالوا لك حيلة يردونك فيها ... ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر) (¬2). وقال سبحانه في مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 28]. الحث على كتمان السر من السنة النبوية: - عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (¬3). قال النووي: (في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (¬4) وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم ((إني لأفعله أنا وهذه)) (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة ((أعرستم الليلة)) (¬6) وقال لجابر ((الكيس الكيس)) (¬7)) (¬8). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 42). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 371). (¬3) رواه مسلم (1437). (¬4) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (350) من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (5470)، ومسلم (2144) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (2097)، ومسلم (715) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬8) ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 8).

- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (¬1). - وعن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)) (¬2). (أي كونوا لها كاتمين عن الناس واستعينوا بالله على الظفر بها ثم علل طلب الكتمان لها بقوله ((فإن كل ذي نعمة محسود)) يعني إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم وموضع الخبر الوارد في التحدث بالنعمة ما بعد وقوعها وأمن الحسد وأخذ منه أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه ويجتهدوا في طي سرهم) (¬3). - وعن جابر- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)) (¬4). قال المناوي في شرحه لهذا الحديث: (قوله: ((إذا حدّث الرجل)) أي الإنسان فذكر الرجل غالبي ((الحديث)) وفي رواية أخاً له بحديث وفي أخرى إذا حدث رجل رجلاً بحديث ((ثم التفت)) أي غاب عن المجلس أو التفت يميناً وشمالاً فظهر من حاله بالقرائن أن قصده أن لا يطلع على حديثه غير الذي حدثه به (فهي) أي الكلمة التي حدثه بها (أمانة) عند المحدث أودعه إياها فإن حدث بها غيره فقد خالف أمر الله حيث أدّى الأمانة إلى غير أهلها فيكون من الظالمين فيجب عليه كتمها إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق قالوا وهذا من جوامع الكلم لما في هذا اللفظ الوجيز من الحمل على آداب العشرة وحسن الصحبة وكتم السر وحفظ الود والتحذير من النميمة بين الإخوان المؤدية للشنآن ما لا يخفى) (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4869)، وأحمد (3/ 342) (14734). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9174)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5914). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/ 94)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 215)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 34) (6228). وضعف سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1086)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 198): فيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (985). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 493). (¬4) رواه أبو داود (4868)، والترمذي (1959)، وأحمد (3/ 379) (15104). وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (561)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (486). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 329).

أقوال السلف والعلماء في كتمان السر

أقوال السلف والعلماء في كتمان السر - قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (سرك أسيرك فإن تكلمت به صرت أسيره) (¬1). - وقال عمرو بن العاص: (عجبت من الرجل يفر من القدر، وهو مواقعه! ويرى القذاة في عين أخيه، ويدع الجذع في عينه! ويخرج الضغن من نفس أخيه، ويدع الضغن في نفسه! وما وضعت سري عند أحد فلمته على إفشاءه، وكيف ألومه وقد ضقت به ذراعا؟) (¬2). - وقال أيضاً: (ما وضعت سري عند أحد أفشاه علي فلمته، أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه) (¬3). - وأسرَّ معاوية رضي الله عنه إلى الوليد بن عتبة حديثا، فقال لأبيه: يا أبت، إن أمير المؤمنين أسرَّ إلي حديثا، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به، فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه) قال: قلت: يا أبت، وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه؟ قال: لا والله يا بني، ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر). فأتيت معاوية رضي الله عنه فحدثته، فقال: يا وليد، أعتقك أخي من رق الخطأ (¬4). - وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية الأسرار، والشفاء أقفالها والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره (¬5). - وعن الحسن رحمه الله، قال: (سمعته يقول: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك) (¬6). - وقال أبو حاتم: (من حصن بالكتمان سره تم له تدبيره وكان له الظفر بما يريد والسلامة من العيب والضرر وإن أخطأه التمكن والظفر والحازم يجعل سره في وعاء ويكتمه عن كل مستودع فإن اضطره الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له لأن السر أمانة وإفشاؤه خيانة والقلب له وعاؤه فمن الأوعية ما يضيق بما يودع ومنها ما يتسع لما استودع) (¬7). - وقال أيضاً: (الإفراط في الاسترسال بالأسرار عجز وما كتمه المرء من عدوه فلا يجب أن يظهره لصديقه وكفى لذوي الألباب عبرا ما جربوا ومن استودع حديثا فليستر ولا يكن مهتاكا ولا مشياعا لأن السر إنما سمي سرا لأنه لا يفشى فيجب على العاقل أن يكون صدره أوسع لسره من صدر غيره بأن لا يفشيه) (¬8). - وقال: (الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها ومن لم يكتم السر استحق الندم ومن استحق الندم صار ناقص العقل ومن دام على هذا رجع إلى الجهل فتحصين السر للعاقل أولى به من التلهف بالندم بعد خروجه منه ولقد أحسن الذي يقول: خشيت لساني أن يكون خؤونا ... فأودعته قلبي فكان أمينا فقلت ليخفى دون شخصي وناظري ... أيا حركاتي كن في سكونا) (¬9) - وقال ابن الجوزي: (رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟!) (¬10). - وقال الراغب الأصفهاني: (إذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء) (¬11). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (306). (¬2) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (886)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (ص309). وصحح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (685). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص214). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص214)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (38/ 271). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308). (¬6) ((الصمت وآداب اللسان)) لابن أبي الدنيا (ص 214). (¬7) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 189). (¬8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 190). (¬9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 191). (¬10) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 273). (¬11) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 213).

أنواع السر

أنواع السر قال الراغب الأصفهاني: السر ضربان؛ أحدهما: ما يلقي الإنسان من حديث يستكتم وذلك إما: لفظًا كقولك لغيرك: أكتم ما أقول لك، وإما: حالًا وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده، أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسيه، ولهذا قيل: إذا حدَّثك الإنسان بحديث فالتفت فهو أمانة. والثاني: أن يكون حديثًا في نفسك بما تستقبح إشاعته أو شيئًا تريد فعله، وإلى الأول من ذلك أشار النبي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى منكم من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر اللَّه)) (¬1)، وإلى الثاني أشار من قال: ((من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه)) (¬2). وكتمان النوع الأول من الوفاء ويختص بعامة الناس، والثاني من الحزم والاحتياط، وهو مختص بالملوك وأصحاب السياسات. وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء، والسبب في أنه يصعب كتمان السر هو أن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية. وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن اللَّه تعالى وكَل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها " فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلى حيث ما يجب إطلاقها ولا يخدعنك عن سرك قول من قال: وأكتم السر فيه ضربة العنق. وقول من ينشدك: ويكاتم الأسرار حتى كأنه ... ليصونها عن أن تمر بباله فذلك قول من يستنزلك عما في قلبك، فإذا استفزع ما عندك لم يرع فيه حقك، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر، وما أصدق من أنبأ عن حقيقة حاله حيث قال له صديقه: أريد أن أفشي إليك سرًّا تحفظه عليَّ، فقال، لا أريد أن أوذي قلبي بنجواك، وأجعل صدري خزانة شكواك فيقلقني ما أقلقك، ويؤرقني ما أرقك، فتبيت بإفشائه مستريحًا، ويبيت قلبي بحره جريحًا) (¬3). ¬

(¬1) رواه الحاكم (4/ 272)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (1/ 86) (91) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 572) (17601) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1030)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (175). (¬2) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 98)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/ 126). (¬3) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 212).

فوائد كتمان السر

فوائد كتمان السر 1 - حفظ الأسرار صفة من صفات المروءة والنبل. 2 - كتمان النصر من أعظم أسباب النصر على الأعداء. 3 - درء مفسدة الحقد والحسد. 4 - تقوي الصلة بين الأخوة. 5 - تقوي الثقة بين الزوجين (¬1). 6 - كتمان الأسرار سبب من أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح (¬2). 7 - كتمان السِّرّ كرم فِي النَّفس وسمو فِي الهمة وَدَلِيل على الْمُرُوءَة وَسبب للمحبة ومبلغ إلى جليل الرتبة (¬3). ¬

(¬1) انظر ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (ص: 217). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 306). (¬3) ((المروءة)) لأبي بكر بن المرزبان (ص 122).

الكتمان المذموم

الكتمان المذموم لا شك أن الأصل في السر كتمانه وعدم إفشائه، لكن هناك أمور تستثنى من هذا الأصل منها: 1 - كتمان العلم: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أوتي علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار)) (¬1). 2 - كتمان الشهادة: قال تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283]. وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]. 3 - بعض المجالس لا حرمة لأسرارها: قال صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (¬2). 4 - كتمان العيب في البيع والشراء: فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8732)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6284). (¬2) رواه أبو داود (4869)، وأحمد (3/ 342) (14734). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9174)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5914). (¬3) رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.

صور كتمان الأسرار

صور كتمان الأسرار 1 - كتمان الطاعات: المسلم لا بد أن يحرص في كتم أموره التعبدية، قال تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55]. وذكر صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) (¬1). 2 - كتمان الذنوب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المَجَانة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (¬2). وعن زيد بن أسلم)) أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال دون هذا فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثم قال أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) (¬3). (هذان الحديثان يدلان على أن الإنسان مكلف بحفظ أسرار نفسه، سواء كانت هذه الأسرار من القاذورات أو الخيرات. فمن فعل شرا وكتمه في نفسه، ولم يذعه للغير، ثم تاب إلى الله توبة صادقة، ستره الله تعالى بستره وتاب عليه. وأما إذا اعترف به، وجب عليه الجزاء المقرر في الشريعة الإسلامية كالحدود والتعزير) (¬4). 3 - كتمان قضاء الحاجات: من يريد أن يقوم بعمل ما عليه أن يكتمه وأن لا يحدث به كل أحد حتى يقوم بإكماله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بكتمان قضاء الحوائج فقال: ((استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)) (¬5). 4 - كتمان الأسرار الزوجية: كتمان الأسرار الزوجية من الأمور (التي يجب حفظها وعدم إفشائها ما يكون بين الرجل وامرأته، فهو أولاً حق المرأة في عدم إفشاء ما يكون منها لزوجها، وهو ثانياً حق الآداب الإسلامية العامة التي توصي بستر مثل هذه الأمور، فالمرء مستأمن عليها من جهتين، جهة الآداب الإسلامية، وجهة صاحب الحق الخاص) (¬6). فعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) (¬7). 5 - كتمان الرؤيا المكروهة: ¬

(¬1) رواه البخاري (1423)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6069) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مالك (2/ 825) (12)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 565) (17574) من حديث زيد بن أسلم رحمه الله. قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 617): رواه الشافعي، عن مالك باللفظ المذكور، ثم قال: هذا حديث منقطع. وضعفه الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/ 363). (¬4) ((كتمان السر وإفشاؤه)) لشريف بن أدول (ص 101). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/ 94)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 215)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 34) (6228). وضعف سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1086)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 198): فيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (985). (¬6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 346). (¬7) رواه مسلم (1437).

عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره)) (¬1). قال ابن حجر: (وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء أن يتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا ولا يذكرها لأحد أصلا) (¬2). 6 - كتمان أسرار الدولة: اهتم الإسلام بأسرار الدولة الإسلامية وخاصة الأسرار الحربية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتم أسرار خططه في الغزوات، فكان من هديه إذا كان يريد غزوة ورَّى بغيرها. وأرسل سرية بقيادة عبد الرحمن بن جحش (وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به صلى الله عليه وسلم، ولا يستكره من أصحابه أحدا فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف وترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)) فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (6985). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 370). (¬3) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 602).

نماذج في كتمان السر

كتمان السر عند النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتم أسرار خططه في الغزوات، وكان من هديه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها. - وقد بعث صلى الله عليه وسلم سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلاً بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي، ومعه رسالة مكتومة أمره الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يفتحها إلا بعد يومين من مسيره، فإذا فتحها وفهم ما فيها، مضى في تنفيذها غير مستكره أحداً من أفراد قوته على مرافقته (¬1). - وكان للكتمان أثر كبير في مباغتة النبي صلى الله عليه وسلم للعدو: (فبعد شهرين من غزوة أحد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد يحرضان قومهما بني أسد بن خزيمة لغزو المدينة المنورة ونهب أموال المسلمين فيها. وقرر النبي صلى الله عليه وسلم إرسال جيش من المسلمين وأمرهم بالسير ليلاً والاستخفاء نهاراً، وسلوك طريق غير مطروقة حتى لا يطلع أحد على أخبارهم ونياتهم فباغتوا بذلك بني أسد في وقت لا يتوقعونه) (¬2). - وفي غزوة (دومة الجندل) قاد النبي صلى الله عليه وسلم ألف راكب وراجل من المهاجرين والأنصار لمنع القبائل التي تقطن (دومة الجندل) من قطع الطرق ونهب القوافل، والقضاء على حشودها التي تزمع غزو المدينة المنورة. وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين من المدينة المنورة يكمن بهم نهاراً ويسير ليلاً، وقد قطع المسلمون المسافة بين المدينة المنورة و (دومة الجندل) فلم يجد المسلمون أحداً منهم ... وعاد المسلمون من (دومة الجندل) بعد أن أقاموا فيها بضعة أيام. إن كتمان نيات المسلمين بالمسير ليلاً هو الذي جعلهم ينتصرون على أعدائهم (¬3). - وفي غزوة فتح مكة المكرمة بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق عامل الكتمان حد الروعة حتى ليمكن اعتبار هذه الغزوة مثالا من أعظم أمثلة التاريخ العسكري في تطبيق الكتمان إلى أبعد الحدود. وأمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً من المسلمين في الداخل أو الخارج بنياته وأهدافه من حركته واتجاهها، بل أخفى نياته وأهدافه واتجاه حركته حتى عن أقرب المقربين إليه، ولما اقترب موعد الحركة صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة المكرمة، ولكنه بث عيونه وأرصاده ليحول دون وصول أخبار اتجاه حركته إلى قريش، وبعث حاطب بن أبي بلتعة رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة المكرمة، أخبرهم في تلك الرسالة بنيات المسلمين في التوجه إلى فتح مكة المكرمة (¬4). فعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت عليا رضي الله عنه، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صدقكم، قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (¬5). ¬

(¬1) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 602). (¬2) ((الرسول القائد)) (203). (¬3) ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص 23). (¬4) ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص 31). (¬5) رواه البخاري (3007)، ومسلم (161).

نماذج للصحابة في كتمان السر

نماذج للصحابة في كتمان السر - روى البخاري عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: ((فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم «خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه» فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها)) (¬1). - وعن عائشة قالت: ((كن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا فلما رآها رحب بها فقال: مرحبا بابنتي. ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت. فقلت لها خصك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتها ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت ما كنت أفشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سره. قالت فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك. قالت فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة. قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت)) (¬2). - وعن ثابت عن أنس- رضي الله عنهما- قال: ((أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان- قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة. فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت)) (¬3). - وكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن خيثمة بن أبي سبرة قال: (أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فيسر لي أبا هريرة فجلست إليه فقلت له إني سألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فوفقت لي فقال لي ممن أنت؟ قلت من أهل الكوفة جئت ألتمس الخير وأطلبه قال أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة وابن مسعود صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغلته وحذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه وسلمان صاحب الكتابين؟) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4005). (¬2) رواه البخاري (3623)، ومسلم (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (2482). (¬4) رواه الترمذي (3811)، والحاكم (3/ 443). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في ((تخريج المشكاة)) (6232).

صفات أمين السر

صفات أمين السر ذكر الماوردي بعض الصفات التي يلزم أن تتوفر على الشخص الذي يؤتمن على السر، فقال: 1 - (أن يكون ذا عقل صاد. 2 - ودين حاجز. 3 - ونصح مبذول. 4 - وود موفور. 5 - وكتوما بالطبع. فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة) (¬1). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).

حكم وأمثال في كتمان السر

حكم وأمثال في كتمان السر - (كن على حفظ سرك أحرص منك على حقن دمك. - من وهن الأمور إعلانه قبل إحكامه. - لا تنكح خاطب سرك. - كلما كثر خزان الأسرار ازدادت ضياعاً. - قلوب العقلاء حصون الأسرار. - انفرد بسرك، ولا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون) (¬1). - وقيل: أصبر النّاس من صبر على كتمان سرّه فلم يبده لصديقه. الصّبر على التهاب النار أهون من الصّبر على كتمان السرّ (¬2). · صدرك أوسع لسرك (¬3). - وقيل في ذمّ مفش سرّه: فلان أنمّ من النسيم على الرياض، ومن العين منها الصفو والكدر، - وقيل: وهو أضيع للأسرار من الغربال للماء (¬4). - وقيل في الأحوال التي يفشو فيها السر: قال يحيى بن خالد: (الرجل ينبئ عن نفسه في ثلاثة مواضع: إذا اضطجع على فراشه، وإذا خلا بعرسه، وإذا استوى على سرجه) (¬5). - وقيل فيمن يحفظ سرّه ويستحفظه غيره: - قال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق - وقال بشّار: تبوح بسرّك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم - وقال دعامة بن يزيد الطائي: إذا ما جعلت السرّ عند مضيع ... فإنّك ممّن ضيّع السرّ أذنب (¬6) - وقيل لعدي بن حاتم رحمه الله: أي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام، وإضاعة السرّ، والثقة بكل أحدٍ (¬7). - وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته (¬8). ¬

(¬1) ((التمثيل والمحاضرة)) لأبي منصور الثعالبي (ص 420). (¬2) ((مجمع الأمثال)) للميداني (ص 396). (¬3) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162). (¬4) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162). (¬5) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162). (¬6) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162). (¬7) ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص 243). (¬8) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (ص 83).

كتمان السر في واحة الشعر ..

كتمان السر في واحة الشعر .. قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: قال: أنس بن أسيد: ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت وشاة الرجال ... لا يتركون أديما صحيحا (¬1) وقال علي بن محمد البسامي: تبيح بسرك ضيقا به ... وتبغي لسرك من يكتم وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لا تخافنه أحزم إذا ذاع سرك من مخبر ... فأنت وإن لمته ألوم (¬2) وقال آخر: إذا المرء أفشى سره بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق (¬3) وقال عبد العزيز بن سليمان: إذا ضاق صدر المرء عن بعض سره ... فألقاه في صدري فصدري أضيق ومن لامني في أن أضيع سره ... وضيعه قبلي فذو السر أخرق (¬4) وقال بعض الشعراء: وسرك ما كان عند امرئ ... وسر الثلاثة غير الخفي وقال آخر: فلا تنطق بسرك كل سر ... إذا ما جاوز الاثنين فاشي (¬5) وقال بعض الشعراء: ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... مني الضلوع على الأسرار والخبر لكنت أول من ينسى سرائره ... إذا كنت من نشرها يوما على خطر وحكي أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال ابنه: ومستودعي سرا تضمنت سره ... فأودعته من مستقر الحشى قبرا ولكنني أخفيه عني كأنني ... من الدهر يوما ما أحطت به خبرا وما السر في قلبي كميت بحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر النشرا (¬6) ... ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 307). (¬2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 188). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 307). (¬4) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 188). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).

المحبة

معنى المحبة لغة واصطلاحاً معنى المحبة لغة: تدل على اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ، والحُبُّ: نَقِيضُ البُغْضِ. والحُبُّ: الودادُ والمَحَبَّةُ، وَكَذَلِكَ الحِبُّ بِالْكَسْرِ (¬1). وَتقول: أحبَبْتُ الشَّيْء فَأنا مُحِبٌّ وَهو مُحَبٌّ (¬2). معنى المحبة اصطلاحاً: (الْمحبَّة: الْميل إِلَى الشَّيْء السار) (¬3). وقال الراغب: (المحبة: ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرًا) (¬4). وقال الهروي: (الْمحبَّة: تعلق الْقلب بَين الهمة والأنس فِي الْبَذْل وَالْمَنْع على الْإِفْرَاد) (¬5). الكلمات المترادفة للمحبة: للمحبة مرادفات كثيرة ذكرها أهل العلم تزيد على ستين اسماً؛ نذكر منها: (المحبة، والعلاقة، والهوى، والصبوة، والصبابة، والشغف، والمقة، والوجد، والكلف، والتتيم، والعشق، والجوى، والدنف، والشجو، والشوق، والخلابة، والبلابل، والتباريح، والسدم، والغمرات، والوهل، والشجن، واللاعج، والاكتئاب، والوصب، والحزن، والكمد، واللذع، والحرق، والسهد، والأرق، واللهف، والحنين، والاستكانة، والتبالة، واللوعة، والفتون، والجنون، واللمم، والخبل، والرسيس، والداء المخامر، والود، والخلة، والخلم، والغرام، والهيام، والتدليه، والوله، والتعبد) (¬6). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 290). (¬2) ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الهروي (4/ 8). (¬3) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (ص151). (¬4) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص256). (¬5) ((منازل السائرين)) للهروي (ص88). (¬6) ((روضة المحبين)) لابن قيم الجوزية (ص16).

الفرق بين المحبة وبعض الصفات

الفرق بين المحبة وبعض الصفات الفرق بين الإِرادة والمحبة: (أَن الْمحبَّة تجْرِي على الشَّيْء وَيكون المُرَاد بِهِ غَيره، وَلَيْسَ كَذَلِك الإرادة، تَقول: أَحْبَبْت زيداً وَالْمرَاد أَنَّك تحب إكرامه ونفعه، وَلَا يُقَال: أردْت زيداً بِهَذَا الْمَعْنى، وَتقول: أحب الله أَي أحب طَاعَته، وَلَا يُقَال أريده بِهَذَا الْمَعْنى، فَجعل الْمحبَّة لطاعة الله محبَّة لَهُ، كَمَا جعل الْخَوْف من عقابه خوفًا مِنْهُ، وَتقول: الله يحب الْمُؤمنِينَ بِمَعْنى أَنه يريد إكرامهم وإثابتهم، وَلَا يُقَال: إنه يريدهم بِهَذَا الْمَعْنى، وَلِهَذَا قَالُوا: إِن الْمحبَّة تكون ثَوابًا وَولَايَة وَلَا تكون الْإِرَادَة كَذَلِك، ولقولهم: أحب زيداً مزية على قَوْلهم: أُرِيد لَهُ الْخَيْر، وَذَلِكَ أَنه إِذا قَالَ أُرِيد لَهُ الْخَيْر لم يبين أَنه لَا يُرِيد لَهُ شَيْئا من السوء، وَإِذا قَالَ أُرِيد لَهُ الْخَيْر لم يبين أَنه لَا يُرِيد لَهُ شَيْئا من السوء، وَإِذا قَالَ أحبه أبان أَنه لَا يُرِيد لَهُ سوءاً أصلاً، وَكَذَلِكَ إذا قَالَ: أكره لَهُ الْخَيْر لم يبين أَنه لَا يُرِيد لَهُ الخير البته، وَإِذا قَالَ: أبغضه، أبان أَنه لَا يُرِيد لَهُ خيراً البته. والمحبة أَيْضا تجْرِي مجْرى الشَّهْوَة؛ فَيُقَال: فلَان يحب اللَّحْم، أَي: يشتهيه، وَتقول: أكلت طَعَاماً لا أحبه أَي لَا أشتهيه، وَمَعَ هَذَا فَإِن الْمحبَّة هِيَ الْإِرَادَة) (¬1). الفرق بين المحبة والشهوة: (الشَّهْوَة توقان النَّفس وميل الطباع إِلَى المشتهى وَلَيْسَت من قبيل الْإِرَادَة، والمحبة من قبيل الْإِرَادَة. ونقيضها البغضة، ونقيض الْحبّ البغض، والشهوة تتَعَلَّق بالملاذ فَقَط، والمحبة تتَعَلَّق بالملاذ وَغَيرهَا) (¬2). الفرق بين المحبة والصداقة: (أَن الصَّدَاقَة قُوَّة الْمَوَدَّة مأخوذة من الشَّيْء الصدْق وَهُوَ الصلب الْقوي، وَقَالَ أَبُو عَليّ رَحمَه الله: الصَّدَاقَة اتفاق الْقُلُوب على الْمَوَدَّة، وَلِهَذَا لَا يُقَال: إِن الله صديق الْمُؤمن كَمَا يُقَال إِنَّه حَبِيبه وخليله) (¬3). الفرق بين الحب والود: (أَن الْحبّ يكون فِي مَا يُوجِبهُ ميل الطباع وَالحكمَة جَمِيعًا، والود ميل الطباع فَقَط، أَلا ترى أَنَّك تَقول: أحب فلَاناً وأوده وَتقول: أحب الصَّلَاة، وَلَا تَقول: أود الصَّلَاة، وَتقول: أود أَن ذلك كَانَ لي، إِذا تمنيت وداده، وأود الرجل وداً ومودة، والود الوديد، مثل الْحبّ وَهُوَ الحبيب) (¬4). الْفرق بَين الْمحبَّة والعشق: (أَن الْعِشْق شدَّة الشَّهْوَة لنيل المُرَاد من المعشوق إِذا كَانَ إِنْسَان والعزم على مواقعته عِنْد التَّمَكُّن مِنْهُ وَلم كَانَ الْعِشْق مفارقا للشهوة لجَاز أَن يكون العاشق خَالِيا من أَن يَشْتَهِي النّيل مِمَّن يعشقه إِلَّا أَنه شَهْوَة مَخْصُوصَة لَا تفارق موضعهَا وَهِي شَهْوَة الرجل للنيل مِمَّن يعشقه وَلَا تسمى شَهْوَته لشرب الْخمر وَأكل الطّيب عشقا والعشق أَيْضا هُوَ الشَّهْوَة الَّتِي إِذا أفرطت وَامْتنع نيل مَا يتَعَلَّق بهَا قتلت بها صَاحبهَا وَلَا يقتل من الشَّهَوَات غَيرهَا أَلا ترى أَن أحدا لم يمت من شَهْوَة الْخمر وَالطَّعَام وَالطّيب وَلَا من محبَّة دَاره أَو مَاله وَمَات خلق كثير من شَهْوَة الْخلْوَة مَعَ المعشوق والنيل مِنْهُ) (¬5). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 121). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 121). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 121). (¬4) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 122). (¬5) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 122).

فضل المحبة ومنزلتها

فضل المحبة ومنزلتها قال الرّاغب: - المحبّة والعدل من أسباب نظام أمور النّاس- (ولو تحابّ النّاس، وتعاملوا بالمحبّة لاستغنوا بها عن العدل، فقد قيل: العدل خليفة المحبّة يستعمل حيث لا توجد المحبّة، ولذلك عظّم الله تعالى المنّة بإيقاع المحبّة بين أهل الملّة، فقال عزّ من قائل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي محبّة في القلوب، تنبيها على أنّ ذلك أجلب للعقائد، وهي أفضل من المهابة لأنّ المهابة تنفّر، والمحبّة تؤلّف، وقد قيل: طاعة المحبّة أفضل من طاعة الرّهبة، لأنّ طاعة المحبّة من داخل، وطاعة الرّهبة من خارج، وهي تزول بزوال سببها، وكلّ قوم إذا تحابّوا تواصلوا وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عملوا، وإذا عملوا عمّروا، وإذا عمّروا عمّروا وبورك لهم) (¬1). وقال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (هي المنزلة الّتي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمّر السّابقون، وعليها تفانى المحبّون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرّة العيون، وهي الحياة الّتي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنّور الّذي من فقده فهو في بحار الظّلمات، والشّفاء الّذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللّذّة الّتي من لم يظفر بها فعيشه كلّه هموم وآلام. وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها. وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها. وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها. وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب. وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب) (¬2). وقال الجاحظ: (ينبغي لمحبّ الكمال أن يعوّد نفسه محبّة النّاس، والتّودّد إليهم، والتّحنّن عليهم، والرّأفة والرّحمة لهم، فإنّ النّاس قبيل واحد متناسبون تجمعهم الإنسانيّة، وحلية القوّة الإلهيّة هي في جميعهم، وفي كلّ واحد منهم، وهي قوّة العقل، وبهذه النّفس صار الإنسان إنسانا. وإذا كانت نفوس النّاس واحدة، والمودّة إنّما تكون بالنّفس، فواجب أن يكونوا كلّهم متحابّين متوادّين، وذلك في النّاس طبيعة، لو لم تقدهم الأهواء الّتي تحبّب لصاحبها التّرؤّس فتقوده إلى الكبر والإعجاب والتّسلّط على المستضعف، واستصغار الفقير وحسد الغنيّ وبغض ذي الفضل، فتسبّب من أجل هذه الأسباب العداوات، وتتأكّد البغضاء بينهم. فإذا ضبط الإنسان نفسه الغضبيّة، وانقاد لنفسه العاقلة، صار النّاس كلّهم له إخوانا وأحبابا، وإذا أعمل الإنسان فكره رأى أنّ ذلك واجب، لأنّ النّاس إمّا أن يكونوا فضلاء أو نقصاء، فالفضلاء يجب عليهم محبّتهم لموضع فضلهم، والنّقصاء يجب عليهم رحمتهم لأجل نقصهم فيحقّ لمحبّ الكمال أن يكون رحيما لجميع النّاس، متحنّنا عليهم رءوفا بهم، وبخاصّة الملك والرّئيس، فإنّ الملك ليس يكون ملكا ما لم يكن محبا لرعيّته رءوفا بهم، وذلك أنّ الملك ورعيّته بمنزلة ربّ الدّار وأهل داره، وما أقبح ربّ الدّار أن يبغض أهل داره، فلا يتحنّن عليهم، ولا يحبّ مصالحهم) (¬3). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 257). (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (3/ 9). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص55 - 56).

الترغيب والحث على المحبة في القرآن والسنة

الترغيب والحث على المحبة في القرآن والسنة الترغيب والحث على المحبة من القرآن الكريم: - قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]. (َقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا تَأْتِي الْمَحَبَّةُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا قَذَفَ حُبَّهُ فِي قُلُوبِ الْمَلائِكَةِ وَقَذَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَمِثْلُ ذَلِكَ، لا يَمْلِكُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ) (¬1). (وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا قَالَ: حُبًّا (¬2). وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا قَالَ: مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا (¬3). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْهُ: يُحِبُّهُمْ ويُحببهم، يَعْنِي: إِلَى خَلْقِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (¬4). وقال ابن عباس: (مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا) (¬5). وقال مجاهد: (مَحَبَّةً فِي الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا) (¬6). وقال مقاتل: (يقول يجعل محبتهم في قلوب المؤمنين فيحبونهم) (¬7). - وقال سبحانه: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. قال التستري: (أي: يحبون الأنداد كحبهم الله عزَّ وجلَّ، فقد وصف الله تعالى شدة كفرهم وصدقهم في حال الكفر جهلاً، ووصف محبة المؤمنين وصدقهم في الإيمان بالله تعالى حقاً، ثم فضل المؤمنين بالمعرفة فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. بمعرفتهم وسائر أسباب العبد المؤمن إلى الإقبال عليه وإقامة الذكر له، وتلك منزلة العارفين المحبين، إذ المحبة عطف من الله تعالى بخالصة الحق. فقيل له: ما علامة المحبة؟ قال: معانقة الطاعة ومباينة الفاقة) (¬8). وقال البغوي: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أَيْ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوهَا مَعَ اللَّهِ فَسَوَّوْا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَوْثَانِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أَيْ أَثْبَتُ وَأَدُومُ عَلَى حُبِّهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ عَلَى اللَّهِ مَا سِوَاهُ) (¬9). وقال الماوردي: (قال تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ يعني أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب الله مع قدرته. وَالَّذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ يعني من حب أهل الأوثان لأوثانهم , ومعناه أن المخلصين لله تعالى هم المحبون حقاً) (¬10). - وقال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]. ¬

(¬1) رواه يحيى بن سلام في ((تفسيره)) (1/ 248). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (18/ 262). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (18/ 261). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 269). (¬5) رواه الطبري في ((تفسيره)) (18/ 261). (¬6) ((جامع البيان)) للطبري (15/ 642). (¬7) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/ 640). (¬8) ((تفسير التستري)) (ص45). (¬9) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) للبغوي (1/ 178). (¬10) ((النكت والعيون)) للماوردي (1/ 218).

قال ابن كثير: (أَيْ: يَحْصُلُ لَكُمْ فَوْقَ مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتِكُمْ إِيَّاهُ، وَهُوَ مَحَبَّتُهُ إِيَّاكُمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبّ، إِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ) (¬1). وقال الشوكاني: (وَقَدْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ) (¬2). وقال السعدي: (وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها) (¬3). - وقال جل في علاه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39]. قال الطبري: (عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: حُسْنًا وَمَلَاحَةً، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَلْقَى مَحَبَّتَهُ عَلَى مُوسَى، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي فَحَبَّبَهُ إِلَى آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، حَتَّى تَبَنَّتْهُ وَغَذَّتْهُ وَرَبَّتْهُ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ، حَتَّى كَفَّ عَنْهُ عَادِيَتَهُ وَشَرَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، لِأَنَّهُ حَبَّبَهُ إِلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ. وَمَعْنَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي حَبَّبْتُكَ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ إِذَا أَحَبَّهُ: أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ رَحْمَتِي: أَيْ مَحَبَّتِي) (¬4). وقال أيضاً: (قَالَ ابن عَبَّاسٌ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي، وَقَالَ الصُّدَائِيُّ: حَبَّبْتُكَ إِلَى خَلْقِي وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَيْ حَسَّنْتُ خَلْقَكَ) (¬5). وقال الشوكاني: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَى مُوسَى مَحَبَّةً كَائِنَةً مِنْهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحبَّهُ وَقِيلَ: جَعَلَ عَلَيْهِ مَسْحَةً مِنْ جَمَالٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَحَبَّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمَعْنَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ رَحْمَتِي، وَقِيلَ: كَلِمَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَلْقَيْتُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَلْقَيْتُ مِنِّي عَلَيْكَ مَحَبَّةً، أَيْ: أَحْبَبْتُكَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّهُ النَّاسُ) (¬6). و (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قَالَ: كَانَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ مَحَبَّتُهُ (¬7). وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي) (¬8). - وقال تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا [مريم: 13]. قال مجاهد: (يَعْنِي تَعَطُّفًا مِنْ رَبِّهِ عَلَيْهِ) (¬9). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 32). (¬2) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 382). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 128). (¬4) ((جامع البيان)) للطبري (16/ 58). (¬5) ((جامع البيان)) للطبري (16/ 58). (¬6) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 431). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (7/ 2422). (¬8) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 433). (¬9) ((تفسير مجاهد)) (ص454).

(وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَحَبَّةً عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَّا الْحَنَانُ فَالْمَحَبَّةُ) (¬1). الترغيب والحث على المحبة من السنة النبوية: - عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ)) (¬2). (ومعنى الحديث: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن بالرسول استنقذ الله أُمته من النار وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث بذل النفس دونه صلى الله عليه وسلم) (¬3). قال ابن الجوزي: (اعْلَم أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْمحبَّة الْمحبَّة الشَّرْعِيَّة، فَإِنَّهُ يجب على الْمُسلمين أَن يقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنْفسِهِم وَأَوْلَادهمْ. وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْمحبَّة الطبيعية، فَإِنَّهُم قد فروا عَنهُ فِي الْقِتَال وتركوه، وكل ذَلِك لإيثار حب النَّفس) (¬4). - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِي عليه السلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)) (¬5). قال ابن بطال: (فدل هذا أن من أحب عبدًا في الله فإن الله جامع بينه وبينه في جنته ومدخله مدخلة وإن قصر عن عمله، وهذا معنى قوله: (ولم يلحق بهم) يعني في العمل والمنزلة، وبيان هذا المعنى - والله أعلم - أنه لما كان المحب للصالحين وإنما أحبهم من أجل طاعتهم لله، وكانت المحبة عملا من أعمال القلوب واعتقادًا لها أثاب الله معتقدًا ذلك ثواب الصالحين إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، والله يوتي فضله من يشاء) (¬6). وقال النووي: (فِيهِ فَضْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ) (¬7). قال العظيم أبادي: (يَعْنِي مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا بِالْإِخْلَاصِ يَكُونُ مِنْ زُمْرَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ لِثُبُوتِ التَّقَارُبِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَرُبَّمَا تُؤَدِّي تِلْكَ الْمَحَبَّةُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى مَحَبَّةِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَخْيَارِ رَجَاءَ اللَّحَاقِ بِهِمْ وَالْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ) (¬8). وقال السعدي: (هذا الحديث فيه: الحث على قوة محبة الرسل, واتباعهم بحسب مراتبهم، والتحذير من محبة ضدهم؛ فإن المحبة دليل على قوة اتصال المحب بمن يحبه، ومناسبته لأخلاقه، واقتدائه به. فهي دليل على وجود ذلك. وهي أيضاً باعثة على ذلك) (¬9). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 216). (¬2) رواه البخاري (14). (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/ 66). (¬4) ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 231). (¬5) رواه البخاري (6169)، ومسلم (2640). (¬6) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 333). (¬7) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (16/ 186). (¬8) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (14/ 25). (¬9) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار)) للسعدي (ص193).

- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ)) (¬1). قال النووي: (فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ) (¬2). (في هذا الحديث: دليل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه) (¬3). - وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬4). قال العظيم آبادي: ((أَخَذَ بِيَدِهِ) كَأَنَّهُ عَقَدُ مَحَبَّةٍ وَبَيْعَةُ مَوَدَّةٍ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ) لَامُهُ لِلِابْتِدَاءِ وَقِيلَ لِلْقَسَمِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُ (فَقَالَ أُوصِيكَ يا معاذ لَا تَدَعَنَّ) إِذَا أَرَدْتَ ثَبَاتَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَتْرُكَنَّ (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ عَقِبَهَا وَخَلْفَهَا أَوْ فِي آخِرِهَا) (¬5). وقال ابن عثيمين: (وهذه منقبة عظيمة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم أقسم أنه يحبه والمحب لا يدخر لحبيبه إلا ما هو خير له) (¬6). - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)) (¬7). قال النووي: (فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، مَعْنَاهُ: لَا يَكْمُلُ إِيمَانُكُمْ وَلَا يَصْلُحُ حَالُكُمْ فِي الْإِيمَانِ إِلَّا بِالتَّحَابِّ) (¬8). وقال ابن عثيمين: (ففي هذا دليل على أن المحبة من كمال الإيمان، وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه، وأن من أسباب المحبة أن يفشي الإنسان السلام بين إخوانه، أي يظهره ويعلنه، ويسلم على من لقيه من المؤمنين، سواء عرفه أو لم يعرفه، فإن هذا من أسباب المحبة، ولذلك إذا مر بك رجل وسلم عليك أحببته، وإذا أعرض؛ كرهته ولو كان أقرب الناس إليك) (¬9). ¬

(¬1) رواه مسلم (2567). (¬2) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (16/ 124). (¬3) ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل المبارك (ص247). (¬4) رواه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وأحمد (5/ 244) (22172). قال الحاكم (1/ 407): صحيح على شرط الشيخين. وصحح إسناده النووي في ((الخلاصة)) (1/ 468)،وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7969). (¬5) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (4/ 269). (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/ 502). (¬7) رواه مسلم (54). (¬8) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (2/ 36). (¬9) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 265).

أقوال السلف والعلماء في المحبة

أقوال السلف والعلماء في المحبة - عن أبي حيان التيمي- رحمه الله- قال: (رؤي على علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ثوب كأنه كان يكثر لبسه، فقيل له فيه. فقال: هذا كسانيه خليلي وصفيي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إن عمر ناصح الله فنصحه) (¬1). - وعن مجاهد- رحمه الله- قال: (مر على عبد الله بن عباس رجل فقال: إن هذا يحبني. فقيل: أنى علمت ذلك؟ قال: إني أحبه) (¬2). - وعن سفيان بن عيينة، قال: (سمعت مساور الوراق يحلف بالله- عز وجل- ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله- عز وجل- فأمنعه شيئا من الدنيا) (¬3). - وقال ابن تيمية: (إنك إذا أحببت الشخص لله، كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك، تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم، وبهم، إذا كنت تحبهم لله. فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه. فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله) (¬4). - وقال ابن قيم الجوزية: (المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها. وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة) (¬5). - وقال: (وَاعجَبا لمن يَدعِي الْمحبَّة وَيحْتَاج إِلَى من يذكرهُ بمحبوبه فَلَا يذكرهُ إِلَّا بمذكر أقل مَا فِي الْمحبَّة أَنَّهَا لَا تنسيك تذكر المحبوب) (¬6). - وقال أيضاً: (إِذا سَافر الْمُحب للقاء محبوبه ركبت جُنُوده مَعَه فَكَانَ الْحبّ فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر والرجاء يَحْدُو بالمطي والشوق يَسُوقهَا وَالْخَوْف يجمعها على الطَّرِيق فَإِذا شَارف قدوم بلد الْوَصْل خرجت تقادم الحبيب باللقاء) (¬7). - و (قال أبو بكر الورّاق: سأل المأمون عبد الله بن طاهر ذا الرياستين عن الحب، ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، انبعثت منها لمحة نور تستضيء بها بواطن الأعضاء، فتتحرّك لإشراقها طبائع الحياة، فيتصوّر من ذلك خلق حاضر للنفس، متصل بخواطرها، يسمى الحب. - وسئل حمّاد الراوية عن الحب، ما هو؟ قال: الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر، وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنيّة. - وقال معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب، وأفظع ما لقي، وأحلى ما اشتهي، وأوجع ما بطن، وأشهى ما علن. وهو كما قال الشاعر: وللحبّ آفات إذا هي صرّحت ... تبدّت علامات لها غرر صفر فباطنه سقم وظاهره جوى ... وأوّله ذكر وآخره فكر) (¬8) - و (قال أبو بكر الوراق: حقيقة المحبة مشاهدة المحبوب على كل حال، فإن الاشتغال بالغير حجاب، وأصله التسليم واليقين، فإنها يبلغان إلى درجات المتقين في جنات النعيم) (¬9). ¬

(¬1) ((المصنف)) لابن أبي شيبة (6/ 356). (¬2) ((الأخوان)) لابن أبي الدنيا (ص 127). (¬3) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص 93). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 608). (¬5) ((الجواب الكافي)) لابن قيم الجوزية (ص233 - 234). (¬6) ((الفوائد)) لابن قيم الجوزية (ص77). (¬7) ((الفوائد)) لابن قيم الجوزية (ص77). (¬8) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 167 - 168). (¬9) ((بحر الدموع)) لابن الجوزي (ص85).

- وقال الثعالبي: (المحبة أريحية منتفثة من النفس نحو المحبوب لأنها تغذو الروح وتضني البدن ولأنها تنقل القوى كلها إلى المحبوب بالتحلي بهيئته، والتمني بحقيقته، بالكمال الذي يشهد فيه) (¬1). - وقال أبو منصور الثعالبي (المحبة ثمن لكل شيء وإن غلا، وسلم إلى كل شيء وإن علا) (¬2). - وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: (حقيقة المحبّة لا يزيدها البرّ ولا ينقصها الجفاء) (¬3). - (وقال جعفر إذا أحبّك الله سترك وإذا أحببته شهرك) (¬4). - وقال الجنيد: (إذا صحَّت المحبَّةُ سقطت شروط الأدب) (¬5). - وقال الخواص: (المحبة محو الإرادات واحتراق جميع الصفات والحاجات) (¬6). - (وقال رجل لشهر بن حوشب؛ إني لأحبّك قال: ولم لا تحبني وأنا أخوك في كتاب الله ووزيرك على دين الله ومؤنتي على غيرك) (¬7). - (وقال آخر: من جمع لك مع المودّة الصادقة رأيا حازما، فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة) (¬8). ¬

(¬1) ((المقابسات)) لأبي حيان التوحيدي (ص364). (¬2) ((سحر البلاغة وسر البراعة)) لأبي منصور الثعالبي (ص130). (¬3) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب الأصفهاني (2/ 411). (¬4) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب الأصفهاني (2/ 411). (¬5) ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص231). (¬6) ((الكشكول)) لبهاء الدين الهمذاني (1/ 58). (¬7) ((عيون الأخبار)) للدينوري (3/ 15). (¬8) ((عيون الأخبار)) للدينوري (3/ 16).

أقسام المحبة

أقسام المحبة قسم بعض أهل العلم المحبة إلى أنواع، كابن حزم، وابن القيم، وغيرهم من العلماء، فابن حزم قسمها إلى تسعة أنواع، قال: (المحبة ضروب: 1 - فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب وإما لفضل علم بمنحه الإنسان. 2 - ومحبة القرابة. 3 - ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب 4 - ومحبة التصاحب والمعرفة. 5 - ومحبة البر؛ يضعه المرء عند أخيه. 6 - ومحبة الطمع في جاه المحبوب. 7 - ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره. 8 - ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر. 9 - ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت) (¬1). وقسمها ابن القيم إلى أربعة أنواع ثم ذكر نوعاً خامساً، قال: (وهاهنا أربعة أنواع من المحبة يجب التفريق بينها، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها: 1 - محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله. 2 - محبة ما يحب الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها. 3 - الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحب، ولا تستقيم محبة ما يحب إلا فيه وله. 4 - المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية، وكل من أحب شيئا مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه ندا من دون الله، وهذه محبة المشركين. 5 - بقي قسم خامس ليس مما نحن فيه: وهي المحبة الطبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة والولد، فتلك لا تذم إلا إذا ألهت عن ذكر الله، وشغلت عن محبته) (¬2). وقسم الراغب الأصفهاني المحبة بحسب المحبين فقال: (المحبة ضربان: 1 - طبيعي: وذلك في الإنسان وفي الحيوان ... 2 - اختياري: وذلك يختص به الإنسان ... وهذا الثاني أربعة أضرب: أ- للشهوة، وأكثر ما يكون بين الأحداث. ب- للمنفعة، ومن جنسه ما يكون بين التجار وأصحاب الصناعة المهنية وأصحاب المذاهب. ج- مركب من الضربين، كمن يحب غيره لنفع، وذلك الغير يحبه للشهوة. د- للفضيلة، كمحبة المتعلم للعالم، وهذه المحبة باقية على مرور الأوقات، وهي المستثناة بقوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. وأما الضروب الأُخر: فقد تطول مدتها وتقصر بحسب طول أسبابها وقصرها) (¬3). ¬

(¬1) ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص95) بتصرف يسير. (¬2) ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) لابن قيم الجوزية (ص189). (¬3) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص256) بتصرف يسير.

فوائد المحبة

فوائد المحبة للمحبة فوائد جليلة وكثيرة، نذكر منها على سبيل المثال: 1 - (دلالة على كمال الإيمان وحسن الإسلام. 2 - المحبّة تغذّي الأرواح والقلوب وبها تقرّ العيون، بل إنّها هي الحياة الّتي يعدّ من حرم منها من جملة الأموات. 3 - قلب صاحبها تغشاه مباركة الله ونعمه على الدّوام. 4 - تظهر آثار المحبّة عند الشّدائد والكربات. 5 - من ثمار المحبّة النّعيم والسّرور في الدّنيا الموصّل إلى نعيم وسرور الآخرة. 6 - في حبّ الله تعالى حمد المحبوب والرّضى عنه وشكره وخوفه ورجاؤه والتّنعّم بذكره والسّكون إليه والأنس به والإنفاق في سبيله. 7 - حبّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوجب السّعي إلى إحياء سنّته، والحفاظ على دعوته. 8 - محبّة النّاس مع التّودّد إليهم تحقّق الكمال الإنسانيّ لمن يسعى إليه. 9 - وحبّه صلّى الله عليه وسلّم يستوجب حبّ من أحبّه وما أحبّه. 10 - محبّة الإخوان في الله من محبّة الله ورسوله. 11 - التّحابّ في الله يجعل المتحابّين في الله من الّذين يستظلّون بظلّ الله تعالى يوم لا ظلّ إلّا ظلّه. 12 - لا يكتمل إيمان المرء إلّا إذا تحقّق حبّه لأخيه ما يحبّه لنفسه وفي هذا ما يخلّصه من داء الأنانيّة. 13 - أن يستشعر المرء حلاوة الإيمان فيذوق طعم الرّضا وينعم بالرّاحة النّفسيّة. 14 - حبّ الله ورسوله وسيلة أكيدة لاستجلاب نصر الله وعونه) (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (8/ 3356).

مراتب المحبة

مراتب المحبة قسم العلماء المحبة إلى مراتب عديدة، ومن هؤلاء العلماء الإمام ابن قيم الجوزية الذي أوصلها إلى عشر مراتب، وهي كما يلي: (أَوَّلُهَا: الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. الثَّانِيَةُ: الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ. الثَّالِثَةُ: الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ. كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ. الرَّابِعَةُ: الْغَرَامُ وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يُلَازِمُهُ كَمُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ. الْخَامِسَةُ: الْوِدَادُ وَهُوَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، مَرَاتِبُهَا عَشَرَةٌ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا. السَّادِسَةُ: الشَّغَفُ يُقَالُ: شُغِفَ بِكَذَا. فَهُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ. وَقَدْ شَغَفَهُ الْمَحْبُوبُ. أَيْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحُبُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَحْجُبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى غِشَاءِ الْقَلْبِ. وَالشَّغَافُ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا وَصَلَ الْحُبُّ إِلَيْهِ بَاشَرَ الْقَلْبَ. السَّابِعَةُ: الْعِشْقُ وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ. الثَّامِنَةُ: التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ. التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ. بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا. الْعَاشِرَةُ: مَرْتَبَةُ الْخُلَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْخَلِيلَانِ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ) (¬1). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (3/ 29 - 32).

علامات المحبة

علامات المحبة قال إبراهيم بن الجنيد: (يقال علامة المحب على صدق الحب ست خصال: أحدها: دوام الذكر بقلبه بالسرور بمولاه. والثانية: إيثاره محبة سيده على محبة نفسه ومحبة الخلائق، يبدأ بمحبة مولاه قبل محبة نفسه ومحبة الخلائق. والثالثة: الأنس به، والاستثقال لكل قاطع يقطع عنه أو شاغل يشغله عنه. والرابعة: الشوق إلى لقائه والنظر إلى وجهه. الخامسة: الرضا عنه في كل شديدة وضر ينزل به. والسادسة: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬1). وقال قال أبو الفرج ابن الجوزي: (أول عَلَامَات الْمحبَّة دموع الْعين وأوسطها قلق الْقلب ونهايتها احتراقه) (¬2). (سئل رجل: ما علامة المحبة؟ قال: إذا كان البدن كالحية يلتوي، والفؤاد بنار الشوق يكتوي، فاعلم أن القلب على المحبة منطو، وكل نقمة يشاهدها المحب دون الهجر فهي نعمة، فالكل عنه عوض إلا المحبوب) (¬3). ¬

(¬1) ((استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس – مجموع رسائل ابن رجب)) لابن رجب (3/ 323 - 324). (¬2) ((المدهش)) لابن الجوزي (ص439). (¬3) ((بحر الدموع)) لابن الجوزي (ص83).

الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها

الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها للمحبة أسباب جالبة لها، توجب لك المحبة في قلوب الآخرين؛ نذكر منها ما يلي: 1. خدمة الآخرين والسعي لمنفعتهم. 2. تقديم الهدية للآخرين. 3. التواضع للآخرين. 4. الإحسان إلى الآخرين. 5. التحلي بصفة الصمت. 6. البشاشة والابتسامة. 7. البدء بالسلام. 8. الجود والكرم. 9. الابتعاد عن الحسد. 10. التعامل بصدق وأمانة. 11. الوفاء بالعهد. 12. زيارة الآخرين وتفقد أحوالهم 13. إنزال الناس منازلهم. 14. الالتزام بالأخلاق الإسلامية. وذكر ابن قيم الجوزية عشرة أسباب جالبة للمحبة فقال: (الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرة: أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه. ليتفهم مراد صاحبه منه. الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض. فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. الثالث: دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال. فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه، وإن صعب المرتقى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها. وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة. ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب. السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة. فإنها داعية إلى محبته. السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى. وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات. الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه. ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدا لحالك، ومنفعة لغيرك. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل) (¬1). وقال ابن حمدون: (عشر يورثن المحبة: كثرة السلام، واللطف بالكلام، واتباع الجنائز، والهدية، وعيادة المرضى، والصدق، والوفاء، وانجاز الوعد، وحفظ المنطق، وتعظيم الرجال) (¬2). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (3/ 17 - 18). (¬2) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون البغدادي (2/ 225).

نماذج في المحبة

نماذج تطبيقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم: - فعن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إنّي لأحبّك، والله إنّي لأحبّك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعنّ في دبر كلّ صلاة تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬1). - وعن أنس- رضي الله عنه- قال: رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّساء والصّبيان مقبلين- قال: حسبت أنّه قال: من عرس- فقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممثلا فقال: ((اللهمّ أنتم من أحبّ النّاس إليّ. قالها ثلاث مرار)) (¬2). - وعن أبي ذرّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((يا أبا ذرّ، إنّي أراك ضعيفا. وإنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي. لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم)) (¬3). - وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((حبّب إليّ: النّساء والطّيب، وجعل قرّة عيني في الصّلاة)) (¬4). - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ حدّث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه كان يأخذه والحسن فيقول: ((اللهمّ أحبّهما فإنّي أحبّهما)) (¬5). - وعن عائشة- رضي الله عنها-: ((أنّ نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفيّة وسودة، والحزب الآخر أمّ سلمة وسائر نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسلمون قد علموا حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديّة يريد أن يهديها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخّرها، حتّى إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة بعث صاحب الهديّة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة. فكلّم حزب أمّ سلمة فقلن لها: كلّمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلّم النّاس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هديّة فليهدها حيث كان من بيوت نسائه، فكلّمته أمّ سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: فكلّميه، قالت: فكلّمته حين دار إليها أيضا، فلم يقل لها شيئا. فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا. فقلن لها: كلّميه حتّى يكلّمك. فدار إليها فكلّمته، فقال لها: لا تؤذيني في عائشة، فإنّ الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلّا عائشة. قالت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله. ثمّ إنّهنّ دعون فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقول: إنّ نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر. فكلّمته، فقال: يا بنيّة، ألا تحبّين ما أحبّ؟ قالت: بلى. فرجعت إليهنّ فأخبرتهنّ، فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع ... )) (¬6). ¬

(¬1) رواه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وأحمد (5/ 244) (22172). قال الحاكم (1/ 407): صحيح على شرط الشيخين. وصحح إسناده النووي في ((الخلاصة)) (1/ 468)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7969). (¬2) رواه البخاري (3785)، ومسلم (2508). (¬3) رواه مسلم (1826). (¬4) رواه النسائي (3940)، وأحمد (3/ 128) (12315). قال الحاكم (2/ 174): صحيح على شرط مسلم. وجوَّد إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص466)، وحسن إسناده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 254). (¬5) رواه البخاري (3735). (¬6) رواه البخاري (2581).

حكم وأمثال في المحبة

حكم وأمثال في المحبة · (أفضل المحبة ما كان بعد المعتبة) (¬1). · (المحبة ثمن كل شيء وإن غلاَ، وسُلَّم إلى كل شيء وإن علاَ) (¬2). · (وقالوا: لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك سرفا) (¬3). · (أبر من الْهِرَّة: قَالُوا لِأَنَّهَا تَأْكُل أَوْلَادهَا من الْمحبَّة (¬4). · (قَوْلهم: من يبغ فِي الدّين يصلف: مَعْنَاهُ من يطْلب الدُّنْيَا بِالدّينِ لم يحظ عِنْد النَّاس وَلم يرْزق مِنْهُم الْمحبَّة) (¬5). · (وقيل: أغلب المحبة ما كان عن تشاكل) (¬6). ¬

(¬1) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب الأصفهاني (2/ 12). (¬2) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (2/ 456). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 168). (¬4) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 243). (¬5) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 248). (¬6) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب الأصفهاني (2/ 8).

المحبة في واحة الشعر ..

المحبة في واحة الشعر .. وقال ابن زهر الحفيد: يا من يذكّرني بعهد أحبّتي ... طاب الحديث بذكرههم ويطيب أعد الحديث عليّ من جنباته ... إنّ الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها ... قلبٌ إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يضرب خافقاً بجناحه ... يا ليت شعري هل تطير قلوب وأنشد بعضهم (¬1): والله ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم ... إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال آخر (¬2): يَا منية الْقلب مَا جيدي بمنعطف ... إِلَى سواكم وَلَا حُبْلَى بمنقاد لَوْلَا الْمحبَّة مَا اسْتعْملت بارقة ... وَلَا سَأَلت حمام الدوح إسعادي وَلَا وقفت على الْوَادي أسائله ... بالدمع حَتَّى رثى لي سَاكن الْوَادي وقال آخر: ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سَمعاً وطاعةً ... وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبا وقال آخر: وآخِرُ شيءٍ أنت في كلِّ هَجعةٍ ... وأوَّل شيءٍ أنتَ وقتَ هُبُوبي وذكرك في قلبي بنومٍ ويقظةٍ ... تجافى من اللّين اللبيب جنوب وقال أبي تراب النخشبي: لا تخدعن فللمحب دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام وبر عاجل ومن الدلائل أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإن ألح العاذل ومن الدلائل أن يرى متبسماً ... والقلب فيه من الحبيب بلابل ومن الدلائل أن يرى متفهماً ... لكلام من يحظى لديه السائل ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً في كل ما هو قائل وقال بعض المحبين: أعميت عيني عن الدنيا وزينتها إذا ذكرتك وفي مقلتي أرق ... فأنت والروح مني غير مفترق من أول الليل حتى مطلع الفلق وما تطابقت الأجفان عن سنة ... إلا رأيتك بين الجفن والحدق ارحم حشاشة نفس فيك قد تلفت ... قبل الممات فهذا آخر الرمق ولو مضى الكل مني لم يكن عجباً ... وإنما عجبي في البعض كيف بقي وقال يحيى بن معاذ الرازي: نفس المحب إلى الحبيب تطلع ... وفؤاده من حبه يتقطع عز الحبيب إذا خلا في ليله ... بحبيبه يشكو إليه ويضرع ويقوم في المحراب يشكو بثه ... والقلب منه إلى المحبة ينزع ... ¬

(¬1) ((استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس – مجموع رسائل ابن رجب)) (3/ 399). (¬2) ((المدهش)) لابن الجوزي (ص277).

المداراة

معنى المداراة لغة واصطلاحاً معنى المداراة لغة: قال ابن منظور: (الدرء: الدفع. درأه يدرؤه درءا ودرأة: دفعه. وتدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا. ودارأت، بالهمز: دافعت، ... وتقول: تدارأتم، أي اختلفتم وتدافعتم. وكذلك ادارأتم، وأصله تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال واجتلبت الألف ليصح الابتداء بها ... والمدارأة: المخالفة والمدافعة. يقال: فلان لا يدارئ ولا يماري؛ ... أي لا يشاغب ولا يخالف، وهو مهموز. وأما المدارأة في حسن الخلق والمعاشرة فإن ابن الأحمر يقول فيه: إنه يهمز ولا يهمز. يقال: دارأته مدارأة وداريته إذا اتقيته ولاينته. قال أبو منصور: من همز، فمعناه الاتقاء لشره، ومن لم يهمز جعله من دريت بمعنى ختلت) (¬1). معنى المداراة اصطلاحاً: قال ابن بطال: (المداراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول) (¬2). وقال ابن حجر: (المراد به الدفع برفق) (¬3). وقال المناوي: (المداراة: الملاينة والملاطفة. وأصلها المخاتلة من دريت الصيد وأدريته ختلته، ومنه الدراية وهو العلم في تكلف وحيلة) (¬4). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 71). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 528). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 528). (¬4) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص: 301).

الفرق بين المداراة والمداهنة

الفرق بين المداراة والمداهنة قال ابن بطال: (المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك) (¬1). وقال القرطبي في الفرق بينهما: (أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا) (¬2). وقال الغزالي: (الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن) (¬3). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 528). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 454). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 182).

الحث على المداراة في القرآن والسنة

الحث على المداراة في القرآن والسنة الحث على المداراة من القرآن الكريم: - قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [41 - 47]. قال السعدي: (وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: (يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل) أو (ليس عندك من العلم شيء) وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها) (¬1). - وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14 - 15]. - وقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 43 - 47]. قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين) (¬2). الحث على المداراة من السنة النبوية: - عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (¬3). (أي لأجل قبح فعله وقوله أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولا أو فعلا وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع بخلاف المداهنة فحرام مطلقا إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا بنحو رفق بجاهل في تعليم وبفاسق في نهي عن منكر وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع) (¬4). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 494). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 294). (¬3) رواه البخاري (6054)، ومسلم (2591). (¬4) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 454).

- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مداراة الناس صدقة)) (¬1). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا)) (¬2). قال ابن حجر: (وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها) (¬3). - وعن هاني بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام)) (¬4). قال المناوي: (أي إلانة القول للإخوان واستعطافهم على منهج المداراة لا على طريق المداهنة والبهتان) (¬5). - وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس اتقوا الله، وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله)) (¬6). قال المباركفوري: (فيه حث على المداراة والموافقة مع الولاة وعلى التحرز عما يثير الفتنة ويؤدي إلى اختلاف الكلمة) (¬7). ¬

(¬1) رواه ابن حبان (2/ 216) (471)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 146) (463)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 343) (8445). قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 484): [فيه] يوسف بن محمد بن المنكدر أرجو أنه لا بأس به، وقال الخليلي في ((الإرشاد)) (1/ 311): غريب، وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (4/ 2153): [من طرق في كل منها كذاب أو متروك أو سراق]، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/ 472): [فيه] يوسف بن محمد بن المنكدر قال النسائي: متروك الحديث وقال أبو زرعة: صالح الحديث، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 451)، وقال الهيثمي (8/ 17): فيه يوسف بن محمد بن المنكدر وهو متروك، وقال ابن حجر في ((لسان الميزان)) (8/ 71): [فيه المسيب بن واضح ذكر من جرحه]، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8170)، وقال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 526): إسناده جيد، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5255). (¬2) رواه البخاري (5186)، ومسلم (1468). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 253). (¬4) رواه الطبراني (22/ 180) (469). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 246): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 32): فيه أبو عبيدة بن عبد الله الأشجعي روى عنه أحمد بن حنبل وغيره ولم يضعفه أحد وبقية رجاله رجال الصحيح، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2499)، وقال السفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (510): إسناده حسن، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2232). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 454). (¬6) رواه الترمذي (1706)، وابن ماجه (2328)، وأحمد (6/ 402) (27301)، والحاكم (4/ 206). من حديث أم الحصين الأسلمية رضي الله عنها. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، (¬7) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (5/ 297).

أقوال السلف والعلماء في المداراة

أقوال السلف والعلماء في المداراة - عن أبي الدرداء، قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتلعنهم) (¬1). - وعنه أيضاً رضي الله عنه قال لزوجته: (إذا غضبت فرضيني، وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق) (¬2). - وقال معاوية رضي الله عنه: (لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوا مددتها) (¬3). - وعن عمر بن الخطاب قال: (خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال) (¬4). - وقال عبد الله بن مسعود: (خالط الناس وزايلهم ودينك لا تكلمنه) (¬5). - وعن محمد بن الحنفية، قال: (ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا، حتى يجعل الله له فرجا، أو قال: مخرجا) (¬6). - وقال الحسن البصري: (كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كله) (¬7). - وعنه أيضاً: (المؤمن يداري ولا يماري , ينشر حكمة الله , فإن قبلت حمد الله , وإن ردت حمد الله) (¬8). - وعن يحيى بن سعيد، قال: قال لي نصر بن يحيى بن أبي كثير: (من عاشر الناس داراهم ومن داراهم راياهم) (¬9). - وعن يونس، قال: بلغني عن ابن عباس، أنه كان يقول: (النساء عورة خلقن من ضعف، فاستروا عوراتهن بالبيوت وداروا ضعفهن بالسكوت) (¬10). - وقال أبو يوسف: (خمسة تجب على الناس مداراتهم الملك المسلط والقاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه) (¬11). - وعن وهيب بن الورد قال: (قلت لوهب بن منبه: إني أريد أن أعتزل الناس، فقال لي: لا بد لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصما سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا) (¬12). - (وقال أبو حاتم رضي الله عنه الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة إذ المداراة من المداري صدقة له والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه والفصل بين المداراة والمداهنة هو أن يجعل المرء وقته في الرياضة لإصلاح الوقت الذي هو له مقيم بلزوم المداراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات فمتى ما تخلق المرء بخلق شابه بعض ما كره الله منه في تخلقه فهذا هو المداهنة لأن عاقبتها تصير إلى قل ويلازم المداراة لأنها تدعو إلى صلاح أحواله) (¬13). - قال محمد بن السماك: (من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة) (¬14). - قال أبو بكر الطرطوشي: (المداراة أن تداري الناس على وجه يسلم لك دينك) (¬15). ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة التضعيف قبل حديث (6131)، ووصله أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 222)، البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 266) (8103)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/ 192). قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 103): فيه انقطاع ومن طريق آخر إسناده ضعيف [وروي] من وجه آخر. (¬2) رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص72)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (70/ 151). (¬3) رواه ابن حبان في ((روضة العقلاء)) (ص72). (¬4) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 37). (¬5) ((العزلة)) للخطابي (ص 99). (¬6) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 36). (¬7) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 468). (¬8) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص58). (¬9) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 109). (¬10) ((مداراة الناس)) لابن أبي الدنيا (ص 140). (¬11) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 477). (¬12) ((العزلة)) للخطابي (ص 98). (¬13) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 70). (¬14) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (11/ 36). (¬15) ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (11/ 36).

فوائد المداراة

فوائد المداراة 1 - المداراة تزرع الألفة والمودة. 2 - المداراة تجمع بين القلوب المتنافرة. 3 - المداراة تطفئ العداوة بين الناس. 4 - المداراة من صفات المؤمن والمداهنة من صفات المنافق (¬1). 5 - علامة على حسن الخلق (¬2). 6 - من عوامل إنجاح الدعوة إلى الله. إما بهداية من يداريه الداعية أو بكفاية شره وفتح مجالات أوسع للدعوة. 7 - تحقيق السعادة الزوجية (¬3). 8 - تحقيق السلامة والأمن والطمأنينة للنفس (¬4). 9 - العصمة من شر الأعداء (¬5). قال ابن الجوزي: (من البله أن تبادر عدوا أو حسودا بالمخاصمة؛ وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلت، وإن أخذ في الخصومة صفحت، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنا، مع إظهار المخالطة في الظاهر) (¬6). ¬

(¬1) ((الروح)) لابن القيم (ص: 231). (¬2) انظر: ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (1/ 146). (¬3) انظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 295). (¬4) انظر: ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (1/ 148). (¬5) انظر: ((أدب الدين والدنيا)) للماوردي (ص: 182). (¬6) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 351).

صور المدارة

صور المدارة صفة المداراة ليست صفة دائمة إنما يحتاج إليها في التعامل مع بعض الأشخاص والمواقف والأوقات ومن ذلك. 1 - صيانة النفس من أهل الفجور والشرور: فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (¬1). وهذا فيما لابد من مخالطته. 2 - في تعامل الإمام مع الرعية: قالت أم المؤمنين عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (¬2). فليس كل الرعية على نمط واحد، من حسن الخلق والمعشر، إنما الناس يختلفون فيحتاج الإمام للمداراة، وهذا يكون من الإمام جمعا للأمة ورأفة بها وإرشادا للضال وتعليما للجاهل لاسيما إن كان هؤلاء من أهل الرياسات والأتباع فيداري الإمام مراعاة لمصلحة الأمة كلها (¬3). 3 - الخوف من الكفار والعجز عن مقاومتهم: قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28]. قال الشنقيطي: (هذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقا وإيضاح ; لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة) (¬4). 4 - في دعوة الناس والسلطان (¬5): قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43 - 44]. فغالب حال هؤلاء الكبر والأنفة من قبول النصح المباشر أو الغلظة في الخطاب لما يرى لنفسه من عز وسلطان فالأولى في حقه المداراة واللين وهي الرفق به في الخطاب حتى يرجع إلى الحق أو يكفي شره دون تنازل عن ثوابت الدين فهناك فرق بين التدرج في الدعوة وبين التنازل عن ثوابت الدين (¬6). 5 - المداراة مع الوالدين: قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 15]. 6 - المداراة مع الزوجة محافظة على الحياة الزوجية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)) (¬7). 7 - المداراة مع النفس: بحملها على الطاعة بذكر نعيم الجنة وكفها عن المعصية بذكر عذاب النار. قال ابن الجوزي: (ومن فهم هذا الأصل، علل النفس، وتلطف بها، ووعدها الجميل، لتصبر على ما قد حملت، كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله، ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك ... واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (6131)، ومسلم (2591) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (6131)، ومسلم (2591) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لابن الأزرق (2/ 16). (¬4) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/ 413). (¬5) ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لابن الأزرق (1/ 326). (¬6) ((الروح)) لابن القيم (ص: 231). (¬7) رواه البخاري (5184)، ومسلم (1468). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 114).

موانع اكتساب المداراة

موانع اكتساب المداراة 1 - العجلة والطيش وسرعة الغضب والانتصار للنفس. هذه الأمور كلها تفقد الإنسان التأني والتفكر في أفضل الطرق للتعامل مع الشخص أو الموقف بالاعتماد في ذلك على قاعدة مراعاة المصالح ودرء المفاسد. 2 - عدم تفهم الواقع وطبائع الناس. 3 - سوء الخلق وغلظة القلب. 4 - الكبر وضعف إرادة الخير للناس. 5 - قلة الصبر والحلم والرفق. 6 - العزلة عن الناس. فالمداراة إنما يحتاجها من يخالط الناس لا من يعتزلهم.

الوسائل المعينة على اكتساب صفة المداراة

الوسائل المعينة على اكتساب صفة المداراة 1. التحلي بخلق الصبر: قال ابن تيمية: (المؤمن مشروع له مع القدرة أن يقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المداراة ومن التكلم بما يكره عليه ما جعل الله له فرجا ومخرجا) (¬1). 2. النظر للمصالح المترتبة على المداراة (¬2). 3. التحلي بخلق الرفق والرحمة. فإن المداراة قائمة على الرفق لتحقيق المراد من صلاح معوج أو كفاية شر عدو ونحوه (¬3). 4. فهم الواقع ومعرفة طبائع الناس. قال ابن الجوزي: (لينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم: من لا يأتي إلا على الإكرام، فليكرمه، فإنه يربح محبته. ومنهم: من لا يأتي إلا على الإهانة، فليداره، وليعرض عن الذنوب؛ فإن لم يكن، عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن. وليجعل للمماليك زمن راحة. والعجب من يعني بدابته، وينسى مداراة جاريته) (¬4). قال بشر بن الحارث: (من عرف الناس استراح) (¬5). 5. احتساب الأجر في دعوة الخلق: من يتصدر لدعوة العصاة وأهل الشرور والكفر لابد أن يناله منهم أذى مما قد يدفع الداعية لترك دعوتهم لذا فاحتساب الداعية للأجر عند الله في مداراته لأهل الكفر والفجور والتحبب لهم من غير إقرار بمعصية أملا في هدايتهم مما يعين الداعية على تحمل الأذى. 6. تقديم ترك الانتصار للنفس في حال القدرة وحفظ النفس في حال العجز: في الحالة الأولى استبقاءا ً للود والمسير قدما في الإصلاح وفي الحالة الثانية عصمة النفس ودفع الشرور. قصص في المداراة: - عن المسور بن مخرمة، قال: ((قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية ولم يعط مخرمة شيئا، فقال مخرمة: يا بني انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت معه، فقال: ادخل فادعه لي، قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال: خبأت هذا لك قال: فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة)) (¬6). - وشكا رجل إلى مخلد بن الحسين رجلا من أهل الكوفة فقال: (أين أنت عن المداراة , فإني أداري حتى أدارى، هذه جارية حبشية تغربل شعير الفرس له , ثم قال: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة) (¬7). - وقال ابن الأزرق – كان -: (الأمير شمس المعالي كان من محاسن الدنيا وبهجتها غير أنه كان شديد السطوة وما زال على هذا الخلق حتى استوحشت النفوس منه وانقلبت القلوب عنه فأجمع أعيان عسكره على خلعه ونزع الأيدي عن طاعته فوافق هذا التدبير منهم غيبته عن جرمان بلده فلم يشعر بذلك ولم يخبر حتى قصدوه وأرادوا القبض عليه فحامى عنه بعض من كان في صحبته من خواصه فنهبوا فيله وأمواله ورجعوا إلى جرجان فملكوها وبعثوا إلى ولده أبي منصور وقهروه على الوصول إليهم لعقد البيعة له فأسرع في الحضور فلما وصل إليهم أجمعوا على طاعته وخلع أبيه فلم يسعه في تلك الحال إلا المداراة والإجابة خوفا على خروج الملك عن بيتهم ولما رأى الأمير شمس المعالي تلك الحال توجه إلى ناحية بسطام بمن معه من الخواص لينظر ما يستقر عليه الأمر فلما سمع الخارجون عليه انحيازه إلى تلك الجهة حملوا ولده متوجهين قصده وإزعاجه عن مكانه فسار معهم مضطرا فلما وصل إلى أبيه اجتمع به وتباكيا وتشاكيا وغرض الولد أن يكون حجابا بينه وبين أعدائه ولو ذهبت نفسه فيه ورأى الوالد أن ذلك لا يجدي وأنه أحق بالملك من بعده فسلم المملكة) (¬8). - قال ابن الجوزي: (كنت قد رزقت قلبا طيبا، ومناجاة خلو، فأحضرني بعض أرباب المناصب إلى طعامه، فما أمكن خلافه، فتناولت، وأكلت منه؛ فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كل ما كنت أجده، فقلت: وا عجبا! لقد كنت في هذا كالمكره فتفكرت، وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة؛ وإنما التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة، فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام؟! فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات؟! فلما تناولت بالتأويل لقمة، واستجلبتها بالطبع، لقيت الأمرين بفقد القلب: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (¬9). ¬

(¬1) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/ 528). (¬2) انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 453). (¬3) انظر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح))، للملا علي القاري (7/ 2941) (¬4) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 256). (¬5) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 239) (¬6) رواه البخاري (5800)، ومسلم (1058). (¬7) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 266) (¬8) ((بدائع السلك في طبائع الملك))، لابن الأزرق (1/ 457). (¬9) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 410 - 411)

الشعر في المداراة ..

الشعر في المداراة .. قال الشافعي: وداريت كل الناس لكن حاسدي ... مداراته عزت وعز منالها وكيف يداري المرء حاسد نعمة ... إذا كان لا يرضيه إلا زوالها؟ (¬1) وقال أحمد الخطابي: ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات (¬2) وقال القاضي التنوخي: الق العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات الرفق يمن وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات (¬3) وقال زهير: ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم (¬4) وقال النمر بن تولب: وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما وأحبب حبيبك حبا رويدا ... فليس يعولك أن تصرما (¬5) وقال علي بن محمد البسامي: دار من الناس ملالاتهم ... من لم يدار الناس ملوه ومكرم الناس حبيب لهم ... من أكرم الناس أحبوه (¬6) وقال آخر: تجنب صديق السوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره (¬7) وقال عبد الله السابوري: من لم يكن لعيشه مداريا ... عاداه من كان له مواليا ولا غنى للفاضل الكبير ... عن المداراة ولا الصغير يستجلب النفع بها الحكيم ... ويدرك الحظ بها المحروم من وارب الناس يخاتلوه ... ومن يصانعهم يجاملوه (¬8) قال الشاعر: وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزح له إن المزاح وفاق فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق (¬9) ... ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 148). (¬2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 54). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 182). (¬4) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 54). (¬5) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 53). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 70). (¬7) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 72). (¬8) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 148). (¬9) ((أدب الدين والدنيا)) للماوردي (1/ 182).

المروءة

معنى المروءة لغة واصطلاحاً معنى المروءة لغة: مصدر من: مَرُؤَ يَمْرُؤُ مُرُوءَةً فَهُوَ مَرِيءٌ على فَعِيلٍ أَي: بَيِّن المُرُوءَة وقوم مَرِيؤن ومُرَّآءُ, ولك أَن تُشَدِّدَ فتقول: مُرُوَّةٌ، قال الفرَّاء: ومن المُروءَة مَرُءَ الرجُلُ, (وتَمَرَّأَ) فلانٌ: تَكَلَّفَ المُرُوءَةَ. وقيل: صار ذا مُروءَةٍ, وفُلاَنٌ تَمَرَّأَ بالقوم: أَي سعى أَن يوصف بالمُروءَة بإِكرامهم أَو بنقصهم وعَيْبهم (¬1). معنى المروءة اصطلاحاً: قال الماورديّ: (المروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها، حتّى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجّه إليها ذمّ باستحقاق) (¬2). وقال ابن عرفة: (الْمُرُوءَةُ هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ مَا تَرْكُهُ مِنْ مُبَاحٍ يُوجِبُ الذَّمَّ عُرْفًا ... وَعَلَى تَرْكِ مَا فِعْلُهُ مِنْ مُبَاحٍ يُوجِبُ ذَمَّهُ عُرْفًا ... ) (¬3). وقال المقّريّ: (المروءة آداب نفسانيّة، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات) (¬4) ¬

(¬1) انظر ((تاج العروس من جواهر القاموس)) (1/ 427) , و ((المعجم الوسيط)) (2/ 860) , و ((المخصص)) لابن سيده (1/ 245) و ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) (ص217). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص325). (¬3) ((شرح حدود ابن عرفة)) (ص591). (¬4) ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) (8/ 446)

فضل المروءة

فضل المروءة يقول الإمام الماوردي: (وفي اشتقاق اسم المروءة من كلام العرب ما يدل على فضيلتها عندهم وعظم خطرها في نفوسهم ففيه وجهان: أحدهما مشتقة من المروءة والإنسان فكأنها مأخوذة من الإنسانية والوجه الثاني أنها مشتقة من المريء وهو ما استمرأه الإنسان من الطعام لما فيه من صلاح الجسد فأخذت منه المروءة لما فيها من صلاح النفس) (¬1) (وهي خلق رفيع القدر يستعمله الأدباء في المدح وعلماء الأخلاق والنفس في مكارم الأخلاق وسمو النفس وعلماء الشرع من فقهاء ومحدثين في صفات الراوي والشاهد ليوثق بكلامهما والقاضي ليطمئن إلى عدل, فتجدها في كتب أصول الفقه في صفات الراوي, وكذلك في كتب الحديث بينما تجدها في كتب الفقه في كل باب يتعرض للعدالة بالشرح والتفصيل كالقضاء والشهادة والوقف) (¬2). فأكثر العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء من ذكرها وبيان كنهها وماهيتها, وبما تكون, وكيف تكون, فتنوعت فيها الأقوال وتعددت فيها الآراء وتباينت فيها العبارات (فمن قائل قال المروءة ثلاثة إكرام الرجال إخوان أبيه وإصلاحه ماله وقعوده على باب داره, ومن قائل قال المروءة إتيان الحق وتعاهد الضعيف, ومن قائل قال المروءة تقوى الله وإصلاح الضيعة والغداء والعشاء في الأفنية, ومن قائل قال المروءة إنصاف الرجل من هو دونه والسمو إلى من هو فوقه والجزاء بما أتى إليه, ومن قائل قال مروءة الرجل صدق لسانه واحتماله عثرات جيرانه وبذله المعروف لأهل زمانه وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه, ومن قائل قال إن المروءة التباعد من الخلق الدني فقط, ومن قائل قال المروءة أن يعتزل الرجل الريبة فإنه إذا كان مريبا كان ذليلا وأن يصلح ماله فإن من أفسد ماله لم يكن له المروءة والإبقاء على نفسه في مطعمه ومشربه, ومن قائل قال المروءة حسن العشرة وحفظ الفرج واللسان وترك المرء ما يعاب منه, ومن قائل قال المروءة سخاوة النفس وحسن الخلق, ومن قائل قال المروءة العفة والحرفة أي يعف عما حرم الله ويحترف فيما أحل الله, ومن قائل قال المروءة كثرة المال والولد, ومن قائل قال المروءة إذا أعطيت شكرت وإذا ابتليت صبرت وإذا قدرت غفرت وإذا وعدت أنجزت, ومن قائل قال المروءة حسن الحيلة في المطالبة ورقة الظرف في المكاتبة, ومن قائل قال المروءة اللطافة في الأمور وجودة الفطنة, ومن قائل قال المروءة مجانبة الريبة فإنه لا ينبل مريب وإصلاح المال فإنه لا ينبل فقير وقيامه بحوائج أهل بيته فإنه لا ينبل من احتاج أهل بيته إلى غيره, ومن قائل قال المروءة النظافة وطيب الرائحة, ومن قائل قال المروءة الفصاحة والسماحة, ومن قائل قال المروءة طلب السلامة واستعطاف الناس, ومن قائل قال المروءة مراعاة العهود والوفاء بالعقود, ومن قائل قال المروءة التذلل للأحباب بالتملق ومداراة الأعداء بالترفق, ومن قائل قال المروءة ملاحة الحركة ورقة الطبع, ومن قائل قال المروءة هي المفاكهة والمباسمة ... ) (¬3) إلى غير ذلك من الأقوال والآراء في حقيقة المروءة وحدِّها الذي تعرف به, وفي تنوع هذه الأقوال دليل على فضل هذه السجية الكريمة وعلو شأنها ورفعة قدرها, وبيان ما تنطوي عليه من الفضائل التي تسمو بالنفس عن منزلة البهيمية الحيوانية, إلى منزلة الإنسانية الكاملة. إن الاختلاف في تعريف المروءة ليس من باب اختلاف التضاد والتباين بل هو من باب اختلاف التنوع وتعدد الأجناس تحت الأصل الواحد, فكل هذه التعاريف مندرجة تحت لواء المروءة مستظلة بظلها الوارف, فهي تشمل كل ما ذكر من فضائل وسجايا وأخلاق كريمة, وكفى بذلك فضلاً وشرفاً. قال أبو حاتم رحمه الله: (اختلفت ألفاظهم في كيفية المروءة ومعاني ما قالوا قريبة بعضها من بعض). ¬

(¬1) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) (ص30). (¬2) ((عدالة الشاهد في القضاء الإسلامي)) (337). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص232).

حقيقة المروءة

حقيقة المروءة يتكلم ابن القيم رحمه الله عن حقيقة المروءة فيقول: حقيقتها: (اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم والشيطان الرجيم فإن في النفس ثلاثة دواع متجاذبة: 1. داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش. 2. وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة. 3. وداع يدعوها إلى أخلاق الملك: من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة فحقيقة المروءة: بغض ذينك الداعيين وإجابة الداعي الثالث وقلة المروءة وعدمها: هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما أين كانت فالإنسانية والمروءة والفتوة: كلها في عصيان الداعيين وإجابة الداعي الثالث) (¬1). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (2/ 351).

الفرق بين المروءة وبعض الصفات

الفرق بين المروءة وبعض الصفات الفرق بين المروءة والفتوة: قد يظن ظان أن المروءة والفتوة شيء واحد لا يختلفان في معناهما, وليس ذلك بصحيح, بل بينهما فرق واضح وهو أن المروءة أعم من الفتوة فالمروءة هي ما يتخلق به الإنسان مما يختص به في ذاته أو يتعدى إلى غيره, بينما الفتوة ما يتخلق به الإنسان ويكون متعدياً إلى غيره. قال ابن القيم رحمه الله: والفرق بينها وبين المروءة: (أن المروءة أعم منها فالفتوة نوع من أنواع المروءة فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره والفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق) (¬1). الفرق بين المروءة والعقل: سُئِلَ بعض الحكماءِ عن الفرق بين العقل والمُروءة فقال: (العَقل يأمرك بِالْأنفعِ، والمروءَة تأمرك بِالأجمل) (¬2). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (2/ 340). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص325).

الترغيب والحث على المروءة من القرآن والسنة

الترغيب والحث على المروءة من القرآن والسنة الترغيب والحث على المروءة من القرآن الكريم: المروءة هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، وهي رعيٌ لمساعي البر ورفع لدواعي الضر، وهي طهارة من جميع الأدناس والأرجاس, لذا فإن كل آية من كتاب الله تأمر بفضيلة من الفضائل أو تنهى عن رذيلة من الرذائل فهي تدل على سبيل المروءة وترشد إلى طريقها, ونحن هنا بصدد ذكر بعض الآيات التي تأمر بالتحلي بمحاسن الأخلاق والتزين بجميلها: - قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 99] قيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: (قد استنبطت من القرآن كل شيء، فهل وجدت المروءة فيه؟ فقال: نعم، في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 99]، يقول: ففيه المروءة وحسن الأدب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: خُذِ الْعَفْوَ صلة القاطعين والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، وذلك في قوله: خُذِ الْعَفْوَ، ودخل في قوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الحض على التخلق بالحلم والإعراض عن أهل الظلم والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة والأغبياء وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة). - وقال الله تبارك وتعالى في صفات عباده الذين اتصفوا بأعلى صفات المروءة ووصلوا إلى غاياتها: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 63 - 76]

- وقال فيهم أيضاً شاهداً لهم بالفلاح: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون: 1 - 10] - وقال أيضاً في وصفهم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 7 – 9]. - وقال الله عز وجل: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]. قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى في هذه الآية: (فيها عين المروءة وحقيقتها) (¬1). - وقال الله تبارك وتعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه ويعطيه دروساً في القيم ومعالم في المروءة: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 17 - ] - وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل: 90 – 92] وقد جعل الإمام سفيان الثوري رحمه الله المروءة مبنية على ركنين استمدهما من هذه الآية الكريمة, حيث سئل عن المروءة ما هي؟ فقال: (الإنصاف من نفسك، والتفضل لله تعالى: إن الله يأمر بالعدل، وهو الإنصاف، والإحسان، وهو التفضل، ولا يتم الأمر إلا بهما، ألا تراه لو أعطى جميع ما يملك، ولم ينصف من نفسه لم تكن له مروءة؛ لأنه لا يريد أن يعطي شيئا إلا أن يأخذ من صاحبه مثله، وليس مع هذا مروءة) (¬2). فكل هذه الآيات وما سواها – وما أكثرها في كتاب الله تبارك وتعالى متضمنة لأصول المروءة وركائزها التي تبنى عليها, وإن كانت لا تدل على المروءة بحروفها. الترغيب والحث على المروءة من السنة النبوية: ¬

(¬1) ((المروءة)) لمحمد بن خلف بن المرزبان (ص133). (¬2) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (1/ 372).

وما قلناه في الآيات القرآنية نقوله أيضاً في الأحاديث النبوية, فكل الأحاديث التي تحث على حسن الخلق وجمال المعاشرة والبعد عما يدنس العرض ويقبح بالنفس ما هي إلا أدلة واضحة على التحلي بالمروءة والتخلق بها وسنسرد هنا طرفاً من هذه الأحاديث: - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)) (¬1). - و ((قيل يا رسول الله من أكرم الناس قال أتقاهم لله قالوا ليس عن هذا نسألك قال يوسف نبي الله بن نبي الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) (¬2). قال الإمام النووي: (ومعناه إن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس) (¬3). - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الله عزّ وجلّ كريم يحب الكرماء ويحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)) (¬4). - ومن ذلك حديث عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ في بدء الوحي والذي فيه قول خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ... الحديث (¬5). - و (عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فألقى إليّ وسادة حشوها ليف، فلم أقعد عليها، بقيت بيني وبينه) (¬6). - و ((عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله. قلت: فأيّ الرّقاب أفضل؟ قال: أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعا، أو تصنع لأخرق. قال: فإن لم أفعل؟ قال: تدع النّاس من الشّرّ، فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك)) (¬7). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر، وكالصّائم لا يفطر)) (¬8). - وعن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وأشار بالسّبّابة والوسطى وفرّج بينهما شيئا)) (¬9). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 365) (8759)، وابن حبان (2/ 232)، والحاكم (1/ 212). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وله شاهد. وقال الذهبي: [فيه] مسلم يعني مسلم بن خالد الزنجي ضعيف وله شاهد. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (4168). (¬2) رواه البخاري (3374)، ومسلم (2378). (¬3) ((شرح النووي على مسلم)) (15/ 135). (¬4) رواه الحاكم (1/ 111) (151)، والطبراني في ((الكبير)) (6/ 181) (5928)، والبيهقي في ((الآداب)) (ص64). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 188): رجاله ثقات. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1771). (¬5) رواه البخاري (3). (¬6) رواه أحمد (2/ 96) (5710). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 177): رجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (5710). (¬7) رواه البخاري (2518). (¬8) رواه البخاري (6007) ومسلم (2982). (¬9) رواه البخاري (5304).

أقوال السلف والعلماء في المروءة

أقوال السلف والعلماء في المروءة - قَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه: (الْمُرُوءَةُ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَعِصْيَانُ الْهَوَى) (¬1). - وحكي أنّ معاوية سأل عمرا - رضي الله عنهما- عن المروءة؟ فقال: (تقوى الله تعالى وصلة الرّحم. وسأل المغيرة؟ فقال: هي العفّة عمّا حرّم الله تعالى، والحرفة فيما أحلّ الله تعالى. وسأل يزيد؟ فقال: هي الصّبر على البلوى، والشّكر على النّعمى، والعفو عند المقدرة فقال معاوية: أنت منّي حقّا) (¬2). - وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ نَقَاءُ ثَوْبِهِ) (¬3). - وسأل الحسين أخاه الحسن عن المروءة فقال: (الدين وحسن اليقين) (¬4). - وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ: (أَنْ لَا تَعْمَلَ فِي السِّرِّ عَمَلًا تَسْتَحِي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ) (¬5). - وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: (مِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ خِدْمَةُ الرَّجُلِ ضَيْفَهُ كَمَا خَدَمَهُمْ أَبُونَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ). (¬6). - وقال عمر بن عبد العزيز: (ليس من المروءة أن تستخدم الضيف) (¬7). - وقال الأحنف بن قيس: (الكذوب لا حيلة له؛ والحسود لا راحة له؛ والبخيل لا مروءة له؛ والملول لا وفاء له؛ ولا يسود سيء الأخلاق؛ ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلاً أن يكتم ويتجمل) (¬8). - وسئل أيضاً عن المروءة فقال: (صدق اللّسان، ومواساة الإخوان، وذكر الله تعالى في كلّ مكان) (¬9). - وقال مرّة: (العفّة والحرفة) (¬10). - وقال الماوردي: (اعلم أنّ من شواهد الفضل ودلائل الكرم المروءة الّتي هي حلية النّفوس، وزينة الهمم) (¬11). - وقيل للبوشنجي شيخ خراسان: ما المروءة؟ قال: (إظهار الزي؛ قيل: فما الفتوة؟ قال: طهارة السر) (¬12). - وسُئِلَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ الْقَنَاعَةِ فَقَالَ: (لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا التَّمَتُّعُ بِعِزِّ الْغِنَى لَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: أَفَادَتْنَا الْقَنَاعَةُ أَيَّ عِزٍّ ... وَلَا عِزَّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ فَخُذْ مِنْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالْ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ تَحُزْ حَالَيْنِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ ... وَتَسْعَدُ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ ثُمَّ قَالَ: مُرُوءَةُ الْقَنَاعَةِ أَشْرَفُ مِنْ مُرُوءَةِ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ) (¬13). - وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: (قُلْت لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: أَمَّا فِي بَلَدِك فَالتَّقْوَى، وَأَمَّا حَيْثُ لَا تُعْرَفُ فَاللِّبَاسُ) (¬14). - وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَبِالْمَرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا) (¬15). ¬

(¬1) ((غذاء الألباب)) للسفاريني (2/ 457). (¬2) ((المروءة)) للمرزبان (ص127)، و ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (321). (¬3) ((غذاء الألباب)) للسفاريني (2/ 259). (¬4) ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (1/ 231). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) (ص334). (¬6) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 151). (¬7) ((الإمتاع والمؤانسة)) (1/ 342). (¬8) ((أمالي القالي)) (1/ 110). (¬9) ((أدب الدنيا والدين)) (ص343). (¬10) ((تهذيب اللغة)) (15/ 205). (¬11) ((أدب الدنيا والدين)) (ص325). (¬12) ((البصائر والذخائر)) (1/ 100 - 101). (¬13) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 537) (¬14) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 164). (¬15) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 146).

أقسام المروءة

أقسام المروءة كل من تكلم عن المروءة وحدِّها وبيانها لم يخرجها عن أحد نوعين: إما أفعال أو تروك, وهذا ما بينه أبو حاتم البستي بعد أن سرد مجموعة من الأقوال في تعريف المروءة, قال: (والمروءة عندي خصلتان: - اجتناب ما يكره الله والمسلمون من الفعال - واستعمال ما يحب الله والمسلمون من الخصال وهاتان الخصلتان يأتيان على ما ذكرنا قبل من اختلافهم واستعمالهما .. ) (¬1) وهذا ما عناه ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر ومروءة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه فهذه (مروءة البذل). وأما (مروءة الترك): فترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك وترك الاستقصاء في طلبه والتغافل عن عثراته) (¬2). وبهذا التقسيم - أعني مروءة الفعل والبذل ومروءة الترك- ينتظم جميع الأقوال التي عرفت بها المروءة في سلك واحد, وتنصهر جميع التعريفات في بوتقة واحدة. ¬

(¬1) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص232). (¬2) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (3/ 151 - 152).

شروط المروءة

شروط المروءة للمروءة شروط لا تتأتى إلا بها, ولا يحصلها الشخص إلا إذا تتبعها وتقمصها وطبقها في واقعه ومحيطه, وتطبيقها ليس بالسهل الهين الذي يستطيعه كل الناس بل فيها من الشروط ما يحتاج إلى كثير معاناة ومصابرة حتى يتطبع عليه الشخص ويصبح سجية سهلة تأتي بلا كلفة ولا مشقة, يقول الإمام الماوردي رحمه الله: مِن حُقُوقِ المُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا مَا لَا يَتَوَصَّلُ إلَيهِ إلَّا بِالمُعَانَاةِ وَلَا يُوقَفُ عَلَيهِ إلَّا بِالتَّفَقُّدِ وَالمُرَاعَاةِ. فَثَبُتَ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّفسِ عَلَى أَفضَلِ أَحوَالِهَا هِيَ المُرُوءَةُ. وَإِذَا كَانَت كَذَلِكَ فَلَيسَ يَنقَادُ لَهَا مَعَ ثِقَلِ كُلَفِهَا إلَّا مَن تَسَهَّلَت عَلَيهِ المَشَاقُّ رَغبَةً فِي الحَمدِ، وَهَانَت عَلَيهِ المَلَاذُ حَذَرًا مِن الذَّمِّ (¬1). وقد عدد بعض البلغاء بعض شروط المروءة فقال: من شرائط المروءة أن تعف عن الحرام، وتتصلف عن الآثام، وتنصف في الحكم، وتكف عن الظلم، ولا تطمع في ما لا تستحق، ولا تستطيل على من لا تسترق، ولا تعين قوياً على ضعيف، ولا تؤثر دنياً على شريف، ولا تسر ما يعقب الوزر والإثم، ولا تفعل ما يقبح الذكر والاسم (¬2). ومن أفضل من تكلم عن شروط المروءة وأحسن في سرد تقاسيمها والإتيان بحقوقها الإمام الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين, وقد فصل فيها تفصيلاً وافياً فأجاد رحمه الله في ذلك, ولعلنا نلخص ونرتب ما ذكره الإمام الماوردي من هذه الشروط: 1. الأول شروط المروءةِ فِي نفسِ الشخص: وشروطهَا فِي نفسِهِ بعد التِزامِ ما أوجبه الشّرع مِن أحكامِهِ يكون بِثلاثةِ أمورٍ وهِي: - العِفّة: وهي نوعان: أحدهما العِفّة عن المحارِمِ: وهذه تكون بشيئين اثنين: أحدهما ضبط الفرجِ عن الحرامِ. والثّانِي كفّ اللِّسانِ عن الأعراضِ. والثَّانِي العِفَّة عن المآثِمِ: وهذه أيضاً لا تكون إلا بشيئين: أَحدهما: الكفُّ عن المجاهرةِ بِالظُّلمِ. والثَّانِي: زجر النَّفسِ عن الإِسرارِ بِخِيانةٍ. - النَّزاهة: وهي نوعانِ: أَحدهما: النَّزاهة عن المطامِعِ الدَّنِيَّةِ. والثَّانِي النَّزاهة عن مواقِفِ الرِّيبةِ. - الصِّيانة: وهي نوعانِ: أَحدهما: صِيانة النّفسِ بِالتِماسِ كِفايتِها وتقدِيرِ مادَّتِها. والثَّانِي: صِيانتها عن تحمّلِ المِننِ مِن النَّاسِ والِاستِرسالِ فِي الِاستِعانةِ. 2. والثَّانِي: شروط المروءة في غيرِهِ وتكون بثلاثة أمور وهي: - المؤازرة: وهي نوعانِ: أَحدهما: الإِسعاف بِالجاهِ. والثَّانِي الإِسعاف فِي النّوائِبِ. - والمياسرة وهي نوعانِ: أَحدهما: العفو عن الهفواتِ. والثَّانِي: المسامحة فِي الحقوقِ وهي نوعان: المسامحة فِي عقودٍ: بأَن يكون فِيها سهل المناجزةِ، قلِيل المحاجزةِ مأمون الغيبةِ بعِيدًا مِن المكرِ والخدِيعةِ. المسامحة في حقوقٍ: وتتنوَّع المسامحة فِيها نوعينِ: أ - أَحدهما فِي الأَحوالِ: وهو اطراح المنازعةِ فِي الرّتبِ وترك المنافسةِ فِي التّقدُّمِ. ب - والثَّانِي فِي الأَموالِ: وهي ثلاثة أنواع: وهي مسامحة إسقاطٍ لِعدمٍ، ومسامحة تخفِيفٍ لِعجزٍ، ومسامحة إنكارٍ لِعسرةٍ. - والإِفضال: وهو نوعانِ: إفضال اصطِناعٍ: وهو نوعان: أَحدهما: ما أَسداه جودًا فِي شكورٍ والثَّانِي: ما تأَلَّف بِهِ نبوة نفورٍ. وإِفضال استِكفافٍ ودِفاعٍ: وذلك لِأَنَّ ذا الفضلِ لا يعدم حاسِد نِعمةٍ ومعانِد فضِيلةٍ يعترِيهِ الجهل بِإِظهارِ عِنادِهِ، ويبعثه اللُّؤم على البذاءِ بِسفهِهِ فإِن غفل عن استِكفافِ السّفهاءِ، وأَعرَض عن استِدفاعِ أَهلِ البذاءِ، صار عِرضه هدفًا لِلمثالِبِ، وحاله عرضةً لِلنَّوَائِبِ، وإِذَا استكفى السَّفِيه واستدفع البذِيء صان عرضه وحمى نِعمته. ولِاستِكفافِ السُّفهاءِ بِالإِفضالِ شرطانِ: أَحدهما: أَن يخفِيه حتَّى لا ينتشِر فِيهِ مطامِع السُّفهاءِ فيتوصَّلون إلى اجتِذابِهِ بِسبِّهِ، وإِلى مالِهِ بِثلبِهِ. والثَّانِي: أَن يتطلَّب له فِي المجاملةِ وجهًا ويجعله فِي الإِفضالِ عليهِ سببًا؛ لِأَنَّه لا يرى أَنَّه على السَّفهِ واستِدامةِ البذاءِ. (¬3). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) (ص326). (¬2) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) (ص29). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) بتصرف (ص329 - 355).

فوائد التحلي بالمروءة واجتناب ما يخرمها

فوائد التحلي بالمروءة واجتناب ما يخرمها 1. صون النفس، وهو حفظها وحمايتها عما يشينها، ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته، وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكاها وعلاها، ووضعها في أعلى المحال، وزاحم بها أهل العزائم والكمالات، ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده ألقاها في الرذائل، وأطلق شناقها، وحل زمامها وأرخاه، ودساها ولم يصنها عن قبيح؛ فأقل ما في تجنب القبائح صون النفس. 2. توفير الحسنات، ويكون ذلك من وجهين: أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات، فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها. والثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها، بموازنة السيئات وحبوطها، فإن السيئات قد تحبط الحسنات، وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها، فلابد أن تضعفها قطعاً؛ فتجنبها يوفر ديوان الحسنات، وذلك بمنزلة من له مال حاصل، فإذا استدان عليه؛ فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه، فهكذا الحسنات والسيئات سواء. 3. صيانة الإيمان، وذلك لأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد حكاه الشافعي وغيره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود، فإن العبد – كما جاء في الحديث – إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى حتى تعلو قلبه (¬1). 4. سبيل إلى نيل المطلوب العالي والسبق إليه وإن كثر عليه المتنافسون, قال بعْض الْعلماءِ: إذَا طلب رجلانِ أَمْرًا ظفِر بِهِ أَعْظمهما مروءةً (¬2). 5. التحلي بها مما يزيد في ماء والوجه وبهجته قال ابن القيم رحمه الله: أَربعةٌ تزِيد فِي ماءِ الوجهِ وبهجتِهِ المروءة والوفاء والكرم والتّقوى (¬3). 6. تحجز المرء عن كل لذة يتبعها ألم, وكل شهوة يلحقها ندم فهي جنة عن اللذائذ المحرمة والشهوات المهلكة, وقد قيل: (الدين والمروءة والعقل والروح ينهين عن لذة تعقب ألما، وشهوة تورث ندما) (¬4). 7. والمروءة مانعة من الكذب باعثة على الصدق؛ لأنها قد تمنع من فعل ما كان مستكرها، فأولى من فعل ما كان مستقبحا. (¬5). 8. داعية إلى إنصاف الرجل لجميع الخلق سواء في ذلك من كان دونه أو من كان فوقه لا يفرق بين هؤلاء وهؤلاء. 9. داعية إلى الرفعة والعلو, والمنافسة في خيري الدنيا والآخرة, وعدم الرضا من الشيء إلا بأعلاه وغايته. 10. تحمل صاحبها إلى الترفع عن سفاسف الأمور ومحقراتها. 11. تحجزه عن الوقوع في مواطن الريب والشبهات, وإن حصل ووقع في مثل هذه المواطن تحمله على التخلص منها وعدم الرجوع إليها. 12. جالبة محبة الله تبارك وتعالى للعبد, ومن ثم محبة الخلق له. 13. صاحبها صاحب حزم وعزم, وقوة ورأي, يضع الأمور في نصابها. 14. تخلّص الإنسان من الهوى والشهوات. ¬

(¬1) ((المروءة وخوارمها)) (ص: 353 – 355). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص327). (¬3) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) (4/ 372). (¬4) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 456). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) (ص272).

درجات المروءة

درجات المروءة للمروءة ثلاث درجات تكلم عنها ابن القيم رحمه الله فقال: - الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه وهي أن يحملها قسرا على ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين ليصير لها ملكة في العلانية فمن أراد شيئا في سره وخلوته: ملكه في جهره وعلانيته فلا يكشف عورته في الخلوة ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه ولا يجشع ويَنْهَم عند أكله وحده وبالجملة: فلا يفعل خالياً ما يستحي من فعله في الملأ إلا مالا يحظره الشرع والعقل ولا يكون إلا في الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك. - الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس مرآة لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله. وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيئ الخلق وحسنه وعديم المروءة وغزيرها. وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيئ الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق. وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه. - الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه بالاستحياء من نظره إليك واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة: تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملا أو رؤية مِنَّته في هذا الإصلاح وأنه هو المتولي له لا أنت فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك (¬1). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (2/ 353).

صور المروءة وآدابها

صور المروءة وآدابها للمروءة آدابٌ كثيرة قل أن تجتمع في إنسان إلا أن يشاء الله تعالى؛ ولذلك فإن منازل الناس فيها تتباين تبعاً لما يُحصِّله الإنسان من آدابها ومراتبها. قال صاحب عين الأدب والسياسة: إن (للمروءة وجوهاً وآداباً لا يحصرها عدد ولا حساب, وقلما اجتمعت شروطها قط في إنسان ولا اكتملت وجوهها في بشر فإن كان ففي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دون سائرهم وأما الناس فيها فعلى مراتب بقدر ما أحرز كل واحد منهم من خصالها واحتوى عليها من خلالها) (¬1). وقد وردت جُملةٌ من الآداب التي يجب أن يتمتع بها صاحب المروءة، ومنها: - أن يكون ذا أناةٍ وتؤدةٍ؛ فلا يبدو في حركاته اضطراب أو عجلة، كأن يُكثر الالتفات في الطريق، ويعجل في مشيه العجلة الخارجة عن حد الاعتدال. - أن يكون متئداً في كلامه يرسل كلماته مفصلة ولا يخطف حروفها خطفاً حتى يكاد بعضها يدخل في بعض, بل يكون حسن البيان, واضح العبارة, بعيدا عن التكلف والتقعر, ينتقي أطايب الحديث كما ينتقي أطايب الثمر, وقد كتب عُمرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه إِلى أَبي موسى رضي الله عنه: (خُذِ النَّاس بِالعربِيَّة، فإِنه يَزِيد في العَقْلِ ويُثْبِتُ المُروءَةَ) (¬2). - أن يضبط نفسه عن هيجان الغضب أو دهشة الفرح، وأن يقف موقف الاعتدال في حالي السراء والضراء. - أن يتحلّى بالصراحة والترفع عن المواربة والمجاملة والنفاق، فلا يُبدي لشخصٍ الصداقة وهو يحمل له العداوة، أو يشهد له باستقامة السيرة وهو يراه منحرفاً عن السبيل. - ألا تطيش به الولاية والإمارة في زهو ولا ينزل به العزل في حسرة. - ألاَّ يفعل في الخفاء ما لو ظهر للناس لعُدَّوه من سقطاته والمآخذ عليه، وقد رفع محمد بن عمران التيمي شأن هذا الأدب حتى جعله هو المروءة, فقال لما سئل عن المروءة: ألا تعمل في السر ما تستحي منه في العلانية. - أن يتجنب القبائح لقبحها ووخامة عاقبتها, فيكون تجنبه لها في السر والعلانية. - أن يلاقي الناس بطلاقة وجه, ولسان رطب غير باحث عما تكنه صدورهم من مودة أو بغضاء ولكنه لا يستطيع أن يرافق ويعاشر إلا ودودا مخلصاً. - أن يكون بخيلاً بوقته عن إطلاق لسانه في أعراض الناس والتقاط معايبهم أو اختلاق معايب لهم, فهو لا يرضى بأن يشغل وقته إلا بما تتقاضاه المروءة من حقوق, قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطيب لا يحسن يهجو, فقال له: لا تقل ذلك فوالله ما تركه من عي ولكنه كان يترفع عن الهجاء, ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفاً, وأنشد قول أبي الهيذام: وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب وربما اضطر ذو المروءة أن يدافع شر خصومه الكاشحين بذكر شيء من سقطاتهم ولكن المروءة تأبى له أن يختلق لهم عيباً يقذفهم به وهم منه براء, فإن الإخبار بغير الواقع يقوض صروح المروءة ولا يبقي لها عيناً ولا أثراً قال الأحنف: لا مروءة لكذوب, ولا سؤدد لبخيل. كما أنه يحفظ لسانه عن أن يلفظ مثلما يلفظ أهل الخلاعة من سفه القول: وحذار من سفه يشينك وصفه ... إن السفاه بذي المروءة زاري - أن يتجنب تكليف زائريه وضيوفه ولو بعملٍ خفيف؛ فقد ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: (ليس من المروءة استخدام الضيف). - أن يسود في مجلسه الجد والحكمة وأن لا يلم في حديثه بالمزاح إلا إلماماً مؤنساً في أحوال نادرة قال الأحنف بن قيس: (كثرة المزاح تذهب المروءة). ¬

(¬1) ((عين الأدب والسياسة)) (ص132). (¬2) ذكره أبو منصور الأزهري في ((تهذيب اللغة)) (15/ 205).

- أن يُحسن الإصغاء لمن يُحدثه من الإخوان، فإن إقباله على محدثه بالإصغاء إليه يدل على ارتياحه لمُجالسته، وأُنسه بحديثه. وإلى هذا الأدب الجميل يُشير أبو تمام بقوله: من لي بإنسانٍ إذا أغضبته ... ورضيتُ كان الحِلم رد جوابه وتراه يُصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه، ولعله أدرى به - أن يحتمل ضيق العيش, ولا يبذل ماء حيائه وكرامته في السعي لما يجعل عيشه في سعة أو يديه في ثراء قال مهيار: ونفس حرة لا يزدهيها ... حلى الدنيا وزخرفها المعار يبيت الحق أصدق حاجتيها ... وكسب العز أطيب ما يمار ألا يظهر الشكوى من حوادث الدهر إلا أن يتقاضى حقاً: لا يفرحون إذا ما الدهر طاوعهم ... يوماً بيسر ولا يشكون إن نكبوا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في عمر بن عثمان بن عفان: فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت - أن يكون حافظاً لما يؤتمن عليه من أسرارٍ وأُمور لا ينبغي أن تظهر لأحدٍ غير صاحبها. وفي هذا المعنى يقول المتنبي: كفتك المروءة ما تتقي ... وأمّنك الود ما تحذر يريد أنه ذو مروءة وذو المروءة لا يُفشي سراً اُؤتمن عليه. - أن يحذر أن يؤذي شخصاً ما, وأشد ما يحذر أن يؤذي ذا مروءة مثله: وأستحيي المروءة أن تراني ... قتلت مناسبي جلداً وقهراً (¬1) - أن يحرص على أن تطابق أقواله وأفعاله ما جرت عليه الأعراف والتقاليد الحسنة, والتي لا تخالف الشرع ولا تضاد الدين. - أن يعامل الآخرين بما يحب أن يعاملوه به, وأن يحترمهم ولا يفضل نفسه عليهم في شيء. ¬

(¬1) ((المروءة ومظاهرها الصادقة)) لمحمد الخضر حسين بتصرف، نقلاً عن كتاب ((المروءة الغائبة)) لمحمد إبراهيم سليم (ص: 120 - 123).

موانع اكتساب صفة المروءة (خوارم المروءة)

موانع اكتساب صفة المروءة (خوارم المروءة) الخوارم لغة جمع خارم: وهو التارك المفسد. واصطلاحاً: هي كل فعل أو قول أو حرفة يوجب فعلها أو تركها الذم في عادات الناس وأعرافهم المعتبرة شرعاً. أسباب خوارم المروءة للمروءة خوارم تسقط من قدرها وقد تذهب بها نهائياً فمن خوارمها: 1. الخبل في العقل (أي الفساد فيه): إن الإنسان سمي مرءاً أو امرءاً أي عاقلاً, ووصف بالمروءة لأنه لا يتصف بخلافها إلا الحمقى وقد ورد ذلك في أثر عمر, فجعل العقل وهو المروءة, فقال: (كرم المرء دينه, ومروءته عقله, وحسبه خلقه) (¬1). ومن هنا كان الخبل في العقل سبباً في اقتراف خوارم المروءة والذي يجعلنا لا نثق بكلامه فنرد شهادته بسببه. ولا تستغرب هذا بل من الحكماء من جعل المروءة أعلى درجة من العقل, فقال: (العقل يأمرك بالأنفع, والمروءة تأمرك بالأرفع) فمن أخل بمروءته رضي بالدون ولم يكرم نفسه مما يشينها. ويلتقي هذا مع اشتراط الفقهاء الفطنة وعدم التغفل في الشهود ولو كانوا عدولاً وعدم قبول شهادة المجنون ابتداءً. 2. نقصان الدين: إن الفسق علامة على النقص في الدين فلا يقدم على الكبائر مثلاً إلا فاسق غير مبال بدينه, وكذا خوارم المروءة لا يقدم عليها حتى تخرم مروءته إلا ناقص دين, فكان أحد الأسباب التي تخرم المروءة. 3. قلة الحياء: إن من أسباب فعل الخوارم قلة الحياء لأن فاعلها لا يستقبح القبيح, ولا يبالي بكلام الناس وقلة حيائه تعطيه الجسارة في فعل خوارم المروءة (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد مرفوعاً (2/ 365) (8759)، وابن حبان (2/ 232) (483)، وابن عدى في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 126)، والحاكم (2/ 177)، والبيهقي (7/ 136) (13555). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عدي: [فيه] مسلم بن خالد الزنجي حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال البيهقي: روي من وجهين آخرين ضعيفين، وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (4/ 1835): [فيه] مسلم الزنجي ضعيف، وقال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (203): إسناده صالح، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6229)، وقال السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (291): إسناده صحيح، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (4168). (¬2) ((عدالة الشاهد في القضاء الإسلامي)) (356 - 357).

أنواع خوارم المروءة

أنواع خوارم المروءة يمكن أن نصنف خوارم المروءة إلى نوعين اثنين: الأول:- خوارم للمروءة بحسب الشرع. الثاني:- خوارم للمروءة بحسب العرف السائد. فالأولى لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الأحوال والأزمان لأنها تستمد ثباتها من الشرع الحنيف. وعليه فكل من وصف بأنه منخرم المروءة بواحدة من تلك الخوارم فهو مخروم المروءة في كل حين. كأخذ الأجر على التحديث عند من يرى حرمة ذلك فمن خرمت مروءته لهذا فإنه لا يزال على ذلك أبدا. وكذلك من خرمت مروءته بسبب السفه وبذاءة اللسان لأن المسلم لا يكون بذيئاً ولا سفيها ... وأما الخوارم التي ترجع إلى مخالفة عرف سائد فإن المحققين من العلماء لا ينظرون إليها سواء بسواء مع تلك الخوارم التي ترجع إلى مخالفة أصل شرعي لجواز أن يتغير العرف السائد. فما يعد من الخوارم في زمن لا يكون كذلك في زمن آخر. وما يعد من الخوارم في بلد لا يكون كذلك في بلد آخر. يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: (ولا شك أن خوارم المروءة تخضع إلى حد كبير إلى العرف السائد فما يكون قبيحاً وقادحاً في المروءة في بلد ما قد لا يكون كذلك في بلد آخر لاختلاف العرف في هذين البلدين مثل كشف الرأس فقد يكون مستقبحاً في بلد للعرف السائد فيه فيكون فادحاً في المروءة والعدالة وقد لا يكون مستقبحاً في بلد آخر فلا يكون قادحاً في العدالة) ولهذا فإن المروءة في مثل هذا هي مراعاة العرف السائد. (¬1) شروط الأفعال حتى تكون خارمة للمروءة: الأول: أن يكون الإقدام على الأفعال والأقوال المحرمة شرعاً ولو لمرة واحدة أو المكروهة بشرط التكرار أو الصغائر بشرط الغلبة على الطاعات أما المباحات فيشترط فيها حتى تكون خارمة للمروءة قبحها في العادات والأعراف المعتبرة شرعاً إذ لا يؤمن معها الجرأة على الكذب والإدمان على فعلها. الثاني: الإدمان أو الإصرار أو الغلبة: خوارم المروءة من المحرمات لا يشترط فيها الإدمان وكذلك صغائر الخسة, أما الصغائر ورذائل المباحات فيشترط فيها الإدمان وذلك لأن الإنسان لا يسلم من يسير اللهو أو فعل بعض المباحات لعدم العصمة وليس هذا شرطاً متفقاً عليه (¬2). ¬

(¬1) ((جرح الرواة وتعديلهم)) (ص: 108). (¬2) ((عدالة الشاهد في القضاء الإسلامي)) (358 - 359).

حكم فعل خوارم المروءة

حكم فعل خوارم المروءة (أجمع العلماء على أن من فعل ما يخل بالمروءة لا تقبل شهادته والأفعال والأقوال التي تخل بالمروءة أقسام: الأول: المحرمات التي يعد فعلها كبيرة، سواء أكانت محرمة لذاتها أم لغيرها، ومن العلماء من جعل كل ما يخل بالمروءة كبيرة وليس ذلك صحيحاً. الثاني: المكروهات إذا حكم على فعلها بأنها صغيرة فتخل بالمروءة والعدالة بالإدمان عليها وغلبتها على الطاعات؛ إلا صغائر الخسة؛ فإنها تخل بالمروءة لفعلها مرة واحدة. الثالث: المباحات؛ فالأصل فيها أن لا يأثم الإنسان على تركها ولا يثاب على فعلها، وقد يثاب إذا رافقتها نية صالحة كالتقوى على العبادة أو التصدق على المحتاجين ... إلخ. وهذه المباحات لا تخل بالمروءة إلا إذا انتقلت من حكم الإباحة إلى غيره؛ فقد تصبح محرمة إذا كان فعلها إتلافاً وإضراراً بالآخرين، وقد يصبح فعلها مكروهاً بالإدمان عليها أو التشبه بالفسقة في فعلها، أو رافقها الإسراف؛ فهذه تخل بالمروءة. وهناك من المباحات ما يخل بالمروءة عرفاً؛ فهذه تخل بالمروءة إذا كان العرف معتبراً شرعاً أي غير فاسد باصطدامه بمقاصد الشرع وأدلته، ولأن هذه المباحات المخلة بالمروءة عرفاً لا يحرم فعلها إلا إذا تعينت على فاعلها الشهادة، ولم تكن هناك وسيلة للإثبات غير شهادته بوجود شاهد آخر أو وثيقة؛ فحرمة فعلها جاءت لتسببها في ضياع الحقوق، ومن الشافعية من ذهب إلى عدم حرمتها ولو كانت كذلك، فرداً على السؤال التالي: هل يحرم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة لإخلالها بالمروءة؟ ذكروا ثلاثة أوجه: 1 - الإباحة مطلقاً. 2 - التحريم. 3 - الإباحة إلا إذا تعينت عليه الشهادة فيحرم عليه تعاطيها. قلت: يندب للمرء المحافظة على مروءة أمثاله فيما يتعلق بالمباحات ويحرم عليه الإخلال بها إذا تعينت عليه الشهادة وأدى رد شهادته إلى ضياع الحق المراد إثباته، والله أعلم، أما المروءة التي هي درجة أرفع وأعلى من المروءة المشروطة في العدالة كالتصدق بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه؛ فإنها مستحبة لا لتعلقها بالعدالة والشهادة، ولكن للنصوص الواردة فيها، ولمعنى اجتماعي أوسع ولا يتعلق بتركها أثر على الشهادة غالباً. وفي مثل هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: (وأما تفسير (العدالة) المشروطة في هؤلاء الشهداء؛ فإنها الصلاح في الدين والمروءة، والصلاح في أداء الواجبات، وترك الكبيرة، والإصرار على الصغيرة، و (الصلاح في المروءة) استعمال ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فإذا وجد هذا في شخص كان عدلاً في شهادته، وكان من الصالحين الأبرار، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة؛ فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات، وإن كان المستحبات لم يكملها ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين). وإلى مثل هذا ذهب الصنعاني؛ فإنه لم يقبل الحد الدارج للعدالة الوارد في كتب الأصول وكتب المصطلح، وبين أنه لا يتمثل به إلا الكمل من المتقين، وصنف في ذلك مؤلفاً ناقش فيه ما عند ابن حجر في (النخبة)، وسماه بـ (ثمرات النظر في علم الأثر). ولا يعني ذلك أن (المروءة) لا وزن لها عند هؤلاء، وإنما منزلتها رفيعة، وقد مشى العلماء على ضرورة إقامتها ومراعاتها، وإليك شذرات من أقوالهم وأحوالهم: قال الإمام مالك: (لا خير في شيء من الدنيا – وإن كثر – بفساد دين الرجل أو مروءته)، وقال: (نقاء الثوب وحسن الهمة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزء من النبوة). وها هو الإمام الشافعي –رحمه الله- يوصي ابنه أبا عثمان، ويقول له: (والله لو أعلم أن الماء البارد يثلم مروءتي ما شربت إلا حاراً). وفي رواية: (والله - الذي لا إله إلا هو -؛ لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته، ولو كنت اليوم ممن يقول الشعر؛ لرثيت المروءة). وها هو أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي يطلب منه من جالسه أربع سنين أن يعظ أو يزبر أباه لما كان يتعاطاه؛ فيقول: أنا لا أفسد مروءتي بصلاحه). ونظرة سريعة في كتب التراجم، مثل (السير) وغيره ترى أن مئات –بل ألوفاً- منهم قد وصفوا بـ (المروءة) و (كمال المروءة) ونحو ذلك. (¬1) ¬

(¬1) ((المروءة وخوارمها)) (245 - 248).

الوسائل المعينة على اكتساب المروءة

الوسائل المعينة على اكتساب المروءة يقول ابن حبان البستي رحمه الله: (الواجب على العاقل أن يلزم إقامة المروءة بما قدر عليه من الخصال المحمودة وترك الخلال المذمومة, وقد نبغت نابغة اتكلوا على آبائهم واتكلوا على أجدادهم في الذكر والمروءات وبعدوا عن القيام بإقامتها بأنفسهم, ولقد أنشدني منصور بن محمد في ذم من هذا نعته: إن المروءة ليس يدركها امرؤ ... ورث المروءة عن أب فأضاعها أمرته نفس بالدناءة والخنا ... ونهته عن طلب العلى فأطاعها فإذا أصاب من الأمور عظيمة ... يبني الكريم بها المروءة باعها ... إلى أن قال رحمه الله: (ما رأيت أحدا أخسر صفقة ولا أظهر حسرة ولا أخيب قصدا ولا أقل رشدا ولا أحمق شعارا ولا أدنس دثاراً من المفتخر بالآباء الكرام وأخلاقهم الجسام مع تعريه عن سلوك أمثالهم وقصد أشباههم متوهما أنهم ارتفعوا بمن قبلهم وسادوا بمن تقدمهم وهيهات أنى يسود المرء على الحقيقة إلا بنفسه وأنى ينبل في الدارين إلا بكده) (¬1). فإذا كانت المروءة لا تنال بالميراث ولا تنتقل عبر المورثات الجينية من الآباء إلى الأبناء فكيف ينالها الشخص وكيف يصل إليها؟ هناك وسائل تعين المرء إلى الوصول إلى المروءة المبتغاة نذكر بعضها فيما يلي: أولاً: علو الهمة والتطلع إلى السمو بالنفس, والترقي بها إلى المعالي. ثانياً: منافسة أصحاب المروءات ومسابقة أصحاب الأخلاق العالية وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]. ثالثاً: ومما يعين على تحصيل المروءات شرف النفس واستعفافها ونزاهتها وصيانتها. رابعاً: المال الصالح خير معين على بلوغ المروءات, قال أبو حاتم رحمه الله: ومن أحسن ما يستعين به المرء على إقامة مروءته المال الصالح ولقد أنشدني منصور بن محمد الكريزي: احتل لنفسك أيها المحتال ... فمن المروءة أن يرى لك مال كم ناطق وسط الرجال وإنما ... عنهم هناك تكلم الأموال فالواجب على العاقل أن يقيم مروءته بما قدر عليه ولا سبيل إلى إقامة مروءته إلا باليسار من المال فمن رزق ذلك وضن بإنفاقه في إقامة مروءته فهو الذي خسر الدنيا والآخرة ولا آمن أن تفجأه المنية فتسلبه عما ملك كريها وتودعه قبرا وحيدا ثم يرث المال بعد من يأكله ولا يحمده وينفقه ولا يشكره فأي ندامة تشبه هذه وأي حسرة تزيد عليها (¬2). ولذا قال بعض العرب: (المروءة طعام مأكول, ونائل مبذول, وبشر مقبول, وكلام معسول) وقيل: (لا مروءة لمقل) وقال بعضهم: (المال والمروءة رضيعا لبان, وشريكا عنان, وغزيا حصان, وفرسا رهان)) وقال بعضهم: (لا مروءة إلا بالمال والفعال) ورفع إلى المنصور كثرة نفقات محمد بن سليمان (والي البصرة) فوقع: (أعظم الناس مروءة أكثرهم مؤنة) (¬3) خامساً: ومما يعين على تحصيل المروءة اختيار الزوجة الصالحة ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) (¬4). قال مسلمة بن عبد الملك: (ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصالحة) قال الشاعر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... مدبرة ضاعت مروءة داره سادساً: ومما يعين على المروءة مجالسة أهل المروءات ومجانبة السفهاء وأهل السوء. أسند ابن حبان عن بعضهم قال: (كان يقال مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق ومجالسة العلماء تذكي القلوب) (¬5). ومتى جالس المرء أهل المروءات اكتسب منهم صالح الأخلاق والصفات: قال ابن عبد البر: (فلا تكاد تجد حسن الخلق إلا ذا مروءة وصبر) (¬6). وكذلك إن عاشر المرء إخوان السوء وقليلي المروءة أخذ عنهم أخلاقهم وكان ذلك سبباً في القدح بمروءته: قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (آفة المروءة إخوان السوء) (¬7). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص230). (¬2) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص233). (¬3) ((عين الأدب والسياسة)) (ص142 - 143). (¬4) رواه البخاري (5090) ومسلم (1466). (¬5) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص234). (¬6) ((الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار)) (5/ 105). (¬7) ((المروءة)) للمرزبان (ص117)، و ((روضة العقلاء)) لابن حبان (234).

العلاقة بين الكرم والمروءة

العلاقة بين الكرم والمروءة (فأما الكرم والمروءة فهما قرينان في الفضل ومتشاكلان في العقل والفرق بينهما مع التشاكل من وجهين: أحدهما: أن الكرم مراعاة الأحوال أن يكون على أنفعها وأفضلها, والمروءة مراعاة الأحوال أن يكون على أحسنها وأجملها. والوجه الثاني أن الكرم ما تعدى نفعه إلى غير فاعله والمروءة قد تقف على فاعلها ولا تتعدى إلى غيره فإن استعملها في غيره مازجت الكرم ولم ينفرد بالمروءة وصار بالاجتماع أفضل وإن افترقا كان الكرم أفضل لتعدي نفعه وتعدي النفع أفضل. وليس واحد من الكرم والمروءة خلقا مفردا ولكنه يشتمل على أخلاق يصير مجموعها كرما ومروءة) (¬1) ¬

(¬1) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) (ص28).

انقسام الفضائل بين الكرم والمروءة

انقسام الفضائل بين الكرم والمروءة كل كرم ومروءة فضيلة وليس كل فضيلة كرما ومروءة بل تنقسم الفضائل مع الكرم والمروءة إلى أربعة أقسام: 1. القسم الأول: ما يدخل من الفضائل في الكرم والمروءة كالعفو والعفة والأمانة. 2. والقسم الثاني: ما يدخل في الكرم ولا يدخل في المروءة كالحمد والرحمة والحمية والبذل والمساعدة. 3. والقسم الثالث: ما يدخل في المروءة ولا يدخل في الكرم كعلو الهمة وحسن المعاشرة ومراعاة المنازل والملابس. 4. والقسم الرابع: ما لا يدخل في الكرم ولا المروءة كالشجاعة والصبر على الشدة فاجتمع الكرم والمروءة في بعض الفضائل وافترقا في بعضها فصار الكرم أعم من المروءة في بعض الفضائل والمروءة أعم من الكرم في بعض الفضائل فلم يتعين عموم أحدهما وخصوص الآخر وإن تناسب ما ميز به أحدهما. (¬1). ¬

(¬1) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) (ص30 - 31).

قالوا عن المروءة

قالوا عن المروءة - قال أعرابي: (مروءة الرجل في نفسه نسب لقوم آخرين، فإنه إذا فعل الخير عرف له، وبقي في الأعقاب والأصحاب، ولقيه يوم الحساب) (¬1). - وقال صاحب كليلة ودمنة: (الرجلُ ذو المروءة يكرم على غير مال كالأسد يهاب وإن كان رابضا، والرجل الذي لا مروءة له يهان وإن كان غنيا كالكلب يهون على الناس وإن عسّى وطوّف. أقوال في المروءة) (¬2). - وقِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ: (مَا الْمُرُوءَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: طَعَامٌ مَأْكُولٌ، وَنَائِلٌ مَبْذُولٌ، وَبِشْرٌ مَقْبُولٌ) (¬3). - وَقِيلَ: (لَا مُرُوءَةَ لِمُقِلٍّ) (¬4). - وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: (مَنْ قَبِلَ صِلَتَك فَقَدْ بَاعَك مُرُوءَتَهُ وَأَذَلَّ لِقَدْرِك عِزَّهُ وَجَلَالَتَهُ) (¬5). - وقالوا: (لا تتم المروءة وصاحبها ينظر في الدقيق الحقير، ويعيد القول ويبدئه في الشيء النزر الذي لا مرد له ظاهر، ولا جدوى حاضرة) (¬6). - وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ: (مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ التَّغَافُلُ عَنْ زَلَّةِ الْإِخْوَانِ) (¬7). - وقيل: (مجالسة أهل الدّيانة تجلو عن القلب صدأ الذّنوب، ومجالسة ذوي المروءات تدلّ على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تذكّي القلوب). (¬8) - قال زياد لبعض الدّهاقين: (ما المروءة فيكم؟ قال: اجتناب الرّيب فإنّه لا ينبل مريب، وإصلاح الرّجل ماله فإنّه من مروءته، وقيامه بحوائجه وحوائج أهله فإنّه لا ينبل من احتاج إلى أهله ولا من احتاج أهله إلى غيره) (¬9). ¬

(¬1) ((البصائر والذخائر)) (1/ 115). (¬2) ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) (ص244). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) (ص383). (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) (ص340). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) (ص340). (¬6) ((الإمتاع والمؤانسة)) (1/ 342). (¬7) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (2/ 397). (¬8) ((المروءة الغائبة)) (ص 60). (¬9) ((أدب الدنيا والدين)) (ص338).

المروءة في واحة الشعر ..

المروءة في واحة الشعر .. قال علي بن أبي طالب: للَّهِ دَرُّ فَتًى أنسابُهُ كَرَمٌ ... يا حبذا كرمٌ أضحى له نسبا هل المُروءةُ إِلاَّ مَا تَقُوْمُ بِهِ ... مِنَ الذِّمامِ وحِفْظِ الجَارِ إنْ عَتَبا وقال الشاعر: وإذا جلست وكان مثلُكَ قائماً ... فمن المروءةِ أن تقومَ وإن أبى وإذا اتكأت وكان مثلُكَ جالساً ... فمن المروءةِ أن تُزيلَ المُتَّكا وإذا ركبتَ وكان مثلُكَ ماشياً ... فمن المروءةِ أن مشيتَ كما مشى وقال آخر: لَا تَنْظُرَنَّ إلَى الثِّيَابِ فَإِنَّنِي ... خَلِقُ الثِّيَابِ مِنْ الْمُرُوءَةِ كَاسِ (¬1) وقَالَ عبد الله بن المبارك رحمه الله: وَفَتًى خَلَا مِنْ مَالِهِ ... وَمِنْ الْمُرُوءَةِ غَيْرُ خَالِي أَعْطَاك قَبْلَ سُؤَالِهِ ... وَكَفَاك مَكْرُوهَ السُّؤَالِ وقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: فَلَوْ كُنْتُ مُثْرًى بِمَالٍ كَثِيرٍ ... لَجُدْتُ وَكُنْتُ لَهُ بَاذِلَا فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ لَا تُسْتَطَاعُ ... إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُهَا فَاضِلًا (¬2) وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّالِ: رُزِقْتُ مَالًا وَلَمْ أُرْزَقْ مُرُوءَتَهُ ... وَمَا الْمُرُوءَةُ إلَّا كَثْرَةُ الْمَالِ إذَا أَرَدْتُ رُقَى الْعَلْيَاءِ يُقْعِدُنِي ... عَمَّا يُنَوِّهُ بِاسْمِي رِقَّةُ الْحَالِ (¬3) وقال أبو المنصور: هبني أسأت كما تقول ... فأين عاطفة الأخوة أو إن أسأت كما أسأت ... فأين فضلك والمروءة (¬4) وَقَدْ قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيُّ: إنَّ الْمُرُوءَةَ لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ ... وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَةِ وَالْخَنَا ... وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلَا فَأَطَاعَهَا فَإِذَا أَصَابَ مِنْ الْمَكَارِمِ خَلَّةً ... يَبْنِي الْكَرِيمُ بِهَا الْمَكَارِمَ بَاعَهَا (¬5) وقال آخر: إذا المرءُ أعيته المروءةُ ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديدُ (¬6) وقال منصور الفقيه: وإذا الفتى جمع المروءة والتقى ... وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل (¬7) وقال بعضهم: ومن المروءة للفتى ... ما عاش دار فاخره فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخرة (¬8) وقال آخر: كفى حزناً أن المروءة عطلت ... وأن ذوي الألباب في الناس ضيع وأن ملوكاً ليس يحظى لديهم ... من الناس إلا من يغني ويصفع (¬9) وقال بهاء الدين زهير: وَما ضَاقتِ الدّنيا على ذي مروءةٍ ... ولا هي مسدودٌ عليهِ رحابها فقَد بشّرتَني بالسّعادَةِ هِمّتي ... وجاءَ من العلياءِ نحوي كتابها (¬10) وقال عبد الجبار بن حمديس: أدِمِ المروءَةَ والوفاءَ ولا يكنْ ... حبلُ الديانة منك غيرَ متين والعزّ أبقى ما تراه لمكرم ... إكرامه لمروءةٍ أو دينِ وقال أبو فراس الحمداني: الحُرُّ يَصْبِرُ، مَا أطَاقَ تَصَبُّراً ... في كلِّ آونةٍ وكلِّ زمانِ ويرى مساعدةَ الكرامِ مروءةً ... ما سالمتهُ نوائبُ الحدثانِ وقال حافظ إبراهيم: إنّي لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاقي وتهزّني ذكرى المروءة والنّدى ... بين الشّمائل هزّة المشتاق وقال آخر: مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلتُ علامَ تنتحبُ الفتاة؟ فقالَتْ كيف لا أبكي وأهلِي ... جميعاً دونَ خلقِ اللهِ ماتوا ... ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) (4/ 235). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص338). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) (ص233). (¬4) ((آداب الصحبة)) (ص99). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) (ص329). (¬6) ((البديع في نقد الشعر)) (ص199). (¬7) ((المروءة وخوارمها)) (ص: 51). (¬8) ((المروءة وخوارمها)) (ص: 52). (¬9) ((المروءة وخوارمها)) (ص: 52). (¬10) ((ديوان بهاء الدين زهير)) (ص: 22).

النصيحة

معنى النصيحة لغة واصطلاحاً معنى النصيحة لغة: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ، والناصحُ: الْخَالِصُ مِنَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ ... والنُّصْح نقيض الغِشّ مشتق منه نَصَحه وله نُصْحاً ونَصِيحة ونَصاحة ونِصاحة ونَصاحِيةً ونَصْحاً وهو باللام أَفصح (¬1). معنى النصيحة اصطلاحاً: قال الخطابي: (النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له) (¬2). قال الجرجاني: (النصح: إخلاص العمل عن شوائب الفساد. والنصيحة: هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد) (¬3). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (2/ 615). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 138). (¬3) ((التعريفات)) (ص 241).

الفرق بين النصيحة والتعيير

الفرق بين النصيحة والتعيير قال ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير: (فإنهما يشتركان في أن كلا منهما؛ ذكر الإنسان بما يكره ذكره ... وأنَّ ذكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذم والعيب والنقص. فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه) (¬1). ¬

(¬1) ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) لابن رجب (ص 7) بتصرف يسير.

فضل النصيحة والحث عليها في القرآن والسنة

فضل النصيحة والحث عليها في القرآن والسنة فضل النصيحة والحث عليها في القرآن الكريم: - قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 61 - 62] قال السعدي: (أي: وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم) (¬1). - وقال سبحانه حكاية عن هود عليه السلام: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 67 - 68]. (أي: ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه) (¬2). - وقوله أيضاً حكاية عن صالح عليه السلام: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [الأعراف: 79]. - وكذلك قوله حكاية عن شعيب عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [الأعراف: 93]. (فهذه النصوص القرآنية تفيد أن النصيحة من أبلغ ما يوجهها الأنبياء عليهم السلام إلى قومهم، وأنها تؤدي ثمارها في حالة السلب والإيجاب بالنسبة للناصح، فإن قبلها القوم عاد نفعها عليه وعليهم في الدنيا والآخرة، وإن رفضوها فالنتيجة الحتمية هي العذاب لهم والأجر للناصح. إذاً فكل ناصح فهو مأجور على نصيحته مهما كانت النتائج، وذلك إذا خلصت نيته وعمل بتوجيهات الرب سبحانه وتعالى) (¬3). فضل النصيحة والحث عليها في السنة النبوية: - عن تميم الداري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة. قلنا: لمن؟. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬4). قال الخطابي: (فمعنى النصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتاب الله الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا، والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم) (¬5). وقال النووي: (هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام كما سنذكره من شرحه. وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده) (¬6). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟. قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 292) (¬2) ((روح المعاني)) للألوسي (4/ 394). (¬3) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لعبد العزيز المسعود (1/ 155). (¬4) رواه مسلم (55). (¬5) ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 126). (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 37).

قال السعدي: (قوله: ((وإذا استنصحك فانصح له)) أي: إذا استشارك في عمل من الأعمال: هل يعمله أم لا؟ فانصح له بما تحبه لنفسك. فإن كان العمل نافعاً من كل وجه فحثه على فعله، وإن كان مضراً فحذره منه وإن احتوى على نفع وضرر فاشرح له ذلك، ووازن بين المصالح والمفاسد. وكذلك إذا شاورك على معاملة أحد من الناس أو تزويجه أو التزوج منه فابذل له محض نصيحتك، وأعمل له من الرأي ما تعمله لنفس، وإياك أن تغشه في شيء من ذلك. فمن غش المسلمين فليس منهم، وقد ترك واجب النصيحة. وهذه النصيحة واجبة مطلقاً، ولكنها تتأكد إذا استنصحك وطلب منك الرأي النافع. ولهذا قيده في هذه الحالة التي تتأكد) (¬1). - وعن جرير بن عبد الله، قال:)) بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) (¬2). قال الخطابي: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة للمسلمين شرطا في الذي يبايع عليه كالصلاة والزكاة، فلذلك تراه قرنها بهما. فإن قلت: لم اقتصر عليهما ولم يذكر الصوم وغيره؟ قلت: قال القاضي عياض: لدخول ذلك في السمع والطاعة، يعني المذكور، في الرواية الأخرى التي ذكرناها الآن، وقال غيره: إنما اقتصر عليهما لأنهما أهم أركان الدين وأظهرها، وهما العبادات: البدنية والمالية) (¬3). - وعن أبى هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ((المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)) (¬4). قال المناوي: (أي يبصر من نفسه بما لا يراه بدونه ولا ينظر الإنسان في المرآة إلا وجهه ونفسه ولو أنه جهد كل الجهد أن يرى جرم المرآة لا يراه لأن صورة نفسه حاجبة له وقال الطيبي: إن المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه كالمرأة المجلوة التي تحكي كل ما ارتسم فيها من الصور ولو كان أدنى شيء فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء حاله تعريفات وتلويحات فإذا ظهر له منه عيب قادح كافحه فإن رجع صادقه وقال العامري: معناه كن لأخيك كالمرآة تريه محاسن أحواله وتبعثه على الشكر وتمنعه من الكبر وتريه قبائح أموره بلين في خفية تنصحه ولا تفضحه هذا في العامة أما الخواص فمن اجتمع فيه خلائق الإيمان وتكاملت عنده آداب الإسلام ثم تجوهر باطنه عن أخلاق النفس ترقى قلبه إلى ذروة الإحسان فيصير لصفائه كالمرآة إذا نظر إليه المؤمنون رأوا قبائح أحوالهم في صفاء حاله وسوء آدابهم في حسن شمائله) (¬5). ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص 112). (¬2) رواه البخاري (57)، ومسلم (56). (¬3) ((عمدة القاري)) للعيني (1/ 324). (¬4) رواه أبو داود (4918)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (239)، والبزار (14/ 385). وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6656). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 251).

أقوال السلف في النصيحة

أقوال السلف في النصيحة - سئل ابن عباس رضي الله عنهما، عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فقال: (إن كنت فاعلا ولابد، ففيما بينك وبينه) (¬1). - وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، وعليه نصح المسلم) (¬2). - وقال الفضيل بن عياض: (الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك، والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدا كنت أو غائبا لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف، ويغشك إذا غبت ولا ينصحك) (¬3). - وقال الحسن: (إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تعجز عنه) (¬4). - وسئل ابن المبارك أي الأعمال أفضل؟ قال: (النصح لله، قيل: فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟، قال: جهده إذا نصح أن لا يأمر ولا ينهى) (¬5). - وقال عمر بن عبد العزيز: (لو أن المرء، لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذن لتواكل الناس الخير، وإذن يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله عز وجل بالنصيحة في الأرض) (¬6). - وعن معمر، قال: (كان يقال: أنصح الناس إليك من خاف الله فيك) (¬7). - وقال الفضيل بن عياض: (ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة. - وسئل ابن المبارك: أي الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله. - وقال معمر كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك. وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه. - وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. - وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره) (¬8). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (7/ 470) (37307)، والبيهقي في ((الشعب)) (10/ 73) (7186). (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 224). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 219). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 224). (¬5) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (ص 107). (¬6) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (ص 139). (¬7) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (ص 98). (¬8) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 224).

حكم النصيحة

حكم النصيحة أولاً: اتفق العلماء على أنها واجبة. ثانياً: اختلفوا في فرضيتها؛ فذهب بعضهم إلى أنها فرض عين، وذهب البعض الآخر إلى أنها فرض كفاية (¬1). والدليل على وجوب النصيحة قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي سبق ذكره ((الدين النصيحة ... )) (¬2). وما ورد في حديث جرير رضي الله عنه قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ... )) (¬3)، وغيره من الأحاديث. قال ابن مفلح: (وظاهر كلام أحمد والأصحاب وجوب النصح للمسلم، وإن لم يسأله ذلك كما هو ظاهر الأخبار) (¬4). وقال ابن بطال: (والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة) (¬5). ¬

(¬1) انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لعبد العزيز المسعود (1/ 224). (¬2) رواه مسلم (55). (¬3) رواه البخاري (57)، ومسلم (56). (¬4) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 291). (¬5) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 39).

فوائد النصيحة

فوائد النصيحة 1 - النصيحة لب الدين وجوهر الإيمان. 2 - دليل حب الخير للآخرين، وبغض الشر لهم. 3 - تكثير الأصحاب؛ إذ إنه يؤمن منه الجانب، وتقليل الحساد؛ إذ إنه لا يحب لغيره الشر والفساد. 4 - صلاح المجتمع؛ إذ تشاع فيه الفضيلة، وتستر فيه الرذيلة. 5 - إحلال الرحمة والوداد مكان القسوة والشقاق. 6 - الاشتغال بالنفس لاستكمال الفضائل من تمام النصح. 7 - بيان خطأ المخطئ في المسألة والمسائل- وإن كرهه- من النصيحة الواجبة لا من الغيبة المحرمة. 8 - من قام بها على وجهها يستحق الإكرام لا اللوم والتقريع (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (8/ 3507).

صور النصيحة

صور النصيحة أ- النصيحة لله تعالى: من صور النصيحة لله تعالى: 1 - (الإيمان به ونفي الشريك عنه. 2 - ترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها. 3 - تنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص. 4 - القيام بطاعته واجتناب معصيته. 5 - الحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه وجهاد من كفر به. 6 - الاعتراف بنعمته وشكره عليها. 7 - الإخلاص في جميع الأمور. 8 - الدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها قال الخطابي رحمه الله وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح) (¬1). 9 - (الخضوع له ظاهرا وباطنا والرغبة في محابه بفعل طاعته والرهبة من مساخطه بترك معصيته والجهاد في رد العاصين إليه) (¬2). ب- النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى: وتشمل صور عدة منها: 1 - (الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق. 2 - تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة. 3 - الذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين. 4 - التصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله. 5 - الاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه. 6 - البحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه) (¬3). ج- النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم: ومن صور النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم: (تصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به. 1 - طاعته في أمره ونهيه. 2 - نصرته حيا وميتا ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه. 3 - إعظام حقه وتوقيره. 4 - إحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته ونفي التهمة عنها واستثارة علومها والتفقه في معانيها والدعاء إليها. 5 - التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه. 6 - محبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك) (¬4). د- النصيحة لأئمة المسلمين: ومن صور النصيحة لأئمة المسلمين: 1 - (إعانتهم على ما حملوا القيام به. 2 - تنبيههم عند الغفلة وسد خلتهم عند الهفوة وجمع الكلمة عليهم ورد القلوب النافرة إليهم. 3 - دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن) (¬5). 4 - (معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف. 5 - إعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين. 6 - ترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم. 7 - الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم. 8 - أن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم. 9 - أن يدعى لهم بالصلاح) (¬6). هـ- النصيحة لعامة المسلمين: ويندرج تحت النصيحة لعامة المسلمين صور كثيرة منها: 1 - (الشفقة عليهم. 2 - السعي فيما يعود نفعه عليهم. 3 - تعليمهم ما ينفعهم وكف وجوه الأذى عنهم. 4 - أن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه) (¬7). 5 - (إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم. 6 - ستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم. 7 - أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص. 8 - توقير كبيرهم ورحمة صغيرهم. 9 - تخولهم بالموعظة الحسنة. 10 - ترك غشهم وحسدهم. 11 - الذب عن أموالهم وأعراضهم) (¬8). ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 38) بتصرف يسير. (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 138). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 38). (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 38) بتصرف يسير. (¬5) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 138). (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 38). (¬7) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 138). (¬8) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 39) بتصرف يسير.

ضوابط في النصيحة

ضوابط في النصيحة 1 - الإخلاص في النصيحة: على الناصح أن يرجو بنصيحته وجه الله تبارك وتعالى فلا يقصد بنصيحته الأغراض الدنيوية من رياء، وسمعة، وحب شهرة وغيرها. قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]. وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (¬1). 2 - العلم بما ينصح به: الذي يقوم بالنصيحة لا ينصح في أمر يجهله، بل لا بد أن يكون عالماً بما ينصح به، ولديه علم شرعي وأدلة من الكتاب والسنة في الجانب الذي يتكلم فيه، قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]. 3 - أن لا يجهر بنصيحته: أن يكون مسراً بنصيحته فلا ينصح أمام الملأ جهراً: قال الشافعي: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خالفتني وعصيت قولي | ... فلا تجزع إذا لم تعط طاعة (¬2) وقال أيضاً: (من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه) (¬3). وعن سليمان الخواص قال: (من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما فضحه) (¬4). وقال ابن رجب: (وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه) (¬5). وقال ابن حزم: (إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا بتصريح إلا لمن لا يفهم، فلا بد من التصريح له) (¬6). 4 - أن يراعى الوقت والمكان المناسب: قال علي رضي الله عنه: (إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان: فابتغوا لها طرائف الحكمة) (¬7). وقال عبد الله بن مسعود: (إن للقلوب شهوة وإقبالا، وفترة وإدبارا فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها) (¬8). 5 - اللين والرفق في النصيحة: أن تكون النصيحة بالرفق واللين والأسلوب الحسن، مع انتقاء الألفاظ المحببة، وعدم استخدام الأساليب المنفرة، قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. وقال سبحانه: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53]. فعن ثابت، أن صلة بن أشيم، وأصحابه أبصروا رجلا قد أسبل إزاره فأراد أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم، فقال صلة: (دعوني أكفيكموه، فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة، قال: فما ذاك يا عم؟ قال: ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمة عين، فقال لأصحابه: هذا كان مثل لو أخذتموه بشدة؟، قال: لا أفعل، وفعل) (¬9). 6 - أن لا تكون النصيحة على شرط القبول: قال ابن حزم: (ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة، ولكن حكم الأمير مع رعيته والسيد مع عبيده) (¬10). ¬

(¬1) رواه البخاري (1). (¬2) ((صيد الأفكار)) لحسين المهدي (2/ 60). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 182). (¬4) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (ص 99). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 224). (¬6) ((رسائل ابن حزم)) (ص 364). (¬7) ((أدب المجالسة وحمد اللسان)) لابن عبد البر (ص107)، و ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 100). (¬8) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 134). (¬9) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص90). (¬10) ((رسائل ابن حزم)) (ص 364).

وسائل وأساليب النصيحة

وسائل وأساليب النصيحة البدء بقضاء حاجته ثم النصيحة: ومما يدل على ذلك ما روي عن حكيم بن حزام قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل، ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم، فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر دعاه ليعطيه فيأبى أن يقبله فقال يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله)) (¬1). تقديم الهدية: الهدية لها أثرها في النفس، وبنفس الوقت يمكن أن تحمل معاني تربوية، ووصايا إيمانية. التواصل بالرسائل: وهي وسيلة جيدة للتناصح، وقد استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام، وما زال السلف الصالح يقتفون أثره في هذه السنة المباركة. الزيارة للعلماء والدعاة: أن المنصوح قد يتقبل من شخص دون آخر؛ ولذلك فقد يكون من وسائل قبول بعض الناس للنصيحة زيارة عالم تقي أو داعية مشهور يسوق النصيحة بأسلوبه المؤثر. الصحبة والخلطة: الصحبة من الوسائل التي توثق الصلة بالأشخاص وتقرب الداعية من المدعو، وكلما كانت العلاقة أعمق كان التناصح أكبر وأسرع، فالعلاقات السطحية بالمدعوين قد لا تمكن الداعية من إيصال نصحه إليهم، ولذلك لا بد من اللقاءات الأخوية، والرحلات التربوية، والمخيمات الدعوية (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (1472). ومسلم (1035) مختصراً. (¬2) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (4/ 22) بتصرف يسير.

نماذج في النصيحة والتناصح

نماذج من نصائح الرسول صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناصح صحابته في جميع الأمور فكان يناصحهم في الأمور التعبدية والقضايا الدعوية، والشؤون الأسرية وغيرها، - فعن معاذ رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب. فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬1). - وأيضاً نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ وأبا موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن فقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) (¬2). - وتعليمه صلى الله عليه وسلم للرجل الصلاة، والمشهور بحديث المسيء صلاته فعن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني فقال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وافعل ذلك في صلاتك كلها)) (¬3). - وعن فاطمة بنت قيس- رضي الله عنها- ((أنّ أبا عمرو بن حفص طلّقها البتّة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله! ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له، فقال لها: ليس لك عليه نفقة، فأمرها أن تعتدّ في بيت أمّ شريك، ثمّ قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي. اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم، فإنّه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني، قالت: فلمّا حللت ذكرت له أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثمّ قال: انكحي أسامة، فنكحته، فجعل الله فيه خيرا كثيرا واغتبطت)) (¬4). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ((كنت عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتاه رجل فأخبره أنّه تزوّج امرأة من الأنصار. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها، فإنّ في أعين الأنصار شيئا)) (¬5). - وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: ((إنّ عبد الله هلك وترك تسع بنات (أو قال: سبع) فتزوّجت امرأة ثيّبا. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا جابر، تزوّجت؟ قال: قلت: نعم. قال: فبكر أم ثيّب؟ قال: قلت: بل ثيّب يا رسول الله! قال: فهلّا جارية تلاعبها وتلاعبك (أو قال تضاحكها وتضاحكك) قال: قلت له: إنّ عبد الله هلك وترك تسع بنات (أو سبع) وإنّي كرهت أن آتيهنّ أو أجيئهنّ بمثلهنّ. فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهنّ وتصلحهنّ. قال: فبارك الله لك أو قال لي خيرا)) (¬6). - وعن جابر بن عبد الله قال ((أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: ألك مال غيره. فقال لا. فقال: من يشتريه مني. فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا. يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك)) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (19). (¬2) رواه البخاري (3038) ومسلم (1733). (¬3) رواه البخاري (757)، ومسلم (397). (¬4) رواه مسلم (1480). (¬5) رواه مسلم (1424). (¬6) رواه مسلم (715)، وجاء عند البخاري (5367) بلفظ آخر. (¬7) رواه مسلم (997). ورواه البخاري بألفاظ مختلفة.

نماذج في التناصح بين الصحابة:

نماذج في التناصح بين الصحابة: - عن أبي جحيفة، قال ((آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل قال فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان)) (¬1). - وعن علقمة قال: (كنا جلوسا مع ابن مسعود فجاء خباب فقال يا أبا عبد الرحمن أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرؤوا كما تقرأ قال أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك قال أجل قال اقرأ يا علقمة فقال زيد بن حدير أخو زياد بن حدير أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا قال أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قومك وقومه فقرأت خمسين آية من سورة مريم فقال عبد الله كيف ترى قال قد أحسن قال عبد الله ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه ثم التفت إلى خباب، وعليه خاتم من ذهب فقال ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال أما إنك لن تراه علي بعد اليوم فألقاه) (¬2). - وعن ابن حرملة، مولى أسامة بن زيد (أن الحجاج بن أيمن ابن أم أيمن، - وكان أيمن أخا أسامة لأمه، وهو رجل من الأنصار - فدخل الحجاج فصلى صلاة لا يتم ركوعه ولا سجوده، فرآه ابن عمر، فدعاه حين فرغ، فقال: يا ابن أخي، أتحسب أنك صليت؟ إنك لم تصل، فعد لصلاتك) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1968). (¬2) رواه البخاري (4961). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص95)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (25/ 90).

نماذج من نصائح السلف:

نماذج من نصائح السلف: - دخل عطاء بن أبي رباح على هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: (مرحباً مرحباً هاهنا، هاهنا، فرفعه حتى مسّت ركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا. فقال هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين أهل الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم تقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم؛ قال: نعم، يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاءين وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقادة الإسلام ترد فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن ترد فيهم صدقاتهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. أهل الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوّكم قد أجريتم لهم أرزاقاً تدرّها عليهم، فإنهم إن يهلكوا غزيتم، قال: نعم، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم يا غلام. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا تجبى صغارهم ولا تتعتع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تجبونه معونة لكم على عدوكم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن لا يحملوا ما لا يطيقون. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد. قال: وأكبّ هشام، وقام عطاء. فلما كنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما أدري ما فيه أدراهم أم دنانير! وقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا، قال: لا أسألكم عليه أجراً، إن أجري إلا عند ربّ العالمين. ثم خرج عطاء، ولا والله ما شرب عندهم حسوة من ماء فما فوقه) (¬1). - وعن هارون بن عبد الله الحمَّال قال: (جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدق علي الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فبادرت أن خرجت إليه، فمسَّاني ومسَّيته، قلت: حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، شغلت اليوم قلبي، قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس) (¬2). ¬

(¬1) ((مختصر تاريخ دمشق)) (17/ 66). (¬2) ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 411).

الأمثال في النصيحة

الأمثال في النصيحة 1 - أّخُوكَ مَنْ صَدَقَكَ النَّصِيحَة. يعني النصيحة في أمر الدين والدنيا: أي صدقك في النصيحة (¬1). 2 - اسْمَعْ مِمَّنْ لاَ يَجِدُ مِنْكَ بُدّاً. يضرب في قبول النصيحة أي اقْبَلْ نصيحة من يطلب نفعك يعني الأبوين ومن لا يستجلب بنصحك نفعا إلى نفسه بل إلى نفسك (¬2). 3 - إنَّ كَثِيرَ النّصِيحَةِ يَهجُمُ عَلَى كَثِيرِ الظِّنَّةِ أي إذا بالَغْتَ في النصيحة اتَّهمك من تنصحه (¬3). ¬

(¬1) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 23). (¬2) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 344). (¬3) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 67).

النصيحة في واحة الشعر ..

النصيحة في واحة الشعر .. قال علي بن مقرب: وما كُلُّ من يبدي المودة ناصحٌ ... كما ليس كُلُّ البرقِ يصدقُ خائلهْ وقد يظهرُ المقهورُ أقصى مودةٍ ... وحبالُ مبثوثةٌ ومناجلهْ (¬1) وقال عبد الله السابوري: من كانَ ذا نصيحةٍ نَهاكا ... ومن يكنْ ذا بُغْضةٍ أغراكا (¬2) وقال التَّوزي: تَنَخَّلْتُ آرائي وسُقْتُ نصيحتي ... إِلى غيرِ طَلْقٍ للنصحِ ولا هشِّ فلما أبى نُصْحي سَلَكْتُ سبيلهُ ... وأوسعتهُ من قولِ زُورٍ ومن غِشِّ (¬3) وقال المعري: متى يولكَ المرءُ الغريبُ نصيحةً ... فلا تُقْصهِ واجبُ الرفيقَ وإِنَ ذَّما ولا تكُ ممن قَرَّبَ العبدَ شارخاً ... وضَيَّعَه إِذا صار من كِبَرٍ هَمَّاً (¬4) وقال الأصمعي: النصحُ أرخصً ماباع الرجالُ فلا ... ترددْ على ناصحٍ نُصْحاً ولا تَلُمِ إِن النصائحَ لا تخفى مَناهِجُها ... على الرجالِ ذوي الألبابِ والفهمِ (¬5) وقال الصاحب شرف الدين الأنصاري: واصبِرْ على مُرِّ النصيحةِ واغْتَبطْ ... بودادِ من لا قالَ بالإِحفاظِ إِن تنسَ ما أجرمْتَ فهو مسطرٌ ... بأكفِّ أملاكٍ له حُفاظِ (¬6) وقال شوقي: آفةُ النصحِ أن يكون لجاجاً ... وأذى النُّصحِ أن يكون جِهارا وقال: لكَ نُصْحي وما عليكَ جِدالي ... آفةُ النصحِ أن يكون جِدالا (¬7) وقال عبد الله بن معاوية الجعفري: لا تبخلنْ بالنصحِ إِن ضؤولةٍ ... بالمرءِ غشِ المستشير المجهد وأجبْ أخاكَ إِذا استشارَكَ ناصحاً ... وعلى أخيكَ نصيحةً لاتردُدِ (¬8) وقال الأرجاني: فما كُلُّ ذي نُصْحٍ بمؤتيكَ نُصْحَهُ ... ولا كل مؤتٍ نُصْحَهُ بلبيبِ ولكن إِذا ما استجمعا عند واحدٍ ... فحُقَّ له من طاعةٍ بنَصيبِ (¬9) ... ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 519). (¬2) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 514). (¬3) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 512). (¬4) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 512). (¬5) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 510). (¬6) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 511). (¬7) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 510). (¬8) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 510). (¬9) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص 510).

الورع

معنى الورع لغة واصطلاحاً معنى الورع لغة: الورع: التَّحرُّجُ. توَرَّع عن كذا أَي تحرَّج. والورِع، بكسر الرَّاءِ: الرجلُ التَّقِي المُتَحَرِّج، وَهُوَ وَرِعٌ بيِّن الورَعِ، ... ويقال: فلان سيئ الرِّعةِ أَي قليل الورع ... والورَعُ في الأَصل: الكَف عن المحارِمِ والتحَرُّجُ مِنْهُ وتورَّع من كذا، ثُمَّ اسْتعِير لِلْكفِّ عَنِ الْمباح والْحَلَالِ (¬1). معنى الورع اصطلاحاً: الورع: هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات (¬2). وعرفه القرافي بقوله: (ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس) (¬3). وقال الكفوي: (الورع: الاجتناب عن الشبهات سواء كان تحصيلا أو غير تحصيل، إذ قد يفعل المرء فعلا تورعا وقد يتركه تورعا أيضا ويستعمل بمعنى التقوى وهو الكف عن المحرمات القطعية) (¬4). ¬

(¬1) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (8/ 388). و ((تاج العروس)) للزبيدي (22/ 313). (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 252). (¬3) ((الفروق)) للقرافي (4/ 210). (¬4) ((الكليات)) لأبي البقاء (ص: 944).

الفرق بين الزهد والورع

الفرق بين الزهد والورع قال ابن القيم: (والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة) (¬1). ¬

(¬1) ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 181).

فضل الورع والحث عليه:

فضل الورع والحث عليه: - قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]. قال السعدي: (هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ويخبرهم أنه بما يعملون عليم، فكل عمل عملوه، وكل سعي اكتسبوه، فإن الله يعلمه، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله، فدل هذا على أن الرسل كلهم، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل، وتحريم الخبائث منها) (¬1). - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)) (¬2). قال المناوي: (لأن الورع دائم المراقبة للحق مستديم الحذر أن يمزج باطلا بحق كما قال الحبر كان عمر كالطير الحذر والمراقبة توزن بالمشاهدة ودوام الحذر يعقب النجاة والظفر) (¬3). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس)) (¬4). (أي داوم عليه في جميع الحالات حتى يصير طبعا لك فتكون أعبد الناس لدوام مراقبتك واشتغالك بأفضل العبادات بظاهرك وباطنك بإيثار حقك على حظك وهذا كمال العبودية ولهذا قال الحسن: ملاك الدين الورع وقد رجع ابن المبارك من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها وأبو يزيد إلى همدان لرد نملة وجدها في قرطم اشتراه وقال: غريبة عن وطنها وابن أدهم من القدس للبصرة لرد تمرة فانظر إلى قوة ورع هؤلاء وتشبه بهم إن أردت السعادة) (¬5). - وعن الحسن بن علي- رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) (¬6). قال ابن حجر: (قوله يريبك بفتح أوله ويجوز الضم يقال رابه يريبه بالفتح وأرابه يريبه بالضم ريبة وهي الشك والتردد والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يشك فيه أصل عظيم في الورع ... قال الخطابي كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه) (¬7). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال: أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا)) (¬8). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 553). (¬2) رواه الحاكم (1/ 170) (314)، والبيهقي في ((الآداب)) (1/ 335) (830). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (5864)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4214). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 487). (¬4) رواه ابن ماجه (4217)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (13/ 365)، والبيهقي في ((الشعب)) (7/ 499) (5366). وحسن إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 240). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 52). (¬6) رواه الترمذي (2516)، والنسائي (5711)، وأحمد (1/ 200) (1723). وصححه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. (¬7) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 52). (¬8) رواه البخاري (3472) ومسلم (1721).

- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬1). قال ابن رجب: (هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه ... ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين: أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين. ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك. القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم. أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (¬2). وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬2) رواه الترمذي (2516)، والنسائي (5711)، وأحمد (1/ 200) (1723). وصححه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 52).

أقوال السلف والعلماء في الورع

أقوال السلف والعلماء في الورع - قال أبو الدرداء: (تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام (¬1). - وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. - وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالا يتقى وروي عن ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. - وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال. - وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه) (¬2). - (وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات. - وقال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله. وقال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنهما يبذلان في طلب الرياسة. - وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا. - وقال يحيى بن معاذ: الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل. وقال: الورع على وجهين. ورع في الظاهر، وورع في الباطن، فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سواه. وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء. - وقيل: الورع الخروج من الشهوات، وترك السيئات. - وقيل: من دق في الدنيا ورعه - أو نظره - جل في القيامة خطره. - وقال يونس بن عبيد: الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين. - وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه. - وقال سهل: الحلال هو الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه، وسأل الحسن غلاما. فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع. قال: فما آفته؟ قال: الطمع. فعجب الحسن منه. - وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. - وقال أبو هريرة: جلساء الله غدا أهل الورع والزهد (¬3). - وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس. - وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام) (¬4). - وقال الهروي: (الورع توق مستقصى على حذر. وتحرج على تعظيم) (¬5). - وقال ابن مسكويه: (وأما الورع فهو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس) (¬6). - وقال سفيان: (عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك) (¬7). - وقال إبراهيم بن داود المرء يزري بلبه طمعه ... والدهر قدر كثيرة خدعه والناس إخوان كل ذي نشد ... قد خاب عبد إليهم ضرعه والمرء إن كان عاقلا ورعا ... أخرسه عن عيوبهم ورعه كما المريض السقيم يشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه (¬8) ... ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (2/ 19)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 212)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/ 160). (¬2) ((فتح الباري)) لابن رجب (1/ 205). (¬3) ((الرسالة القشيرية)) (1/ 236). (¬4) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 25). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 25). (¬6) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص 29). (¬7) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص 112). (¬8) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص 123).

أقسام الورع

أقسام الورع 1 - الورع المشروع: قال ابن تيمية: (فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو: اتقاء من يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح. ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام وإن أدخلت فيها المكروهات قلت: نخاف أن يكون سببا للنقص والعذاب.) (¬1). 2 - الورع الواجب: (وأما الورع الواجب: فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه؛ فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع. وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثما من تركه مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه. والأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه)) (¬2) وهذا في الصحيحين. وفي السنن قوله: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (¬3) وقوله: ((البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب)) (¬4) وقوله في صحيح مسلم في رواية: ((البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس)) (¬5) ((وإنه رأى على فراشه تمرة فقال: لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)) (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 137). (¬2) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (2516)، والنسائي (5711)، وأحمد (1/ 200) (1723). وصححه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. (¬4) رواه أحمد (4/ 228) (18035)، والدارمي (3/ 1649) (2575)، والطبراني في ((الكبير)) (22/ 148) من حديث وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه. وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 351)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 294): رواه الطبراني، وأحمد باختصار عنه، ورجال أحد إسنادي الطبراني ثقات. (¬5) رواه مسلم (2553)،وابن أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (ص224) واللفظ له. (¬6) رواه البخاري (2431)، ومسلم (1071) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأما في الواجبات ... لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم؛ وحق جار ومسكين؛ وصاحب ويتيم وابن سبيل؛ وحق مسلم وذي سلطان؛ وذي علم. وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر؛ وعن الجهاد في سبيل الله؛ إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك. وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة؛ والحج والجهاد؛ ونصيحة المسلمين والرحمة لهم وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة. الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى) (¬1). 1 - الورع الفاسد: قال ابن تيمية: (كثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ [النجم: 23] وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات؛ فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان؛ لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة. وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع. وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا)) (¬2). وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب. بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: ((ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم وفي رواية: أخشاهم وأعلمهم بحدوده له)) (¬3) وكذلك حديث صاحب القبلة. ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم. الثالثة: جهة المعارض الراجح. هذا أصعب من الذي قبله؛ فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع؛ ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح؛ وبالعكس فهذا هذا. وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط؛ وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب) (¬4). وقسم الراغب الأصفهاني الورع إلى ثلاث أنواع: فقال: 1 - (واجب: وهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة. 2 - وندب: وهو الوقوف عن الشبهات، وذلك للأواسط. 3 - وفضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 137). (¬2) رواه مسلم (2670). (¬3) رواه البخاري (6101) من طريق عائشة رضي الله عنها بلفظ: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية))، ورواه مسلم (2356) بلفظ آخر. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 137). (¬5) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 323).

فوائد وآثار الورع

فوائد وآثار الورع 1 - من فوائده أنه يجلب محبة الله سبحانه وتعالى. 2 - فيه الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - فيه ترك الشبهات والبعد عنها. 4 - به يطيب المطعم والمشرب. 5 - أنه سبب لاستجابة الدعاء. 6 - أنه خير خصال الدين كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. 7 - فيه الاستبراء للدين والعرض. 8 - أنه سمة من سمات العُبَّاد. 9 - الورع سبب من أسباب كمال التقوى.

درجات الورع

درجات الورع قال الهروي رحمه الله: (الورع على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: تجنب القبائح لصون النفس، وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان. الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به، إبقاء على الصيانة والتقوى، وصعودا عن الدناءة، وتخلصا عن اقتحام الحدود. الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجميع) (¬1). درجات الورع عن الحرام عند الغزالي: قال الغزالي رحمه الله: (الورع عن الحرام على أربع درجات: الأولى: ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء. الثانية: ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم ولكن المفتى يرخص في التناول بناء على الظاهر فهو من مواقع الشبهة على الجملة. الثالثة: مالا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس وهذا ورع المتقين. الرابعة: ما لا بأس به أصلا ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس ولكنه يتناول لغير الله وعلى غير نية التقوِّي به على عبادة الله أو تتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية والامتناع منه ورع الصديقين) (¬2). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 22). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 94).

صور ومظاهر الورع

صور ومظاهر الورع لا شك أن الورع مهم في حياتنا الاجتماعية وحريُّ بنا أن نترك كل أمر مشكوك فيه وعليه شبهة، والورع له صور ومظاهر عدة فقد ذكر ابن أبي الدنيا مظاهر للورع منها: 1 - الورع في النظر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)) (¬1). عن أنس قال: ((إذا مرت بك امرأة، فغمض عينيك حتى تجاوزك)) (¬2). عن داود الطائي قال: ((كانوا يكرهون فضول النظر)) (¬3). قال عمرو بن مرة: ((ما أحب أني بصير كنت نظرت نظرة، وأنا شاب)) (¬4). وقال وكيع خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد فقال: (إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا) (¬5). 2 - الورع في السمع: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من استمع إلى حديث قوم لا يحبون أن يستمع حديثهم، أذيب في أذنه الآنك)) (¬6). عن نافع قال: (كنت مع ابن عمر في طريق فسمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، ثم قال: يا نافع أتسمع؟ قلت: نعم. فأخرج إصبعيه من أذنيه، ثم عدل عن الطريق، ثم قال: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا. فأخرج إصبعيه من أذنيه، ثم عدل إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع) (¬7). 3 - الورع في الشم: فعن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر والله لوددت أني أجد امرأة حسنة تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك قال لا قالت ولم قال إني أخشى أن تأخذيه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين عنقك فأصيب فضلا عن المسلمين (¬8). وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه أتي بغنائم مسك، فأخذ بأنفه، فقالوا يا أمير المؤمنين: تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: إنما ينتفع من هذا بريحه؛ فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين (¬9). 4 - الورع في اللسان: أن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر رحمهما الله وهو يمد لسانه، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال: هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته)) (¬10). وعن الحسن بن حي قال: (فتشت عن الورع، فلم أجده في شيء أقل منه في اللسان) (¬11). وعن الفضيل بن عياض قال: (أشد الورع في اللسان) (¬12). وعن يونس بن عبيد قال: (إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه) (¬13). وسئل عبد الله المبارك أي الورع أشد؟ قال: (اللسان) (¬14). 5 - الورع في البطن: ¬

(¬1) رواه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (5/ 353) (23041) من حديث بريدة رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك. وقال الحاكم (2/ 212): صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((الورع)) (ص66). (¬3) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 62). (¬4) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 62). (¬5) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 63). (¬6) رواه أحمد (2/ 504) (10556)، وابن أبي الدنيا في ((الورع)) (ص73). (¬7) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 68). (¬8) رواه أحمد في ((الزهد)) (ص98)، وابن شبه في ((تاريخ المدينة)) (2/ 703). (¬9) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 68). (¬10) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص50)، وأبو يعلى (1/ 17) (5)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 24) (4596). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7605)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (535): صحيح الإسناد على شرط البخاري. (¬11) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77). (¬12) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77). (¬13) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77). (¬14) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172]، ثم ذكر العبد يطيل السفر أشعث أغبر رافعا يديه يا رب يا رب. مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لهذا)) (¬1). عن القاسم قال: كان لأبي بكر رحمه الله غلام يأتيه بكسبه كل ليلة ويسأله من أين أصبت؟ فيقول: أصبت من كذا فأتاه ذات ليلة بكسبه، وأبو بكر قد ظل صائما، فنسي أن يسأله، فوضع يده فأكل، فقال الغلام: يا أبا بكر كنت تسألني كل ليلة عن كسبي إذا جئتك فلم أرك سألتني عنه الليلة؟ قال: فأخبرني من أين هو؟ قال: تكهنت لقوم في الجاهلية، فلم يعطوني أجري حتى كان اليوم فأعطوني، وإنما كانت كذبة، فأدخل أبو بكر يده في حلقه، فجعل يتقيأ فذهب الغلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: إني كذبت أبا بكر فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، أحسبه قال ضحكا شديدا، وقال: ((إن أبا بكر يكره أن يدخل بطنه إلا طيبا)) (¬2). وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم ألا يجعل في بطنه إلا طيبا فليفعل؛ فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه)) (¬3). وعن أبي صالح الحنفي قال: (دخلت على أم كلثوم فقالت: ائتوا أبا صالح بطعام فأتوني بمرقة فيها جنوب، فقلت أتطعموني هذا وأنتم أمراء؟ قالت: كيف لو رأيت أمير المؤمنين عليا، وأتي بأترج، فأخذ الحسن أو الحسين منها أترجة لصبي لهم، فانتزعها من يده، وقسمها بين المسلمين) (¬4). 6 - الورع في الفرج: قال سفيان بن عيينة: (لو أن رجلا لعب بغلام بين أصبعين من أصابع رجله يريد بذلك الشهوة، لكان لواطا) (¬5). 7 - الورع في الفتوى: كان الصحابة ومن بعدهم من التابعين رضي الله عنهم يتورعون أشد الورع عن الفتوى فكانوا يدفعون الفتوى عن أنفسهم ولا يُقدمون عليها فعن البراء رضي الله عنه قال: (لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبُه الفتوى) (¬6). وقال ابن أبي ليلى: (أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء إلا ودّ أنّ أخاه كفاه) (¬7). وقال عطاء بن السائب: (أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد) (¬8). ويقول نفيس بن الأشعث: (كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من فقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان) (¬9). وقال أبو حصين عثمان بن عاصم التابعي الجليل: (إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر) (¬10). ¬

(¬1) رواه مسلم (1015). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((الورع)) (ص84). (¬3) رواه البخاري (7152)، وابن أبي الدنيا في ((الورع)) (ص86) واللفظ له. (¬4) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 91). (¬5) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 94). (¬6) رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (8/ 276). (¬7) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 61). (¬8) ((من هدي السلف في طلب العلم)) أبو ياسر الزهراني (ص43). (¬9) ((صفة الصفوة)) لمحمد بن سيرين (2/ 144). (¬10) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 61).

وسائل اكتساب الورع

وسائل اكتساب الورع ذكر الحكيم الترمذي بعض الوسائل في اكتساب الورع فقال: (فالورع من التورع يكون بخمسة أشياء: أحدهما: بالعلم. الثاني: بتذكره منه لما عليه ورغبته فيما له. والثالث: بتذكره عظمة الله، وجلاله وقدرته وسلطانه، والرابع: بتذكره استحيائه من الملك الجبار. والخامس: بتذكره خوفه من غضب الله عليه، وبقائه له على الشبه) (¬1). ¬

(¬1) ((العقل والهوى)) للحكيم الترمذي.

نماذج في الورع

نماذج من ورع النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في الورع فكان زاهدا ورعاً، وقد ضرب لنا نموذجاً أعلى في الورع فهذا أنس رضي الله عنه يحكي لنا مشهد من مشاهد الورع فيقول: - ((مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها)) (¬1). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)) (¬2). قال ابن حجر: (والنكتة في ذكره هنا ما فيه من تعيين المحل الذي رأى فيه التمرة وهو فراشه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يأكلها وذلك أبلغ في الورع) (¬3). وقال المهلب (إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورعا وليس بواجب لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم) (¬4). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ((أنّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أخذ تمرة من تمر الصّدقة فجعلها في فيه، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالفارسيّة: كخ، كخ أما تعرف أنّا لا نأكل الصّدقة)) (¬5). - وعن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على القبر يوصي الحافر ((أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوك لقمة في فمه ثم قال أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها فأرسلت المرأة قالت يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطعميه الأسارى)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (2055)، ومسلم (1071) واللفظ للبخاري. (¬2) رواه البخاري (2432) ومسلم (1070). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 294). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 294). (¬5) رواه البخاري (3072). (¬6) رواه أبو داود (3332)، والدارقطني (5/ 514)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (5/ 547) (10825). وصحح إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 296)، والرباعي في ((فتح الغفار)) (2/ 751)، والألباني في ((الإرواء)) (3/ 196).

نماذج من ورع الصحابة:

نماذج من ورع الصحابة: 1 - ورع أبي بكر رضي الله عنه: - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ (¬1). 2 - ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - عن عاصم بن عمر، عن عمر قال: (إنه لا أجده يحل لي أن آكل من مالكم هذا، إلا كما كنت آكل من صلب مالي: الخبز والزيت والخبز والسمن) قال: فكان ربما يؤتى بالجفنة قد صنعت بالزيت، ومما يليه منها سمن، فيعتذر إلى القوم ويقول: (إني رجل عربي، ولست أستمرئ الزيت) (¬2). - وعن نافع أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة، فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف، فقال: " إنما هاجر به أبواه يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه" (¬3). قال ابن عثيمين: (وهذا يدل دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهكذا يجب على من تولى شيئاً من أمور المسلمين ألا يحابي قريباً لقربه، ولا غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره، بل ينزل كل أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: يا أبت، أنا مهاجر ولو شئت لبقيت في مكة؛ بل وافق على ما فرضه له أبوه) (¬4). 3 - ورع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: - عن قزعة، قال: رأيت على ابن عمر ثيابا خشنة أو جشبة فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان، وتقر عيناي أن أراه عليك. قال: أرنيه. فلمسه، وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنه من قطن. قال: إني أخاف أن ألبسه، أخاف أكون مختالا فخورا، والله لا يحب كل مختال فخور (¬5). - وعن طاووس قال: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3842). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((الورع)) (ص114). (¬3) رواه البخاري (3912). (¬4) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 508). (¬5) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 302). (¬6) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 345).

نماذج من ورع السلف

نماذج من ورع السلف 1 - ورع عمر بن عبد العزيز: - عن ابن السماك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحا بين الناس، فجاء ابن له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح، فوثب إليه ففك يده فأخذ تلك التفاحة فطرحها في التفاح، فذهب إلى أمه مستغيثا فقالت له: مالك أي بني؟ فأخبرها، فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحا، فأكلت وأطعمته، ورفعت لعمر، فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها، فأخرجت له طبقا من تفاح، فقال: (من أين هذا يا فاطمة؟) فأخبرته فقال: (رحمك الله، والله إن كنت لأشتهيه) (¬1). - وعن فاطمة بنت عبد الملك قالت: اشتهى عمر بن عبد العزيز يوما عسلا فلم يكن عندنا، فوجهنا رجلا على دابة من دواب البريد إلى بعلبك، فأتى بعسل، فقلنا يوما: إنك ذكرت عسلا وعندنا عسل، فهل لك فيه؟ قال: (نعم). فأتيناه به فشرب، ثم قال: (من أين لكم هذا العسل؟) قالت: قلت وجهنا رجلا على دابة من دواب البريد بدينارين إلى بعلبك فاشترى لنا عسلا. قالت: فأرسل إلى الرجل فجاء، فقال: (انطلق بهذا العسل إلى السوق، فبعه، فاردد إلينا رأس مالنا، وانظر الفضل، فاجعله في علف دواب البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيأت) (¬2). 2 - ورع محمد بن سيرين: - عن العلاء بن زياد أنه كان يقول (لو كنت متمنيا لتمنيت فقه الحسن وورع ابن سيرين وصواب مطرف وصلاة مسلم بن يسار) (¬3). - وعن عاصم قال: (سمعت مورقا العجلي يقول: ما رأيت أحدا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين. وقال عاصم: وذكر محمد عند أبي قلابة، فقال: اصرفوه كيف شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعا، وأملككم لنفسه) (¬4). - وقال بكر بن عبد الله المزني: (من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا، فلينظر إلى محمد بن سيرين. وقال هشام بن حسان: كان محمد يتجر، فإذا ارتاب في شيء، تركه) (¬5). - وعن هشام بن حسان: (أن ابن سيرين اشترى بيعا من منونيا (¬6)، فأشرف فيه على ربح ثمانين ألفا، فعرض في قلبه شيء، فتركه. قال هشام: ما هو – والله - بربا. - وقال: محمد بن سعد: سألت الأنصاري عن سبب الدين الذي ركب محمد بن سيرين حتى حبس؟ قال: اشترى طعاما بأربعين ألفا، فأخبر عن أصل الطعام بشيء، فكرهه، فتركه، أو تصدق به، فحبس على المال، حبسته امرأة، وكان الذي حبسه مالك بن المنذر. وقال هشام: ترك محمد أربعين ألفا في شيء ما يرون به اليوم بأسا) (¬7). 3 - ورع امرأة من الصالحات: عن العباس بن سهم قال: (أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يديها من العجين، وقالت هذا طعام قد صار لنا فيه شريك) (¬8). ¬

(¬1) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 124). (¬2) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 124). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 73). (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 186). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 191). (¬6) منونيا: قرية من قرى " نهر الملك " كانت أولا مدينة ولها ذكر في أخبار الفرس. (¬7) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 192). (¬8) ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 99).

نماذج من ورع العلماء المتقدمين

نماذج من ورع العلماء المتقدمين 1 - ورع عبد الله بن المبارك: - عن الحسن بن عرفة قال: (قال لي ابن المبارك: استعرت قلما بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو، نظرت، فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه) (¬1). - وقال الحسن بن الربيع: (لما احتضر ابن المبارك في السفر، قال: أشتهي سويقا. فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان، وكان معنا في السفينة، فذكرنا ذلك لعبد الله، فقال: دعوه. فمات ولم يشربه) (¬2). 2 - ورع أبي وائل شقيق بن سلمة: (كان أبو وائل يقول لجاريته، إذا جاء يحيى – يعني ابنه – بشيء فلا تقبليه، وإذا جاء أصحابي بشيء، فخذيه. وكان ابنه قاضيا على الكناسة. قال: وكان لأبي وائل -رحمه الله- خص من قصب، يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وتصدق به، فإذا رجع أنشأ بناءه. قلت:- القائل الذهبي - قد كان هذا السيد رأسا في العلم والعمل) (¬3). ¬

(¬1) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (15/ 411). (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (15/ 428). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (7/ 181).

نماذج من ورع العلماء المعاصرين

نماذج من ورع العلماء المعاصرين 1 - ورع الشيخ ابن باز: كان الشيخ ابن باز رحمه الله ورعاً وكان من ورعه (أنه لا يقبل هدية من أحد؛ لأنه في عمل حكومي، وإذا قبلها كافأ عليها، وكان يقول: إذا تساوي مائة فأعطوه مائتين، وإذا كانت تساوي مائتين فأعطوه أربعمائة، وأخبروه بألا يقدم لنا شيئاً مرة أخرى. وإذا أعطي شيئاً على سبيل الهدية من طيب أو سواك، أو بشت أو نحو ذلك، وكان بجانبه أحد أعطاه إياه، وقال: هدية مني إليك) (¬1). وفي يوم من الأيام جاء الملك فيصل إلى المدينة النبوية فأراد الشيخ ابن باز أن يزوره (ولم يكن لديه سيارة؛ إذ كانت سيارته تحتاج إلى بعض الإصلاح فأخبروا سماحته بذلك فقال: خذوا سيارة أجرة، فاستأجروا له، وذهبوا إلى الملك. ولما عاد سماحة الشيخ إلى منزله أُخبر الملك فيصل بأن الشيخ جاء بسيارة أجرة، فتكدر الملك كثيراً وأرسل إلى سماحة الشيخ سيارة، وأخبره بتكدره. ولما أُخبر سماحة الشيخ بذلك قال: ردوها، لا حاجة لنا بها، سيارتنا تكفينا. يقول الشيخ إبراهيم: فقلت يا سماحة الشيخ هذه من الملك، وأنت تستحقها، فأنت تقوم بعمل عظيم، ومصلحة عامة، والذي أرسلها ولي الأمر، وإذا رددتها ستكون في نفسه، والذي أراه أن تقبلها. فقال سماحة الشيخ: دعني أصلي الاستخارة، فصلى، وبعد الصلاة قال: لا بأس نأخذها، وكتب للملك ودعا له) (¬2). 2 - ورع الشيخ ابن عثيمين: - كان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ورعاً زاهداً عن الدنيا، وإليك نماذج من ورعه رحمه الله فهذا موقف (يذكره الدكتور عبد الله بن إبراهيم المطلق، يدل على الورع الذي طالما تحلى به الشيخ، ففي شهر شوال 1417 هجرية استضافته جامعة الإمام في دورة المبتعثين إلى الخارج وقد تزامن ذلك مع اجتماع هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله بن باز فأذن له سماحة العلامة رئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فأذن له فحضر، وفي نهاية المحاضرة طلب منه الدكتور المطلق أن يوقع على ورقة يستلم بموجبها مكافأة مالية مقابل إلقاء المحاضرة، فأخذ الشيخ الورقة ومزقها أمام الدكتور المطلق وقال له: نحن محسوبون الآن على هيئة كبار العلماء) (¬3). - ومن ورعه أيضاً (عندما يتغيب عن إمامة الجامع الكبير في عنيزة حيث كان يتقاضى راتباً شهرياً مقابل إمامته للجامع فإنه يدفع ما يقابل تغيبه ولو كان يوما واحداً لمن استخلفه في الإمامة وكذلك إذا تأخر عن العمل - عندما كان يدرس في المعهد العلمي في عنيزة – ولو لبضع دقائق أثبت ذلك في سجل الحضور وكتب أمامه بغير عذر) (¬4). - ومما يدل على ورعه أيضاً (كان رحمه الله إذا احتاج إلى أن يملأ قلمه بالحبر من الدواة من مكتبة الجامعة ليقوم باستعماله فيما يخص عمل الجامعة فإنه قبل أن ينصرف يفرغ ما تبقى في قلمه من الحبر في الدواة لأنه يخص الجامعة) (¬5). ¬

(¬1) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) محمد إبراهيم الحمد (ص: 157). (¬2) ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز)) محمد إبراهيم الحمد (ص: 158). (¬3) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص: 23). (¬4) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص: 24). (¬5) ((الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين)) لوليد بن أحمد الحسين (ص: 25).

الورع يكون عن المحرمات والمكروهات

الورع يكون عن المحرمات والمكروهات قال ابن تيمية: (الورع من باب وجود النفرة والكراهة للمتورع عنه وانتفاء الإرادة إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة. وأما وجود الكراهة فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة فأما إذا فرض ما لا منفعة فيه ولا مضرة أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه؛ فهذا لا يصلح أن يراد ولا يصلح أن يكره فيصلح فيه الزهد ولا يصلح فيه الورع فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد من غير عكس وهذا بين. فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح ألا يراد ولا يرغب فيه فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة؛ ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس. وليس كل ما صلح ألا يراد يصلح أن يكره؛ بل قد يعرض من الأمور ما لا تصلح إرادته ولا كراهته ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به ولا النهي عنه. وبهذا يتبين: أن الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع؛ وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع. وأما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل) (¬1). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 618).

الورع في واحة الشعر ..

الورع في واحة الشعر .. قال سفيان الثوري: إني وجدت فلا تظنوا غيره ... هذا التورع عند هذا الدرهم (¬1). وقال الشاعر: لا تطل الشكوى ففيه التلف ... والشكر لله الغني شرف لا يفسد دين الورى إلا الطمع ... حقا ولا يصلحه إلا الورع (¬2). وقال آخر: هل لكم بالله في بدعتكم ... من فقيه أو إمام يتبع مثل سفيان أخي الثوري الذي ... علم الناس خفيات الورع (¬3). وقال علي بن محمد العلوي الجمال: وذي حسد يغتابني حيث لا يرى ... مكاني ويثني صالحا حيث أسمع تورعت أن أغتابه من ورائه ... وها هو ذا يغتابني متورع (¬4). وقال آخر: تورع ودع ما قد يريبك كله ... جميعا إلى ما لا يريبك تسلم وحافظ على أعضائك السبع جملة ... وراع حقوق الله في كل مسلم وكن راضيا بالله ربا وحاكما ... وفوض إليه في الأمور وسلم (¬5). وقال أبو عبد الله الواسطي: ليس الظريف بكامل في ظرفه ... حتى يكون عن الحرام عفيفا فإذا تورع عن محارم ربه ... فهناك يدعى في الأنام ظريفا (¬6). وقال آخر: جليل العطايا في دقيق التورع ... فدقق تنل عالي المقام المرفع وتسلم من المحظور في كل حالة ... وتغنم من الخيرات في كل موضع وتحمد جميل السعي بالفوز في غد ... فسارع إليه اليوم مع كل مسرع ولا تك مثلي وابناً متخلقاً ... لجوهر عمر عن شر مضيع (¬7). ... ¬

(¬1) ((مختصر شعب الإيمان للبيهقي)) لأبي القاسم الكرخي (ص86). (¬2) ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (3/ 43) (¬3) ((تحريم النظر في كتب الكلام)) لابن قدامة المقدسي (ص 40 – 41) (¬4) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (9/ 29) برقم (6215) (¬5) ((طبقات صلحاء اليمن)) لعبد الوهاب السكسكي (1/ 301). (¬6) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص 53). (¬7) ((مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان)) لأبي محمد عفيف اليافعي (2/ 126).

الوفاء بالعهد

معنى الوفاء لغة واصطلاحاً: معنى الوفاء لغة: الوفاءُ ضد الغَدْر يقال وَفَى بعهده وأَوْفَى بمعنى. قال ابن بري وقد جمعهما طُفَيْل الغَنَوِيُّ في بيت واحد في قوله: أَمَّا ابن طَوْقٍ فقد أَوْفَى بِذِمَّتِه ... كما وَفَى بِقلاصِ النَّجْمِ حادِيها (¬1) ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه (¬2). معنى الوفاء اصطلاحا: الوفاء هو: (ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء) (¬3). وقيل: (هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه وإن كان مجحفاً به) (¬4). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 398). (¬2) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص878). (¬3) انظر ((التعريفات)) للجرجاني (ص253). و ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص:339) (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص: 24).

الفرق بين الوفاء والصدق:

الفرق بين الوفاء والصدق: (قيل: هما أعم وأخص، فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء. فإن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول، لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول) (¬1). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 575).

أهمية الوفاء بالعهد:

أهمية الوفاء بالعهد: (الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور وذلك أن الوفاء صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بهما لأن فيه مع الكذب نقض العهد. والوفاء يختص بالإنسان فمن فقد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ [النحل: 91]) (¬1). (والصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمنون، والكذب في الوعد وفي العهد من الرزائل الخلقية التي يجتنبها المؤمنون ... ويشترك الوعد والعهد بأن كلا منهما إخبار بأمر جزم المخبر بأن يفعله، ويفترقان بأن العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد، من أيمان مؤكدة. والمواعدة مشاركة في الوعد بين فريقين، والمعاهدة مشاركة في العهد بين فريقين، فيعد كل من الفريقين المتواعدين صاحبه بما سيفعل، ويعاهد كل من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل) (¬2). (وقد وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات فقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] وقال: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 71] ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ [المائدة: 13] ومع هذه الأخلاق المتراكمة كظلمات بعضها فوق بعض يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقابل ذلك بحسن الخلق والصبر والتحمل: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] ما أروع هذا القرآن كيف يربي الرجال. واستمراراً لورود العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تكون جيلا ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] فالوفاء بالعهد ضمانة لأداء تلك الأوامر واجتناب ما ورد من نواهي ومن ثم يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق، وإخلاف العهد نقض للعهد، ينحط بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقا – وبخاصة إذا كان العهد مع الله – فإن المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77]) (¬3). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 292). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 501). (¬3) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 183).

فضل الوفاء بالعهد:

فضل الوفاء بالعهد: إن من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق ... الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات ... وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب ... لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده (¬1). فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خيار عباد الله الموفون المطيبون)) (¬2). وعن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة عن أبيه عن جده قال: استقرض مني النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفا فجاءه مال فدفعه إلي وقال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء)) (¬3). ¬

(¬1) ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص: 205). بتصرف. (¬2) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (13/ 289)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (36/ 388). (¬3) رواه النسائي (4683)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (277) من حديث عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه. وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (391)، والألباني في ((الإرواء)) (5/ 224).

الأمر بالوفاء بالعهد والوعد في القرآن والسنة

الأمر بالوفاء بالعهد والوعد في القرآن والسنة الأمر بالوفاء بالعهد والوعد من القرآن الكريم: وردت آيات في كتاب الله تحث على الوفاء بالعهد والوعد بسياق مختلف، منها: - قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]. - وقوله سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 17]. قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا [الإسراء: 17] يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا) (¬1). - وقال عزّ من قائل: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19]. قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق [الرعد:20] الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ [الأعراف:172]) (¬2). - وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10]. - وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. قال السعدي: (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم. والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع. ¬

(¬1) ((جامع البيان في تأويل أي القرآن)) للطبري (17/ 444). (¬2) ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 105).

فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها) (¬1). الأمر بالوفاء بالعهد والوعد من السنة النبوية: فقد وردت أحاديث تأمر بالوفاء بالعهد وتبين حقيقة الغدر وتنهى عنه وهي كثيرة فمنها: - ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) (¬2). - وعن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء)) فرجع معاوية (¬3). (ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء. وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلاّ بعد الإعلام به والإنذار فيه) (¬4). - وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح، فهو في ذمة الله. فلا تخفروا الله في عهده. فمن قتله، طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه)) (¬5). (أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد ((فلا تخفروا الله في ذمته)) (¬6) قال في النهاية: خفرت الرجل أجرته وحفظته وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه) (¬7). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬8). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 218). (¬2) رواه أحمد (5/ 323) (22809)، وابن حبان (1/ 506) (271)، والحاكم (4/ 399) (8066). وصحح إسناده الحاكم، وقال الذهبي: فيه إرسال. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 148): رجاله ثقات إلا أن المطلب لم يسمع من عبادة. (¬3) رواه أبو داود (2759)، والترمذي (1580)، وأحمد (4/ 385) (19455) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6480). (¬4) ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 275). (¬5) رواه ابن ماجه (3945)، والضياء في ((المختارة)) (1/ 152). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 167): رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (421). وقد رواه مسلم (657) بلفظ مقارب، من حديث جندب رضي الله عنه. (¬6) رواه ابن ماجه (3945)، والضياء في ((المختارة)) (1/ 152). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 167): رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (421). (¬7) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (2/ 14). (¬8) رواه البخاري (34)، ومسلم (58).

قال ابن عثيمين رحمه الله: (وأما إخلاف الوعد فحرام يجب الوفاء بالوعد سواء وعدته مالا أو وعدته إعانة تعينه في شيء أو أي أمر من الأمور إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد ويضبطها فإذا قال لأحد إخوانه أواعدك في المكان الفلاني فليحدد الساعة الفلانية حتى إذا تأخر الموعود وانصرف الواعد يكون له عذر حتى لا يربطه في المكان كثيرا وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون أنا واعدك ولا أخلفك وعدي إنجليزي يظنون أن الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحدا وأردت أن تؤكد إنه وعد مؤمن حتى لا يخلفه لأنه لا يخلف الوعد إلا المنافق) (¬1). - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) (¬2). قوله ((لكل غادر لواء)) قال النووي: (معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك) (¬3). وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف) (¬4). ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 47 - 48). (¬2) رواه مسلم (1735). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 43). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 284).

ما قيل في الوفاء

ما قيل في الوفاء - قال الأحنف: (لا صديق لملولٍ ولا وفاء لكذوبٍ ولا راحة لحسودٍ ولا مروءة لبخيلٍ ولا سؤدد لسيئ الخلق) (¬1). - وقيل لبعض الحكماء: (بأي شيء يعرف وفاء الرجل دون تجربة واختبار؟ قال بحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه - وعن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه) (¬2). - وقال ابن مفلح: (كان يقال كما يتوخى للوديعة أهل الأمانة والثقة كذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر) (¬3). - وقال الحريري: (تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانا طويلا حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة) (¬4). - وقال بعض الحكماء: (من لم يف للإخوان كان مغموز النسب) (¬5). - وقال ابن حزم: (الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة لأن الوفي رأى من الجور أن لا يقارض من وثق به أو من أحسن إليه فعدل في ذلك ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ فجاد في ذلك ورأى أن يتجلد لما يتوقع من عاقبة الوفاء فشجع في ذلك) (¬6). - وعن عوف بن النعمان الشيباني أنّه قال في الجاهلية الجهلاء: (لأن أموت عطشاً أحب إليَّ من أكون مخلاف الموعدة) (¬7). - وعن عوف الكلبي أنّه قال: (آفة المروءة خلف الموعد) (¬8). - وقال الحارث بن عمرو بن حجر الكندي: (أنجز حر ما وعد) (¬9). - (وقالت الحكماء: لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له: واصطناع مَن لا شكر عِنده، والكريمُ يَوَد الكريم عن لُقْية واحدة، واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة) (¬10). - (وأوصت أعرابية ابناً لها فقالت: يا بني، اعلم أنه من اعتقد الوفاء والسخاء فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرين) (¬11). ¬

(¬1) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 146). (¬2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (ص: 292). (¬3) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (ص: 292). (¬4) ((آداب الصحبة)) للسلمي (ص73). (¬5) ((آداب العشرة)) لبدر الدين الغزي (ص52). (¬6) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص145). (¬7) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71). (¬8) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71). (¬9) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71). (¬10) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 345) (¬11) ((ربيع الأبرار)) لأبي القاسم الزمخشري (5/ 299 - 300).

أقسام العهد

أقسام العهد العهد: ما يعاهد الإنسان به غيره وهو نوعان: - (عهد مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] فقد أخذ الله العهد على عباده جميعا أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا لأنه ربهم وخالقهم. - وعهد مع عباد الله ومنه العهود التي تقع بين الناس بين الإنسان وبين أخيه المسلم بين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد فقال عز وجل: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34] يعني أن الوفاء بالعهد مسئول عنه الإنسان يوم القيامة يسأل عن عهده هل وفَّى به أم لا قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ [النحل:91] يعني ولا تخلفوا العهد) (¬1). ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 45).

فوائد وآثار الوفاء بالعهد

فوائد وآثار الوفاء بالعهد الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد والميثاق متنوعة ومتعددة، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا، وأخرى يوم القيامة، فمن هذه الآثار: 1 - الإيمان: وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم وتصفهم بالكفر ... وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان قال تعالى وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الحديد:8] 2 - التقوى: التقوى أثر من آثار الوفاء بعهد الله وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63] 3 - محبة الله: أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7]. 4 - حصول الأمن في الدنيا وصيانة الدماء: لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام ولهم عهود مع أولئك المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم. 5 - الحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم: وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب: 23] وقال: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10] 6 - تكفير السيئات وإدخال الجنات: ومن الآثار التي وردت في أكثر من آية جزاء لمن وفَّى بعهده والتزم بميثاقه الوعد بدخول الجنة وتكفير السيئات، قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة (¬1). ¬

(¬1) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 204). بتصرف.

صور الوفاء

صور الوفاء الوفاء خلق إسلامي رفيع وله صور وأنواع عدة منها: 1 - الوفاء بالعهد الذي بين العبد وربه: (فالعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذماماً، العهد الأعظم، الذي بين العبد ورب العالمين. فإن الله خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المغويات، فيجهلها أو يجحدها قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس: 60]) (¬1). 2 - الوفاء في سداد الدين: اهتم الإسلام بالدَّين لأن أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬2). 3 - الوفاء بشروط عقد النكاح: قال صلى الله عليه وسلم: ((أحقُّ الشروط أن توفُّوا به ما استحللتُم به الفروج)) (¬3). قال الخطابي: (الشروط في النكاح مختلفة فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها ... ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله) (¬4). 4 - الوفاء بين الزوجين: الوفاء بين الزوجين يجعل الأسر مستقرة والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء وفي العسر واليسر. 5 - الوفاء بإعطاء الأجير أجره: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره)) (¬6). 6 - وفاء العامل بعمله: وذلك بأن يعمل العامل ويعطي العمل حقه باستيفائه خالياً من الغش والتدليس، فعن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليب ((أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر ولم يمكن لها، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سووا لحد هذا. حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم فقال: أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن)) (¬7). 7 - الوفاء بالنذر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) (¬8) ويجب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة. 8 - الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة: (الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة، وغير ذلك من المعاملات المالية ما دامت مشروعة يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وسواء كانت هذه العقود مبرمة بين المسلم والمسلم، أو المسلم وغير المسلم) (¬9). 9 - الوفاء بما التزم به الولاة والأمراء من العهود والمواثيق في علاقاتهم مع الدول. ¬

(¬1) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 50). (¬2) رواه البخاري (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (2721) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 218). (¬5) رواه ابن ماجه (3443) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ورواه أبو يعلى (6682)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (8/ 13) (3014)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 142) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2892): هذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. وحسن إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 75)، وجوَّد إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 161). (¬6) رواه البخاري (2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه البيهقي في ((الشعب)) (7/ 234) (4932) من حديث كليب الجرمي رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬9) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 218).

نماذج في الوفاء

نماذج من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم: إن الوفاء بالعهد، وعدم نسيانه أو الإغضاء عن واجبه خلق كريم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه ... كان مضرب المثل، وحق له ذلك وهو سيد الأوفياء (¬1). ويتجلى لنا وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صور كثيرة منها: وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالوعد: فقد روى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال ((يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك)) (¬2). قال صاحب كتاب (عون المعبود): (كان انتظاره صلى الله عليه وسلم لصدق وعده لا لقبض ثمنه. قال النووي: أجمعوا على أن من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجب أو مستحب، فيه خلاف) (¬3). - وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالعهد لعدوه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام. (فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا: نقول إنه رسول الله ((لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما)) (¬4). وثبت عنه أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنه لا يرجع إليهم فقال: ((إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إلى قومك فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع)) (¬5). وثبت عنه أنه رد إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه منهم مسلما) (¬6). - وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: ((انصرفا. نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)) (¬7). وفاءه صلى الله عليه وسلم لزوجاته: فمن وفائه صلى الله عليه وسلم كان يكرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول ((اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة)) (¬8). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما بي أن أكون أدركتها وما ذاك لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن)) (¬9). ¬

(¬1) ((هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب)) لأبي بكر الجزائري (ص 556). (¬2) رواه أبو داود (4996)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (20835) من حديث عبد الله بن أبي الحمساء رضي الله عنه. وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1776). (¬3) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (13/ 340). (¬4) رواه أبو داود (2761)، وأحمد (3/ 487) (17032) من حديث نعيم بن مسعود رضي الله عنه. قال الحاكم (2/ 155): صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1339). (¬5) رواه أبو داود (2785)، وأحمد (6/ 8) (23908)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8/ 52) (8621) من حديث أبي رافع رضي الله عنه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2644)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (702). (¬6) ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/ 79). (¬7) رواه مسلم (1787) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (232)، وابن حبان (15/ 467) (7007)، الحاكم (4/ 193) (7339) من حديث أنس رضي الله عنه. وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي، وحسنه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (172). (¬9) رواه الترمذي (2017) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).

نماذج من وفاء الصحابة رضي الله عنهم:

نماذج من وفاء الصحابة رضي الله عنهم: لقد وفّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهود والمواثيق والتزموا بالمبايعات التي أخذها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في عدة مناسبات وهذه هي العهود والمواثيق التي ذكرها الله في أكثر من آية، حيث خص بعضها بالذكر كبيعة الرضوان وعم آخر كسائر المبايعات ... وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على الإسلام، وبايع النساء بيعة خاصة، كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وآخرون على السمع والطاعة، وبايع بعضهم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ... ومما يجدر التنبيه إليه هنا ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب مادحاً أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنياً عليهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. نعم لقد وفى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم وأبرز سجاياهم وطباعهم. لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله، لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسأل الناس شيئاً أعطوه أو منعوه. هذه هي الطاعة وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل إلى مدارج الرقي وسمو الأخلاق، لقد كان جيلاً قرآنياً فذاً، لم تعرف البشرية جيلاً كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18]) (¬1). - وفاء أبي بكر رضي الله عنه: وفاء أبي بكر بديون النبي صلى الله عليه وسلم وعداته: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو عدة فليأتني قال جابر فجئت أبا بكر فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا قال فأعطاني قال جابر فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فلم يعطني فقلت له قد أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني فقال أقلت تبخل عني وأي داء أدوأ من البخل- قالها ثلاثا - ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك)) (¬2). وفاؤه في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه: قام أبو بكر رضي الله عنه بتنفيذ جيش أسامة بن زيد الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام. (فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام، لم يفروا ولا ارتدوا، والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم، لأن ما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء، إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة) (¬3). ¬

(¬1) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 235). (¬2) رواه البخاري (4383). (¬3) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/ 335).

أحوال الإخلاف بالعهد والوعد

أحوال الإخلاف بالعهد والوعد (من يخلف الوعد له أربع أحوال في إخلافه بالعهد والوعد: الحالة الأولى: التعبير الملي عن الكذب منذ إعطاء الوعد أو العهد، وهو في هذا يحمل رذيلة الإخلاف المستند إلى رذيلة الكذب. الحالة الثانية: النكث والنقض لما أبرمه والتزم به من وعد وعهد، وهذا يعبر عن ضعف الإرادة وعدم الثبات، وعدم احترام شرف الكلمة وثقة الآخرين بها، وهذا الخلق يفضي بصاحبه إلى النبذ من ملاك جماعة الفضلاء الذين يوثق بهم وبأقوالهم. الحالة الثالثة: التحول إلى ما هو أفضل وخير عند الله، والانتقال إلى ما هو أكثر طاعة لله، إلا أن هذه الحالة لا تكون في العهود العامة، التي تدخل فيها حقوق دولية، ولا في العهود التي ترتبط بها حقوق مادية للآخرين من الناس. أما العهد مع الله في التزام أمر من الأمور، فقد تجري المفاضلة بينه وبين غيره، لاختيار ما هو أقرب إلى طاعة الله وتحقيق مرضاته. الحالة الرابعة: العجز عن الوفاء لسبب من الأسباب، ومن عجز عن الوفاء مع صدق رغبته به وحرصه عليه فهو معذور لعدم استطاعته. وأما حالة النسيان فهي من الأمور العامة التي تشمل كل واجب أو مستحب، وتنطبق عليها أحكام النسيان العامة. وصادق الوعد والعهد هو الذي يكون عازما على الوفاء منذ إعطائه الوعد أو العهد، ويظل حريصاً على ذلك ما لم يمنعه مانع من التنفيذ يعذر به، أو كان ترك الوفاء استجابة لرغبة من كان الوعد أو العهد من أجله وابتغاء مرضاته أو مسرته) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 503).

قصص في الوفاء:

قصص في الوفاء: 1 - (يذكر أن امرأ القيس الكندي، لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم، أودع عند السموأل دروعا وسلاحا، وأمتعة تساوي من المال جملة كثيرة. فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدروع والأسلحة المودعة عند السموأل. فقال: السموأل لا أدفعها إلا لمستحقها. وأبى أن يدفع إليه منها شيئا، فعاوده فأبى، وقال لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي، ولا أترك الوفاء الواجب علي. فقصده ذلك الملك من كندة بعسكره فدخل السموأل في حصنه، وامتنع به. فحاصره ذلك الملك، وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرا ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل. فأشرف عليه من أعلى الحصن. فلما رآه قال له: إن ولدك قد أسرته، وها هو معي، فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامرئ القيس عندك، رحلت عنك وسلمت إليك ولدك، وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر، فاختر أيهما شئت. فقال له السموأل: ما كنت لأخفر ذمامي، وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت. فذبح ولده وهو ينظر. ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبا، واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر، محافظة على وفائه. فلما جاء الموسم وحضر ورثة امرئ القيس سلم إليهم الدروع والسلاح. ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه. فصارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل، وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكر السموأل في الأول. وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه، وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه، واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه، واستطلق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه) (¬1). ¬

(¬1) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 432).

2 - قصة أخرى يحكيها مالك بن عمارة اللخمي، قال: (كنت جالسا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا حدث وحلاوة لفظه إذا حدث فخلوت معه ليلة فقلت له والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك فقال إن تعش قليلا فسترى العيون طامحة إلي والأعناق نحوي متطاولة فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إلي ركابك فلأملأن يديك فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر فلما رآني أعرض عني فقلت لعله لم يعرفني أو عرفني وأظهر لي نكره فلما قضيت الصلاة ودخل بيته لم ألبث أن خرج الحاجب فقال أين مالك بن عمارة فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه فمد إلي يده وقال إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت فأما الآن فمرحبا وأهلا كيف كنت بعدي فأخبرته فقال أتذكر ما كنت قلت لك قلت نعم فقال والله ما هو بميراث وعيناه ولا أثر رويناه ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ما خنت ذا ود قط ولا شمت بمصيبة عدو قط ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذا بها فكنت أؤمل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي وقد فعل ثم دعا بغلام فقال له يا غلام بوئه منزلا في الدار فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلا حسنا فكنت في ألذ حال وأنعم بال وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي ويقبل علي ويحادثني ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة فتغديت يوما عنده فلما تفرق الناس نهضت قائما فقال على رسلك فقعدت فقال أي الأمرين أحب إليك المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة أو الرجوع إلى أهلك ولك الكرامة فقلت يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي على أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد فقال لا بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك أتراني قد ملأت يديك فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدا وزرنا إذا شئت صحبتك السلامة) (¬1). 3 - قال الأبشيهي: (ومما يعد من محاسن الشيم ومكارم أخلاق أهل الكرم ويحث على الوفاء بالعهود ورعاية الذمم ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه في تاريخه قال: قال لي أبو الفتح المنطيقي كنا جلوسا عند كافور الأخشيدي وهو يومئذ صاحب مصر والشام وله من البسطة والمكنة ونفوذ الأمر وعلو القدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر فحضرت المائدة والطعام فلما أكلنا نام وانصرفنا ولما انتبه من نومه طلب جماعة منا وقال امضوا الساعة إلى عقبة النجارين وسلوا عن الشيخ منجم أعور كان يقعد هناك فإن كان حيا فأحضروه وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده واكشفوا أمرهم قال فمضينا إلى هناك وسألنا عنه فوجدناه قد مات وترك بنتين إحداهما متزوجة والأخرى عاتق فرجعنا إلى كافور وأخبرناه بذلك فسير في الحال واشترى لكل واحدة منهما دارا وأعطاهما مالا جزيلا وكسوة فاخرة وزوج العاتق وأجرى على كل واحدة منهما رزقا وأظهر أنهما من المتعلقين به لرعاية أمورهما فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك وقال أتعلمون سبب هذا قلنا لا فقال اعلموا أني مررت يوما بوالدهما المنجم وأنا في ملك ابن عباس الكاتب وأنا بحالة رثة فوقفت عليه فنظر إلي واستجلبني وقال أنت تصير إلى رجل جليل القدر وتبلغ منه مبلغا كبيرا وتنال خيرا ثم طلب مني شيئا فأعطيته درهمين كانا معي ولم يكن معي غيرهما فرمى بهما إلي وقال أبشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين ثم قال وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به ولا تنس فقلت له نعم فقال عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي معاهدته ولم يأخذ مني الدرهمين ثم إني شغلت عنه بما تجدد لي من الأمور والأحوال وصرت إلى هذه المنزلة ونسيت ذلك فلما أكلنا اليوم ونمت رأيته في المنام قد دخل علي وقال لي أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك وإتمام وعدك لا تغدر فيغدر بك فاستيقظت وفعلت ما رأيتم ثم زاد في إحسانه إلى بنات المنجم وفاء لوالدهما بما وعده) (¬2). ¬

(¬1) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 438). (¬2) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 431).

أمثال في الوفاء

أمثال في الوفاء 1 - يقال في المثل: أوفى من فكيهة: وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة، كان من وفائها أن السليك بن سلكة غزا بكر بن وائل، فلم يجد غفلة يلتمسها، فخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدم على الماء فقالوا: إن هذا الأثر قدم ورد الماء، فقصدوا له، فلما وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها فانتزعوا ضمارها فنادت إخوتها فجاءوا عشرة، فمنعوهم منها (¬1). 2 - ويقال أوفى من أم جميل: وهي من رهط ابن أبي بردة من دوس، وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلاً من الأزد فبلغ ذلك قومه بالسراة فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهري ليقتلوه فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها، فقامت في وجوههم ودعت قومها فمنعوه لها (¬2). 3 - ويقال: أوفى من السموأل بن عاديا: وقصته مرت معنا في قصص في الوفاء. 4 - ويقال: أوفى من الحارث بن عباد: وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه، فقال له: دلني على عدي بن ربيعة ولك الأمان، فقال: أنا آمن أن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا عدي بن ربيعة فخلاه (¬3). ¬

(¬1) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 47). (¬2) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 47). (¬3) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 48).

الوفاء في واحة الشعر ..

الوفاء في واحة الشعر .. قال الشاعر ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... فالناس بين مختال وموارب يغشون بينهم المودة والصفا ... وقلوبهم محشوة بعقارب (¬1). وقال آخر: مات الوفاء فلا رفد ولا طمع ... في الناس لم يبق إلا اليأس والجزع فاصبر على ثقة بالله وارض به ... فالله أكرم من يرجى ويتبع لا تركنن إلى من لا وفاء له ... الذئب من طبعه إن يقتدر يثب وقال آخر: عش ألف عام للوفاء وقلما ... ساد امرؤ إلا بحفظ وفائه لصلاح فاسده وشعب صدوعه ... وبيان مشكله وكشف غطائه وقال آخر: ما أهون الإنسان إن وفاءه ... إما اتقاء أذى، وإما مغنم عظمت على أخلاقه أكلافه ... وهو المصيَّر في الحياة المرغم نقص التراب الضعف في أعراقه ... وابن التراب الصاغر المستسلم وقال آخر: إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلاف وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً ... وترى اللئيم مجانب الإنصاف وقال آخر: ذهب التكرم والوفاء من الورى ... وتقرضا إلا من الأشعار وفشت خيانات الثقات وغيرهم ... حتى اتهمنا رؤية الأبصار وقال الرِّياشيّ: إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء ... وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ ... كأمْثال الذِّئاب لها عُواء صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم ... وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء إذا ما جئتهم يَتدافَعوني ... كأنِّي أجربٌ آذاه داء أقولُ ولا ألاَم على مَقال على ... الإخوان كُلِّهم العَفاء وقال آخر: إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فأن نعم دين على الحر واجب وإلا فقل لا تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب وقال آخر: لا كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد فلا تعد عدة إلا وفيت بها ... واحذر خلاف مقال للذي تعد ... ¬

(¬1) ((غرر الخصائص الواضحة)) لمحمد بن إبراهيم بن يحيى (ص 587).

الأخلاق المذمومة

معنى الإسراف والتبذير لغة واصطلاحاً معنى الإسراف لغة واصطلاحاً معنى الإسراف لغة: قال ابن منظور: (السرف والإسراف: مجاوزة القصد. وأسرف في ماله: عجل من غير قصد، وأما السرف الذي نهى الله عنه، فهو ما أنفق في غير طاعة الله، قليلا كان أو كثيرا. والإسراف في النفقة: التبذير) (¬1). معنى الإسراف اصطلاحاً: الإسراف: هو صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدا على ما ينبغي (¬2). وقال الراغب: (السرف: تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر) (¬3). وقال الجرجاني: (الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس. وقيل تجاوز الحد في النفقة، وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحل له، أو يأكل مما يحل له فوق الاعتدال، ومقدار الحاجة. وقيل: الإسراف تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق) (¬4). معنى التبذير لغة واصطلاحاً معنى التبذير لغة: التبذير: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكل مضيع لماله (¬5) وبذر ماله: أفسده وأنفقه في السرف. وكل ما فرقته وأفسدته، فقد بذرته، والمباذر والمبذر: المسرف في النفقة؛ باذر وبذر مباذرةً وتبذيرا (¬6). معنى التبذير اصطلاحاً: قال الشافعي: (التبذير إنفاق المال في غير حقه) (¬7). وقيل: التبذير صرف الشيء فيما لا ينبغي (¬8). وقيل: هو تفريق المال على وجه الإسراف (¬9). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 148). (¬2) ((الكليات)) للكفوي (ص113). (¬3) ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص407). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص24). (¬5) ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص114). (¬6) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 148). (¬7) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 247). (¬8) ((التعريفات)) للجرجاني (ص24)، و ((الكليات)) للكفوي (ص113). (¬9) انظر ((التعريفات)) للجرجاني (ص51) و ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص 90).

الفرق بين الإسراف والتبذير

الفرق بين الإسراف والتبذير الإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي. بخلاف التبذير؛ فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي (¬1). وقال أبو هلال العسكري: (الإسراف: تجاوز الحد في صرف المال. والتبذير: إتلافه في غير موضعه، هو أعظم من الإسراف، ولذا قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27]. قيل: وليس الإسراف متعلقا بالمال فقط، بل بكل شيء وضع في غير موضعه اللائق به. ألا ترى أن الله سبحانه وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث، فقال: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [الأعراف: 81] ووصف فرعون بالاسراف بقوله: إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان: 31]) (¬2). والخلاصة: بينهما عموم وخصوص إذ قد يجتمعان فيكون لهما المعنى نفسه أحيانا وقد ينفرد الأعم وهو الإسراف (¬3). ¬

(¬1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص24). (¬2) ((معجم الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص115). (¬3) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (9/ 4115).

ذم الإسراف والتبذير في القرآن والسنة

ذم الإسراف والتبذير في القرآن والسنة ذم الإسراف والتبذير في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء: 6]. قال ابن كثير: (ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا) (¬1). وقال الماوردي: (يعني لا تأخذوها إسرافاً على غير ما أباح الله لكم , وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح , فربما كان في الإفراط , وربما كان في التقصير , غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافاً , وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف) (¬2). - وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. قال الطبري: (السرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال) (¬3). - وقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]. (قال السدي: ولا تسرفوا، أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال الزجاج: على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف) (¬4). وقال الماوردي: (فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم , قاله السدي. والثاني: معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف, قاله ابن زيد. والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر) (¬5). وقال السعدي: (فإن السرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما) (¬6). - وقوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26 - 27]. قال ابن كثير: (أي: في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا أي: جحودا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته) (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 216). (¬2) ((النكت والعيون)) لمجموعة مؤلفين (1/ 453). (¬3) ((جامع البيان)) للطبري (9/ 614). (¬4) ((معالم التنزيل)) للبغوي (2/ 164). (¬5) ((النكت والعيون)) للطبري (2/ 218). (¬6) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (287). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 69).

وقال القاسمي: (أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي. وهذا غاية المذمة؛ لأن لا شر من الشيطان. أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة. كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير، ببيان أنه يجعل صاحبه مقروناً معهم. وقوله: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل. قال أبو السعود: أي: مبالغاً في كفران نعمته تعالى؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي، والإفساد في الأرض، وإضلال الناس، وحملهم على الكفر بالله، وكفران نعمه الفائضة عليهم، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وتخصيص هذا الوصف بالذكر، من بين سائر أوصافه القبيحة؛ للإيذان بأن التبذير، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها، من باب الكفران، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له. والتعرض لوصف الربوبية؛ للإشعار بكامل عتِّوه. فإن كفران نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان) (¬1). - وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]. قال ابن كثير: (أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، كما قال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]) (¬2). ذم الإسراف والتبذير في السنة النبوية: - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة)) (¬3). قال ابن حجر في الفتح: (ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة قال الموفق عبد اللطيف البغدادي هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس) (¬4). ¬

(¬1) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (6/ 456). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 124). (¬3) رواه ابن ماجه (3605) ورواه النسائي (2559) بدون لفظة (واشربوا). وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (32) وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6402)، والهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 35)، وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 78): إسناده صحيح. (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 253).

- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: ((أتى رجل من بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد، وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل، والجار، والمسكين، فقال: يا رسول الله، أقلل لي، قال: فآت ذا القربى حقه، والمسكين، وابن السبيل، ولا تبذر تبذيرا فقال: حسبي يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا أديتها إلى رسولي، فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها)) (¬1). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (¬2). قال النووي: (هذا الحديث دليل لمن يقول إن النهي لا يقتضي التحريم والمشهور أنه يقتضي التحريم وهو الأصح) (¬3). قال العيني: (قوله: وإضاعة المال هو صرفه في غير ما ينبغي) (¬4). وذكر القاري عن الطيبي قوله: (قيل: والتقسيم الحاصر فيه الحاوي بجميع أقسامه أن تقول: إن الذي يصرف إليه المال إما أن يكون واجبا كالنفقة والزكاة ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إن كان مندوبا إليه، وإما أن يكون مباحا ولا إشكال إلا في هذا القسم، إذ كثير من الأمور يعده بعض الناس من المباحات، وعند التحقيق ليس كذلك كتشييد الأبنية وتزيينها والإسراف في النفقة، والتوسع في لبس الثياب الناعمة والأطعمة الشهية اللذيذة، وأنت تعلم أن قساوة القلب وغلظ الطبع يتولد من لبس الرقاق، وأكل الرقاق، وسائر أنواع الارتفاق، ويدخل فيه تمويه الأواني والسقوف بالذهب والفضة، وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق والدواب، حتى تضيع وتهلك، وقسمة ما لا ينتفع الشريك به كاللؤلؤة والسيف يكسران، وكذا احتمال الغبن الفاحش في البياعات، وإيتاء المال صاحبه وهو سفيه حقيق بالحجر، وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق الذي هو منبع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة) (¬5). - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، قال: ((كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل)) (¬6). - (قال النخعي: لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما يستر العورة ويأكل ما يسد الجوعة) (¬7). ¬

(¬1) رواه أحمد (19/ 386) واللفظ له، والحاكم (3374)، قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 3): رجاله رجال الصحيح. وقال كذلك الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 66). وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (41): رجاله رجال الصحيح، ولكن في تهذيب التهذيب أن رواية سعيد بن أبي هلال عن أنس مرسلة. (¬2) رواه البخاري (1477) رواه مسلم (1715) واللفظ له. (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 14). (¬4) ((عمدة القارئ)) للعيني (25/ 34). (¬5) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3082). (¬6) رواه أبوداود (2872)، والنسائي (3668)، وابن ماجه (2718) واللفظ للنسائي. والحديث حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 339) كما ذكر في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (11/ 30)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4497). (¬7) ((عمدة القارئ)) للعيني (14/ 58).

أقوال السلف والعلماء في ذم الإسراف والتبذير

أقوال السلف والعلماء في ذم الإسراف والتبذير - قال عمر رضي الله عنه: (كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى) (¬1). - وقال ابن عباس: قال: (كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خلتان: سرف أو مخيلة) (¬2). - وقال سفيان: (لم يسرفوا أي لم يضعوه في غير موضعه ولم يقتروا لم يقصروا به عن حقه) (¬3). - وعن قتادة والحسن: (ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا)، يقول: لا تسرف فيها ولا تبادره (¬4). - وعن عثمان بن الأسود قال: (كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال: لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفا، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله، كان من المسرفين) (¬5). - وقال مالك: (التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف) (¬6). - وقال الشافعي: (التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير) (¬7). - وقال إياس بن معاوية: (الإسراف ما قصر به عن حق الله) (¬8). - وقال القرطبي: (وهو حرام – أي التبذير- لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] وقوله: إِخْوَانَ يعني أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار) (¬9). - وقال ابن القيم: (العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا) (¬10). - وقال ابن عاشور: (قيل في الكلام الذي يصح طردا وعكسا: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير) (¬11). ¬

(¬1) ذكره الهيتمي في ((الصواعق المحرقة)) (1/ 298). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (24878). (¬3) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 148). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 580). (¬5) ((تفسير القرآن)) لأبي المظفر السمعاني (3/ 235). (¬6) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 147). (¬7) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 147). (¬8) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 148). (¬9) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 248). (¬10) ((الفوائد)) لابن القيم (ص 141). (¬11) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (أ-8/ 124).

صور الإسراف ومظاهره

صور الإسراف ومظاهره لا شك أن الإسراف تتعدد صوره ومظاهره وهو يقع في أمور كثيرة كالمأكل والمشرب، والملبس، والمركب، والمسكن، وغيرها، ومن هذه الصور: 1 - الإسراف على الأنفس في المعاصي والآثام، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53]. قال القاسمي: (أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر ... لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] أي لمن تاب وآمن. فإن الإسلام يجبّ ما قبله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 53 - 54] أي: توبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ أي استسلموا وانقادوا له. وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه) (¬1). 2 - الإسراف في الأكل والشبع المفرط: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في تناول الطعام فقال: ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي، لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس)) (¬2). قال القرطبي: (من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله) (¬3). وقال ابن القيم: (العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا) (¬4). 3 - الإسراف في الوضوء: عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد، وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف فقال: أفي الوضوء إسراف، قال: نعم، وإن كنت على نهر جار)) (¬5). قال ابن القيم: (وكان – أي النبي صلى الله عليه وسلم - من أيسر الناس صبا لماء الوضوء وكان يحذر أمته من الإسراف فيه وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور) (¬6). وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجزئ من الوضوء مد، ومن الغسل صاع، فقال رجل: لا يجزئنا، فقال: قد كان يجزئ من هو خير منك، وأكثر شعرا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬7). 4 - الإسراف في المرافق العامة: والإسراف في المرافق العامة مذموم أيضاً كالإسراف في الماء والكهرباء، ويعتبر من إضاعة المال قال صلى الله عليه وسلم ((إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)) (¬8). قال المناوي: (إضاعة المال): هو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف وسبب النهي أنه إفساد والله لا يحب المفسدين ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس (¬9). ¬

(¬1) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (8/ 293). (¬2) رواه ابن ماجه (3349) واللفظ له، والترمذي (2380)، قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 293)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 15) كما ذكر في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5674). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (ص24). (¬4) ((الفوائد)) لابن القيم (ص 141). (¬5) رواه ابن ماجه (425)، وأحمد في ((المسند)) (7065)، واللفظ لابن ماجه. وصحح إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 23)، وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 860). (¬6) ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/ 184). (¬7) رواه ابن ماجه (270)، وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (219)، ورواه أحمد (23/ 227) والحاكم (575) من حديث جابر بن عبد الله. قال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 270): إسناده جيد، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9997). (¬8) رواه البخاري (1477) ومسلم (593) (¬9) ((فيض القدير)) للمناوي (7/ 3).

مضار الإسراف والتبذير

مضار الإسراف والتبذير 1 - عدم محبة الله للمسرفين والمبذرين: قال تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. قال ابن عاشور: (فبين أن الإسراف من الأعمال التي لا يحبها، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبة مختلف المراتب، فيعلم أن نفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التحريم) (¬1). 2 - يفضي إلى طلب المال بالكسب الحرام: لأن المسرف ربما ضاقت به المعيشة ويريد أن يعمل مثلما ألفه فيضطر إلى الكسب الحرام لإشباع هذه الغريزة، قال ابن عاشور: (فوجه عدم محبة الله إياهم أن الإفراط في تناول اللذات والطيبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالبا إلى استنزاف الأموال والشره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات، فيكون ذلك دأبه، فربما ضاق عليه ماله، فشق عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربما تطلب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إن ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة. وينشأ عن ذلك ملام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة) (¬2). 3 - الإسراف في الأكل يضر بالبدن: قال علي بن الحسين بن واقد: (جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [الأعراف: 31]) (¬3). وقال ابن عاشور: (ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللحوم والدسم لأن ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة. وقد قيل إن هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم) (¬4). وقال محمد رشيد رضا: (فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم فهو من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل، فهو من المسرفين، وما كان المسرف من المتقين) (¬5). 4 - المسرف والمبذر يشاركه الشيطان في حياته: إن الذي يسرف ويبذر معرض لمشاركة الشيطان في مسكنه ومطعمه، ومشربه، وفراشه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان)) (¬6). 5 - الإسراف والتبذير من صفات إخوان الشياطين: قال تعالى: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراءك 26 - 27]. قال السعدي: (لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك فإذا عصاه، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه، كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].) (¬7). 6 - الإسراف يجر إلى مذمات كثيرة: ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (أ-8/ 123). (¬2) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (أ-8/ 124). (¬3) ((معالم التنزيل)) للبغوي (2/ 189). (¬4) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (ب-8/ 95). (¬5) ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/ 25). (¬6) رواه مسلم (2084). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (456).

قال ابن عاشور: (والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمات كثيرة، وينتقل من ملذة إلى ملذة فلا يقف عند حد. وقيل عطف على وآتوا حقه أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه) (¬1). 7 - سوف يحاسب على ماله فيم أنفقه: قال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8]. قال ابن كثير: (أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك. ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته) (¬2). عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)) (¬3). (أي: من موقفه للحساب حتى يسأل عن عمره فيما أفناه أفي طاعة أم معصية، وعن عمله فيم عمله لوجه الله تعالى خالصا أو رياء وسمعة. وعن ماله من أين اكتسبه، أمن حلال أو حرام؟ وفيما أنفقه أفي البر والمعروف أو الإسراف والتبذير؟ وعن جسمه فيما أبلاه أفي طاعة الله أو معاصيه؟) (¬4). 8 - الإسراف والتبذير فيه تضييع للمال. 9 - الإسراف والتبذير عاقبته وخيمة: قال ابن الجوزي: (العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا، فإن كان فقيرًا؛ اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق، وقلل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من منن الناس عزيزًا بينهم. وإن كان غنيًّا، فينبغي له أن يدبر في نفقته، خوف أن يفتقر، فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة، ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إن أكثر- لإصابته بالعين ... وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره) (¬5). ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (أ-8/ 123). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 474). (¬3) رواه الترمذي (2417)، والدارمي (1/ 452)، قال الترمذي حسن صحيح. وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 41): إسناده جيد. وصحح إسناده الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 242). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7300). (¬4) ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل المبارك (ص 275). (¬5) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (498).

الوسائل المعينة لترك الإسراف والتبذير

الوسائل المعينة لترك الإسراف والتبذير 1 - الاعتدال في السرف: قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]. قال ابن كثير: (أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها) (¬1). 2 - البعد عن مجالسة المسرفين والمبذرين: ويكون بـ (الانقطاع عن صحبة المسرفين، مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية والنفوس الكبيرة، الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم، وكرسوا كل حياتهم من أجل استئناف حياة إسلامية كريمة، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله، فإن ذلك من شأنه أن يقضي على كل مظاهر السرف والدعة والراحة، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى، لنكون ضمن قافلة المجاهدين وفي موكب السائرين) (¬2). 3 - قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زاهداً عن هذه الدنيا وكان يحذر أمته عن الإسراف والتبذير، ويحثهم على المثابرة والتقشف، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة: ((ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا)) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قبض)) (¬4). 4 - قراءة سيرة السلف الصالح: فالصحابة من سلف هذه الأمة والتابعين لهم كانت نظرتهم لهذه الدنيا أنها دار ممر لا دار مقر، وأنهم غرباء مسافرون عنها ولذلك كان عيشهم كفافاً، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما فرأي عنده لحماً، فقال: (ما هذا اللحم؟ قال: أشتهيه قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه). ودخل سلمان على أبي بكر وهو في سكرات الموت، فقال: أوصني، فقال: (إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا تأخذن منها إلا بلاغا) (¬5). 5 - أن يفكر في عواقب الإسراف والتبذير: فالذي يعلم أن عاقبة الإسراف والتبذير سيئة وغير محمودة يتجنبه ولا يتمادى في هذا الطريق. 6 - تذكر الموت والدار الآخرة: فالمسلم حينما يتذكر الموت وأهوال يوم القيامة لا شك أنه سيعينه على ترك الإسراف والبذخ، وسيتقرب إلى الله بإنفاق ما زاد عن حاجاته، والاستعداد ليوم القيامة. ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 124). (¬2) ((آفات على الطريق)) للسيد محمد نوح. (¬3) رواه البخاري (2567) (¬4) رواه البخاري (5374) (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 476)

أسباب الإسراف والتبذير

أسباب الإسراف والتبذير 1 - الجهل: جهل المسرف والمبذر بأحكام الشريعة الإسلامية فربما لا يعرف أن الإسراف والتبذير منهي عنه فيقع فيه. 2 - التأثر بالبيئة: فالإنسان الذي يعيش في بيئة ينتشر فيها الإسراف والتبذير سيتطبع بطبعهم بمحاكاتهم وتقليدهم في ما يفعلونه. 3 - السعة بعد الضيق: (قد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر ذلك أن كثيرا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين وأن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماما فيكون الإسراف أو التبذير) (¬1). 4 - الغفلة عن الآخرة: فلا يغتر بالدنيا ويغفل عن الآخرة، فإن الدنيا دول وتتبدل الأحوال فيها، فمرة في الغنى ومرة في الفقر وأنها دار ممر وليست دار مقر، ولو كانت تساوي جناح بعوضة لما سقى منها الكافر شربة ماء. 5 - مصاحبة المسرفين والمبذرين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬2). فالإسراف والتبذير ربما يكون بسبب (صحبة المسرفين ومخالطتهم ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله لاسيما إذا طالت هذه الصحبة وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير. ولعلنا بذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصاحب أو الخليل) (¬3). ¬

(¬1) ((آفات على الطريق)) للسيد محمد نوح. (¬2) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378) وقال حديث حسن غريب، وقالا البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 470)، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 1220): حسن غريب. وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (151)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 528): إسناده جيد، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (15/ 178). (¬3) ((آفات على الطريق)) للسيد محمد نوح.

مسائل متفرقة في الإسراف والتبذير

مسائل متفرقة في الإسراف والتبذير - ما قيل في حسن التدبير وذم التبذير: قال الثعالبي: (من أصلح ماله فقد صان الأكرمين: الدين، والعرض. ما عال مقتصدٌ. أصلحوا أموالكم لنبوة الزمان، وجفوة السلطان. الإصلاح أحد الكاسبين. لا عيلة على مصلحٍ، ولا مال لأخرق، ولا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصادٍ. التدبير يثمر اليسير، والتبذير يبدد الكثير. حسن التدبير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الإسراف. القصد أسرع تبليغاً إلى الغاية وتحصيلاً للأمر. إن في إصلاح مالك جمال وجهك، وبقاء عزك، وصون عرضك، وسلامة دينك. التقدير نصف الكسب. أفضل القصد عند الجدة. عليك من المال بما يعولك ولا تعوله. من لم يحمد في التقدير، ولم يذم في التبذير، فهو سديد التدبير) (¬1). وقيل: (حسن التدبير نصف الكسب وسوء التدبير داعية البؤس. الإفلاس سوء التدبير) (¬2). (وقيل: ما وقع تبذير في كثير إلّا هدمه ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره. وقيل: إنك إن أعطيت مالك في غير الحق يوشك أن يجيء الحق وليس عندك ما تعطي منه) (¬3). - ما قيل في التهكُّم على مبذِّر: قال الراغب الأصفهاني: (قيل في المثل: خرقاء وجدت صوفا. وقيل: من يطل ذيله ينتطق به. وقيل: يطأ فيه. ومن وجد دهنا دهن إسته. وقيل: عبد خلي في يديه، وعبد ملك عبدا. وكان بعض المتخلفين ورث مالا فكان يحمل الدنانير ويأتي الشطّ فيقذف واحدا واحدا في الماء، فقيل له في ذلك، فقال: يعجبني طليته وصوته. وبنى عون العبادي دكانا وسط داره وأسرف في الإنفاق عليه إسرافا متناهيا فليم في ذلك، فقال: ما أصنع بالدراهم إذا) (¬4). - ما قيل في توسط في الأمور: قال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] (عليك بالقصد بين الطريقتين، لا منع ولا إسراف، ولا بخل ولا إتلاف. لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر، ولا تكن حلواً فتسترط، ولا مراً فتلفظ. ... عليك بأوساط الأمور فإنّها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعبا وقال آخر: وخير خلائق الأقوام خلقٌ ... توّسط لا احتشام ولا اغتناما) (¬5) ... ¬

(¬1) ((التمثيل والمحاضرة)) للثعالبي (ص 428). (¬2) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/ 578). (¬3) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/ 578). (¬4) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/ 579). (¬5) ((التمثيل والمحاضرة)) للثعالبي (ص 429).

الافتراء والبهتان

معنى الافتراء والبهتان لغة واصطلاحا معنى الافتراء لغة واصطلاحاً معنى الافتراء لغة: قال ابن منظور: (أفرى الرجل: لامه. والفرية: الكذب. فرى كذبا فريا وافتراه: اختلقه. ورجل فري ومفرى وإنه لقبيح الفرية ... والفرية من الكذب .. وافترى الكذب يفتريه اختلقه ... وفرى فلان كذا إذا خلقه، وافتراه: اختلقه، والاسم الفرية ... الفرى: جمع فرية وهي الكذبة، وأفرى أفعل منه للتفضيل .. والفري: الأمر العظيم ... وفلان يفري الفري إذا كان يأتي بالعجب في عمله. وفريت: دهشت وحرت) (¬1). معنى الافتراء اصطلاحا: قال العسكري: (الافتراء: .. الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه) (¬2). وقال الكفوي: (الافتراء: هو العظيم من الكذب، يقال لمن عمل عملا فبالغ فيه: إنه ليفري الفرى. ومعنى افترى: افتعل واختلق مالا يصح أن يكون؛ ومالا يصح أن يكون أعم مما لا يجوز أن يقال وما لا يجوز أن يفعل) (¬3). وقال السيوطي: (الافتراء: اختراع قضية لا أصل لها) (¬4). معنى البهتان لغة واصطلاحاً: معنى البهتان لغة: قال ابن منظور: (بهت الرجل يبهته بهتا، وبهتا، وبهتانا، فهو بهات أي قال عليه ما لم يفعله، فهو مبهوت. وبهته بهتا: أخذه بغتة .. والبهيتة البهتان ... والبهتان: افتراء ... وباهته: استقبله بأمر يقذفه به، وهو منه بريء، لا يعلمه فيبهت منه، والاسم البهتان. وبهت الرجل أبهته بهتا إذا قابلته بالكذب ... وبهت فلان فلانا إذا كذب عليه، وبهت وبهت إذا تحير) (¬5). معنى البهتان اصطلاحا: البهتان: هو الكذب الذي يبهت سامعه، أي: يدهش ويتحير، وهو أفحش الكذب، لأنه إذا كان عن قصد يكون إفكاً (¬6). وقال أبو هلال العسكري: (البهتان: هو الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له) (¬7). وقال القرطبي: (البهتان من البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء) (¬8). ¬

(¬1) (([2849] انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 154) (¬2) (([2850] ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 449) (¬3) (([2851] ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (1/ 449) (¬4) (([2852] ((معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم)) للسيوطي (1/ 207) (¬5) (([2853] ((لسان العرب)) لابن منظور (2/ 12 - 13). (¬6) (([2854] ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص 154). (¬7) (([2855] انظر ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 450) (¬8) (([2856] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 381)

الفرق بين الافتراء والبهتان وبعض الصفات

الفرق بين الافتراء والبهتان وبعض الصفات الفرق بين الكذب والافتراء والبهتان - يشترك الجميع في عدم مطابقة الخبر للواقع. - الكذب: هو عدم مطابقة الخبر للواقع، أو لاعتقاد المخبر لهما على خلاف في ذلك. - الكذب: يكون في حق النفس وحق الغير. - الكذب: يحسن في بعض الأحوال، كالكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وعلى الزوجة. - الافتراء: هو الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه. - البهتان: هو الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له. - الافتراء: هو العظيم من الكذب. - البهتان: أشد الكذب. - الافتراء والبهتان: يكون في حق الغير فقط. - لا يحسن الافتراء والبهتان في جميع الأحوال (¬1). الفرق بين الزور والبهتان - الزور: هو الكذب الذي قد سوي وحسن في الظاهر ليحسب أنه صدق - البهتان: هو مواجهة الإنسان بما لم يحبه وقد بهته (¬2). ¬

(¬1) (([2857] انظر ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 449 - 450)، و ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 171)، ((الكليات)) للكفوي (ص 154) (¬2) (([2858] انظر ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 47).

ذم الافتراء والبهتان في القرآن والسنة

ذم الافتراء والبهتان في القرآن والسنة ذم الافتراء والبهتان في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت: 68]. قال ابن كثير: (لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله فقال: إن الله أوحى إليه شيء، ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه، فالأول مفتر، والثاني مكذب؛ ولهذا قال: أليس في جهنم مثوى للكافرين) (¬1). وقال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ومن أظلم أيها الناس ممن اختلق على الله كذبا، فقالوا إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء أو كذب بالحق لما جاءه) (¬2). - وقال تعالى في من يفتري على الأنبياء: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان: 4]. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بالله، الذين اتخذوا من دونه آلهة: ما هذا القرآن الذي جاءنا به محمد إلا إفك يعني: إلا كذب وبهتان افتراه واختلقه وتخرصه بقوله: وأعانه عليه قوم آخرون .. يقول: وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود) (¬3). وقال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار، في قولهم عن القرآن: إن هذا إلا إفك: أي: كذب، افتراه يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعانه عليه قوم آخرون أي: واستعان على جمعه بقوم آخرين. قال الله تعالى: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا أي: فقد افتروا هم قولا باطلا هم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون) (¬4). - وقال سبحانه فيمن ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]. قال ابن كثير: (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وهذا هو البهت البين أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم) (¬5). وقال الطبري: (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا يقول: فقد احتملوا زورا وكذبا وفرية شنيعة، وبهتان: أفحش الكذب، وإثما مبينا يقول: وإثما يبين لسامعه أنه إثم وزور) (¬6). - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 12]. ¬

(¬1) (([2859] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 295 - 296) (¬2) (([2860] ((تفسير جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (20/ 62 - 63) (¬3) (([2861] ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (19/ 237) (¬4) (([2862] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 93 - 94) (¬5) (([2863] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 480) (¬6) (([2864] ((تفسير جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (20/ 324)

قال السعدي: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن والبهتان: الافتراء على الغير أي: لا يفترين بكل حالة، سواء تعلقت بهن وأزواجهن أو سواء تعلق ذلك بغيرهم) (¬1). ذم الافتراء والبهتان في السنة النبوية: - عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)) (¬2). قال العيني في شرحه للحديث: (قوله: الفرى .. جمع: فرية وهي الكذب والبهت ... قوله: أن يدعي الرجل، أي: أن ينتسب إلى غير أبيه. قوله: أو يري عينه ما لم تر، حاصل المعنى: أن يدعي أن عينيه رأتا في المنام شيئا وما رأتاه، ... فإن قلت: إن كذبه في المنام لا يزيد على كذبه في اليقظة، فلم زادت عقوبته؟ قلت: لأن الرؤيا جزء من النبوة والنبوة لا تكون إلا وحيا، والكاذب في الرؤيا يدعي أن الله أراه ما لم يره وأعطاه جزءا من النبوة ولم يعطه، والكاذب على الله أعظم فرية ممن كذب على غيره. قوله: (أو يقول) ... (أو تقَوَّل) ... ومعناه: افترى. قوله: (ما لم يقل) ... أي: ما لم يقل الرسول. وفي الحديث: تشديد الكذب في هذه الأمور الثلاثة) (¬3). - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس فرية اثنان: شاعر يهجو القبيلة بأسرها ورجل انتفى من أبيه)) (¬4). قال المناوي: (أعظم الناس فرية بالكسر أي كذبا اثنان أحدهما شاعر يهجو من الهجو القبيلة المسلمة بأسرها أي كلها لإنسان واحد منهم كان ما يقتضيه لأن القبيلة لا تخلو من عبد صالح فهاجي الكل قد تورط في الكذب على التحقيق فلذلك قال أعظم فرية) (¬5). قال السندي: (قوله: ورجل انتفى من أبيه أي: بأن نسب نفسه إلى غير أبيه (وزنى) بتشديد النون من التزنية، أي: نسبها إلى الزنا؛ لأن كونه ابنا للغير لا يكون إلا كذلك) (¬6). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) (¬7). قال النووي: (يقال بهته بفتح الهاء مخففة قلت فيه البهتان وهو الباطل والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه وهما حرامان) (¬8). ¬

(¬1) (([2865] ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 857) (¬2) (([2866] رواه البخاري (3509). (¬3) (([2867] انظر ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 80) بتصرف يسير. (¬4) (([2868] رواه ابن ماجه (3044)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1/ 13)، وابن حبان (13/ 102) (5785) واللفظ له، والبيهقي (10/ 241) (21659). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 238): إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 555): إسناده حسن، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1189)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1646): صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) (([2869] ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 7). (¬6) (([2870] ((حاشية السندي على سنن ابن ماجة)) للسندي (2/ 411). (¬7) (([2871] رواه مسلم (2589). (¬8) (([2872] ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 142).

- وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت المؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق)) (¬1). قال المناوي: (وبهت المؤمن أي قوله عليه ما لم يفعله حتى حيره في أمره وأدهشه يقال بهته كمنعه بهتا وبهتانا قال: عليه ما لم يفعل والبهتة الباطل الذي يتحير من بطلانه والكذب كالبهت بالضم ومقتضى تخصيص المؤمن أن الذمي ليس كذلك ويحتمل إلحاقه به وعليه إنما خص به المؤمن لأن بهته أشد) (¬2). وقال الشوكاني: (المراد ببهت المؤمن: أن يغتابه بما ليس فيه) (¬3). - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك (¬4). قال البغوي: (معنى الحديث لا تبهتوا الناس افتراء واختلافا بما لم تعلموه منهم، فتجنوا عليهم من قبل أيديكم وأرجلكم، أي: قبل أنفسكم جناية تفضحونهم بها، وهم برآء، واليد والرجل كناية عن الذات) (¬5). قال ابن الجوزي: (المراد بالبهتان هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الزنا، وافتراء المرأة بين يديها ورجليها، وهو ولد الزنا، لأنه يقع عند الوضع بين يديها ورجليها، فإذا ألحقته بزوجها فذلك البهتان المفترى. وقوله للرجال: (ولا يأتون ببهتان يفترونه) يحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون بايع الرجال والنساء، فاجتمع الكل في النهي عن الزنا، وانفرد النساء بصيغة الافتراء بين أيديهن وأرجلهن. والثاني: أن يكون قرأ عليهم الآية ولم يسقط ما يتعلق بالنساء منها. والقول الثاني: أن المراد بالبهتان هاهنا قذف المحصنات والمحصنين، ويدخل في ذلك الكذب على الناس والاغتياب لهم، وإنما ذكرت الأيدي والأرجل لأن معظم أفعال الناس إنما تضاف منهم إلى الأيدي والأرجل، إذ كانت هي العوامل والحوامل، يقولون: لفلان عندي يد، والكناية باليد عن الذات، قاله أبو سليمان الخطابي. والقول الثالث: البهتان هاهنا المشي بالنميمة والسعي بالفساد. والرابع: أنهما السحر) (¬6). أقوال السلف والعلماء في ذم الافتراء والبهتان: - قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (البهتان: أن تقول ما ليس فيه) - أي أخيك - (¬7). - وقال عبد الله بن مسعود: (الغيبة أن تذكر من أخيك شيئا تعلمه منه، فإذا ذكرته بما ليس فيه، فذلك البهتان) (¬8). - وعن مسروق، قال قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية .. ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية .. ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية .. ) (¬9). - وقال فضيل: (في آخر الزمان قوم بهاتون، عيابون، فاحذروهم، فإنهم أشرار الخلق، ليس في قلوبهم نور الإسلام، وهم أشرار، لا يرتفع لهم إلى الله عمل) (¬10). - وعن قتادة، قال: (كنا نحدث أن الغيبة: أن تذكر أخاك بما يشينه ويعيبه، وأن تكذب عليه، فذلك البهتان) (¬11). - وقال سهل بن عبد الله: (من سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان) (¬12). ¬

(¬1) (([2873] رواه أحمد (2/ 361) (8722). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3964): حسن، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 132): [له شاهد]، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3247). (¬2) (([2874] ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (3/ 458) برقم 3964 (¬3) (([2875] ((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/ 270) (¬4) (([2876] رواه البخاري (18) ومسلم (1709) واللفظ للبخاري. (¬5) (([2877] ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 62) (¬6) (([2878] ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (2/ 79)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 65) (¬7) (([2879] رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص 136). (¬8) (([2880] رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص 137)، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/ 70): إسناده رجاله ثقات موقوف. وله شاهد. (¬9) (([2881] رواه مسلم (177). (¬10) (([2882] ((التوبيخ والتنبيه)) لأبي الشيخ الأصبهاني (ص 96). (¬11) (([2883] ((التوبيخ والتنبيه)) لأبي الشيخ الأصبهاني (ص 106). (¬12) (([2884] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (9/ 122) برقم 6364

حكم الافتراء والبهتان

حكم الافتراء والبهتان قال الذهبي: (تعمد الكذب على الله ورسوله في تحريم حلال أو عكسه كفر محض) (¬1). وقال السمرقندي: (ليس شيء من الذنوب أعظم من البهتان، فإن سائر الذنوب يحتاج إلى توبة واحدة، وفي البهتان يحتاج إلى التوبة في ثلاثة مواضع. وقد قرن الله تعالى البهتان بالكفر، فقال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30]) (¬2). وقال النووي (البهت حرام) (¬3). وعد الهيتمي البهت من الكبائر، قال: (الكبيرة الرابعة والخمسون بعد المائتين: البهت، لما في الحديث الصحيح ... في الغيبة: ((فإن لم يكن فيه فقد بهته)) (¬4). بل هو أشد من الغيبة، إذ هو كذب فيشق على كل أحد، بخلاف الغيبة لا تشق على بعض العقلاء؛ لأنها فيه) (¬5). ¬

(¬1) (([2885] ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 173) (¬2) (([2886] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص167) (¬3) (([2887] ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 142) (¬4) (([2888] رواه مسلم (2589). (¬5) (([2889] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/ 41).

أنواع الافتراء والبهتان

أنواع الافتراء والبهتان 1 - الافتراء على الله وهو أشد أنواع البهتان وهو نوعان: النوع الأول: أن يقول: قال الله كذا، وهو يكذب، كاذب على الله، ما قال الله شيئًا. والنوع الثاني: أن يفسر متعمدا كلام الله بغير ما أراد الله، لأن المقصود من الكلام معناه، فإذا قال: أراد الله بكذا كذا وكذا، فهو كاذب على الله، شاهد على الله بما لم يرده الله عز وجل. 2 - الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نوعان: النوع الأول: بأن يقول: قال رسول الله كذا، ولم يقله، لكن كذب عليه النوع الثاني: تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير معناه متعمدا فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). 3 - الافتراء على المؤمنين: كأن يتقول على أحد من المسلمين ما لم يقله، أو يقذفه بذنب وهو منه بريء، أو أن يغتابه بما ليس فيه. ¬

(¬1) (([2890] انظر ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 156).

الآثار السلبية للافتراء والبهتان

الآثار السلبية للافتراء والبهتان 1 - المفتري على الله سبحانه وتعالى أعظم الظالمين والمجرمين: قال تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [آل عمران: 94]. وقال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 17]. 2 - الافتراء والبهتان سمة كل كافر: قال تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل: 105]. 3 - يؤدي للوقوع في الشرك والبدع: قال ابن تيمية: (الشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا: كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور، التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها) (¬1). 4 - سبب في الحرمان من الهداية: قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]. 5 - سبب في عدم الفلاح: قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 140]. وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [يونس: 69]. 6 - يؤدي إلى الذل والمهانة: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. قال السعدي: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فكل مفتر على الله، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل، فإن له نصيبا من الغضب من الله، والذل في الحياة الدنيا) (¬2). 7 - سبب في وقوع العذاب في الدنيا: قال تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 61]. 8 - سبب في شدة سكرات الموت والعذاب الأليم يوم القيامة: قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]. 9 - سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه: قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. 10 - سبب في مناقشة الحساب يوم القيامة: قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13]. ¬

(¬1) (([2891] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/ 281 - 282) (¬2) (([2892] ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 303)

صور الافتراء والبهتان

صور الافتراء والبهتان للافتراء والبهتان صور عديدة منها: 1 - الافتراء على الله سبحانه وتعالى: ومن صوره: - التشريع في دين الله من غير مستند شرعي: قال تعالى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 116]. - معارضة دين الله تعالى: قال تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 61]. - الإفتاء بغير علم: قال الله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116]. - ادعاء الولاية والكرامة والمنزلة عند الله سبحانه وتعالى (¬1). - الكذب في الرؤيا: عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن من أفرى الفرى أن يري عينه ما لم تر)) (¬2). 2 - الافتراء على المؤمنين: ومن صور ذلك: - الافتراء على الأنبياء والرسل ونسبتهم للكذب على الله سبحانه: قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا [الفرقان: 4]. قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون: 38] وفي حديث واثلة بن الأسقع، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - وفيه – ((أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)) (¬3). - الافتراء بانتساب الرجل إلى غير أبيه: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الناس فرية .. ورجل انتفى من أبيه وزنى أمه)) (¬4). - هجاء وسب المؤمنين الأبرياء: فعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها)) (¬5). ¬

(¬1) (([2893] ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 173) (¬2) (([2894] رواه البخاري (7043). (¬3) (([2895] رواه البخاري (3509). (¬4) (([2896] رواه ابن ماجه (3044) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1/ 13)، وابن حبان (13/ 102) (5785)، والبيهقي (10/ 241) (21659). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 238): إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 555): إسناده حسن، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1189)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1646): صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) (([2897] رواه ابن ماجه (3044) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1/ 13)، وابن حبان (13/ 102) (5785)، والبيهقي (10/ 241) (21659). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 238): إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 555): إسناده حسن، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1189)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1646): صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط الشيخين.

أسباب الوقوع في الافتراء والبهتان

أسباب الوقوع في الافتراء والبهتان 1 - الشرك بالله سبحانه وتعالى: قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]. 2 - القول على الله ورسوله بغير علم: كأن يقول: قال الله أو قال رسول لله ويفتي بغير علم، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144] 3 - الاختلاف والتفرق والتحزب: قال ابن بطة: (إن الله عز وجل قد أعلمنا اختلاف الأمم الماضين قبلنا وإنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل، والكذب عليه والتحريف لكتابه، والتعطيل لأحكامه، والتعدي لحدوده .. قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة: 213]) (¬1). 4 - التعصب والتقليد الأعمى: إن الناظر في القرآن ليرى أن معارضات الكفار لجميع الأنبياء والرسل إنما هي بدافع التعصب لدين الآباء والعادات والتقاليد كما قال تعالى قال تعالى: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 23 - 24]. 5 - الكبر والحسد والحقد والكراهية: قال ابن بطة: (إن الله عز وجل قد أعلمنا اختلاف الأمم الماضين قبلنا وإنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل، والكذب عليه والتحريف لكتابه، والتعطيل لأحكامه، والتعدي لحدوده، وأعلمنا تعالى أن السبب الذي أخرجهم إلى الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته .. قال تعالى وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: 14]) (¬2). 6 - كثرة الكلام بلا فائدة: قال أبو طالب المكي: (كثرة الكلام ... فيه قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب وكثرة المطالبين وتعلق المظلومين وكثرة الأشهاد من الأملاك المكاتبين ودوام الإعراض من الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان، فيه الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وفيه شهادة الزور، وفيه قذف المحصن والافتراء على الله تعالى) (¬3). 7 - استمراء الكذب والغيبة والنميمة. ¬

(¬1) (([2898] ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (1/ 270 - 271) (¬2) (([2899] ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (1/ 270 - 271) (¬3) (([2900] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 175)

قصص في الافتراء والبهتان

قصص في الافتراء والبهتان 1 - عن جابر بن سمرة، قال: (شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك – راوي الأثر عن سمرة -: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن) (¬1). 2 - القصة الثانية ذكرها الذهبي في كتابه (تذكرة الحفاظ) قال: (قال ابن طاهر سمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان ألب أرسلان هراة في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه وقالوا: ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم صنمًا من نحاس صغير وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ وخرجوا وقام إلى خلوته ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري وأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنما يزعم أن الله على صورته إن بعث الآن السلطان يجده فعظم ذلك على السلطان وبعث غلامًا ومعه جماعة فدخلوا الدار وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم ورجع الغلام بالصنم فبعث السلطان من أحضر الأنصاري, فأتى فرأى الصنم والعلماء والسلطان قد اشتد غضبه؛ فقال السلطان له: ما هذا؟ قال: هذا صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة؛ قال: لست عن ذا أسألك؟ قال: فعم يسألني السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول: إن الله على صورته، فقال الأنصاري بصولة وصوت جهوري: سبحانك هذا بهتان عظيم، فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه, فأمر به فأخرج إلى داره مكرمًا، وقال لهم: اصدقوني, وهددهم فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة, فأردنا أن نقطع شره عنا، فأمر بهم ووكل بكل واحد منهم وصادرهم وأهانهم) (¬2). ¬

(¬1) (([2901] رواه البخاري (755) واللفظ له، ومسلم (453). (¬2) (([2902] ((تذكرة الحفاظ)) للذهبي (3/ 251 - 252)

3 - قصة حادثة الإفك حيث اتهم المنافقون عائشة رضي الله عنها حتى أنزل الله براءتها في القرآن قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور: 11 - 16].

عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، دنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ...

فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، ثم قال: كيف تيكم، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، أولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟. قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي، وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس، والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم، حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال: فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأنا جارية حديثة السن: لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة، أما الله فقد برأك. قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ العشر الآيات)) (¬1). ضرب الأمثال في الافتراء والبهتان: 1 - قولهم يا للأفيكة: وهي فعيلة من الإفك وهو الكذب. 2 - وقولهم: يا للبهيتة: وهي البهتان. 3 - وقولهم: يا للعضيهة: مثلهما في المعنى. يضرب عند المقالة يرمى صاحبها بالكذب، واللام في كلها للتعجب (¬2). وقال منصور بن إسماعيل: هبني تحرزت ممن ينم بالكتمان ... فكيف لي باحتراز من قائل البهتان (¬3). وقال بعض الحكماء: إنّ الكريم إذا تقضى وده ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تصرم حبله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا (¬4) ... ¬

(¬1) (([2903] رواه البخاري (4750). (¬2) (([2904] ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل الميداني (2/ 412) (¬3) (([2905] ((الطيوريات)) لأبي طاهر السلفي (2/ 259) (¬4) (([2906] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 362)

إفشاء السر

معنى الإفشاء والسر لغة واصطلاحاً معنى الإفشاء لغة واصطلاحاً معنى الإفشاء لغة: فَشا الخبر يَفْشو فُشُوًّا، أي ذاع، وأفْشاهُ غيره، وتَفَشَّى الشيء، أي اتسع (¬1). وفشا الشيء: ظهر (¬2). معنى الإفشاء اصطلاحاً: إفشاء السر هو: تعمد الإفضاء بسر من شخص ائتمن عليه في غير الأحوال التي توجب فيها الشريعة الإسلامية الإفضاء أو تجيزه (¬3). معنى السر لغة واصطلاحاً معنى السر لغة: السِّرُّ: هو ما يكتم (¬4) وهو خلاف الإعلان، يقال: أسررت الشيء إسراراً، خلاف أعلنته (¬5). وسَارَّهُ: إذا أوصاه بأن يسرّه، وتَسَارَّ القومُ. وكنّي عن النكاح بالسّرّ من حيث إنه يخفى (¬6). معنى السر اصطلاحاً: قال الراغب: السِّرُّ هو الحديث المكتم في النّفس (¬7). وقال الكفوي: هو ما يسره المرء في نفسه من الأمور الّتي عزم عليها (¬8). ¬

(¬1) ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (6/ 2455). (¬2) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 69). (¬3) ((كتمان السر وإفشاؤه في الفقه الإسلامي)) لشريف بن أدول (ص20). (¬4) ((الكليات)) للكفوي (ص415). (¬5) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 504). (¬6) ((مفردات القرآن الكريم)) للراغب (1/ 404). (¬7) ((مفردات القرآن الكريم)) للراغب (1/ 404). (¬8) ((الكليات)) للكفوي (ص415).

مترادفات الإفشاء والسر

مترادفات الإفشاء والسر مترادفات كلمة الإفشاء: من مترادفات كلمة الإفشاء: باح السر، وفشا، وظهر، وصحر، وعلن، وذاع، وشاع، وانكشف، وانتشر، واستفاض (¬1). وأبدى، وجهر، وأبرز، وبث، وباح، وأفاض فيه، ونم، وأشهره، وأعرب، وأعرف، وأفصح، وبيّن (¬2). مترادفات كلمة السر: ومن مترادفات كلمة السر: أخفى، وستر، وأجن، وأكن، وطوى، وأبطن، وأضم، وغطى، وكتم، وكفر، وأسر (¬3). ¬

(¬1) ((نجعة الرائد وشرعة الوارد)) لليازجي (2/ 91). (¬2) ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) للرماني (ص63). (¬3) ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) للرماني (ص63).

ذم إفشاء السر والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم إفشاء السر والنهي عنه في القرآن والسنة ذم إفشاء السر والنهي عنه في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]. قال مقاتل: (أَذاعُوا بِهِ: يعني أفشوه) (¬1). وقال القرطبي: (أذاعوا به: أفشوه وبثّوه في الناس) (¬2). قال ابن عباس: (قوله أذاعوا به، قال: «أعلنوه وأفشوه») (¬3). - وقال سبحانه: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم: 3]. قال القاسمي: (أشار تعالى إلى غضبه لنبيّه، صلوات الله عليه، مما أتت به من إفشاء السرّ إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه) (¬4). قال القرطبي: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ: فلما أخبرت بالحديث الذي أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبتها وأظهره عليه) (¬5). - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27 - 28]. قال ابن كثير: (كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون) (¬6). قال بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين (¬7). وقال المراغي: (أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة) (¬8). ذم إفشاء السر والنهي عنه في السنة النبوية: - عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (¬9). ¬

(¬1) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (ص393). (¬2) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) (7/ 252). (¬3) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) للطبري (7/ 253). (¬4) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (9/ 274). (¬5) ((تأويل البيان عن تأويل آي القرآن)) للطبري (23 - 91). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 42). (¬7) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (11/ 120). (¬8) ((تفسير المراغي)) (9/ 139). (¬9) رواه مسلم (1437).

قال النووي: (في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (¬1)، وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة؛ بأن ينكر عليه إعراضه عنها، أو تدعي عليه العجز عن الجماع، أو نحو ذلك، فلا كراهة في ذكره، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأفعله أنا وهذه)) (¬2)، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: ((أعرستم الليلة)) (¬3). وقال لجابر: ((الكيس الكيس)) (¬4)، والله أعلم) (¬5). وقال ابن الجوزي: (والمراد بالسر ها هنا: مَا يكون من عُيُوب الْبدن الْبَاطِنَة، وَذَاكَ كالأمانة فلزم كتمانه) (¬6). وقال المناوي: (ثم ينشر سرها: أي يبث ما حقه أن يكتم من الجماع ومقدماته ولواحقه فيحرم إفشاء ما يجري بين الزوجين من الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك بقول أو فعل) (¬7). - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا حدّث الرّجل الحديث ثم التفت فهي أمانةٌ)) (¬8). قال الطحاوي: (أي: إنها أمانة ائتمن عليها المحدث , فلم يجز له أن يخفر أمانته ويفشي سره; لأنه عسى أن يكون في ذلك ذهاب دمه أو ما سواه مما يفسد أحواله عليه) (¬9). قال المباركفوري في شرحه: (فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه أو يراه) (¬10). ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: (إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا) (¬11). وقال المناوي: (وفيه ذم إفشاء السر وعليه الإجماع وسبب إذاعته أن للإنسان قوتين آخذة ومعطية وكلاهما يتشرف إلى الفعل المختص به ولولا أنه تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها ما ظهرت الأسرار فكامل العقل كلما طلبت القوة الفعل قيدها ووزنها بالعقل) (¬12). ¬

(¬1) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47). (¬2) رواه مسلم (350). (¬3) رواه البخاري (5470) ومسلم (2144). (¬4) رواه البخاري (5245)، ومسلم (715). (¬5) ((شرح مسلم للنووي)) (10/ 8). (¬6) ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (3/ 174). (¬7) ((فيض القدير)) (2/ 538). (¬8) رواه أبو داود (4868)، والترمذي (1959)، وأحمد (3/ 379) (15104). وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (561)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (486). (¬9) ((شرح مشكل الآثار)) (9/ 13). (¬10) ((تحفة الأحوذي)) (6/ 79). (¬11) رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450) واللفظ للبخاري. (¬12) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 90).

- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا، والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب، قال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ثم سارها، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارك، قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي، قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق، لما أخبرتني، قالت: أما الآن، فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقى الله، واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي، سارني الثانية، قال يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (¬1). قال ابن بطال: (وفيه: أنه لا ينبغي إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسر، لأن فاطمة لو أخبرت نساء النبي ذلك الوقت بما أخبرها به النبي من قرب أجله لحزن لذلك حزناً شديداً، وكذلك لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين، لعظم ذلك عليهن، واشتد حزنهن، فلما أمنت ذلك فاطمة بعد موته أخبرت بذلك) (¬2). وقال ابن حجر: (فيه جواز إفشاء السر إذا زال ما يترتب على إفشائه من المضرة لأن الأصل في السر الكتمان وإلا فما فائدته) (¬3). - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حين تأيمت حفصة، قال عمر: لقيت أبا بكر فقلت: ((إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلقيني أبو بكر فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها)) (¬4). قال ابن حجر: (وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدثه وقد أفشاه) (¬5). - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتجالس قوم إلا بالأمانة)) (¬6). قال المناوي: (أي لا ينبغي إلا ذلك فلا يحل لأحدهم أن يفشي سر غيره) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450). (¬2) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 61). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 80). (¬4) رواه البخاري (5145). (¬5) ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 178). (¬6) رواه أبو طاهر المخلص في ((المخلصيات)) (1/ 192) (210) من حديث مروان بن الحكم رحمه الله. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9944)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (7604). (¬7) ((فيض القدير)) (6/ 443).

أقوال السلف والعلماء في ذم إفشاء السر

أقوال السلف والعلماء في ذم إفشاء السر - (قال العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه لابنه عبد الله رضي الله عنه يا بنيّ إنّ أمير المؤمنين يدنيك يعني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فاحفظ عنّي ثلاثًا: لا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا يطّلعنّ منك على كذبةٍ) (¬1). - وقال معاوية: (ما أفشيت سري إلى أحد إلا أعقبني طول الندم، وشدة الأسف، ولا أودعته جوانح صدري فحكمته بين أضلاعي، إلا أكسبني مجداً وذكراً، وسناء ورفعة. فقيل: ولا ابن العاص. قال: ولا ابن العاص. وكان يقول: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك) (¬2). - ويروى أيضاً (أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه؛ فقال لأبيه: يا أبت إن أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثاً، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك، قال: فلا تحدثني به؛ فإن من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، قال: فقلت يا أبت: وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه؟ فقال: لا والله يا بني، ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر، قال: فأتيت معاوية فأخبرته فقال يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ فإفشاء السر خيانة وهو حرام إذا كان فيه إضرار ولؤم إن لم يكن فيه إضرار) (¬3). - و (قال عمرو بن العاص ما استودعت رجلًا سرًّا فأفشاه فلمته لأنّي كنت أضيق صدرًا منه حيث استودعته إيّاه) (¬4). - وقال عبد الملك بن مروان للشعبي، لما دخل عليه: (جنبني خصالاً أربعاً: لا تطريني في وجهي، ولا تجرين علي كذبة، ولا تغتابن عندي أحداً، ولا تفشين لي سراً) (¬5). - وقال الحسن: (إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك) (¬6). - وقال أكثم بن صيفيٍّ: (إنّ سرّك من دمك فانظر أين تريقه) (¬7). - وقال الأعمش: (يضيق صدر أحدهم بسره حتى يحدث به ثم يقول اكتمه علي) (¬8). - وقال أَبُو حاتم: (من حصن بالكتمان سره تم له تدبيره وكان له الظفر بما يريد والسلامة من العيب والضرر وإن أخطأه التمكن والظفر والحازم يجعل سره في وعاء ويكتمه عَن كل مستودع فإن اضطره الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له لأن السر أمانة وإفشاؤه خيانة والقلب له وعاؤه فمن الأوعية مَا يضيق بما يودع ومنها مَا يتسع لما استودع) (¬9). - وقال ابن الجوزي: (رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟!) (¬10). - وقال بعضهم: (كتمانك سرك يعقبك السلامة، وإفشاؤك سرك يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه) (¬11). - وقال الراغب الأصفهاني: (إذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء) (¬12). ¬

(¬1) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 957)، ابن أبي شيبة (5/ 229) (25527)، والطبراني في ((الكبير)) (10/ 265). قال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 221): فيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وغيره، وضعفه جماعة. (¬2) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص46). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص214). (¬4) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 98)، و ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 62). (¬5) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص45). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 132). (¬7) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 174 - 275). (¬8) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص191). (¬9) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬10) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 273). (¬11) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص46). (¬12) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 213).

- وعَنِ المدائني قَالَ: (كان يقال أصبر الناس الذي لا يفشي سره إلى صديقه مخافة أن يقع بينهما شيء فيفشيه) (¬1). - وقال بعضهم: (ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما في يده من اللصوص فيخفيه، ويمكن عدوه من نفسه بإظهاره ما في قلبه من سر نفسه وسر أخيه؛ ومن عجز عن تقويم أمره فلا يلومن إلا نفسه إن لم يستقم له) (¬2). - وقال أبو حاتم: (الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار ومن كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يده، ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها ومن لم يكتم السر استحق الندم ومن استحق الندم صار ناقص العقل ومن دام على هذا رجع إلى الجهل) (¬3). - (وقال رجل من سلف العلماء: كان يقال: أملك الناس لنفسه من كتم سره من صديقه وخليله. - وقال أبو عبيد: أحسب ذلك للنظر في العاقبة ألا يتغير الذي بينهما يوماً ما فيفشي سره) (¬4). - (وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سرّه فقال: أكلت الحامض والحلو حتّى ما أجد لهما طعماً، وأتيت النساء حتى ما أبالى امرأة لقيت أم حائطاً، فما بقيت لي لذّة إلّا وجود أخ أضع بيني وبينه مؤونة التحفّظ) (¬5). - وقال الماوردي: (وكم من إظهار سرٍّ أراق دم صاحبه، ومنع من نيل مطالبه، ولو كتمه كان من سطوته آمنًا، وفي عواقبه سالمًا، ولنجاح حوائجه راجيًا) (¬6). - وقال أيضاً: (وإظهار الرجل سر غيره أقبح من إظهاره سر نفسه؛ لأنه يبوء بإحدى وصمتين: الخيانة إن كان مؤتمنا، أو النميمة إن كان مستودعا، فأما الضرر فربما استويا فيه وتفاضلا. وكلاهما مذموم، وهو فيهما ملوم) (¬7). - (وقيل لعدي بن حاتم رحمه الله: أي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام، وإضاعة السرّ، والثقة بكل أحدٍ) (¬8). - وقال الجاحظ: (والسرّ- أبقاك الله- إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة فليس حينئذ بسرّ، بل ذاك أولى بالإذاعة، ومفتاح النّشر والهرة. وإنّما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع إلى أذن ثانية. وهو مع قلّة المأمونين عليه، وكرب الكتمان، حريّ بالانتقال إليها في طرفة عين) (¬9). - وكان المنصور يقول: (الملك يحتمل كل شيء من أصحابه إلّا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك) (¬10). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬2) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص46). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص191). (¬4) ((الأمثال)) لابن سلام (ص58). (¬5) ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص92). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307). (¬8) ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص 243). (¬9) ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص92). (¬10) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص45).

أنواع إفشاء السر

أنواع إفشاء السر ينقسم إفشاء السر إلى قسمين: 1. الإفشاء المحمود. مثل إفشاء السر الذي يؤدي إلى مصلحة للأفراد أو المجتمعات، أو إفشاء السر الذي به يغير المنكر، وغيرها من الأشياء التي يعود نفعها ومصلحتها على الفرد والمجتمع. 2. الإفشاء المذموم: والإفشاء المذموم ينقسم إلى قسمين: أ - إفشاء الإنسان سر نفسه وهذا يدل على فشله وعدم صبره. ب - إفشاء الإنسان سر غيره، وهذا يعتبر من الخيانة، وهو أشد وأخطر من إفشاء الإنسان سر نفسه.

صور إفشاء السر

صور إفشاء السر صور إفشاء السر المذموم: 1 - إفشاء الأسرار الزوجية: لقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل من الزوجين حقوق وواجبات، ومن هذه الحقوق حفظ الأسرار الزوجية، فكل من الزوجين أمين على أسرار الآخر، يجب عليه حفظها وعدم إفشاءها، لاسيما أن حياتهم الزوجية مليئة بالأسرار التي لا يعلمها سواهم من البشر. ومن أعظم هذه الأسرار وأشدها أسرار الجماع وما يجري بين الزوجين في الفراش، من الأشياء التي لا ينبغي لأحدهما إفشاؤها أو نشرها. ولذلك حرم الشارع الكريم هذا العمل الذي يتنافى مع الأخلاق الإسلامية الحميدة. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزوج أو الزوجة الذي ينشر الأسرار الزوجية بأنه شيطان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل منكم رجل أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا، فسكتوا، ثم أقبل على النساء؛ فقال: منكن من تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاة كعاب، على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله إنهم ليحدثون، وإنهن ليحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه)) (¬1). بل بيّن بأن مفشي سر زوجه من أشر الناس منزلة يوم القيامة؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) (¬2). قال السفاريني: (يكره لكل من الزوجين التحدث بما صار بينهما ولو لضرتها ... لأنه من السر وإفشاء السر حرام) (¬3). وكذلك فكل من الزوجين مطالب بحفظ باقي الأسرار الأخرى التي تقع في الحياة الزوجية، بل حتى بعد الفراق بطلاق أو غيره، لا ينبغي له إفشاء ما كان بينه وبين زوجه من أسرار خاصة لا ينبغي إطلاع الغير عليها. (يروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأة؛ فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال مالي ولامرأة غيري) (¬4). 2 - إفشاء أسرار الدولة: إن إفشاء أسرار الدولة والتعاون مع الأعداء لتمكينهم من معرفة عتاد الدولة، ونقاط ضعفها وقوتها، لمن الأشياء التي حرمها الشارع الحكيم، وحذر منها. وعاقب عليها لأنها خيانة عظمى. 3 - إفشاء وإعلان الذنوب التي يرتكبها: عن زيد بن أسلم)) أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال: فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: دون هذا، فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (2174). وصححه الألباني بشواهده في ((الإرواء)) (7/ 73) (2011). (¬2) رواه مسلم (1437). (¬3) ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 118). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 56). (¬5) رواه مالك (2/ 825) (12)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 565) (17574). قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/ 497)،وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 617): رواه الشافعي، عن مالك باللفظ المذكور، ثم قال: هذا حديث منقطع، ليس مما تثبت به - هو نفسه - حجة، وقد رأيت (من) أهل العلم عندنا من يعرفه ويقول به. وضعفه الألباني في ((الإرواء)) (7/ 363) (2328).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله؛ فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (¬1). 4 - إفشاء أسرار المسلمين: لقد نهى الشارع الكريم عن إفشاء أسرار المسلمين وأمر بسترها وكتمانها، لما في ذلك من حفظ لأعراضهم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) (¬2). صور إفشاء السر المحمود: 1 - أداء الشهادة عند القاضي: (والشهادة في حد ذاتها هي إخبار بالشيء السري الذي يخفى عن القاضي حقيقته، والمراد من أداء الشهادة: إظهار الأسرار لإثبات الحق في مجلس القضاء، وقد نهى الحق عن كتمان الشهادة: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]. وكذلك لا تكون الشهادة إلا بالإخبار القاطع، والإخبار لا يكون قاطعاً إلا بالإخبار التفصيلي، كما هو حاله في الشهادة على الزنا، لابد من ذكر المكان والزمان والكيفية وذكر الفاعل والمفعول به وما إلى ذلك حتى تتوفر فيه الشروط المقررة في حد الزنا. وكذلك في الشهادة على السرقة، لابد من ذكر الكيفية والحرز والمقدار حتى تثبت بشهادتهم أن المشهود عليه قد فعل الجناية المستحقة للعقوبة) (¬3). 2 - الحسبة وإفشاء الأسرار: إن عمل المحتسب هو البحث عن المنكرات الظاهرة وتغييرها، لكن المنكر إذا كان سراً ولم يظهر أمام الناس فإن هذه المنكرات التي هي سر إذا ظهرت للمحتسب دون تجسس على أعراض الناس، لا يحق له أن يسكت عنها أو يغض الطرف عنها، بل يجب عليه تغييرها وإزالتها. 3 - إفشاء الأسرار للإخوان لما فيه المصلحة العامة: كأن يرى أي مصلحة أو فائدة فيها خير يعود نفعها على الإسلام والمسلمين، أو فرصة سانحة يمكن أن تنفذ الدعوة من خلالها إلى ميادين الخير، فالهدهد لما أفشى خبر بلقيس وقومها إلى نبي الله سليمان، كان ذلك باب خير وانتشار للدعوة، وبسبب ذلك دخلت بلقيس وقومها في الإسلام. وكذلك الرجل الذي نقل خبر فرعون وقومه حينما كانوا يسعون لقتل موسى، فأفشى ذلك السر لموسى، وكان في ذلك نجاة لموسى من القتل بإذن الله. وغيرها من الأمثلة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6069). (¬2) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580). (¬3) ((كتمان السر وإفشاؤه في الفقه الإسلامي)) لشريف بن أدول (ص113 - 114).

أركان إفشاء السر

أركان إفشاء السر لاتقوم جريمة إفشاء السر إلا إذا توافر في إفشاء السر الركن المادي والمعنوي معاً في حالة إفشائه، وسنبين ذلك كما يلي: الركن الأول: الركن المادي للجريمة: يشترط لوقوع جريمة إفشاء السر توافر الركن المادي الذي يتمثل في إفشاء نبأ يعد لدى صاحبه سراً، أي يهمه كتمانه، ويشترط فيه ثلاثة شروط: 1) أن يكون الإفشاء تم فعله: ويقصد بالإفشاء كشف السر واطلاع الغير عليه بأية طريقة، ويشترط أن يكون الإفشاء قد تم فعله بأي وسيلة من وسائل الإفشاء، لأن مجرد التفكير بالإفشاء لا يعتبر جريمة تستحق التعزير. 2) أن يكون المنقول سراً صحيحاً: ويشترط أن تكون الوقائع أو الأنباء المنقولة سراً، لأن الوقائع المعروفة لا تعتبر إفشاء للسر، كما يشترط في السر أن يكون سراً صحيحاً، لأن إفشاء معلومات غير صحيحة لا يعتبر من قبيل جريمة إفشاء السر، وإنما يعتبر كذباً أو قذفاً إذا توافرت فيه أركان أي من هاتين الجريمتين. 3) أن يكون المفشي مكلفاً بالكتمان: كل عاقل بالغ مكلف بحفظ الأسرار، وهو أمين على كل ما وصل إليه من الأنباء الواقعة السرية، لأن الأدلة الواردة في تحريم إفشاء السر أدلة عامة لم تقيد بالشخصية أو الطائفة المعينة من المكلفين، بل هي العامة لكل من تتوفر فيه شروط التكليف، ولا نقول: مسلم، لأن الكافر مكلف بالأحكام الشرعية. ولأن كتمان السر، أمر واجب في كل الأديان، قررته فطرة الإنسان ومنطق العقل السليم، قبل أن يكون مقرراً شرعاً. الركن الثاني: الركن المعنوي للجريمة: يشترط للعقاب على الإفشاء فضلاً عن توافر الركن المادي أن يكون ذلك الإفشاء صادراً عن قصد العصيان أو ما يسمى اليوم في الاصطلاح القانوني بالقصد الجنائي، فلا يكفي للعقاب أن يكون السر قد انتشر وإنما يجب أن يكون هذا الإفشاء عمدياً. فيعتبر القصد الجنائي متوافراً متى أقدم الجاني على إفشاء السر عن عمد مع العلم بأن الشارع قد حرم الإفشاء؛ لأن قصد العصيان يجب توفره في كل الجرائم العمدية. غير أن هناك أحوال لا يتوافر فيها قصد العصيان أو يكون القصد فيها ناقصاً، مما يترتب على ذلك رفع العقاب على الجانب، وذلك في ثلاث حالات: الخطأ. والنسيان. والإكراه (¬1). ¬

(¬1) ((كتمان السر وإفشاؤه في الفقه الإسلامي)) لشريف بن أدول ((ص91 - 98) بتصرف واختصار.

أضرار إفشاء السر

أضرار إفشاء السر 1 - إفشاء السّرّ دليل الغفلة عن تفطّن العقلاء والسّهو عن يقظة الأذكياء. 2 - إفشاء السّرّ خيانة للأمانة ونقض للعهد. 3 - إفشاء السّرّ فيه ارتكاب للغرر وتعرّض للخطر. 4 - إفشاء السّرّ دليل على لؤم الطّبع وفساد المروءة. 5 - إفشاء السّرّ دليل على قلّة الصّبر وضيق الصّدر. 6 - إفشاء السّرّ- خاصّة عند الغضب- يعقب النّدم والحسرة في نفس صاحبه. 7 - إفشاء الأسرار إخلال بالمروءة وإفساد للصّداقة، ومدعاة للتّنافر. 8 - إفشاء الرّجل سرّ امرأته، وإفشاء المرأة سرّ زوجها يجعل كلّا منهما بمثابة الشّيطان ويخلّ بفضيلة الحياء. 9 - إفشاء السّرّ من فضول الكلام الّذي يعاب عليه صاحبه. 10 - إفشاء السّرّ يفقد الثّقة بين من أفشيت له بالسّرّ والمفشي، لأنّ المفضى إليه بالسّرّ سيعلم أنّ من أفشى له سيفشي عليه لأنّ من نمّ لك نمّ عليك ولا فرق بين الحالتين. 11 - إفشاء السّرّ من مقتضيات الجهل كما أنّ حفظه من سمة العقلاء. 12 - في إذاعة السّرّ ما يجلب العار والفضيحة للمفشي عندما يعرف بذلك من استودعه هذا السّرّ. 13 - إفشاء السّرّ فيه ذلّ لصاحبه. 14 - إفشاء السّرّ- خاصّة ما يتعلّق بالميّت- يعرّض صاحبه لعذاب الله. 15 - إفشاء السّرّ يدخل صاحبه النّار في الآخرة، ويعقب النّدم والحسرة في الدّنيا. 16 - مفشي السّرّ من أشرّ النّاس (¬1). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم))، لمجموعة باحثين (1/ 228 - 229).

الأسباب المعينة على ترك إفشاء السر

الأسباب المعينة على ترك إفشاء السر 1 - إدراك خطورة اللسان. 2 - تذكر عاقبة كشف السر. 3 - تعويد النفس على الصبر. 4 - أن لا نحمل ما لا نطيق من الأسرار. 5 - التزام ضوابط كشف السر. 6 - لا تنس الوصايا: - لا تحدث بكل ما سمعت: قال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)) (¬1) - لا تبحث عن الأسرار: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬2). - ستر المسلم فضيلة: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)) (¬3). - الأسرار أمانات فلا تخن من ائتمنك: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)) (¬4). - لا تكن أسير سرك: قال علي رضي الله عنه: (سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره) (¬5). - لا تنكح خاطب سرك، قال الماوردي رحمه الله: (وليحذر صاحب السر أن يودع سره من يتطلع إليه، وقد يؤثر الوقوف عليه، فإن طالب الوديعة خائن). - احذر كثرة المستودعين، قال الماوردي: (وليحذر كثرة المستودعين لسره، فإن كثرتهم سبب الإذاعة، وطريق الإشاعة لأمرين: أحدهما: أن اجتماع هذه الشروط في العدد الكثير معوز، ولابد إذا كثروا أن يكون فيهم من أخل ببعضها. الثاني: أن كل واحد منهم يجد سبيلاً إلى نفي الإذاعة عن نفسه، وإحالة ذلك إلى غيره، فلا يضاف إليه ذنب، ولا يتوجه عليه عتب، وقد قال بعض الحكماء: (كلما كثرت خزان الأسرار ازدادت ضياعاً) أ. هـ. (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم في المقدمة في (باب النهي عن الحديث بكل ما سمع). (¬2) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وأحمد (1/ 201) (1737). قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8243)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5911). (¬3) رواه مسلم (2590). (¬4) رواه أبو داود (4868)، والترمذي (1959)، وأحمد (3/ 379) (15104). وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (561)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (486). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص306). (¬6) ((الرائد دروس في التربية والدعوة)) لمازن عبد الكريم الفريح (4/ 227 - 230) بتصرف.

حكم وأمثال في إفشاء السر

حكم وأمثال في إفشاء السر (قال أبو عبيدة: من أمثالهم في الإصغاء بكتمان السر قولهم: - صدرك أوسع لسرك. أي فلا تفشه إلى أحد. ومنه قول أكثم بن صيفي: لا تفش سرك إلى أمةٍ ولا تبل على أكمة. قال أبو عبيد: وهذا مثل قد ابتذله الناس. ومن تحصينهم للسر مقالة الرجل لأخيه في الأمر يسره إليه: - اجعل هذا في وعاءٍ غير سربٍ. قال: وأصله في السقاء السائل، وهو السرب يقول: فلا تبد سري كإبداء السقاء ماءه سائل) (¬1). - (سرك من دمك. يقال: ربما أفشيته فيكون سبب حتفك) (¬2). - (صرح الحق عن محضه. أي انكشف لك الأمر بعد ستره) (¬3). - (أبدي الصريح عن الرغوة. أي: ظهر ما كانوا يخفون) (¬4). - (الحاج أسمعت)، وذلك إذا أفشى السر. أي إنك إذا أسمعت الحجاج فقد أسمعت الخلق (¬5). من أقوال الحكماء والبلغاء: - (قال بعض الأدباء: من كتم سرّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه. - وقال بعض البلغاء: ما أسرّك ما كتمت سرّك. - وقال بعض الفصحاء: ما لم تغيّبه الأضالع فهو مكشوفٌ ضائعٌ) (¬6). - (وقال الحكماء: ثلاثة لا ينبغي للعاقل أن يقدم عليها: شرب السم للتجربة، وإفشاء السر إلى القرابة والحاسد وإن كان ثقة، وركوب البحر وإن كان فيه غنى. - ويروى: أصبر الناس من لا يفشي سره إلى صديقه مخافة التقلب يوماً ما. - وقال بعض الحكماء: القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل منكم مفاتيح سره) (¬7). - وقَالَ بعض الْحُكَمَاء: من أفشى سره كثر عَلَيْهِ المتآمرون (¬8). - وقال حكيم لابنه: يا بني كن جواداً بالمال في موضع الحق، ضنيناً بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر، والبخل بمكتوم السر (¬9). - قَالَ بعض البلغاء: إِذا وقفت الرّعية على أسرار الْمُلُوك هان عَلَيْهَا أمرهَا (¬10). - وقال بعض الحكماء: لا تطلع واحدا من سرّك، إلا بقدر ما لا تجد فيه بدّا من معاونتك (¬11). - وَفِي منثور الحكم: من ضَاقَ صَدره اتَّسع لِسَانه (¬12). ¬

(¬1) ((الأمثال)) لابن سلام (ص57). (¬2) ((الأمثال)) لابن سلام (ص57). (¬3) ((الأمثال)) لابن سلام (ص59). (¬4) ((الأمثال)) لابن سلام (ص59). (¬5) ((نضرة النعيم)) لمجموعة باحثين (2/ 30). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص306 - 307). (¬7) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 117). (¬8) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخبار الملك)) للماوردي (ص93). (¬9) ((وقاية الإنسان من الجن والشيطان)) لوحيد عبدالسلام (ص317). (¬10) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخبار الملك)) للماوردي (ص97). (¬11) ((الحيوان)) للجاحظ (5/ 101). (¬12) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخبار الملك)) للماوردي (ص93).

مسائل متفرقة حول إفشاء السر

مسائل متفرقة حول إفشاء السر إفشاء سر الميت: (قال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة وأكثرهم يقول إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة. قلت -القائل ابن حجر-: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك) (¬1). (ولقد أجاز بعض العلماء إفشاء سر الرجل بعد موته مستدلين بما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أجلس فاطمة بجواره ثم سارها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: عما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي، قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني: أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (¬2). والحق أن إفشاء سر الرجل بعد موته فيه تفصيل فأحياناً يكون مباحاً وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة، وأحياناً يجب كحق عليه تعذر القيام به فيذكره لمن يتسنى له القيام به، وأحياناً يكره، وقد يحرم، مثل ما كان به ضرر بصاحب السر أو بعشيرته من بعده) (¬3). إفشاء الغاسل حال الميت: قال الخطيب الشربيني: (فإن رأى الغاسل من بدن الميت خيراً كاستنارة وجهه وطيب رائحته ذكره ندباً ليكون أدعى لكثرة المصلين عليه والدعاء له أو غيره كأن رأى سوادا أو تغير رائحة أو انقلاب صورة حرم ذكره؛ لأنه غيبة لمن لا يتأتى الاستحلال منه) (¬4). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة)) (¬5). صفات أمين السر: قال الماوردي: (ومن صفات أمين السر أن يكون ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع. فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة، فمن كملت فيه فهو عنقاء مغرب) (¬6). صفات من يفشي سر نفسه: قال الماوردي: (وفي الاسترسال بإبداء السر دلائل على ثلاثة أحوال مذمومة: إحداها: ضيق الصدر، وقلة الصبر، حتى أنه لم يتسع لسر، ولم يقدر على صبر. والثانية: الغفلة عن تحذر العقلاء، والسهو عن يقظة الأذكياء. وقد قال بعض الحكماء: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزل، ولا جاهلا فيخون. والثالثة: ما ارتكبه من الغدر، واستعمله من الخطر. وقال بعض الحكماء: سرك من دمك فإذا تكلمت به فقد أرقته) (¬7). ضوابط في إفشاء السر: ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 82). (¬2) رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450). (¬3) ((وقاية الإنسان من الجن والشيطان)) لوحيد عبد السلام (ص319). (¬4) ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/ 46). (¬5) رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص308). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307).

قال الماوردي: (واعلم أن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم. فليختر العاقل لسره أمينا إن لم يجد إلى كتمه سبيلا، وليتحر في اختيار من يأتمنه عليه ويستودعه إياه. فليس كل من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار مؤتمنا. والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه ببادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظا له وضنا به، ولا يرى ما أذاع من سره كبيرا في جنب ما حفظه من يسير ماله مع عظم الضرر الداخل عليه. فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال. وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن إحراز الأموال منيعة وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق) (¬1). الحالات التي يجوز فيها إفشاء السر: لا يجوز إفشاء السر الواجب كتمانه إلا في أحوال محدودة منها: 1 - انقضاء حالة كتمان السر. 2 - موت صاحب السر – بشرط أن لا يعود عليه بالضرر-. 3 - أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء. 4 - دفع الخطر (¬2). أكثر من يذيع السر: قال الجاحظ: (وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، ومن لهم عليهم اليد والسلطان. فالسرّ الذي يودعه خليفة في عامل له يلحقه زينه وشينه، أحرى ألّا يكتمه. وهذا سبيل كل سرّ يستودعه الجلّة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة. وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيراً، وصاحب سرّك واحدا من ألف) (¬3). أكثر الأمور عرضة لإفشاء السر: وإفشاء السرّ إنما يوكّل بالخبر الرائع، والخطب الجليل، والدفين المغمور، والأشنع الأبلق، مثل سرّ الأديان لغلبة الهوى عليها، وتضاغن أهلها بالاختلاف والتضادّ، والولاية والعداوة. ومثل سرّ الملوك في كيد أعدائهم ومكنون شهواتهم ومستور تدبيراتهم، ثم من يليهم من العظماء والجلّة، لنفاسة الملوك على العوامّ، وأنّهم سماء مظلّة عليهم، أعينهم إليها سامية، وقلوبهم بها معلّقة، ورغباتهم ورهباتهم إليها مصروفة. ثم عداوات الإخوان، فإنّما صارت العداوة بعد المودّة أشدّ لاطّلاع الصديق على سرّ صديقه، وإحصائه معايبه، وربّما كان في حال الصّداقة يجمع عليه السّقطات ويحصي العيوب، ويحتفظ بالرّقاع، إرصاداً ليوم النّبوة، وإعداداً لحال الصريمة (¬4). وصية في عدم إفشاء السر: وصية أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني لما حان زفافها بعمرو بن حجر ملك كندة، وفيها: (فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره) (¬5). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307 - 308). (¬2) ((الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية)) لمجموعة باحثين (ص99 - 101) بتصرف. (¬3) ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص95 - 96). (¬4) ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص100). (¬5) ((فقه السنة)) لسيد سابق (2/ 234).

إفشاء السر في واحة الشعر ..

إفشاء السر في واحة الشعر .. قال أنس بن أسيد: ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً (¬1) وقال أبو الشّيص: ضع السرّ في صمّاء ليست بصخرة ... صلود كما عاينت من سائر الصّخر ولكنها قلب امرئ ذي حفيظة ... يرى ضيعة الأسرار هتراً من الهتر يموت وما ماتت كرائم فعله ... ويبلى وما يبلى نثاه على الدّهر (¬2) وقال محمد بن إسحاق الواسطي: إذا المرء لم يحفظ سريرة نفسه ... وكان لسر الأخ غير كتوم فبعداً له من ذي أخ ومودة ... وليس على ود له بمقيم (¬3) وقال قيس بن الخطيم: وإن ضيّع الإخوان سرّاً فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمين يكون له عندي إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين (¬4) وقال الكريزي: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فأنت إذا حملته الناس أضيع ويضحك في وجهي إذا ما لقيته ... وينهشني بالغيب يوماً ويلسع (¬5) وقال قيس بن الخطيم الأنصاري: إذا جاوز الاثنين سرا فإنه ... بنثٍّ وتكثير الوشاة قمينُ (¬6) وقال الكريزي: اجعل لسرك من فؤادك منزلاً ... لا يستطيع له اللسان دخولا إن اللسان إذا استطاع إلى الذي ... كتم الفؤاد من الشئون وصولا ألفيت سرك في الصديق وغيره ... من ذي العداوة فاشياً مبذولا (¬7) وقال علي بن محمد البسامي: تبيح بسرك ضيقاً به ... وتبغي لسرك من يكتم وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لا تخافنه أحزم إذا ذاع سرك من مخبر ... فأنت، وإن لمته، ألوم (¬8) وقال آخر: ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... مني الضلوع من الأسرار والخبر لكنت أوّل من ينسى سرائره ... إذ كنت من نشرها يوماً على خطر (¬9) وقال عَبْد العزيز بْن سليمان: إذا ضاق صدر المرء عَن بعض سره ... فألقاه في صدري فصدري أضيق ومن لامني في أن أضيع سره ... وضيعه قبلي فذو السر أخرق (¬10) وقال آخر: إذا المرء أفشى سرّه بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الّذي يستودع السّرّ أضيق (¬11) وقال البغدادي: صن السر بالكتمان يرضيك غبه ... فقد يظهر المرء المضيع فيندم فلا تلجئن سراً إلى غير حرزه ... فيظهر حرز السوء مَا كنت تكتم (¬12) وقال آخر: لا تودعن ولا الجماد سريرة ... فمن الجوامد ما يشير وينطق وإذا المحك أذاع سر أخ له ... وهو الجماد فمن به يستوثق (¬13) وقال المنتصر بْن بلال الأنصاري: سأكتمه سري وأكتم سره ... ولا غرني أني عَلَيْهِ كريم حليم فيفشي أو جهول يذيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليم (¬14) وَقَالَ آخَرُ: ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى ... من السر ما يطوي عليه ضميرها فما يحفظ المكتوم من سر أهله ... إذا عقد الأسرار ضاع كثيرها من القوم إلا ذو عفاف يعينه ... على ذاك منه صدق نفس وخيرها (¬15) وقال آخر: إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً ... تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ وقَالَ آخَرُ: إذا ما ضاق صدرك عن حديثٍ ... فأفشته الرّجال فمن تلوم إذا عاتبت من أفشى حديثي ... وسرّي عنده فأنا الظّلوم وإنّي حين أسأم حمل سرّي ... وقد ضمّنته صدري سئوم ولست محدّثًا سرّي خليلًا ... ولا عرسي إذا خطرت هموم وأطوي السّرّ دون النّاس إنّي ... لما استودعت من سرّي كتوم (¬16) وقال الآخر: فلا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا ... ¬

(¬1) ((وقاية الإنسان من الجن والشيطان)) لوحيد عبد السلام (ص317). (¬2) ((الحيوان)) للجاحظ (5/ 103). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬4) ((الحيوان)) للجاحظ (5/ 102). (¬5) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص190). (¬6) ((الأمثال)) لابن سلام (ص57). (¬7) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬8) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص188). (¬9) ((الحيوان)) للجاحظ (5/ 102). (¬10) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص188). (¬11) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307). (¬12) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬13) ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 118). (¬14) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص189). (¬15) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص46). (¬16) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص190).

البخل والشح

معنى البخل والشح لغة واصطلاحاً معنى البخل لغة: البُخْلُ والبَخْلُ بالفتح والبَخَلُ بفتحتين والبُخُلُ بضمتين كله بمعنى واحد وقد بَخِلَ بكذا: أي ضن بما عنده ولم يجد, ويقال: هو بخيل وباخل, وجمعه بخلاء, وقولهم (أبْخَلهُ): وَجَدَهُ بخيلاً. وجعله بخيلاً. و (بَخَّلَه): رماه بالبُخْل. وجعله بخيلاً. و (استبخله): عَدَّه بخيلاً. و (البَخَال): الشَّديد: البُخْل) (¬1). معنى البخل اصطلاحاً: قال الراغب الأصفهاني: (البُخْلُ: إمساك المقتنيات عمّا لا يحق حبسها عنه) (¬2). وقال الجرجاني: (البخل هو المنع من مال نفسه) (¬3). وقال ابن حجر: (البخل هو منع ما يطلب مما يقتنى وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول) (¬4). معنى الشح لغة واصطلاحا: معنى الشح لغة: الشُحُّ: البُخْل مَع حِرْصٍ. تقول: شَحِحْتُ بالكسر تَشَحُّ، وشَحَحْتَ أيضاً تَشُحُّ وتَشِحُّ. ورَجُلٌ شَحيحٌ وقَوْمٌ شِحاحٌ وأَشِحَّةٌ (¬5). معنى الشح اصطلاحا: قال النووي: (الشح: هو البخل بأداء الحقوق والحرص على ما ليس له) (¬6). وقال الطبري: (الشح: الإفراط في الحرص على الشيء) (¬7). وقال الراغب الأصفهاني: (الشح: بخل مع حرص، وذلك فيما كان عادة) (¬8). ¬

(¬1) انظر ((مختار الصحاح)) (1/ 73) , و ((المعجم الوسيط)) (1/ 41 - 42). (¬2) ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني (1/ 109). (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص42). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 457). (¬5) ((الصحاح)) للجوهري (1/ 378). (¬6) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (16/ 222) (¬7) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (9/ 282) (¬8) ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص 446).

الفرق بين البخل والشح

الفرق بين البخل والشح اختلف أهل العلم في البخل والشح, هل هما مترادفان أم لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر, وقد بين الإمام الطيبي رحمه الله أن الفرق بينهما عسير جداً (¬1) وسنعرض هنا بعضاً من أقوال العلماء في الفرق بينهما: - يرى ابن مسعود رضي الله عنه أن البخل هو البخل بما في اليد من مال أما الشح فهو أن يأكل المرء مال الآخرين بغير حق, فقد قال له رجل: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك قال: إني سمعت الله يقول: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء, فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً (¬2). - وفرق ابن عمر بين الشح والبخل فقال: ليس الشحيح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل وإنه لشر إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له (¬3). - وقيل أنهما مترادفان لهما نفس المعنى (¬4). - (وقيل: البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك. والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك) (¬5). - وقيل: (الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ) (¬6). وهؤلاء قالوا أن منع المستحب لا يمكن أن يكون بخلاً لعدة أمور: - أحدها: أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا بالواجب. - وثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به. - وثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركاً التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلاً لزم أن يكون الله تعالى موصوفاً بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علواً كبيراً. - ورابعها: قال عليه الصلاة والسلام: ((وأي داء أدوأ من البخل)) (¬7) ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف. - وخامسها: أنه لو كان تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكل. - وسادسها: أنه تعالى قال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] وكلمة من للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب (¬8). - وقيل: (البخل هو المنع من مال نفسه والشح هو بخل الرجل من مال غيره ... ) - وقيل: (البخل ترك الإيثار عند الحاجة) (¬9). ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (28/ 94). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (9/ 98)، والطبراني (9/ 218) (9080)، والحاكم (2/ 532)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 426) (10841). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 125): رواه الطبراني عن شيخه عبدالله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف. (¬3) ذكره البغوي في ((تفسيره)) (8/ 78)، والسيوطي في ((الدر المنثور)) (8/ 107 - 108) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. (¬4) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 396). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (4/ 293). (¬6) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 396). (¬7) جزء من حديث رواه البخاري (4383). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬8) ((مفاتيح الغيب)) (9/ 444). (¬9) ((التعريفات)) (ص43).

- وقيل: (البخل هو نفس المنع والشح الحالة النفسية التي تقتضي ذلك المنع) (¬1). - وقيل أن الشح هو البخل مع زيادة الحرص وهو ما رجحه الإمام القرطبي رحمه الله فقال: وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬2). وهذا يرد قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح منع المستحب. إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدأ ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا)) (¬3). (¬4). - ويرى ابن القيم أن (الفرق بين الشح والبخل أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله فالبخل تمرة الشح والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس فمن بخل فقد أطاع شحه ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره وذلك هو المفلح وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]) (¬5) .. ¬

(¬1) كتاب ((الكليات)) لأبى البقاء الكفوي (1/ 361). (¬2) رواه مسلم (2578). (¬3) رواه النسائي (6/ 14)، وابن ماجه (2256)، وأحمد (2/ 256) (7474)، وابن حبان (8/ 43) (3251)، والحاكم (2/ 82)، والبيهقي (9/ 161) (18978). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (4/ 293). (¬5) ((الوابل الصيب)) (ص33).

ترتيب أوصاف البخيل

ترتيب أوصاف البخيل يقال: رَجُل بخيل، ثُمَّ مُسُك إِذا كانَ شَدِيدَ الإمْسَاكِ لِمالِهِ, ثُمَّ لَحِز إذا كان ضَيِّقَ النَّفْسِ شَدِيدَ البُخْلِ, ثُمّ شَحيحٌ إِذا كانَ مَعَ شِدَةِ بُخْلِهِ حَرِيصاً, ثُمَّ فاحِشٌ إذا كانَ متشدِّداً في بُخْلِهِ، ثُمّ حِلِزٌّ إذا كانَ في نهايَةِ البُخْلِ (¬1). ¬

(¬1) انظر ((فقه اللغة)) للثعالبي (ص111).

ذم البخل والشح في القرآن والسنة

ذم البخل والشح في القرآن والسنة ذم البخل والشح والنهي عنهما في القرآن الكريم: البخل خلق مكروه ذمَّه الله تبارك وتعالى في غير آية من كتابه الكريم, وتوعد أصحابه بوعيد شديد وعقوبات تلحقهم في الدنيا والآخرة وسنذكر بعضاً من تلك الآيات الكريمة. - قال الله تبارك وتعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180]. قال الشيخ السعدي رحمه الله في معنى هذه الآية: (أي ولا يظن الذين يبخلون، أي: يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله، من المال والجاه والعلم، وغير ذلك مما منحهم الله، وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك، وأمسكوه، وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم، بل هو شر لهم، في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180] أي: يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، يعذبون به) (¬1). - وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 36، 37] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قَدْ تُؤُوِّلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْمَنْعِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ وَهِيَ تَعُمُّ الْبُخْلَ بِكُلِّ مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِلْمٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ) (¬2). وقال الشيخ المراغي رحمه الله: (والمراد بالبخل في الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة، وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم) (¬3). - وقال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] يقول السعدي: (أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، اللذين كل منهما كاف في الشر البخل: وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثوهم على هذا الخلق الذميم، بقولهم وفعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها ... ) (¬4). وقال الزحيلي: (الذين يبخلون عادة بأموالهم، فلا يؤدون حق الله فيها، ولا يواسون بائسا فقيرا، ولا معدما عاجزا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته، فإن الله غني عنه، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه، لا يضره ذلك، ولا يضرن البخيل إلا نفسه) (¬5). ذم الشح والنهي عنه في القرآن الكريم. ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (158). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/ 212). (¬3) ((تفسير الشيخ المراغي)) (5/ 38). (¬4) ((تفسير السعدي)) ص: (842). (¬5) ((التفسير المنير)) للزحيلي (27/ 328).

- قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: 128] قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم ... وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة، الشح بحقه قبل صاحبه ... وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. و"الشح": الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها. فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن) (¬1). قال السعدي: (وأحضرت الأنفس الشح أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر) (¬2). - وقال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] قال الطبري: ("ومن يوق شح نفسه " يقول تعالى ذكره: من وقاه الله شح نفسه (فأولئك هم المفلحون) المخلدون في الجنة ... وأما العلماء فإنهم يرون أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق) (¬3). قال ابن كثير: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح) (¬4). قال السعدي: (من رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته) (¬5). ذم البخل والشح والنهي عنهما في السنة النبوية: - عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال)) (¬6). ¬

(¬1) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (9/ 279 – 282) (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 206) (¬3) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (23/ 285) (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 71) (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 850) (¬6) رواه البخاري (6369) واللفظ له ومسلم (2706)

يقول ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: ( ... ثم ذكر الجبن والبخل فإن الإحسان المتوقع من العبد إما بماله وإما ببدنه فالبخيل مانع لنفع ماله والجبان مانع لنفع بدنه ... ) (¬1). وقال: (والجبن والبخل قرينان: فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل) (¬2). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: بإصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا توسع)) (¬3). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: (لما كان البخيل محبوسا عن الإحسان ممنوعا عن البر والخير وكان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح كثير الهم والغم والحزن لا يكاد تقضى له حاجة ولا يعان على مطلوب فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقة من حلقها موضعها وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو) (¬4). - وعَن جَابر رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بني سلمة من سيدكم قالوا: الجد بن قيس وإنا لنبخله، قال: وأي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الخير الأبيض عمرو بن الجموح)) قال: وكان على أضيافهم في الجاهلية قال: وكان يولم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج (¬5). قال الإمام المناوي: (أَي عيب أقبح مِنْهُ لَأن من ترك الإنفاق خوف الإملاق لم يصدق الشَّارِع فَهُوَ دَاء مؤلم لصَاحبه فِي الْآخِرَة وإن لم يكن مؤلما فِي الدُّنْيَا) (¬6). - وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬7). قال النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم (واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم) قال القاضي يحتمل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم ويحتمل أنه هلاك الآخرة وهذا الثاني أظهر ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة) (¬8). - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) قالوا: يا رسول الله، أيم هو؟ قال: ((القتل القتل)) (¬9). قال ابن حجر: (أما قوله ويلقى الشح فالمراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم حتى يبخل العالم بعلمه فيترك التعليم والفتوى ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير وليس المراد وجود أصل الشح لأنه لم يزل موجودا) (¬10). وقال ابن الجوزي: (قوله: "يلقى الشح" على وجهين: أحدهما يلقى من القلوب، يدل عليه قوله: "ويفيض المال". والثاني: يلقى في القلوب فيوضع في قلب من لا شح عنده، ويزيد في قلب الشحيح. ووجه هذا أن الحديث خارج مخرج الذم، فوقوع الشح في القلوب مع كثرة المال أبلغ في الذم) (¬11). ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)) لابن القيم (1/ 113). (¬2) ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) لابن القيم (1/ 73). (¬3) رواه البخاري (5797) مسلم (1021). (¬4) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص33). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 373) (8913)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 431) (10859) واللفظ له. قال الدارقطني في ((تاريخ بغداد)) (4/ 439): له متابعة، وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 371): غريب من حديث سفيان عن محمد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 318): رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني، وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (236). (¬6) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (2/ 482). (¬7) رواه مسلم (2578) (¬8) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (16/ 134) (¬9) رواه البخاري (6037) واللفظ له ومسلم (157) (¬10) ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 17) (¬11) ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 327)

أقوال السلف والعلماء في ذم البخل والشح

أقوال السلف والعلماء في ذم البخل والشح - قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ السَّخِيُّ بِسَخَائِهِ الْجَنَّةَ) (¬1). - وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: (إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء لكننا نتصبر) (¬2). - وسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْبُخْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ مَا يُنْفِقُهُ تَلَفًا وَمَا يُمْسِكُهُ شَرَفًا (¬3). - وعَن طاووس قال: البخل، أن يبخل الإنسان بما في يديه (¬4). - وقال محمد بن المنكدر: (كان يقال: إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم, وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم) (¬5). - وقال أبو حنيفة رحمه الله: (لا أرى أن أعدل بخيلا لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة) (¬6). - وقال بشر بن الحارث: البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنك إذا لبخيل)) (¬7) , ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ((صوامة قوامة إلا أن فيها بخلاً, قال: فما خيرها إذن؟)) (¬8). - وقال: النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين (¬9). - وقال: لَا تُزَوِّجْ الْبَخِيلَ وَلَا تُعَامِلُهُ مَا أَقْبَحَ الْقَارِئَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا (¬10). - قالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: (أف للبخيل .. لو كان البخل قميصاً ما لبسته, ولو كان طريقاً ما سلكته) (¬11). - وقال الشعبي: لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب (¬12). - قال حبيش بن مبشّر الثّقفيّ الفقيه: قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنّاس متوافرون فأجمعوا أنّهم لا يعرفون رجلا صالحا بخيلا (¬13). - وقال يحيى بن معاذ: ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجارا وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارا (¬14). - وقال ابن المعتز أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه (¬15). - وقال أيضاً: بشّر مال البخيل بحادث أو وارث (¬16). - وقال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ: فَإِنَّ عَدَمَ النَّفْعِ مِنْهُ إِنْ كَانَ بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ، وَإِنْ كَانَ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ (¬17). - قال الماوردي: (الحرص والشح أصل لكل ذم، وسبب لكل لؤم؛ لأن الشح يمنع من أداء الحقوق، ويبعث على القطيعة والعقوق) (¬18). ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 310). (¬2) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 255). (¬3) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 299). (¬4) ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (8/ 108). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 255). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 256). (¬7) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 442) (10912). (¬8) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 442) (10912). (¬9) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 256). (¬10) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 311). (¬11) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 255). (¬12) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 255). (¬13) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 311). (¬14) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 256). (¬15) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 256). (¬16) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 317). (¬17) ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص73). (¬18) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص224).

حكم البخل

حكم البخل ليس للبخل حكماً واحداً ينطبق على جميع صوره وأنواعه, وإنما لكل صورة من صور البخل حكماً خاصاً بها وإن كان البخل في عمومه مذموماً مكروهاً, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والبخل جنس تحته أنواع كبائر وغير كبائر) (¬1). فإن كان المنع بخلاً بواجب فهو محرم شرعاً بل هو كبيرة من الكبائر توعد الله صاحبها بالعقوبة والعذاب كمن منع الزكاة الواجبة بخلاً بالمال وحرصاً عليه, قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن البخل من الكبائر وهو منع الواجبات: من الزكاة وصلة الرحم، وقرى الضيف، وترك الإعطاء في النوائب، وترك الإنفاق في سبيل الله) (¬2). أما ما كان المنع فيه بمستحب فهذا لا يعتبر صاحبه مرتكباً لكبيرة يستحق عليها العقوبة والوعيد, كمن بخل بالصدقة المستحبة. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 156). (¬2) ((المستدرك على فتاوى ابن تيمية)) جمع: ابن قاسم (1/ 125).

آثار البخل والشح

آثار البخل والشح للبخل والشح آثار وأضرار تصيب من اتصف بهما في دنياه وآخرته, فمن ذلك: 1. الحرمان من الأجر المترتب على الإنفاق في أبواب الخير. 2. سبب في ضعف الإيمان واضمحلاله لما فيه من سوء الظن بالله. 3. كراهية الناس له, فهو مبغوض مكروه حتى من أقرب الناس إليه كزوجته وأبنائه وأقربائه, بل قد يصل بهم الحد إلى أن يدعوا عليه ويتمنوا موته حتى يستطيعوا التنعم بما حرمهم منه من أموال. 4. سبب لحرمان الرزق, فكما أن الإنفاق سبب في زيادة الرزق وسعته فإن البخل والشح سبب في تضييقه. 5. الوقوع في الإثم بسبب منعه لما يجب عليه من حقوق وواجبات. 6. حرمان البخيل الشحيح لنفسه ولغيره من لذائذ الدُّنيا المباحة. 7. ومن ضررهما في الدنيا تعريض مال الغني للضياع والنهب والسرقة والأحقاد، وفي عصرنا وغيره ظهور الحملات الشنيعة على الأغنياء المترفين، وانتشار الأفكار والنظريات المسماة بالاشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية (¬1). 8. سبب لكشف عيوب المرء, وإظهارها للخلق, قال شمس الدين السفيري: (والسخاء والكرم سبب لستر العيوب، والبخل والشح سبب جالب لكشفها كما أشار إليه بعضهم بقوله: ويظهر عيب المرء في الناس بخله ... ويستره عنهم جميعاً سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه) (¬2) 9. الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال والأسواق هي معشش الشياطين (¬3). 10. البخل صنو لعدد من الأخلاق السيئة التي يجر بعضها بعضاً, كالجهل والحسد وسوء الظن بالله وغيرها من الأخلاق الرديئة, (ولهذا قيل في حد البخل جهل مقرون بسوء الظن) (¬4). 11. والبخل صفة غير لائقة بأهل الإسلام بل هي سجية عرف بها اليهود قديماً وحديثاً, قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (البخل قد لزم اليهود لزوم الظلّ للشمس، فلا ترى يهودياً، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله) (¬5). 12. (البخل محو صفات الإنسانية وإثبات عادات الحيوانية) (¬6). 13. ما ينتظر البخيل والشحيح من عقاب أخروي وطول حساب, خاصة إذا كان بخله قد أداه إلى عدم تأدية ما فرض الله عليه من زكاة وإنفاق على من تجب نفقتهم عليه. 14. إفساد العلاقات بين الناس وإعاقة الصلح بينهم: قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 128] ¬

(¬1) ((التفسير المنير)) للزحيلي (4/ 180). (¬2) ((شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين السفيري (1/ 348). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 34). (¬4) ((مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)) لابن القيم (ص116). (¬5) ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 66). (¬6) ((التعريفات)) للجرجاني (ص43).

قال السعدي: (اعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه. وذكر المانع بقوله: وأحضرت الأنفس الشح أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر) (¬1). 15. الشح من صفات المنافقين: قال تعالى - في وصف المنافقين -: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب: 19] قال الطبري: (إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشح، ولم يخصص وصفهم من معاني الشح، بمعنى دون معنى، فهم كما وصفهم الله به: أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله، على أهل مسكنة المسلمين) (¬2). 16. الإنسان الشحيح لاخير فيه ولاعنده: قوله تعالى أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ قال ابن كثير: (وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير) (¬3). 17. الشح أسوأ صفات الإنسان: قوله تعالى أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ قال السعدي: (أشحة على الخير: الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحا بما أمر به، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله، أو يدعو إلى سبيل الله، شحيحا بجاهه، شحيحا بعلمه، ونصيحته ورأيه) (¬4). 18. الشح سبب في الهلاك وفساد المجتمع: عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬5). 19. يوقع الإنسان في كبائر الذنوب: كما مر في الحديث السابق من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬6). 20. سبب في الخسران في الدنيا والآخرة: قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] قال السعدي: (لعل ذلك – الوقاية من الشح - شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة) (¬7) ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 206) (¬2) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (20/ 231) (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 391) (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 660) (¬5) رواه مسلم (2578) (¬6) رواه مسلم (2578) (¬7) ((تسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 868)

أشد درجات البخل

أشد درجات البخل قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: (وأشد درجات البخل أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل. فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين ما يؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله عز وجل حيث يشاء) (¬1). ¬

(¬1) ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص265).

صور البخل

صور البخل للبخل صور شتى ومظاهر متعددة فمن صوره ما يأتي: 1. البخل بالمال والمقتنيات: وهذا بدوره ينقسم إلى أقسام عدة ذكرها الراغب فقال: (البخل ثلاثة: 1. بخل الإنسان بماله 2. وبخله بمال غيره على غيره 3. وبخله على نفسه بمال غيره وهو أقبح الثلاثة والباخل بما بيده باخل بمال الله على نفسه وعياله إذ المال عارية بيد الإنسان مستردة ولا أحد أجهل ممن لا ينتقذ نفسه وعياله من العذاب الأليم بمال غيره سيما إذا لم يخف من صاحبه تبعة ولا ملامة والكفالة الإلهية متكفلة بتعويض المنفق، ففي الخبر اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا ومن وسع وسع الله عليه) (¬1). 2. البخل بالنفس: كمن يبخل بنفسه أن يقدمها في سبيل الله رخيصة, وذلك تعلقاً منه بالدنيا وحرصاً عليها, وكراهية الموت, وهو على عكس من يجود بنفسه لإعلاء كلمة الله, ونشر دينه, قال الشاعر: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أعلى غاية الجود ونقل ابن القيم رحمه الله عن بعض الحكماء أنه قال: (إن الإحسان المتوقع من العبد إما بماله وإما ببدنه فالبخيل مانع لنفع ماله والجبان مانع لنفع بدنه المشهور عند الناس إن البخل مستلزم الجبن من غير عكس لأن من بخل بماله فهو بنفسه أبخل والشجاعة تستلزم الكرم من غير عكس لأن من جاد بنفسه فهو بماله أسمح وأجود) ثم قال رحمه الله: (وهذا الذي قالوه ليس بلازم أكثره فإن الشجاعة والكرم وأضدادها أخلاق وغرائز قد تجمع في الرجل وقد يعطى بعضها دون بعض وقد شاهد الناس من أهل الإقدام والشجاعة والبأس من هو أبخل الناس وهذا كثيراً ما يوجد في أمة الترك, يكون أشجع من ليث وأبخل من كلب, فالرجل قد يسمح بنفسه, ويضن بماله ولهذا يقاتل عليه حتى يقتل فيبدأ بنفسه دونه فمن الناس من يسمح بنفسه وماله ومنهم من يبخل بنفسه ومنهم من يسمح بماله ويبخل بنفسه وعكسه والأقسام الأربعة موجودة في الناس) (¬2). 3. البخل بالجاه: فترى صاحب الجاه والمنصب العلي يبخل بالمنفعة التي سيقدمها لمن يحتاجها, فلا يشفع إن طلبت منه الشفاعة, ولا يصلح إن طلب منه الصلح, ولا يسعى في حاجة الضعيف والمسكين وذي الحاجة. 4. البخل بالعلم: وهو من أسوأ أنواع البخل وأقبحها, بحيث يكتم صاحب العلم علمه عمن يحتاجه, فلا يعلم ولا ينصح ولا يوجه, قال الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 37]. قال ابن عباس: (هي في أهل الكتاب يقول: يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان) (¬3). وقال حضرمي: (هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك). وقال سعيد بن جبير: (كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم وينهون العلماء أن يعلموا الناس شيئا فعيرهم الله بذلك فأنزل الله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الآية. وقال: هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء) (¬4). وقال الإمام الطبري رحمه الله: (إِنَّ بُخْلَهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِنَّمَا كَانَ بُخْلاً بِالْعِلْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ آتَاهُمُوهُ، فَبَخِلُوا بِتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ، وَكَتَمُوهُ دُونَ الْبُخْلِ بِالأَمْوَالِ) (¬5). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بأقوالهم وأفعالهم وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين) (¬6). ¬

(¬1) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (5/ 496) (¬2) ((مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)) لابن القيم (ص113 - 114). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (7/ 439)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (3/ 952). (¬4) ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (2/ 538). (¬5) ((جامع البيان)) للطبري (7/ 24). (¬6) ((تفسير السعدي)) (1/ 177).

أسباب الوقوع في البخل والشح

أسباب الوقوع في البخل والشح إن للإقتار والبخل أسباباً نذكر منها ما يلي: 6. ضعف إيمان البخيل وسوء ظنه بالله, فهو يستثقل أمر الإنفاق ويغفل عن تعويض الله له على ما أنفق, كما أنه يغيب عنه أن هذا المال هو مال الله وأنه لم يأت إلى الدُّنيا وبيده شيء منه. 7. الظلم سبب آخر من أسباب البخل, حيث ينتج عنه تعطيل لحقوق الآخرين. 8. حب المال والتعلق به يورث هذه الصفة الدنيئة والسجية القبيحة. 9. ضعف الهمة والزهد في الذكر الحسن. 10. الظن بأن البخل نوع من الذكاء والفطنة والتدبير لأمور الدنيا. 11. الخوف من المستقبل وما سيأتي به, والهلع من الفقر والحاجة التي يعد بها الشيطان الرجيم. 12. الخوف على الأبناء وعلى مستقبلهم فالأبناء مبخلة مجبنة كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 13. النشأة والتربية, فقد ينشأ الشخص بين والدين بخيلين أو مجتمع يتصف بالبخل فيتشرب هذه الصفة ممن حوله وتصبح سجية له. 14. عدم استشعار ما ينتظر البخيل من العقوبة يوم القيامة. 15. الغفلة عن الأجور المترتبة على الإنفاق والبذل والقيام بالحقوق الواجبة. 16. حب الشهوات والميل للملذات, ما يجعل البخيل يتصور أنه بإنفاقه سيقتر على نفسه في ملذاته وسيضيق عليها في الشهوات فيحجم عن الإنفاق. 17. طول الأمل, والتشبث بالحياة.

الوسائل المعينة على ترك البخل والشح

الوسائل المعينة على ترك البخل والشح 1. أن يحسن المرء الظن بالله عز وجل, وليعلم أن الله الذي أمره بالإنفاق قد تكفل له بالزيادة. وقد قيل: (قلة الجود سوء ظن بالمعبود). 2. الإكثار من الصدقة وإن كان ذلك ثقيلاً على من اتصف بهذه الصفة, وبذلك يعتاد على صفة الكرم والإنفاق قال ابن القيم رحمه الله: (فالفقير الآخذ لصدقتك يستخرج منك داء البخل كالحجام يستخرج منك الدم المهلك) (¬1). 3. معرفة أن الإيحاء بالفقر والتخويف منه إنما هو وعد شيطاني, وأن وعد الله هو المغفرة للذنوب وزيادة الفضل يقول الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268]. 4. الاستعاذة بالله من البخل, كما كان يفعل أكرم الخلق وأجودهم صلى الله عليه وسلم حيث كان يستعيذ من البخل فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)) (¬2). 5. معالجة طول الأمل بالإكثار من ذكر الموت والنظر في موت الأقران. 6. التأمل في حال البخلاء الذين تعبوا في جمع المال والحرص عليه ثم تركهم له يتقاسمه الورثة, وربما استخدموه في غير طاعة الله فكان وبالاً عليهم. 7. التأمل في الآيات الواردة في ذم البخل, وما أعده الله للمتصفين بهذه الصفة القبيحة. 8. صرف القلب إلى عبادة المولى تبارك وتعالى, حتى لا ينشغل بعبادة المال والحرص عليه. 9. علاج حب الشهوات بالقناعة باليسير والصبر. 10. عدم الخوف من المستقبل, ومعرفة أن المستقبل بيد الله إن شاء أغناك وإن شاء أفقرك وإن كنت أحرص الناس. 11. عدم الخوف على مستقبل الأبناء, والتيقن أن من خلقهم قد خلق أرزاقهم معهم ولن يضيعهم. فكم من ولد لم يرث من والده مالا صار أحسن حالاً ممن ورث الأموال الطائلة. 12. علاج القلب بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به البخيل من العقاب العظيم. 13. التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع منهم وبغض الناس لهم وبقاء الذكر السيئ من بعدهم. ¬

(¬1) ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم (22/ 6). (¬2) رواه البخاري (6365)

البخل .. في مضرب الأمثال

البخل .. في مضرب الأمثال 1 - يقال: أَبْخَلُ مِنْ صَبِيٍّ ومن كَسع: قالوا: هو رجل بَلَغ من بخله أنه كَوَى إسْتَ كلبه حتى لا يَنْبَح فيدل عليه الضيف 2 - ويقال: أَبْخَلُ مِنَ الضَّنِينِ بِنَائِلِ غَيْرِهِ. 3 - ويقال: أَبْخَلُ مِنْ ذِي مَعْذِرَة: وهذا مأخوذ من قولهم في مثل آخر: المَعْذِرة طَرَفٌ من البخل 4 - ويقال: أَبْخَلُ مِنْ كَلْبٍ. 5 - ويقال: أَبْخَلُ مِنْ مادِرٍ: وهو رجل من بني هِلال بن عامر بن صَعْصَعة وبلغ من بُخْله أنه سقي إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسَلَح فيه ومَدَر الحوضَ به فسمى مادراً لذلك واسمه مُخَارق (¬1). 6 - ويقال: أبخل من أبي حباحب ومن حباحب: قالوا هو رجل من العرب كان لبخله يوقد نارا ضعيفة فإذا أبصرها مستضيء أطفأها (¬2). 7 - ويقال: أَلأم مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنِ: هو رجل من العرب كان يَرْضَع اللبنَ من حَلَمة شَاتِهِ ولاَ يحِلُبها مخافَةَ أن يُسْمَع وَقْعُ الحَلَبِ في الإناء فيُطْلَبَ منه (¬3). 8 - ويقال: مَا يَبِضُّ حَجَرُهُ: وهو أدنى ما يكون من السيلان يضرب للمتناهي في البخل (¬4). ¬

(¬1) ((مجمع الأمثال)) للميداني (111 - 120) بتصرف. (¬2) ((كتاب جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/ 246). (¬3) ((مجمع الأمثال)) للميداني (2/ 251). (¬4) ((المستقصى في أمثال العرب)) (2/ 334).

البخل في أقوال الحكماء

البخل في أقوال الحكماء - (قال بعض الحكماء: لا تحمل على نفسك همّ ما لم يأتك، ولا تعدنّ عدة ليس في يديك وفاؤها، ولا تبخلنّ بالمال على نفسك، فكم جامع لبعل حليلته) (¬1). - قال بعض الحكماء: مَنْ بَرِئَ مِنْ ثَلَاثٍ نَالَ ثَلَاثًا: مَنْ بَرِئَ مِنْ السَّرَفِ نَالَ الْعِزَّ وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَفَ, وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ نَالَ الْكَرَامَةَ (¬2). - قال بعض الحكماء: البخيل ليس له خليل (¬3). - وقال آخر: البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته (¬4). - وقال آخر: عجبا للبخيل المتعجّل للفقر الّذي منه هرب، والمؤخّر للسّعة الّتي إيّاها طلب، ولعلّه يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدّنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنّك لم تر بخيلا إلّا غيره أسعد بماله منه، لأنّه في الدّنيا مهتمّ بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدّنيا من همّه، وناج في الآخرة من إثمه (¬5). ¬

(¬1) ((مساوئ الأخلاق)) للخرائطي (ص167). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص224). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص185). (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص185). (¬5) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 316).

البخل والشح في واحة الشعر ..

البخل والشح في واحة الشعر .. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إِذا جادتِ الدنيا عليكَ فجُدْ بها ... على الناسِ طراً إِنها تَتَقَلَّبُ فلا الجودُ يفنيها إِذا هي أقبلتْ ... ولا البخلُ يُبْقيها إِذا هي تَذْهَبُ وقال أيضاً: ما أحسنَ الجودَ في الدنيا وفي الدينِ ... وأقبحَ البخلَ فيمن صيغَ من طينِ ما أحسن الدينَ والدنيا إِذا اجتمعا ... لا باركَ الله في الدنيا بلا دينِ وقال المقنع الكندي: إِني أحرضُ أهلَ البخلِ كلهمُ ... لو كان ينفعُ أهلَ البخلِ تحريضي ما قلَّ مالي إِلا زادني كرماً ... حتى يكونَ برزقِ الله تعويضي والمالُ يرفعُ من لولا دراهمُهُ ... أمس يُقَلِّبُ فينا طرفَ مَخْفوضِ لن تَخْرُجَ البيضُ عفواً من أكفهمُ ... إِلا على وَجَعٍ منهم وتمريضِ كأنها من جلودِ الباخلين بها ... عند النوائبِ تُحْذى بالمقاريضِ وقال آخر: فَلا الْجودُ يُفْنيِ المالَ وَالجَدُّ مُقْبِلٌ ... وَلا الْبُخْلُ يُبْقي المَالَ وَالْجَدُّ مُدْبِرُ (¬1) وقال إسحاق الموصلي: وآمرةً بالبخلِ قلتُ لها اقْصِري ... فليسَ إِلى ما تأمرينَ سبيلُ أَرى الناسَ خلانَ الجوادِ ولا أرى ... بخيلاً له في العالمينَ خليلُ ومن خَيْرِ حالاتِ الفتى لو علمتِه ... إِذا قالَ شيئاً أن يكونَ ينيلُ فإِني رأيتُ البخلَ يزري بأهِله ... فأكرمْتُ نفسي أن يقالَ بخيلُ عطائي عطاءُ المكثرين تجملاً ... ومالي كما قد تعلمينَ قليلُ وقال عمرو بن الأهتم: ذريني فإِن البخلَ يا أم هيثمٍ ... لصالحِ أَخلاقِ الرجالِ سروقُ لعمركِ ما ضاقَتْ بلادٌ بأهِلها ... ولكن أخلاقَ الرجالِ تَضِيْقُ (¬2) وقال ابن الزقاق: لا يُحمدُ البخلُ أن دانَ الأنامُ به ... وحامِدُ البخلِ مذمومُ ومدحورُ وقال الجاحظ: سقامُ الحرصِ ليس له شفاءٌ ... وداءُ البُخْلِ ليس له طبيبُ وقال علي بن ذكوان: أنفِقْ ولا تخشَ إِقلالاً فقد قُسمت ... بينَ العبادِ مع الآجالَ أرزاقُ لا ينفعُ البخلُ مع دنيا موليةٍ ... ولا يضرُ مع الإقبالِ إِنفاقُ وقال عبد الله بن المعتز: أعاذلَ ليس البخلُ مني سجيةً ... ولكن رأيتُ الفقرَ شرَّ سبيلِ لَموتُ الفتى خيرٌ من البخلِ للفتى ... ولَلْبُخْلُ خيرٌ من سؤالِ بخيلِ لعمُركَ ما شيءٌ لوجهِك قيمةٌ ... فلا تلقَ مخلوقاً بوجهِ ذليلِ ولا تسألنْ من كان يسألُ مرةً ... فللموتُ خيرٌ من سؤالِ سؤولِ وقال العثماني: فلا الجودُ يفني المالَ قبل فنائهِ ... ولا البخلُ في مالِ الشحيحِ يزيدُ فلا تلتمسْ مالاً بعيشٍ مقترٍ ... لكلِّ غدٍ رزقٌ يعودُ جديدُ وقال قيس بن الخطيم: وليس بنافعٍ ذا البخلِ مالٌ ... ولا مُزْرٍ بصاحبِه السخاءُ وبعضُ الداءِ ملتمس شِفاهُ ... وداءُ النوكِ ليس له شفاءُ وقال علي بن مقرَّب: كلُّ السيادةِ في السخاءِ ولن ترى ... ذا البخلِ يُدعى في العشيرةِ سيدا وقال دعبل الخزاعي: ألا إِنما الإِنسانُ غمدٌ لقلبهِ ... فلا خيرَ في غِمْدٍ إِذا لم يكن نصلُ ولا خيرَ في وعدٍ إِذا كان كاذباً ... ولا خيرَ في قول إِذا لم يكن فعلُ فإِن تجمعِ الآفاتِ فالبخلُ شَرُّها ... وشَرٌّ من البخلِ المواعيدُ والمطلُ وقال آخر: ويظهر عيب المرء في الناس ... بخله ويستره عنهم جميعا سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه (¬3) وقال آخر: وهبني جمعت المال ثم خزنته ... وحانت وفاتي هل أزاد به عمرا إذا خزن المال البخيل فإنه ... سيورثه غما ويعقبه وزرا (¬4) ... ¬

(¬1) ((المثل السائر)) لضياء الدين بن الأثير (3/ 147). (¬2) ((المفضليات)) للمفضل الضبي (ص127). (¬3) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص34). (¬4) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص181).

التجسس

معنى التجسس لغة واصطلاحاً معنى التجسس لغة: مأخوذ من الْجَسِّ: وهو جَسُّ الخَبَرِ, ومعناه: بحث عنه وفحَصَ، وتَجَسَّسْتُ فلاناً ومن فلان بحثت عنه, والتَّجَسُّسُ بالجيم التفتيش عن بواطن الأُمور وأَكثر ما يقال في الشر، والجاسُوسُ: العَيْنُ يَتَجَسَّسُ الأخبارَ ثم يأتي بها وهو صاحب سِرِّ الشَّر والناموسُ صاحب سرِّ الخير (¬1). معنى التجسس اصطلاحاً: وقال الزحيلي: (التجسس: البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس) (¬2). ¬

(¬1) انظر ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 242) , و ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 38) , و ((تاج العروس من جواهر القاموس)) للزبيدي (15/ 499). (¬2) ((التفسير المنير)) للزحيلي (26/ 247).

الفرق بين التجسس والتحسس

الفرق بين التجسس والتحسس قال أبو هلال العسكري: (الفرق بين التحسس والتجسس: التحسس - بالحاء المهملة -: طلب الشيء بالحاسة, والتجسس - بالجيم - مثله. وفي الحديث: ((لا تحسسوا، ولا تجسسوا)) قيل: معناهما واحد، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر: متى أدن منه ينأ عني ويبعد. وقيل: التجسس - بالجيم - البحث عن عورات النساء, - وبالحاء - الاستماع لحديث القوم، ويروى أن ابن عباس سئل عن الفرق بينهما فقال: (لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير، والتجسس في الشر) (¬1). قلت: ويؤيده قوله تعالى حكاية عن يعقوب: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ [يوسف: 87]- بالحاء -. على القراءة المشهورة، فإنه كان متوقعا لأن يأتيه الخبر بسلامة يوسف. وقوله سبحانه: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12]- بالجيم - فإن المنهي عنه البحث عن معائب الناس وأسرارهم التي لا يرضون بإفشائها واطلاع الغير عليها) (¬2). وقال بعضهم: (التحسس بالحاء أن تستمع الأخبار بنفسك, وبالجيم أن تتفحص عنها بغيرك) (¬3). وقال الترمذي الحكيم: (التحسس يعني بالحاء هو طلب أخباره والفتش عنه شفقة ونصحاً واحتياطاً فتطيب نفسه لطيب أخباره وحسن حاله أو ليرفده إن كان في أمره خلل بنصح واحتياط ومعونة والتجسس أن تفتش عن أخبار مغطية مكروهة أن تعلم بها فتستخرجها بفتشك لهتك الستور والكشف عن العورات والمساوئ) (¬4). وقال ابن حبيب: (بالحاء أن تسمع ما يقول أخوك فيك وبالجيم أن ترسل من يسأل لك عما يقال لك في أخيك من السوء) (¬5). ¬

(¬1) ذكره أبو هلال العسكري في ((الفروق اللغوية)) (ص 118). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 117 – 118). (¬3) ((تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين)) لابن النحاس (ص: 45). (¬4) ((تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين)) لابن النحاس (ص: 46). (¬5) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (20/ 133).

ذم التجسس والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم التجسس والنهي عنه في القرآن والسنة ذم التجسس والنهي عنه في القرآن الكريم: - نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن التجسس في آية محكمة وصريحة تدل على حرمة هذا الفعل المشين والخصلة المذمومة, وتبين أثرها السيئ على المجتمع المسلم وعلى تماسكه وترابطه فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. قال ابن جرير وهو يتحدث عن تفسير هذه الآية: قوله: (ولا تجسسوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره .. ثم ذكر أثر ابن عباس: (نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن) (¬1). وقال الإمام البغوي: (نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها) (¬2). - ومن ذلك قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]. وأي إيذاء أكبر من تتبع عورات الناس, والبحث عن سوءاتهم, والتجسس عليهم, وإظهار ما ستره الله من ذنوبهم. قال الشيخ ابن عثيمين: (التجسس أذية، يتأذى به المتجسس عليه، ويؤدي إلى البغضاء والعداوة ويؤدي إلى تكليف الإنسان نفسه ما لم يلزمه، فإنك تجد المتجسس والعياذ بالله، مرة هنا ومرة هنا، ومرة هنا، ومرة ينظر إلى هذا ومرة ينظر إلى هذا، فقد أتعب نفسه في أذية عباد الله) (¬3). - وقال تعالى وهو يتحدث عن المنافقين وعن صفاتهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة: 47]. قال مجاهد: معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس (¬4). وقال الإمام القرطبي: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم (¬5). ذم التجسس والنهي عنه في السنة النبوية: ولقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن التجسس والتحذير منه, وبين أنه مفسد للأخوة, وسبب في تقطيع الأواصر والصلات, وسبيل إلى إفساد الناس: - فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً)) (¬6). قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (التجسس أن لا تترك عباد الله تحت سترها فتتوصل إلى الاطلاع عليهم والتجسس عن أحوالهم وهتك الستر حتى ينكشف لك ما كان مستورا عنك) (¬7). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (22/ 304). (¬2) ((تفسير البغوي)) (7/ 345). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 251 – 252). (¬4) ((تفسير البغوي)) (4/ 56). (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (8/ 157). (¬6) رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563). (¬7) ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية)) لمحمد بن محمد الخادمي (2/ 295).

- وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتَبّع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) (¬1). قال صاحب عون المعبود: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه): فيه تنبيه على أن غيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن, (ولا تتبعوا عوراتهم): أي لا تجسسوا عيوبهم ومساويهم .... (يتبع الله عورته): ذكره على سبيل المشاكلة أي يكشف عيوبه وهذا في الآخرة. وقيل: معناه يجازيه بسوء صنيعه, (يفضحه): أي يكشف مساويه, (في بيته): أي ولو كان في بيته مخفياً من الناس) (¬2). - وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)). فقال أبو الدرداء: (كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها) (¬3). - وفي رواية أخرى عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعرضوا عن الناس، ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) (¬4). قال الإمام المناوي رحمه الله: (أي ولوا عن الناس ولا تتبعوا أحوالهم ولا تبحثوا عن عوراتهم ... ألم تعلم أنك إن اتبعت التهمة فيهم لتعلمها وتظهرها أوقعتهم في الفساد أو قاربت أن تفسدهم لوقوع بعضهم في بعض بنحو غيبة أو لحصول تهمة لا أصل لها أو هتك عرض ذوي الهيئات المأمور بإقالة عثراتهم وقد يترتب على التفتيش من المفاسد ما يربو على تلك المفسدة التي يراد إزالتها، والحاصل أن الشارع ناظر إلى الستر مهما أمكن والخطاب لولاة الأمور ومن في معناهم) (¬5). - وعن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن أرى عينيه في المنام ما لم ير كلف أن يعقد شعيرة)) (¬6). - وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ وَعَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ وَأَبي أُمَامَةَ عَنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ((إِنَّ الأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِى النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ)) (¬7). يقول المناوي رحمه الله: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة) أي طلب الريبة أي التهمة في الناس بنية فضائحهم أفسدهم وما أمهلهم وجاهرهم بسوء الظن فيها فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ورموا به ففسدوا، ومقصود الحديث حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات فإن بذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام والإنسان قل ما يسلم من عيبه فلو عاملهم بكل ما قالوه أو فعلوه اشتدت عليهم الأوجاع واتسع المجال بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتبع عوراتهم ولا يتجسس عليهم) (¬8). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/ 420) (19791)، وأبو يعلى (13/ 419) (7423)، والبيهقي (10/ 247) (20953). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 175): إسناده جيد، وقال الألباني في ((4880)): حسن صحيح. (¬2) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (9/ 2160). (¬3) رواه أبو داود (4880)، وأبو يعلى (13/ 382) (7389)، وابن حبان (13/ 72) (5760)، والطبراني (19/ 379) (16560)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 107) (9659). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((تحقيق رياض الصالحين)) (508)، وصحح إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 300)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (248)، والطبراني (19/ 365) (859). قال الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (186): صحيح. (¬5) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي بتصرف يسير (1/ 713). (¬6) رواه الطبراني (11/ 248) (11637). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (6028): صحيح. والحديث رواه بنحوه البخاري (7042). (¬7) رواه أبو داود (4889)، وأحمد (6/ 4) (23866)، والطبراني (8/ 108) (7516)، والحاكم (4/ 419)، والبيهقي (8/ 333) (17402). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 242): [فيه] إسماعيل بن عياش وجبير بن نفير أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو في التابعين وكثير بن مرة نص الأئمة على أنه تابعي وذكره عبدان في الصحابة، قال الهيثمى (5/ 218): رواه أحمد والطبرانى، ورجاله ثقات، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 469) كما قال في المقدمة، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (1956)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬8) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 409).

أقوال السلف والعلماء في ذم التجسس

أقوال السلف والعلماء في ذم التجسس - عن ابن عباس في قوله: ولا تجسسوا قال: (نهى الله المؤمن أن يتبع عورات أخيه المؤمن) (¬1). - وعن أبي قلابة، أن عمر بن الخطاب، حدث أن أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه، فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل واحد، فقال له أبو محجن يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس، فقال عمر: ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين هذا التجسس. قال: فخرج عمر وتركه. (¬2). - وعن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف: أتدري بيت من هذا قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه قال الله: ولا تجسسوا فقد تجسسنا فانصرف عنهم وتركهم (¬3). - وعن الشعبي أن عمر بن الخطاب فقد رجلا من أصحابه فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في إناء فتناوله إياه فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا فقال ابن عوف لعمر وما يدريك ما في الإناء فقال عمر: إنا نخاف أن يكون هذا التجسس قال: بل هو التجسس قال: وما التوبة من هذا قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره ولا يكونن في نفسك إلا خير ثم انصرفا (¬4). - وعن الحسن رضي الله عنه قال: أتى عمر بن الخطاب رجل فقال: إن فلانا لا يصحوا فدخل عليه عمر رضي الله عنه فقال: إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال الرجل: يا ابن الخطاب وأنت بهذا ألم ينهك الله أن تتجسس فعرفها عمر فانطلق وتركه (¬5). - وعن ثور الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل على أن أكون عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث، قال الله: ولا تجسسوا وقد تجسست وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها) وقد تسورت علي ودخلت علي بغير إذن وقال الله (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) قال عمر رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك قال: نعم فعفا عنه وخرج وتركه (¬6). - وأتي ابن مسعود رضي الله عنه فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمراً فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به (¬7). - وقال مجاهد في قوله: (ولا تجسسوا) قال: (خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله) (¬8). ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3250). (¬2) رواه الثعلبي في ((الكشف والبيان)) (9/ 83). (¬3) رواه عبدالرزاق (10/ 231)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (398)، والبيهقي (8/ 333) (17403). قال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3482): إسناده صحيح. (¬4) ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (7/ 567) وعزاه إلى سنن سعيد بن منصور وابن المنذر. (¬5) ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (7/ 567) وعزاه إلى سنن سعيد بن منصور وابن المنذر. (¬6) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (419). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (9/ 86)، أبو داود (4890)، والبيهقي (8/ 334) (18081). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((تحقيق رياض الصالحين)) (508): إسناده على شرط الشيخين، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/ 347): له طريق آخر، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬8) ((تفسير جامع البيان)) للطبري (22/ 304).

- وقال قتادة في تفسيرها: هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سره (¬1). - وقال ابن زيد في تفسيرها أيضاً: قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه، حتى أعرف حق هو، أم باطل؟ ; قال: فسماه الله تجسسا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب (¬2). - وقال الحسن: لا تسأل عن عمل أخيك الحسن والسيئ فإنه من التجسس (¬3). - وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل مباينة العام في الأخلاق والأفعال بلزوم ترك التجسس عن عيوب الناس لأن من بحث عن مكنون غيره بحث عن مكنون نفسه وربما طم مكنونه على ما بحث من مكنون غيره وكيف يستحسن مسلم ثلب مسلم بالشيء الذي هو فيه (¬4). - وقال أيضاً: التجسس من شعب النفاق كما أن حسن الظن من شعب الإيمان (¬5). - وقال: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير جامع البيان)) للطبري (22/ 304). (¬2) ((تفسير جامع البيان)) للطبري (22/ 305). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 125). (¬4) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 128). (¬5) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 126). (¬6) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 125).

أقسام التجسس وحكم كل قسم:

أقسام التجسس وحكم كل قسم: الأصل في التجسس أنه محرم شرعاً منهي عنه بأدلة واضحة صريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح والأئمة والعلماء, غير أن هناك بعض الصور قد استثناها الشرع الحنيف وأقرها, وتكلم عنها أهل العلم في كتبهم وفصلوا فيها وجعلوا لها ضابطاً مهماً وهو اقتضاء المصلحة للتجسس. وعليه فيمكننا أن نقسم التجسس إلى قسمين: تجسس ممنوع: (ويقصد به تتبع عورات الناس وأسرارهم والكشف عن معائبهم بدافع الفضول وإشباع غريزة حب الاستطلاع دون أن يكون له غرض مباح من جلب منفعة راجحة أو دفع مفسدة متوقعة سواء أكان ذلك بالتطلع أو التنصت والاستماع) (¬1). وهذا النوع من أنواع التجسس هو الذي نصت الأدلة الواضحة على تحريمه ولم يبح إلا في حالات خاصة سنتكلم عنها في التجسس المشروع، وفيما ذكرنا من الأدلة على تحريمه ما يغني عن إعادتها. قال عبد العزيز بن أحمد المسعود: (إن الأصل في المسلم الطهارة والعفة والبراءة والسلامة من كل شيء مشين ولذا كان الأصل في الإسلام النهي عن التجسس بجميع صوره وأشكاله سواء كان تجسس الفرد على الفرد أو الفرد على الدولة أو الدولة على الدولة لأن التجسس انتهاك لحرمة المسلم وكشف ستره وقد يسبب الحقد والبغض بين أفراد المجتمع المسلم وهذا الذي يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً) (¬2). تجسس مشروع: (ويراد به كل تجسس يهدف إلى مصلحة الدولة الإسلامية في تعاملها مع أعدائها أو إلى مصلحة المجتمع الإسلامي بتنقيته وتطهيره من أهل الشر والفساد). وهذا القسم من أقسام التجسس يتفاوت حكمه التكليفي من الوجوب إلى الإباحة حسب ما تقتضيه المصلحة والضرورة, فهناك ما هو تجسس واجب: (وهو ما يكون طريقاً إلى إنقاذ نفس من الهلاك أو القضاء على الفساد الظاهر كاستدراك فوات حرمة من حرمات الله ... ووجه وجوبه أن ذلك من ضمن وسيلة النهي عن المنكر) (¬3). وهناك ما هو تجسس مباح وهو ما عدا ذلك من الصور التي استثناها الشرع من التحريم ولا تصل إلى درجة الوجوب كالتجسس على الأعداء لمعرفة عددهم وعتادهم وغيرها. ¬

(¬1) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 470). (¬2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة)) (ص: 238). (¬3) ((أحكام السماع والاستماع في الشريعة الإسلامية)) لمحمد معين الدين بصري (ص: 353).

آثار التجسس الممنوع:

آثار التجسس الممنوع: 1. أن التجسس مظهر من مظاهر سوء الظن وأثر من آثاره فهو متولد عن صفة مذمومة سيئة نهى عنها الدين الحنيف. يقول محمد الطاهر بن عاشور: (التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظان نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجسس) (¬1). 2. والتجسس صورة من صور ضعف الإيمان وضعف التدين وقلة المراقبة, هذا على الجانب الديني أما الأخلاقي والسلوكي فهو يدل على دناءة النفس وخستها, وضعف همتها وانشغالها بالتافه من الأمور عن معاليها وغاياتها. 3. وهو سبيل إلى قطع الصلات وتقويض العلاقات, وظهور العداء بين الأحبة وبث الفرقة بين الإخوان (فقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش) (¬2). 4. وبالتجسس تنهار القدوات, وتصغر في الأعين القامات وعندها تهون الذنوب وتحقر السيئات, وتفسير ذلك أن المتجسس عليه إذا كان في منزل القدوة؛ واطلع منه على أمر سيئ أو ذنب أو معصية فإنه لا شك سيقل قدره وستتلاشى مكانته ولن يقبل منه نصحاً ولا توجيهاً, بل ربما تهون المعصية التي عملها على المتجسس فيعملها بحجة أن ليس أحسن حالاً من فلان القدوة الذي عملها وتلبس بها. 5. والتجسس يؤدي إلى فساد الحياة فتصبح مليئة بالشكوك والتخوفات, فلا يأمن الإنسان على خصوصياته من أن تنكشف أو تظهر للناس, بل يعيش المرء في حالة من الشك الذي لا ينتهي وهذا تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه قال: ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) (¬3). 6. والتجسس سبيل إلى الكراهية ودافع إلى الانتقام, فإذا علم شخص ما أن فلان يتجسس عليه ويريد أن يهتك ستره ويفضح أمره سعى هو من جانبه إلى التجسس عليه وفضحه وهكذا. يقول ابن عاشور: فـ (إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ... ، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه) (¬4). 7. كما أنه سبيل إلى إشاعة الفاحشة بين المسلمين وانتشار السوء بينهم, وذلك بما يحصل من نشر لما استتر من الفضائح وإظهار لما خفي من السوءات. 8. وهو دليل بين واضح على سوء الطوية وعن نفاق يعشش في القلب, وأن صاحبه بعيد عن الإيمان وإن ادعاه, قصي عن التقوى وإن تزيا بلباسها، لذا كان نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذه صفته بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ... )) (¬5). 9. أن صاحبه متوعد بالفضيحة وكشف العورة حتى ولو كان في قعر داره, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتَبّع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) (¬6). 10. ويكفي بالتجسس سوءا أن صاحبه يعرض نفسه لغضب الله واستحقاق العذاب الأليم, هذا في الآخرة, أما في الدنيا فيبقى مكروهاً مبغوضاً من الناس فهو دائماً في محل ريبة, لا يأنسون به ولا يرتاحون بحضوره. ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) لمحمد الطاهر بن عاشور (26/ 253). (¬2) ((التحرير والتنوير)) لمحمد الطاهر بن عاشور (26/ 254). (¬3) رواه أبو داود (4880)، وأبو يعلى (13/ 382) (7389)، وابن حبان (13/ 72) (5760)، والطبراني (19/ 379) (16560)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 107) (9659). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((تحقيق رياض الصالحين)) (508)، وصحح إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 300)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) ((التحرير والتنوير)) لمحمد الطاهر بن عاشور (26/ 254). (¬5) رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/ 420) (19791)، وأبو يعلى (13/ 419) (7423)، والبيهقي (10/ 247) (20953). من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 175): إسناده جيد، وقال الألباني في ((4880)): حسن صحيح. (¬6) رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/ 420) (19791)، وأبو يعلى (13/ 419) (7423)، والبيهقي (10/ 247) (20953). من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 175): إسناده جيد، وقال الألباني في ((4880)): حسن صحيح.

صور التجسس

صور التجسس صور التجسس الممنوع: - التجسس على بيوت المسلمين والاطلاع على عوراتهم (بالاستماع من وراء الأبواب أو بالدخول في البيوت على حين غفلة من أهلها أو باستئذان لغرض كاذب كشرب الماء والمقصود غير ذلك .... وكل ذلك لا يجوز في شرع الإسلام) (¬1). - ومن صوره أيضاً اقتحام البيوت والخلوات بحجة ضبط من فيها متلبسين بالمعصية ولا شك أن هذا مما لا يبيحه الشرع ولا يقبله. وقد قدمنا قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما دخل على أبي محجن رضي الله عنه بعد أن سمع أنه يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه, وعندما دخل عليه بين له أبو محجن أن ما يفعله هو من التجسس الذي نهى الله عز وجل عنه, وأقره على ذلك زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم فخرج عمر وتركه (¬2). - ومن صور التجسس الممنوع التقصي والبحث عن معاص وسيئات اقترفت في الماضي والتجسس على أصحابها لمعرفتها. قال صاحب غذاء الألباب: (ويحرم تجسيس على ما يفسق به في الزمن الماضي أو الفسق الماضي مثل أن يشرب الخمر في الزمن الذي مضى وتبحث عنه أنت بعد مدة لأن ذلك إشاعة للمنكر بما لا فائدة فيه ولا عود على الإسلام وإنما هو عيب ونقص فينبغي كفه ونسيانه دون إذاعته وإعلانه، وإنما يحرم التجسس عن ذلك إن لم يجدد العود عليه والإتيان به ثانيا. فإن عاوده فلا حرمة إذن. قال في الرعاية: ويحرم التعرض لمنكر فعل خفية على الأشهر أو ماض أو بعيد وقيل يجهل فاعله ومحله. وقال أيضا: لا إنكار فيما مضى وفات إلا في العقائد أو الآراء) (¬3). - ومن صور التجسس الممنوع استماع المرء إلى حديث قوم وهم له كارهون, فقد تُوُعِّدَ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيصب في أذنه الآنك يوم القيامة بسبب فعلته. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة)) (¬4). قال علي بن ذريان في كتابه بهجة الأسماع في أحكام السماع: (ومن هذا الحديث يعلم أن الاستماع لحديث الآخرين بغير رضاهم وإذنهم هو من التجسس المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منه, وكفى بترتيب العقوبة المذكورة في الحديث على من يفعل هذا دليلاً على حرمته) (¬5). ويدخل في هذه الصورة من صور التجسس التنصت على هواتف الناس ومكالماتهم وهو (يتضمن معنى تسمع حديث قوم أو التجسس عليهم فيكون حكم المسألة هو حكم التجسس ... أو يكون حكمه حكم التسمع إلى حديث قوم وهم كارهون لأن العادة أن الناس لا يريدون أن يطلع على مكالمتهم أحد والذي يتنصت على هواتف الناس بهذا المعنى يدخل تحت الوعيد) (¬6). ¬

(¬1) ((المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية)) (4/ 207). (¬2) ((تفسير عبد الرزاق الصنعاني)) (3/ 223). (¬3) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 263). (¬4) رواه الطبراني (11/ 248) (11637). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (6028): صحيح. والحديث رواه بنحوه البخاري (7042). (¬5) ((بهجة الأسماع في أحكام السماع في الفقه الإسلامي)) لعلي بن ذريان (ص: 364). (¬6) ((أحكام السماع والاستماع في الشريعة الإسلامية)) لمحمد معين الدين بصري (ص: 357).

- ومن صور التجسس الممنوع التجسس على الكافر المسالم خاصة إذا لم يظهر منه ما يدعو للريبة قال محمد معين الدين البصري: (والظاهر عدم الجواز إذا لم يظهر منه الريبة في إرادة الفساد لأمر الله بالقسط معهم قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها بصلة رحم أمها تطبيقاً للآية السابقة). - ومن أبشع صور التجسس وأقبحها التجسس على المسلمين لصالح أعداء الدين (فإذا كان التجسس للوقوف على عورات الأفراد ومعائبهم أمراً محرماً فإن التجسس على الأمة الإسلامية لحساب أعدائها أشد حرمة, وأعظم خطراً وضرراً على البلاد والعباد وخيانة لله ورسوله وللأمة وقد تحدث الفقهاء رحمهم الله تعالى على عقوبة من يقوم بهذا العمل الخطير, الذي يعرض الأمة الإسلامية بأكملها لأضرار فادحة قد يستمر أثرها لأمد بعيد محطماً كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة الإسلامية) (¬1). قال عبد القادر العاني: (ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم) (¬2). وقال محمد الطاهر بن عاشور: (وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر بهم ... ) (¬3). صور التجسس المشروع: - من صور التجسس المشروع التجسس على أعداء الأمة لمعرفة عددهم وعتادهم (فقد اتفق الفقهاء على أن التجسس والتنصت على الكفار في الحرب مشروع وجائز لمعرفة عددهم، وعتادهم، وما يخططون له، ويدبرون من المكائد للمسلمين، وهو الأمر الذي يكون بعلم الإمام وتحت نظره ومعرفته) (¬4). (فالتجسس على أعداء الأمة الإسلامية بتتبع أخبارهم، والاطلاع على مخططاتهم التي يعدونها للقضاء على الأمة الإسلامية، وإثارة الفتنة والقلاقل بين صفوفها، وزعزعة أمنها واستقرارها أمر مشروع، بل قد يكون واجباً في حالة قيام حرب بينهم وبين المسلمين، وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة وعمل الصحابة: فمن الكتاب: عموم قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]. فقد أمرت الآية المسلمين بإعداد ما يستطيعون من قوة لمواجهة الأعداء، ومن أسباب القوة التخطيط السليم، واليقظة والحذر، والتأهب الدائم، لإحباط مخططات الأعداء، ولا شك أن ذلك لا يتم إلا بمعرفة أخبار الأعداء وخططهم، ورصد تحركاتهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدلت الآية على مشروعية التجسس على الأعداء بكل وسيلة شريفة وطريقة نبيلة). ومن السنة أحاديث كثيرة منها: ¬

(¬1) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 472). (¬2) ((بيان المعاني)) لعبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني (6/ 226). (¬3) ((التحرير والتنوير)) لمحمد الطاهر بن عاشور (26/ 254). (¬4) ((بهجة الأسماع في أحكام السماع في الفقه الإسلامي)) لعلي بن ذريان (ص: 376).

- ما ورد أن نعيم بن مسعود رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، فقال: ((يا رسول الله، مرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا، فذهب نعيم بن مسعود إلى بني قريظة، وكان لهم نديمهم في الجاهلية وحذرهم: إن هزمت قريش فنجت بنفسها فإنها ستترككم تحت رحمة محمد وصحبه, ونصحهم ألا يطمئنوا لقريش إلا أن يأخذوا الرهائن من السادة والأشراف ثم ذهب إلى قريش وأوهمهم أن بني قريظة نادمة على نقض العهد مع محمد, وقال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم؟ ثم ذهب إلى غطفان وأوهمهم بما أوهم به قريشاً فاستعجلت قريش وعد قريظة لها نصرتها, فكان جوابهم ما يؤكد كلام نعيم بن مسعود من أنهم بيتوا الغدر ونجح نعيم ابن مسعود في الإيقاع بهم وتفريق كلمتهم)) (¬1). - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا ثم قال من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا ثم قال من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا ثم قال إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير)) (¬2) .... - وعن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله)) (¬3). ... فهذه الأحاديث جميعها تدل على مشروعية جمع المعلومات عن الأعداء وكشف مخططاتهم وذلك بالطرق المشروعة والوسائل الشريفة، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يتخير لهذه المهمة الأشخاص الذين كان يثق بهم حرصاً منه على صحة المعلومات التي تصله، ودقتها، لكي يبني عليها خططه العسكرية في مواجهة الأعداء) (¬4). - ومن صور التجسس المشروع (تتبع المجرمين الخطرين وأهل الريب وقد عده بعض الفقهاء من التجسس المشروع إذا كانت جرائمهم ذات خطر كبير على الأفراد أو على الأمة بأسرها، وغلب على الظن وقوعها بأمارات وعلامات ظاهرة، وذلك كالتجسس على إنسان يغلب على الظن أنه يتربص بآخر ليقتله، أو بامرأة أجنبية ليزني بها، بل قد يكون واجباً إذا خيف فوات تدارك الجريمة بدون التجسس. ورد في نهاية المحتاج: (وليس لأحد البحث والتجسس واقتحام الدور بالظنون، نعم إذا غلب على ظنه وقوع معصية ولو بقرينة ظاهرة كإخبار ثقة جاز له، بل وجب عليه التجسس إن فات تداركها كقتل وزنى، وإلا فلا) (¬5). ¬

(¬1) رواه بنحوه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (3/ 445 - 447). (¬2) رواه البخاري (4113). (¬3) رواه البخاري (4178). (¬4) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 465 - 467). (¬5) ((نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)) (4/ 47 - 49).

وذكر القاضي أبو يعلى جوازه في حالة ما إذا كان في تركه انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث، حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات (¬1). (ويتخرج على هذه المسألة وضع الدولة أجهزة تنصت ومراقبة على أجهزة الاتصال لأشخاص معينين، إن كانت الريبة تدور بهم للإيقاع بهم، ومعرفة صحة الشكوك المنسوبة إليهم، فهذا جائز وفق ما ذكرنا، إن كان بإذن الإمام وتحت نظره وفق المصلحة التي يراها الإمام) (¬2). - ومن صور التجسس المشروع تفقد الوالي لأحوال رعيته لمعرفة المظلومين والمحتاجين وتأمين احتياجاتهم إذ هم أمانة في عنق الوالي (¬3). ومن أمثلة ذلك: - ما روي عن أسلم رضي الله عنه قال: خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار فقال: يا أسلم هاهنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، قالت: وعليك السلام. قال: أدنو؟ قالت: ادن أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع. فقال: وأي شيء على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وجراب شحم، وقال: يا أسلم احمله على ظهري، فقلت: أنا أحمله عنك. فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ فحمله على ظهره وانطلقنا إلى المرأة فألقي عن ظهره وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار وقال: آتيني بصحفة. فأتي بها فغرفها ثم تركها بين يدي الصبيان وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعو له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم (¬4). - وقدم المدينة رفقة من تجار، فنزلوا المصلى فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن تحرسهم الليلة؟ قال: نعم! فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتق الله تعالى وأحسني إلى صبيك. ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه فقال لها: ويحك، إنك أم سوء، ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟! فقالت: يا عبد الله إني أشغله عن الطعام فيأبى ذلك، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم. قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرا، فقال: ويحك لا تعجليه عن الفطام. فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء. قال: بؤسا لعمر. كم قتل من أولاد المسلمين. ثم أمر مناديه فنادى، لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وكتب بذلك إلى الآفاق (¬5). ¬

(¬1) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 366). (¬2) ((بهجة الأسماع في أحكام السماع في الفقه الإسلامي)) لعلي بن ذريان (ص: 376). (¬3) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 469). (¬4) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 153 - 154). (¬5) ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 153).

أسباب التجسس الممنوع

أسباب التجسس الممنوع للتجسس الممنوع عدة دوافع يمكننا أن نذكر منها ما يلي: 1. الفضول المحض: قد يكون الدافع إلى التجسس وتتبع عورات الناس هو الفضول المحض وحب الاستطلاع ومعرفة ما خفي واستتر. 2. قصد الإيذاء والفضيحة: فيتجسس على الشخص لكي يؤذيه أو يفضحه لغرض في نفسه قد يكون دافعه الحسد أو الكراهية أو غير ذلك من الأمور. 3. سوء الظن: فالتجسس كما أسلفنا هو أثر من آثار سوء الظن, فإذا ظن شخص بشخص سوءا دفعه ذلك إلى التحقق من ظنه فيعمد إلى التجسس وتتبع العورات. 4. الانتقام والمعاملة بالمثل: وذلك إذا علم المتجسس عليه أن شخص ما يتتبع عورته ويتجسس على خصوصياته فعند ذلك يدفعه الانتقام إلى التجسس والبحث والتقصي, وخاصة إذا تسبب المتجسس في أذيته وفضحه. 5. الدافع المادي: بأن يكون مدفوعاً من جهة ما للتجسس والتقصي بمقابل إغراء مادي.

الوسائل المعينة على ترك التجسس

الوسائل المعينة على ترك التجسس لا بد لكل داء من دواء ولكل صفة سيئة من علاج ونذكر من علاج التجسس ما يلي: 1. أن يراقب الله تبارك وتعالى قبل كل شيء, ويخشى أليم عقابه, وقوة انتقامه الذي أعده للمتجسسين على عورات الناس, فإن في ذلك زاجر له عن هذه الخلة القبيحة. 2. أن يترك الإنسان فضوله وحبه للتفتيش والاستطلاع على الآخرين وذلك بأن يشغل نفسه بما يهمه في دنياه وأخراه, ويعلق نفسه بمعالي الأمور ويبعدها عن سفاسفها, ويعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬1). 3. أن ينمي في نفسه الحرص على وحدة المسلمين وترابطهم والخوف من تفككهم وتقطع الأواصر بينهم, فإن هذا يجعله يبتعد عن كل ما يكون سبباً في تهديد هذه الوحدة والترابط سواء كان ذلك السبب هو التجسس أو غيره من الأخلاق السيئة. 4. أن يتدبر الشخص في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وآثار السلف التي تحذر من هذه الصفة فإن في ذلك رادع قوي وعلاج ناجع. 5. أن يعرف أن ما يفعله هو أذية للمسلمين بكل المقاييس وأن أذيتهم لا تجوز شرعاً. 6. أن يخشى المتجسس من الفضيحة التي توعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتتبعون عورات الناس وأن الله سيفضحهم ولو في قعر دورهم. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وابن حبان (1/ 466) (229)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 188) (2881)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 255) (4987). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب، وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (7/ 184): [فيه] قرة بن عبد الرحمن أرجو أنه لا بأس به، وقال الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (12/ 64): الصحيح مرسل، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 29): رواته ثقات إلا قرة ففيه خلاف، وحسنه النووي في ((تحقيق رياض الصالحين)) (67)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8234)، وحسنه البهوتي في ((كشاف القناع)) (2/ 449)، وقال السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (292): الصحيح أنه حديث حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

التجسس في واحة الشعر ..

التجسس في واحة الشعر .. قال الشاعر: لا تلتمس من مساوي الناس ماستروا ... فيهتك الناس سترا من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا عيبا بما فيكا (¬1) وقال آخر: يخرج أسرار الفتى جليسة ... رب امرئ جاسوسه أنيسه (¬2) وشكا بعض الملوك تنقيب العوام عن أسرار الملوك فقال: ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا لو سكنَّا باطن الأر ... ض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ... ينشروا ما قد دفنا) (¬3). ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص: 128). (¬2) ((الصداقة والصديق)) لأبي حيان التوحيدي (ص: 284). (¬3) ((الرسائل)) للجاحظ (1/ 158 – 159).

الجبن

معنى الجبن لغة واصطلاحاً معنى الجبن لغة: تقول: (جَبَنَ يَجْبُن وجَبُنَ جُبْناً وجُبُناً وجَبانةً وأَجْبَنَه وجده جَباناً أَو حَسِبَه إياه، والجَبانُ من الرِّجالِ الذي يَهاب التقدُّمَ على كل شيء لَيْلاً كان أَو نهاراً، ... وهو ضِدُّ الشَّجاعة والشُّجاع والأُنثى جَبان مثل حصان ورَزَان وجَبانةٌ ونِساء جَباناتٌ) (¬1). معنى الجبن اصطلاحاً: هي هيئة حاصلة للقوة الغضبية بها يحجم عن مباشرة ما ينبغي وما لا ينبغي (¬2). وقال ابن مسكويه هو: (الخوف مما لا ينبغي أن يخاف منه) (¬3). وعرفه الجاحظ بقوله: (هو الجزع عند المخاوف والإحجام عما تحذر عاقبته أو لا تؤمن مغبته) (¬4). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 84). (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (ص73). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص23). (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 33).

ذم الجبن في القرآن والسنة

ذم الجبن في القرآن والسنة ذم الجبن في القرآن الكريم: ذم الله الجبن في كتابه بنهيه عباده المؤمنين عن الفرار في الجهاد في سبيل الله، قال ابن تيمية: (وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له كله ذم للجبن) (¬1). - قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16] قال الشوكاني: (نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم، وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلا حالة التحرف والتحيز) (¬2). - ووصف الله سبحانه المنافقين بأنهم جبناء وأنهم لا يصمدون أمام الحروب والمعارك فقال: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:19 - 20] قوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ (بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نظر المغشي عليه مِنَ الْمَوْتِ من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون، من القتال. فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحًا بما أمر به، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء الله، أو يدعو إلى سبيل الله) (¬3). - ووصفهم بأنهم فرَّارون من المعارك فقال: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]. ثم بين الله سبحانه وتعالى بأنَّ ما يفرون منه سيأتيهم لا محالة فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16]. - وقال أيضاً في حقهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] ¬

(¬1) ((الحسبة في الإسلام)) لابن تيمية (ص 102). (¬2) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 160). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (660).

وقال ابن تيمية: (قد بين الله في كتابه: أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة للنار، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15 - 16] فأخبر أن الذين يخافون العدو خوفاً منعهم من الجهاد منافقون فقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [الأنفال:56 - 57]) (¬1). ذم الجبن في السنة النبوية: - روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من حنين فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال ((اعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا)) (¬2). - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبي طلحة: ((التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين ... )) (¬3). - وعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتعوذ من خمس: من البخل، والجبن، وفتنة الصدر، وعذاب القبر، وسوء العمر)) (¬4). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)) (¬5). قال ابن القيم في شرحه للحديث: (هنا أمران أمر لفظي وأمر معنوي فأما اللفظي: فإنه وصف الشح بكونه هالعا والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال: هالع له فإنه لا يتعدى وفيه وجهان: أحدهما ـ أنه على النسب كقولهم: ليل نائم وشر قائم ونهار صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب أي ذو كذا. والثاني ـ أن اللفظة غيرت عن بابها للازدواج مع خالع وله نظائر ¬

(¬1) ((قاعدة في الانغماس في العدو)) لابن تيمية (ص 40). (¬2) رواه البخاري (2821). (¬3) رواه البخاري (2891). (¬4) رواه أبو داود (1539)، والنسائي (8/ 267)، وابن ماجه (772)، وأحمد (1/ 22) (145)، وابن حبان (3/ 300) (1024)، والحاكم (1/ 712). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده الطبري في ((مسند عمر)) (2/ 573)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 21) كما قال في المقدمة، وصححه العيني في ((عمدة القاري)) (8/ 211)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (91)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (1/ 86). (¬5) رواه أبو داود (2511)، وأحمد (2/ 302) (7997)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 424) (10831). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال البيهقي: [له متابعة]، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4881)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (15/ 164)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))

وأما المعنوي: فإن الشح والجبن أردى صفتين في العبد ولا سيما إذا كان شحه هالعا أي ملولة في الهلع وجبنه خالعا أي قد خلع قلبه من مكانه فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه كما يقال لا طعنة ولا جفنة ولا يطرد ولا يشرد بل قد قمعه وصغره وحقره ودساه الشح والخوف والطمع والفزع) (¬1). - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنما أنتم ولد آدم، طف الصاع، لم تملؤوه، ليس لأحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح، حسب الرجل أن يكون فاحشا بذيا بخيلا جبانا)) (¬2). قال المناوي: (أي يكفيه من الشر والحرمان من الخير والبعد من منازل الأخيار ومقامات الأبرار كونه متصفا بذلك أو ببعضه) (¬3). - وعن يعلى العامري رضي الله عنه قال: ((جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه وقال: إن الولد مبخلة مجبنة)) (¬4). (أي: سبب لبخل الأب وجبنه ويحمل أبويه على البخل وكذلك على الجبن فإنه يتقاعد من الغزوات والسرايا بسبب حب الأولاد ويمسك ماله لهم) (¬5). ¬

(¬1) ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص275). (¬2) رواه أحمد (4/ 145) (17351)، والطبراني (17/ 295) (814). قال الهيثمي في ((ترغيب الترهيب)) (8/ 86): فيه ابن لهيعة وفيه لين وبقية رجاله وثقوا، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2962). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 484). (¬4) رواه ابن ماجه (2972)، وأحمد (4/ 172) (17598)، والحاكم (3/ 179)، والبيهقي (10/ 202) (21385). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4210): إسناده قوي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 57): رجاله ثقات، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2150)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬5) ((شروح سنن ابن ماجه)) للسيوطي (2/ 1338).

أقوال السلف والعلماء في ذم الجبن

أقوال السلف والعلماء في ذم الجبن - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه ومروءته خلقه والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء فالجبان يفر عن أبيه وأمه والجريء يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحله والقتل حتف من الحتوف والشهيد من احتسب نفسه على الله) (¬1). - (وقالت عائشة رضي الله عنها: إن لله خلقا، قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأفٍّ للجبناء، أفٍّ للجبناء) (¬2). - وقال خالد بن الوليد: (حضرت كذا وكذا زحفا في الجاهلية والإسلام وما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف وها أنا ذا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء) (¬3). - وقال ابن تيمية: (فإن الجميع يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء ممدوحيهم في شعرهم وكذلك يتذامون بالبخل والجبن) (¬4). - وقال ابن القيم: (والجبن والبخل قرينان لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة والبخل يحول بينه دونها أيضا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام) (¬5). - وقال أيضاً: (فإن الإحسان المتوقع من العبد إما بماله وإما ببدنه فالبخيل مانع لنفع ماله والجبان مانع لنفع بدنه المشهور عند الناس أن البخل مستلزم الجبن من غير عكس لأن من بخل بماله فهو بنفسه أبخل) (¬6). - (وقيل كتب زياد إلى ابن عباس: أن صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل فكتب إليه: كتبت تسألني عن طبائع ركبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أن الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عرسه، وأن الجواد يعطي من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه، وقال الشاعر: يفر جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه (¬7) - وقالوا: الجبن غريزة كالشجاعة يضعها الله فيمن شاء من خلقه) (¬8). (وقال المتنبي: يرى الجبناء أن الجبن حزمٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم - وقالوا: حد الجبن الضن بالحياة، والحرص على النجاة - وقال هانئ الشيباني لقومه يوم ذي قار يحرضهم على القتال: يا بني بكر هالك معذور، خيرٌ من ناجٍ فرور، المنية، ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الثغر في ثغور النحور، خير من في الأعجاز والظهور، يا بني بكر قاتلوا، فما من المنايا بدٌ، الجبان مبغض حتى لأمه، والشجاع محببٌ حتى لعدوه) (¬9). ¬

(¬1) رواه مالك في ((الموطأ)) (3/ 659) (1681). (¬2) ذكره النويري في ((نهاية الأرب)) (3/ 318). (¬3) رواه الواقدي في ((المغازي)) (ص 884)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (16/ 273)، وابن الجوزي في ((المنتظم)) (4/ 316) (¬4) ((الاستقامة)) لابن تيمية. بتصرف (2/ 263). (¬5) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/ 433). (¬6) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص 113). (¬7) ذكره النويري في ((نهاية الأرب)) (3/ 318 - 319). (¬8) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 320). (¬9) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 320).

آثار ومضار الجبن

آثار ومضار الجبن للجبن والخور أثار سيئة تعود على الجبان نفسه فمنها: 1 - (إهانة النفس وسوء العيش وطمع طبقات الأنذال وغيرهم. 2 - قلة الثبات والصبر، في المواطن التي يجب فيها الثبات. 3 - أنه سبب للكسل ومحبة الراحة اللذين هما سببا كل رذيلة. 4 - الاستحذاء لكل أحد والرضى بكل رذيلة وضيم. 5 - الدخول تحت كل فضيحة في النفس والأهل والمال. 6 - سماع كل قبيحة فاحشة من الشتم والقذف واحتمال كل ظلم من كل معامل وقلة الأنفة مما يأنف منه الناس) (¬1). 7 - أنه يشك في القَدَر، ويسيء الظن بالله. 8 - أن ما يوجبه الجبن من الفرار في الجهاد في سبيل الله هو من الكبائر الموجبة للنار. ¬

(¬1) ملخص من كتاب ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص170 - 171).

علاج الجبن

علاج الجبن الجبن له أسباب تجعل الشخص جبانا، ويلزم في علاجه إزالة علته، وعلتُه: (إما جهل فيزول بالتجربة، وإما ضعف فيزول بارتكاب الفعل المخوف مرة بعد أخرى، حتى يصير ذلك له عادة وطبعاً، ... فالمبتدئ في المناظرة، والإمامة، والخطابة، والوعظ، ... قد تجبن نفسه، ويخور طبعه، ويتلجلج لسانه، وما ذاك إلا لضعف قلبه، ومواجهة ما لم يتعوده، فإذا تكرر ذلك منه مرات، فارقه الضعف، وصار الإقدام على ذلك الفعل ضرورياً غير قابل للزوال، ... واعلم أن قوة النفس والعزم الجازم بالظفر سبب للظفر كما قال علي رضي الله عنه لما قيل له: كيف كنت تصرع الأبطال؟ قال: كنت ألقي الرجل فأقدر أني أقتله، ويقدر هو أيضاً أني أقتله فأكون أنا ونفسه عوناً عليه. ومن وصايا بعضهم: أشعروا قلوبكم في الحرب الجرأة، فإنها سبب الظفر. ومن كلام القدماء: من تهيب عدوه فقد جهز إلى نفسه جيشاً) (¬1). وقال ابن مسكويه في وسائل علاج الجبن: (وذلك بأن توقظ النفس التي تمرض هذا المرض –مرض الجبن - بالهز والتحريك. فإن الإنسان لا يخلو من القوة الغضبية رأسا حتى تجلب إليه من مكان آخر ولكنها تكون ناقصة عن الواجب فهي بمنزلة النار الخامدة التي فيها بقية لقبول الترويح والنفخ، فهي تتحرك لا محالة إذا حركت بما يلائمها وتبعث ما في طبيعتها من التوقد والتلهب. وقد حكي عن بعض المتفلسفين أنه كان يتعمد مواطن الخوف فيقف فيها ويحمل نفسه على المخاطرات العظيمة بالتعرض لها ويركب البحر عند اضطرابه وهيجانه ليعود نفسه الثبات في المخاوف ويحرك منها القوة التي تسكن عند الحاجة إلى حركتها ويخرجها عن رذيلة الكسل ولواحقه ولا يكره لمثل صاحب هذا المرض بعض المراء والتعرض للملاحاة وخصومة من يأمن غائلته حتى يقرب من الفضيلة التي هي وسط بين الرذيلتين أعني الشجاعة التي هي صحة النفس المطلوبة فإذا وجدها وأحس بها من نفسه كف ووقف ولم يتجاوزها حذرا من الوقوع في الجانب الآخر) (¬2). ¬

(¬1) ((مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق)) لابن النحاس. بتصرف (2/ 954). (¬2) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص170 - 171).

ما وصف به الجبان

ما وصف به الجبان وصف الجبان بصفات عديدة فوصف بأنه: (فشل، وهل، هياب، رعديد (¬1)، رعش، خوار، خرع، ورع، ضرع (¬2)، منخوب، ونخيب (¬3) وإنه لمنخوب القلب، مخلوع الفؤاد، واهي الجأش (¬4)، خوار العود، خرع العود، رخو المعجم، رخو المغمز (¬5)، هش المكسر.، وفيه جبن خالع (¬6). وإنه لخشل فشل (¬7)، وهاع لاع (¬8). وهو فرأ (¬9) ما يقاتل، وما وراءه إلا الفشل والخور. وهو أجبن من صافر (¬10)، وأجبن من صفرد (¬11)، وأجبن من كروان (¬12)، وأجبن من ثرملة (¬13)، وأجبن من رباح (¬14).ويقال رجل قصف، وقصم، إذا كان ضعيفا سريع الانكسار. وقد انخرع الرجل إذا ضعف وانكسر، وضرب بذقنه الأرض إذا جبن وخاف. وورد عليه من الهول ما خلع قلبه، وهزم فؤاده، وزلزل أقدامه، وكسر بأسه، وفل غربه (¬15).وثلم حده، وكسر فوقه (¬16)، وفت في ساعده، وأوهن ساعده (¬17).وقد أحجم عن قرنه (¬18)، ونكل، ونكص، وانخزل، وتقاعس، وتراد، وارتد، وانكفأ. ويقال كهمت فلانا الشدائد إذا جبنته) (¬19). ¬

(¬1) الذي يرعد عند القتال جبنا. والرعش مثله. (¬2) كل ذلك بمعنى الضعيف الذي لا جلد له. (¬3) مخلوع القلب. (¬4) أي ضعيف القلب. (¬5) من غمزت العود ونحوه إذا ضغطت عليه بيدك لتقومه. (¬6) أي شديد يخلع قلب صاحبه. (¬7) أي نهاية في الجبن. وأصل الخشل بفتح فسكون وهو البيضة التي استخرج جوفها ثم أطلق على كل فارغ الجوف والمراد به هنا الجبان الذي قد خلع فؤاده جبنا. وكسرت شينه مع الفشل للازدواج. (¬8) ويقال هائع لائع أيضا وهو الأصل فيهما أي جبان جزوع. (¬9) حمار الوحش. (¬10) كل ما لا يصيد من الطير. (¬11) طائر ضعيف يضرب به المثل في الجبانة. (¬12) طائر آخر يقال هو الحجل. (¬13) أنثى الثعلب. (¬14) ولد القرد. (¬15) بمعنى ثلم حده. (¬16) من فوق السهم وهو مشق رأسه حيث يقع الوتر. (¬17) كلاهما بمعنى أضعف عزمه. (¬18) القرن بالكسر الكفؤ في الحرب. وأحجم عنه كف هيبة. وكذا ما يليه من الأفعال. (¬19) ((نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد)) لإبراهيم اليازجي (1/ 85 - 86).

من أخبار الجبناء

من أخبار الجبناء - قال أبو الفرج الأصفهاني: (كان أبو حية النميري وهو الهيثم بن الربيع بن زرارة جبانا بخيلا كذابا، قال ابن قتيبة: وكان له سيف يسميه، لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق، قال: وكان أجبن الناس، قال: فحدثني جار له، قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا، فأشرفت عليه، وقد انتضى سيفه وهو واقف في وسط الدار يقول: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خيرٌ قليل، وسيفٌ صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله ما أكثرها وأطيبها فبينا هو كذلك، إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفانا حربا) (¬1). - (ولِيمَ بعض الجبناء على جبنه، فقال: أول الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى) (¬2). - (وقال آخر: الحرب مقتلة للعباد، مذهبة للطارف والتلاد. - وقيل لجبان: لم لا تقاتل؟ فقال: عند النطاح يغلب الكبش الأجم. - وقالوا: الحياة أفضل من الموت، والفرار في وقته ظفر. - وقالوا: الشجاع ملقى، والجبان موقى. قال البديع الهمداني: ما ذاق هماً كالشجاع ولا خلا. . . بمسرةٍ كالعاجز المتواني - وقالوا: الفرار في وقته، خير من الثبات في غير وقته. - وقالوا: السلم أزكى للمال، وأبقى لأنفس الرجال). (¬3). - وقيل لأعرابي: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي في عافية، فكيف أمضي إليه ركضا، قال الشاعر: تمشي المنايا إلى قومٍ فأبغضها ... فكيف أعدو إليها عاري الكفن (¬4) - وقال الفرار السلمي: وفوارسٍ لبستها بفوارس ... حتى إذا التبست أملت بها يدي وتركتهم نقض الرماح ظهورهم ... من بين مقتولٍ وآخر مسند هل ينفعني أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالهم لا تبعد - وقال آخر: قامت تشجعني هندٌ فقلت لها ... إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا - وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدم، فقال: وقالوا: تقدم قلت لست بفاعل ... أخاف على فخارتي أن تحطما فلو كان لي رأسان أتلفت واحدا ... ولكنه رأس إذا زال أعقما وأوتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدما (¬5). - (وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدو؟ قال: وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني؟) (¬6). - وقال أيمن بن خريم: إن للفتنة ميطا بينا ... فرويد الميط منهم يعتدل فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل إنما يسعرهم جهم لهم ... حطب النار فدعهم تشتعل - وقال أبو دلامة: (كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم ثان فقتله، ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم. فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟ قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه، فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان. فلما رآني فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول: ¬

(¬1) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 320). (¬2) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 321). (¬3) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 322). (¬4) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 322). (¬5) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 324). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 144).

وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع من كان ينوي أهله فلا رجع فلما رأيته قنعت رأسي، ووليت هارباً، ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفتكم، فدخلت في غمار الناس) (¬1). - (وحكي أن عمرو بن معد يكرب مر بحي من أحياء العرب وإذا هو بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبهما في وهدة من الأرض يقضي حاجته فقال له عمرو خذ حذرك فإني قاتلك لا محالة فالتفت إليه وقال له من أنت قال أبو ثور عمرو بن معد يكرب قال أنا أبو الحرث ولكن ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا في وهدة فأعطني عهدك أن لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري فأعطاه عهداً على ذلك فخرج من الوهدة التي كان فيها وجلس محتبياً بحمائل سيفه فقال له عمرو ما هذا الجلوس قال ما أنا براكب فرسي ولا مقاتلك فإن كنت نكثت العهد فأنت أعلم ما يلقى الناكث فتركه ومضى وقال هذا أجبن من رأيت) (¬2). - ومن الفرارين: (أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فر يوم مرداء هجر من أبي فديك. فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول، أيهنئونه أم يعزونه، حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحباً بالصابر المخذول، الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله تعالى حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك) (¬3). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 143). (¬2) ((غرر الخصائص الواضحة)) لبرهان الدين محمد بن إبراهيم (ص 457). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 142).

الأمثال في الجبن

الأمثال في الجبن 1 - من أمثالهم في الجبن: (إنَّ الجبان حتفه من فوقه أي: أنَّ حذره وجبنه ليس بدافع عنه المنية إذا نزل به قدر الله. قال أبو عبيد: وهذا شبيه المعنى بالذي يحدث به عن خالد بن الوليد، فإنه قال عند موته: " لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم ها أنذا أموت حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء " قال أبو عبيد: يقول: فما لهم يجبنون عن القتال ولم أمت أنا به، إنما أموت بأجلي. ومنه الشعر الذي تمثل به سعد بن معاذ يوم الخندق: لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل وكذلك قول الأعشى: أبالموت خشتني عباد وإنّما ... رأيت منايا الناس يسعى دليلها) (¬1) 2 - (في المثل فلان أَجْبَنُ من المَنزوف ضَرِطاً وأَجبن من المنزوف خَضْفاً: يقال: أَن رجلاً فَزِع فضَرطَ حتى مات. وقال اللحياني: هو رجل كان يدعي الشجاعة فلما رأَى الخيل جعل يَفْعل حتى مات هكذا قال يفعل يعني يَضْرَطُ. وقال ابن بري: هو رجل كان إذا نُبِّه لشُرب الصَّبوح قال هلاَّ نَبَّهْتني لخيل قد أَغارت؟ فقيل له يوما على جهة الاختبار هذه نواصي الخيل فما زال يقول الخيل الخيلَ ويَضْرَط حتى مات) (¬2). 3 - (ومن أمثالهم في عيب الجبان قولهم: كل أزب نفور. المثل لزهير بن جذيمة العبسي، وذلك أنَّ خالد بن جعفر بن كلاب كان يطلبه بذحلٍ، فكان زهير يوماً في إبل له يهنوها ومعه أخوه أسيد بن جذيمة فرأى أسيد خالد بن جعفر قد أقبل ومعه أصحابه، فأخبر زهيراً بمكانهم، فقال له زهير: كأنَّ أزب نفور، وإنما قال له هذا لأنَّ أسيداً كان أشعر، فقال: إنما يكون نفار الأزب من الإبل لكثرة شعره، يكون ذلك على عينيه، فكلما رآه ظن أنه شخص يطلبه فينفر من أجله) (¬3). 4 - (وقولهم: عصا الجبان أطول قال أبو عبيد: وأحسبه إنما يفعل هذا لأنه من فشله يرى أنَّ طولها أشد ترهيباً لعدوه من قصرها) (¬4). ¬

(¬1) ((الأمثال)) لابن سلام (ص316). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (9/ 325). (¬3) ((الأمثال)) لابن سلام (ص317). (¬4) ((الأمثال)) لابن سلام (ص318).

الجبن في واحة الشعر ..

الجبن في واحة الشعر .. قال حسان بن ثابت يعير الحارث ابن هشام بفراره يوم بدر: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام لأحبة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرةٍ ولجامِ ملأت به الفرجين فارمدَّت به ... وثوى أحبته بشر مقامِ ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم، قول الشاعر: ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومةً تدعو عبيدا وأرنما ومثله قول عروة بن الورد: وأشجع قد أدركتهم فوجدتهم ... يخافون خطف الطير من كل جانب وقال آخر: ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا وقول أبي تمام: موكلٌ بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفة الطربِ وقال ابن الرومي: وفارسٍ أجبن من صفردٍ ... يحول أو يغور من صفره لو صاح في الليل به صائحٌ ... لكانت الأرض له طفره يرحمه الرحمن من جبنه ... فيرزق الجند به النصره (¬1). وقال المتنبي: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا وقال آخر: جهلاً علينا وجبناً عن عدُوِكم ... لبئست الخلتانُ الجهلُ والجبن ... ¬

(¬1) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 321).

الجدال والمراء

معنى الجدل والمراء لغة واصطلاحاً معنى الجدل لغة واصطلاحاً: معنى الجدل لغة: الجدل: اللدد في الخصومة والقدرة عليها، وجادله أي خاصمه مجادلة وجدالاً. والجدل: مقابلة الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة (¬1). وقال ابن فارس: الجدالُ: الخصومة؛ سمي بذلك لشدته (¬2). معنى الجدل اصطلاحاً: قال الراغب: (الجِدَال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة) (¬3). وقال الجرجاني: (الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله: بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه) (¬4). وقال أيضاً: (الجدال: هو عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها) (¬5). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 105). (¬2) ((مجمل اللغة)) لابن فارس (1/ 179). (¬3) ((المفردات في غريب القرآن)) (ص189). (¬4) ((التعريفات)) (ص74). (¬5) ((التعريفات)) (ص75).

معنى المراء لغة واصطلاحا

معنى المراء لغة واصطلاحاً معنى المراء لغة: المراء: الجدال. والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويقال للمناظرة مماراة (¬1). وماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته (¬2) معنى المراء اصطلاحاً: المراء: هو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع (¬3). وقال الجرجاني: (المراء: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير) (¬4). وقال الهروي: (أَن يسْتَخْرج الرجلُ من مُناظره كلَاما ومعاني الخُصومة وغَيرها) (¬5). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 278). (¬2) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 569). (¬3) ((التعريفات الاعتقادية)) لسعد آل عبد اللطيف (ص265). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص209). (¬5) ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الهروي (15/ 204).

ألفاظ مرادفة للجدال

ألفاظ مرادفة للجدال قد شاعت بين الناس ألفاظ إن لم تكن واحدة في المفهوم فهي قريبة بعضها من بعض كالمناظرة والمحاورة والمناقشة والمباحثة لأنها ترجع في نهاية أمرها إلى طريقة البيان والتبيين التي أودعها الله في بني الإنسان جبلة وطبعاً، وقد توجد بينها فروق بينتها قواعد الجدل وأدب البحث والمناظرة، إذ يرى البعض أن الجدل يراد منه إلزام الخصم ومغالبته. أما المناظرة: فهي تردد الكلام بين شخصين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق. والمحاورة: هي المراجعة في الكلام، ومنه التحاور أي التجاوب، وهي ضرب من الأدب الرفيع وأسلوب من أساليبه، وقد ورد لفظ الجدل والمحاورة في موضع واحد من سورة المجادلة في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة: 1]. وقريب من ذلك المناقشة والمباحثة (¬1). ¬

(¬1) ((مناهج الجدل في القرآن الكريم)) لزاهر الألمعي (ص25).

الفرق بين الجدال والمراء والحجاج

الفرق بين الجدال والمراء والحجاج الفرق بين الجدال والحجاج الفرق بينهما أن المطلوب بالحجاج هو ظهور الحجة. والمطلوب بالجدال: الرجوع عن المذهب (¬1). الفرق بين الجدال والمراء قيل: هما بمعنى. غير أن المراء مذموم، لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره وليس كذلك الجدال (¬2). ولا يكون المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضاً (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص158). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص159). (¬3) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 569).

ذم الجدال والمراء في القرآن والسنة

ذم الجدال والمراء في القرآن والسنة ذم الجدال والمراء في القرآن الكريم: - قال الله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]. وعن ابن مسعود في قوله: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ قال: (أن تماري صاحبك حتى تغضبه) (¬1). وعن ابن عباس: (الجدال المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك) (¬2). وعن ابن عمر: (الجدال المراء والسباب والخصومات) (¬3). وقال السدي: قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه (¬4). وقال الطبري: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحداً. ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه (¬5). - وقال جل شأنه: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [البقرة: 204]. قال العيني: أي: شديد الجدال والخصومة والعداوة للمسلمين (¬6). قال مقاتل: يَقُولُ جدلاً بالباطل (¬7). وقال الطبري: أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك (¬8). - وقال جل في علاه: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4]. (قال سهل: في القرآن آيتان ما أشدّهما على من يجادل في القرآن، وهما قوله تعالى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] أي: يماري في آيات الله ويخاصم بهوى نفسه وطبع جبلّة عقله، قال تعالى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، أي: لا مراء في الحج. والثانية: قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176]) (¬9). - وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ [الحج: 8]. قال الزجاج: (فالمعنى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم مُتَكَبِّراً) (¬10). وقال البيضاوي: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده وصفاته) (¬11). وقال الشوكاني: (ومعنى اللفظ: ومن الناس فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة) (¬12). وقال السعدي: (ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق، والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء) (¬13). - وقال جل شأنه: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت: 46]. (قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا ينبغي أن يجادل من آمن منهم، لعلهم أن يحدثوا شيئاً في كتاب الله لا تعلمه أنت، قال: لا تجادلوا، لا ينبغي أن تجادل منهم) (¬14). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 141). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 144). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 145). (¬4) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) (3/ 486). (¬5) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) (3/ 477). (¬6) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) (18/ 114). (¬7) ((تفسير مقاتل)) (ص178). (¬8) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) (3/ 573). (¬9) ((تفسير التستري)) للتستري (1/ 19). (¬10) ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/ 414). (¬11) ((أنوار التنزيل وأسرار التأويل)) للبيضاوي (4/ 215). (¬12) ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 519). (¬13) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (ص533). (¬14) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (9/ 3068).

وقال السعدي: (ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع) (¬1). - وقال تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 66]. قال الطبري: (يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم: هؤلاء القوم الذين خاصمتم وجادلتم فيما لكم به علم من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه، وثبتت عندكم صحته، فلم تحاجون؟ يقول: فلم تجادلون وتخاصمون فيما ليس لكم به علم) (¬2). قال الشوكاني: (وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحق) (¬3). وقال السعدي: (وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه) (¬4). ذم الجدال والمراء في السنة النبوية - فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58])) (¬5). قال القاري: (والمعنى ما كان ضلالتهم ووقوعهم في الكفر إلا بسبب الجدال وهو الخصومة بالباطل مع نبيهم، وطلب المعجزة منه عناداً أو جحوداً، وقيل: مقابلة الحجة بالحجة، وقيل: المراد هنا العناد، والمراء في القرآن ضرب بعضه ببعض لترويج مذاهبهم وآراء مشايخهم من غير أن يكون لهم نصرة على ما هو الحق، وذلك محرم لا المناظرة لغرض صحيح كإظهار الحق فإنه فرض كفاية) (¬6). وقال المناوي: (أي الجدال المؤدي إلى مراء ووقوع في شك أما التنازع في الأحكام فجائز إجماعاً إنما المحذور جدال لا يرجع إلى علم ولا يقضى فيه بضرس قاطع وليس فيه اتباع للبرهان ولا تأول على النصفة بل يخبط خبط عشواء غير فارق بين حق وباطل) (¬7). وقال البيضاوي: (المراد بهذا الجدل العِناد، والمراء والتعصُّب) (¬8). - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) (¬9). قال الصنعاني: (أي الشديد المراء أي الذي يحج صاحبه) (¬10). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (ص533). (¬2) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (5/ 483). (¬3) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 401). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص134). (¬5) رواه الترمذي (3253)، وابن ماجه (48)، وأحمد (5/ 252) (22218). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7934)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5633). (¬6) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (1/ 265). (¬7) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 354). (¬8) ((قوت المغتذي على جامع الترمذي)) للسيوطي (2/ 801). (¬9) رواه البخاري (2457)، ومسلم (2668). (¬10) ((سبل السلام)) للصنعاني (2/ 674).

وقال المهلب: (لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج بها عن وجوهها، واللي بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه) (¬1). وقال النووي: (والألد: شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر وأما الخصم فهو الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل) (¬2). - وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المراء في القرآن كفر)) (¬3). قال البيضاوي: (المراد بالمراء فيه التدارؤ، وهو أن يروم تكذيب القرآن بالقرآن ليدفع بعضه ببعض فيطرق إليه قدحاً وطعناً) (¬4). وقال المناوي: (المراد الخوض فيه بأنه محدث أو قديم، والمجادلة في الآي المتشابهة المؤدي ذلك إلى الجحود والفتن وإراقة الدماء؛ فسماه باسم ما يخاف عاقبته وهو قريب من قول القاضي: أراد بالمراء التدارؤ وهو أن يروم تكذيب القرآن بالقرآن ليدفع بعضه ببعض فيتطرق إليه قدح وطعن، ومن حق الناظر في القرآن أن يجتهد في التوفيق بين الآيات والجمع بين المختلفات ما أمكنه (¬5). - وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في ربضِ الجنةِ لمن ترك المراء وإن كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) (¬6). قال السندي: (ومن ترك المراء: أي الجدال خوفاً من أن يقع صاحبه في اللجاج الموقع في الباطل) (¬7). ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/ 259). (¬2) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (16/ 219). (¬3) رواه أبو داود (4603)، وأحمد (2/ 300) (7976)، وابن حبان (1/ 275) (74). قال الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 154): رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9187)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6687). (¬4) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (1/ 311). (¬5) ((فيض القدير)) (6/ 265). (¬6) رواه أبو داود (4800)، والطبراني في ((الكبير)) (8/ 98)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 420) (21176). وصححه النووي في ((رياض الصالحين)) (ص216)، وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2648). (¬7) ((حاشية السندي على سنن ابن ماجة)) (ص26).

أقوال السلف والعلماء في ذم الجدال والمراء

أقوال السلف والعلماء في ذم الجدال والمراء - عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (لا تمار أخاك فإنّ المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته .. ) (¬1). - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (من استحقاق حقيقة الإيمان ترك المراء والمرء صادق) (¬2). - وقال أبو الدرداء: (كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً) (¬3). - وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ولن يصيب رجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو يعلم أنه صادق ويترك الكذب في المزاحة) (¬4). - وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (إذا أحببت أخاً فلا تماره, ولا تشاره, ولا تمازحه) (¬5). - وقال مالك بن أنس: (المراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن) (¬6). - وقال أيضاً: (كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد - عليه السلام – لجدله) (¬7). - وقال أيضاً: (ليس هذا الجدل من الدين بشيء) (¬8). - وقال ابن أبي ليلى: (لا تمار أخاك؛ فإنه لا يأتي بخير) (¬9). - وقال أيضاً: (لا أماري أخي إما أن أغضبه وإما أكذبه) (¬10). - وقَالَ بلال بْن سعد: (إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته) (¬11). - وقال الشافعي: (المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغائن) (¬12). - وقال مسلم بن يسار: (إياكم والمراء , فإنها ساعة جهل العالم , وبها يبتغي الشيطان زلته) (¬13). - وقال عبدوس بن مالك العطار: (سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - يقول: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال. والخصومات في الدين، إلى أن قال: لا تخاصم أحداً ولا تناظره، ولا تتعلم الجدال فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها، من السنن مكروه منهي عنه لا يكون صاحبه إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال) (¬14). - وقال محمد بن الحسين: (من صفة الجاهل: الجدل, والمراء, والمغالبة) (¬15). - وعن الحسن قال: (ما رأينا فقيها يماري) (¬16). - وعنه أيضاً: (المؤمن يداري ولا يماري , ينشر حكمة الله , فإن قبلت حمد الله , وإن ردت حمد الله) (¬17). - وعن زياد بن حدير قال: (قال لي عمر: هل تعرف ما يهرم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهرمه زلّة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمّة المضلّين) (¬18). - وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: (ما ماريت أخي أبداً؛ لأني إن ماريته إما أن أكذبه، وإما أن أغضبه) (¬19). - وقال عبد الله بن الحسن: (المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب) (¬20). - وقال الأصمعي: (سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلّت كرامته، ومن أكثر من شيء عرف به) (¬21). - وقال عمر بن عبد العزيز: (قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطّمع) (¬22). - وقال الأوزاعيّ: (إذا أراد الله بقوم شرّاً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل) (¬23). - وقال أَبُو حاتم: وإن من المزاح مَا يكون سببا لتهييج المراء والواجب على العاقل اجتنابه لأن المراء مذموم في الأحوال كلها ولا يخلو المماري من أن يفوته أحد رجلين في المراء إما رجل هو أعلم منه فكيف يجادل من هو دونه في العلم أو يكون ذلك أعلم منه فكيف يماري من هو أعلم منه (¬24). ¬

(¬1) ((جامع الأصول)) (2/ 753) (1262). (¬2) ((الزهد)) لهناد بن سري (2/ 557). (¬3) رواه الدارمي (1/ 336) (301). (¬4) ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (ص269). (¬5) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (545)، وأبو داود في ((الزهد)) (ص180). وصحح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (424). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 117). (¬7) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 201). (¬8) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 202). (¬9) ((الزهد)) لهناد بن سري (2/ 557). (¬10) ((الزهد)) لهناد بن سري (2/ 557). (¬11) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص79). (¬12) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 202). (¬13) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص57). (¬14) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 201). (¬15) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص63). (¬16) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص58). (¬17) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص58). (¬18) ((نضرة النعيم)) لمجموعة باحثين (9/ 4347). (¬19) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 18). (¬20) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 315). (¬21) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 18). (¬22) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/ 234). (¬23) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 202). (¬24) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص78).

أقسام الجدال

أقسام الجدال ينقسم الجدال إلى قسمين: 1 - الجدال المحمود: وهو الذي يقوم على تقرير الحق وإظهاره بإقامة الأدلة والبراهين على صدقه. وفيه خير للإسلام وعزة للمسلمين لأن فيه دعوة الله وذب عن دينه، وقد جاءت نصوص تأمر بهذا النوع من الجدال، وهي التي تتعلق بإظهار الحق والدلالة عليه والدعوة إليه، وتدفع كل ما يلحق بالإسلام والمسلمين من أذى وإلصاق تهم باطلة. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الجدال في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. وقال جل في علاه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) (¬1). وقد حصل هذا النوع من الجدال بين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وبين الخوارج زمن علي بن أبي طالب بأمر علي فأقام عليهم الحجة وأفحمهم، فرجع عن هذه البدعة خلق كثير. وكذلك مجادلة أحمد بن حنبل رحمه الله للمعتزلة، ومجادلات ابن تيمية لأهل البدع. 2 - الجدال المذموم: هو الجدال الذي يقوم على تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، ويقوم على الزور وإضاعة الحقوق، ونشر الشهوات والشبهات، والتشكيك في الغيبيات التي أمرنا بالإيمان والتسليم والتصديق بها كأخبار الوحي وأسماء الله وصفاته، والبعث والنشور والجنة والنار، والجدال في القرآن. وقد جاءت الكثير من النصوص والآثار التي حذرت من هذا النوع من الجدال ونهت عنه، ومن هذه النصوص: قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3]. وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ [الحج: 8]. وقوله سبحانه: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر: 4]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((المراء في القرآن كفر)) (¬2). وقال ابن عثيمين: (المجادلة والمناظرة نوعان: النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء ويجاري العلماء ويريد أن ينتصر قوله؛ فهذه مذمومة. النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه؛ فهذه محمودة مأمور بها) (¬3). وقال الكرماني: (الجدال: هو الخصام ومنه قبيح وحسن وأحسن؛ فما كان للفرائض فهو أحسن، وما كان للمستحبات فهو حسن، وما كان لغير ذلك فهو قبيح) (¬4) ¬

(¬1) رواه أبو داود (2504)، والنسائي (3096)، وأحمد (3/ 124) (12268). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3578). (¬2) رواه أبو داود (4603)، وأحمد (2/ 300) (7976)، وابن حبان (1/ 275) (74). قال الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 154): رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9187)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6687). (¬3) ((العلم)) (ص164). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 314).

آثار وأضرار الجدال والمراء

آثار وأضرار الجدال والمراء 17 - الجدال والمراء غير المحمود من فضول الكلام الّذي يعاب عليه صاحبه. 18 - قد يؤدي الجدل الباطل إلى تكفير الآخرين أو تفسيقهم. 19 - يدعو إلى التشفي من الآخرين. 20 - يذكي العداوة، ويورث الشقاق بين أفراد المجتمع. 21 - يقود صاحبه إلى الكذب. 22 - يؤدي إلى إطلاق اللسان في بذيء الألفاظ. 23 - يؤدي بالمجادل إلى إنكار الحق ورده.

آداب الجدال

آداب الجدال هناك جملة من الآداب ينبغي للمجادل المسلم أن يتحلى بها، أثناء المجادلة ومنها (¬1): 1 - النية الصادقة في نصرة الحق والدعوة إلى دين الله تعالى، وترك الرياء والسمعة، أو طلب الجاه والرفعة. 2 - العلم الصحيح المستفاد من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة الصالح. 3 - رد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله. 4 - تقديم النقل ونصوصه على العقل وظنونه. 5 - التحلي بالأخلاق الإسلامية العالية أثناء الجدال من القول المهذب، واحترام الآخرين، وعدم الطعن في الأشخاص أو لمزهم والاستهزاء بهم. 6 - أن تكون غايتك إظهار الحق، وإقناع الناس به، مع الابتعاد عن الباطل أو تلبيسه على الناس. 7 - تقديم الأهم فالأهم من الحجج والبينات والأدلة المفحمة للخصم بقصد الإقناع وإظهار وجه الصواب. 8 - مجانبة إطالة الكلام، وغرابة الألفاظ، أو خروجها عن صلب الموضوع. 9 - عدم الالتزام في أثناء المناظرة بضد الدعوى التي تحاول إثباتها وإلا فشلت. 10 - عدم التعارض بين الأدلة أو التناقض في البينات والحجج. 11 - عدم الطعن في أدلة الخصم إلا ضمن الأمور المبينة على المنهج الصحيح. 12 - إعلان التسليم بالقضايا المتفق عليها، وقبول نتائج المناظرة. 13 - الامتناع عن المجادلة إذا كانت تؤدي إلى فتنة وفساد أو ضرر يلحق بالدعوة. 14 - أهمية مراعاة الظروف المحيطة بالمناظرة من حيث الأشخاص والموضوع والزمان والمكان. ¬

(¬1) ((وسائل الدعوة)) لعبد الرحيم المغذوي (ص98 - 99) بتصرف.

أركان الجدال

أركان الجدال للجدل أركان لابد أن يقوم ويستند عليها، كما أن لتلك الأركان شروطاً لابد من تحققها فيها، وذلك على النحو التالي: الركن الأول: الموضوع الذي يجري فيه الجدال. ويشترط فيه: 1 - أن يكون الموضوع مما يجوز أن تجري فيه المجادلة شرعاً، وعقلاً، فلا تجوز المجادلة في ذات الله تعالى، أو أسمائه وصفاته، وكذلك لا يجوز الجدال في آيات الله وضرب بعضها ببعض، ولا الجدال فيما غيّب عنا، وليس لنا سبيل إلى معرفته والعلم به. 2 - أن يكون الموضوع المتجادل فيه معلوماً ومحدداً لدى المتجادلين، فلا ينبغي الجدال فيما تجهل أو ما كان متشعباً وليس باستطاعتك التمكن منه، وهذا من التكلف المنهي عنه. 3 - أن يكون الهدف من الموضوع المتجادل فيه إظهار وجه الحق والصواب، ودمغ الباطل والارتياب، والدعوة إلى دين الله، والذب عن عقيدة الإسلام. الركن الثاني: فريقا أو طرفا الجدال: وهما من انتصبا للجدال في قضية أو مسألة ما موضع خلاف بينهما: ويشترط فيهما: 1 - أهليتهما للجدال: والمراد بذلك الوفرة العلمية والعقلية لمن يتصدى للجدال، وتمكن المجادل من عدته وعتاده أثناء المناظرة والجدال. 2 - التزام طرفي الجدال بآداب الجدال وضوابطه المجادلة، حتى تسير الأمور في نطاق من الأدب والالتزام والاحترام. الركن الثالث: منهج الجدال: والمقصود به الطريق الذي تسير عليه المجادلة أو المناظرة، وما يجب أن تكون عليه، وتتصف به. ويشترط في المنهج: 1 - الوضوح والعلم به، فلا يتصور أن يقوم أحد، ويجادل بدون معرفة وعلم بالطريق الذي يجب أن يسلكه في جداله ومناظراته. 2 - تضمن المنهج للكيفية التي يسير بها الجدال، واتفاق الأطراف على تلك الأسس والكيفية (¬1). ¬

(¬1) ((وسائل الدعوة)) لعبد الرحيم المغذوي (ص91 - 93) باختصار.

مراحل الجدال

مراحل الجدال لابد أن يمر الجدال الصادق والحسن بمراحل حتى يؤدي إلى نتيجته المرجوة، وهذه المراحل هي: 1 - مرحلة المبادئ: وفي هذه المرحلة يتم تحديد موضوع الجدال وتعيين موضوع النزاع بدقة، كما يتم تعيين الأطراف المتجادلة، وذلك حتى لا تتشعب الموضوعات وتتشقق إلى موضوعات وأمور أخرى بعيدة عن الموضوع المتنازع عليه أصلاً، وكذا فيه احتراز من عدم دخول أطراف آخرين في النزاع والجدال غير الأطراف المتفق عليهم أصلاً. 2 - مرحلة الأوسط: وفي هذه المرحلة يتم تقديم الدلائل والحجج والبراهين القاطعة على صحة دعوى كل فريق ضمن المنهج المتفق عليه. 3 - مرحلة المقاطع: وهي مرحلة إذا انتهت فيها تقديم الأدلة والحجج والبراهين ووصلت المجادلة إلى ضرورة التسليم بما تؤدي إليه تلك الأدلة والحجج والبراهين والوقوف عند هذا الحد. 4 - مرحلة النتائج: وهي المرحلة التي يعجز فيها طرف من الأطراف المتنازعة عن مجاراة الطرف الآخر لغلبة حجته وقوتها، فعندئذ تكون النتيجة، وهي انتصار طرف على الآخر ونجاحه، سواء سلم الطرف الآخر بتلك النتيجة أم لا (¬1). ¬

(¬1) ((وسائل الدعوة)) لعبد الرحيم المغذوي (ص93 - 94).

نماذج من الجدال المحمود

نماذج من الجدال المحمود أولاً: من القرآن الكريم: 1 - مجادلة نوح عليه السلام قومه في دعوتهم إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: 25 - 33]. 2 - مجادلة إبراهيم لأبيه وقومه لإثبات الحق وإظهار بطلان الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع، قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 74 - 83].

3 - المجادلة والمناظرة التي دارت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود حينما ادعى النمرود الربوبية، والتي انتصر فيها إبراهيم الخليل على عدو الله نمرود، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258]. 4 - المجادلة والمناظرة التي دارت بين شعيب وقومه عندما دعاهم لعبادة الله وحده والابتعاد عن الكفر، وعدم تطفيف المكيال والميزان، وأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ هود: 84 - 93. ثانياً: من السنة النبوية: والأمثلة من السنة على الجدال المحمود كثيرة، ونذكر منها على سبيل المثال:

1 - المجادلة التي دارت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: فعن الزهري قال: ((أن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ائت محمداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح. فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني))) (¬1). 2 - الجدال الذي دار بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وبين النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب. قال ابن كثير: قال ابن إسحاق: ((فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطاً، وأقام المشركون يحاصرونه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل. فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن الزهري، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا))) (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 323) (18930)، والطبري في ((التاريخ)) (2/ 633). (¬2) انظر ((السيرة النبوية)) لابن كثير (3/ 201 - 202)، و ((سيرة ابن هشام)) (2/ 223).

حكم وأمثال في الجدال والمراء

حكم وأمثال في الجدال والمراء - دع المِراء لقلَّة خَيره (¬1). - المراء لؤم (¬2). - دع المراء وإن كنت محقاً (¬3). - من ترك المراء سلمت له المروءة (¬4) من أقوال الحكماء: - يقال: لا تمار حكيماً ولا سفيها، فإن الحكيم يغلبك، والسفيه يؤذيك (¬5). - قال محمد بن الحسين: وعند الحكماء: أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان, ويورث التفرقة بعد الألفة, والوحشة بعد الأنس (¬6). ¬

(¬1) ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 1069). (¬2) ((الأمثال المولدة)) للخوارزمي (ص123). (¬3) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (1/ 274). (¬4) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (2/ 296). (¬5) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 18). (¬6) ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص59).

وصايا ونصائح في التحذير من الجدال والمراء

وصايا ونصائح في التحذير من الجدال والمراء - قال لقمان: يا بنيّ، من لا يملك لسانه يندم، ومن يكثر المراء يشتم، ومن يصاحب صاحب السّوء لا يسلم، ومن يصاحب الصّالح يغنم (¬1). - وقال أيضاً: لا تمارين حكيماً، ولا تجادلن لجوجاً، ولا تعاشرن ظلوماً، ولا تصاحبن متهماً (¬2). - وقال أيضاً: يا بني من قصر في الخصومة خصم، ومن بالغ فيها أثم، فقل الحق ولو على نفسك فلا تبال من غضب (¬3). - وعن يونس قال: كتب إلي ميمون بن مهران: (إيّاك والخصومة والجدال في الدّين، ولا تجادلنّ عالماً ولا جاهلاً. أمّا العالم فإنّه يحزن عنك علمه، ولا يبالي ما صنعت، وأمّا الجاهل فإنّه يخشّن بصدرك، ولا يطيعك) (¬4). - وقال مسعر بن كدام- رحمه الله تعالى- يوصي ابنه كداما: إنّي منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق إنّي بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاور جاراً ولا لرفيق والجهل يزري بالفتى في قومه ... وعروقه في النّاس أيّ عروق؟ (¬5) ... ¬

(¬1) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (ص295). (¬2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 18). (¬3) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 18). (¬4) ((سنن الدارمي)) (1/ 341). (¬5) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص78 - 79).

الجدال والمراء في واحة الشعر ..

الجدال والمراء في واحة الشعر .. قال إسماعيل بن يسار: فدع عنك المراء ولا ترده ... لقلة خير أسباب المراء وأيقن أن من مارى أخاه ... تعرض من أخيه للحاء ولا تبغِ الخلاف فإن فيه ... تفرق بين ذات الأصفياء وإن أيقنت أن الغي فيما ... دعاك إليه إخوان الصفاء فجاملهم بحسن القول فيما ... أردت وقد عزمت على الإباء (¬1) وقال العرزمي: نصحتك فيما قلته وذكرته ... وذلك حق في المودة واجب لا تركنن إلى المراء فإنه ... إلى الشر دعاء وللغي جالب وقال زيد بن جندب الإيادي: كنا أناساً على دين ففرقنا ... طول الجدال وخلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب (¬2) وقال ابن الرومى: لذوى الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور وهن كآنية الزّجاج تصادمت ... فهوت، وكلّ كاسر مكسور فالقاتل المقتول ثمّ لضعفه ... ولوهيه، والآسر المأسور (¬3) وقال أبو محمد بن سنان الخفاجي: فإياك إياك المراء فإنه ... سبب لكل تنافر وتشامس وافعل جميلاً لا يضيع صنيعه ... واسمع بقوتك للضعيف البائس لا تفخرن وإن فصلت فبالتقى ... ناضل وفي بذل المكارم نافس (¬4) وقال آخر: لا تفن عمرك في الجدال مخاصماً ... إن الجدال يخل بالأديان واحذر مجادلة الرجال فإنها ... تدعو إلى الشحناء والشنآن وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد ... لك مهرباً وتلاقت الصفان فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً ... والشرع سيفك وابد في الميدان والسنة البيضاء دونك جنة ... واركب جواد العزم في الجولان واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى ... فالصبر أوثق عدة الإنسان واطعن برمح الحق كل معاند ... لله در الفارس الطعان واحمل بسيف الصدق حملة مخلص ... متجرد لله غير جبان وإذا غلبت الخصم لا تهزأ به ... فالعجب يخمد جمرة الإنسان لا تغضبن إذا سئلت ولا تصح ... فكلاهما خلقان مذمومان (¬5) وأحسنَ من قال: وإياك من حلو المزاح ومره ... ومن أن يراك الناس فيه مماريا وإن مراء المرء يخلق وجهه ... وإن مزاح المرء يبدي التشانيا دعاه مزاح أو مراء إلى التي ... بها صار مقلي الإخاء وقاليا (¬6) وقال أَبُو الأخفش الكناني أنه قَالَ لابن له: أبني لا تك ماحييت مماريا ... ودع السفاهة إنها لا تنفع لا تحملن ضغينة لقرابة ... إن الضغينة للقرابة تقطع لا تحسبن الحلم منك مذلة ... إن الحليم هو الأعز الأمنع (¬7) وقال زيد بن جندب: ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأعناهم عن الشّغب (¬8) ... ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص450). (¬2) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 58). (¬3) ((زهر الآداب وثمر الألباب)) للقيرواني (4/ 922). (¬4) ((مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي)) لأحمد قبش (ص450). (¬5) ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (4/ 478). (¬6) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص79). (¬7) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (ص79). (¬8) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء)) للراغب (1/ 102).

الحسد

معنى الحسد لغة واصطلاحاً: معنى الحسد لغة: حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه، حَسَداً وحُسوداً وحَسادَةً وحَسَّدَه، تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يسلبهما (¬1)، معنى الحسد اصطلاحاً: وقال الجرجانيّ: الحسد تمنّي زوال نعمة المحسود إلى الحاسد (¬2). وقال الكفويّ: الحسد: اختلاف القلب على الناس لكثرة الأموال والأملاك (¬3). وعرفه الطاهر بن عاشور فقال: (الحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير، مع تمني زوالها عنه؛ لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة، أو على مشاركته الحاسد) (¬4). ¬

(¬1) ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص277). (¬2) ((التعريفات)) (ص87). (¬3) ((الكليات)) (ص408). (¬4) ((التحرير والتنوير)) (30/ 629).

الفرق بين الحسد وبعض الصفات

الفرق بين الحسد وبعض الصفات الفرق بين الحسد والغبطة: فرق العلماء بين الحسد والغبطة، بأن في الغبطة تمن للحصول على نعمة مثل التي أعجبته، من غير تمن لزوالها عن صاحبها، قال ابن منظور: (الغبط أن يرى المغبوط في حال حسنة، فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة من غير أن يتمنى زوالها عنه، وإذا سأل الله مثلها فقد انتهى إلى ما أمره به ورضيه له، وأما الحسد فهو أن يشتهي أن يكون له ما للمحسود، وأن يزول عنه ما هو فيه) (¬1). وقال الرازي: (إذا أنعم الله على أخيك بنعمة؛ فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد، وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة) (¬2). وقد تسمى الغبطة حسدا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬3). وقد فسر النووي الحسد في الحديث فقال: (هو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها) (¬4). الفرق بين الحسد والمنافسة والمسابقة: قال ابن القيم: (للحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيره، فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه) (¬5). وقال الغزالي: (والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [الحديد: 21] وإنما المسابقة عند خوف الفوت؛ وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما، إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها) (¬6). وبيّن الغزالي سبب المنافسة فأرجعها إلى: (إرادة مساواته واللحوق به في النعمة، وليس فيها كراهة النعمة، وكان تحت هذه النعمة أمران؛ أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصانه عن غيره وتخلفه عنه، وهو يكره أحد الوجهين، وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له. ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات) (¬7). وقد تنافس الصحابة في الخير، وبذلوا أسباب الكمال؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا)) (¬8). ولكن المنافسة في أمور الدنيا تجر غالبا إلى الوقوع في الحسد والأخلاق الذميمة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)) (¬9). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) (¬10). وقد نبه على ذلك الرازي فقال: (لكن هاهنا دقيقة؛ وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان؛ أحدهما: أن يحصل له مثل ما حصل للغير. والثاني: أن يزول عن الغير ما لم يحصل له. فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، فهاهنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشخص لأزالها، فهو صاحب الحسد المذموم، وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك) (¬11). الفرق بين الحسد والعين: العين نظر باستحسان قد يشوبه شيء من الحسد، ويكون الناظر خبيث الطبع (¬12). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 359). (¬2) ((تفسير الرازي)) (3/ 646). (¬3) رواه البخاري (73) ومسلم (316). (¬4) ((شرح النووي على مسلم)) (6/ 97). (¬5) ((الفوائد)) (ص140). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 190). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 191). (¬8) رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675). وقال: حسن صحيح. وقال الحاكم (1/ 574): صحيح على شرط مسلم. وحسنه الألباني في ((تخريج المشكاة)) (6030). (¬9) رواه مسلم (2962). (¬10) رواه البخاري (3158)، ومسلم (2961)، واللفظ للبخاري. (¬11) ((تفسير الرازي)) (3/ 647). (¬12) ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (2/ 445).

ذم الحسد والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم الحسد والنهي عنه في القرآن والسنة ذم الحسد والنهي عنه في القرآن: - قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]. قال الرازي: (كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، وهو قوله: وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة) (¬1). وقال الحسين بن الفضل: (إنّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسّ الطبائع) (¬2). - وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109]، قال ابن عثيمين: (والآية تدل على تحريم الحسد؛ لأن مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة ... والحاسد لا يزداد بحسده إلا ناراً تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهاً لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود؛ ثم إن الحاسد أو الحسود. مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلاً فيها؛ لأنه لابد أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة) (¬3). وقال الثعالبي: (وقيل: إن هذه الآية تابعةٌ في المعنى لما تقدَّم من نَهْيِ اللَّه عزَّ وجلَّ عن متابعة أقوال اليهود في: راعِنا [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيْرٌ، ويودُّون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبيَّن لهم الحق، وهو نبوءة محمّد صلّى الله عليه وسلم) (¬4). وقال محمد رشيد رضا: (وقال: (حسدا من عند أنفسهم) ليبين أن حسدهم لم يكن عن شبهة دينية أو غيره على حق يعتقدونه، وإنما هو خبث النفوس وفساد الأخلاق والجمود على الباطل، وإن ظهر لصاحبه الحق) (¬5). - وقال سبحانه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54]. قال القرطبي: (وهذا هو الحسد بعينه الذي ذمه الله تعالى) (¬6). وقال أبو السعود: (مفيدةٌ للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها لاسيما على ما هم بمعزل من استحقاقه) (¬7). - وقال عز من قائل: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32). قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ... ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل) (¬8). وقال الزجاج: (قيل: لا ينْبغي أَن يتمنى الرجل مَالَ غيره ومنْزلَ غيره، فإِن ذلك هو الحسد) (¬9). ¬

(¬1) ((مفاتيح الغيب)) (1/ 226). (¬2) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (10/ 340). (¬3) ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (1/ 360). (¬4) ((الجواهر الحسان)) (1/ 302). (¬5) ((تفسير المنار)) (1/ 346). (¬6) ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 163) بتصرف يسير. (¬7) ((إرشاد العقل السليم)) (2/ 190). (¬8) ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 250). (¬9) ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/ 45).

وقال الزحيلي: (نهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني، لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. والمراد النهي عن الحسد: وهو تمني زوال نعمة الغير، وصيرورتها إليه أو لا تصير إليه) (¬1). ذم الحسد والنهي عنه من السنة النبوية: - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) (¬2). قال ابن بطال: (وفيه: النهي عن الحسد على النعم، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله) (¬3). وقال الباجي: (أن تنافس أخاك في الشيء حتى تحسده عليه فيجر ذلك إلى الطعن والعداوة فذلك الحسد) (¬4). - وعن أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) (¬5). قال القاري: قال: ("إياكم والحسد" أي: في مال أو جاه دنيوي، فإنه مذموم بخلاف الغبطة في الأمر الأخروي (فإن الحسد) أي: باعتبار ما ينتج في حق المحسود من ارتكاب السيئات (يأكل الحسنات): أي يفني ويذهب طاعات الحاسد (كما تأكل النار الحطب). لأن الحسد يفضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود ونحوه، فيذهب حسناته في عرض ذلك المحسود، فيزيد المحسود نعمة على نعمة، والحاسد حسرة على حسرة، فهو كما قال تعالى: خسر الدنيا والآخرة [الحج:11]) (¬6). وقال المناوي: ("فإن الحسد يأكل الحسنات": أي يذهبها ويحرقها ويمحو أثرها (كما تأكل النار الحطب) أي اليابس لأنه يفضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود وشتمه وقد يتلف ماله أو يسعى في سفك دمه وكل ذلك مظالم يقتص منها في الآخرة ويذهب في عوض ذلك حسنات فلا حجة فيه للمعتزلة الزاعمين أن المعاصي تحبط الطاعات) (¬7). وقال العظيم آبادي: ("إياكم والحسد" أي احذروا الحسد في مال أو جاه دنيوي فإنه مذموم بخلاف الغبطة في الأمر الأخروي (فإن الحسد يأكل الحسنات) أي يفني ويذهب طاعات الحاسد) (¬8). - وعن قيس، قال: سمعت عبد الله بن مسعود، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬9). قال النووي: (قال العلماء الحسد قسمان حقيقي ومجازي فالحقيقي تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة وأما المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة والمراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما قوله صلى الله عليه وسلم آناء الليل والنهار أي ساعاته (¬10). قال ابن الجوزي: وَقد ذمّ الْحَسَد على الْإِطْلَاق لما ينتجه ويوجبه ... وأن المراد بالحديث نفي الحسد فحسب، فقوله: " لَا حسد " كلام تام، وهو نفي في معنى النهي. وقوله: " إِلَّا فِي اثنتين" استثناء ليس من الجنس) (¬11). ¬

(¬1) ((التفسير المنير)) (5/ 45). (¬2) رواه البخاري (6065)، ومسلم (2558). (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 258). (¬4) ((المنتقى شرح الموطأ)) (7/ 216). (¬5) رواه أبو داود (4903)، والبزار (15/ 115)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9/ 10) (6184). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2908)، الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2197). (¬6) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (8/ 3155). (¬7) ((فيض القدير)) (3/ 125). (¬8) ((عون المعبود)) (13/ 168). (¬9) رواه البخاري (73) ومسلم (316). (¬10) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (6/ 97). (¬11) ((كشف المشكل)) (1/ 289).

أقوال السلف والعلماء في ذم الحسد

أقوال السلف والعلماء في ذم الحسد - قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها) (¬1). - وقال ابن سيرين: (ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟) (¬2). - وقال الحسن البصري: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وغم لا ينفد) (¬3). - وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها: فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء، وإرادة ضد ما حكم الله جل وعلا لعباده، ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم، والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاء ما للحساد في الأحشاء) (¬4)، وقال كذلك: (الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ، ونار الحسد لا تطفأ) (¬5). - وقال أبو الليث السمرقندي: (يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غم لا ينقطع. الثانية: مصيبة لا يؤجر عليها. الثالثة: مذمة لا يحمد عليها. الرابعة: سخط الرب. الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق) (¬6). - وقال الجاحظ: (ومتى رأيت حاسدا يصوب إليك رأيا إن كنت مصيبا، أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئا، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك، أو قصر من غيبته لك؟ فهو الكلب الكَلِب، والنمر النَّمِر، والسم القَشِب، والفحل القَطِم، والسيل العَرِم. إن ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى. حياتك موته، وموتك عرسه وسروره. يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي. لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانة وصديقك علانية ... أحسن ما تكون عنده حالا أقل ما تكون مالا، وأكثر ما تكون عيالا، وأعظم ما تكون ضلالا. وأفرح ما يكون بك أقرب ما تكون بالمصيبة عهدا، وأبعد ما تكون من الناس حمدا. فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزَّمنى، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القردان، أهون من معاشرته والاتصال بحبله) (¬7). - وقال ابن عقيل: (افتقدت الأخلاق فإذا أشدها وبالا على صاحبها الحسد؛ فإنه التأذي بما يتجدد من نعمة الله، فكلما تلذذ المحسود بنعم الله تعالى تأذى الحاسد وتنغص، فهو ضد لفعل الله تعالى، ساخط بما قسمه، متمن زوال ما منحه خالقه، فمتى يطيب بهذا عيش ونعم تنثال انثيالا؟) (¬8). - وقال الجرجاني: (كم من فضيلة لو لم تستترها المحاسد لم تبرح في الصدور كامنة، ومنقبة لو لم تزعجها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة! لكنها برزت فتناولتها ألسن الحسد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها، وتشهرها وهي تحاول أن تسترها؛ حتى عثر بها من يعرف حقها، واهتدى إليها من هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسن معرض، واكتست من فضله أزين ملبس؛ فعادت بعد الخمول نابهة، وبعد الذبول ناضرة، وتمكنت من بر والدها فنوهت بذكره، وقدرت على قضاء حق صاحبها فرفعت من قدره وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة: 216]) (¬9). - وقال ابن المعتز: (الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، ويبخل بما لا يملكه، ويطلب ما لا يجده) (¬10). - وقال ابن حزم: (إن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم) (¬11). - وقال الخطاب بن نمير السعدي: (الحاسد مجنون؛ لأنه يحسد الحسن والقبيح) (¬12). ¬

(¬1) رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (3/ 50)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 200). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 189). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 170). (¬4) ((روضة العقلاء)) (ص133). (¬5) ((روضة العقلاء)) (ص134). (¬6) ((المستطرف في كل فن مستظرف)) للأبشيهي (ص221). (¬7) ((الرسائل)) (3/ 17 - 21) بتصرف. (¬8) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 103). (¬9) ((الوساطة بين المتنبي وخصومه)) (ص1 - 2). (¬10) ((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص603). (¬11) ((الأخلاق والسير)) (ص42). (¬12) ((الرسائل للجاحظ)) (1/ 345).

أقسام الحسد

أقسام الحسد قسم العلماء الحسد إلى عدد من الأنواع، ومنهم ابن القيم الذي قسمه إلى ثلاثة أنواع: 1 - حسد يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما؛ لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك، ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله. 2 - تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله؛ من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه. 3 - حسد الغبطة؛ وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود، من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة (¬1). وقسمها الغزالي إلى أربعة أنواع: 1 - أن يحب زوال النعمة عنه، وإن كان ذلك لا ينتقل إليه، وهذا غاية الخبث. 2 - أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة، أو امرأة جميلة، أو ولاية نافذة، أو سعة نالها غيره، وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه. 3 - أن لا يشتهي عينها لنفسه، بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما. 4 - أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه، وهذا هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين (¬2). ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) لابن قيم الجوزية (2/ 237) بتصرف. (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 192) بتصرف.

مساوئ الحسد

مساوئ الحسد الحسد مذموم مرذول، أجمل الماوردي مذمته في قوله: (ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب، لكانت النزاهة عنه كرما، والسلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنفس مضر، وعلى الهم مصر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو، ولا إضرار بمحسود) (¬1) ثم ذكر للحسد أربع مساوئ فقال: 1 - حسرات الحسد وسقام الجسد، ثم لا يجد لحسرته انتهاء، ولا يؤمل لسقامه شفاء، قال ابن المعتز: الحسد داء الجسد. 2 - انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة؛ لانحراف الناس عنه، ونفورهم منه، وقد قيل في منثور الحكم: الحسود لا يسود. 3 - مقت الناس له، حتى لا يجد فيهم محبا، وعداوتهم له، حتى لا يرى فيهم وليا، فيصير بالعداوة مأثورا، وبالمقت مزجورا. 4 - إسخاط الله تعالى في معارضته، واجتناء الأوزار في مخالفته، إذ ليس يرى قضاء الله عدلا، ولا لنعمه من الناس أهلا (¬2). وقال الجاحظ: (الحسد أبقاك الله داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء) (¬3) ثم قال: (ولو لم يدخل رحمك الله على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه، ووسواس ضميره، وتنغيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه، إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاد الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدا سواه، لكان عند ذوي العقول مرحوما، وكان عندهم في القياس مظلوما) (¬4). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (1/ 269 - 270). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 273 - 274) بتصرف. (¬3) ((الرسائل)) (3/ 3 - 4). (¬4) ((الرسائل)) (3/ 5).

أسباب الوقوع في الحسد

أسباب الوقوع في الحسد للحسد أسباب كثيرة تجعل النفس المريضة تقع في حبائل تلك الخصلة الذميمة، وقد أحسن الجرجاني إجمالها فقال: (التفاضل -أطال الله بقاءك- داعية التنافس؛ والتنافس سبب التحاسد؛ وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصير من قبله، وقعد به عن الكمال اختياره، فهو يساهم الفضلاء بطبعه، ويحنو على الفضل بقدر سهمه؛ وآخر رأى النقص ممتزجا بخلقته، ومؤثلاً في تركيب فطرته، فاستشعر اليأس من زواله، وقصرت به الهمة عن انتقاله؛ فلجأ إلى حسد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛ يرى أن أبلغ الأمور في جبر نقيصته وستر ما كشفه العجز عن عورته، -اجتذابهم إلى مشاركته، ووسمهم بمثل سمته) (¬1). وفصل الغزالي أسباب التحاسد في سبعة أمور هي: 1 – (العداوة والبغضاء: وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه، أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى، فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. 2 - التعزز: وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره، فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علما أو مالا خاف أن يتكبر عليه، وهو لا يطيق تكبره، ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر، بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلا، ولكن لا يرضى بالترفع عليه. 3 - الكبر: وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه، ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف ألا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، أو ربما يتشوف إلى مساواته، أو إلى أن يرتفع عليه، فيعود متكبرا بعد أن كان متكبرا عليه. 4 - التعجب: فيجزع الحاسد من أن يتفضل عليه من هو مثله في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة، أو سبب آخر من سائر الأسباب. 5 - الخوف من فوت المقاصد: وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عونا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال. 6 - حب الرياسة وطلب الجاه: وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك، وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده. 7 - خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى: فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال، إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبدا يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. وهذا السبب معالجته شديدة؛ لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة، يتصور زوالها فيطمع في إزالتها، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض، فتعسر إزالته) (¬2). ¬

(¬1) ((الوساطة بين المتنبي وخصومه)) للجرجاني (ص1). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 192 - 194) بتصرف.

الوسائل المعينة على ترك الحسد

الوسائل المعينة على ترك الحسد ذكر العلماء وسائل للحاسد الذي يريد النجاة من مغبة هذا الخلق الذميم، ويود الخلاص من آفته التي أقضت مضجعه، ومن تلك الوسائل: 1 – أن يتبع أمر الله جل وعلا، فيترك ما نهاه الله عنه من الحسد، ويقهر نفسه عن هذا الظلم، وتغيير أخلاق النفس وإن كان صعبا إلا أنه يسير على من يسره الله عليه، متذكرا قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40 - 41]. 2 - الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم لحكمه، فهو الذي يعطي النعم ويسلبها، قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32]. 3 - التفكر في نتائج الحسد، والنظر في عواقبه الوخيمة عليه وعلى من حوله؛ فهو يتألم بحسده ويتنغص في نفسه، فيبقى مغموما، محروما، متشعب القلب، ضيق الصدر، قد نزل به ما يشتهيه الأعداء له ويشتهيه لأعدائه، قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]. 4 – أن يحذر نفور الناس منه، وبعدهم عنه، وبغضهم له؛ لأن الحسد يظهر في أعمال الجوارح، قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118] فيخاف عداوتهم له وملامتهم إياه، فيتألفهم بمعالجة نفسه وسلامة صدره. 5 – أن يعمل بنقيض ما يأمره به الحسد؛ فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه. 6 – أن يصرف شهوة قلبه في مرضاة الله تعالى: فقد جعل الله في الطاعة والحلال ما يملأ القلب بالخير، وما من صفة من الصفات إلا وجعل لها مصرفا ومحلا ينفذها فيه، فجعل لصفة الحسد مصرفا وهو المنافسة في فعل الخير والغبطة عليه والمسابقة إليه، وجعل لصفة الكبر التي تؤدي للحسد مصرفا هو التكبر على أعداء الله تعالى وإهانتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه يختال بين الصفين في الحرب: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)) (¬1)، وجعل لقوة الحرص مصرفا وهو الحرص على ما ينفع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك)) (¬2) (¬3). ¬

(¬1) ((السيرة والمغازي)) لابن إسحاق (326). (¬2) رواه مسلم (2664). (¬3) انظر ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 269 - 270)، و ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 196 - 199)، و ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن قيم الجوزية (ص415).

الوسائل المعينة على دفع شر الحاسد عن المحسود

الوسائل المعينة على دفع شر الحاسد عن المحسود ذكر ابن القيم عشرة أسباب تدفع شر الحاسد عن المحسود: 1 - التعوذ بالله تعالى من شره، واللجوء والتحصن به، والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]. 2 - تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه؛ فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)) (¬1). فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف. 3 - الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه، وقد قال تعالى: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج: 60] فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولا، فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه؟ 4 - التوكل على الله: مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله حسبه أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. 5 - فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، ولا يجعل قلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الانتقام منه، فهذا التفكير مما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته، وهذا العلاج من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. 6 - الإقبال على الله والإخلاص له، وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه، وتملقه، وترضيه، واستعطافه، وذكره. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 307) (2803)، والطبراني (11/ 123) (11243)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (147)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (10/ 23) (13). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال البيهقي في ((الاعتقاد)): [له] شواهد عن ابن عباس، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/ 333)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 459): حسن جيد، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327)، وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188): حسن وله شاهد، وحسنه محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (1/ 200)، وقال السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (111): بمجموع أسانيده يصل إلى درجة الحسن، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/ 287).

7 - تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وقال لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165] فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره. 8 - الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة. 9 - إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا، ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة، وهذا من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 – 36]. واعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها، ويغفرها لك، ويهبها لك. ومع هذا ينعم الله عليك، ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؛ ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل. 10 - تجريد التوحيد والانتقال بالفكر إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن الحسد لا يضر ولا ينفع إلا بإذنه، فهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه، قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [الأنعام: 17]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك)) (¬1). (¬2). وقال الجاحظ: (فإذا أحسست -رحمك الله- من صديقك بالحسد، فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شره وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه، فإن ذلك من حبائل نفاقه) (¬3). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669). قال: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7957). (¬2) ((بدائع الفوائد)) لابن قيم الجوزية (ص238 - 245) بتصرف. (¬3) ((الرسائل)) للجاحظ (3/ 16).

نماذج من الحساد

نماذج من الحساد حسد إبليس: خلق الله جل وعلا آدم عليه السلام وشرفه وكرمه، وأمر الملائكة بالسجود له، ولكن إبليس تكبر وبغى وحسده على هذه المنزلة؛ قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 11 - 12] قال قتادة: (حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام ما أعطاه من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني) (¬1)، وقال ابن عطية: (أول ما عصي الله بالحسد، وظهر ذلك من إبليس) (¬2). ومن شدة حسد إبليس أنه لما تبين مقت الله له وغضبه عليه، أراد أن يغوي بني آدم ليشاركوه المقت والغضب، وقد ذكر الله حال إبليس هذا، قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16 - 17] قال ابن القيم: (الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدا، فالحاسد من جند إبليس) (¬3). حسد قابيل لأخيه هابيل: قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 27 - 30] قال سراج الدين ابن عادل: (وأيضا فإن آدم - عليه السلام - لما بعث إلى أولاده، كانوا مسلمين مطيعين، ولم يحدث بينهم اختلاف في الدين، إلى أن قتل قابيل هابيل؛ بسبب الحسد والبغي) (¬4). حسد إخوة يوسف: قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف: 7 - 9] قال الماوردي: (كان يعقوب قد كلف بهما لموت أمهما وزاد في المراعاة لهما، فذلك سبب حسدهم لهما، وكان شديد الحب ليوسف، فكان الحسد له أكثر، ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد (¬5). حسد اليهود والنصارى: ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 231). (¬2) ((المحرر الوجيز)) (3/ 469). (¬3) ((بدائع الفوائد)) (2/ 234). (¬4) ((اللباب في علوم الكتاب)) (3/ 501). (¬5) ((النكت والعيون)) (3/ 9).

بين الله تعالى أن أهل الكتاب الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدوه على ما آتاه الله من فضله، حتى إنهم زعموا أن كفار مكة أهدى من المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء 51 - 54] ومع كفرهم فإنهم يودون لو يرتد المسلمون عن دينهم حسدا وحقدا، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109] قال ابن كثير: (يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم) (¬1). حسد كفار قريش: أكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولكن كفار قريش حسدوه على هذا الفضل، وظنوا أن النبوة مبنية على مقاييسهم الدنيوية المختلة، وقد ذكر الله تعالى ذلك عنهم ووبخهم على سوء فهمهم، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 31 - 32] قال النسفي: (وربك يعلم ما تكن تضمر صدورهم من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسده، وما يعلنون من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوة، وهو الله وهو المستأثر بالإلهية المختص بها لا إله إلا هو) (¬2). حسد المنافقين: المنافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والعداوة، وتكاد قلوبهم تشقق حسدا وغيظا وحقدا، قال تعالى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120] قال ابن كثير: (وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أحد، فرح المنافقون بذلك) (¬3)، وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد: 29] قال ابن كثير: (أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين، بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم، ولهذا كانت تسمى الفاضحة، والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره) (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 382). (¬2) ((تفسير النسفي)) (2/ 654 - 255). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 108 - 109). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 321).

مسائل متفرقة في الحسد

مسائل متفرقة في الحسد - علامات الحاسد: قال الجاحظ: (وما لقيت حاسدا قط إلا تبين لك مكنونه بتغير لونه، وتخوص عينه، وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك، والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك) (¬1). - من أخبار التحاسد: كان الخليفة الناصر الأندلسي قد وشح ابنه الحكم، وجعله ولي عهده، وآثره على جميع ولده، ودفع إليه كثيرا من التصرف في دولته، فحسده أخوه عبد الله، فأضمر في نفسه الخروج على أبيه، وتحدث مع من داخله شيء من أمر الحكم من رجالات أبيه، فأجابه بعضهم، ثم إن الخبر بلغ الخليفة الناصر، فاستكشف أمرهم، وقبض على ابنه عبد الله وعلى جميع من معه، وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة (¬2). كان جنكيز خان سن لقومه الياسق يتحاكمون إليه، وقرر فيه قتل من رعف وسال منه الدم وهو يأكل، وقرر لهم أن من لم يمض حكم الياسق قتل، وأراد أن يقتل بعض من حوله من كبار قومه للتحاسد الذي يظهر منهم، فتركهم يوما وهم على سماطه ورَعَّف نفسه، فلم يجسر أحد أن يمضي فيه حكم الياسق لمهابته وجبروته، فتركوه ولم يطالبوه بما قرره وهابوه في ذلك، فتركهم أياما، ثم جمع مقدميهم وأمراءهم، وقال: لأي شيء ما أمضيتم فيَّ حكم الياسق، وقد رعفت وأنا آكل بينكم؟ قالوا: لم نجسر على ذلك، فقال: لم تعملوا بالياسق ولا أمضيتم أمره، وقد وجب قتلكم، فقتلهم أجمعين (¬3). - من نوادر التحاسد: قال الشعبي: (وجهني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما انصرفت دفع إلي كتابا مختوما، فلما قرأه عبد الملك رأيته تغير، وقال: يا شعبي، أعلمت ما كتب هذا الكلب؟ قلت: لا، قال: إنه كتب: لم يكن للعرب أن تملك إلا من أرسلت به إليَّ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه لم يرك، ولو رآك لكان يعرف فضلك، وإنه حسدك على استخدامك مثلي! فسري عنه) (¬4). وقال الأصمعي: (كان رجل من أهل البصرة بذيئا شريرا، يؤذي جيرانه ويشتم أعراضهم، فأتاه رجل فوعظه، فقال له: ما بال جيرانك يشكونك؟ قال: إنهم يحسدونني؛ قال له: على أي شيء يحسدونك؟ قال: على الصلب، قال: وكيف ذاك؟ قال: أقبل معي. فأقبل معه إلى جيرانه، فقعد متحازنا، فقالوا له: ما لك؟ قال: طرق الليلة كتاب معاوية: أني أصلب أنا ومالك بن المنذر وفلان وفلان - فذكر رجالا من أشراف أهل البصرة - فوثبوا عليه، وقالوا: يا عدو الله، أنت تصلب مع هؤلاء ولا كرامة لك! فالتفت إلى الرجل فقال: أما تراهم قد حسدوني على الصلب، فكيف لو كان خيرا!) (¬5). - تحاسد بعض طلبة العلم والأقران: قد يجر التنافس بين بعض طلبة العلم إلى الخوض في بعض التحاسد، قال الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم) (¬6). ¬

(¬1) ((الرسائل)) للجاحظ (3/ 8 - 9). (¬2) ((ديوان المبتدأ والخبر)) لابن خلدون (4/ 184). (¬3) ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (11/ 153). (¬4) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء)) للراغب (1/ 318). (¬5) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 175 - 176). (¬6) ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 111).

وذكر الغزالي حال بعض أولئك الحسدة؛ فقال: (واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك لحسدهم ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم، حتى يجابهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة، يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنميمة والبلاغات والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب. هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم، إلا من عصمه الله تعالى؛ فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان. هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة) (¬1). وقد نهى العلماء عن الخوض في أهل العلم بلا برهان واضح وبينة ساطعة، قال ابن عبد البر: (لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر، ولزم المروءة والتصاون، وكان خيره غالبا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله، قال أبو العتاهية: بكى شجوه الإسلام من علمائه ... فما اكترثوا لما رأوا من بكائه فأكثرهم مستقبح لصواب من ... يخالفه مستحسن لخطائه فأيهم المرجو فينا لدينه ... وأيهم الموثوق فينا برأيه) (¬2) - وصف البلغاء والحكماء للحسد: قد أكثر الكتاب والبلغاء والحكماء من وصف الحسد والتحذير منه، وما ذاك إلا لشديد قبحه ودناءته؛ ومن ذلك: قال بعض الحكماء: (ما أمحق للإيمان، ولا أهتك للستر، من الحسد، وذلك أن الحاسد معاند لحكم الله، باغ على عباده، عات على ربه، يعتد نعم الله نقما، ومزيده غيرا، وعدل قضائه حيفا، للناس حال وله حال، ليس يهدأ ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه، محتقر لنعم الله عليه، متسخط ما جرت به أقداره، لا يبرد غليله، ولا تؤمن غوائله؛ إن سالمته وَتَرك، وإن واصلته قطعك، وإن صرمته سبقك) (¬3). وسئل بعض الحكماء: أي أعدائك لا تحب أن يعود لك صديقا؟ قال: (الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي) (¬4). وقيل: (من صغر الهمة الحسد للصديق على النعمة) (¬5). وقيل: (ليس من الحسد سرور) (¬6). وقيل: (من علامات الحاسد أن يتملق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة إذا نزلت) (¬7). وقيل: (الحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت) (¬8). وقيل: (الحاسد يعمى عن محاسن الصبح) (¬9). وقيل: (الناس حاسد ومحسود، ولكل نعمة حسود) (¬10). ¬

(¬1) ((بداية الهداية)) (ص68 - 69). (¬2) ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن رجب (2/ 1113). (¬3) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 173). (¬4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 171). (¬5) ((سراج الملوك)) للطرطوشي (ص58). (¬6) ((سراج الملوك)) للطرطوشي (ص198). (¬7) ((روح البيان)) لإسماعيل حقي (2/ 51). (¬8) ((الرسالة القشيرية)) للقشيري (1/ 289). (¬9) ((سحر البلاغة)) للثعالبي (ص82). (¬10) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص269).

الحسد في واحة الشعر ..

الحسد في واحة الشعر .. أكثر الشعراء من ذكر الحسد والحساد، وأطنبوا في وصف ذلك الخلق الذميم والتندر بأصحابه، ومن ذلك: قال ابن المعتز: ما عابني إلا الحسو ... د وتلك من خير المعايب وإذا فقدت الحاسدي ... ن فقدت في الدنيا المطايب (¬1) وقال محمود الوراق: أعطيت كل الناس من نفسي الرضا ... إلا الحسود فإنه أعياني لا أن لي ذنبا لديه علمته ... إلا تظاهر نعمة الرحمن يطوي على حنق حشاه لأن رأى ... عندي كمال غنى وفضل بيان ما إن أرى يرضيه إلا ذلتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني (¬2) وقال الطغرائي: جامل عدوك ما استطعت فإنه ... بالرفق يطمع في صلاح الفاسد واحذر حسودك ما استطعت فإنه ... إن نمت عنه فليس عنك براقد إن الحسود وإن أراك توددا ... منه أضر من العدو الحاقد ولربما رضي العدو إذا رأى ... منك الجميل فصار غير معاند ورضا الحسود زوال نعمتك التي ... أوتيتها من طارف أو تالد فاصبر على غيظ الحسود فناره ... ترمي حشاه بالعذاب الخالد تضفو على المحسودِ نعمةُ ربه ... ويذوبُ من كمدٍ فؤادُ الحاسدِ (¬3) وقال المعافى بن زكريا النهرواني: ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب فأخزاك عنه بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب (¬4) وقال الطائي: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسود (¬5) وقال أبو الأسود: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لدميم والوجه يشرق في الظلام كأنه ... بدر منير والنساء نجوم وترى اللبيب محسدا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم وكذاك من عظمت عليه نعمة ... حساده سيف عليه صروم فاترك محاورة السفيه فإنها ... ندم وغب بعد ذاك وخيم (¬6) وقال آخر: إن يحسدوني فإنّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أرد (¬7) وقال أبو الحسن التهامي: إني لأرحم حاسدي من حر ما ... ضمت صدورهم من الأوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار (¬8) وقال آخر: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد (¬9) وقال آخر: ما يحسد المرء إلا من فضائله ... بالعلم والظرف أو بالبأس والجود (¬10) وقال آخر: اصبر على حسد الحسو ... د فإن صبرك قاتله النار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله (¬11) وأخيراً .. أيها القارئ العزيز هل فتشت في نفسك لتتجنب الحسد؟ وهل عرفت مساوئ الحسد وأضراره؟ وهل تبين لك من خلال ما قرأته من نماذج الحسدة، كيف أن الحسد ملازم لأصحاب الخصال الذميمة، وأنه مضر بالفرد والأمة. ومن خلال قراءتك للموضوع هل استفدت طريقة لتتجنب شر الحاسدين؟ ¬

(¬1) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (2/ 210). (¬2) ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (4/ 574). (¬3) ((صيد الأفكار)) لحسين المهدي (ص481 - 482). (¬4) ((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص603). (¬5) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 11). (¬6) ((خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب)) لعبد القادر البغدادي (8/ 567). (¬7) ((الأمالي)) للقالي (2/ 198). (¬8) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (12/ 25). (¬9) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 189). (¬10) ((زهر الآداب وثمر الألباب)) للقيرواني (1/ 247). (¬11) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 174).

الحقد

معنى الحقد لغة واصطلاحاً: معنى الحقد لغة: الحِقْدُ: الضِغْن، والجمع أَحْقادٌ. وتقول: حَقَدَ عليه يَحْقِد حِقْداً، وحَقِد عليه بالكسر حَقَداً لغة. وأَحْقَدَهُ غيره. ورجل حَقود (¬1). وقال ابن منظور: (الحقد إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها. والحقد: الضغن، والجمع أحقاد وحقود) (¬2). معنى الحقد اصطلاحاً: هو إضمار الشر للجاني إذا لم يتمكن من الانتقام منه فأخفى ذلك الاعتقاد إلى وقت إمكان الفرصة (¬3). وقال الجرجاني الحقد هو (سوء الظن في القلب على الخلائق لأجل العداوة) (¬4). ¬

(¬1) ((الصحاح)) للجوهري (2/ 466). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 154). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 33). (¬4) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 91).

الألفاظ المترادفة للحقد

الألفاظ المترادفة للحقد هناك ألفاظ عديدة وردت بمعنى الحقد بمعناه الاصطلاحي، فيقال مثلاً: (في صدره علي حقد، وضغن، وضغينة، وإحنة، ودمنة، وغل، وغمر، ووغر، ووغم، وحزازة، وطائلة، وغائلة، وحسيفة، وحسيكة، وسخيمة) (¬1). ¬

(¬1) ((نجعة الرائد)) لليازجي (1/ 272).

الفرق بين الموجدة والحقد

الفرق بين الموجدة والحقد ذكر ابن القيم فروقا بين الموجدة والحقد فقال: (أن الوجد: الإحساس بالمؤلم والعلم به وتحرك النفس في رفعه فهو كمال. وأما الحقد فهو إضمار الشر وتوقعه كل وقت فيمن وجدت عليه فلا يزايل القلب أثره. وفرق آخر: وهو أن الموجدة لما ينالك منه والحقد لما يناله منك فالموجدة وجد ما نالك من أذاه. والحقد توقع وجود ما يناله من المقابلة، فالموجدة سريعة الزوال والحقد بطيء الزوال والحقد يجيء مع ضيق القلب واستيلاء ظلمة النفس ودخانها عليه بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته وصلابته وقوة نوره وإحساسه) (¬1). ¬

(¬1) ((الروح)) لابن القيم (ص 251).

ذم الحقد في القرآن والسنة

ذم الحقد في القرآن والسنة ذم الحقد في القرآن الكريم: من الناس من يحمل نفساً مظلمة، وقلبا أسود، لا يعرف للعفو طريقا، ولا للصفح سبيلا، فبمجرد أدنى إساءة تقع في حقه من أحد إخوانه تجده يحقد عليه ولا يكاد ينسى إساءته مهما تقادم العهد عليها، فتجده يتربص بصاحبه الدوائر، وينتظر منه غرة، لينفذ إليه منها، ويصيبه من خلالها، فيشفي غيظه ويروي غليله (¬1). - قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 204 - 205]. - وقال سبحانه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ [الأعراف: 43]. - وقال عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 47 - 48]. قال الطبري: (وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلوها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة) (¬2). وقال القرطبي: (ذكر الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة نزع الغل من صدورهم. والنزع: الاستخراج والغل: الحقد الكامن في الصدر. والجمع غلال) (¬3). وقال السعدي: (وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن الله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين ... ويخلق الله لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه) (¬4). (ولما كانت الجنة دار سعادة ونعيم عام وشامل كان لا بد لأصحابها من أن يكونوا مبرئين من كل حقد وغل، ومن كل علة خلقية تسبب لهم آلاما وأكداراً، وقد وصف الله أهل دار النعيم يوم القيامة بأنهم مبرؤون من كل غل، وما كان من غل في صدورهم في الدنيا فإن الله ينزعه منها متى دخلوا الجنة) (¬5). ذم الحقد في السنة النبوية: إن الحقد حمل ثقيل يتعب حامله، يحمله الجاهل في صدره فيشقي به نفسه ويفسد به فكره، ويشغل به باله، ويقض به مضجعه، ويكثر به همه وغمه، إنه كحمل من أحمال الشوك الملتهب الحار، المحشو بصخور ثقيلة محمية تنفث السموم التي تلتهب منها الصدور، ويظل الجاهل الأحمق يحمل هذا الحمل الخبيث مهما حل أو ارتحل، حتى يشفي حقده بالانتقام ممن يحقد عليه (¬6). - فعن جابر رضي الله عنه قال: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا)). قال المنذري: الضغائن: هي الأحقاد (¬7). ¬

(¬1) ((الهمة العالية)) لمحمد الحمد (ص 55). (¬2) ((جامع البيان)) للطبري (12/ 438). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (7/ 208). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 289). (¬5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 726). (¬6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 723). (¬7) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (7/ 251). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 307): رواته ثقات. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 66): رجاله الثقات.

- وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((قال رسول الله؟: ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن، فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)) (¬1). - وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: ((كنا جلوسا مع رسول الله؟ فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي؟ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي؟ مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي؟ تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لا حيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله؟ يقول لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك. وفي رواية البزار- سمى الرجل المبهم سعدا- وقال في آخره: فقال سعد: ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي إلا أني لم أبت ضاغنا على مسلم. أو كلمة نحوها)) (¬2). - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) (¬3). - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: ((قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قيل صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (12/ 243)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (4/ 99). وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1653). (¬2) رواه أحمد (3/ 166) (12720)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9/ 318) (10633)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 7) (6181). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 348): إسناده على شرط البخاري ومسلم. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1085): إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 79): رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه أبو داود (4860)،والترمذي (3896)، وأحمد (1/ 395) (3759). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6322). (¬4) رواه ابن ماجه (4216)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 451). وصحح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4386)، والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (948).

أقوال في ذم الحقد

أقوال في ذم الحقد - قال: عثمان رضي الله عنه: (ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله- عز وجل- على صفحات وجهه وفلتات لسانه) (¬1). - وقال زيد بن أسلم رضي الله عنه: (دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليما) (¬2). - وقال ابن حجر الهيتمي: (الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة) - وقال أبو حاتم: (الحقد أصل الشر ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتا مرا مذاقه نماؤه الغيظ وثمرته الندم) (¬3). - و (كان يقال: الحقد داء دوي. ويقال: من كثر حقده، دوي قلبه. ويقال: الحقد مفتاح كل شر. ويقال: حل عقد الحقد، ينتظم لك عقد الود. ويقال: الحقود والحسود لا يسودان) (¬4). ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 136). (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 557)، وابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص95). (¬3) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 134). (¬4) ((اللطائف والظرائف)) للثعالبي (ص 140).

حكم الحقد

حكم الحقد ذكر العلماء أن الحقد من الكبائر وأورد ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر) أن من الكبائر الغضب بالباطل والحقد والحسد وذكر سبب جمعه لهذه الكبائر الثلاث بقوله: (لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتب، إذ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة، وذم كل يستلزم ذم الآخر، لأن ذم الفرع وفرعه يستلزم ذم الأصل وأصله وبالعكس) (¬1). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر (1/ 83).

ما يباح من الحقد

ما يباح من الحقد الأصل في الحقد أنه حرام ولا يجوز أن يحقد المسلم على أخيه المسلم، ولكنه يجب عليه أن يحقد على اليهودي الذي يقتل أبناء المسلمين في فلسطين، والنصراني الحاقد، والشيوعي الملحد، والهندوسي الذين يحرق مساجد المسلمين ويقتلهم، قال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة: 13 - 14]. ولا يزول حقد المسلم على الكافر إلا أن يسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)) (¬1). (قال الأشرف: بهما تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد يومئذ ; لأن جميع الخلق يكونون يومئذ على ملة واحدة، وهي الإسلام، وأعلى أسباب التباغض وأكثرها هو اختلاف الأديان) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (155). (¬2) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3494).

آثار ومضار الحقد

آثار ومضار الحقد 1 - (الحقد يثمر الحسد وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به. 2 - الشماتة بما أصابه من البلاء. 3 - الهجران والمقاطعة. 4 - الإعراض عنه استصغارا له. 5 - التكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره. 6 - محاكاته استهزاء به وسخرية منه. 7 - إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه. 8 - منعه من حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة) (¬1). 9 - الحقد من مظاهر دنو الهمة فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء (¬2). 10 - الحقد ينبت سوء الظن، وتتبع العورات، والهمز واللمز، والغيبة والنميمة. 11 - ومن مضار الحقد أيضاً أنه يقتضي التشفي والانتقام. 12 - جحد الحق وعدم اتباعه. ¬

(¬1) انظر ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 181). (¬2) ((الهمة العالية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 55).

وسائل علاج الحقد

وسائل علاج الحقد 1 - الدعاء: المسلم يدعو الله أن يجعل قلبه طاهرا نقياً من الحقد والغل قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: ((رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدي لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، إليك مخبتاً أو منيباً، تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي)) (¬1). والسخيمة هي الحقد. 2 - سلامة الصدر: وسلامة الصدر تكون بعدم الحقد والغل والبغضاء، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأُمم قبلكم: إلى ... والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفسُ محمدٍ بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم)) (¬2). وعن ابن عباس مرفوعاً قال: ((ثلاثٌ من لم يكن فيه فإن الله يغفر له ما سوى ذلك: من مات لا يُشرك بالله شيئاً، وَلم يكن ساحراً يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)) (¬3). 3 - رابط الأخوة الإيمانية: إن الأخوة الإيمانية والغل لا يجتمعان في قلب واحد، إن عاطفة المؤمن نحو إخوانه المؤمنين تتدفق بالمحبة، فكيف يجد الغل إلى هذه العاطفة الكريمة سبيلا؟! إنهما أمران لا يجتمعان (¬4). قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 7 - 9]. 4 - التواضع: لا شك أن تواضع المسلم لأخيه المسلم يدفع بالأغلال والأحقاد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (¬5). وقال أبو حاتم: (التواضع يكسب السلامة ويورث الألفة ويرفع الحقد ويذهب الصد) (¬6). 5 - ملء القلب بالمحبة وإرادة الخير للآخرين. 6 - اعتذار المرء لأخيه: ¬

(¬1) رواه أبو داود (1510)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال: حسن صحيح. وصححه البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 176)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3485). (¬2) رواه الترمذي (2510)، وأحمد (1/ 164) (1412)، والبزار (6/ 192) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. وجود إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4382)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4170). (¬3) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (413)، والطبراني في ((الكبير)) (12/ 243)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 14) (6190). قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 107): فيه ليث بن أبي سليم. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (2831). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 725). (¬5) رواه مسلم (2865). (¬6) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 61).

قال أبو حاتم: (الاعتذار يذهب الهموم ويجلي الأحزان ويدفع الحقد ويذهب الصد ... فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة) (¬1). 7 - تقديم الهدية: قال صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابوا)) (¬2). وقال أيضاً ((تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر)) (¬3). (وذلك لأن الهدية خلق من أخلاق الإسلام دلت عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحث عليه خلفاؤهم الأولياء تؤلف القلوب وتنفي سخائم الصدور) (¬4). 8 - ترك الغضب الذي هو سبب للأحقاد: الغضب يعتبر من الأسباب التي تؤدي إلى الحقد، فإذا اختلف شخص مع آخر في أمر ما غضب عليه، ثم الغضب يتحول إلى الحقد وإرادة الانتقام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي أمره أن يوصيه: ((لا تغضب فردد مرارا، قال: لا تغضب)) (¬5). ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 186). (¬2) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1322)، وأبو يعلى (11/ 9) (6148)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/ 280) (11946) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وجوّد سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص478)، وحسن سنده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 163) (1315). (¬3) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1322)، وأبو يعلى (11/ 9) (6148)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/ 280) (11946) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وجوّد سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص478)، وحسن سنده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 163) (1315). (¬4) ((شرح الزرقاني على الموطأ)) لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (4/ 418). (¬5) رواه البخاري (6116).

أسباب الحقد

أسباب الحقد 1 - المماراة والمنافسة: قال الغزالي: (وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة فإنها عين التدابر والتقاطع فإن التقاطع يقع أولا بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان) (¬1). 2 - المزاح: المزاح الذي يخرج عن حده يغرس الحقد في القلوب، قال الأبشيهي: (المزاح يخرق الهيبة ويذهب بماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الإيمان والود) (¬2). 3 - الخصومة: قال النووي: (والخصومةُ تُوغرُ الصدورَ، وتهيجُ الغضبَ، وإذا هاجَ الغضبُ حصلَ الحقدُ بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءةِ الآخر، ويحزنُ بمسرّته، ويُطلق اللسانَ في عرضه) (¬3). 4 - الكراهية الشديدة إلى حد البغض العنيف. 5 - الرغبة بالانتقام وبإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد (¬4). 6 - إذا فاته الشخص ما يتمناه لنفسه وحصل عليه غيره: قال محمد الغزالي: (المسلم يجب أن يكون أوسع فكرة، وأكرم عاطفة، فينظر إلى الأمور من خلال الصالح العام، لا من خلال شهواته الخاصة. وجمهور الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكف أخرى، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قراراً!! وقديماً رأى إبليس أن الحظوة التي يتشهاها قد ذهبت إلى آدم، فآل ألا يترك أحداً يستمتع بها بعد ما حرمها. قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 15 - 16]. هذا الغليان الشيطاني هو الذي يضطرم في نفوس الحاقدين ويفسد قلوبهم. وقد أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عن هذا المنكر، وأن يسلكوا في الحياة نهجاً أرقى وأهدأ) (¬5). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 179). (¬2) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص 133). (¬3) ((الأذكار)) للنووي (ص 371). (¬4) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 723). (¬5) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص 80).

سلامة القلب من الأحقاد

سلامة القلب من الأحقاد القلب السليم سبب من أسباب النجاة يوم القيامة قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87 - 89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والنفاق، ومن الغل والحقد والحسد. ووصف أهل الجنة بسلامة القلب فقال: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] و (ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق لأحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر)) (¬1). وإذا رأى أذى يلحق أحدا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه ... وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضيا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم! ... والإسلام يحارب الأحقاد ويقتل جرثومتها في المهد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع من الصداقات المتبادلة أو المعاملات العادلة، وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار وخسة الطبيعة، أن يرسب الغل في أعماق النفس فلا يخرج منه، بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم، يتلمسون متنفساً له في وجوه من يقع معهم، فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا.) (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو داود (5073)، النسائي في ((السنن الكبرى)) (9/ 8) (9750)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 211) (4059). وجوّد إسناده النووي في ((الأذكار)) (ص79)، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 245)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5730). (¬2) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص 74 - 77) بتصرف يسير.

نماذج في سلامة القلب من الحقد

نماذج في سلامة القلب من الحقد النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في الأخلاق الحسنة ومنها سلامة الصدر من الحقد والضغائن، وقد ذكر ابن القيم سلامة الصَّدر، من منازل إياك نعبد وإياك نستعين فقال: (ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظرْ إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها بعينها) (¬1). وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) (¬2). وهكذا كان أصحاب رسول لله قلوبهم سليمة من الأحقاد والضغائن ومن تلك النماذج ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: ((كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين، فما أوذي بعدها)) (¬3). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لعمران بن طلحة بن عبيد الله بعد وقعة الجمل - وقد استشهد أبوه طلحة رضي الله عنه- قال له: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]) (¬4). وعن عائذ بن عمرو، ((أن أبا سفيان، أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي)) (¬5). وقد تأسى العلماء الربانيون بالنبي صلى الله عليه وسلم فتخلقوا بأخلاقه فأصبحت قلوبهم سليمة لا تحمل حقداً على أحد حتى على من آذاهم ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول ابن القيم: (وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه) (¬6). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 345). (¬2) رواه أبو داود (4860)، والترمذي (3896)، وأحمد (1/ 395) (3759). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6322). (¬3) رواه البخاري (3661). (¬4) رواه الحاكم (3/ 424)، وأحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 747) (1298)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 300) (16715). وضعف إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/ 194) (6658). (¬5) رواه مسلم (2504). (¬6) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 345).

أحوال المحقود

أحوال المحقود قال الغزالي: (للمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة: أحدها: أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل. الثاني: أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل. الثالث: أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور وهو اختيار الأراذل، والثاني هو اختيار الصديقين، والأول هو منتهى درجات الصالحين) (¬1). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 181).

حكم وأمثال في الحقد

حكم وأمثال في الحقد 1 - أحقد من جمل العرب تصف الْبَعِير بالحقد وغلظة الكبد (¬1). 2 - ظاهر العتاب خير من باطن الحقد (¬2). 3 - ويقال: ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش. الحقد والحسد وسوء الخلق (¬3). ¬

(¬1) ((المستقصى من أمثال العرب)) للجاحظ (1/ 69). (¬2) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص 37). (¬3) ((المستطرف)) للأبشيهي ص 221).

الشعر في ذم الحقد ..

الشعر في ذم الحقد .. الحقد داء دفين ليس يحمله ... إلا جهول مليء النفس بالعلل مالي وللحقد يشقيني وأحمله ... إني إذن لغبي فاقد الحيل سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي ... ومركب المجد أحلى لي من الزلل إن نمت نمت قرير العين ناعمها ... وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي وأمتطي لمراقي المجد مركبتي ... لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي مبرَأ القلب من حقد يبطئني ... أما الحقود ففي بؤس وفي خطل وقال محمد بن مقيس الأزدي: فإن الذي بيني وبين عشيرتي ... وبين بني عمي لمختلف جدا إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم ... قدحت لهم في كل مكرمة زندا وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا (¬1) وقال هلال بن العلاء: (جعلت على نفسي ألا أكافئ أحدا بشر ولا عقوق اقتداء بهذه الأبيات: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من غم العداوات إني أحيي عدوي حين رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد حشى قلبي مسرات وأنشد أحمد بن عبيد عن المدائني: ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب) (¬2) وقال عنترة: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب وقال ابن الرومي: (وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينسبن إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرا على حسن القرض إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض) (¬3) ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 171). (¬2) ((آداب العشرة)) لمحمد الغزي (ص 26). (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 208).

الخيانة

معنى الخيانة لغة واصطلاحاً معنى الخيانة لغة: من خانه خَوْناً وخيانة ومَخَانة، واختانه، فهو خائن وخائنة وخؤون وخَوَّان والجمع خانة وخَوَنَةً وخُوَّان (¬1). وقال الراغب: (الخيانة مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ. ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال: خُنْتُ فلانا، وخنت أمانة فلان) (¬2). معنى الخيانة اصطلاحاً: قال الطيبي (هي مخالفة الحق بنقض العهد في السر، والأظهر أنها شاملة لجميع التكاليف الشرعية) (¬3). وقال الجاحظ: هي (الاستبداد بما يؤتمن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم وتملك ما يستودع، ومجاحدة مودعه) (¬4). وقال ابن عاشور: (وحقيقة الخيانة عمل من اؤتمن على شيء بضد ما اؤتمن لأجله بدون علم صاحب الأمانة) (¬5). ¬

(¬1) ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروز أبادي (2/ 582). (¬2) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 305). (¬3) ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 229). (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (31). (¬5) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (24/ 174).

الفرق بين الخيانة وبعض الصفات

الفرق بين الخيانة وبعض الصفات الفرق بين الخيانة والسرقة: قال ابن قتيبة: (لا يكاد الناس يفرقون بين الخائن والسارق. والخائن الذي ائتمن فأخذ، قال النمر بن تولب: وإن بني ربيعة بعد وهب [كراعي البيت يحفظه فخانا!] والسارق من سرقك سرا بأي وجه كان، يقال: كل خائن سارق، وليس كل سارق خائنا. والغاصب: الذي جاهرك ولم يستتر، والقطع في السرقة دون الخيانة والغصب) (¬1). الفرق بين الخيانة والنفاق: (الخيانة والنفاق واحد، إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين) (¬2). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 228). (¬2) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 305).

ذم الخيانة والتحذير منها في القرىن والسنة

ذم الخيانة والتحذير منها في القرىن والسنة ذم الخيانة والتحذير منها في القرآن الكريم: حذر الإسلام من الخيانة لأنها خصلة مذمومة ومقيتة تقطع أواصر المجتمع الإسلامي ولقد وردت الآيات التي تحذر من الخيانة بعدة سياق فمنها قوله تعالى: - إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38]. قال ابن كثير: (وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال. والكفر: الجحد للنعم، فلا يعترف بها) (¬1). - وقال سبحانه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ [الأنفال: 58]. (يقول تعالى ذكره: وإما تخافن يا محمد من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر. فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر، فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب وأنه قد فاسخه العقد). (¬2). - وقال عز من قائل: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء: 105 - 108]. قال السعدي: (قوله: وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا أي: لا تخاصم عن من عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكر حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية) (¬3). - وقال عز وجل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10] ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 433). (¬2) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (11/ 238 - 239). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 199).

قال ابن كثير في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا (أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، أن ذلك لا يجدي عنهم شيئًا ولا ينفعهم عند الله، إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ أي: نبيين رسولين عندهما في صحبتها ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط فَخَانَتَاهُمَا أي: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يُجْد ذلك كلَه شيئًا، ولا دفع عنهما محذورا؛ ولهذا قال: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لكفرهما، وَقِيلَ أي: للمرأتين: ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وليس المراد: فَخَانَتَاهُمَا في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء) (¬1). - وقال سبحانه: قال مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف: 51 - 52]. قال السعدي في قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ (يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي: ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر مني إلا مجرد المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ فإن كل خائن، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره) (¬2). ذم الخيانة والتحذير منها في السنة النبوية: - عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 171). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 400). (¬3) رواه البخاري (34)، ورواه مسلم (58) بلفظ آخر.

قال ابن عثيمين في قوله: ((إذا اؤتمن خان)): (إذا ائتمنه إنسان على شيء خانه فمثلا إذا أعطي وديعة وقيل له خذها احفظها، دراهم أو ساعة أو قلم أو متاع أو غير ذلك يكون فيها يستعملها لنفسه أو يتركها فلا يحفظها في مكانها أو يظفر بها من يتسلط عليه ويأخذها، المهم أنه لا يؤدي الأمانة فيها، كذلك إذا اؤتمن على حديث سري وقيل له: لا تخبر أحدا ذهب يخبر، قال لي فلان قال لي فلان، وبعض الناس والعياذ بالله يبتلى بحب الظهور والشهرة، إذا ائتمنه أحد من ولاة الأمور أو من كبراء القوم ووجهائهم ذهب يتحدث؛ قال لي الأمير كذا؛ قال لي الوزير كذا؛ قال لي الشيخ كذا؛ يتجمل عند الناس بأنه ممن يحادثه الكبراء والشرفاء وهذه من خيانة الأمانة والعياذ بالله، ومن ذلك أيضا الأمانات في الولايات يكون الإنسان وليا على يتيم على ماله وحضانته وتربيته فلا يقوم بالواجب؛ يهمل ماله وربما يستقرضه لنفسه ولا يدري هل يستطيع الوفاء فيما بعد أم لا؟ ولا يقربه بالتي هي أحسن، هذا أيضًا من خيانة الأمانة، ومن ذلك أيضًا أن الإنسان لا يقوم بواجب التربية في أهله وأولاده وقد ائتمنه الله) (¬1). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) (¬2). - وعن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) - قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن)) (¬3). قال النووي: (معنى الجمع في قوله يخونون ولا يؤتمنون أنهم يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها ثقة بخلاف من خان حقيرا مرة فإنه لا يخرج به عن أن يكون مؤتمنا في بعض المواطن) (¬4). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على من أفتاه، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه)) (¬5). - وعن جابر- رضي الله عنه- قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم)) (¬6). قال ابن بطال: (فبين النبي عليه السلام، بهذا اللفظ المعنى الذي من أجله نهى عن أن يطرق أهله ليلا. فإن قيل: وكيف يكون طروقه أهله ليلا سببا لتخونهم؟ قيل: معنى ذلك، والله أعلم، أن طروقه إياهم ليلا هو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم بعضا، فكان ذلك سببا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلا ليجدهم على ريبة حين توخى وقت غرتهم وغفلتهم. ومعنى الحديث النهي عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير) (¬7). ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 164). (¬2) رواه أبو داود (1547)، والنسائي (8/ 263)، وابن ماجه (3354)، وأبو يعلى (11/ 297) (6412)، وابن حبان (3/ 304) (1029). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده النووي في ((تحقيق رياض الصالحين)) (472)، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (2/ 338): في إسناده محمد بن عجلان وخرج له مسلم ثلاثة عشر حديثاً كلها في الشواهد، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 169)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه البخاري (2651). ومسلم (2535) واللفظ للبخاري. (¬4) ((عون المعبود)) (9/ 1875). (¬5) رواه أحمد (2/ 321) (8249)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (259)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (11/ 80) (4296). قال المزي في ((تهذيب الكمال)) (14/ 355): [فيه] عمرو بن أبي نعيمة قال الدارقطني: مصري مجهول يترك وذكره ابن حبان في الثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (16/ 118)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الأدب المفرد)) (41)، وضعف إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((مسند أحمد)). (¬6) رواه مسلم (715). (¬7) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 369).

أقوال السلف والعلماء في الخيانة

أقوال السلف والعلماء في الخيانة - عن أنس بن مالك قال: (إذا كانت في البيت خيانة ذهبت منه البركة) (¬1). - (وكان شريح يقضي في المضارب بقضائين: كان ربّما قال للمضارب: بيّنتك على مصيبة تعذر بها. وربّما قال لصاحب المال: بيّنتك أنّ أمينك خائن وإلّا فيمينه بالله ما خانك) (¬2). - وعن خالد الربعي قال كان يقال: (إن من أجدر الأعمال أن لا تؤخر عقوبته أو يعجل عقوبته الأمانة تخان والرحم تقطع والإحسان يكفر) (¬3). - وعن مجاهد، قال: (المكر والخديعة والخيانة في النار، وليس من أخلاق المؤمن المكر ولا الخيانة) (¬4). - وعن ميمون بن مهران قال: (ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته وف بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله عز وجل، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه مسلما كان أو كافرا). - وقال الفضيل بن عياض: (أصل الإيمان عندنا وفرعه وداخله وخارجه بعد الشهادة بالتوحيد وبعد الشهادة للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالبلاغ وبعد أداء الفرائض صدق الحديث وحفظ الأمانة وترك الخيانة ووفاء بالعهد وصلة الرحم والنصيحة لجميع المسلمين) (¬5). - وذكر أعرابي رجلاً خائناً فقال: (إن الناس يأكلون أماناتهم لقما، وإن فلاناً يحسوها حسواً) (¬6). - وقال الماوردي: (وأما الاستسرار بالخيانة فضعة لأنه بذل الخيانة مهين، ولقلة الثقة به مستكين. وقد قيل في منثور الحكم: من يخن يهن. وقال خالد الربعي: قرأت في بعض الكتب السالفة أن مما تعجل عقوبة ولا تؤخر الأمانة تخان والإحسان يكفر والرحم تقطع والبغي على الناس. ولو لم يكن من ذم الخيانة إلا ما يجده الخائن في نفسه من المذلة لكفاه زاجرا، ولو تصور عقبى أمانته وجدوى ثقته لعلم أن ذلك من أربح بضائع جاهه وأقوى شفعاء تقدمه مع ما يجده في نفسه من العز ويقابل عليه من الإعظام) (¬7). - وقال أيضاً: (والداعي إلى الخيانة شيئان: المهانة وقلة الأمانة، فإذا حسمهما عن نفسه بما وصفت ظهرت مروءته) (¬8). - وقال العارف المحاسبي: (ثلاثة عزيزة أو معدومة حسن وجه مع صيانة وحسن خلق مع ديانة وحسن إخاء مع أمانة) (¬9). - وقال حكيم: (لو علم مضيّع الأمانة، ما في النّكث والخيانة، لقصّر عنهما عنانه. - وقالوا: من خان مان، ومن مان هان، وتبرّأ من الإحسان) (¬10). - وقال ابن حزم: (الخيانة في الحرم أشد من الخيانة في الدماء، العرض أعز على الكريم من المال، ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله ويصون نفسه بجسمه ويصون عرضه بنفسه ويصون دينه بعرضه ولا يصون بدينه شيئا) (¬11). ¬

(¬1) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (155). (¬2) ((سنن النسائي)) (7/ 53). (¬3) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (ص71). (¬4) ((مكارم الأخلاق)) للخرائطي (ص72). (¬5) ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (48/ 399). (¬6) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة الدينوري (1/ 125). (¬7) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 325). (¬8) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 326). (¬9) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (3/ 404). (¬10) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 369). (¬11) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 80).

حكم الخيانة

حكم الخيانة ذكر العلماء أن الخيانة من الكبائر فقد عد الذهبي الخيانة بأنها من الكبائر وكذلك ابن حجر الهيتمي (¬1). قال الذهبي: (قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27]. قال الواحدي رحمه الله تعالى: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما حاصرهم وكان أهله وولده فيهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا إن نزلنا على حكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله قال أبو لبابة: فما زالت قدماي من مكاني حتى عرفت أني خنت الله ورسوله وقوله: وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ عطف على النهي أي ولا تخونوا أماناتكم قال ابن عباس: الأمانات الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد (¬2). يعني الفرائض يقول: لا تنقضوها قال الكلبي: أما خيانة الله ورسوله فمعصيتهما. وأما خيانة الأمانة: فكل واحد مؤتمن على ما افترضه الله عليه إن شاء خانها وإن شاء أداها لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى وقوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أنها أمانة من غير شبهة وقال تعالى: وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف: 52]: أي لا يرشد كيد من خان أمانته يعني أنه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية وقال عليه الصلاة والسلام: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان)) (¬3)) (¬4). ثم سرد الذهبي الأحاديث التي تحث على الأمانة وتنهى عن الخيانة. ¬

(¬1) انظر ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 442). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (13/ 485)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (5/ 1684). (¬3) رواه البخاري (33)، ومسلم (59). (¬4) ((الكبائر)) للذهبي (ص: 149).

آثار ومضار الخيانة

آثار ومضار الخيانة 1 - تسخط الله عز وجل على العبد. 2 - داء وبيل إذا استشرى بالإنسان جرده من إنسانيته وجعله وحشا يهيم وراء ملذاته. 3 - من علامات النفاق. 4 - طريق موصل إلى العار في الدنيا والنار في الآخرة. 5 - أسوأ ما يبطن الإنسان. 6 - انتشار الخيانة في المجتمع من علامات اضمحلاله. 7 - انتشار الغلول والرشوة والمطل والغش لأنها كلها من الخيانة (¬1). 8 - فقدان الثقة بين أفراد المجتمع. 9 - تفكك أواصر المحبة والتعاون بين أفراد المجتمع. 10 - أنها تسبب المهانة والذل لصاحبها. ¬

(¬1) من 1 - 7 من كتاب ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (10/ 4479).

صور الخيانة

صور الخيانة (الخيانة من صفات المنافقين البارزة، فالمنافق إذا سنحت له فرصة الخيانة لم يضيعها أو يدعها تفوق، جرياً وراء المغنم، وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله ضد الأمانة لأن الخون النقص والضياع، وما أبشع الخيانة بقدر ما يعظم قدر الأمانة، يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72]. وقد نهى الله تعالى عن الخيانة بأصنافها وأنواعها) (¬1). وصورها كالتالي: 1 - خيانة الله ورسوله: قال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]. قال ابن حجر الهيتمي: (وقوله عز وجل: وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ عطف على النهي أي ولا تخونوا أماناتكم. قال ابن عباس: الأمانات الأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها العباد (¬2). أما خيانة الله ورسوله فمعصيتهما. وأما خيانة الأمانات فكل أحد مؤتمن على ما كلفه الله به، فهو سبحانه موقفه بين يديه ليس بينه وبينه ترجمان وسائله عن ذلك هل حفظ أمانة الله فيه أو ضيعها؟ فليستعد الإنسان بماذا يجب الله تعالى به إذا سأله عن ذلك فإنه لا مساغ للجحد ولا للإنكار في ذلك اليوم، وليتأمل قوله تعالى: وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف: 52] أي لا يرشد كيد من خان أمانته بل يحرمه هدايته في الدنيا، ويفضحه على رءوس الأشهاد في العقبى، فالخيانة قبيحة في كل شيء) (¬3). 2 - (خيانة النفس: وهي أن يفعل المرء من الذنوب ما لا يطلع عليه إلا الله ويخون به أمر الله تعالى بألا يفعل، مثلما وقع من بعض المسلمين من الرفث إلى النساء ليلة الصيام فعن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ [البقرة: 178] وقوله تعالى: تختانون من الاختيان وهو أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب. 3 - خيانة الناس وهي أنواع: - في المال: وتتمثل في أكل المال الذي يؤتمن عليه الإنسان سواء كان ذلك المال وديعة أو مالا عاماً أو مال شركة أمينها ذلك الخائن أو مال اليتامى الذين يتولى الوصاية عليهم خائن يأكل في بطنه ناراً من الأوصياء والأولياء المنافقين. - إفشاء السر: وقد تكون خيانة الناس بإفشاء السر الذي يؤتمن عليه الإنسان إلا إذا كان في ذلك الإفشاء مصلحة أقوى مثل إظهار الحق ونصرة المظلوم وإعانة أهل العدل وصيانة مصلحة الأمة. ولكن أكثر ما تكون الخيانة في إفشاء الأسرار الخاصة التي لا تهم غير صاحبها مثل عورات البيوت وأسرار العائلات والأزواج .. فليتق الله من يطلع على شيء من ذلك إذا ائتمنه عليه أصحاب الشأن لاستشارة أو لقيام بينهم بصلح. ¬

(¬1) ((أخلاق المنافقين)) ليعقوب المليجي (ص: 84). بتصرف. (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (13/ 485)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (5/ 1684). (¬3) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 443).

كما يكون ذلك الإفشاء وخيانة الأمانة ممن يطلعون بحكم علمهم على أسرار الناس، كالأطباء والممرضات فهؤلاء يعلمون من أسرار المرضى ما لا ينبغي أن يذاع وكذلك من يقومون بغسل الموتى وتكفينهم ودفنهم فقد وجب عليهم ألا يخونوا أماناتهم وأن يحفظوا ما علموا سراً) (¬1) (وقال الحسن إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك. ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه فقال لأبيه يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثا وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك قال فلا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار إليه ومن أفشاه كان الخيار عليه قال فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه فقال لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر قال فأتيت معاوية فأخبرته فقال يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ) (¬2). - الخيانة في النصيحة: (ومن صور خيانة الناس كذلك الخيانة في النصيحة، كمن يزكي فاسقاً أو يخفي مالا مسروقاً أو يؤوي مجرماً أو يعين قاطع طريق. أو من ينصح غيره بما يؤذيه في الدنيا أو الآخرة من الإفساد وقطيعة الرحم. - الخيانة الزوجية: ومن أبشع صور الخيانة: خيانة الزوجة لزوجها في ماله وعرضه، بالسرقة والزنا، وخيانة الرجل لزوجته بالسرقة والزنا كذلك ... ) (¬3). ¬

(¬1) ((أخلاق المنافقين)) ليعقوب المليجي (ص: 84). بتصرف. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (407)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (38/ 270 - 271). (¬3) ((أخلاق المنافقين)) ليعقوب المليجي (ص: 84). بتصرف.

أوجه ورود الخيانة في القرآن الكريم

أوجه ورود الخيانة في القرآن الكريم وردت الخيانة في القرآن الكريم على خمسة أوجه ذكرها الفيروز آبادي فقال: (وقد وردت في القرآن على خمسة أَوجه: الأَوّل في الدّين والدّيانة: وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال: 27]. الثاني في المال والنّعمة: وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105]. الثالث: في الشرع والسنَّة: وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ [الأنفال: 71] أي إِن تركوا الأَمانة في السُّنَّة فقد تركوها فى الفريضة. الرّابع: الخيانة: بمعنى الزّنى وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين [يوسف: 52] أَي الزَّانين. الخامس: بمعنى نَقْض العهد والبَيْعَة: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً [الأنفال: 58] أي نقضَ عهد) (¬1). ¬

(¬1) ((بصائر ذوي التمييز)) (2/ 152).

في أي شيء كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط؟

في أي شيء كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط؟ قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10]. فخيانة امرأة نوح وامرأة لوط لم تكن في العرض وإنما كانت في الدين. قال ابن كثير: (وليس المراد: فَخَانَتَاهُمَا في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء) (¬1). وقال الشيخ الفوزان: (هذه الآية الكريمة مثل ضربه الله لمخالطة الكافر للمسلم، وأن الكافر لا ينفعه مخالطة المسلم، ما دام أنه لم يدخل في الإسلام، فإنه في يوم القيامة يكون في النار، ولا تنفعه معاشرته للمسلم ومخالطته للمسلم، وإن توثقت الصداقة والعلاقة؛ لأنه ليس بمسلم. أما الخيانة التي حصلت من امرأة نوح وامرأة لوط، فهي خيانة الملة؛ لأن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين فخانتاهما في الدين، حيث لم تدخلا في دين زوجيهما، فهذا يعتبر خيانة، وليس خيانة عرض؛ لأن فرش الأنبياء معصومة عليهم الصلاة والسلام، لا يمكن أن يتزوج نبي بامرأة خائنة في عرضها؛ لأنهم معصومون عليهم الصلاة والسلام من ذلك، وفرشهم معصومة. فالمراد هنا بالخيانة خيانة الدين. وقيل: إن خيانتهما أن امرأة نوح كانت تخبر الكفار بأسرار نوح عليه الصلاة والسلام، تصفه بأنه مجنون، وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على أضياف لوط، ليفعلوا بهم الفاحشة. فهما خائنتان للأمانة التي بينهما وبين زوجيهما من ناحية حفظ السر وعدم الدلالة على ما عندهما من الأسرار، ومن الأضياف وغير ذلك، فهذا هو نوع الخيانة الواقع. والحاصل: أن هذه الخيانة ليست خيانة في العرض، بل هي إما في الدين، وإما خيانة في عدم حفظ الأسرار) (¬2). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 171). (¬2) ((مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان)) (1/ 130).

الخيانة من صفات اليهود

الخيانة من صفات اليهود (وصف الله اليهود إلا قليلا منهم بأنهم أهل خيانة فقال تعالى لرسوله: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ... [المائدة: 13]. فهذه الآية تدل على أن الخيانة من الصفات التي تبرز في اليهود بين حين وآخر، فالخيانة شأنهم وديدنهم، وطريقتهم في معاملة الناس. فمن خيانتهم محاولتهم اغتيال الرسول وقد كان بينه وبينهم عهد أمان. ومن خيانتهم تواطؤهم مع الأحزاب، وقد كان بينهم وبين الرسول عهد وأمان) (¬1). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 614).

من قصص الخيانة

من قصص الخيانة قصة وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله فيها قرآنا يجلي أمرها، عن قتادة بن النعمان قال: ((كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول قال فلان كذا وكذا قال فلان كذا وكذا فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث أو كما قال الرجل وقالوا ابن الأبيرق قالها قال وكان أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح ودرع وسيف فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ونقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجل منا له صلاح وإسلام فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا إليك عنها أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم سآمر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة قال فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله المستعان فلم يلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] بني أبيرق وَاسْتَغْفِرِ اللهِ [النساء: 106] أي مما قلت لقتادة إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 106] وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء: 107] يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ [النساء: 108] إلى قوله غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 110] أي لو استغفروا الله لغفر لهم وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء: 111] إلى قوله وَإِثْمًا مُّبِينًا [النساء: 112] قولهم للبيد وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ [النساء: 113] إلى قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114] فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة ... )) (¬1). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3036)، والطبراني (19/ 9) (15)، والحاكم (4/ 426). قال الترمذي: غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

الخيانة في واحة الشعر ..

الخيانة في واحة الشعر .. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أدّ الأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطيب المكسب فأنت امرؤ إمّا ائتمنتك خاليا ... فخنت، وإمّا قلت قولا بلا علم وإنك في الأمر الذي قد أتيته ... لفي منزل بين الخيانة والإثم (¬1) وقال الشاعر: أخلقْ بمن رضي الخيانةَ شيمةً ... أن لا يُرى إِلا صريعَ حوادثِ ما زالت الأرزاءُ تُلحقُ بؤسها ... أبداً يغادرِ ذمةٍ أو ناكثِ (¬2) وقال آخر: تولتْ بهجةُ الدنيا ... فكُلُّ جديدِها خَلَقُ وخانَ الناسُ كُلُّهمُ ... فما أدري بمن أثقُ رأيتُ معالِمَ الخيرات ... سدتْ دونَها الطرقُ فلا حسبٌ ولا أدبٌ ... ولا دينٌ ولا خُلقُ (¬3) وقال آخر: من خانَهُ الدهرُ خانته صنائعُهُ ... وعادَ ذنباً له ما كانَ إِحسانا ولا ترى الدهرَ إِلا حربَ مضطهدٍ ... وجالبين على المخذولِ خِذْلانا والحظُّ يبني لك الدنيا بلا عمدٍ ... ويهدمُ الدِّعمَ الطولى إِذا خانا لا تأمنَنَّ امرأً خانَ امرأً أبداً ... إِن من الناسِ ذا وجهين خوَّانا (¬4) وقال آخر: شرُ المصائبِ ما جنَتْهُ يدٌ ... لم يَثْنِها عن ظلمِها رحمُ والعارُ حيٌ لا يموتُ إِذا ... قدُمَ الزمانُ وبادتِ الأممُ إِن الخيانةَ ليس يغسِلُها ... من خاطئٍ دمعٌ ولا ندمُ (¬5) ... ¬

(¬1) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 100). (¬2) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬3) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص147). (¬4) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (147). (¬5) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (310).

الذل

تعريف الذل لغة واصطلاحاً: تعريف الذل لغة: قال ابن مالك الطائي: (الذل: - من - ذل وخشع واستكان وخضع واستخذى وضرع واتقى واتضع وبخع وخنع وامتهن واستسلم وعنا وقنب) (¬1). وقال ابن منظور: (الذل: نقيض العز، ذل يذل ذلا وذلة وذلالة ومذلة، فهو ذليل بين الذل والمذلة من قوم أذلاء وأذلة وذلال .. وأذله هو وأذل الرجل: صار أصحابه أذلاء. وأذله: وجده ذليلا. واستذلوه: رأوه ذليلا، ويجمع الذليل من الناس أذلة وذلانا. والذل: الخسة. وأذله واستذله كله بمعنى واحد. وتذلل له أي خضع) (¬2). تعريف الذل اصطلاحاً: قال ابن عاشور: (الذلة: خضوع في النفس واستكانة من جراء العجز عن الدفع) (¬3). وقال العسكري: (الذلة الضعف عن المقاومة) (¬4). الفرق بين الذل وبعض الصفات الفرق بين الذل والضعة: الذل: بسبب خارجي عن الإنسان بأن يقهره غيره. الضعة: إنما هي بفعل المرء بنفسه وقد يسمى ذليلاً لأنه يستحق الذل (¬5). الفرق بين الذل والصغار: قال أبو هلال العسكري: (الصغار هو الاعتراف بالذل والإقرار به وإظهار صغر وخلافه الكبر وهو إظهار عظم الشأن وفي القرآن سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ [الأنعام: 124] وذلك أن العصاة بالآخرة مقرون بالذل معترفون به ويجوز أن يكون ذليل لا يعترف بالذل) (¬6). الفرق بين الذل والخزي: قال أبو هلال العسكري: (الخزي ذل مع افتضاح وقيل هو الانقماع لقبح الفعل والخزاية الاستحياء لأنه انقماع عن الشيء لما فيه من العيب قال بان درستويه الخزي الإقامة على السوء خزي يخزى خزيا وإذا استحيا من سوء فعله أو فعل به قيل خزي يخزى خزاية لأنهما في معنى واحد وليس ذلك بشيء لأن الإقامة على السوء والاستحياء من السوء ليسا بمعنى واحد) (¬7). الفرق بين الخضوع والذل: قال أبو هلال العسكري:- الخضوع - (هو التطامن والتطأطؤ ولا يقتضي أن يكون معه خوف .. والخاضع المطأطئ رأسه وعنقه .. وقد يجوز أن يخضع الإنسان تكلفا من غير أن يعتقد أن المخضوع له فوقه .. الخضوع في البدن والإقرار بالاستجداء .. الذل الانقياد كرها ونقيضه العز وهو الإباء والامتناع والانقياد على كره وفاعله ذليل والذل والانقياد طوعا وفاعله ذلول) (¬8). الفرق بين التذلل والذل: قال أبو هلال العسكري: (التذلل فعل الموصوف به وهو إدخال النفس في الذل كالتحلم إدخال النفس في الحلم والذليل الفعول به الذل من قبل غيره في الحقيقة وإن كان من جهة اللفظ فاعلا ولهذا يمدح الرجل بأنه متذلل ولا يمدح بأنه ذليل لأن تذلله لغيره اعترافه له والاعتراف حسن ويقال العلماء متذللون لله تعالى ولا يقال أذلاء له سبحانه) (¬9). الفرق بين الإذلال والإهانة: الإذلال: - الرجل للرجل هنا أن يجعله منقادا على الكره أو في حكم المنقاد. - الإذال لا يكون إلا من الأعلى للأدنى. - نقيض الإذلال الإعزاز. الإهانة: - الهوان مأخوذ من تهوين القدر وأن يجعل هذا المرء صغير الأمر لا يبالى به. - والاستهانة تكون من النظير للنظير. - نقيض الإهانة الإكرام (¬10). ¬

(¬1) [3560])) ((الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة)) لابن مالك الطائي (1/ 125) (¬2) [3561])) ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 256) (¬3) [3562])) ((التحرير والتنوير)) للطاهر بن عاشور (9/ 119) (¬4) [3563])) ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 251) (¬5) [3564])) انظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 249) (¬6) [3565])) ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 249) (¬7) [3566])) ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 250) (¬8) [3567])) ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 248 - 250) (¬9) [3568])) ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 249) (¬10) [3569])) انظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 250 - 251)

ذم الذل في القرآن والسنة

ذم الذل في القرآن والسنة ذم الذل والنهي عنه في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة: 61]. قال ابن كثير: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون .. وقال الضحاك: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قال: الذل ... وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية) (¬1). - وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26]. قال الشوكاني: (قوله: وتذل من تشاء أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما) (¬2). وقال أبو حيان الأندلسي: (تعز من تشاء وتذل من تشاء قيل: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفا ظاهرين عليها، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب. وقيل: بالتوفيق والعرفان، وتذل بالخذلان. وقال عطاء: المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم. وقيل: بالطاعة وتذل بالمعصية. وقيل: بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية. وقيل: بالإخلاص وتذل بالرياء. وقيل بالغنى وتذل بالفقر. وقيل: بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار، قاله الحسن بن الفضل. وقيل: بقهر النفس وتذل باتباع الخزي، قاله الوراق. وقيل: بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان إياه، قاله الكتاني. وقيل: بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع، وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه) (¬3). - وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلهًا سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ، بتعجيل الله لهم ذلك وذلة وهي الهوان، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في الحياة الدنيا، في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة) (¬4). وقال ابن عاشور: (معنى: نيل الذلة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم. بحيث يكونون خائفين العدو، ولو لم يسلط عليهم، أو ذلة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله، وهذه الذلة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة) (¬5). ¬

(¬1) [3570])) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 282) (¬2) [3571])) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 379) (¬3) [3572])) ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (3/ 86) (¬4) [3573])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (13/ 134) (¬5) [3574])) ((التحرير والتنوير)) للطاهر بن عاشور (9/ 119)

- وقال تعالى: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34]. قال الشوكاني: (وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي: أهانوا أشرافها، وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك، وتستحكم لهم الوطأة وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة) (¬1). وقال القاسمي: (معنى قولها إن الملوك إذا دخلوا قرية أي عنوة وقهرا أفسدوها أي أخربوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال وكذلك يفعلون) (¬2). - وقال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]. قال الطبري: (ولم يكن له ولي من الذل يقول: ولم يكن له حليف حالفه من الذل الذي به، لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره، فذليل مهين، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر إلها يطاع) (¬3). قال ابن كثير: (ولم يكن له ولي من الذل أي: ليس بذليل فيحتاج أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى شأنه خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومقدرها ومدبرها بمشيئته وحده لا شريك له، قال مجاهد في قوله: ولم يكن له ولي من الذل لم يحالف أحدا ولا يبتغي نصر أحد، وكبره تكبيرا أي: عظمه وأجله عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا) (¬4). وقال القاسمي: (ولم يكن له ولي من الذل أي ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به. أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به، ليدفعها بموالاته) (¬5). وقال ابن عطية: (قيد لفظ الآية نفي الولاية لله عز وجل بطريق الذل وعلى جهة الانتصار، إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالحي عباده) (¬6). ذم الذل والنهي عنه في السنة النبوية: - عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي قال: ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل)) (¬7). ¬

(¬1) [3575])) ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 159) (¬2) [3576])) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (7/ 491) (¬3) [3577])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (17/ 589) (¬4) [3578])) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 130) (¬5) [3579])) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (6/ 523) (¬6) [3580])) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) لابن عطية (3/ 493) (¬7) [3581])) رواه البخاري (2321).

- قال ابن بطال: (قال المهلب: معنى هذا الحديث - والله أعلم - الحض على معالي الأحوال، وطلب الرزق من أشرف الصناعات لما خشي النبي على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدي السلاطين وركاب الخيل. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبا لا يغلبكم عليها رعاة الإبل. أي دعوا التملك والتدلك بالنعمة، وخذوا أخشن العيش لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدريب عليها والفروسية، لئلا تملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم بالوثوب على الخيل، وقد رأينا عاقبة وصيته فى عصرنا هذا بميلنا إلى الراحة والنعمة. قال المؤلف: فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه، لزمه الذل كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء فى خلقه لمخالطته من هو كذلك .... - فمن - شأن ملازمة هذه المهن توليد ما ذكر من هذه الصفات ومن الذل الذى يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة بخراج الأرضين) (¬1). - وعن تميم الداري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) وكان تميم الداري، يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية) (¬2). - وجاء من طريق المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه بنحو حديث تميم رضي الله عنه وفيه بيان لصورة العز والذل فقال صلى الله عليه وسلم: ((يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلّهم فلا يدينوا لها)) (¬3). قال المباركفوري: (وذل بضم الذال ذليل أي أو يذله الله بها – كلمة الإسلام - حيث أباها بذل سبي أو قتال حتى ينقادون لها طوعاً أو كرهاً، أو يذعن لها ببذل الجزية، والحديث مقتبس من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]، ثم فسر العز والذل بقوله إما يعزهم الله أو يذلهم (فيدينون لها) بفتح الياء أي فيطيعون وينقادون لها، من دان الناس أي ذلوا وأطاعوا) (¬4). ¬

(¬1) [3582])) ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (6/ 486) (¬2) [3583])) رواه أحمد (4/ 103) (16998)، والطبراني (2/ 58) (1280). والحاكم (4/ 477)، والبيهقي (9/ 181) (18400). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الهيثمي (6/ 17): رجال أحمد رجال الصحيح، وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): على شرط مسلم وله شاهد على شرط مسلم أيضا .. (¬3) [3584])) رواه أحمد (6/ 4) (23865)، وابن حبان (15/ 92) (6699)، والطبراني (20/ 254) (601)، والحاكم (4/ 476)، والبيهقي (9/ 181) (18399). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وحسنه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 806)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 17): رجال الطبراني رجال الصحيح، وصحح إسناده الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (39)، وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1159). (¬4) [3585])) ((مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للمباركفوري (1/ 113 - 114) برقم (42)

وقال الألباني: (مما لا شك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان) (¬1). - وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قالوا: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض من البلاء لما لا يطيق)) (¬2). ومعنى الحديث لا يجوز للمؤمن أن يأتي ما يكون سببا في ذله وهوانه بالتعرض لما لا يطيق من البلاء كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر من لا يسلم غالبا من أذاه على نفسه وماله وأهله فليس له والحال كذلك أن يأمر أو ينهى لما يترتب عليه من ذل وهوان للمؤمن (¬3). - وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: ((يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض خباء أحبّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك. وما أصبح اليوم على ظهر الأرض خباء أحبّ إليّ من أن يعزّوا من أهل خبائك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وأيضا والّذي نفسي بيده)) (¬4). قال بدر الدين العيني: (خباء هي الخيمة التي من الوبر أو الصوف على عمودين أو ثلاثة. وقال الكرماني: يحتمل أن تريد به نفسه صلى الله عليه وسلم فكنت عنه بذلك إجلالا له، وأهل بيته، والخباء يعبر به عن مسكن الرجل وداره. قوله: (قالت: وأيضا والذي نفسي بيده)، هذا جواب لهند بتصديق ما ذكرته يعني: وأنا أيضا بالنسبة إليك مثل ذلك، وقيل: معناه وأيضا ستزيدين في ذلك ويتمكن الإيمان في قلبك فيزيد حبك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم ويقوى رجوعك عن غضبه، وهذا المعنى أولى وأوجه من الأول) (¬5). ¬

(¬1) [3586])) ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (1/ 32) برقم (3) (¬2) [3587])) رواه البخاري (3825)، ومسلم (1714). (¬3) [3588])) انظر ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (5/ 1739)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 251) (¬4) [3589])) انظر ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (5/ 1739)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 251). (¬5) [3590])) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 284)

أقسام الذل

أقسام الذل ينقسم الذل إلى محمود ومذموم: - الذل المذموم: وهو التذلل لغير الله على وجه الهوان والضعف والصغار والانكسار والذلة. - الذل المحمود: قال الراغب الأصفهاني: (الذل متى كان من جهة الإنسان نفسه لنفسه فمحمود، نحو قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 54]) (¬1). - ويشمل الذل المحمود: 1 - الذل لله سبحانه وتعالى: وهذا الذل عنوان العز والشرف والنصر في الدنيا والآخرة. قال عمر بن عبد العزيز: (لا يتقي الله عبد حتى يجد طعم الذل) (¬2). وقال الذهبي: (من خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه) (¬3). 2 - الذل للمؤمنين: وهو بمعنى التراحم والتواضع والعطف وليس بمعنى التذلل والانكسار على وجه الضعف والخور. قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]. قال ابن القيم: (لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال. فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل. وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول) (¬4). وقال الطبري: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم ... ويعني بقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، أشداء عليهم، غُلَظاء بهم) (¬5). وقال ابن كثير: (قوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه) (¬6). 3 - الذل للوالدين: قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء:24]. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية، ولا تخالفهما فيما أحبَّا) (¬7). وقال السعدي: (تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد) (¬8). ¬

(¬1) [3591])) ((المفردات في غريب القرآن)) للأصفهاني (ص: 330). (¬2) [3592])) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لأبي حاتم الدارمي (1/ 29). (¬3) [3593])) ((العرش)) للذهبي (1/ 121). (¬4) [3594])) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 310) (¬5) [3595])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (10/ 421) (¬6) [3596])) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 136). (¬7) [3597])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (17/ 418) (¬8) [3598])) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 456)

الآثار السلبية للذل

الآثار السلبية للذل 1 - ضعف النفس وهوانها. 2 - الاستضعاف من الآخرين والاحتقار والاستهانة بالذليل. 3 - لحوق الخزي والعار بالإنسان الذليل والأمة الذليلة. 4 - ضياع الحقوق. 5 - حدوث التنافر والوحشة والتباغض. 6 - تغلب الأعداء والهزيمة. 7 - ضعف الإرادة والتخلف عن الرقي والريادة.

أسباب الوقوع في الذل

أسباب الوقوع في الذل 1. استمراء المعاصي وتسويف التوبة: قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112]. قال أبو حيان الأندلسي: (لما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، بين علة ذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم) (¬1). وقال الحسن البصري: (أما والله لئن تدقدقت بهم الهماليج ووطئت الرحال أعقابهم، إن ذل المعاصي لفي قلوبهم ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله) (¬2). 2. الإشراك بالله تعالى والابتداع في الدين: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152]. قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلهًا سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ، بتعجيل الله لهم ذلك وذلة وهي الهوان، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في الحياة الدنيا، في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة) (¬3). وقال الشاطبي: (كل من ابتدع في دين الله، فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبروته، فهم في أنفسهم أذلاء. وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال، ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين، وفيما بعد ذلك؟ حتى تلبسوا بالسلاطين، ولاذوا بأهل الدنيا، ومن لم يقدر على ذلك; استخفى ببدعته، وهرب بها عن مخالطة الجمهور، وعمل بأعمالها على التقية) (¬4). 3. محاربة الله ورسوله ومخالفة أمرهما: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة: 20]. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، يعني: الذين هم في حد والشرع في حد، أي: مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة) (¬5). وقال الشوكاني: (أولئك في الأذلين أي: أولئك المحادون لله ورسوله، المتصفون بتلك الصفات المتقدمة، من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان قال عطاء: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة) (¬6). 4. النفاق والاعتزاز بغير الله سبحانه وتعالى: قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]. ¬

(¬1) [3599])) ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (1/ 384) (¬2) [3600])) ((حلية الأولياء)) أبو نعيم (2/ 152) (¬3) [3601])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (13/ 134) (¬4) [3602])) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 167) (¬5) [3603])) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 53) (¬6) [3604])) ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 230)

قال الكلاباذي: (قال الله عز وجل لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]، فكان الأذل هو الأعز عند نفسه بكثرة أتباعه وكثرة أنصاره .. ، فالذلة هي التعزز بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا، فهو كما قال الله عز وجل ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73] .. ، فلا أذل ممن رد إلى نفسه الأمارة بالسوء، وانفرد في متابعة هواه، وظلمة رأيه، وانقطع عمن له العزة، فإن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين .. فيجوز أن يكون الذلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها متابعة الهوى في دين الله عز وجل، والتعزز بما دون الله تعالى) (¬1). 5. الكبر والأنفة عن قبول الحق: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان)) (¬2). قال ابن القيم: (من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه) (¬3). 6. اتباع الهوى: قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]. قال ابن تيمية: (من قهره هواه ذل وهان وهلك وباد) (¬4). وقال ابن القيم: (لكل عبد بداية ونهاية فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه) (¬5). وقال ابن القيم أيضاً: (تجد في المتبع لهواه - من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن حصاه ... وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته، والذل قرين معصيته) (¬6). وقال أبوسعيد الخادمي: (من غلب عليه الهوى يغلب عليه الهوان والذلة فيصير مستقبحا ومستنكرا؛ ولأنه أسير وشأن الأسير مهان على كل حال لعل ذلك إنما هو عند التعمق وعند تجرده لتلذذ النفس كما يقال إن الإصرار على المباحات قد ينقلب صغيرة وإلا فبالنية الحميدة يكون المباح حسنة مثابا به) (¬7). 7. مفارقة جماعة المسلمين: قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. ¬

(¬1) [3605])) ((معاني الأخبار)) للكلاباذي (1/ 136) بتصرف يسير (¬2) [3606])) رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (557). من حديث جد عمرو بن شعيب رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 521)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/ 157)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) [3607])) ((الداء والدواء)) لابن القيم (ص 137) (¬4) [3608])) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 458) (¬5) [3609])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (1/ 483) (¬6) [3610])) ((الجواب الكافي)) لابن القيم (1/ 179 - 180) (¬7) [3611])) ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (2/ 76)

قال الكلاباذي - من -: (خالف أولياء الله عز وجل باتباعه غير سبيلهم، فهو الوحيد العزيز، الشريد، الطريد، الحقير، الذليل، النذر، القليل، جليس الشيطان، وبغيض الرحمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بالجماعة، فإن الذئب يأخذ الشاة والعاصية) (¬1). 8. ترك الجهاد وحب الدنيا وكراهية الموت: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) (¬2). قال ابن رجب: (من أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله فمن سلك سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل ... ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فقال: ((ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل)) (¬3). فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟) (¬4). وقال الحسن البصري: (قد رأينا أقواما آثروا عاجلتهم على عاقبتهم فذلوا وهلكوا وافتضحوا) (¬5). وقال الحسن: (ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله) (¬6). وقال أبو العتاهية: ألا إنما التقوى هي العز والكرم ... وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم (¬7) 9. البخل وشيوع الربا وأكل أموال الناس بالباطل: ¬

(¬1) [3612])) ((معاني الأخبار)) للكلاباذي (1/ 136) (¬2) [3613])) رواه أحمد (2/ 28) (4825)، وأبو يعلى (10/ 29) (5659)، والطبراني (12/ 433) (13585)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 434) (10871). قال الطبري في ((مسند عمر)) (1/ 108): إسناده صحيح، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 499) كما اشترط في المقدمة، وقال ابن تيمية في ((بيان الدليل)) (110): إسناده مشهور، وصحح إسناده ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (3/ 143)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 972): أصح ما ورد في ذم بيع العينة، قلت وعندي أنه معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (740)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (5/ 318): له طرق يشد بعضها بعضا، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/ 27)، والألباني في ((التعليقات الرضية)) (2/ 405). (¬3) [3614])) الحديث رواه البخاري (2321) بلفظ: ((لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل)) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. (¬4) [3615])) ((الحكم الجديرة بالإذاعة)) لابن رجب الحنبلي (1/ 40 - 41). (¬5) [3616])) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 157). (¬6) [3617])) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (6/ 272). (¬7) [3618])) ((الحكم الجديرة بالإذاعة)) لابن رجب الحنبلي (1/ 32).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) (¬1). 10. إيذاء الصالحين واحتقارهم: قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. وقال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]. قال المناوي: (فينبغي للإنسان أن لا يحتقر أحدا فربما كان المحتقر أطهر قلبا وأزكى عملا وأخلص نية فإن احتقار عباد الله يورث الخسران ويورث الذل والهوان) (¬2). 11. سؤال الناس والتطلع لما في أيديهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)) (¬3). وفي رواية لأحمد ((فيكف الله بها وجهه)) (¬4). قال ابن حجر: (فيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط) (¬5). وقال ابن مفلح: (أولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه، والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل) (¬6). 12. موالاة الكافرين: قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]. 13. التحزب والتفرق وتنافر القلوب: جاءت نصوص عديدة في الشريعة تحذر من التحزب والتفرق لما لذلك من أثر سلبي من ضعف قوة المسلمين وذهاب عزهم ولحوق الذل والمهانة بهم. قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران 105]. وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. 14. الاتكالية: الاعتماد على الغير في كل شيء يورث الإنسان ذلا ومهانة سواء حصل مراده أم لا لذا جاءت نصوص الشريعة بالحث على الاعتماد على النفس وترك السؤال لما فيه من مذلة كما في حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)) (¬7). ¬

(¬1) [3619])) رواه أحمد (2/ 28) (4825)، وأبو يعلى (10/ 29) (5659)، والطبراني (12/ 433) (13585)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 434) (10871). قال الطبري في ((مسند عمر)) (1/ 108): إسناده صحيح، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 499) كما اشترط في المقدمة، وقال ابن تيمية في ((بيان الدليل)) (110): إسناده مشهور، وصحح إسناده ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (3/ 143)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 972): أصح ما ورد في ذم بيع العينة، قلت وعندي أنه معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (740)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (5/ 318): له طرق يشد بعضها بعضا، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/ 27)، والألباني في ((التعليقات الرضية)) (2/ 405). (¬2) [3620])) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 380). (¬3) [3621])) رواه البخاري (1471). (¬4) [3622])) رواه أحمد (1/ 167) (1429). (¬5) [3623])) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (3/ 336) (¬6) [3624])) ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مفلح (1/ 219) (¬7) [3625])) رواه البخاري (1471).

الوسائل المعينة على التخلص من الذل

الوسائل المعينة على التخلص من الذل 1 - الإيمان بالله والمداومة على العمل الصالح: قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس: 26]. قال ابن كثير: (يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة .. وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي: قتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة، وَلا ذِلَّةٌ أي: هوان وصغار، أي: لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] أي: نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم) (¬1). 2 - الاعتزاز بالله والتمسك بدينه وتطبيق شريعته: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) (¬2). وقال الحسن بن عليّ- رضي الله عنهما-: علّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر- وفيه -: ((إنّه لا يذلّ من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت)) (¬3). قال بدر الدين العيني: (قوله: ((من واليت)) فاعل ((لا يذل)) أي: من واليته بمعنى: لا يذل من كنت له ولنا حافظا وناصرا) (¬4). قال قتادة: (قوله: وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [آل عمران: 103] كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين: فارس، والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظا وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك) (¬5). 3 - الدعاء بارتفاع الذل وحصول العز: ¬

(¬1) [3626])) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 262 - 263) (¬2) [3627])) رواه الحاكم (1/ 103). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين لاحتجاجهما جميعا بأيوب بن عائذ الطائي وسائر رواته ولم يخرجاه وله شاهد، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 117): صحيح على شرط الشيخين. (¬3) [3628])) رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178)، وأحمد (1/ 200) (1727)، قال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الدارقطني في ((الإلزامات والتتبع)) (113): [يلزمهما إخراجه] البخاري ومسلم، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/ 630)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 247): رجاله ثقات، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (2/ 395): سنده رجاله ثقات وله شاهد، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (2/ 294): حسن صحيح، وصححه أحمد شاكر في ((المحلى)) (4/ 147)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) [3629])) ((شرح سنن أبي داود،)) لبدر الدين العيني (5/ 336) (¬5) [3630])) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (5/ 659)

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان يقول: ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر، والقلّة، والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم)) (¬1). قال الطيبي: - قوله - (والذلة أي من أن أكون ذليلا في أعين الناس بحيث يستخفونه ويحقرون شأنه والأظهر أن المراد بها الذلة الحاصلة من المعصية أو التذلل للأغنياء على وجه المسكنة والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة) (¬2). 4 - موالاة الله ورسوله وصالح المؤمنين: قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]. فالعزة لله سبحانه ولرسوله وللمؤمنين ومن والاهم وسار على هداهم ينتفي عنه ذل الدنيا والآخرة ويحصل له عز الدنيا والآخرة. 5 - طاعة الله ورسوله: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] قال محمد الخولي: (لو أطاعوه – الرسول - لما أصابهم ما لحقهم من الذل والهوان بالفشل والهزيمة في الحرب تارة؛ والقتل والأسر تارة أخرى، وبالعجز المبين عن أن يقفوا في سبيل دعوته ويمنعوا انتشارها، في أقطار المعمورة؛ ويحولوا دون دخول الناس في دين الله أفواجا؛ وما كان عنادهم ولا مجادلتهم عن يقين يعتقدونه ولا شبه، لم يجل الشك عنها ولكن تكبرا وعتوا. مخافة أن تزول عنهم مناصب توارثوها. ومظاهر تخيلوا أن العز والمجد في المحافظة عليها) (¬3). 6 - مخالفة هوي النفس: قال ابن تيمية: (من قهر هواه عز وساد) (¬4). وقال ابن القيم: (من كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس قال أبو علي الدقاق من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله تعالى في حال كهولته) (¬5). 7 - القناعة والزهد في الدنيا: وهما سبب الخير في الدنيا والآخرة فالحرص على الدنيا وتحصيل أكثر ما يستطاع يورث الإنسان ضياع الورع في طلبه للدنيا وجمعها ولايبالي أخذها بعزة نفس أو ذل من حلال أو حرام. 8 - الاعتصام بحبل الله ونبذ الخلافات: قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه)) (¬6). ففي الاتحاد عزة وقوة وفي التفرق ذل وضعف. 9 - الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية للعز والقوة: قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]. ¬

(¬1) [3631])) رواه أبو داود (1544)، والنسائي (8/ 261)، وابن ماجه (771)، وأحمد (2/ 305) (8039)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (678)، والحاكم (1/ 725)، والبيهقي (7/ 12) (12929). والحديث سكت عنه أبو داود، قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/ 54): محفوظ، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (1/ 325) كما اشترط في المقدمة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 21) كما قال في المقدمة، والسيوطي في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1546)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (15/ 196)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) [3632])) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (4/ 282). (¬3) [3633])) ((الأدب النبوي)) لمحمد الخولي (1/ 291) (¬4) [3634])) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 458) (¬5) [3635])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (1/ 483) (¬6) [3636])) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585).

متفرقات في الذل

متفرقات في الذل أقوال في الذل: - قال الحسن البصري: (لقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله) (¬1). - وكان الإمام أحمد يدعو: (اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية) (¬2). - وقال الحكيم: (من اعتز بمخلوق ذل) (¬3). الذل في أمثال العرب: 1 - كان جملا فاستنوق. أي صار ناقة. 2 - كان حمارا فاستأتن. أي صار أتانا. 3 - ذل لو أجد ناصرا (¬4). ¬

(¬1) [3637])) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 152). (¬2) [3638])) ((الحكم الجديرة بالإذاعة)) لابن رجب الحنبلي (1/ 32). (¬3) [3639])) ((معاني الأخبار)) للكلاباذي (1/ 136). (¬4) [3640])) انظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 32)

الذل في واحة الشعر ..

الذل في واحة الشعر .. قال المتنبي: وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم (¬1) وقال أيضاً: ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام (¬2) وقال الشاعر: كم من عزيز أعقب الذل عزه ... فأصبح مرحوما وقد كان يحسد (¬3) وقال جرير: بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... إلا إنما يبكي من الذل دوبل (¬4) وقال زهير: ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذل يندم (¬5) وقال طرفة: بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذليل بأجماع الرجال ملهد (¬6) وقال النابغة الجعدي: يا أيها الناس هل ترون ... إلى فارس بادت وأنفها رغما أمسوا عبيدا يرعون شاءكم ... كأنما كان ملكهم حلما أو سبأ الحاضرون مآرب ... إذ يبنون من دون سيله العرما ففرقوا في البلاد واغترفوا ... الذل وذاقوا البأساء والعدما وبدلوا السدر والإراك به ... الخمط وأضحى البنيان منهدما (¬7) وقال ابن الأعرابي: إذا كان باب الذل من جانب الغنى ... سموت إلى العلياء من جانب الفقر (¬8) ... ¬

(¬1) [3641])) ((العود الهندي)) للسقاف (1/ 416) (¬2) [3642])) ((العود الهندي)) للسقاف (1/ 416) (¬3) [3643])) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (1/ 180) (¬4) [3644])) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (5/ 211) (¬5) [3645])) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (5/ 8) (¬6) [3646])) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (4/ 54) (¬7) [3647])) ((المجالسة وجواهر العلم)) للمالكي (2/ 392). (¬8) [3648])) ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 70)

السخرية والاستهزاء

معنى السخرية والاستهزاء لغة واصطلاحاً معنى السخرية لغة واصطلاحاً معنى السخرية لغة: يقال (سَخِرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومَسْخَراً وسُخْراً بالضم وسُخْرَةً وسِخْرِيّاً وسُخْرِيّاً وسُخْرِيَّة هزئ به) (¬1). و (التَّسخير: سياقة إِلى الغَرَض المختصّ به قهرًا، فالمسخَّر: هو المقيَّض للفعل. والسُّخرىّ: هو الَّذى يُقهر أَن يتسخَّر لنا بإِرادته، وسخِرت منه: إِذا سخَّرته للهُزْءِ منه) (¬2). معنى السخرية اصطلاحاً: استزراء العقل معنى بمنزلة الاستنخار في الفعل حسا، وقال ابن الكمال: السخرية والهزء من شيء يحق عند صاحبه ولا يحق عند الهازئ (¬3). وقال في الإحياء: (معنى السخرية الاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل، وقد يكون بالإشارة والإيماء) (¬4). معنى الاستهزاء لغة واصطلاحاً معنى الاستهزاء لغة: الاستهزاء مصدر قولهم: استهزأ يستهزأ، يقال (هَزَأَ مِنْهُ وهَزِأَ بِهِ، يَهْزَأُ هُزْءًا بِالضَّمِّ، وهُزُءًا بِضَمَّتَيْنِ، وهُزُوءًا بِالضَّمِّ والمدّ، ومَهْزُأَةً على مَفْعُلَة بِضَم الْعين، أَي: سَخِرَ مِنْهُ) (¬5). معنى الاستهزاء اصطلاحاً: الاستهزاء هو: ارتياد الهزء (¬6) من غير أَن يسْبق مِنْهُ فعل يستهزأ بِهِ من أجله (¬7). وقال ابن تيمية: (الاستهزاء هو: السخرية؛ وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة، فالذي يسخر بالناس هو الذي يذم صفاتهم وأفعالهم ذماً يخرجها عن درجة الاعتبار كما سخروا بالمطوِّعين من المؤمنين في الصدقات) (¬8). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 352). (¬2) ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (3/ 203) بتصرف. (¬3) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 192). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (ص 192). (¬5) ((تاج العروس)) للزبيدي (1/ 509) بتصرف يسير. (¬6) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 50). (¬7) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص 254). (¬8) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/ 22).

الفرق بين الاستهزاء والسخرية وبعض الصفات

الفرق بين الاستهزاء والسخرية وبعض الصفات الفرق بين الاستهزاء والسخرية: (أن الإنسان يستهزأ به من غير أن يسبق منه فعل يستهزأ به من أجله. والسخر: يدل على فعل يسبق من المسخور منه والعبارة من اللفظين تدل عن صحة ما قلناه وذلك أنك تقول استهزأت به فتعدى الفعل منك بالباء والباء للإلصاق كأنك ألصقت به استهزاء من غير أن يدل على شيء وقع الاستهزاء من أجله، وتقول سخرت منه فيقتضي ذلك من وقع السخر من أجله كما تقول تعجبت منه فيدل ذلك على فعل وقع التعجب من أجله) (¬1). الفرق بين السخرية واللعب: (أن في السخرية: خديعة واستنقاصا لمن يسخر به، ولا يكون إلا بذي حياة. وأما اللعب: فقد يكون بجماد، ولذلك أسند سبحانه السخرية إلى الكفار بالنسبة إلى الأنبياء كقوله سبحانه: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ [هود: 38]) (¬2). الفرق بين المزاح والاستهزاء: (أن المزاح لا يقتضي تحقير من يمازحه ولا اعتقاد ذلك ألا ترى أن التابع يمازح المتبوع من الرؤساء والملوك ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم ولكن يقتضي الاستئناس بهم، والاستهزاء: يقتضي تحقير المستهزأ به واعتقاد تحقيره) (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص50). (¬2) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص275). (¬3) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص493).

النهي عن السخرية والاستهزاء في القرآن والسنة

النهي عن السخرية والاستهزاء في القرآن والسنة النهي عن السخرية والاستهزاء في القرآن الكريم: نهى الله سبحانه وتعالى عن السخرية والاستهزاء بكل أشكالها وأنواعها: - قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]. قال ابن كثير: (ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، ... فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ... وقوله: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون ... وقوله: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها. عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنزلت: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (¬1)) (¬2). وقال ابن جرير: (إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك) (¬3). - وقال سبحانه: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة: 1 - 4]. (وَيْلٌ أي: وعيد، ووبال، وشدة عذاب لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الذي يهمز الناس بفعله، ويلمزهم بقوله، فالهماز: الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل، واللماز: الذي يعيبهم بقوله. ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام، ونحو ذلك) (¬4). (ولقد سجل القرآن الكريم عاقبة الساخرين والمستهزئين من المؤمنين وأخبر بانعكاس الوضعية يوم القيامة بصورة يصبح الساخرون موضع سخرية واستهزاء من طرف عباده المستضعفين في هذه الدنيا قال الحق سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 28 - 34]) (¬5). النهي عن السخرية والاستهزاء في السنة النبوية: ¬

(¬1) رواه أبو داود (4962)، وابن ماجه (3030)، وأحمد (4/ 260) (18314)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 466) (11516)، والطبراني (22/ 389) (968)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 307) (6745). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 376). (¬3) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) لابن جرير (22/ 376). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 934). (¬5) ((قضايا اللهو والترفيه)) لمادون رشيد (ص 206).

- عن عائشة قالت قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ((حسبك من صفية كذا وكذا قال غير مسدد تعني قصيرة. فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. قالت وحكيت له إنسانا فقال: ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا)) (¬1). (وقوله: (وقالت بيدها) أي أشارت بها (تعني قصيرة) أي تريد عائشة كونها قصيرة وفي المشكاة قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصيرة ((لقد مزجت بكلمة)) أي أعمالك ((لو مزج)) بصيغة المجهول أي لو خلط (بها) أي على تقدير تجسيدها وكونها مائعة (لمزج) بصيغة المجهول أيضا والمعنى تغير وصار مغلوبا. وفي المشكاة: لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته. قال القاري: أي غلبته وغيرته. قال القاضي: المزج الخلط والتغيير بضم غيره إليه) (¬2). وقوله ((ما أحب أني حكيت إنسانا)): (أي فعلت مثل فعله أو قلت مثل قوله منقصا له يقال حكاه وحاكاه، قال الطيبي: وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح ((وأن لي كذا وكذا)) أي لو أعطيت كذا وكذا من الدنيا أي شيئا كثيرا منها بسبب ذلك فهي جملة حالية واردة على التعميم والمبالغة، قال النووي: من الغيبة المحرمة المحاكاة بأن يمشي متعارجا أو مطاطيا رأسه أو غير ذلك من الهيئات) (¬3). - وعن أم هانئ، رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ((قلت: يا رسول الله، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت: 29] ما كان ذلك المنكر الذي كانوا يأتونه؟ قال: كانوا يسخرون بأهل الطريق ويخذفونهم)) (¬4). قال المباركفوري: (اختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه فقيل كانوا يخذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب، وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم قالته عائشة، وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا، وقيل كانوا يلعبون بالحمام، وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش؛ وقيل يبزق بعضهم على بعض ويلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات) (¬5). - وعن ابن مسعود، ((أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)) (¬6). - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه)) (¬7). قوله: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) قال ابن عثيمين: (يعني يكفي المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهذا تعظيم لاحتقار المسلم، وأنه شر عظيم، لو لم يأت الإنسان من الشر إلا هذا، لكان كافيا، فلا تحقرن أخاك المسلم، لا في خلقته ولا في ثيابه ولا في كلامه ولا في خلقه ولا غير ذلك، أخوك المسلم حقه عليك عظيم فعليك أن تحترمه وأن توقره، وأما احتقاره فإنه محرم، ولا يحل لك أن تحتقره، وكذلك حديث ابن مسعود وحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنهما كلاهما يدل على تحريم احتقار المسلم، وأنه لا يحل له حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث بحديث ابن مسعود، أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا يا رسول الله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ظن الصحابة رضي الله عنهم أن الإنسان إذا تلبس لباسا حسنا وانتعل نعلا حسنا) (¬8). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4875)، والترمذي (2502)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 113). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (118)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (7/ 177). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 524). (¬4) رواه الترمذي (3190)، وأحمد (6/ 341) (26935)، والحاكم (4/ 316)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 310) (6755). قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 424): [فيه] سعيد بن زيد هو عندي في جملة من ينسب إلى الصدق، وقال البيهقي: [له متابعه]. (¬5) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/ 36). (¬6) رواه أحمد (1/ 420) (3991)، والبزار (5/ 221) (1827)، وابن حبان (15/ 546) (7069)، والطبراني (9/ 78) (8452). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 292): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((المسند)) (6/ 39)، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2750): صحيح بطرقه الكثيرة. (¬7) رواه مسلم (2564). (¬8) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 260).

أقوال السلف والعلماء في السخرية والاستهزاء

أقوال السلف والعلماء في السخرية والاستهزاء - عن عبد الله بن مسعود قال: (لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلباً، وإني لأكره أن أرى الرجل فارغاً ليس في عمل آخرة ولا دنيا) (¬1). - وقال أبو موسى الأشعري: (لو رأيت رجلاً يرضع شاة في الطريق فسخرت منه، خفت أن لا أموت حتى أرضعها) (¬2). - وعن الأسود، قال: كنا عند عائشة فسقط فسطاط على إنسان فضحكوا فقالت عائشة: لا سخر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة)) (¬3). - وقال إبراهيم النخعي: (إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله) (¬4). - وقال عمرو بن شرحبيل: (لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فسخرت منه خشيت أن أكون مثله). - وقال يحيي بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. - وقال القرطبي: (من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق) (¬5). - وقال السفاريني: (إن كل من افتخر على إخوانه واحتقر أحدا من أقرانه وأخدانه أو سخر أو استهزأ بأحد من المؤمنين فقد باء بالإثم والوزر المبين) (¬6). - وقال ابن حجر الهيتمي: (لا تحتقر غيرك عسى أن يكون عند الله خيرا منك وأفضل وأقرب) (¬7). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (8/ 390)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (33/ 170)، واللفظ له. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (8/ 389). (¬3) رواه أبو داود الطيالسي في ((المسند)) (3/ 55) (1477). (¬4) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (9/ 118). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (16/ 328). (¬6) ((غذاء الألباب)) للسفاريني (ص 134). (¬7) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 8).

حكم الاستهزاء

حكم الاستهزاء حكم الاستهزاء بالله وآياته ورسوله: حكم الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66] قال ابن تيمية: (وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر) (¬1). ويقول الفخر الرازي في تفسيره: (إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان) (¬2). ويقول السعدي: (إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة) (¬3). حكم الاستهزاء بالمؤمنين: الاستهزاء بالمؤمنين له حالتان: الحالة الأولى: الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين بخَلقهم أو خُلقهم، وهو محرم بالإجماع، قال ابن حجر الهيتمي: (وقد قام الإجماع على تحريم ذلك) (¬4). الحالة الثانية: الاستهزاء بالمؤمنين بسبب تمسكهم بالإسلام، وهذا يراعى فيه أمرين، الأمر الأول: أن يكون المستهزئ جاهلاً بأن ما يستهزئ به من الشريعة الإسلامية. الأمر الثاني: أن لا يقصد المستهزئ باستهزائه ما يقوم به المسلم من الطاعات. فإذا انتفى هذان الأمران، وقصد الاستهزاء بالمسلم بسبب تمسكه بالدين فهذا حكمه الردة عن الإسلام. وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي: (سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة والاستهزاء بالمتمسك بهما نظرا لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة؛ هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (¬5). وسئل الشيخ بن عثيمين عن حكم من يسخر بالملتزمين بدين الله ويستهزئ بهم؟ فأجاب بقوله: (هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق لأن الله قال عن المنافقين: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79]. ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله، لكنهم على خطر عظيم) (¬6). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 31). (¬2) ((التفسير الكبير)) للرازي (16/ 95). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 342). (¬4) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/ 33). (¬5) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 387). (¬6) ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (2/ 158).

آثار ومضار السخرية

آثار ومضار السخرية إن السخرية بكل أشكالها قبيحة وغاية في القبح والظلم والعدوان والشناعة، ولها آثارها ومضارها في الفرد وفي المجتمع الإسلامي، ومن هذه المضار: 1 - أن السخرية والاستهزاء (تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم. 2 - تبذر بذور العداوة والبغضاء. 3 - تولد الرغبة بالانتقام) (¬1). 4 - (أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم. 5 - حُصُول الهَوَان والحَقارة للمستهزئ) (¬2). 6 - تورث الأحقاد والأضغان في الصدور. 7 - من يسخر بالناس يعرض نفسه لغضب الله. 8 - السخرية من المسلم قد تؤدي به إلى خسران حسناته في الآخرة. 9 - (في السّخرية مخالفة صريحة لأمر الله عزّ وجلّ ثمّ هي جالبة لسخطه مستوجبة لعذابه. 10 - السّخرية تفكّك عرى المجتمع وتجعل المستسخر به ناقما على السّاخر متربّصا به يحاول الانتقام لنفسه. 11 - السّخرية نذير شؤم للسّاخرين، فقد كان الغرق عاقبة قوم نوح الّذين كفروا بالله وسخروا من نوح. 12 - السّخرية تفقد السّاخر الوقار وتسقط عنه المروءة. 13 - السّاخر يظلم نفسه بتحقير من وقّره الله عزّ وجلّ واستصغار من عظّمه الله. 14 - السّخرية انتهاك صريح لحقوق الإنسان عامة، ومخلّة بمبدأ تكريم الإنسان على وجه الخصوص. 15 - السّخرية تميت القلب وتورثه الغفلة حتّى إذا كان يوم القيامة ندم السّاخر على ما قدّمت يداه، ولات ساعة مندم أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56]. 16 - السّخرية من سمات الكفّار والمنافقين، وقد نهينا عن التّشبّه بهم. 17 - في ارتكاب السّخرية اقتراف أمر محرّم نهى عنه الشّرع الحنيف. 18 - السّاخرون من النّاس في الدّنيا، يسخر منهم الله عزّ وجلّ، وأنبياؤه الكرام. 19 - السّخرية تنسي الإنسان ذكر ربّه، وبذلك يخسر السّاخر نفسه ويلقي بها في النّار. 20 - السّخرية داء من أدواء الجاهليّة يجب تجنّبه والبعد عنه. 21 - اللّامز لأخيه المؤمن السّاخر منه، إنّما يلمز نفسه ويسخر منها لأنّ المؤمنين كرجل واحد. 22 - السّخرية وما في معناها من الاستهزاء بالضّعفاء والمساكين والتّحقير لهم والإزراء عليهم، كلّ ذلك مبعد من الله عزّ وجلّ. 23 - على السّاخر أن يتوقّع عقوبته في الدّار العاجلة أيضا بأن يحدث له مثل ما حدث للمسخور منه) (¬3). 24 - (بعد الناس عن المستهزئ لخوفهم منه وعدم سلامتهم منه. 25 - يصرف عن قبول الحق واستماع النصح. 26 - يسود بين الطغاة وسفلة الأقوام. 27 - دليل على أن صاحبه عمي القلب لا يرى ما فضل الله به غيره عليه. 28 - آية على جهالة صاحبه لأن من علم قدر الله لم يحتقر عباده) (¬4). ¬

(¬1) مستفاد من كتاب ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 223). (¬2) ((التفسير الكبير)) للرازي (2/ 64). (¬3) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (10/ 4614). (¬4) ((نضرة النعيم)) لمجموعة مؤلفين (9/ 3883).

صور السخرية والاستهزاء

صور السخرية والاستهزاء تختلف صور الاستهزاء حسب ما يصدر من المستهزئ أو الساخر فقد تكون السخرية بالكلام، أو بالهمز واللمز، أو بالنبز بالألقاب أو غير ذلك، ومن هذه الصور: 1 - السخرية: (إن السخرية تنافي ما يوجبه الحق، وهي ظلم قبيح من الإنسان لأخيه الإنسان وعدوان على كرامته، وإيذاء لنفسه وقلبه، ومن آثارها أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم، وتبذر بذور العداوة والبغضاء، وتولد الرغبة بالانتقام، ثم أعمال الانتقام، ما استطاع المظلوم بها إلى ذلك سبيلا) (¬1). قال ابن عباس في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف: 49] (الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك بحالة الاستهزاء) (¬2). قال ابن النحاس: (واعلم أن معنى السخرية والاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقايص على من يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وقد يكون بالضحك كأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط، أو على صنعته أو قبح في صورته ونحو ذلك) (¬3). 2 - الهمز واللمز: اختلف على معنى الهمز واللمز على أقوال منها: (أن الهُمَزَة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزَة: الذي يَلْمِزهم بلسانه، قاله ابن زيد. أن الهُمَزَة: الذي يهمز بلسانه، واللُّمَزَة: الذي يلمز بعينه، قاله سفيان الثوري) (¬4). وقال ابن تيمية: (اللمز: هو العيب والطعن، ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 58] أي يعيبك ويطعن عليك، وقوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 79] وقوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات: 49] أي لا يلمز بعضكم بعضا كقوله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور: 12] ... والهمز: العيب والطعن بشدة وعنف، ومنه همز الأرض بعقبه، ومنه الهمزة وهي نبرة من الصدر) (¬5). و (اللمز هو أن يعيب الإنسان أخاه في وجهه بكلام ولو خفي، ورب لمز خفي هو أشد من طعن صريح، وأعمق جرحاً في داخل النفس، لأن فيه بالإضافة إلى الطعن والتجريح بالعيب معنى استغباء الملموز واستغفاله، فكأن اللامز يشعر الذين في المجلس أن الملموز غبي لا يتنبه إلى الطعن الذي يوجه ضده في رمز الكلام. واللمز قبيحة اجتماعية تورث الأحقاد والأضغان، وتقطع أواصر الأخوة الإيمانية، وهو ظلم من الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوان على حقه عليه) (¬6). قال سبحانه: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير) (¬7). ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 223). (¬2) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/ 34). (¬3) ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص 180). (¬4) ((زاد المسير)) لابن الجوزي (6/ 189). (¬5) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/ 236). (¬6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 226). (¬7) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) لابن جرير (22/ 298).

وقال أبو السعود في تفسيره: (فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبا بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب فلا يجترئ أحد على استحقار أحد فلعله أجمع منه لما نيط به الخيرية عند الله تعالى فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى والاستهانة بمن عظمه الله تعالى) (¬1). الفرق بين الهمز واللمز: (قال المبرد: الهمز هو أن يهمز الإنسان بقول قبيح من حيث لا يسمع أو يحثه ويوسده على أمر قبيح أي يغريه به، واللمز أجهر من الهمز وفي القرآن هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ولم يقل لمزات لأن مكايدة الشيطان خفية، قال الشيخ رحمه الله: المشهور عند الناس إن اللمز العيب سرا، والهمز العيب بكسر العين وقال قتادة: يلمزك في الصدقات يطعن عليك وهو دال على صحة القول الأول الفرق بين الهمزة واللمزة: قيل هما بمعنى. وقيل بينهما فرق. فإن الهمزة: الذي يعكس بظهر الغيب. واللمزة: الذي يعكس في وجهك. وقيل: الهمزة: الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه. واللمزة: الذي يكثر عيبه على جليسه، ويشير برأسه، ويومئ بعينه) (¬2). 3 - التنابز بالألقاب: (اللقب: هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه وغير كنيته، وهو قسمان: قبيح، وهو ما يكرهه الشخص لكونه تقصيراً به وذماً؛ وحسن، وهو بخلاف ذلك، كالصديق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وأسد الله لحمزة، رضي الله تعالى عنهم) (¬3). قال ابن عباس: (التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف) (¬4). ثم إن التنابز بالألقاب التي هي (مما يؤذي الناس، إذ يحمل معنى التحقير والإهانة، نهى الله عنه، وجعله من المحرمات، وجعله من الفسوق والظلم، وربما يصل التنابز بالألقاب إلى مستوى الشتيمة، كالنبز بالحمار والثور والكلب ونحو ذلك. ومن شأن التنابز بالألقاب أنه يقطع أواصر الأخوة الإيمانية، ويفسد المودات ويولد العداوات والأحقاد، وربما يوصل إلى التقاتل مع ثورات الغضب وهيجان الحماقات) (¬5). ويستثنى من النهي بالتنابز بالألقاب؛ الألقاب الحسنة كالصديق، والفاروق وغيرها. وكذلك التي هي للشهرة كالأعمش وغيرها. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ [الحجرات: 11]: (من لقب أخاه وسخر به فهو فاسق. والسخرية الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص يوم يضحك منه، وقد يكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبيح صورته) (¬6). وقال الخازن: (قال بعض العلماء: المراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يفيد ذما له، فأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها كالأعمش والأعرج وما أشبه ذلك فلا بأس بها إذا لم يكرهها المدعو بها، وأما الألقاب التي تكسب حمدا ومدحا تكون حقا وصدقا فلا يكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين ولعلي: أبو تراب ولخالد سيف الله ونحو ذلك) (¬7). 4 - التعيير والتهكم: ¬

(¬1) ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود (6/ 186). (¬2) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص 559). (¬3) ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان الأندلسي (8/ 79). (¬4) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (22/ 301 - 302). (¬5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 227). (¬6) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (2/ 34). (¬7) ((لباب التأويل)) للخازن (4/ 181).

معنى التعيير (أن يريد الإنسان ذم رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه أو لعداوته أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ... ) (¬1). وقال الكفوي في معنى التهكم: (هو ما كان ظاهره جدا وباطنه هزلا والهزل الذي يراد به الجد بالعكس ولا تخلو ألفاظ التهكم من لفظة من اللفظ الدال على نوع من أنواع الذم أو لفظة من معناها الهجو) (¬2). فعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله قال: ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)) (¬3). وعن المعرور بن سويد، قال: ((لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) (¬4). ¬

(¬1) ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) لابن رجب (ص 25). (¬2) ((الكليات)) للكفوي (ص 303). (¬3) رواه الترمذي (2032)، وابن حبان (13/ 75) (5763). قال الترمذي: حسن غريب، وصحح إسناده الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/ 344)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 451) كما قال في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه البخاري (30).

أسباب السخرية والاستهزاء

أسباب السخرية والاستهزاء أسباب السخرية ودوافعها كثيرة منها: 1 - (الكبر الذي يلازمه بطر الحق وغمط الناس. 2 - الرغبة بتحطيم مكانة الآخرين. 3 - التسلية والضحك على حساب آلام الآخرين. 4 - الاستهانة بأقوال الآخرين وأعمالهم، أو خلقتهم، أو طبائعهم، أو أسرهم أو أنسابهم إلى غير ذلك) (¬1). 5 - الفراغ وحب إضحاك الآخرين. ¬

(¬1) مستفاد من كتاب ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 223).

سوء الظن

معنى سوء الظن لغة واصطلاحاً معنى السوء لغة: قال ابن منظور: (ساءه يسوءه سوءا وسواء ... فعل به ما يكره، نقيض سره. والاسم: السوء بالضم. وسؤت الرجل سواية ومساية، يخففان، أي ساءه ما رآه مني .. وسؤت به ظنا، وأسأت به الظن ... ويقال أسأت به وإليه وعليه وله) (¬1). معنى الظن لغة: قال ابن منظور: (ظننت ذلك ... وظننته ظنا وأظننته واظطننته: اتهمته. والظنة: التهمة .. والظنين: المتهم الذي تظن به التهمة، ومصدره الظنة، والجمع الظنن؛ يقال منه: اظنه واطنه، بالطاء والظاء، إذا اتهمه. ورجل ظنين: متهم من قوم أظناء؛ قال أبو عبيد: قوله يظن يعني يتهم) (¬2). معنى سوء الظن اصطلاحاً: قال الماوردي: (سوء الظن: هو عدم الثقة بمن هو لها أهل) (¬3). وقال ابن القيم: (سوء الظن: هو امتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على اللسان والجوارح) (¬4). وقال ابن كثير: سوء الظن (هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله) (¬5). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) ابن منظور (1/ 95 - 96) بتصرف يسير (¬2) ((لسان العرب)) ابن منظور (13/ 273) (¬3) ((أدب الدنيا والدين)) الماوردي (1/ 186) (¬4) ((الروح)) ابن القيم (1/ 238) بتصرف يسير (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) ابن كثير (7/ 377)

الفرق بين سوء الظن وبعض الصفات

الفرق بين سوء الظن وبعض الصفات الفرق بين سوء الظن والاحتراز: قال ابن القيم: (الفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه فالمحترز كالمتسلح المتطوع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعد له عدته فهمه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق وكل مكان يتوقع منه الشر وكذلك. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه فهم معه أبدا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض ببغضهم ويبغضونه ويلعنهم ويلعنونه ويحذرهم ويحذرون منه فالأول يخالطهم ويحترز منهم والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض) (¬1). الفرق بين الفراسة وسوء الظن: قال أبو طالب المكي: (الفرق بين الفراسة وسوء الظن: إنَّ الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك أو شاهد يبدو منه أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه ولا تنطق به إنْ كان سوءاً، ولا تظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم. وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم) (¬2). ¬

(¬1) انظر: ((الروح)) ابن القيم (1/ 237_ 238) بتصرف. (¬2) ((قوت القلوب)) أبو طالب المكي (2/ 371).

ذم سوء الظن والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم سوء الظن والنهي عنه في القرآن والسنة ذم سوء الظن والنهي عنه من القرآن الكريم: - قال تعالى في ذم سوء الظن بالله تعالى وعاقبة من فعل ذلك: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154.] قال ابن القيم: (فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويظهره على الدين كله .. وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهيه، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله) (¬1). - وقال سبحانه في عاقبة من ظن به السوء: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 22 - 23]. قال أبو حيان الأندلسي: (هذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله) (¬2). ¬

(¬1) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 206) بتصرف يسير، ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 449). (¬2) ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان الأندلسي (9/ 300)

قال السعدي: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ بإقدامكم على المعاصي أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ فلذلك صدر منكم ما صدر، وهذا الظن، صار سبب هلاكهم وشقائهم ولهذا قال: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ الظن السيئ، حيث ظننتم به، ما لا يليق بجلاله. أَرْدَاكُمْ أي: أهلككم فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ لأنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب الأعمال التي أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم، فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء، ووجب عليكم الخلود الدائم، في العذاب، الذي لا يفتر عنهم ساعة) (¬1). - ثم أوضح سبحانه صورة هذا الهلاك والخسران بقوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]. قال ابن القيم: (توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]) (¬2). وقال الشوكاني: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. أي: يعذبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام وقهر المخالفين له، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم .. عليهم دائرة السوء أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم، حائق بهم، والمعنى: أن العذاب والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم ... وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا) (¬3). - وقال سبحانه في ذم سوء الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]. قال ابن كثير: (قال تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا) (¬4). وقال السعدي: (نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه) (¬5). ذم سوء الظن والنهي عنه من السنة النبوية: - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) (¬6). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 747) (¬2) ((الداء والدواء)) لابن القيم (1/ 138). (¬3) انظر ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 54) بتصرف يسير. (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 377) (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 801) (¬6) رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563).

قال الصنعاني: (المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والظن)) سوء الظن به تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين - وقوله فإن الظن أكذب الحديث سماها حديثا؛ لأنه حديث النفس، وإنما كان الظن أكذب الحديث؛ لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره. وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء فيخفى على السامع كونه كاذبا بحسب الغالب فكان أكذب الحديث، والحديث وارد في حق من لم يظهر منه شتم ولا فحش ولا فجور) (¬1). وقال الملا علي القاري: (إياكم والظن أي احذروا اتباع الظن في أمر الدين الذي مبناه على اليقين قال تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: 36] قال القاضي: التحذير عن الظن فيما يجب فيه القطع أو التحدث به عند الاستغناء عنه أو عما يظن كذبه .. أو اجتنبوا الظن في التحديث والإخبار، ويؤيده قوله: (فإن الظن): في موضع الظاهر زيادة تمكين في ذهن السامع حثا على الاجتناب أكذب الحديث) (¬2). - وعن صفية بنت حيي قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال: شيئا)) (¬3). قال النووي: (الحديث فيه فوائد منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومراعاته لمصالحهم وصيانة قلوبهم وجوارحهم وكان بالمؤمنين رحيما فخاف صلى الله عليه وسلم أن يلقى الشيطان فى قلوبهما فيهلكا فإن ظن السوء بالأنبياء كفر بالإجماع والكبائر غير جائزة عليهم وفيه أن من ظن شيئا من نحو هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر .. وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء) (¬4). - وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (2/ 664، 665). (¬2) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) للملا علي القاري (8/ 3147). (¬3) رواه البخاري (3281)، ومسلم (2175). (¬4) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (14/ 156 - 157). (¬5) رواه أبو داود (4889)، وأحمد (6/ 4) (23866)، والطبراني (8/ 108) (7516)، والحاكم (4/ 419)، والبيهقي (8/ 333) (17402). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 242): [فيه] إسماعيل بن عياش وجبير بن نفير أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو في التابعين وكثير بن مرة نص الأئمة على أنه تابعي وذكره عبدان في الصحابة، قال الهيثمى (5/ 218): رواه أحمد والطبرانى، ورجاله ثقات، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 469) كما قال في المقدمة، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (1956)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

قال المناوي: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة: أي طلب الريبة أي التهمة في الناس بنية فضائحهم أفسدهم وما أمهلهم وجاهرهم بسوء الظن فيها فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ورموا به ففسدوا ومقصود الحديث حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات فإن بذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام والإنسان قل ما يسلم من عيبه فلو عاملهم بكل ما قالوه أو فعلوه اشتدت عليهم الأوجاع واتسع المجال بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتبع عوراتهم ولا يتجسس عليهم) (¬1). أقوال السلف والعلماء في ذم سوء الظن: - قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم) (¬2). - وعنه أيضاً: (ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن) (¬3). - وقال ابن عباس: (إن الله قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء) (¬4). - وقال ابن مسعود: (الأمانة خير من الخاتم. والخاتم خير من ظن السوء) (¬5). - وقال سلمان الفارسي: (إني لأعد غراف قدري مخافة الظن) (¬6). - وقال ابن عطية: (كان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه) (¬7). - وقال القاضي عياض: (ظن السوء بالأنبياء كفر) (¬8). - وقال الغزالي: (سوء الظن غيبة بالقلب) (¬9). - وقال الخطابي: (الظن منشأ أكثر الكذب) (¬10). - وقال إسماعيل بن أمية: (ثلاث لا يعجزن ابن آدم الطيرة وسوء الظن والحسد قال فينجيك من الطيرة ألا تعمل بها وينجيك من سوء الظن ألا تتكلم به وينجيك من الحسد ألا تبغي أخاك سوءا) (¬11). - وقال الحارث المحاسبي: (احم القلب عن سوء الظن بحسن التأويل) (¬12). ¬

(¬1) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 323) (¬2) ذكره الزمخشري في ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) (3/ 257). (¬3) ذكره الزمخشري في ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) (3/ 257). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (2/ 177)، قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 221): أخرجه الحاكم في التاريخ من حديث ابن عباس دون قوله: و (عرضه)، ورجاله ثقات. (¬5) ذكره ابن عطية في ((المحرر الوجيز)) (5/ 134). وقد رواه ابن أبي شيبة مسندا عن أبي ذر (13/ 341) (¬6) ذكره ابن عطية في ((المحرر الوجيز)) (5/ 134). (¬7) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) لابن عطية (5/ 151) (¬8) ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (7/ 63) (¬9) ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (2/ 177) (¬10) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (23/ 232) (¬11) ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 85) (¬12) ((رسالة المسترشدين)) للحارث المحاسبي (1/ 89)

أقسام سوء الظن وحكم كل قسم منها

أقسام سوء الظن وحكم كل قسم منها الحكم على سوء الظن يشمل قسمين: سوء ظن الذي يؤاخذ به صاحبه. وسوء الظن الذي لا يؤاخذ به صاحبه. القسم الأول: سوء الظن الذي يؤاخذ به صاحبه: وضابط هذا النوع: هو كل ظن ليس عليه دليل صحيح معتبر شرعا استقر في النفس وصدقه صاحبه واستمر عليه وتكلم به وسعى في التحقق منه (¬1). وهو أنواع ولكل نوع حكم خاص وهو كالتالي: 1 - سوء الظن المحرم: ويشمل سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمؤمنين. فسوء الظن بالله تعالى من أعظم الذنوب: قال ابن القيم: (أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به) (¬2). وقال الماوردي: (سوء الظن هو عدم الثقة بمن هو لها أهل، فإن كان بالخالق كان شكا يؤول إلى ضلال) (¬3). أما سوء الظن بالمؤمنين: ويشمل سوء الظن بالأنبياء وهو كفر، قال النووي: (ظن السوء بالأنبياء كفر بالإجماع) (¬4). وسوء الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين. وقد عد الهيثمي سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة من الكبائر (¬5). 2 - سوء الظن الجائز: (¬6) ويشمل: سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب، والمجاهرة بالمعاصي. وسوء الظن بالكافر. قال ابن عثيمين: (يحرم سوء الظن بمسلم، أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك، وأما من عُرف بالفسوق والفجور، فلا حرج أن نسيء الظن به؛ لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها؛ لأنه قد يكون متجسساً بهذا العمل) (¬7). 3 - سوء الظن المستحب: وهو ما كان بين الإنسان وعدوه، قال أبو حاتم البستي:- ما - (يستحب من سوء الظن .. كمن بينه وبينه عداوة أو شحناء في دين أو دنيا يخاف على نفسه مكره فحينئذ يلزمه سوء الظن بمكائده ومكره لئلا يصادفه على غرة بمكره فيهلكه) (¬8). 4 - سوء الظن الواجب: وهو ما احتيج لتحقيق مصلحة شرعية كجرح الشهود ورواة الحديث (¬9). حكم سوء الظن بالنفس: سوء الظن بالنفس اختلف فيه العلماء، فمنهم من رأى الاستحباب. قال ابن القيم: (أما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالا، فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك. فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه) (¬10). ¬

(¬1) انظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 123)، ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (16/ 119). (¬2) ((الداء والدواء)) لابن القيم (1/ 138)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 150) (¬3) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (1/ 186). (¬4) ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (7/ 63)، ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج))، للنووي (14/ 156 - 157). (¬5) انظر: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 130). (¬6) ((الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل)) للزمخشري (4/ 371 - 372) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (5/ 300)، ا ((لأذكار)) للنووي (1/ 344). (¬7) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (5/ 300). (¬8) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لأبي حاتم البُستي (1/ 127). (¬9) ((الأذكار)) للنووي (1/ 341). (¬10) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (1/ 189)، ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (1/ 235 - 236).

وضابط سوء الظن بالنفس، كما قال الشيخ سفر الحوالي: (العبرة المأخوذة من حديث الصادق المصدوق - إنما الأعمال بالخواتيم - .. هو اتهام النفس، فلا يتهم ربه، وإنما يتهم الإنسان نفسه بالتقصير، ويعاملها بالاتهام ليدفع عنها الغرور والعجب، دون أن يخرجه ذلك إلى حد سوء الظن بالله، أو اليأس من رحمته؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا ييأس الإنسان من روح الله ولا يقنط من رحمته، لكن ليجتهد في الطاعات، ومع ذلك يتهم نفسه وعمله ولا يدري أقبل عمله أم لم يقبل؟ مع ثقته في أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عمل عامل من المؤمنين أبدا) (¬1). ومنهم من رأى الكراهة؛ قال الماوردي: (منهم من كرهه لما فيه من اتهام طاعتها، ورد مناصحتها. فإن النفس وإن كان لها مكر يردي فلها نصح يهدي. فلما كان حسن الظن بها يعمي عن مساوئها، كان سوء الظن بها يعمي عن محاسنها. ومن عمي عن محاسن نفسه كان كمن عمي عن مساوئها، فلم ينف عنها قبيحا ولم يهد إليها حسنا. وقال الأحنف بن قيس: من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، ومن هدم دينه كان لمجده أهدم) (¬2). - ومنهم من قال بالموازنة بين سوء الظن وحسن الظن. قال الجاحظ:- ينبغي على المرء أن - (يكون في التهمة لنفسه معتدلا، وفي حسن الظن بها مقتصدا، فإنه إن تجاوز مقدار الحقّ في التهمة لنفسه ظلمها، فأودعها ذلة المظلومين، وإن تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها، آمنها فأودعها تهاون الآمنين. ولكل ذلك مقدار من الشغل، ولكل شغل مقدار من الوهن، ولكل وهن مقدار من الجهل) (¬3). القسم الثاني: سوء الظن الذي لا يؤاخذ به صاحبه: وضابطه: هو الخواطر الطارئة غير المستقرة التي يجاهدها صاحبها ولا يسعى للتحقق منها. قال النووي: (الخواطر، وحديث النفس، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل)) قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقر. قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفرا أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطر من غير تعمد لتحصيله، ثم صرفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه .. وسبب العفو ما ذكرناه من تعذر اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراما ومهما عرض لك هذا الخاطر بالغيبة وغيرها من المعاصي، وجب عليك دفعه بالإعراض عنه وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره) (¬4). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لسفر الحوالي. (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 234 - 235). (¬3) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 95 - 96). (¬4) ((الأذكار)) للنووي (1/ 345)، ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (3/ 150).

الآثار السيئة لسوء الظن

الآثار السيئة لسوء الظن هنالك مضار وآثار سيئة لسوء الظن بالله وبالناس، ومن هذه الآثار أنه: 1 - سبب للوقوع في الشرك والبدعة والضلال: سوء الظن بالله سبب في الوقوع في الشرك، قال ابن القيم: (الشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى .. لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 86 - 87]) (¬1). قال المقريزي: (اعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين. أحدهما: .. الظن بالله ظن السوء) (¬2). 2 - صفة من لا يحبهم الله تعالى: قال تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 23]. قال ابن القيم: (كل مبطل وكافر ومبتدع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن وأنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه، فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد) (¬3). 3 - سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه: قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]. قال ابن القيم: (توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]) (¬4). 4 - يورث الإنسان الأخلاق السيئة: سوء الظن يورث الإنسان الأخلاق السيئة كالجبن والبخل والشح والحقد والحسد والتباغض قال ابن عباس: (الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل) (¬5). وقال ابن القيم: (الشح فهو خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس ويمده وعد الشيطان) (¬6). وقال المهلب: (التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن، وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على أسوأ التأويل) (¬7). 5 - من أساء الظن أساء العمل: قال الطبري – بسنده إلى الحسن -: (تلا الحسن: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم; فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل; وأما الكافر والمنافق، فأساءا الظن فأساءا العمل) (¬8). 6 - سبب في وجود الأحقاد والعداوة: ¬

(¬1) انظر: ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/ 60 - 62). (¬2) ((رسائل المقريزي)) للمقريزي (1/ 102) بتصرف يسير. (¬3) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) ابن القيم (3/ 211) ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (4/ 1356) ((الداء والدواء)) لابن القيم (1/ 138). (¬4) ((الداء والدواء)) لابن القيم (1/ 138). (¬5) ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مفلح (1/ 47) (¬6) ((الروح)) لابن القيم (1/ 237). (¬7) ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (9/ 261). (¬8) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (21/ 456 - 457).

فإن الظن السيئ (يزرع الشقاق بين المسلمين ويقطع حبال الأخوة ويمزق وشائج المحبة ويزرع العداء والبغضاء والشحناء) (¬1). قال ابن القيم: (أما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه فهم معه أبداً في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض، ببغضهم ويبغضونه ويلعنهم ويلعنونه ويحذرهم ويحذرون منه ... ويلحقه أذاهم .. خارج منهم مع الغش والدغل والبغض) (¬2). 7 - يؤدي إلى تتبع عورات المسلمين: قال الغزالي: (من ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضا منهي عنه قال الله تعالى ولا تجسسوا فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه) (¬3). 8 - سبب للمشاكل العائلية: قال عبد العزيز السلمان: (من أسباب المشاكل العائلية سوء الظن من أحدهما وغضبه قبل التذكر والتثبت فيقع النزاع وربما حصل فراق ثم تبين الأمر خلاف الظن) (¬4). وقال ابن القيم: (الغيرة مذمومة منها غيرة يحمل عليها سوء الظن فيؤذى بها المحب محبوبه ويغري عليه قلبه بالغضب وهذه الغيرة يكرهها الله إذا كانت في غير ريبة ومنها غيرة تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقه) (¬5). 9 - إضعاف الثقة بين المؤمنين: (¬6) 10 - من مداخل الشيطان الموقعة في كبائر الذنوب: قال الغزالي: (من عظيم حيل الشيطان .. سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] فمن يحكم بشر على غيره بالظن بعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيرا منه وكل ذلك من المهلكات) (¬7). 11 - سبب في مرض القلب وعلامة على خبث الباطن: قال الغزالي: (مهما رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق) (¬8). 12 - يسبب عدم الثقة بالآخرين: قال الزمخشري: (قيل لعالم:- من أسوأ الناس حالا؟ قال:- من لا يثق بأحد لسوء ظنّه، ولا يثق به أحد لسوء فعله) (¬9). ¬

(¬1) ((ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحديث)) لمحمد عبد الحكيم (1/ 210). (¬2) ((الروح)) لابن القيم (1/ 238). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (3/ 152). (¬4) ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) لعبد العزيز السلمان (4/ 272). (¬5) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (1/ 311). (¬6) ((الرائد دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (2/ 168). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 36). (¬8) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 36). (¬9) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 298).

صور سوء الظن

صور سوء الظن لسوء الظن صور عديدة في شتى أقسامه لا يمكن حصرها فكل الناس إلا من رحم الله واقع فيها. قال ابن القيم: (أكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ... فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع) (¬1). ¬

(¬1) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 211).

أسباب الوقوع في سوء الظن

أسباب الوقوع في سوء الظن 1 - الجهل وسوء القصد والفهم: فالجهل من الأسباب الذي يؤدي إلى سوء الظن بسبب عدم فهم حقيقة (ما يرى وما يقرأ ومرمى ذلك وعدم إدراك حكم الشرع الدقيق في هذه المواقف خصوصا إذا كانت المواقف غريبة، تحتاج إلى فقه دقيق ونظر بعيد يجعل صاحبه يبادر إلى سوء الظن والاتهام بالعيب والانتقاص من القدر فانظر إلى ذي الخويصرة الجهول لماذا أساء الظن بالرسول واتهمه بعدم الإخلاص؟ فقال اعدل يا محمد فما عدلت هذه قسمة ما أريد بها وجه الله لقد دفعه إلى الظن السيئ والفعل القبيح جهله وسطحية فهمه وقلة فقهه لمقاصد الشريعة ومصالح الدين الشرعية) (¬1). 2 - اتباع الهوى وتعميم الأحكام على الناس: قال الغزالي: (المسلم يستحق بإسلامه عليك أن لا تسيء الظن به فإن أسأت الظن به في عينه لأنك رأيت فسادا من غيره فقد جنيت عليه وأثمت به في الحال .. ويدل عليه أنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم في غزواتهم وأسفارهم كانوا ينزلون في القرى ولا يردون القرى ويدخلون البلاد ولا يحترزون من الأسواق وكان الحرام أيضا موجودا في زمانهم وما نقل عنهم سؤال إلا عن ريبة إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن كل ما يحمل إليه بل سأل في أول قدومه إلى المدينة عما يحمل إليه أصدقة أم هدية لأن قرينة الحال تدل وهو دخول المهاجرين المدينة وهم فقراء فغلب على الظن أن ما يحمل إليهم بطريق الصدقة) (¬2). 3 - مصاحبة أهل الفسق والفجور: قال أبو حاتم البستي: (صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب لئلا يكون مريبا فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر) (¬3). 4 - التواجد في مواطن التهم والريب: من أسباب إساءة الناس الظن بالمرء تواجده في أماكن الريب والفجور ولهذا قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من أساء به الظن) (¬4). 5 - الحقد والحسد على المظنون به: قال أبو طالب المكي: (سوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم) (¬5). 6 - الإسراف في الغيرة: ((إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة)) (¬6). قال الغزالي: (لأن ذلك من سوء الظن الذي نهينا عنه فإن بعض الظن إثم. وقال علي رضي الله عنه: لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالسوء من أجلك) (¬7). ¬

(¬1) ((ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحديث)) لمحمد عبد الحكيم (1/ 201 - 202). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (2/ 119). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لأبي حاتم البُستي (1/ 100). (¬4) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (445). وللأثر طرق أخرى كلها ضعيفة. (¬5) ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 371). (¬6) رواه أبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، وأحمد (5/ 445) (23801)، والدارمي (2/ 200) (2226)، والبيهقي (7/ 308) (15198). من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (25/ 108): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 325)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 46).

الوسائل المعينة على ترك سوء الظن

الوسائل المعينة على ترك سوء الظن 1 - الاستعاذة بالله والتوقف عن الاسترسال في الظنون: إذا كان سوء الظن الوارد متعلق بالله سبحانه وتعالى فمما ورد في علاج ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) (¬1). 2 - معرفة أسماء الله وصفاته على منهج السلف الصالح: قال ابن القيم: (أكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء) (¬2). 3 - الخوف من عقوبة من يسيء الظن: قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) (¬3). قال ابن عثيمين: (أما من فُتن ـ والعياذ بالله ـ وصار يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها، وإذا رأى شيئاً يحتمل الشر ولو من وجه بعيد طار به فرحاً ونشره، فليبشر بأن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر بيته) (¬4). 4 - سوء الظن بالنفس واتهامها بالتقصير: قال ابن القيم: (ليظن – العبد - السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى) (¬5). 5 - المداومة على محاسبة النفس والاستغفار: قال ابن القيم: (فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء) (¬6). 6 - معرفة حكم سوء الظن بالمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ثلاث مرات: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) (¬7). 7 - ترك التحقق من الظنون السيئة: ¬

(¬1) رواه البخاري (3276)، ومسلم (134). (¬2) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 206). (¬3) رواه الترمذي (2032)، وابن حبان (13/ 75) (5763). قال الترمذي: حسن غريب، وصحح إسناده الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/ 344)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 451) كما قال في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (5/ 301). (¬5) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 211). (¬6) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 211). (¬7) رواه مسلم (2564).

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. 8 - أن يتأول ما ظاهره السوء وأن يجد له مخرجاً: قال عمر بن الخطاب: (لا يحل لامرئٍ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءاً، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً) (¬1). وقال ابن عباس رضي الله عنه: (ما بلغني عن أخٍ مكروهٌ قطّ إلا أنزلته إِحدى ثلاث منازل: إن كان فَوقي عرفتُ له قدره، وإن كان نظيري تفضّلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرضُ الله واسعة) (¬2). 9 - عدم مصاحبة من ابتلي بإساءة الظن: قال أبو حاتم البستي: (الواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب لئلا يكون مريبا فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر) (¬3). 10 - البعد عن مواطن التهم والريب: عن صفية بنت حيي، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا، أو قال: شيئا)) (¬4). قال ابن بطال: (في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها صفية)) السنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك في البعد عن التهم ومواقف الريب) (¬5). وقال الغزالي: (حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله فيقول مثلي لا يظن به إلا الخير إعجابا منه بنفسه فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ... فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر) (¬6). وقال أيضاً: - ينبغي على المرء - (أن يتقي مواضع التهم صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا عصوا الله بذكره وكان هو السبب فيه كان شريكا قال الله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كيف ترون من يسب أبويه فقالوا: وهل من أحد يسب أبويه فقال: نعم يسب أبوي غيره فيسبون أبويه))) (¬7). ¬

(¬1) ذكره ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (18/ 20). (¬2) ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 13) وعزاه إلى أبي حفص العكبري في ((الأدب)). (¬3) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لأبي حاتم البُستي (1/ 100). (¬4) رواه البخاري (3281)، ومسلم (2175). (¬5) ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (4/ 175). (¬6) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 36). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي (2/ 201) والحديث أصله في الصحيحين رواه البخاري (5973)، ومسلم (90) ولفظ البخاري: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

سوء الظن في واحة الشعر ..

سوء الظن في واحة الشعر .. قال أبو الطيب: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم (¬1) وقال الشاعر: وإني بها في كل حال لواثق ... ولكن سوء الظن من شدة الحب (¬2) وقال ابن القيم: فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول وقل: يا نفس مأوى كل سوء ... أترجو الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوأى ... تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن ... الرحمن فاشكر للدليل (¬3) وقال الشاعر: وحسن الظن يحسن في أمور ... ويمكن في عواقبه ندامه وسوء الظن يسمج في وجوه ... وفيه من سماجته حزامه وقال بلعاء بن قيس: وأبغى صواب الظنّ أعلم أنّه ... إذا طاش ظنّ المرء طاشت مقادره (¬4) ... ¬

(¬1) ((العزلة)) للخطابي (1/ 31). (¬2) ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مفلح (1/ 47). (¬3) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 211، 212). (¬4) ((البرصان والعرجان والعميان والحولان)) للجاحظ (1/ 23).

الطمع

معنى الطمع لغة واصطلاحاً: معنى الطمع لغة: طمع: طَمِعَ طَمَعاً فهو طامِعٌ، وأطْمعَهُ غيره، وإنه لطَمِعٌ: حريص (¬1). وطَمَعاً وطماعة صَار كثير الطمع ... والطمع الأمل والرجاء وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِيمَا يقرب حُصُوله، الطماع: الْكثير الطمع (¬2). معنى الطمع اصطلاحاً: قال الرّاغب: (نزوع النّفس إلى الشّيء شهوة له) (¬3). وقال المناويّ: (الطّمع تعلّق البال بالشّيء من غير تقدّم سبب له) (¬4). وقال العضد: (الطّمع ذلّ ينشأ من الحرص والبطالة والجهل بحكمة الباري) (¬5). مرادفات الطمع: ومن مرادفات الطمع: الحرص، والجشع، والشَره، والرتع (¬6). ¬

(¬1) ((كتاب العين)) للخليل بن أحمد (2/ 27). (¬2) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (2/ 566). (¬3) ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص524). (¬4) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص228). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص228). (¬6) ((الألفاظ المؤتلفة)) لابن مالك الطائي (ص192).

الفرق بين الطمع وبعض الصفات

الفرق بين الطمع وبعض الصفات الفرق بين الحرص والطمع: قيل: الحرص أشد الطمع، وعليه جرى قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة: 286]. لأن الخطاب فيه للمؤمنين. وقوله - سبحانه -: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل: 37]، فإن الخطاب فيه مقصور على النبي صلى الله عليه وآله. ولا شك أن رغبته صلى الله عليه وآله في إسلامهم وهدايتهم كان أشد، وأكثر من رغبة المؤمنين المشاركين له في الخطاب الأول في ذلك (¬1). الفرق بين الأمل والطمع: قيل: أكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله، فإن من عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: (أملت الوصول إليه) ولا يقول: (طمعت) إلا إذا قرب منه، فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرب حصوله. وقد يكون الأمل بمعنى الطمع (¬2). الفرق بين الرجاء والطمع: أن الرجاء هو الظن بوقوع الخير الذي يعتري صاحبه الشك فيه إلا أن ظنه فيه أغلب وليس هو من قبيل العلم، والشاهد أنه لا يقال أرجو أن يدخل النبي الجنة لكون ذلك متيقناً. ويقال أرجو أن يدخل الجنة إذا لم يعلم ذلك. والرجاء الأمل في الخير والخشية والخوف في الشر لأنهما يكونان مع الشك في المرجو والمخوف ولا يكون الرجاء إلا عن سبب يدعو إليه من كرم المرجو أو ما به إليه، ويتعدى بنفسه تقول رجوت زيداً والمراد رجوت الخير من زيد لأن الرجاء لا يتعدى إلى أعيان الرجال. والطمع ما يكون من غير سبب يدعو إليه فإذا طمعت في الشيء فكأنك حدثت نفسك به من غير أن يكون هناك سبب يدعو إليه، ولهذا ذم الطمع ولم يذم الرجاء، والطمع يتعدى إلى المفعول بحرف فتقول طمعت فيه كما تقول فرقت منه وحذرت منه واسم الفاعل طمع مثل حذر وفرق ودئب؛ إذا جعلته كالنسبة، وإذا بنيته على الفعل قلت طامع (¬3). الفرق بين الطمع والرجاء والأمل: الطمع يقارب الرجاء، والأمل. لكن الطمع أكثر ما يقال فيما يقتضيه الهوى. والأمل والرجاء قد يكونان فيما يقتضيه الفكر والروية. ولهذا أكثر ذم الحكماء للطمع، حتى قيل الطمع طبع، والطمع يدنس الثياب، ويفرق الإهاب (¬4). الْفرق بَين التوقع والطمع: أن التوقع: هو انتظار شيء وقع أو قرب وقوعه. والطمع: هو إرادة شيء بعد وقوعه (¬5). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) للراغب (1/ 183). (¬2) ((الفروق اللغوية)) للراغب (1/ 73). (¬3) ((الفروق اللغوية)) للراغب (1/ 248). (¬4) ((تفسير الراغب)) (1/ 235). (¬5) ((دستور العلماء)) لعبد النبي بن عبد الرسول (1/ 238).

ذم الطمع في القرآن والسنة

ذم الطمع في القرآن والسنة ذم الطمع والنهي عنه في القرآن الكريم - قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: 41]. قال السدي: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع (¬1). وعن قتادة،، قال: (أنبأكم الله بمكانهم من الطمع) (¬2). - وقال جل في علاه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص: 24]. قال عبد القادر العاني: لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: بسائق الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل إن لم يتولّهم الله بلطفه (¬3). ذم الطمع والنهي عنه في السنة النبوية: - عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) (¬4). قال القاري: (والمعنى أن حرص المرء عليهما أكثر فساداً لدينه المشبه بالغنم لضعفه بجنب حرصه من إفساد الذئبين للغنم) (¬5). وقال المناوي: (فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعا) (¬6). - وعن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يقول: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً، فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذه، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك)) (¬7). قال القاري: (قال الطيبي: الإشراف الاطلاع على شيء والتعرض له، والمقصود منه الطمع، أي: والحال أنك غير طامع له (ولا سائل فخذه) أي: فاقبله وتصدق به إن لم تكن محتاجاً (وما لا) أي: وما لا يكون كذلك بأن لا يجيئك هنالك إلا بتطلع إليه واستشراف عليه، (فلا تتبعه نفسك) من الإتباع بالتخفيف، أي: فلا تجعل نفسك تابعة له ولا توصل المشقة إليها في طلبه) (¬8). - وعن أبي بن كعب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال: فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب البينة: 1 قال: فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، لسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه، لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية، غير المشركة، ولا اليهودية، ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا، فلن يكفره)) (¬9). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (1/ 97). (¬2) ((جامع البيان في تفسير آي القرآن)) للقرطبي (10/ 226). (¬3) ((بيان المعاني)) (1/ 304). (¬4) رواه الترمذي (2376)، وأحمد (3/ 456) (15822)، والدارمي (3/ 1795) (2772). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7908)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5620). (¬5) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (8/ 3243). (¬6) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 445). (¬7) رواه مسلم (1045). (¬8) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (4/ 1312). (¬9) رواه الترمذي (3898)،وأحمد (5/ 131) (21240)، والحاكم (2/ 244). قال الترمذي: حسن صحيح وقد روي من غير هذا الوجه. وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 141):فيه عاصم ابن بهدلة، وثقه قوم وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح.

قال ابن بطال: (وأشار صلى الله عليه وسلم بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة والكفاف فراراً من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك صلى الله عليه وسلم تواضعاً لله وتعليماً لأمته، وحضاً لهم على إيثار الزهد في الدنيا) (¬1). - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى)) (¬2). قال الطيبي: (هو مبالغة في قطع الطمع عن الغنيمة، بل ينبغي أن يكون خالصاً لله تعالى غير مشوب بأغراض دنيوية) (¬3). - وعن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قرب ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب. والشنظير: الفحاش)) (¬4). قال القاري: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه: هو إغراق في وصف الطمع، والخيانة تابعة له، والمعنى أنه لا يتعدى عن الطمع، ولو احتاج إلى الخيانة، ولهذا قال الحسن البصري: الطمع فساد الدين والورع صلاحه) (¬5). - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم؛ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬6). قال ابن عثيمين: ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((واتقوا الشح)) يعني الطمع في حقوق الغير. اتقوه: أي احذروا منه، واجتنبوه (¬7). ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 160). (¬2) رواه النسائي (3138). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8874)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6401). (¬3) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2491). (¬4) رواه مسلم (2865). (¬5) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (7/ 3108). (¬6) رواه مسلم (2578). (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 415).

أقوال السلف والعلماء في ذم الطمع

أقوال السلف والعلماء في ذم الطمع - قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: (تعلمن أنّ الطّمع فقر، وأنّ اليأس غنى) (¬1). - وقال عليّ- رضي الله عنه: (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع) (¬2). - وقال أيضاً: (ما الخمر صرفاً بأذهب لعقول الرّجال من الطّمع) (¬3). - وقال أيضاً: (الطامع في وثاق الذل) (¬4). - وعنه أيضاً: (الطمع رق مؤبد) (¬5). - وقال أيضاً: (إياك أن ترجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة) (¬6). - وقال ابن عباس: (قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترتهن بالمنى، وتستغلق) (¬7). - واجتمع كعب وعبد الله بن سلام، فقال له كعب: (يا ابن سلام: من أرباب العلم؟ قال: الّذين يعملون به. قال: فما أذهب العلم عن قلوب العلماء بعد أن علموه؟ قال: الطّمع، وشره النّفس، وطلب الحوائج إلى النّاس) (¬8). - وقال الحسن البصري: (صلاح الدين الورع وفساده الطمع) (¬9). - (واجتمع الفضيل وسفيان وابن كريمة اليربوعي فتواصوا، فافترقوا وهم مجمعون على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب، والصبر عند الطمع) (¬10). - وقال وهب بن منبه: (الكفر أربعة أركان، فركن منه الغضب، وركن منه الشهوة، وركن منه الخوف، وركن منه الطمع) (¬11). - وقال الوراق: (لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور. ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل. ولو قيل ما غايتك: قال الحرمان) (¬12). - وقال المأمون: (صدق والله أبو العتاهية، ما عرفت من رجل قط حرصاً ولا طمعاً فرأيت فيه مصطنعاً) (¬13). - (وقال الحرالي: والطمع تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له فينبغي للعالم أن لا يشين علمه وتعليمه بالطمع ولو ممن يعلمه بنحو مال أو خدمة وإن قل، ولو على صورة الهدية التي لولا اشتغاله عليه لم يهدها) (¬14). - وقال أيضاً: (والطمع يشرب القلب الحرص، ويختم عليه بطابع حب الدنيا، وحب الدنيا مفتاح كل شر وسبب إحباط كل خير) (¬15). - وقال ابن خبيق الأنطاكي: من أراد أن يعيش حرا أيام حياته فلا يسكن الطمع قلبه (¬16). - وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون نقي الطمع، نقي الغضب (¬17). - وقال هزال القريعي: مفتاح الحرص الطمع، ومفتاح الاستغناء الغنى عن الناس، واليأس مما في أيديهم (¬18). ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 354)، ووكيع في ((الزهد)) (ص426)، وأحمد في ((الزهد)) (ص97). (¬2) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬3) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬4) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 273). (¬5) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬6) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬7) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (53/ 141). وابن أبي الدنيا في ((القناعة والتعفف)) (ص77). (¬8) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص75). (¬9) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (8/ 3304). (¬10) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬11) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص77). (¬12) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 290). (¬13) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 274). (¬14) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 290). (¬15) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 460). (¬16) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬17) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص76). (¬18) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص77).

أنواع الطمع

أنواع الطمع والطمع نوعان هما: 1 - الطمع المحمود: - الطمع في طلب مغفرة الله للإنسان. - الطمع في دخول الجنة. - الطمع في كرم الله. 2 - الطمع المذموم: - الطمع في طلب الدنيا وجمع المال. - الطمع في سلطة أو منصب. - الطمع في المأكل والمشرب والملذات.

آثار ومضار الطمع

آثار ومضار الطمع 1 - ينتشر في المجتمع ويصبح خلقاً متوارثاً بين الناس. 2 - الانشغال الدائم والتعب الذي لا ينقطع. 3 - انعدام مبدأ البذل والتضحية والإيثار بين أفراد المجتمع. 4 - دليل على سوء الظن بالله. 5 - دليل على ضعف الثقة بالله، وقلة الإيمان. 6 - طريق موصل إلى النار. 7 - يجعل صاحبه حقير في عيون الآخرين. 8 - يذل أعناق الرجال. 9 - يشعر النفس بفقر دائم مهما كثر المال. 10 - يعمي الإنسان عن الطريق المستقيم. 11 - يعود على صاحبه بالخسران في الدنيا والآخرة. 12 - يمحق البركة. 13 - ينشر العداوة والكراهية وعدم الثقة بين أفراد المتجمع. 14 - ينشر الفوضى في المجتمع ويزعزع أمنه. 15 - ينقص من قدر الفرد ولا يزيد في رزقه. 16 - يؤدي إلى السمعة والرياء في الدين. 17 - يؤدي إلى الظلم والاضطهاد إذا كان الطامع من أصحاب النفوذ. 18 - يؤدي إلى الغش والكذب. 19 - يؤدي إلى زيادة الأسعار واحتكار البضائع مما يلحق الضرر بالمجتمع. 20 - يؤدي بالفرد إلى ارتكاب الذنوب والمعاصي.

الأسباب المؤدية إلى الطمع

الأسباب المؤدية إلى الطمع 1 - الجهل بالآثار السيئة للطمع. 2 - حب الدنيا وكراهية الموت. 3 - ضعف الإيمان. 4 - عدم الاهتمام بتزكية النفس وتهذيبها. 5 - الانجراف وراء المغريات من أموال ومناصب وغيرها. 6 - مجالسة أهل الطمع ومصاحبتهم. 7 - نشوء الفرد في مجتمع فاسد غير ملتزم بتعاليم الدين الحنيف.

الوسائل المعينة على ترك الطمع

الوسائل المعينة على ترك الطمع 1. الاهتمام بتهذيب النفس وترويضها على الصبر في الطاعات. 2. التأمل في العواقب الوخيمة التي تنتج عن الطمع. 3. التأمل في نعم الله الكثيرة والمختلفة، وشكره عليها. 4. التحلي بالورع عند الميل إلى الطمع. 5. التسليم بقضاء الله وقدره. 6. الطمع في الجنة وما عند الله من نعيم في الدار الآخرة. 7. اللجوء إلى الله والاستعانة به في الابتعاد عن الطمع. 8. مجاهدة النفس وتعويدها على القناعة والتعفف. 9. مطالعة سير السلف وأحوال الصالحين. 10. العلم بأن الإنسان لن يأخذ من رزقه أكثر مما كُتِب له، مهما طمع وحرص على الدنيا. 11. أن يعلم بأنَّ الدنيا دنيئة وحقيرة. 12. معرفة أن القناعة طمأنينة للقلب وراحة للنفس. 13. نشر العلم بين أفراد المجتمع والقضاء على الجهل. 14. النظر إلى من هو أدنى في أمور الدنيا؛ كالفقراء والمبتلين والمرضى. 15. اليقين بأن الإنسان لن يموت حتى يستكمل رزقه. 16. تذكر الموت والدار الآخرة. 17. مجالسة ومصاحبة القنوع. 18. إخراج الزكاة والصدقة والإنفاق في وجوه الخير.

مسائل متفرقة حول الطمع

مسائل متفرقة حول الطمع - وصية في التحذير من الطمع: قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفذ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك بالإياس مما في أيدي الناس فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه) (¬1). - ما قيل في الطمع: قال بعض العارفين: (الطمع طمعان: طمع يوجب الذل لله، وهو إظهار الافتقار وغايته العجز والانكسار وغايته الشرف والعز والسعادة الأبدية، وطمع يوجب الذل في الدارين، أي وهو المراد هنا وهو رأس حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والخطيئة ذل وخزي، وحقيقة الطمع أن تعلق همتك وقلبك وأملك بما ليس عندك فإذا أمطرت مياه الآمال على أرض الوجود، وألقي فيها بذر الطمع بسقت أغصانها بالذل ومتى طمعت في الآخرة وأنت غارق في بحر الهوى ضللت وأضللت) (¬2). وقال بعضهم: من أراد أن يعيش حرّا أيّام حياته فلا يسكن قلبه الطّمع (¬3). وأراد رجل أن يقبل يد هشام بن عبد الملك فقال: لا تفعل، فإنما يفعله من العرب الطمع، ومن العجم الطبع (¬4). وقال بعضهم: الحرص ينقص قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه (¬5). وكان يقال: (حين خلق الله آدم عجن بطينته ثلاثة أشياء: الحرص، والطمع، والحسد. فهي تجري أولاده إلى يوم القيامة، فالعاقل يخفيها، والجاهل يبديها، ومعناه أن الله تعالى خلق شهوتها فيه) (¬6). وقيل: (الطمع ثلاثة أحرف كلها مجوفة فهو بطن كله فلذا صاحبه لا يشبع أبداً) (¬7). - أشعب والطمع: قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جاري فأثرد. وقال لآخر: لم تقل هذا إلا وفي قلبك خبر ... وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، امرأتي، كل شيء ظنناه فهي تتيقنه. وقال: شاة لي كانت على السطح فأبصرت قوس قزح فحسبتها حبلاً من قتّ، فوثبت إليها فطاحت، فاندق عنقها. وكان يقعد إلى الطبّاق فيقول: وسع، وسع، فعسى يهدي إلي من يشتريه. وقال: ما رأيت أطمع مني إلا كلباً تبعني على مضغ العلك فرسخاً (¬8). قال المدائني: (كان سالم بن عبد الله يستخفّ أشعب، ويمازحه، ويضحك منه كثيراً، ويحسن إليه. فقال له ذات يوم: أخبرني عن طمعك يا أشعب، فقال: نعم، قلت لصبيان مجتمعين: إن سالماً قد فتح باب صدقة عمر، فامضوا إليه حتى يطعمكم تمراً، فمضوا. فلما غابوا عن بصري، وقع في نفسي أن الذي قلت لهم حق، فتبعتهم. وقال أيضاً: مر أشعب برجل يعمل زِبيلاً، فقال له: أحب أن توسعه، قال: لمَ ذاك؟ قال: لعل الذي يشتريه منك يهدي إلي فيه شيئاً. وقال بعض الرواة: قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما تناجى اثنان قط إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء ... وقال أيضاً: تعلق أشعب بأستار الكعبة، وسأل الله أن يخرج الحرص من قلبه. فلما انصرف، مر بمجالس قريش، فسألهم، فما أعطاه أحد منهم شيئاً. فرجع إلى أمه فقالت له: يا بني كيف جئتني خائباً. فقال: إني سألت الله أن يخرج الحرص من قلبي. فقالت: ارجع يا بني، فاستقله ذاك. قال أشعب: فرجعت، فتعلقت بأستار الكعبة وقلت: يا رب، كنت سألتك أن تخرج الطمع من قلبي، فأقلني. ثم مررت بمجالس قريش فسألتهم فأعطوني. ووهب لي رجل غلاماً. فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء، وبغلام، فقالت لي: ما هذا الغلام؟ فأشفقت من أن أقول: وهب لي، فتموت فرحاً، فقلت: غينٌ، فقالت: وما غينٌ؟ قلت: لامٌ، قالت: وما لامٌ؟ قلت: ألفٌ، قالت: وما ألفٌ؟ قلت: ميمٌ، قالت: وما ميمٌ؟ قلت: وُهِب لي غُلامٌ. فغشي عليها من الفرح، ولو لم أقطِّع الحروف لماتت) (¬9). ويقال كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد؛ أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي، والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب، والثالث آية في الطمع وهو أشعب، كان طماعاً، وكان من طمعه إذا رأى عروساً تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره وكان إذا رأى إنساناً يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه (¬10). - حكم وأمثال في الطمع - هو أطمع من أشعب (¬11). - قطع أعناق الرجال المطامعُ. ويقال: (مصارع الرجال تحت بروق المطامع). يضرب في ذم الطمع والجشع (¬12). - عتود عند الفزع، ذئب عند الطمع (¬13). ¬

(¬1) رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (5/ 46) (1843)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/ 363). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 132). (¬3) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬4) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (2/ 419). (¬5) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬6) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬7) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 132). (¬8) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 273). (¬9) ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (2/ 217 - 218). (¬10) ((بحر العلوم)) للسمرقندي (3/ 609). (¬11) ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (2/ 216). (¬12) ((اللباب في قواعد اللغة وآلات الأدب)) لمحمد السراج (ص271). (¬13) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79).

الطمع في واحة الشعر ..

الطمع في واحة الشعر .. قال سابق البربري: يخادع ريب الدهر عن نفسه الفتى ... سفاهاً وريب الدهر عنها يخادعه ويطمع في سوف ويهلك دونها ... وكم من حريص أهلكته مطامعه (¬1) وقال آخر: حسبي بعلمي إن نفع ... ما الذّلّ إلّا في الطّمع من راقب الله نزع ... عن سوء ما كان صنع ما طار طير فارتفع ... إلا كما طار وقع (¬2) قال أبو العتاهية: لقد لعبت وجدّ الموت في طلبي ... وإنّ في الموت لي شغلا عن اللّعب لو شمّرت فكرتي فيما خلقت له ... ما اشتدّ حرصي على الدّنيا ولا طلبي (¬3) وقال أيضاً- رحمه الله تعالى-: تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرّجال هب الدّنيا تقاد إليك عفوا ... أليس مصير ذلك للزّوال (¬4) وقال جابر بن أحمد الشيباني: كل ابن أنثى مخلد إلى طمع ... ما ضاق أمر ضيّق إلّا اتسع (¬5) وقال سابق البربريّ: يخادع ريب الدّهر عن نفسه الفتى ... سفاها وريب الدّهر عنها يخادعه ويطمع في سوف ويعلم دونها ... وكم من حريص أهلكته مطامعه (¬6) وقال الحلّاج عند قتله عليه من الله ما يستحقّ: طلبت المستقرّ بكلّ أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أنّي قنعت لكنت حرّا (¬7) وقال ثابت بن قطنة: لا خير في طمع يهدي إلى طبع ... وغفّة من قوام العيش تكفيني (¬8) وقال آخر: لا تغضبين على امرئ ... لك مانع ما في يديه وأغضب على الطمع الذي ... استدعاك تطلب ما لديه (¬9) وقال عليّ بن عبد العزيز القاضي الجرجانيّ: ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ... ولا كلّ من لاقيت أرضاه منعما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما أنهنهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيم أو لما؟ ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة؟ ... إذا فاتّباع الجهل قد كان أحزما ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النّفوس لعظّما ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما (¬10) وقال آخر: يا جامعا مانعا والدهر يرمقه ... مقدرا أي باب منه يغلقه مفكرا كيف تأتيه منيته ... أغاديا أم بها يسري فتطرقه جمعت مالا فقل لي هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرقه المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا يوم تنفقه أرفه ببال فتى يغدو على ثقة ... أن الذي قسم الأرزاق يرزقه فالعرض منه مصون مايدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يبق في ظلها هم يؤرقه (¬11) وقال آخر: لا تغضبنّ على امرئ ... لك مانع ما في يديه واغضب على الطّمع الّذي ... استدعاك تطلب ما لديه (¬12) وقال الحادرة الذّبيانيّ: إنّا نعفّ فلا نريب حليفنا ... ونكفّ شحّ نفوسنا في المطمع (¬13) وقال آخر: قد يصبر الحر لا يدنو إلى طمع ... فكم من هوى قد ضر بالجموع (¬14) وقال آخر: ¬

(¬1) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 272). (¬2) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 271). (¬3) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬4) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص83). (¬5) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 272). (¬6) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص84). (¬7) ((حياة الحيوان الكبرى)) للدميري (1/ 348). (¬8) ((لسان العرب)) لابن منظور (8/ 234). (¬9) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 273). (¬10) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص28). (¬11) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 202). (¬12) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 273). (¬13) ((المفضليات)) للضبي (ص45). (¬14) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص76).

من كان يرجو بقاء لا نفاد له ... فلا يكن عرض الدنيا له شجنا (¬1) وقال آخر: لا تخضعن لمخلوق على طمع ... فإن ذاك مضر منك بالدين واسترزق الله مما في خزائنه ... فإنما هي بين الكاف والنون (¬2) قال الحادرة: إنا نعف ولا نريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع (¬3) وقال آخر: إذا حكى لي طمع راحة ... قلت له: الراحة في اليأس وإصلاح ما عندي وترقيعه ... أفضل من مسألة الناس (¬4) وقال آخر: ومن يطلب الأعلى من العيش لم يزل ... حزينا على الدنيا رهين غبونها إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها (¬5) وقال آخر: إذا أنت لم تأخذ من الناس عصمة ... تشد بها من راحتيك الأصابع شربت بريق الماء حيث وجدته ... على كدر واستعبدتك المطامع وإني لأبلي الثوب، والثوب ضيق ... وأترك فضل الثوب والثوب أوسع (¬6) قال أبو جعفر الأموي شيخ أهل الحجاز لأعرابي من عذرة: عليك بتقوى الله واقنع برزقه ... فخير عباد الله من هو قانع ولا تلهك الدنيا ولا طمع بها ... فقد أهلك المغرور فيها المطامع وصبرا على نوبات ما ناب واعترف ... فما يستوي عبد صبور وجازع ألم تر أهل الصبر يجزوا بصبرهم ... بما صبروا والله راء وسامع ومن لم يكن في نعمة الله عنده ... سوى ما حوت يوما عليه الأضالع فقد ضاع في الدنيا وخيب سعيه ... وليس لرزق ساقه الله مانع (¬7) وقال بعضهم: رأيت مخيلة فطمعت فيها ... وفي الطمع المذلة للرقاب (¬8) وقال آخر: العبد حر إن قنع ... والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تقنع فما ... شيء يشين سوى الطمع (¬9) وقال آخر: اللؤم والذل والضراعة والفا ... قة في أصل أذن من طمعا (¬10) وقال آخر: يا ويح من جعل المطامع قائداً ... يقتاده نحو الرّدى بزمام من كان قائده المطامع لم يفز ... يوما بعيش مسرة وسلام (¬11) وقال الأصمعي: وما زلت أسمع أن العقو ... ل مصارعها بين أيدي الطمع (¬12) أنشد العتبي الرشيد: النفس تطمع والأسباب عاجزة ... والنفس تهلك بين اليأس والطمع (¬13) ... ¬

(¬1) ((تاج العروس)) للزبيدي (18/ 420). (¬2) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص46). (¬3) ((تاج العروس)) للزبيدي (21/ 460). (¬4) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص79). (¬5) ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (2/ 543). (¬6) ((القناعة والتعفف)) لابن أبي الدنيا (ص76). (¬7) ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص80). (¬8) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 270). (¬9) ((شرح الزرقاني على الموطأ)) للزرقاني (3/ 142). (¬10) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 270). (¬11) ((بيان المعاني)) لعبد القادر العاني (4/ 466). (¬12) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 270). (¬13) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 287).

الظلم

الظلم • معنى الظلم لغة واصطلاحاً. • الفرق بين الظلم ومترادفاته. • النهي عن الظلم في القرآن والسنة. • أقوال السلف والعلماء في ذم الظلم. • أقسام الظلم. • آثار ومضار الظلم. • صور الظلم. • نصر المظلوم. • رد المظالم. • التحذير من دعوة المظلوم. • الانتصار من الظالم. • معاونة الظالم على ظلمه. • هل للظالم توبة؟. • قصص في الظلم ... عبر وعظات. • الظلم في واحة الشعر .... • ثم ماذا ... ؟.

معنى الظلم لغة واصطلاحا

معنى الظلم لغة واصطلاحاً معنى الظلم لغة: يقال ظَلَمَه يَظْلِمُهُ ظَلْماً وظُلْماً ومَظْلِمةً فالظَّلْمُ مَصْدرٌ حقيقيٌّ والظُّلمُ الاسمُ يقوم مَقام المصدر وهو ظالمٌ وظَلوم ... وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه (¬1). معنى الظلم اصطلاحاً: هو: (وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو بزيادة؛ وإما بعدول عن وقته أو مكانه،) (¬2). وقيل: (هو عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل وهو الجور. وقيل: هو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد) (¬3). ¬

(¬1) ((المصباح المنير)) للفيومي (ص146). (¬2) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب (537). (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 186).

الفرق بين الظلم ومترادفاته

الفرق بين الظلم ومترادفاته الفرق بين الجور والظلم: (الجور خلاف الاستقامة في الحكم، وفي السيرة السلطانية تقول جار الحاكم في حكمه والسلطان في سيرته إذا فارق الاستقامة في ذلك، والظلم ضرر لا يستحق ولا يعقب عوضا سواء كان من سلطان أو حاكم أو غيرهما ألا ترى أن خيانة الدانق والدرهم تسمى ظلما ولا تسمى جورا فإن أخذ ذلك على وجه القهر أو الميل سمي جورا وهذا واضح، وأصل الظلم نقصان الحق، والجور العدول عن الحق من قولنا جار عن الطريق إذا عدل عنه وخلف بين النقيضين فقيل في نقيض الظلم الانصاف وهو إعطاء الحق على التمام، وفي نقيض الجور العدل وهو العدول بالفعل إلى الحق) (¬1). الفرق بين الغشم والظلم: (أن الغشم كره الظلم وعمومه توصف به الولاة لأن ظلمهم يعم، ولا يكاد يقال غشمني في المعاملة كما يقال ظلمني فيها وفي المثل وال غشوم خير من فتنة تدوم، وقال أبو بكر: الغشم اعتسافك الشيء، ثم قال يقال غشم السلطان الرعية يغشمهم، قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: الاعتساف خبط الطريق على غير هداية فكأنه جعل الغشم ظلما يجري على غير طرائق الظلم المعهودة) (¬2). الفرق بين الهضم والظلم: (أن الهضم نقصان بعض الحق ولا يقال لمن أخذ جميع حقه قد هضم. والظلم يكون في البعض والكل، وفي القرآن فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112] أي لا يمنع حقه ولا بعض حقه وأصل الهضم في العربية النقصان ومنه قيل للمنخفض من الأرض هضم والجمع أهضام) (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 385). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 172). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 557).

النهي عن الظلم في القرآن والسنة

النهي عن الظلم في القرآن والسنة النهي عن الظلم في القرآن الكريم: الآيات الواردة في ذم الظلم والظالمين كثيرة ومتنوعة فمنها: - آيات وردت في تنزيه الله تعالى نفسه عن الظلم، قال تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ [غافر: 31]، وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، وقال: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ [آل عمران: 108] (أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه؛ ولهذا قال: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ [آل عمران:109] أي: الجميع ملْك له وعبيد له. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ أي: هو المتصرف في الدنيا والآخرة، الحاكم في الدنيا والآخرة) (¬1). - وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 40]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44]. قال القرطبي: (أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا) (¬2). - آيات تتحدث عن إهلاك الله تعالى للظالمين وتوعدهم بعقوبات في الدنيا والآخرة. يقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] (يقول تعالى: وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (¬3). - وقوله تعالى: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ: 42] وقال الله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] (أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير) (¬4). - وقال تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير [الحج:71] ألا لعنة الله على الظالمين [هود:18] وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24] إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. - آيات جاء فيها وصف المعاصي بالظلم: ومنها قوله تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] وقوله تعالى: إنَّ الَذِينَ يَاًكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. [النساء: 10] النهي عن الظلم في السنة النبوية: - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا ... )) (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 93). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 195). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 349). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 137). (¬5) رواه مسلم (2577).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا الحديث قد تضمن من قواعد الدين العظيمة في العلوم والأعمال والأصول والفروع؛ فإن تلك الجملة الأولى وهي قوله: ((حرمت الظلم على نفسي)) يتضمن جل مسائل الصفات والقدر إذا أعطيت حقها من التفسير وإنما ذكرنا فيها ما لا بد من التنبيه عليه من أوائل النكت الجامعة. وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله: ((وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) فإنها تجمع الدين كله؛ فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم وكل ما أمر به راجع إلى العدل) (¬1). - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) (¬2). - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬3). قال ابن القيم: (سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88] ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام ما استأثروا عليه لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك , ويحك نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت , قوسه قلبه المقروح , ووتره سواد الليل , وأستاذه صاحب ((لأنصرنك ولو بعد حين)) (¬4) وقد رأيت ولكن لست تعتبر احذر عداوة من ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمرة العقوبة لم يحسن تناولها ما تساوي لذة سنة غم ساعة فكيف والأمر بالعكس كم في يم الغرور من تمساح فاحذر يا غائص ستعلم أيها الغريم قصتك عند علق الغرماء بك إذا التقى كل ذي دين وماطلة ... ستعلم ليلى أي دين تداينت من لم يتتبع بمنقاش العدل شوك الظلم من أيدي التصرف أثر ما لا يؤمن تعديه إلى القلب) (¬5). - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله ليملي للظالم فإذا آخذه لم يفلته ثم قرأ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. [هود:102])) (¬6). قال ابن عثيمين في شرحه للحديث: (إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته يملي له يعني يمهل له حتى يتمادى في ظلمه والعياذ بالله فلا يعجل له العقوبة وهذا من البلاء نسأل الله أن يعيذنا وإياكم فمن الاستدراج أن يملي للإنسان في ظلمه فلا يعاقب له سريعا حتى تتكدس على الإنسان المظالم فإذا أخذه الله لم يفلته أخذه أخذ عزيز مقتدر ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فعلى الإنسان الظالم أن لا يغتر بنفسه ولا بإملاء الله له فإن ذلك مصيبة فوق مصيبته لأن الإنسان إذا عوقب بالظلم عاجلا فربما يتذكر ويتعظ ويدع الظلم لكن إذا أملي له واكتسب آثاما أو ازداد ظلما ازدادت عقوبته والعياذ بالله فيؤخذ على غرة حتى إذا أخذه الله لم يفلته) (¬7). - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) (¬8). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/ 157). (¬2) رواه البخاري (2453)، ومسلم (1612). (¬3) رواه مسلم (2578). (¬4) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 445) (9741) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وحسن إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 464)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3520). (¬5) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/ 762). (¬6) رواه البخاري (4686). (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 498). (¬8) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

أقوال السلف والعلماء في ذم الظلم

أقوال السلف والعلماء في ذم الظلم - قال معاوية رضي الله عنه: (إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله) (¬1). - وقال رجل عند أبي هريرة: (إن الظالم لا يظلم إلا نفسه، فقال أبو هريرة: كذبت، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) (¬2). - (وكتب رجل إلى سلطان: أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه وأولاهم بالإنصاف من بسطت بالقدرة يداه) (¬3). - (وكتب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم) (¬4). - (ودخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق يوم الأذان؛ قال هشام. وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44] فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذل الصفة فكيف المعاينة؟) (¬5). - (وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم، وهو والي أرض فارس: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وابسط العدل، وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأظلمهم من ظلم الناس لغيره) (¬6). - (وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز، فلما عزله، قال له: ما جئت به؟ قال له: ما معي إلا مائة درهم وأثواب. قال: كيف ذلك؟ قال: أرسلتني إلى بلد أهله رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما علي، ورجل له ذمة الله ورسوله، فوالله ما دريت أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفاً) (¬7). - وكان شريح القاضي يقول: (سيعلم الظالمون حق من انتقصوا، إن الظالم لينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصر والثواب) (¬8). - وقال جعفر بن يحيى: (الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، وما استنزر بمثل الظلم) (¬9). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 30). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((العقوبات)) (ص178)، والطبري في ((تفسيره)) (17/ 231). (¬3) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 76). (¬4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 31). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 124). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 31). (¬7) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 31). (¬8) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 124). (¬9) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 31).

أقسام الظلم

أقسام الظلم (الظلم ثلاثة: الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه: الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وإياه قصد بقوله: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31]، في آي كثيرة، وقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ [الزمر:32]، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:93]. والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإياه قصد بقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ إلى قوله: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الآية: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40]، وبقوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى:42]، وبقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا [الإسراء:33]. والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32]، وقوله: ظَلَمْتُ نَفْسِي [النمل:44]، إذ ظلموا أنفسهم [النساء:64]، فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35]، أي: من الظالمين أنفسهم، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231]. وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس؛ فإن الإنسان في أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذا الظالم أبدا مبتدئ في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33]، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57]، وقوله: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]) (¬1). ¬

(¬1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب (ص537 - 538).

آثار ومضار الظلم

آثار ومضار الظلم 1 - الظالم مصروف عن الهداية: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. 2 - الظالم لا يفلح أبداً: قال تعالى: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]. 3 - الظالم عليه اللعنة من الله: يقول الله عز وجل: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52] 4 - الظالم يحرم من الشفاعة: قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] ويقول عليه الصلاة والسلام: ((صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غالٍ مارق)) (¬1). 5 - تصيبه دعوة المظلوم ولا تخطئه: قال عليه الصلاة والسلام: ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬2). 6 - بالظلم يرتفع الأمن: قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] 7 - الظلم سبب للبلاء والعقاب: وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. [الحج:45] وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59] 8 - توعد الظالم بدخول النار: عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) (¬3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله يتخوضون بالمعجمتين في مال الله بغير حق، أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل. ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (8079)، والخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (ص286) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3798). (¬2) رواه مسلم (19) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3118) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها.

صور الظلم

صور الظلم لا شك أن الظلم له صور كثيرة ولا ينحصر في نماذج معينة، وسنقوم بذكر بعضها حتى نكون منها على حذر، وهذه الصور هي كالتالي: أ- ظلم العبد نفسه 1 - أعظمه الشرك بالله: قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] قال ابن تيمية رحمه الله: (ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من الناس لا يعلمون كون الشرك من الظلم، وأنه لا ظلم إلا ظلم الحكام أو ظلم العبد نفسه، وإن علموا ذلك من جهة الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجه ذلك، ولذلك لم يسبق ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنهم قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله: "ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ ". وذلك أنهم ظنوا أن الظلم- كما حده طائفة من المتكلمين- هو إضرار غير مستحق، ولا يرون الظلم إلا ما فيه إضرار بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ) (¬1). - 2التعدي على حدود الله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]. والمشار إليه في تلك حدود الأحكام الشرعية التي ذكرت قبل هذه الآية. - 3الصد عن مساجد الله أن يذكر فيها اسمه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114] -4 كتم الشهادة: قال تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]. 5 - الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً [الكهف: 57]. 6 - الكذب على الله: قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144]. ب - ظلم العباد بعضهم لبعض: وظلم العباد بعضهم لبعض أنواع، وهو أشهر أنواع الظلم وأكثرها. قال سفيان الثوري - رحمه الله -: (إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى؛ أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد) (¬2) ويمكن تقسيمه إلى ظلم قولي، وظلم فعلي: من صور الظلم القولي: التعرض إلى الناس بالغيبة، والنميمة، والسباب والشتم، والاحتقار، والتنابز بالألقاب، والسخرية والاستهزاء والقذف والاتهام بالباطل ... وغيرها. من صور الظلم الفعلي: 1 - القتل بغير حق: ¬

(¬1) ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/ 235). (¬2) ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص380).

قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً [الإسراء: 33]. 2 - الظلم الواقع على المسلمين بسبب دينهم، الذين قُتِّلوا، وشُرِّدوا، وسُجنوا ... 3 - أخذ أرض الغير أو شيء منها: قال صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً؛ فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) (¬1). 4 - الظلم الواقع في الأسر: ومنه: - ظلم الأولاد لوالديهما بعقوقهما - ظلم الأزواج لزوجاتهم في حقهن سواء كان صداقاً، أو نفقة، أو كسوة. - ظلم الزوجات لأزواجهن في تقصيرهن في حقهم وتنكّر فضلهم. - ظلم البنات بعضلهن عن الزواج. - الدعاء على الأولاد والقسوة في التعامل معهم. - تَفضيلُ بعض الأولاد على بعض. 5 - ظلم أصحاب الولايات والمناصب: ومنه: - نبذ كتاب الله وتحكيم القوانين الوضعية. - عدم إعطاء الرعية حقوقهم. - تقديم شخص في وظيفة ما وهناك أناس أكفأ منه وأقدر على العمل. 6 - ظلم العمال: ومنه: - أن يعمل له عمل ولا يعطيه أجره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم- ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره)) (¬2). - أن يبخسه حقوقَه أو أن يؤخرها عن وقتها: قال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عَرقُه)) (¬3). - تكليفه بأمور غير ما اتُفق عليها معه، أو بأمور لم تجري العادة تكليفه بها: قال صلى الله عليه وسلم: في العبيد الأرقاء: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) (¬4). 7 - أكل مال الغير بغير حق: وهو أنواع ومنه: 1 - أكل أموال الناس بالباطل: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً [النساء: 29 - 30] 2 - أكل أموال الضعفاء كاليتامى: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء: 10]. 3 - الربا: قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء: 160 - 161]. 4 - السرقة: قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... [المائدة:38] 5 - الرشوة: ¬

(¬1) رواه البخاري (3198)، ومسلم (1610) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (2227). (¬3) رواه ابن ماجه (3443) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ورواه أبو يعلى (6682)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (8/ 13) (3014)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 142) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2892): هذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. وحسن إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 75)، وجوَّد إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 161). (¬4) رواه البخاري (30).

قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) (¬1). 6 - الغش في المعاملات: قال صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) (¬2). 7 - الميسر: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90 - 91] 8 - الغلول: قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161]. 9 - الهدايا التي تهدى للموظف بسبب وظيفته: عن أبي حميد الساعدي قال ((استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 387) (9019)، وابن حبان (11/ 467) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5093). (¬2) رواه مسلم (101). (¬3) رواه البخاري (6979)، ومسلم (1832).

نصر المظلوم

نصر المظلوم لا ريب أن نصر المظلوم واجب على المسلمين وخاصة من ولاه الله أمر المسلمين، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالما، أو مظلوما فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره قال تحجزه، أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره)) (¬1). قال العلائي: (هذا من بليغ الكلام الذي لم ينسج على منواله وأو للتنويع والتقسيم وسمي رد المظالم نصرا لأن النصر هو العون ومنع الظالم عون له على مصلحته والظالم مقهور مع نفسه الأمارة وهي في تلك الحالة عاتية عليه فرده عون له على قهرها ونصرة له عليها) (¬2). وعن البراء رضي الله عنه، قال: ((أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم ... )) (¬3). قال الحافظ ابن حجر: (نصر المظلوم هو فرض كفاية وهو عام في المظلومين وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور فلو تساوت المفسدتان تخير وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده إن لم يبذله وقد يقع بعد وهو كثير) (¬4). وقال النووي: (أما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررا) (¬5). وقال العيني: (قال العلماء نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية فمن قام به سقط عن الباقين ويتعين فرض ذلك على السلطان ثم على من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه) (¬6). وقال صاحب مرعاة المفاتيح: (ونصر المظلوم، مسلماً كان أو ذمياً بالقول أو بالفعل. قال في شرح السنة: هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل وبكف الظالم عن الظلم) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (6952). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 805) (¬3) رواه البخاري (1239). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 99) (¬5) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (14/ 45). (¬6) ((عمدة القاري)) للعيني (12/ 290). (¬7) ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/ 214).

رد المظالم

رد المظالم من ابتلي بشيء من الظلم والتسلط على الناس سواء كان بأخذ مال، أو بغيره من أنواع الظلم فليتحلل منه في هذه الدنيا الفانية، فليس في الآخرة دينار ولا درهم، وإنما هو عمل صالح يؤخذ منه بقدر مظلمته ويعطى للمظلوم، وإن لم يكن له عمل صالح أخذ من سيئات المظلوم وحمله الظالم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (¬2). وعن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، فيناديهم مناد بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة فما فوقها، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى اللطمة فما فوقها وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] قلنا يا رسول الله كيف وإنما نأتي حفاة عراة غرلا بهما؟ قال بالحسنات والسيئات جزاء وفاقا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) (¬3). وقال أبو الزناد: (كان عمرُ بنُ عبد العزيز يردُّ المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، كان يكتفي باليسير، إذا عرف وجه مَظْلمةِ الرَّجُلِ ردَّها عليه، ولم يكلِّفْهُ تحقيقَ البيِّنةِ، لما يعرف مِنْ غشم الوُلاة قبله على الناس، ولقد أنفد بيت مال العراق في ردِّ المظالم حتى حُمِلَ إليها مِنَ الشَّامِ) (¬4). وذكر صاحب (العقد الفريد) قصة للمأمون: (وأنه جلس يوماً لرد المظالم، فكان آخر من تقدم إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم. فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي بحاجتك. فقالت: يا خير منتصف يهدى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد تشكو إليك عميد القوم أرملة ... عدى عليها فلم يترك لها سبد وابتز مني ضياعي بعد منعتها ... ظلما وفرق مني الأهل والولد فأطرق المأمون حيناً، ثم رفع رأسه إليها وهو يقول: في دون ما قلت زال الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد هذا أذان صلاة العصر فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد فالمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه وإلا المجلس الأحد قال: فلما كان يوم الأحد جلس، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ثم قال: أين الخصم؟ فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى العباس ابنه - فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها يعلو كلام العباس. فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (6534) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2582). (¬3) رواه أحمد (3/ 495) (16085)، والحاكم (2/ 475)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 265). وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 218)، والهيثمي في ((المجمع)) (10/ 354)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3608). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص 241). (¬5) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 28).

التحذير من دعوة المظلوم

التحذير من دعوة المظلوم قال صلى الله عليه وسلم: ((واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬1). (أي: مانع بل هي معروضة عليه تعالى. قال السيوطي: أي ليس لها ما يصرفها ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه لا يستجاب لمثله من كون مطعمه حراما أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه (وإن كان كافرا) رواه أحمد من حديث أنس قال ابن العربي: ليس بين الله وبين شيء حجاب عن قدرته وعلمه وإرادته وسمعه وبصره ولا يخفى عليه شيء، وإذا أخبر عن شيء أن بينه وبينه حجابا فإنما يريد منعه) (¬2). وقال عليه السلام: ((ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عز وجل وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) (¬3). ولربما تأخرت إجابة الدعوة، ولكن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، قال سبحانه: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42 - 43] وقال ميمون بن مهران: في قوله تبارك وتعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قال: (تعزية للمظلوم، ووعيد للظالم) (¬4). (وقيل لما حبس بعض البرامكة وولده قال: يا أبت بعد العز صرنا في القيد والحبس. فقال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عز وجل عنها) (¬5). (وكان يزيد بن حكيم يقول: ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله يقول لي حسبي الله، الله بيني وبينك) (¬6). وقيل لإبراهيم بن نصر الكرماني: (إن القرمطي دخل مكة، وقتل فيها، وفعل وصنع، وقد كثر الدعاء عليه، فلم يستجب للداعين؟ فقال: لأن فيهم عشر خصال، فكيف يستجاب لهم؟ فقلت: وما هن؟ قال: أوّلهنّ: أقرّوا بالله وتركوا أمره؛ والثاني: قالوا: نحبّ الرّسول، ولم يتبعوا سنته؛ والثالث: قرؤوا القرآن ولم يعملوا به؛ والرابع: قالوا: نحبّ الجنّة، وتركوا طريقها؛ والخامس: قالوا: نكره النّار، وزاحموا طريقها؛ والسادس: قالوا: إن إبليس عدّونا، فوافقوه؛ والسابع: دفنوا أمواتهم فلم يعتبروا، والثّامن: اشتغلوا بعيوب إخوانهم ونسوا عيوبهم؛ والتّاسع: جمعوا المال ونسوا الحساب؛ والعاشر: نقضوا القبور وبنوا القصور). (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (1496)، ومسلم (19) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬2) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (3/ 260). (¬3) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 304) (8030)، وابن حبان (16/ 396)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (583). (¬4) ((مساوئ الأخلاق)) للخرائطي (ص220). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر (2/ 122). (¬6) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر (2/ 122). (¬7) ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (4/ 169).

الانتصار من الظالم

الانتصار من الظالم (رغب الله سبحانه وتعالى على العفو عن الظالم وأثنى على من فعل ذلك فقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لخاصة نفسه، ولكن الله أباح الانتصار من الظالم، قال تعالى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:39] والانتصار ليس منافياً للعفو، فإنه يكون بإظهار القُدرة على الانتقام، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكون أتمَّ وأكملَ ... فالمؤمن إذا بُغِي عليه، يُظهر القدرة على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك) (¬1). قال سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:40 - 43] (اللام في وَلَمَنِ انْتَصَرَ للتأكيد أي انتقم. قوله بَعْدَ ظُلْمِهِ من إضافة المصدر إلى المفعول قوله َأُولَئِكَ إشارة إلى معنى من دون لفظه مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب والمعنى أخذ حقه بعد أن ظلم فأولئك ما عليهم من سبيل إلى لومه وقيل ما عليهم من إثم إنما السبيل باللوم والإثم على الذين يظلمون الناس يبتدرون الناس بالظلم ويبغون في الأرض يتكبرون فيها ويقتلون ويفسدون عليهم بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم أي مؤلم ولمن صبر على الظلم والأذى ولم ينتصر وفوض أمره إلى الله إن ذلك الصبر والمغفرة منه لمن عزم الأمور أي من الأمور التي ندب إليها والعزم الإقدام على الأمر بعد الروية والفكر) (¬2). وقال إبراهيم: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا) (¬3). وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال: (قد جعلت المعتصم بالله في حل من ضربي وسجني؛ لأنه حدثني هاشم بن القاسم عن ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن البصري يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وكان أحمد بن حنبل يقول: ما أحب أن يعذب الله بسببي أحدا) (¬4). وقال ابن الأنباري: (كان الحسن البصري يدعو ذات ليلة: اللهم اعف عمن ظلمني، فأكثر في ذلك، فقال له رجل: يا أبا سعيد، لقد سمعتك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك؟ قال: قوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (¬5). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص 450). (¬2) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (12/ 292). (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 574). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 575). (¬5) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 575).

معاونة الظالم على ظلمه

معاونة الظالم على ظلمه من يعين الظالم فهو ظالم مثله ومشارك له في الإثم: قال صلى الله عليه وسلم ((مَن أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله)) (¬2). والله سبحانه وتعالى أمر بالتعاون على البر والتقوى ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان فقال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2] وعن جَابِرٍ رضي الله عنه قال: ((لَعَنَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وموكله وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وقال: هُمْ سَوَاءٌ)) (¬3). قال النووي: (هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين والشهادة عليهما وفيه: تحريم الإعانة على الباطل) (¬4). وقال ميمون بن مهران: (الظالم، والمعين على الظلم، والمحب له سواء) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2320) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8473)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6049). (¬2) رواه أبو داود (3598)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (11443) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الرباعي في ((فتح الغفار)) (4/ 2061): لا بأس بإسناده. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2/ 270). (¬3) رواه مسلم (1598). (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (11/ 36). (¬5) ((مساوئ الأخلاق)) للخرائطي (ص220).

هل للظالم توبة؟

هل للظالم توبة؟ باب التوبة مفتوح لكل من عصى الله إذا توفرت شروطها، قال تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110] وقال تعالى فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين ثلاثة فديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً: فالإشراك بالله عز وجل، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء: 48]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً قط: فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فمظالم العباد بينهم، القصاص لا محالة)) (¬1). وشروط التوبة كما ذكرها العلماء: - أن يقلع عن الذنب، بأن يتركه نهائياً. - وأن يندم على ما قد مضى. - وأن يعزم في المستقبل على ألا يعود إليه. - وإذا كان الأمر يتعلق بحقوق الآدميين، سواء بأموالهم أو أعراضهم أو أبدانهم فعليه أن يطلب المسامحة ممن له عليه حق، أو يؤدي الحقوق إلى أهلها. قال ابن القيم: (والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يُشْرَك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد. وديوان المظالم لا يُمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها) (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 540). قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 351):فيه صدقة بن موسى، وقد ضعفه الجمهور، وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا صدقة بن موسى وكان صدوقا، وبقية رجاله ثقات. وضعفه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3022). (¬2) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (1/ 24).

قصص في الظلم ... عبر وعظات

قصص في الظلم ... عبر وعظات 1 - من القصص في الظلم التي حدثت في زمن الصحابة، قصة الرجل الذي ظلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فدعا عليه سعد وقد كان مستجاب الدعوة، فاستجاب الله دعاءه، وتفصيل القصة كما رواها البخاري في (صحيحه) عن جابر بن سمرة، قال: (شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر , رضي الله عنه , فعزله , واستعمل عليهم عمارا، فشكوا، حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه , فقال: يا أبا إسحاق , إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي؟ قال أبو إسحاق: أما أنا والله , فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين، وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق , فأرسل معه , رجلا، أو رجالا , إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم , يقال له: أسامة بن قتادة , يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا , فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية , قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث، اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة , فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد , قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن) (¬1). 2 - ومنها أيضاً: قصة سعيد بن زيد رضي الله عنه فقد روى مسلم في (صحيحه): ((أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئا من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم. فقال سعيد أنا كنت آخذ من أرضها شيئا بعد الذي سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين. فقال له مروان لا أسألك بينة بعد هذا. فقال اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها واقتلها في أرضها. قال فما ماتت حتى ذهب بصرها ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت)) (¬2). 3 - قصة أوردها الهيثمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) قال: (وقال بعضهم: رأيت رجلا مقطوع اليد من الكتف وهو ينادي من رآني فلا يظلمن أحدا، فتقدمت إليه وقلت له: يا أخي ما قصتك؟ فقال يا أخي قصتي عجيبة، وذلك أني كنت من أعوان الظلمة، فرأيت يوما صيادا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه فقلت: أعطني هذه السمكة، فقال لا أعطيكها أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي، فضربته وأخذتها منه قهرا ومضيت بها، قال: فبينما أنا ماش بها حاملها إذ عضت على إبهامي عضة قوية فلما جئت بها إلى بيتي وألقيتها من يدي ضربت علي إبهامي وآلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع وورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم فقال هذه بدو أكلة اقطعها وإلا تلفت يدك كلها فقطعت إبهامي ثم ضربت يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدة الألم، فقيل لي اقطع كفك فقطعتها وانتشر الألم إلى الساعد وآلمني ألما شديدا ولم أطق النوم ولا القرار وجعلت أستغيث من شدة الألم، فقيل لي: اقطعها من المرفق فانتشر الألم إلى العضد وضربت علي عضدي أشد من الألم فقيل لي: اقطع يدك من كتفك وإلا سرى إلى جسدك كله فقطعتها فقال لي بعض الناس: ما سبب ألمك فذكرت له قصة السمكة، فقال لي: لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة فاستحللت منه واسترضيته ولا قطعت يدك، فاذهب الآن إليه واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك. ¬

(¬1) رواه البخاري (755). (¬2) رواه مسلم (1610).

قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي وقلت: يا سيدي سألتك بالله إلا ما عفوت عني، فقال لي: ومن أنت؟ فقلت أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا، وذكرت له ما جرى وأريته يدي فبكى حين رآها ثم قال: يا أخي قد حاللتك منها لما قد رأيت بك من هذا البلاء، فقلت له: بالله يا سيدي هل كنت دعوت علي لما أخذتها منك؟ قال: نعم. قلت: اللهم هذا تقوى علي بقوته على ضعفي وأخذ مني ما رزقتني ظلما فأرني فيه قدرتك، فقلت له: يا سيدي قد أراك الله قدرته في وأنا تائب إلى الله عز وجل عما كنت عليه) (¬1). 4 - قصة تبين نهاية الظالمين، وهي أن أحمد ابن أبي دؤاد، ومحمد بن عبد الملك بن الزيات، وهرثمة، كانوا ممن ظلموا الإمام أحمد في محنة القول بخلق القرآن، فكانت نهايتهم كما ذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) قال: (دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني - صاحب كتاب الحيدة - على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساؤوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم، فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا. والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن. فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر. فقال: يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال: قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا. ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا. قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار. وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه. فقطعوه إربا إربا. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا) (¬2). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (2/ 124). (¬2) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/ 337).

الظلم في واحة الشعر ...

الظلم في واحة الشعر ... قال أبو العتاهية: أما والله إنّ الظّلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديّان يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الملوم وقال آخر: وما من يد إلّا يد الله فوقها ... وما ظالم إلا سيبلى بأظلم اصبر على الظلم قال محمود الورّاق: اصبر على الظّلم ولا تنتصر ... فالظّلم مردود على الظّالم وكل إلى الله ظلوما فما ... ربّي عن الظّالم بالنّائم الظلم نار الظلم نار فلا تحقر صغيرته ... لعل جذوة نار أحرقت بلدا إياك من ظلم الكريم إياك من ظلم الكريم فإنه ... مر مذاقته كطعم العلقم إن الكريم إذا رآك ظلمته ... ذكر الظلامة بعد نوم النوَّم فجفا الفراش وبات يطلب ثأره ... أنِفَاً وإن أغضى ولم يتكلم اتق دعوة المظلوم توق دعا المظلوم إن دعاءه ... ليرفع فوق السحب ثم يجاب توق دعا من ليس بين دعائه ... وبين إله العالمين حجاب وقال آخر كذا دعا المضطر أيضا صاعد ... أبدا إليه عند كل أوان وكذا دعا المظلوم أيضا صاعد ... حقا إليه قاطع الأكوان وقال ابن الوردي رحمه الله تعالى: إياك من عسف الأنام وظلمهم ... واحذر من الدعوات في الأسحار وقال علي رضي الله عنه: أد الأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطيب المكسب واحذر من المظلوم سهما صائبا ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب وقال آخر يا أيّها الظّالم في فعله ... فالظّلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتّى متى ... تسلو المصيبات وتنسى النّقم وقال آخر لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم آخره يأتيك بالندم نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم ولا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم عاقبة الظالم إذا الظالمُ استحْسن الظلمَ مذهبا ... ولجّ عتوّا في قبيح اكتسابِهِ فكِلْه إلى ريْب الزمان فإنّهُ ... سيُبدي له ما لم يكنْ في حسابِه فكمْ قد رأينا ظالماً متجبرَا ... يرى النجم تيْها تحت ظِل ركابِه فلما تمادى واستطال بظلمِه ... أناخَت صروف الحادثات ببابِه وعوقب بالظلم الذي كان يقْتفي ... وصَب عليه الله سوطَ عذابِه ...

ثم ماذا ... ؟

ثم ماذا ... ؟ أخي القارئ الكريم هل اتضحت لك صور الظلم الواقعة في المجتمعات؟ وهل وجدت نفسك في صورة من تلك الصور؟ هل تمعنت في أعمالك التجارية وفي تصرفاتك .... ؟ وهل فيها شيء من ظلم الآخرين؟ إذا كنت وجدت نفسك في صورة من صور الظلم هل حاولت أن تتخلص منها؟ هل نصرت مظلوما؟ وهل ظُلمت في يوم ما؟ وكيف كان وقعه على نفسك؟ إذا كنت تذوقت مرارة الظلم فكيف ترضى أن توقعه على غيرك؟!!

العجب

معنى العجب لغة واصطلاحاً معنى العجب لغة: العجْب بالضم: الزَّهْوُ والكِبْرُ, ورَجُلٌ مُعْجَبٌ: مَزْهُوٌّ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ حَسَناً أَو قَبِيحاً. وقيل: المُعْجَبُ، الإِنْسَانُ المعْجَب بِنَفْسِه أَوْ بِالشَّيْءِ. وقد أُعْجِبَ فُلَانٌ بِنَفْسِه فَهو مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ وبِنَفْسِه. والاسْمُ العُجْبُ، وَقِيلَ: العُجْبُ: فَضْلَةٌ من الحُمْقِ صَرَفْتَهَا إِلَى العُجْب (¬1). معنى العجب اصطلاحاً: قال الجرجاني: العجب هو عبارة عن تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقا لها (¬2). وقال الغزالي: العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم (¬3). وقال أحمد بن يحيى بن المرتضى: (العجب مسرة بحصول أمر يصحبها تطاول به على من لم يحصل له مثله بقول أو ما في حكمه من فعل أو ترك أو اعتقاد) (¬4). قال أبو العباس القرطبي إعجاب الرجل بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (1/ 582) , و ((تاج العروس من جواهر القاموس)) (3/ 318). (¬2) ((التعريفات)) (ص: 147). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 371). (¬4) ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) (6/ 490). (¬5) ((طرح التثريب)) لأبي الفضل للعراقي (8/ 168).

الفرق بين العجب ومرادفاته

الفرق بين العجب ومرادفاته قال ابن حزم رحمه الله: (الْعُجْب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة. ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس) (¬1). ومع ذلك فقد تكلم العلماء وخاصة أهل اللغة عن الفروق بين العجب ومترادفاته ولعلنا نذكر منها ما يلي: الفرق بين العجب والكبر: قال أبو هلال العسكري رحمه الله: (الفرق بين العجب والكبر: أن العجب بالشيء شدة السرور به حتى لا يعادله شيء عند صاحبه تقول هو معجب بفلانة إذا كان شديد السرور بها، وهو معجب بنفسه إذا كان مسرورا بخصالها. ولهذا يقال أعجبه كما يقال سر به فليس العجب من الكبر في شيء، وقال علي بن عيسى: العجب عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها وليست هي لها) (¬2). وقال الغزالي رحمه الله: (فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا ولا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره) (¬3). الفرق بين العجب والتيه: قال مرتضى الزبيدي رحمه الله: (ونَقَل شَيْخُنَا عن الرَّاغِبِ في الفَرْقِ بَيْن المُعْجَبِ والتَّائِهِ، فَقَالَ: المُعْجَبُ يُصَدِّقُ نَفْسَه فِيمَا يَظُنُّ بِهَا وَهْماً. والتَّائِهُ يُصَدِّقُها قَطْعاً) (¬4). الفرق بين العجب والإدلال: يقول المحاسبي: (إن الإدلال معنى زائد في العجب وهو أن يعجب بعمله أو علمه فيرى أن له عند الله قدراً عظيماً قد استحق به الثواب على عمله, فإن رجاء المغفرة مع الخوف لم يكن إدلالاً وإن زايل الخوف ذلك فهو إدلال) (¬5). ¬

(¬1) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم الأندلسي (ص: 75). (¬2) ((الفروق اللغوية)) (ص: 352). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 341). (¬4) ((تاج العروس من جواهر القاموس)) (3/ 318). (¬5) ((الرعاية لحقوق الله)) (ص343 - 344).

ذم العجب والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم العجب والنهي عنه في القرآن والسنة ذم العجب والنهي عنه من القرآن الكريم: أما العجب في القرآن الكريم فقد وردت فيه عدة آيات تبين خطره, وتنبه على أنه آفة تجر وراءها آفات دنيوية وعقوبات أخروية, فمن تلك الآيات: - قال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25]. (قال جعفر: استجلاب النصر في شيء واحد، وهو الذلة والافتقار والعجز ... وحلول الخذلان بشيء واحد وهو العجب ... ) (¬1). - وقال الله تبارك وتعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 32 - 36]. قال ابن عاشور رحمه الله: (ضرب مثلا للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبا مؤنقا وحال الآخر بخلاف ذلك فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تبابا وخسارة، وكانت عاقبة الآخر نجاحا، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الإرزاء، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضا للصلاح والنجاح) (¬2). - وقال الله تبارك وتعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 37 - 38]. يقول العز بن عبد السلام: (زجره عن التطاول الذي لا يدرك به غرضاَ، أو يريد: كما أنك لا تخرق الأرض ولا تبلغ الجبال طولاً فلذلك لا تبلغ ما تريده بكبرك وعجبك, إياساً له من بلوغ إرادته) (¬3). - وقال الله تبارك وتعالى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] قال الإمام بن كثير رحمه الله: (لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ ... وقوله تعالى: ولا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ فَخُورٍ أَيْ عَلَى غَيْرِهِ)) (¬4). - وقال الله تبارك وتعالى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49]. ذم العجب والنهي عنه من السنة النبوية: ¬

(¬1) ((تفسير السلمي)) (1/ 272). (¬2) ((التحرير والتنوير)) (15/ 315). (¬3) ((تفسير العز بن عبد السلام)) (2/ 219). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (6/ 339).

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جَمَّتَهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (¬1). قال أبو العباس القرطبي: (يفيد هذا الحديث ترك الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب، وأن عجب المرء بنفسه وثوبه وهيئته حرام وكبيرة) (¬2). - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله وهو عليه غضبان)) (¬3). يقول المناوي في شرح هذا الحديث: ((مَا من رجل) أَي إنسان وَلَو أُنْثَى (يتعاظم فِي نَفسه يختال فِي مَشْيه) فِي غير الْحَرْب (إلا لقي الله تَعَالَى) يَوْم الْقِيَامَة أَو بِالْمَوْتِ (وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان) لأنه لَا يحب المستكبرين, وَمَا لِابْنِ آدم وللتعاظم وإنما أَوله نُطْفَة مذرة وَآخره جيفة قذرة وَهُوَ فِيمَا بَين ذَلِك يحمل الْعذرَة وَقد خلق فِي غَايَة الضعْف تستولي عَلَيْهِ الأمراض والعلل وتتضاه فِيهِ الطبائع فيهدم بَعْضهَا بَعْضًا فيمرض كرها وَيُرِيد أن يعلم الشيء فيجهله وأن ينسى الشيء فيذكره وَيكرهُ الشيء فينفعه ويشتهي الشيء فيضره معرض للآفات فِي كل وَقت ثمَّ آخِره الْمَوْت وَالْعرض لِلْحسابِ وَالْعِقَاب فإن كَانَ من أهل النَّار فالخنزير خير مِنْهُ فَمن أَيْن يَلِيق بِهِ التعاظم وَهُوَ عبد مَمْلُوك لَا يقدر على شيء) (¬4). - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العجب)) (¬5). قال المناوي رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: (لأن العاصي يعترف بنقصه فترجى له التوبة والمعجب مغرور بعمله فتوبته بعيدة) (¬6). - وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة الشيخ الزاني والإمام الكذاب والعائل المزهو)) (¬7). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية والقول بالحق في الرضى والسخط والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات: فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن)) (¬8). قال الملا علي القاري: ((وإعجاب المرء بنفسه) أي: باستحسان أعمالها وأحوالها أو مالها وجمالها وسائر ما يتوهم أنه من كمالها (وهي أشدهن) أي: أعظمهن وزرا وأكثرهن ضررا لأنه يتصور أن يتوب من متابعة الهوى، ومن رذيلة البخل، والمعجب مغرور ومزين فهو محبوب لا يرجى زواله كالمبتدع، فإنه قل أن يتوب من بدعته. وقال الطيبي: لأن المعجب بنفسه متبع هواه ومن هوى النفس الشح المطاع) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (5789)، ومسلم (2088). (¬2) ((طرح التثريب)) (8/ 169). (¬3) رواه أحمد (2/ 118) (5995)، والحاكم (1/ 128) (201)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (549). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 357): رواته محتج بهم في الصحيح. وصحح إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/ 373). (¬4) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (2/ 362). (¬5) رواه الشهاب القضاعي في ((مسنده)) (2/ 320) (1447)، والبزار كما في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 358) (4431). وجوّد إسناده المنذري، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2921). (¬6) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (5/ 422). (¬7) رواه البزار (6/ 493) (2529). وجوَّد إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 189)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 255):رجاله رجال الصحيح غير العباس بن أبي طالب، وهو ثقة. (¬8) رواه البيهقي في ((الشعب)) (9/ 396). وحسنه الألباني بشواهده في ((تخريج المشكاة)) (5122). (¬9) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (8/ 3199).

أقوال السلف والعلماء في ذم العجب

أقوال السلف والعلماء في ذم العجب - وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (لَبِسْتُ مَرَّةً دِرْعًا جَدِيدًا فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَيْهِ، وَأَعْجَبُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَخَلَهُ الْعُجْبُ بِزِينَةِ الدُّنْيَا مَقَتَهُ رَبُّهُ حَتَّى يُفَارِقَ تِلْكَ الزِّينَةَ؟ قَالَتْ فَنَزَعْتُهُ فَتَصَدَّقْتُ بِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَسَى ذَلِكَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكِ) (¬1). - وقال عمر: (أخوف ما أخاف عليكم أن تهلكوا فيه ثلاث خلال شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) (¬2). - وقالت عائشة رضي الله عنها: (وإن العجب لو كان رجلا كان رجل سوء) (¬3). - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الإعجاب ضدّ الصواب، وآفة الألباب) (¬4). - وعن كعب أنه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث: (اتق الله وارض بالدون من المجلس ولا تؤذ أحدا فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب مازادك الله به إلا سفالا ونقصانا) (¬5). - وقال أبو الدرداء: (علامة الجهل ثلاث العجب وكثرة المنطق فيما لا يعنيه وأن ينهى عن شيء ويأتيه) (¬6). - وعن مسروق قال: (كفى بالمرء علما أن يخشى الله وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه) (¬7). - وقال أبو وهب المروزي: (سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن، تزدري الناس. فسألته عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب) (¬8). - وقال علي بن ثابت: (المال آفته التبذير والنهب والعلم آفته الإعجاب والغضب) (¬9). - وعن خالد بن يزيد بن معاوية قال: (إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً بنفسه، فقد تمت خسارته) (¬10). - وكان يحيى بن معاذ يقول: (إِياكم والعجب، فإِنَّ الْعجبَ مهلكة لِأَهْلِه، وَإِنَّ الْعجب ليأكل الحسَنَات كَمَا تأكُلُ النَّار الحطب) (¬11). - وكان ذو النون يقول: (أربع خلال لها ثمرة: العجلة، والعجب، واللجاجة، والشره، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة العجب البغض، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة الشره الفاقة) (¬12). - وقال عَبْد الله بن المبارك: (اثنتان منجيتان واثنتان مهلكتان فالمنجيتان النية والنهي فالنية أن تنوي أن تطيع الله فيما يستقبل والنهي أن تنهى نفسك عما حرم الله عز وجل والمهلكتان العجب والقنوط) (¬13). - وقال الحرث بن نبهان: سمعت محمد بن واسع يقول: (وا أصحاباه ذهب أصحابي قال: قلت: يرحمك الله أليس قد نشأ شباب يقرءون القرآن ويقومون الليل ويصومون النهار ويحجون ويقرءون؟ قال: فبزق وقال: أفسدهم العجب) (¬14). ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 37). (¬2) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 568) (960). (¬3) رواه ابن وهب في ((جامعه)) (570) (467) من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا. (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (237). (¬5) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 376)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 567) (959). (¬6) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 569) (962)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/ 175). (¬7) ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 143). (¬8) ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 407). (¬9) ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 143). (¬10) ((مساوئ الأخلاق)) (ص567). (¬11) ((شعب الإيمان)) (9/ 396). (¬12) ((شعب الإيمان)) (10/ 495). (¬13) ((حلية الأولياء)) (7/ 298). (¬14) ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (ص223).

حكم العجب

حكم العجب العجب كبيرة من كبائر الذنوب التي تستحق غضب الله ومقته وعذابه في الدنيا والآخرة. فهو سجية مذمومة, وطبع سيئ مبغوض, قال ابن حزم: (إن العجب من أعظم الذنوب وأمحقها للأعمال. فتحفظوا حفظنا الله وإياكم من العجب والرياء) (¬1). ويقول الغزالي رحمه الله: (اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة: 25]. ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عز وجل: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 104]) (¬2). بل عده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نوع من أنواع الشرك فقال: ((وكثيراً ما يقرن الرياء بالعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، العجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ والمعجب لا يحقق قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فمن حقق قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ خرج عن الرياء ومن حقق قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ خرج عن الإعجاب)). (¬3) ¬

(¬1) ((رسائل ابن حزم)) (3/ 180). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 369). (¬3) ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 248).

آثار العجب

آثار العجب للعجب آثار وأضرار سيئة على العبد قد تقوده إلى الهلكة من حيث لا يشعر, ومن تلك الأضرار: 1. أنه يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْعُجْبَ، فَإِنَّ مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ تَكَبَّرَ بِهِ (¬1). وقال المحاسبي: (إن أول بدوِّ الكبر العجب, فمن العجب يكون أكثر الكبر ولا يكاد المعجب أن ينجو من الكبر ... ) (¬2). 2. أنه يتولد عنه الكثير من الأخلاق السيئة والصفات الرديئة كالتيه وازدراء الآخرين, لذا قيل فِي تَعْرِيفِ التِّيهِ: (هُوَ خُلُقٌ مُتَوَلِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِزْرَاؤُهُ بِغَيْرِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ التِّيهُ) (¬3) 3. يدعو إلى إهمال الذنوب ونسيانها فلا يحدث العبد بعد ذلك توبة. قال المحاسبي: (يجمع العجب خصالاً شتى: يعمى عليه كثير من ذنوبه وينسى مما لم يعم عليه منها أكثرها, وما ذكر منها كان له مستصغراً, وتعمى عليه أخطاؤه وقوله بغير الحق) (¬4). 4. يجعل العبد يستعظم أعماله وطاعاته ويمن على الله بفعلها. 5. يدعو العبد إلى الاغترار بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ. 6. يمنعه عن سؤال أهل العلم. 7. يفتره عن السعي لظنه أنه قد فاز, وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح (¬5). 8. يخفي المحاسن ويظهر المساوئ ويكسب المذام ويصد عن الفضائل (¬6). 9. يحبط العمل, ويفسده, ويذهب به. يقول النووي رحمه الله: اعلم أن الإخلاص قد يعرض له آفة العُجب، فمن أعجب بعمله حبط عمله، وكذلك من استكبر حبط عمله (¬7). ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس) (¬8). 10. يدعو العبد إلى المن بما يقدم من معروف, وإلى تعظيم ما يسدي من خير قال المحاسبي: (ويخرجه المن بمعروفه وصدقته. لأنه عظم عنده ما تصدق به أو تفضل به وينسى منة الله عز وجل عليه, وأنه مضيع لشكره على ذلك, فمن بما اصطنع من معروفه فحبط أجره, كما قال الله عز وجل: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) (¬9). 11. طريق إلى خذلان المرء بحيث يكل الله العبد إلى نفسه فلا ينصره, وقد قال جل وعلا: قال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] (¬10). 12. من اتصف به ساءت عاقبته في الدنيا والآخرة (¬11). ¬

(¬1) ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)) (2/ 174). (¬2) ((الرعاية في حقوق الله)) (ص: 371). (¬3) ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)) (2/ 174). (¬4) ((الرعاية في حقوق الله)) (ص: 337). (¬5) ((البحر الرائق في الزهد والرقائق بتصرف)) (ص: 153). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 237). (¬7) ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 33). (¬8) ((الفوائد)) (ص: 152). (¬9) ((الرعاية في حقوق الله)) (ص: 337). (¬10) ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 33). (¬11) ((موسوعة المناهي الشرعية في صحيح السنة النبوية)) (3/ 305).

صور العجب

صور العجب قد يحصل العجب بصفات اضطرارية وقد يحصل بصفات اختيارية, والفرق بينهما أن الصفات الاضطرارية هي ما خلقت في الإنسان ابتداء دون أن يكون له تدخل فيها كالجمال والنسب وغيرها, أما الاختيارية فهي ما تحصل عليها ببذل مجهود واكتسبها بعد أن لم يكن متصفاً بها كالعلم والمال والجاه وغيرها. وكلها العجب بها مذموم, يقول المرتضى في البحر الزخار: (ولا فرق بين أن تكون تلك الخصلة التي حصل بها الإعجاب اضطرارية كجمال أو فصاحة أو كثرة عشيرة أو مال أو بنين أم اختيارية كإقدام, أو كثرة علم أو طاعة أو نحو ذلك فإن العجب بذلك كله قبيح شرعاً ولا أعرف فيه خلافاً) (¬1). ونحن نذكر بعض هذه الصفات الاضطرارية والاختيارية: - الإعجاب بالعقل الراجح, والذكاء. - الإعجاب بالرأي السديد. - الإعجاب بالعلم وغزرته والتفوق على الأقران فيه. - الإعجاب بالشجاعة والإقدام والقوة والبأس. - الإعجاب بجمال الصورة وحسن المظهر. - الإعجاب بالجاه والمنصب والرئاسة والتصدر. - الإعجاب بالعبادة والطاعة. - الإعجاب بما يقدمه من خير ومنفعة للناس. - الإعجاب بالنسب والشرف أو العشيرة والقبيلة. - الإعجاب بالمال والغنى والتجارة وسعة الرزق. - الإعجاب بكثرة الأتباع والأنصار والمريدين. - الإعجاب بكثرة الأبناء. وغير ذلك من الخصال التي يتحصل بها العجب ¬

(¬1) ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) (6/ 491).

أسباب العجب

أسباب العجب للعجب أسباب تجر الشخص إلى الوقوع فيه, وبواعث تدعوه إليه نذكر منها ما يلي: 1. جهل المرء بحقيقة نفسه وغفلته عنها (وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها) (¬1). 2. المدح والثناء والإطراء في الوجه سبب قوي من أسباب العجب قال الماوردي رحمه الله: (من أقوى أسبابه – أي العجب - كثرة مديح المتقربين وإطراء المتملقين الذين جعلوا النفاق عادة ومكسبا، والتملق خديعة وملعبا، فإذا وجدوه مقبولا في العقول الضعيفة أغروا أربابها باعتقاد كذبهم، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الاستهزاء بهم) (¬2). وقال ابن حجر رحمه الله: (قال بن بطال حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به) (¬3). 3. ومما يوصل الإنسان إلى العجب بنفسه مقارنته لنفسه بمن هو دونه في العمل والفضل, واعتقاده أن الناس هلكى بالذنوب والمعاصي وأنه على خير كبير إذا قورن بغيره. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إذا قال الرجل هلك الناسُ فهو أهلكهُم)) (¬4). 4. النشأة والتربية, فقد ينشأ الإنسان في بيئة غلب عليها طبع العجب والكبر فيأخذ هذا الطبع منها, ويتأثر بمحيطه ومن حوله. يقول السيد محمد نوح: (قد ينشأ بين أبوين يلمس منهما أو من أحدهما: حب المحمدة ودوام تزكية النفس إن بالحق وإن بالباطل والاستعصاء على النصح والإرشاد ونحو ذلك من مظاهر الإعجاب بالنفس فيحاكيهما وبمرور الزمن يتأثر بهما ويصبح الإعجاب بالنفس جزء من شخصيته إلا من رحم الله) (¬5). وكما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان منَّا ... على ما كان عوده أبوه 5. الرفقة والصحبة سبب من أسباب الإعجاب بالنفس, ذلك أن الإنسان شديد المحاكاة والتأثر بصاحبه لا سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية ذا خبرة ودراية بالحياة وكان المصحوب غافلا على سجيته يتأثر بكل ما يلقى عليه وعليه فإذا كان الصاحب مصابا بداء الإعجاب فإن عدواه تصل إلى قرينه فيصير مثله (¬6). 6. الاغترار بالنعمة والركون إليها مع نسيان ذكر المنعم تبارك وتعالى, (فإذا حباه الله نعمة من المال أو علم أو قوة أو جاه أو نحوه وقف عند نعمة ونسي المنعم وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من علم على حد قول قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص: 78] ولا يزال هذا الحديث يلح عليه حتى يرى أنه بلغ الغابة أو المنتهى ويسر ويفرح بنفسه وبما يصدر عنها ولو كان باطلا وذلك هو الإعجاب بالنفس) (¬7). 7. تولي المناصب القيادية, من سلطة أو قضاء أو إدارة أو إشراف وغير ذلك من المسؤوليات. 8. التمتع بصفة أو مزية تجعله يتميز عن غيره فيها سواء كانت هذه الصفة اضطرارية كالجمال, أو فصاحة اللسان أو النسب أو العشيرة أو المال والبنين أو غيرها, أو كانت تلك الصفة اختيارية كالعلم والطاعة والإقدام وغيرها. 9. المبالغة في التوقير والاحترام من الأتباع, وفي ذلك قاصمة ظهر للمتبوع. 10. قلة الورع والتقوى وضعف المراقبة لله عز وجل. 11. قلّة الناصح والموجه أو فقده بالكلية. 12. عدم التفكر في حال الدنيا والافتتان بها وبزخرفها الفاني بالإضافة إلى اتباع هوى النفس ومتابعتها فيها. 13. الغفلة عن نهاية العجب والمعجبين ومآلهم في الدنيا والآخرة. 14. عدم التأمل في النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية, الناهية عن هذه السجية القبيحة, الآمرة بضدها من تواضع وخفض جناح. 15. الأمن من مكر الله عز وجل والركون إلى عفوه ومغفرته. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (1/ 192). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص239). (¬3) ((فتح الباري)) ابن حجر (10/ 477). (¬4) رواه مسلم (2623). (¬5) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح. (¬6) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح. (¬7) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح.

علامات العجب

علامات العجب هناك بعض العلامات والأمارات التي تظهر في سلوك المعجب بنفسه منها: 1. تزكية النفس, والرفع من شأنها. 2. عدم سماع النصيحة, والاستعصاء على التوجيه والإرشاد. 3. الفرح بسماع عيوب الآخرين خاصة الأقران 4. رد الحق والترفع عن الاستجابة لداعيه. 5. احتقار الناس, وتصعير الخد لهم. 6. الاستنكاف عن استشارة العقلاء والفضلاء. 7. الاختيال والتبختر في المشي. 8. استعظام الطاعة واستكثارها, والمنة على الله بها 9. المباهاة بالعلم والتفاخر به وجعله وسيلة للمماراة والجدل. 10. التباهي بالأحساب والأنساب, واحتقار الناس من أجل ذلك. 11. التفاخر بحسن الخلقة وجمال المنظر. 12. تعمد التقليل من شأن أهل الفضل من العلماء والمشايخ والأتقياء. 13. التكبر عن الاستماع لأهل العلم. 14. الإصرار على الأخطاء, وتعمد مخالفة الناس. 15. التصدر في المجالس وإن لم يكن أهلاً لذلك, لظنه أنه الأجدر بالصدارة. 16. الفتور عن الأعمال الصالحة والاتكال على ما قد عمل ظناً منه أنه قد وصل إلى مرحلة الكمال.

الوسائل المعينة على ترك العجب

الوسائل المعينة على ترك العجب يتكلم الإمام ابن حزم رحمه الله عن علاج العجب فيجعل له علاجاً عاماً يتداوى به كل من أصيب بهذا الداء العضال والآفة القاتلة, وهذا العلاج يكمن في التفكر في عيوب النفس والنظر إلى نقصها وضعفها فيقول رحمه الله تعالى: (من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه. فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنية، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أنه مصيبة للأبد وأنه أتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً ... فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة ... ثم تقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تميل بين نفسك وبين من هو أكثر منها عيوباً فتستسهل الرذائل وتكون مقلداً لأهل الشر) (¬1). ثم يتكلم رحمه الله عن علاج لبعض الحالات الخاصة من حالات العجب ننقلها هنا بتصرف يسير: - (علاج من أعجب بعقله: فإن أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تمر بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ. - علاج من أعجب برأيه: وإن أعجبت بآرائك، فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها، وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت أنت، فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك صوابه فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك. وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم. - علاج من أعجب بما يقدمه من الخير: وإن أعجبت بخيرك فتفكر في معاصيك وتقصيرك وفي معايبك ووجوهها، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك، فليطل همك حينئذ من ذلك، وأبدل من العجب تنقيصاً لنفسك. - علاج من أعجب بعلمه: وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت ... واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدرس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها. ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم الذي تختص به والذي أعجبت بنفاذك فيه، أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها، فهو أولى. وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ. وتفكر في إخلالك بعلمك، فإنك لا تعمل بما علمت منه فعلمك عليك حجة حينئذ، لقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً. واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية. ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك. - علاج من أعجب بشجاعته: وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيما صرفتها، فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس بثمن لها. وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخ، وإنك إن عشت فستصير في عداد العيال وكالصبي ضعفاً ... - علاج من أعجب بجاهه: ¬

(¬1) ((رسائل ابن حزم)) (1/ 387).

وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظائرك ولعلهم أخساء وضعاء سقاط. فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ولعلهم ممن يستحيي من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وفي أخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شارك فيها من ذكرت لك. إن كنت مالك الأرض كلها ولا خليفة عليك - وهذا بعيد جداً في الإمكان، فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق مساحته بالإضافة إلى غامرها فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط ... وإن كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أن ملك السودان وهو رجل أسود مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك. فإن قلت أخذته بحق، فلعمري ما أخذته بحق إذ استعملت فيه رذيلة العجب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة لا حالة يجب العجب فيها. - علاج من أعجب بماله: وإن أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت. واعلم أن عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا بأن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط. والمال أيضاً غاد ورائح، وربما زال عنك ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف. - علاج من أعجب بجماله وحسن منظره: وإن أعجبت بحسنك ففكر فيما عليك مما نستحيي نحن من إثباته وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن. - علاج من أعجب بمدح الناس له: وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله. فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل اطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز ... - علاج من أعجب بنسبه وأرومته: وإن أعجبت بنسبك، فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا، لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك. ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الإسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلقهم في غاية السقوط والرذالة والتبذل والتحلي بالصفات المذمومة. فلا تغتبط بمنزلة هم نظراؤك أو فوقك. - علاج من أعجب بفضل آبائه: فإن أعجبت بولادة الفضلاء إياك، فما أخلى يدك من فضلهم إن لم تكن أنت فاضلاً، وما أقل غناءهم عنك في الدنيا والآخرة إن لم تكن محسناً، والناس كلهم ولد آدم الذي خلقه الله تعالى بيده، وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته، ولكن ما أقل نفعه لهم، وفيهم كل عيب وكل فاسق وكل كافر. وإذا فكر العاقل في أن فضائل آبائه لا تقربه من ربه تعالى ولا تكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده أو بفضله في نفسه ولا ماله، فأي معنى للإعجاب بما لا منفعة فيه ... - علاج من طلب المدح عجباً بنفسه: فإن تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك، لأنه قد عجز عقلك عن مفارقة ما فيك من العجب. هذا إن امتدحت بحق، فكيف إن امتدحت بكذب! وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب، عم النبي صلى الله عليه وعلى نوح وإبراهيم وسلم، أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى من ولد آدم وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك. - علاج من أعجب بقوة جسمه أو خفته: وإن أعجبت بقوة جسمك فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال، وان أعجبت بخفتك، فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب. فمن أعجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير الناطق ... )) (¬1). ¬

(¬1) ((رسائل ابن حزم)) (1/ 393).

العجب عند الحكماء والأدباء

العجب عند الحكماء والأدباء - قال ابن المقفع: (العُجب آفةُ العقل، واللجاجةُ قُعودُ الهوى، والبُخل لقاحُ الحرصِ، والمراءُ فسادُ اللسانِ، والحميةُ سببُ الجهلِ، والأنفُ توأمُ السفهِ، والمنافسة أختُ العداوةِ) (¬1). - وقال أيضاً: (واعلم أن خفضَ الصوتِ وسكون الريحِ ومشي القصدِ من دواعي المودةِ، إذا لم يخالط ذلك بأو (¬2) ولا عجبٌ. أما العجبُ فهو من دواعي المقتِ والشنآن) (¬3). - وقال فيلسوف: (العجب فضيلة يراها صاحبها في غيره فيدعيها لنفسه) (¬4). - وقيل لبزر جمهر: (ما النعمة التي لا يحسد عليها صاحبها: قال: التواضع قيل له فما البلاء الذي لا يرحم عليه صاحبه قال العجب) (¬5). - قال أبو عمرو بن العلاء: (الأخلاق المانعة للسؤدد الكذب والكبر والسخف والتعرض للعيب وفرط العجب). (¬6) - تكلّم رَبيعةُ الرَّأي يَوْماً بكلام في العِلْم فأكثر، فكأَنَّ العُجبَ دَاخَلَه، فالتفت إلى أعرابيّ إلى جَنْبه، فقال: ما تَعُدون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصوَّاب؛ قال: فما تَعُدون العِيّ؟ قال: ما كُنتَ فيه منذ اليوم، فكأنما أَلْقَمَه حَجَراً (¬7). - وكان يقال: (المعْجبِ لَحُوح والعاقلُ منه في مَؤُونة. وأمَا العُجْب فإنه الجَهْل والكِبر) (¬8). - وقيل: (ما أسلب العجب للمحاسن) (¬9). - وقيل: (العجب أكذب، ومعرفة الرجل نفسه أصوب) (¬10). - وقيل: (ثمرة العجب المقت) (¬11). - وقيل: (سوء العادة كمين لا يؤمن. وأحسن من العجب بالقول ألا تقول. وكفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة) (¬12). - وسئل أنيس بن جندل: (ما أجلب الأشياء للمقت؟ فقال: العجب والخرق) (¬13). - وقيل: (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله) (¬14). - وقالوا: (من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ومن تكبر على الناس ذلك ومن خالط الأنذال حقر ومن جالس العلماء وقر) (¬15). ¬

(¬1) ((الأدب الصغير والأدب الكبير)) (ص:35). (¬2) البأو: الفخر بالنفس. (¬3) ((الأدب الصغير والأدب الكبير)) (ص:128). (¬4) ((البصائر والذخائر)) (ص:200). (¬5) ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 566). (¬6) ((البصائر والذخائر)) (6/ 212). (¬7) ((العقد الفريد)) (2/ 112). (¬8) ((العقد الفريد)) (2/ 109). (¬9) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:444). (¬10) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:444). (¬11) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:444). (¬12) ((التذكرة الحمدونية)) (1/ 275). (¬13) ((التذكرة الحمدونية)) (1/ 258). (¬14) ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 143). (¬15) ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 143).

العجب في واحة الشعر ..

العجب في واحة الشعر .. قال أحد الشعراء: يا مظهرَ الكبر إعجاباً بصورته ... انظر خلاك فإن النتن تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبان ولا شيب هل في ابن آدم مثل الرأس مكرُمةً ... وهو بخمس من الأقذار مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرفضة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً ... أقصر فإنك مأكول ومشروب وقال آخر: يا من غلا في العجب والتيه ... وغره طول تماديه أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غب معاصيه وقال منصور الفقيه: تتيه وجسمك من نطفةٍ ... وأنت وعاءٌ لما تعلم (¬1) ... ¬

(¬1) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:445).

الغدر

معنى الغدر لغة واصطلاحاً معنى الغدر لغة: هو الإخلال بالشّيء وتركه (¬1). وهو ضدّ الوفاء بالعهد (¬2). وقَالَ اللَّيْث: تَقول: غَدَرَ يَغْدِرُ غَدْراً إِذا نقض الْعَهْد وَنَحْوه (¬3). معنى الغدر اصطلاحاً: قال الجاحظ: (هو الرّجوع عمّا يبذله الإنسان من نفسه ويضمن الوفاء به) (¬4). وقال المناويّ: (الغدر: نقض العهد والإخلال بالشّيء وتركه) (¬5). وقيل هو: (نقض العهد مطلقاً في لحظة لم تكن متوقعة ولا منتظرة) (¬6). ¬

(¬1) ((تاج العروس)) للزبيدي (13/ 203). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (5/ 8). (¬3) ((تهذيب اللغة)) للهروي (8/ 87). (¬4) ((تهذيب الأخلاق)) (ص30). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص250). (¬6) ((آفات على الطريق)) للسيد محمد نوح (80).

الفرق بين المكر والغدر

الفرق بين المكر والغدر الفرق بينهما: أن الغدر: نقض العهد الذي يجب الوفاء به. والمكر: قد يكون ابتداء من غير عقد (¬1). ¬

(¬1) ((معجم الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص508 - 509).

ذم الغدر والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم الغدر والنهي عنه في القرآن والسنة ذم الغدر والنهي عنه في القرآن الكريم: - قال تعالى: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ [النحل: 92]. قال ابن كثير: ( ... لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام) (¬1). وقال ابن زيد، في قوله: تتخذون أيمانكم دخلا بينكم [النحل: 92] يغر بها، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزل قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، دَخَلا بَيْنَكُمْ [النحل: 92] قَالَ قَتَادَةُ: خِيَانَةً وَغَدْرًا (¬2). وقال المراغي: (أي تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم- خديعة وغروراً ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد، والنّقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عدداً وعدداً وأعز نفراً، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة عليها في كل حال) (¬3). - قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91]. قال الطبري: (إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحق مما لا يكرهه الله) (¬4). قال الماوردي: (لا تنقضوها بالغدر بعد توكيدها بالوفاء) (¬5). - قوله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58]. قال الحافظ ابن كثير: (يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قد عاهدتهم خِيَانَةً أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي: عهدهم عَلَى سَوَاءٍ أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك) (¬6). وقال العلامة السعدي: (وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. عَلَى سَوَاءٍ أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيءٍ مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ بل يبغضهم أشد البغض، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة ... ودل مفهومها أيضاً أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته) (¬7). - قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً [الإسراء: 34]. قال القاسمي: (لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها) (¬8). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 600). (¬2) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (14/ 346). (¬3) ((تفسير المراغي)) (14/ 134). (¬4) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) (14/ 340). (¬5) ((النكت والعيون)) (3/ 210). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 79). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (ص324). (¬8) ((محاسن التأويل)) (6/ 460).

وقال الراغب: (ولكون الوفاء سبباً لعامة الصلاح. والغدر سبباً لعامة الفساد، عظم الله أمرهما، وأعاد في عدة مواضع ذكرهما، فقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34]، وقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) (¬1). وقال ابن رجب: (ويدخل في العُهود التي يجب الوفاءُ بها، ويحرم الغَدْرُ فيها: جميعُ عقود المسلمين فيما بينهم، إذا تَرَاضَوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاءُ بها، وكذلك ما يجبُ الوفاء به لله - عز وجل - ممَّا يعاهدُ العبدُ ربَّه عليه من نذرِ التَّبرُّرِ ونحوه) (¬2). ذم الغدر والنهي عنه من السنة النبوية: - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان)) (¬3). قال ابن بطال: (وهذه مبالغة في العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة) (¬4). وقال النووي: (لكل غادر لواء أي علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك) (¬5). وقال ابن عثيمين: (وفي هذا الحديث دليل على أن الغدر من كبائر الذنوب، لأن فيه هذا الوعيد الشديد) (¬6). - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع، من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬7). قال المناوي: (وإذا عاهد غدر) أي: نقض العهد (¬8). وقال العظيم آبادي: (وإذا عاهد غدر) أي: نقض العهد وترك الوفاء بما عاهد عليه (¬9). وقال ابن عثيمين: (وإذا عاهد غدر) يعني: إذا أعطى عهدًا على أي شيء من الأشياء غدر به ونقض العهد، وهذا يشمل المعاهدة مع الكفار، والمعاهدة مع المسلم في بعض الأشياء ثم يغدر بذلك (¬10). - وفي حديث هرقل الطويل مع أبي سفيان عندما سأله عن النبي: ((فهل يغدر؟ قال: لا، ثم قال هرقل: وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون)) (¬11). قال ابن بطال: قد جاء فضل الوفاء بالعهد وذم الختر في غير موضع في الكتاب والسنة، وإنما أشار البخاري في هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبى سفيان: هل يغدر؟ إذ كان الغدر عند كل أمة مذموماً قبيحاً، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق النبي؛ لأن من غدر ولم يفِ بعهد لا يجوز أن يكون نبياً؛ لأن الأنبياء والرسل عليهم السلام أخبرت عن الله بفضل من وفى بعهد وذم من غدر وختر (¬12). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره)) (¬13). قال المهلب: قوله: (أعطى بي ثم غدر) يريد: نقض عهداً عاهده عليه (¬14). ¬

(¬1) ((تفسير الراغب)) (2/ 659). (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) (3/ 1255). (¬3) رواه مسلم (1736)، بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة، من حديث أبي سعيد، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم. (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 357). (¬5) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (12/ 43). (¬6) ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 273). (¬7) رواه البخاري (2227). (¬8) ((فيض القدير)) (1/ 463). (¬9) ((عون المعبود)) (12/ 289). (¬10) ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 166). (¬11) رواه البخاري (2941)، ومسلم (1773). (¬12) ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 356). (¬13) رواه البخاري (2227). (¬14) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 345).

وقال المناوي: (ثم غدر) أي: نقض العهد الذي عاهد عليه لأنه جعل الله كفيلاً له فيما لزمه من وفاء ما أعطى والكفيل خصم المكفول به للمكفول له (¬1). وقال الصنعاني: فيه دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة نيابة عمن ظلموه، وقوله أعطى بي أي: حلف باسمي وعاهد أو أعطى الأمان باسمي وبما شرعته من ديني، وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه (¬2). - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)) (¬3). قال ابن بطال: (دل أن الغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي. فإن قال قائل: فما وجه موافقة حديث ابن عباس للترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن محارم الله عهود إلى عباده، فمن انتهك منها شيئاً لم يف بما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة مَنَّ على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان هذا فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر؛ إذ شمل جميعهم أمان النبي وعفوه عنهم) (¬4). - وعن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة)) (¬5). وفي رواية: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)) (¬6). قال النووي: وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لاسيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين (¬7). ¬

(¬1) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 315). (¬2) ((سبل السلام)) (2/ 116). (¬3) ((سبل السلام)) (2/ 116). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 351). (¬5) رواه مسلم (1738) (15). والحديث روي بألفاظ مختلفة من حديث عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم. (¬6) رواه مسلم (1738) (16). والحديث روي بألفاظ مختلفة من حديث عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم. (¬7) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (12/ 44).

أقوال السلف والعلماء في ذم الغدر

أقوال السلف والعلماء في ذم الغدر - قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (الغدر مكر والمكر كفر) (¬1). - وقال أيضاً: (الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها. وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين) (¬2). - وقال أيضاً: (إذا كان الغدر طبعاً، فالثقة بكل أحد عجز) (¬3). - وقال عديّ بن حاتم: (أتينا عمر في وفد فجعل يدعو رجلاً رجلاً ويسمّيهم. فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. فقال عديّ: فلا أبالي إذاً) (¬4). - قال ابن حزم: الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقاً ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسياً أو متصبراً، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه (¬5). - ولمّا حلف محمّد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام- وهما وليّا عهد- طالبه جعفر بن يحيى أن يقول: خذلني الله إن خذلته. فقال ذلك ثلاث مرّات. قال الفضل بن الرّبيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله: يا أبا العبّاس أجد نفسي أنّ أمري لا يتمّ. فقلت له ولم ذلك أعزّ الله الأمير؟ قال: لأنّي كنت أحلف وأنا أنوي الغدر، وكان كذلك لم يتمّ أمره (¬6). - قال الأبشيهيّ: (وكم أوقع القدر في المهالك من غادر، وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر، وطوقه غدره طوق خزي، فهو على فكّه غير قادر) (¬7). - وقال أيضاً: أيّ سوء أقبح من غدر يسوق إلى النّفاق، وأيّ عار أفضح من نقض العهد إذا عدّت مساوئ الأخلاق (¬8). - وقال ملك لصاحب ملك آخر: أطلعني على سر صاحبك، قال: إليّ تقول هذا؟ وما ذاق أحد كأساً أمر من الغدر، والله لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض منه، ولكن سماجة اسمه وبشاعة ذكره ناهيان عنه (¬9). - قال مروان لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره: صر إلى هؤلاء القوم، يعني بني العباس، فإني أرجو أن تنفعني في مخلفي، فقال وكيف لي بعلم الناس جميعاً إن هذا رأيك؟ كلهم يقولون إني قد غدرت بك وأنشد: وغدري ظاهر لا شك فيه ... لمبصرة وعذري بالمغيب - ولما أتى به المنصور قال له: استبقني فإني فرد الدهر بالبلاغة. فقطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه (¬10). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (17/ 43). (¬2) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (5/ 300). (¬3) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص134). (¬4) رواه البخاري (4394). (¬5) ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص253). (¬6) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص218). (¬7) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص216). (¬8) ((المستطرف)) للأبشيهي (ص217). (¬9) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 139). (¬10) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 142).

آثار ومضار الغدر

آثار ومضار الغدر للغدر آثار سيئة وعواقب وخيمة، على العاملين، وعلى العمل الإسلامي (¬1): أولاً: آثاره على العاملين: من أبرز هذه الآثار وتلك العواقب على العاملين ما يلي: 1 - الغواية والضلال: إن الذين يتصفون بالغدر هم بعيدون عن كتاب الله وسنة رسوله، وبسبب ذلك فقد أغواهم الله تعالى وأضلهم، فلا يوفقون إلى خير. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة: 26 - 27]. 2 - قسوة القلب: لقد كانت قسوة القلب سمة بارزة في أهل الكتاب لاسيما اليهود لكثرة نقضهم العهد والمواثيق. قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 13 - 14]. 3 - ضياع المروءة، وذهاب الهيبة، وتسليط الأعداء: ولا يقف العقاب الإلهي عند هذا الحد، بل يكون معه ضياع المروءة وذهاب الهيبة وتسليط الأعداء، وما يتبع ذلك من السيطرة على الأوطان واستنزاف الخيرات والثروات، وتغيير هوية الأمة وثقافتها وقيمها وأخلاقها وسوم أبنائها سوء العذاب. قال تعالى: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10]. قال محمد بن كعب القرظي رضي الله تعالى عنه: (ثلاث خصال من كن فيه، كن عليه: البغي، والنكث، والمكر) (¬2). 4 - تحمل الجزاء المترتب على الغدر: ذلك أن الغدر يؤدي إلى خسائر بدنية أو نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وقد تكون هذه جميعاً، ولابد من ضمان التلف في جزاء يتولاه ولي الأمر أو نائبه، أو تتولاه الرعية حين يغدر ولي الأمر فيضيع من هم في رعايته. 5 - براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الغدر: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بمنهاج يدعو إلى الوفاء مع الخالق، والمخلوق، ومع العدو، والصديق بل حتى مع الدواب والجمادات ثم طبق ذلك عملياً على نفسه حين استبقى علياً مكانه في فراشه ليلة الهجرة ليرد الودائع إلى أصحابها، ووفى بعهده مع اليهود لولا أنهم غدروا، ووفى مع المشركين في مكة والطائف وغيرهما لولا غدرهم وخيانتهم. 6 - حلول اللعنة على الغادر من الله، والملائكة، والناس أجمعين: ذلك أن الله يغار حين يرى العبد أكل نعمته، ثم غدر فاستخدمها في معصيته وحربه وتمثل هذه الغيرة في حلول اللعنة، ومعه سبحانه الملائكة، والناس أجمعين برهم، وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم. 7 - الانتظام في سلك المنافقين: ¬

(¬1) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح (ص84 - 93) بتصرف واختصار. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((ذم البغي)) (ص88).

ذلك أن الغادر أظهر شيئاً في الوقت الذي أبطن فيه خلافه، ومثل هذا الصنف من الناس يجب توقيه، والحذر منه لأنه لم يعد محل ثقة ولا أمانة إذ يظهر الموافقة على العهود، والالتزام، ثم يخفي النقض والغدر. 8 - الفضيحة على رؤوس الأشهاد: ذلك أن الله لا يوقف عقابه للغادرين على الدنيا بل يضم إلى ذلك عقاب الآخرة، وأوله الفضيحة على رؤوس الأشهاد وما أعظمه وما أشده من عقاب. 9 - لقاء الله أبتر اليمين: ذلك أنه أعطى بيعة بيمينه على الوفاء بما بايع عليه، وعدم النقض وأقل عقاب يعاقبه رب العزة: أنه يبعثه من قبره ليلقى ربه وقد حرمه يمينه تلك التي بايعت وخان صاحبها البيعة وغدر بعهده. 10 - المساءلة غداً مع الإهانة في الكلام، ومع الحرمان من رؤية الله والجنة: لا يقف أمر عقاب المولى للغادر عند حد الفضيحة على رؤوس الأشهاد وعند حد لقائه سبحانه له، وهو مبتور اليمين، بل يتعدى ذلك إلى المساءلة والإهانة في الكلام، والحرمان من رؤية رب العالمين والجنة. ثانياً: آثاره على العمل الإسلامي: كما أن للغدر آثاراً سيئة، وعواقب وخيمة على العاملين فله كذلك آثار سيئة وعواقب وخيمة على العمل الإسلامي نذكر منها: 1 - القطيعة والفرقة: ذلك أنه إذا شاع الغدر بين أبناء المجتمع سحب كل منهم ثقته بالآخر ووقعت الخصومات وما يتبعها من القطيعة والفرقة الأمر الذي يؤدي إلى طمع الأعداء، وسعيهم للسيطرة على بلاد المسلمين وانتهاك حرماتهم من العقيدة والدم، والعقل والعرض والمال. 2 - طول الطريق وكثرة التكاليف: ذلك أنه إذا سيطر الأعداء، وفرضوا أنفسهم على المسلمين وديارهم: عملوا على التمكين لهم بطريق أو بأخرى.

صور الغدر

صور الغدر للغدر صور كثيرة نذكر منها أمور وهي كالتالي (¬1): 1 - نقض العهد الذي أخذ الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره إذ يقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ] الأعراف: 172 - 173 [.] 2 - نقض العهد الذي وصى الله به خلقه من فعل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال وترك ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الأقوال والأفعال، والذي تضمنته كتبه المنزلة وبلغه رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعنى نقض هذا العهد ترك العمل به. 3 - نقض العهد المأخوذ على بني آدم من النظر في أدلة وحدانيته، وكمالاته المنصورة في الكون وفي النفس، والذي تحدث به عنه رب العزة في قوله تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20 - 21]. 4 - نقض العهد الذي أخذه الله على النبيين وأتباعهم أن يؤمنوا بهذا النبي وأن ينصروه وذلك في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 81 - 82]. 5 - نقض العهد الذي للإمام ونائبه على المسلمين من وجوب الطاعة في المعروف ونصرة دين الله عز وجل دون مبرر شرعي يقتضي ذلك. 6 - نقض العهد الذي أعطاه الشارع الحكيم للكفار غير المحاربين من أهل الذمة والمستأمنين وكذلك المعاهدين دون مبرر شرعي يقتضي ذلك، كأن يتحول نفر من هؤلاء إلى أن يكون محارباً، أو على الأقل يأتي أعمالاً تخالف نظام الإسلام إذ في الحديث: ((ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفاً)) (¬2). 7 - خلف الموعد بأن يعطي موعداً وفي نيته عدم الوفاء أما إذا أعطى موعداً وفي نيته الوفاء ولم يف لأمر خارج عن إرادته فلا يعد ذلك نقضاً لحديث: ((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)) (¬3). 8 - نقض الحكام ونوابهم ما عاهدوا الله عليه حين بويعوا من العمل لصالح الرعية وفق منهج الله بحيث يتحول الواحد منهم بعد توليه الأمر إلى أن يكون سيفاً مصلتاً على رقاب العباد يطلق العنان لزبانيته فيصادروا حرية الناس العقدية والفكرية والسياسية والإعلامية ويهدروا حرمتهم في دمائهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم فالناس مابين عاطل عن العمل أو منفي بعيداً عن أهله وعشيرته أو في إقامة جبرية أو مسجون بلا تهمة ولا محاكمة ... ¬

(¬1) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح (80 - 82). (¬2) رواه الترمذي (1403)، وابن ماجه (2687). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)): صحيح لغيره (3009). (¬3) رواه أبو داود (4995)، والطبراني في ((الكبير)) (5/ 199). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (894)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (723).

أسباب الوقوع في الغدر

أسباب الوقوع في الغدر 1 - تحميل الإنسان نفسه من الأعمال أكثر مما تطيق. 2 - حب الكفار وموالاتهم. 3 - صحبة الذين اشتهروا بالغدر. 4 - ضعف الإيمان بالله. 5 - عدم التأمل في العواقب الوخيمة للغدر. 6 - اللهث وراء الدنيا وملذاتها. 7 - نشأة الفرد في أسرة غير ملتزمة بآداب الشرع الحكيم.

الوسائل المعينة على ترك الغدر

الوسائل المعينة على ترك الغدر 1 - إخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى وتقويته. 2 - أن لا يحمل الإنسان نفسه من الأعمال ما لا تطيق. 3 - التأمل في الآثار الوخيمة للغدر على الفرد والمجتمع. 4 - تدبر الآيات القرآنية التي حذرت من الغدر وعدم الوفاء. 5 - ترك الطمع واللهث وراء الدنيا. 6 - مجاهدة النفس وتربيتها على التحلي بالوفاء والصدق. 7 - البعد عن أصدقاء السوء ومجالسة أهل الصلاح.

حكم وأمثال في الغدر

حكم وأمثال في الغدر - وقولهم: قد خلسَ فلانٌ بما كانَ عليه. قال أبو بكر: معناه: قد غدر به (¬1). - أغدر من غَدِير. قيل سمي الغدير غديراً لِأَنَّهُ يغدر بِصَاحِبِهِ أَي يجِف بعد قَلِيل وينضب مَاؤُهُ (¬2) - أغدر من كناة الْغدر. وهم بَنو سعد بن تَمِيم وَكَانُوا يسمون الغدر كيسَان قَالَ النمر ابْن تولب: إِذا كنت فِي سعدٍ وأمك مِنْهُم ... غَرِيبا فَلَا يغررك خَالك من سعد إِذا مَا دعوا كيسَان كَانَت كهولهم ... إِلَى الْغدر أدنى من شبابهم المرد (¬3) - أغدر من قيس بن عاصمٍ. وَذَلِكَ أَن بعض التُّجَّار جاوره فَأخذ مَتَاعه وَشرب خمره وسكر وَجعل يَقُول: وتاجرٍ فاجرٍ جَاءَ الْإِلَه بِهِ ... كَأَن لحيته أَذْنَاب أجمال وجبى صَدَقَة بني منقر للنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ بلغه مَوته فَقَسمهَا فِي قومه وَقَالَ: أَلا أبلغا عَنى قُريْشًا رِسَالَة ... إِذا مَا أَتَتْهُم مهديات الودائع حبوت بِمَا صدقت فِي الْعَام منقراً ... وأيأست مِنْهَا كل أطلس طامع (¬4) - أغدر من عتيبة بن الْحَارِث: وَذَلِكَ أَن أنيس بن مرّة بن مرداس السلمي نزل بِهِ فِي صرمٍ من بني سليم فَأخذ أموالها وربط رجالها حَتَّى افْتَدَوْا (¬5). - الوفاء من شيم الكرام والغدر من همم اللئام. - لا تلبس ثيابك على الغدر (¬6). وتقال في الحث على الوفاء ومدحه. - أسرع غدرة من الذئب (¬7). من أقوال الحكماء: - قالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول (¬8). - وقالوا: لا عذر في الغدر. والعذر يصلح في كل المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن (¬9). - وفي بعض الكتب المنزّلة: إن مما تعجّل عقوبته من الذنوب ولا يؤخر: الإحسان يكفر، والذّمة تخفر (¬10). - من عاشر الناس بالمكر كافئوه بالغدر (¬11). - وقالوا: الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النّصرة (¬12). - كان يقال: لم يغدر غادر قط إلا لصغر همته عن الوفاء، واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكاره (¬13). ¬

(¬1) ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (2/ 40). (¬2) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 86). (¬3) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 86). (¬4) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 87). (¬5) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 87). (¬6) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء)) للراغب (1/ 351). (¬7) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (1/ 349). (¬8) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬9) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬10) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬11) ((مجمع الأمثال)) للنيسابوري (2/ 296). (¬12) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬13) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 142).

مسائل متفرقة حول الغدر

مسائل متفرقة حول الغدر - الموصوف بالغدر: قال أعرابي: إنّ الناس يأكلون أماناتهم لقماً وفلان يحسوها حسواً، ويقال: فلان أغدر من الذئب. قال الشاعر: هو الذئب أو للذّئب أوفى أمانة وقيل: الذئب يأدو الغزال أي يختله. واستبطأ عبيد الله بن يحيى أبا العيناء فقال: أنا والله ببابك أكثر من الغدر في آل خاقان. وقال الخبزارزي: ولم تتعاطى ما تعودت ضدّه ... إذا كنت خوّاناً فلم تدّعي الوفا وقال الباذاني في أبي دلف وكان نقش خاتمه الوفاء: الغدر أكثر فعله ... وكتاب خاتمه الوفا وقيل كان بنو سعد يسمون الغدر كيسان ويستعملونه وفيهم يقول اليمين: إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد (¬1) - حكايات عن الغدر: قيل: أغار خيثمة بن مالك الجعفي على حيّ من بني القين فاستاق منهم إبلا فلحقوه ليستنقذوها منه، فلم يطمعوا فيه، ثم ذكر يدا كانت لبعضهم عنده، فخلّى عما كان في يده، وولّى منصرفا، فنادوه وقالوا: إن المفازة أمامك، ولا ماء معك، وقد فعلت جميلا، فانزل ولك الذّمام والحباء فنزل فلما اطمأنّ وسكن، واستمكنوا منه غدروا به فقتلوه، ففي ذلك تقول عمرة ابنته: غدرتم بمن لو كان ساعة غدركم ... بكفّيه مفتوق الغرارين قاضب أذادكم عنه بضرب كأنّه ... سهام المنايا كلّهن صوائب (¬2) وتلاحى بنو مقرون بن عمرو بن محارب، وبنو جهم بن مرّة بن محارب، على ماء لهم فغلبتهم بنو مقرون فظهرت عليهم، وكان في بنى جهم شيخ له تجربة وسنّ، فلما رأى ظهورهم، قال: يا بنى مقرون، نحن بنو أب واحد، فلم نتفانى؟ هلمّوا إلى الصلح، ولكم عهد الله تعالى وميثاقه وذمّة آبائنا، أن لا نهيجكم أبدا ولا نزاحمكم في هذا الماء، فأجابتهم بنو مقرون إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم فنالوا منهم منالا عظيما، وقتلوا جماعة من أشرافهم، ففي ذلك يقول أبو ظفر الحارثىّ: هلّا غدرتم بمقرون وأسرته ... والبيض مصلته والحرب تستعر لما اطمأنوا وشاموا في سيوقهم ... ثرتم إليهم وعرّ الغدر مشتهر غدرتموهم بأيمان مؤكدة ... والورد من بعده للغادر الصّدر (¬3) وغدرت ابنة الضّيزن بن معاوية بأبيها صاحب الحصن ودلّت سابور على طريق فتحه، ففتحه وقتل أباها وتزوّجها، ثم قتلها (¬4). وممن اشتهر بالغدر عمرو بن جرموز: غدر بالزّبير بن العوّام، وقتله بوادي السباع (¬5). - نار الغدر: كانت العرب إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا له نارا بمنى، أيام الحج على الأخشب (وهو الجبل المطلّ على منى). ثم صاحوا: هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم: فإن نهلك فلم نعرف عقوقا ... ولم توقد لنا بالغدر نار (¬6). ... ¬

(¬1) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء)) للراغب (1/ 355). (¬2) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 367). (¬3) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 368). (¬4) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 366). (¬5) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 366). (¬6) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (1/ 111).

غدر اليهود بالمسلمين:

غدر اليهود بالمسلمين: إن المتأمل لتاريخ اليهود، والمتتبع للأحداث التاريخية، يجد بأن الغدر من أبرز الصفات التي اتصفت بها الأمة اليهودية، فقد اشتهروا بالغدر والخيانة لكل من يخالفهم، ولا سيما إذا كان المخالف لهم مسلماً، فهم بالغدر أشهر من نار على علم. والقرآن الكريم قد بيّن لنا حقيقة هذه الأمة، وسرد لنا الأحداث التي تبين تجذر هذه الصفة القبيحة فيهم. وقد سجل التاريخ طرفاً من غدر اليهود عبر تاريخهم المظلم المليء بالصفحات السوداء، منذ فجر الإسلام، ومن تلك المواقف: بعدما أبرمت وثيقة بين الرسول واليهود بعد الهجرة، وتقوت دولة الإسلام وتجذرت، بدأ اليهود يتحينون الفرص للغدر بالمسلمين، فكان أول من غدر منهم بنو قينقاع عندما اعتدوا على حجاب امرأة مسلمة في سوقهم وكشفوا عن عورتها، وعندها حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش من المسلمين حتى أجلاهم عن المدينة وأبعدهم إلى بلاد الشام جزاء غدرهم وخيانتهم للعهد. ثم تلاهم في الغدر بنو النضير عندما دبروا مؤامرة لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في دورهم يكلمهم ويتحدث إليهم فدبروا خطة لإلقاء صخرة عليهم من أعلى السطح فكشف الله له أمرهم فحاصرهم بجيش من المسلمين حتى تم إجلاؤهم إلى بلاد الشام كذلك. وأخيراً كان الغدر الأكبر من بني قريظة يوم الأحزاب، حيث تجمع على المسلمين سائر طوائف الشرك من القبائل العربية، فلما رأى اليهود الضيق والحرج قد استبد بالمسلمين اهتبلوها فرصة وأعلنوا نقض العهد والالتحام مع المشركين، وكشف الله مكرهم، ثم بعد أن انهزم الأحزاب تفرغ لهم رسول الله صلى الله علي وسلم وأدب بهم من خلفهم، وكانت نهايتهم أن قتل مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وأموالهم (¬1). ¬

(¬1) ((حوار الحضارات)) لموسى إبراهيم الإبراهيم، (ص192 - 193) نقلاً عن سيرة ابن هشام. بتصرف.

غدر النصارى بالمسلمين:

غدر النصارى بالمسلمين: كان أول غدر أحدث النصارى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قتلوا رسوله الحارث بن عمير الأزدي، الذي أرسله إلى عامل بصرى الشام من قبل الروم، واسمه شرحبيل بن عمر الغساني ليدعوه إلى الإسلام، فما كان من شرحبيل إلا أن قتل مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وكان من عادة الدول تأمين الرسل بينهم، وكانت هذه الحادثة سبباً لغزوة مؤتة التاريخية، حيث أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً لتأديب الغساسنة ونصارى الروم وأسيادهم حفاظاً على سمعة الدولة الإسلامية أن تهان وانتصاراً لدم بريء غدر به (¬1). ¬

(¬1) ((حوار الحضارات)) لموسى إبراهيم الإبراهيم، (ص196) نقلاً عن كتاب (قراءة سياسية للسيرة النبوية للدكتور محمد رواس قلعة جي ص133).

غدر المشركين بالمسلمين:

غدر المشركين بالمسلمين: إن مواقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وغدرهم بهم من الكثرة ما لا يدخل تحت حصر، وهي من الشهرة بما لا يحتاج معها إلى تدليل وإثبات، ولعل أبرز مواقفهم نقض قريش لصلح الحديبية الذي وقعته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السادس للهجرة ورضي فيه المسلمون بالشروط المجحفة احتراماً للحرم وقدسيته معتبرين هذا الصلح هو أول اعتراف رسمي من قريش بوجود كيان للمسلمين ودولة لها مقوماتها وقراراتها الخاصة، ثم لم تلبث قريش أن نقضت هذا العهد وغدرت بأحلاف رسول الله الخزاعيين مما كان سبباً لتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً من المسلمين يفتح مكة المكرمة بعد ذلك. إنه غدر ولكنه قد انقلب إلى نصر وفتح كبير للمسلمين، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً (¬1). ¬

(¬1) ((حوار الحضارات)) لموسى إبراهيم الإبراهيم، (ص202) نقلاً عن كتاب (البداية والنهاية ج13 أحداث عام 656م).

الغدر في واحة الشعر ..

الغدر في واحة الشعر .. قال حسّان، يهجو الحارثَ بن عوفٍ المُرّيَّ من غطفان: إنْ تَغْدِروا فالغَدْرُ منكم شِيمَةٌ ... والغَدْرُ يَنْبُتُ في أصول السخبر (¬1) وقال أبو حنبل الطّائي: قد آلَيْت أغدر فِي جداع ... وَإِن منيت أمات الرباع لِأَن الْغدر فِي الأقوام عارٌ ... وَإِن الْحر يجزأ بِالْكُرَاعِ (¬2) وقال أبو فراس بن حمدان: تناساني الأصحابُ إلا عُصيبَةً ... ستلحقُ بالأخرى غداً وتحولُ فمن قبلُ كانَ الغدرُ في الناس سُبّهً ... وذمَّ زمانٍ واستلامَ خليل (¬3) وقال سعيد بن حميد: جعلت لأهل الود ألا أريبهم ... بغدر، وإن مالوا إلى جانب الغدر وأن أجزي الود الجميل بمثله ... وأقبل عذراً جاء من جهة العذر (¬4) وقال عتبة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس: غدرتم غدرة وغدرت أخرى ... فليس إلى توافينا سبيل (¬5) وقال عارف الطائي: أذل لوطء الناس من خشب الجسر ... إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد أيوعدني والرمح بيني وبينه ... تبين رويداً ما أمامة من هند ومن أجا حولي رعان كأنها ... قنابل خيل من كميت ومن ورد غدرت بأمر كنت أنت اجتذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد (¬6) وقال حسان يهجو هذيلاً فيما صنعوا بخبيب بن عدي: أبلغ بني عمرو بأن أخاهم ... شراه أمر وقد كان للغدر لازما شراه زهير بن الأغر وجامع ... وكانا جميعاً يركبان المحارما أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجيع لهاذما فليت خبيباً لم تخنه أمانة ... وليت خبيباً كان بالقوم عالما (¬7) وقال ثابت قطنة: لا تحسبن الغدر حزماً فربما ... ترقت به الأقدام يوماً فزلت (¬8) وقال الرضيّ الموسويّ: ومولى يعاطيني الكؤوس تجمّلا ... وقد ودّ لو أنّ العقار نجيع خبأت له ما بين جنبيّ فتكة ... دهته ويوم الغادرين شنيع فلا كان مولى لا يدوم وفاؤه ... وإنّ وفاء في الزمان بديع وبعض مقال القائلين تكذّب ... وبعض وداد الأقربين خدوع (¬9) وقال أيضاً: فكم فيهم من واعد غير منجز ... وكم فيهم من قائل غير صادق وفاء كأنبوب اليراع لصاحب ... وغدر كأطراف الرّماح الدّوالق (¬10) وقال حاتم الطائي: فأقسمت لا أمشي إلى سر جارةٍ ... يد الدّهر مادام الحمام يغرِّدُ ولا أشتري مالاً بغدرٍ علمته ... ألا كلُّ مال خالط الغدر أنكدُ (¬11) ... ¬

(¬1) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (2/ 680). (¬2) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 356). (¬3) ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (2/ 201). (¬4) ((الصداقة والصديق)) لأبي حيان التوحيدي (ص122). (¬5) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 142). (¬6) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (4/ 142). (¬7) ((سيرة ابن هشام)) (2/ 179). (¬8) ((تاريخ الطبري)) لابن جرير الطبري (6/ 459). (¬9) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (3/ 30). (¬10) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (3/ 31). (¬11) ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص251).

الغش

معنى الغش لغة واصطلاحاً معنى الغش لغة: الغِشُّ: نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغشش المشرب الكدِر (¬1) وغشّه يغشّه غشّا لم يمحضه النّصح، وأظهر له خلاف ما أضمره، وهو بعينه، عدم الإمحاض في النّصيحة كغشّشه تغشيشاً، وهو مبالغة في الغشّ. والغشّ: الغلّ والحقد (¬2). معنى الغش اصطلاحاً: قال صاحب التنبيهات: الغش: كتم كل ما لو علمه المبتاع كرهه (¬3). قال المناويّ: الغشّ ما يخلط من الرّديء بالجيّد (¬4). وقال ابن حجر: الغشّ (المحرّم) أن يعلم ذو السّلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئا لو اطّلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل (¬5). مترادفات لفظة الغش من مترادفات الغش: الغُلُول، والخيانة، والمداهنة، والدغل، والتمويه، والمخرقة، والإدهان، (¬6). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 323). و ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (3/ 369). (¬2) ((تاج العروس)) للزبيدي (17/ 289 - 290) باختصار. (¬3) ((الذخيرة)) للقرافي (5/ 172). (¬4) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص252). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 396). (¬6) ((الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة)) لابن مالك الطائي (ص184).

حكم الغش

حكم الغش لا شك أن الغش حرام وبعض العلماء مثل الذهبي عدوه كبيرة من كبائر الذنوب (¬1). قال ابن حجر الهيتمي: ( ... فذلك أعني ما حكي من صور ذلك الغش التي يفعلها التجار والعطارون والبزازون والصواغون والصيارفة والحياكون، وسائر أرباب البضائع والمتاجر والحرف والصنائع كله حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل، ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه، لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه) (¬2). وقال الغزالي: (والغش حرام في البيوع والصنائع جميعا ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه بل ينبغي أن يحسن الصنعة ويحكمها ثم يبين عيبها إن كان فيها عيب فبذلك يتخلص) (¬3). وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (الغش في جميع المواد حرام ومنكر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) أخرجه مسلم في صحيحه (¬4). وهذا لفظ عام يعم الغش في المعاملات وفي النصيحة والمشورة وفي العلم بجميع مواده الدينية والدنيوية، ولا يجوز للطالب ولا للمدرس فعل ذلك، ولا التساهل فيه، ولا التغاضي عنه؛ لعموم الحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولما يترتب على الغش من المفاسد والأضرار والعواقب الوخيمة. وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه جواد كريم) (¬5). وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: (ويجتنب الغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة وصناعة ورهن وغيرها , وفي جميع المناصحات والمشورات؛ فإن الغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فاعله فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من غشنا فليس منا)) (¬6)، وفي لفظ: ((من غش فليس مني)) (¬7)، والغش: خديعة وخيانة وضياع للأمانة وفقد للثقة بين الناس , وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبَه إلا بعدا من الله) (¬8). وقد وردت الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة التي تحرم الغش وتنهى عنه بمختلف أنواعه، سنورد بعضاً منها فيما يأتي: ¬

(¬1) ((الكبائر)) (ص72). (¬2) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 400). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 77). (¬4) رواه مسلم (101). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (24/ 61). (¬6) رواه مسلم (101). (¬7) رواه مسلم (102). (¬8) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/ 255).

ذم الغش والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم الغش والنهي عنه في القرآن والسنة ذم الغش والنهي عنه في القرآن الكريم: - وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10]. قال الماوردي: (في الغل وجهان: أحدهما: الغش , قاله مقاتل. الثاني: العداوة , قاله الأعمش) (¬1). وقال الواحدي (¬2) وذكره البغوي أيضاً (¬3): (أي: غشًا وحسدًا وبغضًا). - قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. قال المراغي: (أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك) (¬4). قال صاحب تفسير المنار: (والأمانة حقٌّ عند المكلف يتعلَّق به حقُّ غيره ويُودِعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير؛ كالمال والعلم، سواء كان المودَع عنده ذلك الحق قد تَعاقَد مع المودِع على ذلك بعقد قولي خاص صرَّح فيه ... أم لم يكن كذلك، فإن ما جرى عليه التعامُل بين الناس في الأمور العامَّة هو بمثابة ما يَتعاقَد عليه الأفراد في الأمور الخاصة) (¬5). - وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13]. قال مقاتل: (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ: وهو الغش للنبيّ صلى الله عليه وسلم) (¬6). قال الواحدي: (أي: على خيانة، قال مقاتل: يعني بالخيانة: الغش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬7). - وقال تعالى: تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ [النحل: 92]. قال الواحدي: (الدخل والدغل: الغش والخيانة، قال الزجاج: غشا ودغلاً) (¬8). وقال الماوردي: (الدخل: الغل والغش) (¬9). - وقال تعالى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الأعراف:43]. قال السمعاني: (الغل: الْغِشّ والحقد) (¬10). قال مقاتل: (يعني ما كان فِي الدُّنْيَا فِي قلوبهم من غش، يعني بعضهم لبعض) (¬11). وقال البغوي: (من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا) (¬12). ذم الغش والنهي عنه في السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا. فقال: ((ما هذا يا صاحب الطّعام؟ قال: أصابته السّماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطّعام كي يراه النّاس؟ من غشّ فليس منّي)) (¬13). قال الخطابي: (معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي) (¬14). قال القاضي عياض: (معناه بيّن في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئاً من أمرهم واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم) (¬15). قال العظيم آبادي: (والحديث دليلٌ على تحريم الغشِّ وهو مُجمَع عليه) (¬16). وقال الغزالي: (يدل على تحريم الغش ... ) (¬17). ¬

(¬1) ((النكت والعيون)) (5/ 507). (¬2) ((التفسير الوسيط)) (4/ 275). (¬3) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) للماوردي (8/ 79). (¬4) ((تفسير المراغي)) (5/ 70). (¬5) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (5/ 138). (¬6) ((تفسير مقاتل)) (1/ 461). (¬7) ((التفسير الوسيط)) (2/ 167). (¬8) ((التفسير الوسيط)) (3/ 80). (¬9) ((النكت والعيون)) (3/ 211). (¬10) ((تفسير القرآن)) (2/ 183). (¬11) ((تفسير مقاتل)) (2/ 27). (¬12) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) (3/ 229). (¬13) رواه مسلم (102). (¬14) ((معالم السنن)) (3/ 118). (¬15) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (2/ 166). (¬16) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود))؛ للعظيم آبادي (9/ 231) (¬17) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 75).

- وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم من حديث معقل بن يسار رضِي الله عنه: ((ما من عبدٍ يستَرعِيه الله رعيَّة، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلا حرَّم الله عليه الجنة)) (¬1). قال النووي: (معناه: بَيِّن في التحذير من غشِّ المسلِمين لِمَن قلَّده الله - تعالى - شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خانَ فيما اؤتُمِن عليه فلم ينصح فيما قلَّده، إمَّا بتضييعه تعريفَهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإمَّا بالقِيام بما يتعيَّن عليه من حفظ شرائعهم والذبِّ عنها ... وقد نبَّه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أنَّ ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة من الجنة) (¬2). وقال المناوي: (وأفاد التحذير من غش الرعية لمن قلد شيئاً من أمرهم؛ فإذا لم ينصح فيما قلد، أو أهمل فلم يقم بإقامة الحدود واستخلاص الحقوق وحماية البيضة ومجاهدة العدو وحفظ الشريعة ورد المبتدعة والخوارج؛ فهو داخل في هذا الوعيد الشديد المفيد: لكون ذلك من أكبر الكبائر المبعدة عن الجنة، وأفاد بقوله يوم يموت أن التوبة قبل حالة الموت مفيدة) (¬3). وقال ابن عثيمين: (فإن فيه التحذير من غش الرعية، وأنه ما من عبد يسترعيه الله على رعيته ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة، وأنه إذا لم يحطهم بنصيحته فإنه لا يدخل معهم الجنة) (¬4). - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) (¬5). قال ابن دقيق العيد: (وقوله: فليس منا: قد يقتضي ظاهره: الخروج عن المسلمين) (¬6). وقال الشوكاني: (وهو يدل على تحريم الغش وهو مجمع على ذلك) (¬7). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعا من طعام، لا سمراء)) (¬8). قال ابن عبد البر: (وهذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل فيمن دلس عليه بعيب، أو وجد عيباً بما ابتاعه، أنه بالخيار في الاستمساك أو الرد) (¬9). وقال الأمير الصنعاني: (الحديث أصل في النهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلس عليه) (¬10). ¬

(¬1) رواه مسلم (142). (¬2) ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) (2/ 166). (¬3) ((فيض القدير)) (5/ 488). (¬4) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 631). (¬5) رواه البخاري (6874)، ومسلم (98). (¬6) ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) (2/ 317). (¬7) ((نيل الأوطار)) (5/ 251). (¬8) رواه مسلم (1524). (¬9) ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني)) (18/ 205). (¬10) ((سبل السلام)) (2/ 38).

أقوال السلف والعلماء في ذم الغش

أقوال السلف والعلماء في ذم الغش - قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يزال الرّجل يزداد في صحّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشّه سلبه الله نصحه ورأيه، ولا يلتفتنّ إلى من قال: إذا نصحت الرّجل فلم يقبل منك فتقرّب إلى الله بغشّه، فذلك قول ألقاه الشّيطان على لسانه، اللهمّ إلّا أن يريد بغشّه السّكوت عنه، فقد قيل: كثرة النّصيحة تورث الظّنّة، ومعرفة النّاصح من الغاشّ صعبة جدّا، فالإنسان- لمكره- يصعب الاطّلاع على سرّه، إذ هو قد يبدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات الّتي يمكن الاطّلاع على طبائعها) (¬1). - (وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها بصَّر عيوبها ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) (¬2). - (وكان واثلة بن الأسقع واقفاً؛ فباع رجل ناقة له بثلثمائة درهم فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة؛ فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا أشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبا قد رأيته وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لأحد يبيع بيعاً إلا أن يبين آفته، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه) (¬3). - وقال ابن حجر الهيتمي: (ولهذه القبائح- أي الغش- التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً. وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة والمتنوعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها، لا يراقبون الله المطلع عليهم) (¬4). - وكان بعضهم يقول: (لا أشتري الويل من الله بحبة؛ فكان إذا أخذ نقص نصف حبة وإذا أعطى زاد حبة، وكان يقول: ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السموات والأرض، وما أخسر من باع طوبى بويل) (¬5). - وقال المنصور: (لا تنفّروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحلّ بكم النقمة. ولا تسرّوا غشّ الأئمة فإنّ أحداً لا يسرّ منكراً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره) (¬6). - (ونظر فضيل إلى ابنه وهو يغسل ديناراً يريد أن يصرفه ويزيل تكحيله وينقيه حتى لا يزيد وزنه بسبب ذلك؛ فقال يا بني: فعلك هذا أفضل من حجتين وعشرين عمرة) (¬7). - وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: (أبرأ إليك من عيب فيها أنها تقلب العلف برجلها) (¬8). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب (ص211) (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى- متمم الصحابة)) (ص803)، والطبراني في ((الكبير)) (2/ 359) (2510). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 76). (¬4) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 400). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 77). (¬6) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (ص424). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 77). (¬8) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 77).

أنواع الغش وصوره

أنواع الغش وصوره 1 - الغش في البيع والشراء وغيرها من المعاملات المالية: كأن يحصل الشخص على المال بطرق محرمة إما عن طريق الكذب أو كتمان عيب السلعة أو البخس في ثمنها أو التطفيف في وزنها، أو خلط الجيد بالرديء، وغيرها من الطرق المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني)) (¬1). قال ابن حجر مبيناً هذا النوع من الغش في البيع والشراء: (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئا لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل) (¬2). وقال المراغي: (ضروب الغشّ والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا) (¬3). وقال ابن تيمية: (والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكر عليه. ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبخ والعدس والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنساجين والخياطين ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان) (¬4). 2 - غش الراعي للرعية وغش الرعية للراعي: فغش الرعية للراعي يكون بمدحه وإطرائه بما ليس فيه؛ كأن يذكروا له إنجازات لم يعملها، أو بعدم نصحه إذا رأو منه منكرا، وغير ذلك. وأما غش الراعي للرعية: ويقصد بالراعي؛ الرؤساء، والحكام، والمدراء، والرجل في أهله، وغيرهم ممن لهم الرعاية على غيرهم، ويكون الغش بظلمهم، وعدم النصح لهم. فعن معقل بن يسار المزني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) (¬5). قال ابن القيم رحمه الله: (وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء) (¬6). وقال ابن عثيمين: (السبب التاسع من الأسباب التي يستحق فاعلها دخول النار دون الخلود فيها: الغش للرعية وعدم النصح لهم بحيث يتصرف تصرفا ليس في مصلحتهم ولا مصلحة العمل، لحديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) (¬7)، وهذا يعم رعاية الرجل في أهله والسلطان في سلطانه وغيرهم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (¬8). (¬9). 3 - الغش في القول: ¬

(¬1) رواه مسلم (102). (¬2) ((الزواجر)) (1/ 396). (¬3) ((تفسير المراغي)) (2/ 82). (¬4) ((الحسبة في الإسلام)) (ص18). (¬5) رواه مسلم (142). (¬6) ((تحفة المودود)) (ص142). (¬7) رواه مسلم (142). (¬8) رواه البخاري (893)، ومسلم (1829). (¬9) ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (20/ 387).

وذلك عند إدلاء الشاهد بالشهادة فيشهد بشهادة فيها زور وبهتان وكذب. 4 - الغش في النصيحة: ويكون الغش في النصيحة بعدم الصدق والإخلاص فيها، وهذا من علامات المنافقين، لأن المؤمنون نصحة والمنافقون غششة. فعن جرير بن عبد الله، قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)) (¬1). وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬2). 5 - الغش في تعلم العلم: كأن يغش في الامتحانات ويحصل على شهادة لا يستحقها وقد يتبوأ بها منصباً وهو ليس أهلاً لذلك المنصب، وبهذا الغش يخرج جيل جاهل خامل منحرف، غير مؤهل لقيادة الأمة، ذو همة دنيئة. وقد تكلم بعض العلماء عن هذا الجانب من الغش؛ نذكر من ذلك: سؤال قدم للجنة الدائمة للإفتاء؛ مفاده: ما حكم من يغش في امتحانات الدراسة كمواد الكيمياء والطبيعة؟ فكان رد اللجنة ما يلي: الغش حرام في امتحانات الدراسة أو غيرها، وفاعله مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من غشنا فليس منا)) (¬3). ولا فرق في ذلك بين كون المواد الدراسية دينية أو غير دينية (¬4). وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (الغش محرَّم في الاختِبارات، كما أنَّه محرَّم في المعاملات، فليس لأحدٍ أن يغشَّ في الاختِبارات في أيَّة مادَّة، وإذا رضي الأستاذ بذلك فهو شريكُه في الإثم والخيانة) (¬5). وقُدم له سؤال رحمه الله مفاده: ما قولُكم فيمَن يقول: إنَّ الغشَّ حرام فقط إذا كان في المواد والعلوم الشرعيَّة، ويكون مباحًا إذا كان في غيرها؛ كاللغة الإنجليزية أو التاريخ أو الرياضيات أو الهندسة أو نحوها؟ فقال - رحمه الله -: (الغش في جميع المواد حرام ومنكر؛ لعموم قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن غشنا فليس مِنَّا)) (¬6)، وهذا لفظ عام يعمُّ الغش في المعاملات، وفي النصيحة والمشورة، وفي العلم بجميع مواده؛ الدينية والدنيوية، ولا يجوز للطالب ولا للمدرِّس فعل ذلك، ولا التساهُل فيه، ولا التغاضِي عنه؛ لعموم الحديث المذكور وما جاء في معناه، ولما يترتَّب على الغشِّ من المَفاسِد والأضرار والعَواقِب الوخيمة) (¬7). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: (وإن مما يؤسف له أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثاً أو رسائل يحصلون على شهادات علمية أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع وأرى أنه نوع من الخيانة لأنه لابد أن يكون المقصود من الرسالة هو الدراسة والعلم قبل كل شيء فإذا كان المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب لهذا أحذر إخواني الذي يحققون الكتب أو الذين يحضرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة ... ) (¬8). وسئل فضيلته أيضاً: ما نصائحكم للطلبة في أيام الامتحانات والإجازات؟ ¬

(¬1) رواه البخاري (57)، ومسلم (56). (¬2) رواه مسلم (55). (¬3) رواه مسلم (101). (¬4) ((فتاوى اللجنة الدائمة - 1)) (12/ 199). (¬5) ((مجموع فتاوى ومقالات ابن باز)) (6/ 397). (¬6) رواه مسلم (101). (¬7) ((مجموع فتاوى ومقالات ابن باز)) (24/ 61). (¬8) ((فتاوى يسألونك)) لحسان عفانة (11/ 204).

فأجاب بقوله: (نصيحتي للطلبة في أيام الامتحانات، وفي غير أيام الامتحانات وفي الإجازة: أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخلصوا له النية في طلب العلم، وأن يؤدوا الأمانة في الامتحانات بحيث لا يحاول أحد منهم الغش لا لنفسه ولا لغيره؛ لأنه مؤتمن، ولأن من نجح بالغش فليس بناجح في الحقيقة، ثم إنه يترتب على غشه أنه سينال بشهادته مرتبة لا تحل إلا بالشهادة الحقيقة المبنية على الصدق، والإنسان إذا لم ينجح إلا بالغش فإنه لم ينجح في الحقيقة، ثم إنه سوف يكون فاشلاً ليتولى منصبًا يتولاه من حصل على الشهادة التي غش فيها، إذ أنه ليس عنده علم فبقي فاشلاً في أداء مهمته، ولا فرق في ذلك بين مادة وأخرى فجميع المواد لا يجوز فيها الغش، وما اشتهر عند بعضهم بأنه يجوز الغش في بعض المواد فإنه لا وجه له) (¬1). 6 - عدم الوفاء بالعقود: كالعقود التي تعمل في الإنشاءات والمقاولات، وغيرها من المعاملات التي أبرمت فيها العقود، فعدم الوفاء بها يعتبر من الغش المحرم، والله سبحانه يأمر بالوفاء وعدم الغش حيث يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] 7 - الغش في الديانات: قال ابن تيمية: (فأما الغش والتدليس في الديانات فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين، ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين، أو سب أئمة المسلمين، ومشايخهم، وولاة أمورهم، المشهورين عند عموم الأمة بالخير. ومثل التكذيب بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تلقاها أهل العلم بالقبول. ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله. ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه، والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره. ومثل إظهار الخزعبلات السحرية والشعبذة الطبيعية وغيرها التي يضاهى بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا باب واسع يطول وصفه) (¬2). ومن صور الغش أيضاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الإنكار على الأصحاب والأقارب محاباة لهم ومداهنة. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (26/ 459). (¬2) ((الحسبة في الإسلام)) (ص43).

آثار ومضار الغش

آثار ومضار الغش 1 - براءة النبي صلى الله عليه وسلم من مرتكب جريمة الغش. 2 - الغاش بعيد عن الناس بعيد عن الله. 3 - الغاش في عداد المنافقين. 4 - الغاش قليل التحصيل، دنيء الهمة. 5 - الغاش متهاون بنظر الله إليه. 6 - الغاش مرتكب كبيرة من الكبائر المحرمة. 7 - الغاش ممحوق البركة. 8 - الغش خيانة للأمانة التي كلف الإنسان بحملها. 9 - الغش دليل ضعف الإيمان. 10 - الغش سبب من أسباب الفرقة بين المسلمين. 11 - الغش طريق موصل للنار. 12 - الغش فيه أكل أموال الناس بالباطل. 13 - الغش من أسباب عدم إجابة الدعاء، لأن صاحبه يأكل المال الحرام. 14 - الغش يخرج أجيال فاشلة غير قادرة على تحمل المسئولية. 15 - الغش يولد ضعف الثقة بين أفراد المجتمع. 16 - كراهية الناس للغاش، وعدم التعامل معه.

الأسباب المؤدية إلى الغش

الأسباب المؤدية إلى الغش هناك أسباب كثيرة تحمل الإنسان أن يغش ومن هذه الأسباب: 1 - ضعف الإيمان بالله وقلة الخوف منه. 2 - جهل الفرد بحرمة الغش، وأنه من الكبائر. 3 - عدم الإخلاص لله في العمل. 4 - اللهث وراء الدنيا وجمع الأموال من أي طريق كان. 5 - عدم تطبيق الأحكام لمعاقبة مرتكبي جريمة الغش. 6 - الرفقة السيئة. 7 - التربية الغير سليمة، التي تتنافى مع الأخلاق والآداب الإسلامية. 8 - انعدام القناعة بما قسم الله له. 9 - عدم تذكر الموت والدار الآخرة.

الأسباب المعينة على ترك الغش

الأسباب المعينة على ترك الغش 1 - الابتهال والتضرع إلى الله بالدعاء بأن يغنيه الله بحلاله عن حرامه. 2 - إخلاص العمل لله جل وعلا. 3 - تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4 - تربية الفرد تربية سليمة قائمة على الالتزام بأحكام الشرع الحنيف وآدابه. 5 - تقوية الثقة بالله واستشعار مراقبته. 6 - زيارة القبور وتذكر الموت واليوم الآخر. 7 - الصبر في تحصيل الرزق الحلال بالوسائل المباحة. 8 - القناعة بما رزق. 9 - مجالسة الرفقة الصالحة. 10 - معاقبة مرتكبي الغش لردعهم عن ذلك. 11 - العلم بالحكم الشرعي بأن الغش حرام. 12 - تعليم الناس بخطر الغش وتبيين صوره. 13 - النظر للعواقب الوخيمة للغش في الدنيا والآخرة.

موقف تربوي

موقف تربوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس المدينة إذ عيي فاتكأ إلى جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء (¬1). ¬

(¬1) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (70/ 253).

الغش في واحة الشعر ..

الغش في واحة الشعر .. قال ابن زنجي البغدادي: فكم من عدو معلن لك نصحه ... علانية والغش تحت الأضالع وكم من صديق مرشد قد عصيته ... فكنت له في الرشد غير مطاوع وما الأمر إلا بالعواقب إنها ... سيبدو عليها كل سر وذائع (¬1) وقال آخر: وذو الغش مرهوب وذو النصح آمن ... وذو الطيش مدحوض وذو الحق يفلج وذو الصدق لا يرتاب والعدل قائم ... على طرقات الحق والغبن أعوج وقال آخر: يا بائعاً بالغش أنت مُعَرّض ... لدعوة مظلوم إلى سامع الشكوى فكل من حلال وارتدع عن محرم ... فلست على نار الجحيم غداً تقوى قال أوس بن حجر: مخلفون، ويقضي الناس أمرهم ... غشوا الأمانة صنبور لصنبور (¬2) وقال آخر: أيا رُبَّ من تغتشه لك ناصح ... ومنتصح بالغيب غير أمين (¬3) وقال منصور بْن مُحَمَّد الكريزي: وصاحب غير مأمون غوائله ... يبدي لي النصح منه وهو مشتمل على خلاف الذي يبدي ويظهره ... وقد أحطت بعلمي أنه دغل عفوت عنه انتظاراً أن يثوب له ... عقل إليه من الزلات ينتقل دهراً فلما بدا لي أن شيمته ... غش وليس له عَن ذاك منتقل تركته ترك قَالَ لا رجوع له ... إلى مودته ما حنت الإبل (¬4) وقال عقيل بن هاشم القيني: يا آل عمرو أميتوا الضغن بينكم ... إن الضغائن كسر ليس ينجبر قد كان في آل مروان لكم عبر ... إذ هم ملوك وإذ ما مثلهم بشر تحاسدوا بينهم بالغش فاخترموا ... فما تحس لهم عين ولا أثر (¬5) وقال آخر: كذاك من يستنصح الأعادي ... يردونه بالغش والفساد (¬6) وقال آخر: قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني إني لأكثر مما سمتني عجبا ... يد تشج وأخرى منك تأسوني تغتابني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكل عنك يأتيني هذان أمران شتى بون بينهما ... فاكفف لسانك عن ذمي وتزييني (¬7) وقال ابن الرومي: غش من أخر النصيحة عمدا ... عن إمام عليه جل اعتماده ليس يوهي أخاك شدك إيا ... هـ به بل يزيده في اشتداده (¬8) ... ¬

(¬1) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 197). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 323). (¬3) ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 323). (¬4) ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) لابن حبان البستي (1/ 197). (¬5) ((الحماسة البصرية)) لأبي الحسن البصري (2/ 61). (¬6) ((خزانة الأدب وغاية الأرب)) لابن حجة الحموي (1/ 212). (¬7) ((الصداقة والصديق)) لأبي حيان التوحيدي (198). (¬8) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم)) لحسين المهدي (2/ 57).

الغضب

معنى الغضب لغة واصطلاحاً معنى الغضب لغة: الغَضَب: بالتَّحْرِيكِ، ضِدُّ الرِّضَا. والغَضْبة: الصَّخرة الصُّلبة. قالوا: ومنه اشتُقَّ الغَضَب، لأنَّه اشتدادُ السُّخط. يقال: غَضِب يَغْضَبُ غَضَباً، وهو غضبانُ وغَضُوب (¬1). معنى الغضب اصطلاحاً الغضب: هو ثَوَرَانُ دمِ القَلْبِ لقَصْدِ الانْتِقَام (¬2). وقال الجرجاني (الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر) (¬3). وقيل: (هو غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه) (¬4). الألفاظ المترادفة للفظة غَضِب: من الألفاظ المترادفة للفظة غضب: (حرد، وتلظى، واغتاظ، وترغم، واستشاط، وتضرم، وحنق، وأسف، ونقم، وسخط، ووجد، وأحفظ، وأضمر) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 428)، و ((تاج العروس)) لمرتضى الزبيدي (3/ 485)، و ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 648). (¬2) انظر: ((تاج العروس)) لمرتضى الزبيدي (3/ 485)، و ((مفردات ألفاظ القرآن الكريم)) للراغب الأصفهاني. (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 209). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 396). (¬5) ((الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى)) لأبي الحسن الرماني (ص 77).

الفرق بين الغضب وبعض الصفات

الفرق بين الغضب وبعض الصفات الفرق بين الغضب والسخط: (أن الغضب يكون من الصغير على الكبير ومن الكبير على الصغير. والسخط لا يكون إلا من الكبير على الصغير يقال سخط الأمير على الحاجب ولا يقال سخط الحاجب على الأمير ويستعمل الغضب فيهما. والسخط إذا عديته بنفسه فهو خلاف الرضا يقال رضيه وسخطه وإذا عديته بعلى فهو بمعنى الغضب تقول سخط الله عليه إذا أراد عقابه) (¬1). الفرق بين الغضب والغيظ: (أن الإنسان يجوز أن يغتاظ من نفسه ولا يجوز أن يغضب عليها وذلك أن الغضب إرادة الضرر للمغضوب عليه ولا يجوز أن يريد الإنسان الضرر لنفسه، والغيظ يقرب من باب الغم) (¬2). الفرق بين الغضب والاشتياط: (أن الاشتياط خفة تلحق الإنسان عند الغضب وهو في الغضب كالطرب في الفرح، وقد يستعمل الطرب في الخفة التي تعتري من الحزن، والاشتياط لا يستعمل إلا في الغضب ويجوز أن يقال الاشتياط سرعة الغضب) (¬3). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 386). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 391). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 54).

النهي عن الغضب في السنة النبوية

النهي عن الغضب في السنة النبوية - عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال: ((لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب)) (¬1). قال الخطابي: (معنى قوله لا تغضب اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه) (¬2). وقال ابن التين: (جمع صلى الله عليه وسلم في قوله لا تغضب خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين) (¬3). وقال البيضاوي: (لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته ومن غضبه وكانت شهوة السائل مكسورة فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه) (¬4). وقال الباجي في (المنتقى): (قول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني كلمات أعيش بهن يحتمل أن يريد به أنتفع بها مدة عيشي، ويحتمل أن يريد به والله أعلم أستعين بها على عيشي، ولا تكثر علي فأنسى، ولعله عرف من نفسه قلة الحفظ فأراد الاختصار الذي يحفظه ولا ينساه فجمع له النبي صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد فقال له لا تغضب، ومعنى ذلك والله أعلم أن الغضب يفسد كثيرا من الدين؛ لأنه يؤدي إلى أن يؤذي ويؤذى، وأن يأتي في وقت غضبه من القول والفعل ما يأثم به ويؤثم غيره ويؤدي الغصب إلى البغضة التي قلنا إنها الحالقة والغضب أيضا يمنعه كثيرا من منافع دنياه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تغضب يريد والله أعلم لا تمض ما يبعثك عليه غضبك وامتنع منه وكف عنه) (¬5). وقال ابن رجب في شرحه للحديث: (فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير) (¬6). - وعن سليمان بن صرد قال: ((استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لست بمجنون)) (¬7). - وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬8). - وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: ((ما هذا قالوا فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على من هو أشد منه رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه)) (¬9). (جعل الرسول صلى الله عليه وسلم البطولة في الناس ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب، وعرَّف الصُّرَعة من الرجال وهو بطل المصارعة، بأنه الذي يملك نفسه عند الغضب. وأن ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب بطولة لا يستطيعها إلا الأشداء أقوياء الإرادة، والمؤمنون أقوياء الإيمان، فليس من السهل إذا غضب الإنسان أن يضبط نفسه ويكظم غيظه، ويكف عن الانتقام ممن أغضبه أو غاظه) (¬10). - وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا)) (¬11). قال ابن رجب: (وهذا عزيز جداً، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول) (¬12). ¬

(¬1) رواه البخاري (6116). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 520). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 520). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 520). (¬5) ((المنتقى شرح الموطا)) للباجي (7/ 214). (¬6) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 362). (¬7) رواه البخاري (6115)، ومسلم (2610). (¬8) رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609). (¬9) رواه البزار (13/ 475)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (1/ 329) (52). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 71): فيه شعيب بن بيان وعمران القطان، وثقهما ابن حبان وضعفهما غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وحسن سنده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3295). (¬10) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني. (2/ 329). (¬11) رواه النسائي (1305)، وأحمد (4/ 264) (18351) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. وصحح إسناده الحاكم (1/ 705)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1301). (¬12) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 372).

أقوال السلف والعلماء في ذم الغضب

أقوال السلف والعلماء في ذم الغضب - قال عمرُ بنُ عبد العزيز: (قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع) (¬1). - وقال الحسن: (أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغضبِ) (¬2). - (وحكي أن الفضيل بن عياض كان إذا قيل له: إن فلاناً يقع في عرضك، يقول: والله لأغيظن من أمره، يعني: إبليس، ثم يقول: اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي، وإن كان كاذباً فاغفر له. - وقال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ) (¬3). - وقال عبد الملك بن مروان: (إذا لم يغضب الرجل لم يحلم؛ لأن الحليم لا يعرف إلا عند الغضب) (¬4) - وقيل لابنِ المبارك: (اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ) (¬5). - وقال الحسن: (المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه، وتلا قولَ الله عز وجلَّ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]) (¬6). - وقال ميمون بن مِهران: (جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله أوصني، قال: لا تغضب، قال: أمرتني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإنْ غضبتَ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك) (¬7). - وقال عطاءُ بنُ أبي رباح: (ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحماً ما استقاله) (¬8). - وقال يزيدُ بن أبي حَبيب: (إنما غَضَبي في نَعْليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت) (¬9). - وقال أبو حاتم: (أحسن الناس عقلا من لم يحرد، وأحضر الناس جوابا من لم يغضب) (¬10). - وقال أيضاً: (الواجب على العاقل إذا ورد عليه شيء بضد ما تهواه نفسه أن يذكر كثرة عصيانه ربه، وتواتر حلم الله عنه ثم يسكن غضبه ولا يزرى بفعله الخروج إلى ما لا يليق بالعقلاء في أحوالهم، ثم تأمل وفور الثواب في العقبى بالاحتمال ونفي الغضب) (¬11). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 368). (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 368). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 363). (¬4) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستى. (ص 141). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 363). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 278). (¬7) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 368). (¬8) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 374). (¬9) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 279). (¬10) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 138). (¬11) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 139).

أقسام الغضب

أقسام الغضب الغضب ينقسم إلى قسمين: غضب مذموم وغضب ممدوح. 1 - الغضب المذموم فالغضب المذموم هو الذي نُهي عنه وذُم في الأحاديث التي وردت وهو خلق سيئ. (لأنه يخرج العقل والدين من سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار) (¬1). 2 - الغضب المحمود الغضب المحمود هو أن يكون لله عز وجل عند ما تنتهك حرماته، والغضب على أعدائه من الكفّار والمنافقين والطّغاة والمتجبّرين، وقد ذكر القرآن ذلك للرّسل الكرام في مواضع عديدة، ووردت أحاديث كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله عز وجل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73] قال الكلاباذي في قوله تعالى حكاية عن موسى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92 - 93] قال: (فكانت تلك الحدة منه والغضب فيه صفة مدح له لأنها كانت لله، وفي الله كما كانت رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته في الله ولله، ثم كان يغضب حتى يحمر وجهه، وتذر عروقه لله وفي الله، وبذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] وفي الله، وبذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، وقال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]) (¬2). قال الباجي: (وأما فيما يعاد إلى القيام بالحق فالغضب فيه قد يكون واجبا وهو الغضب على الكفار والمبالغة فيهم بالجهاد وكذلك الغضب على أهل الباطل وإنكاره عليهم بما يجوز، وقد يكون مندوبا إليه، وهو الغضب على المخطئ إذا علمت أن في إبداء غضبك عليه ردعا له وباعثا على الحق، وقد روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن ضالة الإبل ... وقال مالك ولها وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه رجل معاذ بن جبل أنه يطول بهم في الصلاة) (¬3). ¬

(¬1) ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص 232). (¬2) ((معاني الأخبار)) للكلاباذي (ص 358). (¬3) ((المنتقى شرح الموطا)) للباجي (7/ 214).

آثار ومضار الغضب

آثار ومضار الغضب لا شك أن الغضب له آثار سيئة على نفس الغاضب في مظهره، وفي لسانه بأن ينطق كل قبيح، وله آثاره السيئة على المجتمع الذي من حوله: (ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون، وشدة رعدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الانتظام، واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتشتد حمرة الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه لسكن غضبه حياء من قبح صورته لاستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن إذ قبح ذاك إنما نشأ عن قبح هذا فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن هذا أثره في الجسد. وأما أثره في اللسان؛ فانطلاقه بالقبائح كالشتم والفحش وغيرهما مما يستحي منه ذوو العقول مطلقا، وقائله عند فتور غضبه على أنه لا ينتظم كلامه، بل يتخبط نظمه ويضطرب لفظه وأما أثره في الأعضاء، فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه فمزق ثوبه وضرب نفسه وغيره حتى الحيوان والجماد - بالكسر - وغيره، وعدا عدو الواله السكران والمجنون الحيران، وربما سقط وعجز عن الحركة واعتراه مثل الغشية لشدة استيلاء الغضب عليه. وأما أثره في القلب، فالحقد على المغضوب عليه وحسده، وإظهار الشماتة بمساءته، والحزن بسروره، والعزم على إفشاء سره وهتك ستره والاستهزاء به وغير ذلك من القبائح) (¬1). قال الراغب: (واعلم أن نار الغضب متى كانت عنيفة تأججت واضطرمت واحتد منه غليان الدم في القلب وملأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرما يسود منه مجال العقل ويضعف به فعله، فكما أن الكهف الضيق إذا ملئ حريقاً اختنق فيه الدخان واللهب وعلا منه الأجيج فيصعب علاجه وإطفاؤه ويصير كل ما يدنو منه مادة تقويه. فكذلك النفس إذا اشتعلت غضباً عميت عن الرشد، وصمت عن الموعظة، فتصير مواعظه مادة لغضبه، ولهذا حكى عن إبليس لعنه الله أنه يقول: متى أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه منه، ويعمل بما أريده وأرتضيه. وقد قيل الغضب جنون ساعة وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه وربما كان سبباً لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف) (¬2). وقال ابن رجب: (وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم (¬3)، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ) (¬4). وقال أبو حاتم: (وسرعة الغضب أنكى في العاقل من النار في يبس العوسج؛ لأن من غضب زايله عقله، فقال ما سوَّلت له نفسه، وعمل ما شانه وأرداه) (¬5). وقال ابن مسكويه: (فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه ثم على الأقرب فالأقرب من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه فيكون عليهم سوط عذاب ولا يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عبرة وإن كانوا برآء من الذنوب غير مجترمين ولا مكتسبين سواء بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتى يبسط لسانه ويده وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها استكفافا لشره وتسكينا لغضبه وهو مع ذلك مستمر على طريقته لا يكف يدا ولا لسانا وربما تجاوز في هذه المعاملة الناس إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس. فإن صاحب هذا الخلق الرديء ... ربما عض القفل إذا تعسر عليه وكسر الآنية التي لا يجد فيها طاعة لأمره. وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من الجهال يستعملونه في الثوب والزجاج والحديد وسائر الآلات.) (¬6). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 95) بتصرف. (¬2) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 345). (¬3) هو ابن الحارث بن أبي شعر، واسمه المنذر بن الحارث، روي في أحاديث دخل بعضها في بعض، قالوا: وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلاً من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة. قال: فليلطمه. قالوا: أو ما يقتل؟ قال: لا، فقالوا: أفما تقطع يده؟ قال: لا، إنَّما أمر الله بالقود، قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق؟ بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانياً، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم. انظر: (تاريخ دمشق 11/ 19) (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 369) (¬5) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 138). (¬6) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص168).

نماذج من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عند الغضب

نماذج من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عند الغضب النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يغضب لنفسه، وما كان ينتصر لها، بل كان غضبه لله وحينما تنتهك حرماته. يحدثنا هند ابن أبي هالة رضي الله عنه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم فيذكر من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه: ( ... لا تغضبه الدنيا، وما كان لها وإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ... ) (¬1). وإليكم نماذج من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في غضبه عندما تنتهك حرمات الله، وعن ذلك تحكي لنا عائشة رضي الله عنها موقفاً حصل لها مع النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: - ((دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرام فيه صور فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه وقالت قال النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور)) (¬2). وعن أبي مسعود، رضي الله عنه، قال: ((أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ قال فقال يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة)) (¬3). وعن عبد الله، رضي الله عنه، قال: ((بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بيده فتغيظ ثم قال إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة)) (¬4). وعن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن اللقطة فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه قال يا رسول الله فضالة الغنم قال خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب قال يا رسول الله فضالة الإبل قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه، ثم قال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها)) (¬5). وعن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: ((احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حصيرا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها فتتبع إليه رجال وجاؤوا يصلون بصلاته ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم مغضبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) (¬6). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الكبير)) (22/ 155)، والآجري في ((الشريعة)) (1022)، والبيهقي في ((الشعب)) (3/ 24) (1362). (¬2) رواه البخاري (6109)، ومسلم (2107). (¬3) رواه البخاري (6110)، ومسلم (466). (¬4) رواه البخاري (6111). (¬5) رواه البخاري (2436)، ومسلم (1722). (¬6) رواه البخاري (6113)، ومسلم (781).

وعن البراء بن عازب قال: ((خرج رسول الله ? وأصحابه قال: فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة. قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا. فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع)) (¬1). وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- ((أنّه قال: بينما يهوديّ يعرض سلعة له أعطي بها شيئا، كرهه أو لم يرضه، قال: لا: والّذي اصطفى موسى- عليه السّلام- على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه. قال: تقول: والّذي اصطفى موسى- عليه السّلام-، على البشر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا؟ قال: فذهب اليهوديّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا أبا القاسم،. إنّ لي ذمّة وعهدا، وقال: فلان لطم وجهي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم لطمت وجهه؟ قال: قال: (يا رسول الله): والّذي اصطفى موسى- عليه السّلام- على البشر وأنت بين أظهرنا؛ قال: فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى عرف الغضب في وجهه. ثمّ قال: لا تفضّلوا بين أنبياء الله، فإنّه ينفخ في الصّور فيصعق من في السّموات ومن في الأرض إلّا من شاء الله، ثمّ ينفخ فيه أخرى. فأكون أوّل من بعث: أو في أوّل من بعث. فإذا موسى- عليه السّلام- آخذ بالعرش. فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطّور. أو بعث قبلي. ولا أقول: إنّ أحدا أفضل من يونس بن متّى عليه السّلام)) (¬2). وعن عائشة- رضي الله عنها- ((أنّها قالت: رخّص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر فتنزّه عنه ناس من النّاس. فبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فغضب حتّى بان الغضب في وجهه. ثمّ قال: ما بال أقوام يرغبون عمّا رخّص لي فيه. فو الله لأنا أعلمهم بالله وأشدّهم له خشية)) (¬3). وعن أبي قتادة- رضي الله عنه- أنّه قال: ((رجل أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رأى عمر- رضي الله عنه غضبه. قال: رضينا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا. نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. فجعل عمر- رضي الله عنه- يردّد هذا الكلام حتّى سكن غضبه)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري قال: ((كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه، عرفناه في وجهه، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال: قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر)) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2982)، وأحمد (4/ 286) (18546)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9/ 82) (9946). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 199): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن فيه أبا إسحاق واسمه عمرو بن عبد الله اختلط بآخرة ولم أدر حال أبي بكر بن عياش هل روى عنه قبل الاختلاط أو بعده فيوقف حديثه حتى يتبين حاله. وضعف إسناده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (4753). (¬2) رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373). (¬3) رواه مسلم (2356). (¬4) رواه مسلم (1162). (¬5) رواه البخاري (6102)، ومسلم (1062).

نماذج من هدي الصحابة عند الغضب

نماذج من هدي الصحابة عند الغضب عمر رضي الله عنه: روي أن رجلاً قال لعمر: إنك لا تقضي بالعدل، ولا تعطي الحق. فغضب واحمر وجهه، قيل له: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع أن الله يقول: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وهذا جاهل، فقال: صدقت، فكأنما كان ناراً فأطفئت (¬1). معاوية رضي الله عنه: (خطب معاوية يوماً فقال له رجل: كذبت. فنزل مغضباً فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماءً، فصعد المنبر فقال: أيها الناس إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته) (¬2). عبد الله بن عباس رضي الله عنه: سب رجل ابن عباس -رضي الله عنهما – فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى (¬3). أبو الدرداء رضي الله عنه: أسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه- كلاما , فقال: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه (¬4). أبو ذر رضي الله عنه: قال أبو ذر –رضي الله عنه- لغلامه: لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حر لوجه الله تعالى (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (4642). (¬2) رواه ابن قتيبة في ((عيون الأخبار)) (1/ 405). (¬3) رواه الثعلبي في ((تفسيره)) (9/ 80). (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (252). (¬5) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (2/ 227).

نماذج من هدي السلف عند الغضب

نماذج من هدي السلف عند الغضب علي بن الحسين: حكي أن جارية كانت تصب الماء لعلي بن الحسين، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه، أي جرحه، فرفع رأسه إليها، فقالت له: إن الله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال لها: قد عفوت عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. عمر بن عبد العزيز: (غضب يوماً عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه: عبدُ الملكِ - رحمهما الله -: أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ؟ فقال له: أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك؟ فقال عبد الملك: وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه) (¬1). (وأسمعه رجل كلاماً فقال له. أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، انصرف رحمك الله) (¬2). المهدي: (قيل: غضب المهدي على رجل، فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه، فقال: خلوا سبيله) (¬3). عبد الله بن عون: (روي عن القعنبي قال: كان ابن عون لا يغضب. فإذا أغضبه رجل قال: بارك الله فيك) (¬4). (وكان لابن عون ناقة يغزو عليها ويحج وكان بها معجباً. قال فأمر غلاما له أن يستقي عليها، فجاء بها وقد ضربها على وجهها، فسالت عينها على خدها، فقلنا: إن كان من ابن عون شيء فاليوم! قال: فلم يلبث أن نزل، فلما نظر إلى الناقة قال: سبحان الله، أفلا غير الوجه، بارك الله فيك اخرج عني، اشهدوا أنه حر) (¬5). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 366). (¬2) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 290). (¬3) ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص 236). (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 366). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 371).

أسباب الغضب

أسباب الغضب من أسباب الغضب: (العجب، والافتخار، والمراء، واللجاج، والمزاح، والتيه، والضيم، والاستهزاء، وطلب ما فيه التنافس، والتحاسد، وشهوة الانتقام) (¬1)، (والمضادة، والغدر، وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه أخلاق رديئة مذمومة شرعاً) (¬2). (ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلا حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها) (¬3). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 346). (¬2) ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص 233). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 172).

علاج الغضب

علاج الغضب 1 - الوضوء: قال ابن مفلح: (ويستحب أن يتوضأ لخبر عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (¬1)). 2 - القعود إن كان قائما: 3 - الاضطجاع إن كان قاعدا: قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): (ويستحب لمن غضب أن يغير حاله، فإن كان جالساً قام واضجع، وإن كان قائماً مشى) (¬2). 4 - أن يلتزم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((لا تغضب)) عن عطيّة (وهو ابن سعد القرظيّ) رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الغضب من الشّيطان، وإنّ الشّيطان خلق من النّار، وإنّما تطفأ النّار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضّأ)) (¬3). عن أبي الدرداء قلت يا رسول الله ((دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب)) (¬4). 5 - أن يضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب: فعن أبي العلاء بنِ الشِّخِّير قال: ((أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ وجهه، فقالَ: يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ؟ قالَ: حُسْنُ الخلق ثُمَّ أتاه عن يمينه، فقالَ: يا رسول الله، أيُّ العمل أفضل؟ قال: حسنُ الخُلُقِ، ثم أتاه عن شِماله، فقال: يا رسول الله، أيُّ العمل أفضل؟ قال: حسنُ الخُلُقُ، ثم أتاه من بعده، يعني: من خلفه، فقال: يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ؟ فالتفت إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك لا تَفْقَهُ! حسْنُ الخُلُقِ هو أنْ لا تَغْضَبَ إنِ استطعْتَ)) (¬5). 6 - الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: قال ابن القيم: (ولما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم، أمر أن يطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ... [البقرة: 44] الآية. وهذا إنما يحمل عليه شدة الشهوة، فأمرهم بما يطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانة بالصبر والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذة من الشيطان عند نزغاته، ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنى، جمع الله تعالى بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة. والمقصود: أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة) (¬6). 7 - السكوت: ¬

(¬1) رواه أبو داود (4784)، وأحمد (4/ 226) (18014)، والطبراني في ((الكبير)) (17/ 167). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2080)، وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (582). (¬2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 261). (¬3) رواه أبو داود (4784)، وأحمد (4/ 226) (18014)، والطبراني في ((الكبير)) (17/ 167). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2080)، وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (582). (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 25).وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1060)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 73):رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات. (¬5) رواه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (878). وقال الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1596): مرسل ضعيف. (¬6) ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/ 463).

عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((علّموا ويسّروا ولا تعسّروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت)) (¬1). قال ابن رجب: (وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيراً من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله -: ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ) (¬2). 8 - أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه: قال الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] قال عكرمة: يعني إذا غضبت. وقال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] ومعنى قوله ينزغنك أي يغضبنك، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم يعني أنه سميع بجهل من جهل، عليم بما يذهب عنك الغضب ... 9 - أن ينتقل عن الحالة التي هو فيها إلى حالة غيرها ... 10 - أن يتذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم ومذمة الانتقام ... 11 - أن يذكر انعطاف القلوب عليه، وميل النفوس إليه، فلا يرى إضاعة ذلك بتغير الناس عنه فيرغب في التألف وجميل الثناء (¬3). 12 - (أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو في هدم أعراضه، والشماتة بمصائبه، فإن الإنسان لا يخلو عن المصائب، فيخوف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف في الآخرة. 13 - أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب. 14 - أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، مثل أن يكون سبب غضبه أن يقول له الشيطان: إن هذا يحمل منك على العجز، والذلة والمهانة، وصغر النفس، وتصير حقيراً في أعين الناس، فليقل لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين!! 15 - أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله تعالى، لا على وفق مراده، فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى) (¬4). 16 - أن يذكر ثواب من كظم غيظه: قال سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] (قوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم) (¬5). وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37] (أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح، فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير) (¬6). وقال ابن كثير في تفسيره للآية: (أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم، تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس) (¬7). وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] قال سعيد بن جبير: (هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم الغيظ) (¬8). ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 239) (2136)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (245)، والطيالسي (4/ 337). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 73): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات؛ لأن ليثا صرح بالسماع من طاوس. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (5480). (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 366). (¬3) من 8 - 12 من كتاب ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي - بتصرف. (¬4) ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص 234) بتصرف. (¬5) ((تفسير السعدي)) (1/ 148). (¬6) ((تفسير السعدي)) (1/ 759). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 210). (¬8) ((معالم التنزيل)) للبغوي (3/ 318).

تفاوت الناس في سرعة الغضب

تفاوت الناس في سرعة الغضب بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم طباع الناس وتفاوتهم في سرعة الغضب ورجوعهم عنه، فقال في الحديث الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وفيه: (( ... ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ... ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء الفيء ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ومنهم حسن القضاء سيئ الطلب فتلك بتلك ألا وإن منهم السيئ القضاء السيئ الطلب ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب ألا وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض ... )) (¬1). في هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى أقسام أربعة: (الأول: بطيء الغضب سريع الفيء، أي: سريع الرجوع إلى حالة الهدوء واعتدال المزاج، وهذا خير الأقسام. الثاني: سريع الغضب سريع الفيء، وسرعة الغضب خلق مذموم، إلا أن سرعة الفيء فضيلة محمودة، فهذه بهذه. الثالث: بطيء الغضب بطيء الفيء، أما بطء الغضب فخلق محمود يدل على الحلم، لكن بطء الفيء خلق مذموم يدل على الحقد وعدم التسامح، فهذه بهذه، ويظهر أن هذا القسم معادل للقسم الثاني. الرابع: سريع الغضب بطيء الفيء، وهذا شر الأقسام، لأنه جمع الدائين معاً، وما اجتمع الداءان إلا ليقتلا، فسرعة الغضب خلق مذموم، وبطيء الفيء خلق مذموم، ويا بؤس من تلجئه الضرورة إلى معاشرة هذا القسم من الناس) (¬2). قال الراغب: (والغضب في الإنسان بمنزلة نار تشعل، والناس يختلفون فيه، فبعضهم كالحلفاء (¬3) سريع الوقود وسريع الخمود، وبعضهم كالغضى (¬4) بطيء الوقود بطيء الخمود، وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود، وبعضهم على عكس ذلك وهو أحمدهم ما لم يكن مفضياً به إلى زوال حميته وفقدان غيرته، واختلافهم تارة يكون بحسب الأمزجة فمن كان طبعه حاراً يابساً يكثر غضبه، ومن كان بخلافه يقل، وتارة يكون بحسب اختلاف العادة فمن الناس من تعود السكون والهدوء وهو المعبر عنه بالذلول والهين واللين، ومنهم من تعود الطيش والانزعاج فيحتد بأدنى ما يطرقه ككلب يسمع صوتاً فينبح قبل أن يعرف ما هو) (¬5). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2191)، وأحمد (3/ 19) (11159) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 67): مدار أسانيده على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (1610). (¬2) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (2/ 330). (¬3) الحلفاء: نبت أطرافه ممدودة ينبت في مفايض الماء، وبه صلابة تؤذي اليد إن شدته. (¬4) الغضى: شجرة دائمة الخضرة لها ورقة مثل الهدب. (¬5) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 345).

غالب من يتصف بسرعة الغضب

غالب من يتصف بسرعة الغضب ذكر بعض العلماء أن أغلب من يتصف بسرعة الغضب هم النساء والصبيان، والشَّرِه والبخيل وضعيف النفس من الرجال .... قال الراغب: (وأسرع الناس غضباً الصبيان والنساء، وأكثرهم ضجراً الشيوخ .. ) (¬1). وقال ابن مسكويه: (ونحن نجدها في النساء – أي صفة الغضب - أكثر منها في الرجال وفي المرضى أقوى منها في الأصحاء ونجد الصبيان أسرع غضبا وضجرا من الرجال. والشيوخ أكثر من الشبان ونجد رذيلة الشره. فإن الشَّرِه إذا تعذر عليه ما يشتهيه غضب وشجر على من يهيئ طعامه وشرابه من نسائه وأولاده وخدمه وسائر من يلابس أمره. والبخيل إذا فقد شيئا من ماله تسرع بالغضب على أصدقائه ومخالطيه وتوجهت تهمته إلى أهل الثقة من خدمه ومواليه. وهؤلاء الطبقة لا يحصلون من أخلاقهم إلا على فقد الصديق وعدم النصيح وعلى الذم السريع واللوم الوجيع) (¬2). قال الغزالي: (وآية أنه لضعف النفس – أي الغضب- أن المريض أسرع غضبا من الصحيح والمرأة أسرع غضبا من الرجل والصبي أسرع غضبا من الرجل الكبير والشيخ الضعيف أسرع غضبا من الكهل وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضبا من صاحب الفضائل فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة ولبخله إذا فاتته الحبة حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه، بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ) (¬3). ¬

(¬1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 345). (¬2) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص169). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 172).

ذم الغضب في واحة الشعر ..

ذم الغضب في واحة الشعر .. الغضب عدو العقل قال الشاعر: ولم أر فضلا تم إلا بشيمة ... ولم أر عقلا صح إلا على الأدب ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم ... عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب عاقبة الغضب قال الشاعر: لم يأكل الناس شيئاً من مآكلهم ... أحلى وأحمد عقباه من الغضب ولا تلحف إنسان بملحفة ... أبهى وأزين من دين ومن أدب كظم الغيظ يغيظ العدو قال الشاعر: وكظمي الغيظ أولى من محاولتي ... غيظ العدو بإضراري بإيماني لا خير في أمر ترديني مغبته ... يوم الحساب إذا ما نص ميزاني وإذا غضبت فكن وقورا قال الشاعر: وإذا غضبت فكن وقورا كاظما ... للغيظ تبصر ما تقول وتسمع فكفى به شرفاً تبصر ساعة ... يرضى بها عنك الإله ويدفع وقال آخر: ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... وإن الذنب يغفره الكريم ولكن داري عواره برفق ... كما قد يرقع الخلق القديم ...

كلمة أخيرة ...

كلمة أخيرة ... وأخيراً أيها القارئ الفاضل حدثنا متى تغضب؟ وكيف تتصرف في حال غضبك؟ وهل حاولت أن تحلم على من أغضبك؟ ومتى تكظم غيظك وتتعامل مع المواقف بحكمة؟ ومن خلال قراءتك للموضوع هل حددت درجتك في سرعة الغضب؟ وباطلاعك على الموضوع هل استفدت من علاج الغضب؟ وأي المواقف أقرب إلى راحتك والتنفيس عن مشاعرك؟

الغيبة

معنى الغيبة لغة واصطلاحاً: معنى الغيبة لغة: والغيب والغيبة، بِفَتْح الْغَيْن: كل مَا غَابَ عَن الْعُيُون سَوَاء كَانَ محصلاً فِي الْقُلُوب أَو غير مُحَصل (¬1). والغِيبة: الوَقيعة في النّاس من هذا، لأنَّها لا تقال إلا في غَيْبَة (¬2). يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب (¬3). معنى الغيبة اصطلاحاً: قال ابن التين: (الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب) (¬4). وعرفها الجوهري بقوله: (أن يتكلم خلف إنسانٍ مستور بما يَغُمُّه لو سمعه. فإن كان صدقاً سُمِّيَ غيبَةً، وإن كان كذباً سمِّي بُهتاناً) (¬5). وقال زين الدين المناوي: (هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظ أو إشارة أو محاكاة) (¬6). ¬

(¬1) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (8/ 208). (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 403). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 335). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 469). (¬5) ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (1/ 196). (¬6) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) لزين الدين المناوي (3/ 166).

الفرق بين الغيبة وبعض الصفات

الفرق بين الغيبة وبعض الصفات الفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: قال الحسن: (الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك والبهتان: فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه) (¬1). قال الجرجاني: (الغيبة ذكر مساوئ الإنسان التي فيه في غيبة. والبهتان ذكر مساوئ الإنسان، وهي ليست فيه) (¬2). الفرق بين الغيبة والنميمة والغمز واللمز: (الفرق بين الغيبة والنميمة والغمز واللمز: أن الغيبة ذكر الإنسان بما يكره لما فيها من مفسدة الأعراض. والنميمة أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرض لأذاه لما فيها من مفسدة إلقاء البغضاء بين الناس، ويستثنى منها أن فلاناً يقصد قتلك في موضع كذا أو يأخذ مالك في وقت كذا ونحو ذلك لأنه من النصيحة الواجبة كما تقدم في الغيبة. والغمز أن تعيب الإنسان بحضوره. واللمز بغيبته وقيل بالعكس) (¬3). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 335). (¬2) ((التعريفات)) للجرجاني (ص210). (¬3) ((الذخيرة)) للقرافي (ص241).

ذم الغيبة والنهي عنها في القرآن والسنة

ذم الغيبة والنهي عنها في القرآن والسنة ذم الغيبة والنهي عنها من الكتاب: - قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]. قال الشوكاني: فهذا نهي قرآني عن الغيبة مع إيراد مثل لذلك يزيده شدة وتغليظاً، ويوقع في النفوس من الكراهة والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره، فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلة وطبعاً، ولو كان كافراً أو عدواً مكافحاً، فكيف إذا كان أخاً في النسب أو في الدين؟ فإن الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار فكيف إذا كان ميتاً؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذراً بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس، وبهذا يعرف ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغيبة، بعد النهي الصريح عن ذلك (¬1). - وقال تعالى: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة:1]. قال مقاتل بن سليمان: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ يعني الطعان المغتاب الذي إذا غاب عنه الرجل اغتابه من خلفه) (¬2). (وَقَالَ قَتَادَةُ: يَهْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ بِلِسَانِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، ويطعنُ عَلَيْهِمْ) (¬3). - وقال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. قال الرازي: (الْقَفْوَ هُوَ الْبُهْتُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَفَا، كَأَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ خَلْفَهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْغِيبَةِ وَهُوَ ذِكْرُ الرَّجُلِ فِي غِيبَتِهِ بِمَا يَسُوءُهُ) (¬4). (وقيل: القَفْوُ: هو البهت، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال: خلفه، وهو في معنى الغيبة) (¬5). - قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55]. ذم الغيبة والنهي عنها من السنة: - عن ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنه قال: ((مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَما يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثمَّ قَالَ بَلى أما أحَدُهُمَا فَكانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأمَّا الآخَرُ فَكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. قَالَ ثُمَّ أخَذَ عُودا رَطْبا فكَسَرَهُ باثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا .. )) (¬6). ¬

(¬1) ((الفتح الرباني)) للشوكاني (11/ 5567 - 5568). (¬2) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 837). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 481). (¬4) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (20/ 339). (¬5) ((اللباب في علوم الكتاب)) لأبي حفص الحنبلي (12/ 282). (¬6) رواه البخاري (6052)، ومسلم (292).

قال العيني: (التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: الْغَيْبَة والنميمة، ومطابقة الحَدِيث للبول ظَاهِرَة، وَأما الْغَيْبَة فَلَيْسَ لَهَا ذكر فِي الحَدِيث، وَلَكِن يُوَجه بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْغَيْبَة من لَوَازِم النميمة لِأَن الَّذِي ينم ينْقل كَلَام الرجل الَّذِي اغتابه، وَيُقَال: الْغَيْبَة والنميمة أختَان، وَمن نم عَن أحد فقد اغتابه. قيل: لَا يلْزم من الْوَعيد على النميمة ثُبُوته على الْغَيْبَة وَحدهَا، لِأَن مفْسدَة النميمة أعظم وَإِذا لم تساوها لم يَصح الْإِلْحَاق. قُلْنَا: لَا يلْزم من اللحاق وجود الْمُسَاوَاة، والوعيد على الْغَيْبَة الَّتِي تضمنتها النميمة مَوْجُود، فَيصح الْإِلْحَاق لهَذَا الْوَجْه. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ الْغَيْبَة، وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث) (¬1). - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) (¬2). قال النووي: (هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها وما أعلم شيئا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ) (¬3). (فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها) (¬4). وقال ابن عثيمين: (ومعنى: مزجته خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا من أبلغ الزواجر عن الغيبة) (¬5). - وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر بمنى: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت)) (¬6). قال النووي في شرحه على مسلم: (المراد بذلك كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك) (¬7). - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- مرفوعاً: ((من أكل لحم أخيه في الدّنيا قرّب له يوم القيامة فيقال له: كله ميتاً كما أكلته حيّا فيأكله ويكلح ويصيح)) (¬8). قال ابن حجر: (يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ) (¬9). - وعن المستورد- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من أكل برجل مسلم أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوباً برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)) (¬10). قال الهروي: ((مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ) أَيْ: بِسَبَبِ غَيْبَتِهِ أَوْ قَذْفِهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي عِرْضِهِ أَوْ بِتَعَرُّضِهِ لَهُ بِالْأَذِيَّةِ عِنْدَ مَنْ يُعَادِيهِ ... وَفِي النِّهَايَةِ: مَعْنَاهُ الرَّجُلُ يَكُونُ صَدِيقًا ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى عَدُوِّهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِغَيْرِ الْجَمِيلِ لِيُجِيزَهُ عَلَيْهِ بِجَائِزَةٍ فَلَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا) (¬11). ¬

(¬1) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (8/ 208). (¬2) رواه أبو داود (4875) واللفظ له، والترمذي (2502). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2/ 264)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2834). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 411). (¬4) ((دليل الفالحين)) لمحمد البكري (8/ 352). (¬5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 126). (¬6) رواه البخاري (67)، ومسلم (1679). (¬7) ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 169). (¬8) قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (10/ 470): سنده حسن. (¬9) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (10/ 470). (¬10) رواه أبو داود (4881)، وأحمد (4/ 229) (18040)، والطبراني في ((الكبير)) (20/ 309). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6083). (¬11) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للهروي (8/ 3158).

أقوال السلف والعلماء في ذم الغيبة

أقوال السلف والعلماء في ذم الغيبة - قال ابن عبَّاس: (اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع منك) (¬1). - وعن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- أنّه مرّ على بغل ميّت فقال لبعض أصحابه: (لأن يأكل الرّجل من هذا حتّى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم) (¬2). - وعن يحيى بن الحصين عن طارق قال: (دار بين سعد بن أبي وقاصٍ وبين خالد بن الوليد كلامٌ، فذهب رجلٌ ليقع في خالدٍ عند سعدٍ، فقال سعدٌ: مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. أي عداوةٌ وشرٌ) (¬3). - وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: (إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهُ. قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ الْفُضَيْلُ إِلَيْنَا، فَقَالَ: رُبَّمَا قَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ؛ فَأَخْشَى عَلَيْهِ النَّارَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟! قَالَ: يُغْتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ، فَيُعْجِبُهُ، فَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا؛ إِنَّمَا هَذَا مَوْضِعُ أَنْ يَنْصَحَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ) (¬4). - وعن محمد بن سيرين أنه قال: (إن أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكراً لخطايا الناس) (¬5). - وعن الشّعبيّ- رحمه الله- (أنّ العبّاس بن عبد المطّلب قال لابنه عبد الله: يا بنيّ، أرى أمير المؤمنين يدنيك، فاحفظ منّي خصالاً ثلاثاً: لا تغتب من له سرّ، ولا يسمعنّ منك كذباً، ولا تغتابنّ عنده أحداً) (¬6). - ومرَّ ابن سِيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم فقال: أبا بكر، إنّا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا؟ فقال: (إني لا أحِلّ لك ما حَرّم اللهّ عليك. فأمّا ما كان إليَّ فهو لكم) (¬7). - وقال الحسن: (لا غيبة لثلاثة: فاسق مجاهر بالفسق، وذي بدعة، وإمام جائر). - وعن يعلى بن عبيد قال: (كنا عند سفيان بن سعيد الثوري، فأتانا رجل يقال له: أبو عبد الله السلال، فقال لسفيان: يا أبا عبد الله! الحديث الذي روي أن الله تبارك وتعالى يبغض أهل بيت اللحميين أهم الذين يكثرون أكل اللحم؟ فقال سفيان: لا ولكنهم الذين يكثرون أكل لحوم الناس) (¬8). - وقال بعض الحكماء: (عاب رجلٌ رجلاٌ عند بعض أهل العلم فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها) (¬9). - وقال الأصمعي: (اغتاب رجلٌ رجلاً عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة: أمسك أيها الرجل، فوالله لقد تلمظت بمضغةٍ طالما لفظها الكرام) (¬10). ¬

(¬1) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه الأندلسي (2/ 335 - 336)، بتصرف. (¬2) ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (3/ 329). (¬3) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 16)، بتصرف. (¬4) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (6/ 86). (¬5) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (6/ 86). (¬6) مكارم الأخلاق للخرائطي برقم (2/ 207). (¬7) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (3/ 54). (¬8) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (4/ 24 - 25). (¬9) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (3/ 54). (¬10) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (5/ 305).

- وأتى رجلٌ عمرو بن مرثدٍ فسأله أن يكلم له أمير المؤمنين، فوعده أن يفعل، فلما قام قال بعض من حضر: إنه ليس مستحقًا لما وعدته. فقال عمرو: (إن كنت صدقت في وصفك إياه فقد كذبت في ادعائك مودتنا، لأنه إن كان مستحقاً كانت اليد موضعها، وإن لم يكن مستحقًا فما زدت على أن أعلمتنا أن لنا بمغيبنا عنك مثل الذي حضرت به من غاب من إخواننا) (¬1). - و (قال البخاري: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام. - واغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وضع على عينيك. - وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحداً؟ فقال: لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس. - وقال ابن المبارك: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي) (¬2). - وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً قال له: إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي (¬3). - وعن ابن سيرين؛ قال: إنّه ذكر الغيبة فقال: (ألم تر إلى جيفة خضراء منتنة) (¬4). - وعن مجاهد في قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: (الّذي يأكل لحوم النّاس، واللّمزة: الطّعّان) (¬5). - و (اغتاب ابن جلا بعض إخوانه فأرسل إليه يستحله فأبى قائلاُ: ليس في صحيفتي حسنة أحسن منها فكيف أمحوها. - وقال الغزالي: والغيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات ومثل من يغتاب كمن ينصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً. - وقد قيل للحسن: اغتابك فلان فبعث إليه بطبق فيه رطب وقال: أهديت إلي بعض حسناتك فأحببت مكافأتك) (¬6). - وقيل: (دعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل؟؟ فقال إبراهيم: إنما فعل بي هذا نفسي، حيث حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام) (¬7). - وقيل: (أوحى الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة، فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها، فهو أول من يدخل النار) (¬8). ¬

(¬1) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (3/ 56). (¬2) ((الأربعين النووية)) (ص605 - 606). (¬3) ((الأذكار النووية)) (ص340). (¬4) ((الزهد)) لوكيع بن الجراح (ص209). (¬5) ((الزهد)) لوكيع بن الجراح (ص212). (¬6) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) لزين الدين المناوي (3/ 166). (¬7) ((الرسالة القشيرية)) لعبد الكريم القشيري (ص194). (¬8) ((آفات اللسان)) لأبي حامد الغزالي (ص151).

حكم الغيبة

حكم الغيبة قال ابن كثير: (والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك، إلا ما رجحت مصلحة، كما في الجرح والتعديل والنصيحة) (¬1). واعتبر الإمام ابن حجر الغيبة من الكبائر حيث قال: (الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أنها كبيرة: لكنها تختلف عظماً وضده بحسب اختلاف مفسدتها. وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم عديلة غصب المال، وقتل النفس بقوله صلى الله عليه وسلم ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) (¬2) والغصب والقتل كبيرتان إجماعا، فكذا ثلم العرض) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 380). (¬2) رواه مسلم (2564). (¬3) ((الزواجر)) لابن حجر (2/ 555).

حكم سماع الغيبة

حكم سماع الغيبة إن سماع الغيبة والاستماع إليها لا تجوز، فقائل الغيبة وسامعها في الإثم سواء. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله علي وسلم: ((ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلماً في موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)) (¬1). (عن أبي وائل، أن عمر، قال: (ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذاك أدنى أن لا تكونوا شهداء) (¬2). حدثنا عبد الله، حدثني أبي رحمه الله، عن شيخ، من قريش قال: قال مولى لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان: رآني عمرو بن عتبة وأنا مع رجل وهو يقع في آخر فقال: (لي) ويلك - ولم يقلها لي قبلها ولا بعدها - نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن القول به؛ فإن المستمع شريك القائل وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك ولو رددت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها) (¬3). وكان ميمون بن سياه لا يغتاب ولا يدع أحداً يغتاب، ينهاه فإن انتهى، وإلا قام (¬4). قال كعب بن زهير في الذين يستمعون الغيبة: فالسامع الذم شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل وقال آخر: وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن القول به فإنك عند استماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه ... ¬

(¬1) رواه أبو داود (4884)، وأحمد (4/ 30) (16415) من حديث جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهم. وحسن إسناده الهيثمي في ((المجمع)) (7/ 270)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8002)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5690). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم ((الغيبة والنميمة)) (ص33). (¬3) ((ذم الغيبة والنميمة)) لابن أبي الدنيا (ص163). (¬4) ((ذم الغيبة والنميمة)) لابن أبي الدنيا (ص164).

فضل الدفاع عن عرض الآخرين

فضل الدفاع عن عرض الآخرين عن أسماء بنت يزيد- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقّا على الله أن يعتقه من النّار)) (¬1). عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) (¬2). عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حمى عن عرض أخيه في الدنيا، بعث الله عز وجل ملكاً يوم القيامة يحميه من النار)) (¬3). عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي سمعت بن أم عبد يقول: من اغتيب عنده مؤمن فنصره جزاه الله بها خيراً في الدنيا والآخرة ومن اغتيب عنده مؤمن فلم ينصره جزاه الله بها في الدنيا والآخرة شرا وما التقم أحد لقمة شراً من اغتياب مؤمن إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه وإن قال فيه بما لا يعلم فقد بهته (¬4). عن سهل بن معاذ بن أسد الجهني عن أبيه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حمى مؤمناً من منافق)) أراه قال: ((بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 461) (27650)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (24/ 176)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 67). وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 333)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 95)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8671). (¬2) رواه الترمذي (1931)، وأحمد (6/ 450) (27583). وحسنه الترمذي، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2848). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص147). (¬4) ((الأدب المفرد)) للبخاري (ص320 - 321). (¬5) رواه أبو داود (4883)، وأحمد (3/ 441) (15687). وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5564).

أقسام الغيبة

أقسام الغيبة للغيبة ثلاثة أقسام: 1 - الغيبة المحرمة: وهي ذكرك أخاك المسلم في غيبته بما يكره بعيب فيه مخفي سواء كان هذا العيب خَلْقي أم خُلُقي في دينه أو دنياه، ولا شك أنه محرم في الكتاب والسنة والإجماع، للأدلة الواردة سلفاً في هذا الباب. قال ابن القيم – وهو يتحدث عن الغيبة -: (وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع منزلته من قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب) (¬1). 2 - الغيبة الواجبة: هي الغيبة التي بها يحصل للفرد نجاة مما لا يحمد عقباه أو مصيبة كانت محتملة الوقوع به، مثل التي تطلب للنصيحة عند الإقبال على الزواج لمعرفة حال الزوج، أو كأن يقول شخص لآخر محذراً له من شخص شرير: إن فلان يريد قتلك في المكان الفلاني، أو يريد سرقة مالك في الساعة الفلانية، وهذا من باب النصيحة. 3 - الغيبة المباحة: كما أن الغيبة محرمة لما فيها من أضرار تمس الفرد، إلا أنها مباحة بضوابطها لغرض شرعي صحيح لا يمكن الوصول لهذا الغرض إلا بهذه الغيبة، وبدون هذه الضوابط تصبح محرمة. (اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أبواب: الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما مما له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان كذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد المعاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه. الثالث: الاستفتاء، فيقول: للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا. الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها: 1 - جرح المجروحين من الرواة والشهود. 2 - المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك. 3 - إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله. 4 - أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما أن لا يكون صالحاً لها، وإما أن يكون فاسقاً ومغفلاً فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة. الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وغيرها. فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليها، دلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة) (¬2). قال ابن الأمير الصنعاني: الذم ليس بغيبة في ستة ... متظلم ومعرف ومحذر ولمظهر فسقاً ومستفتٍ ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر (¬3) (قال عيسى لا غيبة إلا في ثلاث: إمام جائر وفاسق معلن وصاحب بدعة. قال محمد بن رشد: إنما لم يكن في هؤلاء غيبة؛ لأن الغيبة إنما هي بأن يذكر من الرجل ما يكره أن يذكر عنه لمن لا يعلم ذلك منه، والإمام الجائر والفاسق المعلن قد اشتهر أمرهما عند الناس، فلا غيبة في أن يذكر من جور الجائر وفسق الفاسق ما هو معلوم من كل واحد منهما، وصاحب البدعة يريد ببدعته ويعتقد أنه على الحق فيها وأن غيره على الخطأ في مخالفته في بدعته فلا غيبة فيه لأنه إن كان معلناً بها فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستتراً بها فواجب أن يذكر بها ويحفظ الناس من اتباعه عليها) (¬4). فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات (¬5). ¬

(¬1) ((الروح)) لابن القيم (ص240). (¬2) ((رياض الصالحين)) للنووي (2/ 182) بتصرف. (¬3) ((سبل السلام)) لابن الأمير الصنعاني (4/ 194). (¬4) ((البيان والتحصيل)) لأبي الوليد ابن رشد القرطبي (17/ 575). (¬5) ((الروح)) لابن القيم (ص240).

أمور ينبغي مراعاتها عند الغيبة المباحة:

أمور ينبغي مراعاتها عند الغيبة المباحة: إن للغيبة المباحة -التي أباحها الشارع للضرورة- أمور ينبغي مراعاتها، ومن هذه الضوابط: (1 - الإخلاص لله تعالى في النية، فلا تقل ما أبيح لك من الغيبة تشفياً لغيظ، أو نيلاً من أخيك، أو تنقيصاً منه. 2 - عدم تعيين الشخص ما أمكنك ذلك. 3 - أن تذكر أخاك بما فيه، بما يباح لك، ولا تفتح لنفسك باب الغيبة على مصراعيه، فتذكر ما تشتهي نفسك من عيوبه. 4 - التأكد من عدم وقوع مفسدة أكبر من هذه الفائدة) (¬1). ¬

(¬1) ((حصائد الألسن)) لحسين العوايشة (ص89 - 90).

أضرار الغيبة على الفرد والمجتمع

أضرار الغيبة على الفرد والمجتمع إن للغيبة أضرار كثيرة في الدنيا والآخرة، وهذه الأضرار لها آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، فلا بد من التنبيه عليها، والاطلاع على تبعاتها، كي نتجنبها ولا نقع فيها ونحذر ارتكابها. أضرارها على الفرد: 1ــ الغيبة تزيد في رصيد السيئات وتنقص من رصيد الحسنات: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) (¬1). (وهذا يدل على ما يلحق المغتاب من الإثم بسبب افتياته على خلق الله تعالى الذي حرم الغيبة، وفي نفس الوقت افتات على حق الإنسان الذي اغتابه) (¬2). 2ـــ الغيبة من أربى الربا: وفي الحديث ((الربا نيف وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة المسلم في عرض أخيه المسلم)) (¬3). 3ــ صاحب الغيبة مفلس يوم القيامة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ)). قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) (¬4). 4ــ الغيبة تسبب هجر صاحبها: قال العلامة ابن باز: (والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬5)، فإن لم يمتثل فاترك مجالسته لأن ذلك من تمام الإنكار عليه) (¬6). 5ــ الغيبة تجرح الصوم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (¬7). وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)) (¬8). 6ــ يتتبع الله عورة المغتاب ويفضحه في جوف بيته: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته)) (¬9). 7ــ المغتابون هم في عداد أهل النار: ¬

(¬1) رواه أبو داود (4875) واللفظ له، والترمذي (2502). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2/ 264)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2834). (¬2) ((إبراء الذمة من حقوق العباد)) لنوح علي سليمان (604). (¬3) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (9/ 82). وصححه الألباني بمجموع طرقه في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 490). (¬4) رواه مسلم (2581). (¬5) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) ((مجموع فتاوى ومقالات متنوعة)) لابن باز (ص402). (¬7) رواه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151). (¬9) رواه أبو يعلى (3/ 237)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (12/ 160) (9213) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 96): رجاله ثقات. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/ 74): هذا إسناد ثقات.

عن أنس – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس يقعون في أعراضهم)) (¬1). 8ــ الغيبة أنتن من الجيفة: قال تعالى: وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]. 9ــ تعود المغتاب على الغيبة، لأنه عندما يغتاب شخصاً، فسيغتاب آخر وهكذا دواليك، وبذلك تصبح الغيبة مستساغة لديه فلا ينكرها، ولا يستعظم إثمها. 10ــ لا يغفر لصاحب الغيبة حتى يعفو عنه الذي وقعت عليه الغيبة. 11ــ الغيبة تترك في نفس الفرد جوانب عدائية بسبب ما تتركه على سمعته ومكانته. 12ــ الغيبة تظهر عيوب الفرد المستورة في الوقت الذي لا يملك فيه الدفاع عن نفسه. 13ــ الغيبة تدل على دناءة صاحبها وجبنه وخسته. أضرارها على المجتمع: 1 - كشف عورات الآخرين ونشر عيوبهم والاستهانة بها. 2 - الغيبة تؤدي إلى الغيبة، أي أن من اغتيب قد يدفعه غضبه إلى غيبة من اغتابه، وبهذا تنتشر هذه الصفة الذميمة وتصبح مرض عضال يصعب استئصاله. 3 - نشر الحقد والحسد والكراهية والبغضاء بين أفراد المجتمع. 4 - إفساد المودات، وقطع أواصر الأخوة الإيمانية، وملء القلوب بالضغائن والعداوات. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4878)، وأحمد (3/ 224) (13364)، والطبراني في ((الأوسط)) (1/ 7). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2/ 232)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5213).

صور الغيبة

صور الغيبة الغيبة تكون في جميع الصفات الخُلُقِيَّة والخِلْقِيَّة وفي جميع أمور الدنيا والدين. وقال الغزالي: (حد الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه، أو نسبه، أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه .. حتى في ثوبه، وداره، ودابته. أما البدن، فذكرك العمش، والحول، والقرع، والقصر، والطول، والسواد، والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه، كيفما كان. وأما النسب، فبأن تقول: أبوه نبطي، أو هندي، أو فاسق، أو خسيس، أو إسكاف، أو زبال، أو شيء مما يكرهه، كيفما كان. وأما الخُلق، فبأن تقول: هو سيئ الخلق، بخيل، متكبر، مراء شديد الغضب، جبان، عاجز، ضعيف القلب، متهور .. وما يجري مجراه. وأما في أفعاله المتعلقة بالدين، فكقولك: هو سارق، أو كذاب أو شارب خمر، أو خائن، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة، أو الزكاة، أو لا يحسن الركوع، أو السجود، أو لا يحسن قسمتها، أو لا يحرس صومه عن الرفث، والغيبة، والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا، فكقولك: إنه قليل الأدب، متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام، كثير الأكل، نئوم، ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما ثوبه، فكقولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب. وقال قوم: لا غيبة في الدين، لأنه ذم ما ذمه الله تعالى، فذكره بالمعاصي، وذمه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: ((هي في النار)) (¬1)) (¬2). ومن صور الغيبة: 1 - الإصغاء للغيبة من باب التعجب من فعل الذي اغتيب، وهو بهذا الأسلوب كأنه يستخرج الغيبة من المغتاب فيزيد في غيبته ويندفع فيها. 2 - ذكر حال الذي اغتيب وإظهار التألم والاستياء لحاله والدعاء له أمام الآخرين. 3 - أن يقول المستمع للمغتاب اسكت، لكن المستمع لم ينكر ذلك في قلبه، وإنما هو مشتهٍ بذلك، فهذا قد وقع في الغيبة ما لم يكرهه بقلبه. 4 - أن يذكر الإنسان شخص ما ويمدحه ويذكر اهتمامه والتزامه بالدين، ثم يقول: لكنه ابتلي بما ابتلينا به كلنا من تقصير وفتور في بعض العبادات، وهو بهذا يستنقص من قدر الذي اغتيب، وبذلك وقع في الغيبة. 5 - أن يتكلم الإنسان بألفاظ أو أسلوب يحاكي فيه الآخرين، بقصد غيبتهم. 6 - التشبه بالآخرين في مشيتهم بغرض السخرية منهم، كأن يمشي متعرجاً، أو يغمض أحد عينيه محاكاةً للأعور، وغيرها من الحركات التي توحي بالسخرية. ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 440) (9673)، وابن حبان (13/ 76)، والحاكم (4/ 183) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 172): رجاله ثقات. (¬2) ((آفات اللسان)) لأبي حامد الغزالي (ص156 - 157).

أمور يحسب الناس أنها ليست غيبة ولكنها غيبة

أمور يحسب الناس أنها ليست غيبة ولكنها غيبة (1 - قد يغتاب الرجل أخاه، وإذا أنكر عليه قال: (أنا على استعداد للقول أمامه)، ويرد على هذا بردود منها: أ- أنك ذكرته من خلفه بما يكره بما فيه، وهذه هي الغيبة. ب- استعدادك للحديث أمامه، أمر آخر مستقل، لم يرد فيه دليل على أنه يسوغ لك أن تذكر أخاك من خلفه بما يكره. 2 - قول القائل في جماعة من الناس عند ذكر شخص ما: (نعوذ بالله من قلة الحياء)، أو (نعوذ بالله من الضلال)، أو نحو هذا، فإنه يجمع بين ذم المذكور ومدح النفس. 3 - وكذلك قول المرء: (فلان مبتلى بكذا)، أو (كلنا نفعل هذا). 4 - قول القائل: (فعل كذا بعض الناس)، أو بعض الفقهاء، أو نحو ذلك، إذا كان المخاطب يفهمه بعينه، لحصول التفهيم. 5 - قول الشخص: (فعل كذا الأفندي)، أو (جناب السيد) ونحو ذلك، إن كان يقصد التنقيص منه. 6 - قولهم: هذا صغير تجوز غيبته، وأين الدليل على تجويز هذه الغيبة، طالما وردت النصوص مطلقة؟ 7 - التساهل في غيبة العاصي، وأما المجاهر بالمعصية، فيقال بتجويز غيبته، وأما التساهل في غيبة العاصي مطلقاً فلا، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)، يشمل المسلم الطائع والعاصي. 8 - قولك: هذا هندي، أو مصري، أو فلسطيني، أو أردني، أو عجمي، أو عربي، أو بدوي، أو قروي، أو إسكاف، أو نجار، أو حداد، إن كان ذلك تحقيراً أو انتقاصاً) (¬1). ¬

(¬1) ((حصائد الألسن)) لحسين العوايشة (ص90 - 91)

أسباب الوقوع في الغيبة

أسباب الوقوع في الغيبة توجد بعض الأسباب التي تجعل الإنسان يقع في براثن الغيبة ومساوئها، ومن تلك الأسباب: 1 - كراهيته الباطنة لمن يغتاب، مع عدم رغبته بإظهار كراهيته، لئلا تتحول إلى عداوة ظاهرة. 2 - المنافسة التي ولدت حسداً والحسود لا يحب أن يعرف عنه الحسد. 3 - الرغبة بأن يبرر المغتاب في نظر الناس ما عرفوه عنه من معايب وقبائح، فإذا ذكر أمامهم من يحترمونه بأن له من العيوب والقبائح مثل عيوبه وقبائحه، خف إنكارهم عليه) (¬1). 4 - تشفي الغيظ بأن يجري من إنسان في حق آخر سبب يهيجُ غيظه فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه. 5 - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء، ومساعدتهم على الغيبة، فإنه يخشى إن أنكر عليهم أن يستثقلوه. 6 - إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك. 7 - اللعب والهزل: فيذكر غيره بما يضحك له على سبيل المحاكاة. 8 - كثرة الفراغ، والشعور بالملل والسأم، فيشتغل بالناس وأعراضهم وعيوبهم. 9 - التقرب لدى أصحاب الأعمال، والمسئولين عن طريق ذم العاملين معه، ليرتقي لمنصب أفضل، أو ليقال عنه مواظب (¬2). 10 - الظهور بمظهر الغضب لله على من يرتكب المنكر فيظهر غضبه ويذكر اسمه مثل أن يقول فلان لا يستحيي من الله يفعل كذا وكذا ويقع في عرضه بالغيبة. 11 - إظهار الرحمة والتّصنُّع بمواساة الآخرين كأن يقول لغيره من الناس: مسكين فلان قد غمني أمره وما هو فيه من المعاصي (¬3). 12 - ضعف التربية الإيمانية، وعدم التنبه لعظمة من تعصي. 13 - جهل المغتاب بحكم الغيبة، وعواقبها الوخيمة والسيئة التي تورث غضب الله وسخطه. 14 - تنشئة الفرد تنشئة سيئة بعيدة عن الأخلاق والتعاليم الإسلامية. 15 - صحبة الأشرار الذين هم بعيدون عن الآداب الإسلامية السليمة فالمرء على دين خليله. 16 - حضور المجالس والتجمعات التي تخلو من ذكر الله، ويكثر فيها الغيبة والنميمة. 17 - الطمع وحب الدنيا والحرص عليها. ¬

(¬1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن حبنكة الميداني (ص231). (¬2) ((حصائد الألسن)) لحسين العوايشة (ص85 - 87) بتصرف. (¬3) ((آفات اللسان في ضوء الكتاب والسنة)) لسعيد بن علي القحطاني (ص20).

فوائد ترك الغيبة

فوائد ترك الغيبة 1 - تارك الغيبة من أفضل المسلمين: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬1). ترك الغيبة يدخل الجنة: عن سهل بن سعد: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) (¬2). ــ قطع الغيبة من علامات التوبة: قَالَ بَعْضُ الْعُبَّادِ: (عَلامةُ التَّوْبَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الْجَهْلِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ، وَالتَّجَافِي عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَاعْتِقَادُ مَقْتِ نَفْسِكَ الْمُسَوِّلَةِ، وَإِخْرَاجُ الْمَظْلَمَةِ، وَإِصْلاحُ الْكَسِيرَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَتَرْكُ الْكَذِبِ، وَقَطْعُ الْغِيبَةِ، وَالانْتِهَاءُ عَنْ خِدْنِ السُّوءِ، وَالاشْتِغَالُ بِمَا عَلَيْكَ، وَالاسْتِعْدَادُ لِمَا تَنْقَلِبُ إِلَيْهِ، وَالْبُكَاءُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ عُمْرِكَ، وَتَرْكُ مَا لا يَعْنِيكَ، وَالْخَوْفُ مِنْ سَاعَةٍ تَأْتِيكَ رُسُلُ رَبِّكَ لِقَبْضِ رُوحِكَ، وَالتَّفَجُّعُ وَالْحُزْنُ لَيْلَةً تَبِيتُ فِي قَبْرِكَ وَحْدَكَ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى إِلَى يوم المعاد) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (11)، مسلم (42). (¬2) رواه البخاري (6474). (¬3) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (4/ 197).

علاج من وقع في الغيبة

علاج من وقع في الغيبة (إنّ الغيبة مرض خطير، وداء فتّاك، ومعول هدّام، وسلوك يفرّق بين الأحباب، وبهتان يغطّي على محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شروراً بين المجتمع المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور، وعلاج هذا المرض لا يكون إلّا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنّه تعرّض لسخط الله يوم القيامة بإحباط عمله وإعطاء حسناته من يغتابه أو يحمل عنه أوزاره، وأنّه يتعرّض لهجوم من يغتابه في الدّنيا، وقد يسلّطه الله عليه، إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفّق للعلاج) (¬1). ¬

(¬1) ((نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول)) مجموعة مؤلفين (11/ 5164).

التوبة من الغيبة

التوبة من الغيبة تكون التوبة من الغيبة بالاستغفار والندم، والاستحلال من الذي اغتيب. (فهذا الذنب يتضمن حقين: حق لله، وحق للآدمي، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .. وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته، ويستغفر له بقدر ما اغتابه) (¬1). قال الإمام الغزالي: (اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته .. ثم قال: وقال الحسن: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وقال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة؟ قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له: كذبت فيما قلت، وظلمتك وأسأت، فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح. وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال، كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه، من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته)) (¬2)، وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: (قد اغتبتيها فاستحليها) (¬3). فإذا لابد من الاستحلال إن قدر عليه فإن كان غائبا أو ميتا فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات) (¬4). وقال ابن القيم: (والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. والذين قالوا: لا بد من إعلامه، جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإن الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع صلى الله عليه وسلم فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا، وما كان هذا سبيله فإن الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم لا يبيحه ولا يجوزه فضلا عن أن يوجبه، ويأمر به ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها والله تعالى أعلم) (¬5). (قال الزركشي في المنثور: (وفي الأعراض يأتي من اغتابه ويخبره بما قال فيه حتى يعفو عنه ولا يكفي الإبهام)، ثم نقل عن الإحياء أنه لا يجب الإخبار إذا كان يتأذى الإساءة إليه، ونقل عن جملة من علماء السلف أنه لا يجوز إبلاغه لما فيه من الإيذاء، وقد آذاه أولاً فلا يؤذيه ثانياً، بل يستغفر له ويندم على غيبته) (¬6). ¬

(¬1) ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) مازن بن عبد الكريم الفريح (ص62) بتصرف. (¬2) رواه البخاري (6534). (¬3) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (3/ 114). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 154). (¬5) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (219). (¬6) ((إبراء الذمة من حقوق العباد)) لنوح علي سلمان (ص605 - 606).

الوسائل المعينة على ترك الغيبة

الوسائل المعينة على ترك الغيبة من الوسائل المعينة على ترك الغيبة والبعد عنها ما يلي: 1 - التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكثرة الأعمال الصالحة وتقديم رضاه على رضا المخلوقين. 2 - زيادة رصيد الإيمان وتقويته بالعلم النافع والعمل الصالح. 3 - أن ينشغل الإنسان بالبحث عن عيوبه، ويكف عن عيوب الآخرين وتتبعها. 4 - اختيار الصحبة الصالحة التي تقربك من الله وتبعدك عن المعاصي والابتعاد عن رفاق السوء. 5 - تربية الفرد تربية إسلامية سليمة قائمة على الآداب والتعاليم الإسلامية. 6 - استغلال وقت الفراغ، بما ينفع الفرد ويقوي إيمانه ويقربه إلى الله سبحانه وتعالى، من طاعات وعبادات وعلم وتعلم. 7 - قناعة الإنسان بما رزقه الله، وشكره على هذه النعم، وأن يعلم أن ما عند الله خير وأبقى. 8 - أن يضع الإنسان نفسه مكان الشخص الذي اغتيب، ليجد أنه لن يرضى هذا لنفسه. 9 - كظم الغيظ والصبر على الغضب، كي لا يكونا دافعاً للغيبة. 10 - الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي به إلى الغيبة.

مسائل متفرقة متعلقة بالغيبة

مسائل متفرقة متعلقة بالغيبة - موقف المسلم تجاه المغتاب: (عن أبي هريرة أن ماعز بن مالك: جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى قالها أربعا فلما كان في الخامسة قال: زنيت؟ قال: نعم قال: وتدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال: ما تريد إلى هذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني قال: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والعصا في الشيء؟ قال: نعم يا رسول الله قال: فأمر برجمه فرجم فسمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ فسار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا ثم مر بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا قال: فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة يتقمص فيها) (¬1). (عن اللّجلاج- رضي الله عنه- أنّه كان قاعدا يعتمل في السّوق فمرّت امرأة تحمل صبيّا فثار النّاس معها وثرت فيمن ثار، فانتهت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: ((من أبو هذا معك؟)) فسكتت، فقال شابّ حذوها: أنا أبوه يا رسول الله، فأقبل عليها فقال: ((من أبو هذا معك؟)) قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بعض من حوله يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا إلّا خيرا، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أحصنت؟)) قال: نعم، فأمر به فرجم، قال: فخرجنا به فحفرنا له حتّى أمكنّا ثمّ رميناه بالحجارة حتّى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم فانطلقنا به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لهو أطيب عند الله من ريح المسك)) فإذا هو أبوه، فأعنّاه على غسله وتكفينه ودفنه) (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو يعلى في ((المسند)) (10/ 524) (6140). قال حسين سليم أسد محقق المسند: إسناده ضعيف. (¬2) رواه أبو داود (4435)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 425) (7146)، والطبراني في ((الكبير)) (19/ 219).

وعن عتبان بن مالك- رضي الله عنه- وهو ممّن شهد بدراً- قال: ((كنت أصلّي لقومي بني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار فيشقّ عليّ اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: إنّي أنكرت بصري وإنّ الوادي الّذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشقّ عليّ اجتيازه فوددت أنّك تأتي فتصلّي من بيتي مكانا أتّخذه مصلّى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سأفعل. فغدا عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر- رضي الله عنه- بعد ما اشتّد النّهار فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذنت له فلم يجلس حتّى قال: أين تحبّ أن أصلّي من بيتك، فأشرت له إلى المكان الّذي أحبّ أن أصلّي فيه فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبّر وصففنا وراءه فصلّى ركعتين ثمّ سلّم وسلّمنا حين سلّم فحبسته على خزير يصنع له، فسمع أهل الدّار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، فثاب رجال منهم حتّى كثر الرّجال في البيت، فقال رجل: ما فعل مالك؟ لا أراه. فقال: رجل منهم: ذاك منافق لا يحبّ الله ورسوله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقل ذاك، ألا تراه قال لا إله إلّا الله يبتغي بذلك وجه الله؟، فقال: الله ورسوله أعلم. أمّا نحن فو الله ما نرى ودّه ولا حديثه إلّا إلى المنافقين. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإنّ الله قد حرّم على النّار من قال لا إله إلّا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1). الغيبة لا تقتصر على اللسان: إن الشرع حرم الغيبة باعتبارها تصريح باللسان يفهم منه استنقاص الآخرين وذكر عيوبهم، وكذلك فإن كل فعل أو حركة أو كتابة توحي بالمقصود فهي غيبة. قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة، فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام: ((اغتبتها)) (¬2). غيبة العلماء ومن لهم شأن في الإسلام: لا شك أن الوقيعة في المؤمنين حرام وأنها من كبائر الذنوب، وأن أشد أنواعها (غيبة العلماء والوقيعة في العلماء، والكلام على العلماء بما يجرحهم ... لأنه يترتب عليه فصل الأمة عن علمائها، ويترتب عليه عدم الثقة بأهل العلم، وإذا حصل هذا حصل الشر العظيم) (¬3)، (وإذا كانت الغيبة لمن لهم شأن في الإسلام ومقام في الإسلام ونفع لعباد الله كولاة أمور المسلمين فالغيبة في حقهم أشد) (¬4). - أخبث الغيبة: ومن أخبث أنواع الغيبة غيبة من يفهم المقصود بطريقة الصالحين إظهاراً للتعفف عنها، ولا يدرى بجهله أنه جمع بين فاحشتي الرياء والغيبة، كما يقع لبعض المرائين أنه يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي ما ابتلانا بقلة الحياء أو بالدخول على السلاطين، وليس قصده بدعائه إلا أن يفهم عيب الغير (¬5). - غيبة الكافر: (سُئِلَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ غِيبَةِ الْكَافِرِ. فَقَالَ: هِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورَةٌ لِثَلَاثِ عِلَلٍ: الْإِيذَاءُ وَتَنْقِيصُ خَلْقِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَتَضْيِيعُ الْوَقْتِ بِمَا لَا يُعْنِي. قَالَ: وَالْأُولَى تَقْتَضِي التَّحْرِيمُ، وَالثَّانِيَةُ الْكَرَاهَةُ، وَالثَّالِثَةُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَكَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ الْإِيذَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَصَمَ عِرْضَهُ وَدَمَهُ وَمَالَهُ. قَالَ فِي الْخَادِمِ: وَالْأُولَى هِيَ الصَّوَابُ) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬2) رواه أحمد (6/ 206) (25749)، والطبري في ((تفسيره)) (22/ 307). (¬3) ((ما يجب في التعامل مع العلماء)) صالح الفوزان (ص17). (¬4) ((ما يجب في التعامل مع العلماء)) صالح الفوزان (ص29 - 30). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 561). (¬6) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 560).

الغيبة في واحة الشعر ..

الغيبة في واحة الشعر .. لا تَهْتِكَنْ من مَساوي الناس ما سترُوا ... فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِن مَساوِيكَا واذكُرْ محَاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ... ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فِيكا وقال آخر: وأقبح القبائح الوخيمة ... الغيبة الشنعاء والنميمة فتلك والعياذ بالرحمن ... موجبة الحلول في النيران وقال مسكين الدارمي: وَإِذَا الْفَاحِشُ لاقَى فَاحِشًا ... فَهُنَاكُمْ وَافَقَ الشَّنُّ الطَّبَقْ إِنَّمَا الْفُحْشُ ومَنْ يعنى بِهِ ... كَغُرَابِ السُّوءِ مَا شَاءَ نَعَقْ أَوْ حِمَارِ السُّوءِ إِنْ أَشْبَعْتَهُ ... رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ أَوْ غُلامِ السُّوءِ إِنْ جَوَّعْتَهُ ... سَرَقَ الْجَارَ وَإِنْ يَشْبَعْ فَسَقْ أَوْ كَعَذْرَى رَفَعَتْ عَنْ ذَيْلِهَا ... ثُمَّ أَرْخَتْهُ ضِرَارًا فَانْمَزَقْ أَيُّهَا السَّائِلُ عَمَّا قَدْ مَضَى ... هَلْ جَدِيدٌ مِثْلُ مَلْبُوسٍ خَلِقْ (¬1) وقال آخر: لا تذكُرِ الناسَ إلا في فضائِلِهِمْ ... إيّاكَ إيّاكَ أنْ تذكُرْ عُيوبَهُمُ كَمْ فيكَ عَيْبٌ تُناجي اللهَ يَسْتُرَهُ ... مَنْ يَغْتبِ الناسَ لا يَسْلمْ شُرورَهُمُ ارْجِعْ إلى اللهِ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعْتَ بِهِ ... للهُ يَفْرَحُ أنْ يَغْفِرْ ذُنوبَهُمُ كُلُّ الخلائِقِ خَطّاءٌ طِبائِعُهمْ ... التائِبونَ بشَرْعِ اللهِ خَيْرِهُمُ الهَمْزُ واللَّمْزُ لا تُحْمَدْ عَواقِبُه ... مَنْ يَعْلمُ السِرَّ عَلامٌ غُيوبَهُمُ احْفظْ لِسانَكَ لا تلفُظْ بِنابيَةٍ ... نِتاجُها الحِقْدُ والبَغْضاءُ وَالسَّقَمُ اجْعَلْ مَخافَتَهُ المَولى مُقَدَّمَةٌ ... حاسِبْ خُطاكَ لِكَيْ لا تَعْثرَ القَدَمُ وقال آخر: وأقبح القبائح الوخيمة ... الغيبة الشنعاء والنميمة فتلك والعياذ بالرحمن ... موجبة الحلول في النيران وقال أبو فراس الحمداني: وَيَغْتَابُني مَنْ لَوْ كَفَاني غَيْبَهُ ... لكنتُ لهُ العينَ البصيرة َ والأذنا وعندي منَ الأخبارِ ما لوْ ذكرتهُ ... إذاً قرعَ المغتابُ منْ ندمٍ سناً وأخيراً .. وأخيراً .. أخي الغالي: انتبه وتأمل قبل أن تغتاب، كي لا تزل القدم وتندم حيث لا ينفع الندم: تذكر قبل أن تغتاب أنك ستقدم على عمل، كأنك به تأكل لحم ميتة نتنة. بل ضع نصب عينيك النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة التي تحذر شدة التحذير من الغيبة. وتأمل في عملك هذا أيقربك من الله ويكسبك رضاه، أم أنه يبعدك عنه ويكسبك سخطه وغضبه. ولا تنسَ أن الغيبة تدر السيئات وتأكل الحسنات. وهل يرضيك أن يذكر الناس عيوبك كما تذكر عيوبهم. واعلم أن الغيبة دناءة وخسة، فهي بضاعة الخاسرين وأسلوب الجبناء والعاجزين. أترضى أن تأتي يوم القيامة وقد وزعت حسناتك على هذا وهذا وهذا، فإذا فنيت حسناتك أخذت من سيئاتهم ووضعتْ عليك ووضعتَ في النار. فيا أخي لا تستصغر إثم الغيبة، ولا تحتقر شأنها، فذنبها جسيم، وخطرها عظيم. ¬

(¬1) ((المجالسة وجواهر العلم))، لمشهور بن حسن آل سلمان (7/ 114).

الفتور

معنى الفتور لغة واصطلاحاً: معنى الفتور لغة: الفترة الانكسار والضعف، يقال فتر يفتر فتورا وفتار، سكن بعد حدة ولان بعد شدة، وقولُه تعالَى فِي وصْفِ المَلائكَةِ: لَا يَفْتُرُونَ أَي لَا يَسْكُنُون عَن نَشَاطِهم فِي العِبَادَة (¬1). معنى الفتور اصطلاحاً: هو الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط والحيوية (¬2). ¬

(¬1) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (5/ 43)، و ((تاج العروس)) للزبيدي (13/ 293). (¬2) انظر ((الفتور المظاهر الأسباب العلاج)) لناصر العمر (ص 22).

ذم الفتور في القرآن والسنة

ذم الفتور في القرآن والسنة ذم الفتور في القرآن الكريم: - قال تعالى عن الملائكة: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] لا يَفْتُرُونَ لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته (¬1). - وقال تعالى عن موسى عليه السلام: اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 42 - 43]. (الونى. الفتور والتقصير. وقرئ: تنيا، بكسر حرف المضارعة للاتباع، أي: لا تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكري جناحا تصيران به مستمدين بذلك العون والتأييد مني، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر) (¬2). · وعاتب الله المؤمنين في التثاقل عن واجب الجهاد، والفتور فيه، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة: 38]. قال ابن كثير: (أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة: 38] أي: ما لكم فعلتم (2) هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة: 38]) (¬3). - وقال تعالى عن المنافقين الذين هم أشد الناس كسلاً وأكثرهم فتوراً: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142]. قال ابن كثير: (هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها ... وعن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله تعالى وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه) (¬4). ذم الفتور في السنة النبوية: يصيب الفتور كل شرائح المجتمع المسلم؛ من عابد، وطالب علم، وداعية .. الخ، ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه. - فعن عائشة - رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم)) (¬5). - وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: ((التمس لنا غلاما من غلمانكم يخدمني فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)) (¬6). ¬

(¬1) ((غرائب القرآن)) للنيسابوري (5/ 9). (¬2) ((الكشاف)) للزمخشري (3/ 65). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 153). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 438). (¬5) رواه البخاري (6368) ومسلم (589) واللفظ للبخاري. (¬6) رواه البخاري (2893).

قال ابن بطال: (الاستعاذة من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر في أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد في العمل والإجمال في الطلب ولا يكون عالةً ولا عيالاً على غيره ما متّع بصحة جوارحه وعقله) (¬1). وقال الكلاباذي: (الكسل: فتور في الإنسان عن الواجبات، فإن الفتور إذا كان في الفضول وما لا ينبغي فليس بكسل بل هو عصمة، وإذا كان في الواجبات فهو كسل، وهو الثقل، والفتور عن القيام بالواجب، وهو الخذلان، قال الله عز وجل: وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة: 46]، وعاتب الله المؤمنين في التثاقل عن الواجب، والفتور فيه، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة: 38] والهرم: فتور من ضعف يحل بالإنسان، فلا يكون به نهوض، ففتور الهرم فتور عجز، وفتور الكسل فتور تثبيط وتأخير، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتور في أداء الحقوق، والقيام بواجب الحق من الوجهين جميعا، من جهة عجز ضرورة وحرمان منها مع الإمكان) (¬2). - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما قال: ((كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل))، وفي رواية ((فقد هلك)) وفي لفظ: ((ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه)) (¬3). قيل للحسن البصري لما روى هذا الحديث: (إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس يشيرون إليك؟ فقال: لم يرد ذلك وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في دنياه) (¬4). وعلق ابن تيمية على كلام الحسن البصري فقال: (وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإن من الناس من يكون له شدة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابد من فتور في ذلك. وهم في الفترة نوعان: منهم: من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات، ومنهم: من يخرج إلى بدعة في دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا، فهذا مما يخاف على من بدل عن العبادات الشرعية إلى الزيادات البدعية) (¬5). - وعن أنس، قال: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل، أو فتر قعد)) (¬6). قال النووي: (وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور) (¬7). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) (¬8). قال المباركفوري: (قيل: معنى قوله (كان يقوم الليل) أي غالبه أو كله (فترك قيام الليل) أصلاً حين ثقل عليه، أي فلا تزد أنت في القيام أيضاً فإنه يؤدي إلى ترك رأساً. قال السندي: يريد أن الإكثار في قيام الليل قد يؤدي إلى تركه رأساً، كما فعل فلان، فلا تفعل أنت ذاك، بل خذ فيه التوسط والقصد أي؛ لأن التشديد في العبادة قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. وقال في اللمعات: فيه تنبيه على منعه من كثرة قيام الليل والإفراط فيه، بحيث يورث الملالة والسآمة) (¬9). ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 119). (¬2) ((بحر الفوائد)) للكلاباذي (ص231). (¬3) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (2/ 261)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 268) (1241). قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 838): [فيه] مسلم بن كيسان الملائي الأعور وهو ضعيف لكنه في الشواهد لا بأس به. (¬4) ((مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة)) لابن تيمية (ص 78). (¬5) ((مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة)) لابن تيمية (ص 78). (¬6) رواه البخاري (1150) ومسلم (784) واللفظ له. (¬7) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (6/ 73). (¬8) رواه البخاري (1152). (¬9) ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (4/ 232).

أقوال السلف والعلماء في الفتور

أقوال السلف والعلماء في الفتور - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا. فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل. وإن أدبرت فألزموها الفرائض) (¬1). - وقال أيضاً: (المدح هو الذبح، وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل، فكذلك الممدوح، لأن المدح يوجب الفتور ويورث الكبر والعجب) (¬2). - وقال ابن مسعود - رضي الله عنه: (لا تغالبوا هذا الليل فإنكم لن تطيقوه فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه فإنه أسلم له) (¬3). - و (قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور) (¬4). - وقال ابن القيم: (تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعود خيرا مما كان) (¬5). - وقال في موضع آخر: (إن المقبل على الله المطيع له يسير بجملة أعماله، وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم، وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله، فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه، فكسب عشرة أضعافه أيضا، فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله، وكان ربحه كذلك، وهلم جرا، فإذا فتر عن السفر في آخر أمره، مرة واحدة، فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه) (¬6). ¬

(¬1) ذكره الزمخشري في ((ربيع الأبرار)) (ص 158) عن علي رضي الله عنه. (¬2) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 160). (¬3) رواه عبدالرزاق (2/ 500)، وابن أبي شيبة (13/ 301)، والطبراني (9/ 106) (8554). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 263): رجاله رجال الصحيح. (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 341). (¬5) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 122). (¬6) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 305).

أقسام الفتور

أقسام الفتور ينقسم الفتور إلى عدة أقسام، أهمها: 1 - كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كره لها وعدم رغبة فيها، وهذه حال المنافقين؛ فإنهم من أشد الناس كسلا وفتورا ونفورا. قال الله فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) [النساء: 142] وقال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (3) [التوبة: 54]. وقال - صلى الله عليه وسلم - ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) (¬1). ولفظ (أثقل) على صيغة (أفعل) يدل على أن غيرهما ثقيل، وليس الثقل مقتصرا عليهما. 2 - كسل وفتور في بعض الطاعات، يصاحبه عدم رغبة فيها دون كره لها، أو ضعف في الرغبة مع وجودها، وهذه حال كثير من فساق المسلمين وأصحاب الشهوات. وهذان القسمان سببهما مرض في القلب، ويقوى هذا المرض ويضعف بحسب حال صاحبه، فمرض المنافقين أشد من مرض الفساق وأصحاب الشهوات، 3 - كسل وفتور عام سببه بدني لا قلبي؛ فتجد عنده الرغبة في العبادة، والمحبة للقيام بها، وقد يحزن إذا فاتته، ولكنه مستمر في كسله وفتوره، فقد تمر عليه الليالي وهو يريد قيام الليل، ولكنه لا يفعل مع استيقاظه وانتباهه ويقول: "سأختم القرآن في كل شهر" وتمضي عليه الأشهر ولم يتمه، ويحب الصوم، لكنه قليلا ما يفعل. وهذه حال كثير من المسلمين الذين يصابون بهذا الداء، ومنهم أناس صالحون، وآخرون من أصحاب الشهوة والفسق. وقد يؤدي هذا النوع إلى أن يشترك بعض المصابين به مع النوع الثاني، وهو الثقل القلبي في بعض العبادات. 4 - كسل وفتور عارض يشعر به الإنسان بين حين وآخر، ولكنه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، ولا يخرج عن طاعة. وهذا لا يسلم منه أحد، إلا أن الناس يتفاوتون فيه أيضا، وسببه غالبا أمر عارض، كتعب أو انشغال أو مرض ونحوها (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (657) ومسلم (651) واللفظ له. (¬2) انظر ((الفتور)) لناصر العمر (ص 24).

آثار الفتور

آثار الفتور للفتور مضار وآثار سيئة تعود على المسلم ومن هذه المضار والآثار أن الفتور: 1 - يدل على ضعف الهمة. 2 - التثاقل في العبادات. 3 - التعرض للأزمات النفسية والاجتماعية. 4 - يؤدي به إلى ترك بعض الفرائض. 5 - عاقبته تكون سيئة إذا لم يتب. 6 - تأثر من حوله به وخاصة إذا كان قدوة لغيره. 7 - فوات المصالح الدينية والدنيوية.

صور الفتور

صور الفتور هناك مظاهر وصور للفتور تمثل قصورا في العمل الصالح، أو ارتكاب لذنب، ومن هذه الصور والمظاهر: 1 - قسوة القلب: توعد الله سبحانه وتعالى القاسية قلوبهم بالضلال المبين فقال: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22 - 23]. وقاسي القلب لا يتأثر بالقرآن ولا بالمواعظ حتى يلين قلبه، قال السعدي في قوله تعلى: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ (أي: لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها، ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير) (¬1). وقال مالك بن دينار: (أربع من علم الشقاوة قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا) (¬2). 2 - أن يتكاسل عن الطاعة: من مظاهر الفتور التكاسل عن الطاعات والعبادات فتجده يؤخرها عن وقتها ولا يؤديها كما هي مطلوبة منه، وهو يختلف بحسب العبادة فإما أن تكون فرضاً أو نفلا، والتكاسل عن الفرائض أمر خطير جدا فليُنتبه له، وقد يخدش في إسلام المرء، قال تعالى عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] وقال: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة: 54]. 3 - الابتعاد عن الجليس الصالح: من صور الفتور أن يُضعف الشخص علاقته مع إخوانه الصالحين فيبتعد عنهم ويميل إلى العزلة، أو يصاحب قرناء السوء فيحرقون ثيابه أو يجد منهم ريحاً خبيثة كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)) (¬4). 4 - (ضياع الوقت وعدم الإفادة منه، وتزجيته بما لا يعود عليه بالنفع، وتقديم غير المهم على المهم، والشعور بالفراغ الروحي والوقتي وعدم البركة في الأوقات، وتمضي عليه الأيام لا ينجز فيها شيئا يذكر. 5 - عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي؛ خوفا من أن يعود إلى حياته الأولى. هكذا يسوّل له شيطانه زخرف القول غرورا. ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) السعدي (1/ 722) (¬2) ((الزهد وصفة الزاهدين)) ابن الأعرابي (1/ 47). (¬3) رواه البخاري (5534) ومسلم (2628) واللفظ للبخاري. (¬4) رواه الترمذي (2165)، وأحمد (1/ 18) (114)، النسائي في الكبرى (5/ 388) (9225)، وأبو يعلى (1/ 131) (141)، وابن حبان (16/ 239) (7254)، والحاكم (1/ 197)، والبيهقي (7/ 91) (13299). من حديث عمر رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 26): حسن صحيح, وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 401): له طرق أخر وهو حديث مشهور جدا. وصحح إسناده ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 388). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

6 - الفوضوية في العمل: فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، أعماله ارتجالا، يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا الأمر ولا يتمه، ويسير في هذا الطريق ثم يتحول عنه، وهكذا دواليك. 7 - خداع النفس؛ بالانشغال وهو فارغ، وبالعمل وهو عاطل، ينشغل في جزئيات لا قيمة لها ولا أثر يذكر، ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، وإنما هي أعمال يقنع نفسه بجدواها، ومشاريع وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع) (¬1). 8 - عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله: فمن ماتت لديه الغيرة لدين الله وأصيب بالفتور، لا تغضبه المنكرات، ولا يحاول أن يغير المنكر باليد أو باللسان، قال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). قال الغزالي: (فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه) (¬3). 9 - عدم الشعور بالمسؤولية: ومن مظاهر الفتور (عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمّله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] وقد تحدثه ساعة ويحدثك أخرى، فلا تجد أن همّ الدعوة يجري في عروقه، أو يؤرق جفونه ويقضّ مضجعه. ومما يلحق بهذا الباب أنك تجد هذا الفاتر أصبح يعيش بلا هدف أو غاية سامية، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، وذلت مطامحه ومآربه. وتبعا لذلك فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد وتخمد ثم تزول) (¬4). ¬

(¬1) ((الفتور)) لناصر العمر (ص 39). (¬2) رواه مسلم (49). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 169). (¬4) ((الفتور)) لناصر العمر (ص 37).

أسباب الفتور

أسباب الفتور للفتور أسباب كثيرة وإليك بعض من هذه الأسباب وهي كالتالي: 1 - الغفلة عن ذكر الله: إن الغفلة عن ذكر الله سبب من أسباب الفتور عن الطاعات والتكاسل عن العبادات لأنه إذا نسي ذكر الله كان بعيدا عنه، قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19] والغفلة تعتبر من التمادي في الباطل، ولا تعتبر سهوا أو نسياناً قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8]. قال ابن القيم: (فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه وصدأه بحسب غفلته وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا وهذا أعظم عقوبات القلب وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره) (¬1). وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9]. (لما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول: ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه. ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال: وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه) (¬2). 2 - التشدد في العبادة: المؤمن ينبغي أن يقوم بما يطيقه من العبادة حتى لا يصاب بالملل والفتور، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فقلت بلى يا رسول الله قال فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله فشددت فشدد علي قلت يا رسول الله إني أجد قوة قال فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزد عليه قلت وما كان صيام نبي الله داود - عليه السلام- قال نصف الدهر فكان عبد الله يقول بعد ما كبر يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬3). وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلت)) (¬4). ¬

(¬1) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (56). (¬2) ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/ 467). (¬3) رواه البخاري (1975) ومسلم (1159) واللفظ للبخاري. (¬4) رواه البخاري (1970) واللفظ له، ومسلم (782). من حديث عائشة رضي الله عنهما.

قال الشاطبي (إن المكلف لو قصد المشقة في عبادته، وحرص على الوقوع فيها، حتى يعرض نفسه لمضاعفة الثواب، فإنه يعرض نفسه في واقع الأمر لبغض عبادة الله تعالى، وكراهية أحكام الشريعة، التي غرس الله حبها في القلوب، كما يدل عليه قوله تعالى: وَلكنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7]، وذلك لأن النفس تكره ما يفرض عليها، إذا كان من جنس ما يشق الدوام عليه، بحيث لا يقرب وقت ذلك العمل الشاق، إلا والنفس تشمئز منه، وتود لو لم تعمل، أو تتمنى أنها لم تلتزم) (¬1). 3 - الاقتداء بالأشخاص والتعلق بهم: فقد يتعلق الفرد بشخص يعتبره قدوة وينظر إليه نظر قدوة، فإن زل زل معه، والحي لا تؤمن عليه الفتنة يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستنًا، فليستن بمن مات، أولئك أصحاب محمد كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد كانوا على الهدي المستقيم) (¬2). 4 - التعلق بالدنيا وزينتها: التعلق بالدنيا وزينتها والغرور بمستلذاتها يجعل المسلم همه الدنيا فقط ويعتبر من أعظم أسباب الفتور، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتبه الله له)) (¬3). وخرج أبو الدرداء على أهل الشام ورآهم في ترف فقال لهم: (مالي أراكم تجمعون ما لا تأخذون، وتبنون ما لا تسكنون، وتؤمّلون ما لا تأخذون، لقد جمعت الأقوام التي قبلكم وأمّنتْ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، فجعل الناس يبكون حتى سمع نشيجهم من خارج المسجد) (¬4). 5 - قلة تذكر الموت والدار الآخرة: قال تعالى: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8]. ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (7/ 184). (¬2) رواه ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 197 - 198)، وابن الأثير في ((جامع الأصول)) (1/ 292). قال الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (191): منقطع. (¬3) رواه ابن ماجه (3329)، وأحمد (5/ 183) (21630)، والدارمي (1/ 86) (229)، وابن حبان (2/ 454) (680)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 273) (1736). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (21/ 276): ثابت، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 130): إسناده لا بأس به، وصحح إسناده الدمياطي في ((المتجر الرابح)) (334)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 263): إسناده جيد، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 271)، وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 304): إسناده صحيح رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (358) والحديث روي من طرق عن أنس رضي الله عنه. قال الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (191): منقطع. (¬4) رواه بنحوه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (13/ 305)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 398) (10739).

قال السعدي: (أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها. فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود. أُوْلَئِكَ الذين هذا وصفهم مَأْوَاهُمُ النُّارُ أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها) (¬1). وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة القبور من أجل أن يتذكر الإنسان الموت فيتعظ ويعتبر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) (¬2). قال المناوي: (ليس للقلوب سيما القاسية أنفع من زيارة القبور فزيارتها وذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب وزيارة القبور تبلغ في دفع رين القلب واستحكام دواعي الذنب ما لا يبلغه غيرها) (¬3). 6 - الضعف في التربية: (يحتاج المسلم إلى تربية طويلة، مؤصلة، شاملة، وبخاصة في الجانب العبادي والعلمي. ولقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته خير تربية عرفتها البشرية، ولم يكن هذا بالأمر السهل والهين، بل مكث سنوات طويلة في مكة، وبعد ذلك في المدينة، يتعاهد صحابته، ويربيهم على عينيه صلى الله عليه وسلم وتطلب هذا الأمر جهودا مضاعفة وسنوات متوالية، حتى تخرج على يديه الكريمتين تلك الصفوة المباركة، التي ما عرف التاريخ ولن يعرف مثلها، سجلوا أمجادهم بمداد من نور، واجهوا المشكلات والعقبات، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ذلوا، وما استكانوا، وما ضعفوا. وشباب الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى التربية الشاملة المتوازنة، المستمدة من الكتاب والسنة، وعلى هدي سلف الأمة. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن هناك ضعفا ظاهرا في تربية رجال الأمة وشبابها، بل ونسائها، وأصبح الالتزام مظهرا عاما في داخله دخن عند كثير من الملتزمين، قد لا يثبت عند مواجهة الشدائد والمحن. فالصلة بالله ضعيفة، والعلم قليل، والتجربة محدودة، بينما المشاعر فياضة، والحماس طاغ، وقد يسر الناظرين، كالسراب يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور: 39] إلا من عصم الله ووفق وثبت. وقد كثرت الشكوى هذه الأيام من أولئك الذين ضعفوا بعد استقامة، وأصبحت تكون ظاهرة تحتاج إلى علاج، ووجدت أن من أبرز أسبابها ضعف التربية، مع كثرة الشهوات والشبهات، فعلى العلماء وطلاب العلم والمربين المبادرة قبل فوات الأوان، وتمني أن الذي كان ما كان. ومما تجب الإشارة إليه في باب ضعف التربية ما يلي: أ- ضعف البدايات، وعدم بناء الشخصية المسلمة على أسس قوية مؤصلة، مما يجعلها هزيلة غير متمكنة، تميل إلى ما قامت عليه وتحن إليه، مما يجعل صاحبها يعاني أيما معاناة. ب- عدم التدريب على المبادرة، بل أحيانا تربية الفرد على السلبية وانتظار التكاليف، فهو إمعة ومقلد. ج- ضعف الثقة بالنفس، والخوف من الإحباط والفشل، والتهيب من كل جديد. د- الغفلة عن مبدأ الثواب والعقاب، أو إساءة استخدامه. هـ- التعنيف في المحاسبة، وتضخيم الأخطاء، وكثرة العتاب، وعدم مراعاة الفروق الفردية، والظروف الاجتماعية، مما يسبب للشاب نفورا ووحشة وإحباطا. وإبراز الشخص وتحميله مسئوليات كبيرة قبل نضجه وإعداده وتربيته، وهذا بلاء عواقبه وخيمة في العاجل أو الآجل) (¬4). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 358). (¬2) رواه مسلم (976). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 67). (¬4) ((الفتور)) لناصر العمر (ص 71).

وسائل علاج الفتور

وسائل علاج الفتور هناك وسائل لعلاج الفتور الناشئ بسبب من الأسباب وهذا السبب إما أن يكون بارتكاب ذنب، أو التباطؤ في عمل الخير، والعلاج يكون بالإقلاع عن هذا الذنب أو في المسارعة إلى الخيرات، ومن هذه الوسائل لعلاج الفتور: 1 - الدعاء بالثبات على الدين: قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. وكان صلى الله عليه وسلم يدعو بالثبات على الدين، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا وبك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبهما كما يشاء)) (¬1). 2 - الالتزام بأذكار الصباح والمساء: فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)) (¬2). 3 - الرفقة الصالحة: فالمرء على دين خليله وعليه فلا بد أن يرافق الصالحين حتى يعينوه على البر والتقوى، قال صلى الله عليه وسلم: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬3) كما حث على مصاحبة المؤمن فقال: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) (¬4). 4 - ذكر الله وكثرة الاستغفار: ¬

(¬1) رواه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، وأحمد (3/ 112) (12128)، والحاكم (1/ 707). قال الترمذي: حديث حسن. ووافقه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 99) - كما أشار لذلك في مقدمته – وقال الحاكم: إسناده صحيح. وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 112): رجاله رجال مسلم في الصحيح، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (3667)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 137) (6022)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 409) (561)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (7/ 32) (2418). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 433) كما قال في المقدمة، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (7203)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬3) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (2/ 334) (8398)، والحاكم (4/ 188)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 55) (9436). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (6/ 470): حسن غريب، وقال البيهقي: [له متابعة]، وصحح إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (177)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 528): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (151)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (4516)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه أبو داود (4832)، والترمذي (2395)، وأحمد (3/ 38) (11355)، وابن حبان (2/ 314) (554)، والحاكم (4/ 143)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 42) (9382). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 468)، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 317): رجاله موثقون، وقال الهيثمي في ((موارد الظمآن)) (2/ 1134): له طريقان، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9808)، ومحمد جار الله الصعدي في ((النوافح العطرة)) (455)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.

أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالذكر حتى يفلحوا فقال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال: 49]. وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي بأن يكون لسانه رطبا بذكر الله، فعن عبد الله بن بسر قال: ((إن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بشيء أتشبث به , قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال ذكر الله عز وجل)) (¬2). وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) (¬3). وعن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) (¬4). 5 - الإكثار من النوافل: الإكثار من النوافل يقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويورث محبته وفي الحديث القدسي ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (¬5) والإكثار من النوافل يعوض ما قد يطرأ من النقص والتقصير في الفرائض. 6 - العظة من خاتمة من أصابه الفتور: تجد بعض من يصاب بالفتور ينتكس وتكون خاتمته سيئة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد: 25]. 7 - التفكر في يوم القيامة: فالتفكر في اليوم الآخر وما أعده الله لعباده الممتثلين لأوامره من النعيم، وما أعده للكفار والعاصين من العذاب، يحرك في قلب صاحبه العزيمة الفاترة فيقبل على الله بقلبه ليكون من المنيبين إليه. ¬

(¬1) رواه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3075)، وأحمد (4/ 188) (17716)، وابن حبان (3/ 96) (814)، والحاكم (1/ 672)، والبيهقي (3/ 371) (6318). من حديث عبدالله بن بسر رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 425): إسناده جيد، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (1/ 257): حسن ولأصل الحديث شاهد، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه الترمذي (3377)، وابن ماجه (3072)، وأحمد (5/ 195) (21750)، ومال في ((الموطأ)) (2/ 295)، والحاكم (1/ 673)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 394) (519). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 66)، وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 326)، والدمياطي في ((المتجر الرابح)) (203)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 76)، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (1/ 265): مختلف في رفعه ووقفه وفي إرساله ووصله [و] الصحيح الوقف، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2886)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).? (¬3) رواه البخاري (6307). (¬4) رواه مسلم (2702). (¬5) رواه البخاري (6502).

الفحش والبذاءة

معنى الفحش والبذاءة لغة واصطلاحاً معنى الفحش لغة: كل شيء جاوز حده فهو فاحش. وقد فحش الأمر بالضم فحشا وتفاحش. وأفحش عليه في المنطق أي قال الفحش فهو فحاش. وتفحش في كلامه (¬1). (وقال ابن سيده: الفحش والفحشاء والفاحشة القبيح من القول والفعل، وجمعها الفواحش) (¬2). معنى الفحش اصطلاحاً: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم (¬3). وقال الراغب: (الفحش والفحشاء والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال) (¬4). (وقال الحرالي: ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع فيتفق في حكمه آيات الله الثلاث من الشرع والعقل والطبع، وبذلك يفحش الفعل) (¬5). معنى البذاءة لغة واصطلاحاً معنى البذاءة لغة: البذاء، بالمد: الفحش. وفلان بذي اللسان، والمرأة بذية، بذو بذاء فهو بذي. وبذوت على القوم وأبذيتهم وأبذيت عليهم: من البذاء وهو الكلام القبيح (¬6). معنى البذاءة اصطلاحاً: هو الفحش والقبح في المنطق وإن كان الكلام صدقا (¬7). وقال الكفوي: البذاء (هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة) (¬8). ¬

(¬1) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 234). (¬2) ((لسان العرب))، لابن منظور (6/ 325). (¬3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص 165). (¬4) ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (626). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعريف)) للمناوي (257). (¬6) ((لسان الميزان)) لابن منظور (14/ 69). (¬7) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 73). (¬8) ((الكليات)) للكفوي (ص 243).

الفرق بين الفحش وبعض الصفات

الفرق بين الفحش وبعض الصفات الفرق بين الفحش والقبح: قال أبو هلال العسكري: (إن الفاحش الشديد القبح ويستعمل القبح في الصور فيقال القرد قبيح الصورة ولا يقال فاحش الصورة، ويقال هو فاحش القبح وهو فاحش الطول وكل شيء جاوز حد الاعتدال مجاوزة شديدة فهو فاحش وليس كذلك القبيح (¬1). الفرق بين الفحش والشتم: الفحش أن يعبر عن المباشرة بعبارة قبيحة، والشتم أن ينسب واحدا إلى ذلك (¬2). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 367). (¬2) ((مفيد العلوم ومبيد الهموم)) للخوارزمي (ص 225).

ذم الفحش والبذاءة في القرآن والسنة

ذم الفحش والبذاءة في القرآن والسنة ذم الفحش والبذاءة في القرآن الكريم: - قال تعال: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114]. قال السعدي: (أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه) (¬1). - وقال سبحانه: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء: 148]. قال البغوي: (يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى: وَلَمَنْ انتصرَ بعد ظلمه فأولئك ما عليهم مِنْ سَبيل [الشورى: 41]، قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه اللهم استخرجْ حقي منه، وقيل: إن شُتِم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه) (¬2). - قال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]. - وقال سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 31 - 32]. - وقال عز من قائل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. قال السعدي في تفسيره لهذه الآية (أي: الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما. وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أي: الفواحش التي تتعلق بحركات البدن، والتي تتعلق بحركات القلوب، كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك) (¬3). ذم الفحش والبذاءة في السنة النبوية: - عن أبي عبد الله الجدلي قال: ((سألت عائشة رضي الله عنها: عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان أحسن الناس خلقا لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح)) (¬4). (أي ناطقا بالفحش وهو الزيادة على الحد في الكلام السيئ والمتفحش المتكلف لذلك أي لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا) (¬5). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 202). (¬2) ((معالم التنزيل)) للبغوي (2/ 304). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 287). (¬4) رواه الترمذي (2016)، أحمد (6/ 236) (26032)، وابن حبان (14/ 355) (6443). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5820). (¬5) ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 575).

- وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)) (¬1) قال ابن بطال في قوله (ولا الفاحش، أي: فاعل الفحش أو قائله. وفي النهاية أي: من له الفحش في كلامه وفعاله قيل أي: الشاتم، والظاهر أن المراد به الشتم القبيح الذي يقبح ذكره. ((ولا البذيء)) ... وهو الذي لا حياء له كما قاله بعض الشراح. وفي النهاية: البذاء بالمد الفحش في القول وهو بذيء اللسان، وقد يقال بالهمز وليس بكثير. اهـ. فعلى هذا يخص الفاحش بالفعل لئلا يلزم التكرار، أو يحمل على العموم، والثاني يكون تخصيصا بعد تعميم بزيادة الاهتمام به لأنه متعد) (¬2). - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام. قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (¬3). (قال الخطابي جمع هذا الحديث علما وأدبا وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته) (¬4). (والفحش والبذاء مذموم كله، وليس من أخلاق المؤمنين. وقد روى مالك عن يحيى بن سعيد أن عيسى بن مريم لقي خنزيرا في طريق فقال له: انفذ بسلام فقيل له: تقول هذا لخنزير فقال عيسى ابن مريم: إني أخاف أن أعود لساني المنطق السوء. فينبغي لمن ألهمه الله رشده أن يجنبه ويعود لسانه طيب القول ويقتدي في ذلك بالأنبياء - عليهم السلام - فهم الأسوة الحسنة. وفى حديث عائشة أنه لا غيبة في الفاسق المعلن وإن ذكر بقبيح أفعاله. وفيه: جواز مصانعة الفاسق وإلانة القول لمنفعة ترجى منه) (¬5). - وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) (¬6). - وعن أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه- أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق)) (¬7). (قال البيضاوي: لما كانا باعثين على التحفظ في الكلام والاحتياط فيه عُدَّا من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق وعلى هذا يكون المراد بالعِيِّ ما يكون سبب التأمل والتحرز عن الوبال، لا الخلل في اللِّسان، وبالبيان ما يكون بسبب الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان، والتحرز عن الزور والبهتان. والبذَاء، والبيانُ شعبتان من النِّفاقِ قال في النهاية: أراد أنهما خصلتان منشؤهما النفاق، أما البذاء؛ وهو الفحش، فظاهر، وأما البيان؛ فإنما أراد منه بالذم التعمق في النطق، والتفاصح وإظهار التقدم فيه على النَّاس، وكأنه نوع من العجب، والكبر، ولذا قال في روايةِ أخرى: ((بعض البيان)) لأنه ليس كل البيان مذمومًا) (¬8). ¬

(¬1) رواه الترمذي (1977)، وابن حبان (1/ 421) (192)، والحاكم (1/ 57). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1010)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7584). (¬2) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 230). (¬3) رواه البخاري (6054). (¬4) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 454). (¬5) ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3044). (¬6) رواه الترمذي (2002)، وابن حبان (12/ 506). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5628). (¬7) رواه الترمذي (2027)، وأحمد (5/ 269) (22366). قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم (1/ 51): صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3866). (¬8) ((قوت المقتذي)) للسيوطي (1/ 480).

أقوال السلف والعلماء في ذم الفحش والبذاءة

أقوال السلف والعلماء في ذم الفحش والبذاءة - قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ألأم خلق المؤمن الفحش) (¬1). - و (رأى أبو الدرداء رضي الله عنه امرأة سليطة اللسان، فقال: لو كانت هذه خرساء، كان خيرا لها) (¬2). - وعن إبراهيم بن ميسرة قال: (يقال: الفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب) (¬3). - وعن عون بن عبد الله رحمه الله قال: (ألا أن الفحش والبذاء من النفاق وهن مما يزدن في الدنيا وينقصن في الآخرة وما ينقصن في الآخرة أكثر مما يزدن في الدنيا) (¬4). - وقال الأحنف بن قيس رحمه الله: (أو لا أخبركم بأدوأ الداء: اللسان البذيء والخلق الدنيء) (¬5). - وقال أسماء بن خارجة: (ما شتمت أحدا قط؛ لأن الذي يشتمني أحد رجلين كريم كانت منه ذلة وهفوة فأنا أحق من غفرها وأخذ الفضل فيها أو لئيم فلم أكن لأجعل عرضي. . . وكان يتمثل: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما) (¬6). - وقال سعيد بن العاص: (ما شتمت رجلا منذ كنت رجلا، ولا زاحمت ركبتي ركبته، وإذا أنا لم أصل زائري حتى يرشح جبينه كما يرشح السقاء فوالله ما وصلته) (¬7). - وعن الأصمعي قال: (جرى بين رجلين كلام، فقال أحدهما لصاحبه: لمثل هذا اليوم كنت أدع الفحش على الرجال. فقال له خصمه: فإني أدع الفحش عليك اليوم؛ لما تركت قبل اليوم) (¬8). - وعن ابن عائشة، عن أبيه؛ قال: (قال بعض الحكماء: لا تضع معروفك عند فاحش ولا أحمق ولا لئيم؛ فإن الفاحش يرى ذلك ضعفا، والأحمق لا يعرف قدر ما أتيت إليه، واللئيم سبخة لا ينبت ولا يثمر، ولكن إذا أصبت المؤمن؛ فازرعه معروفك تحصد به شكرا) (¬9). - وقال ابن حبان البستي: (إن الواقح إذا لزم البذاء كان وجود الخير منه معدوما وتواتر الشر منه موجودا لأن الحياء هو الحائل بين المرء وبين المزجورات كلها فبقوة الحياء يضعف ارتكابه إياها وبضعف الحياء تقوى مباشرته إياها) (¬10). - وقال الماوردي: (ومما يجري مجرى فحش القول وهُجْره في وجوب اجتنابه، ولزوم تنكبه ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر، وإن كان عقب التأمل سليماً، وبعد الكشف والروية مستقيماً) (¬11). - وقال القاسمي: (كلام الإنسان بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل، وإياك وما يستقبح من الكلام؛ فإنه يُنَفِّر عنك الكرام، ويُوَثِّب عليك اللئام) (¬12). ¬

(¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص89). (¬2) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 184). (¬3) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 185). (¬4) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 186). (¬5) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 186). (¬6) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص 186). (¬7) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (46/ 35). وابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص 186). (¬8) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (4/ 405). (¬9) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (6/ 399). (¬10) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 58). (¬11) ((أدب الدنيا والدين)) (ص 284). (¬12) ((جوامع الآداب)) للقاسمي (ص 6).

المقصود بالفحش والفحشاء

المقصود بالفحش والفحشاء تطلق لفظة الفحش والفحشاء على عدة أمور منها: 1 - إطلاقها على الزنا: تطلق كلمة فاحشة على الزنا قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32] وقال عز من قائل: إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [الطلاق: 1] (¬1). (قال ابن بكير: إذا نعتت الفاحشة بمبينة فهي من باب البذاء باللسان، وإذا لم تنعت وأطلقت فهي الزنى وقيل إذا كانت الفاحشة بالألف، واللام فهي الزنى، واللواط) (¬2). وقال ابن الأثير: (وكثيرا ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا) (¬3). 2 - وتطلق على المرأة القبيحة والكبيرة: قال ابن الأعرابي: وعلقت تجريهم عجوزك، بعد ما ... فحشت محاسنها على الخطاب (¬4). 3 - ويطلق على البخيل الفاحش: قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام، ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد يعني الذي جاوز الحد في البخل، وقال ابن بري: الفاحش السيئ الخلق المتشدد البخيل (¬5). 4 - وتطلق على كل أمر لا يكون موافقا للحق والقدر: قال ابن جرير: (وأصل الفحش: القبح، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء. ومنه قيل للطويل المفرط الطول: إنه لفاحش الطول، يراد به: قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن. ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد: كلام فاحش، وقيل للمتكلم به: أفحش في كلامه، إذا نطق بفُحش) (¬6). 5 - وتطلق على كل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال: قال ابن الجوزي في تفسيره لقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: (والفاحشة القبيحة، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش، والمراد بها هاهنا قولان أحدهما: أنها الزنى، قاله جابر بن زيد والسدي ومقاتل. والثاني: أنها كل كبيرة: قاله جماعة من المفسرين) (¬7). وقال الآلوسي: (قيل: الفاحشة المعصية الفعلية، وظلم النفس المعصية القولية، وقيل الفاحشة ما يتعدى، ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب اجتراء الناس عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك، وقيل: الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال (¬8). 6 - وتطلق على الفحش في الكلام: والفحش في الكلام: أ- إما أن يكون بمعنى السب والشتم وقول الخنا كما في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ((لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ... )) (¬9). ب- وإما أن يكون بالتعدي في القول والجواب كما في حديث عائشة، رضي الله عنها: ((أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم. قال: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في)) (¬10). ¬

(¬1) ((لسان العرب))، لابن منظور (6/ 325). (¬2) ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (4/ 65). (¬3) ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 790). (¬4) ((لسان العرب))، لابن منظور (6/ 326). (¬5) ((لسان العرب))، لابن منظور (6/ 325). (¬6) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) (7/ 218). (¬7) ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/ 327). (¬8) ((روح المعاني)) للآلوسي (2/ 274). (¬9) رواه البخاري (3559)، ومسلم (2321). (¬10) رواه البخاري (6030).

وقال الماوردي: (وما قدح في الأعراض من الكلام نوعان: أحدهما: ما قدح في عرض صاحبه ولم يتجاوزه إلى غيره، وذلك شيئان: الكذب وفحش القول. والثاني: ما تجاوزه إلى غيره، وذلك أربعة أشياء: الغيبة والنميمة والسعاية والسب بقذف أو شتم. وربما كان السب أنكاها للقلوب وأبلغها أثرا في النفوس. ولذلك زجر الله عنه بالحد تغليظا وبالتفسيق تشديدا وتصعيبا. وقد يكون ذلك لأحد شيئين: إما انتقام يصدر عن سفه أو بذاء يحدث عن لؤم. وقد روى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم)) (¬1). وقال ابن المقفع: الاستطالة لسان الجهال. وكف النفس عن هذه الحال بما يصدها من الزواجر أسلم وهو بذوي المروءة أجمل) (¬2). ج- وإما بالتعبير عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة: بعض الناس يستخدم عبارات يقبح استخدامها ولو كانت هذه العبارات مطابقة للواقع وصحيحة يعتبر من الفحش، وعليه أن يستعمل الكناية وأن لا يصرح به ويعبر عنه بكلام يفهم منه المقصود، قال النووي: (قال العلماء: فينبغي أن يستعمل في هذا وما أشبهه من العبارات التي يستحيى من ذكرها بصريح اسمها الكنايات المفهمة، فيكني عن جماع المرأة بالإفضاء والدخول والمعاشرة والوقاع ونحوها، ولا يصرح بالنيك والجماع ونحوهما، وكذلك يكني عن البول والتغوط بقضاء الحاجة، والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرح بالخراءة والبول ونحوهما، وكذلك ذكر العيوب كالبرص والبخر والصنان وغيرها، يعبر عنها بعبارات جميلة يفهم منها الغرض، ويلحق بما ذكرناه من الأمثلة ما سواه. واعلم أن هذا كله إذا لم تدع حاجة إلى التصريح بصريح اسمه، فإن دعت حاجة لغرض البيان والتعليم، وخيف أن المخاطب لا يفهم المجاز، أو يفهم غير المراد، صرح حينئذ باسمه الصريح ليحصل الإفهام الحقيقي، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من التصريح بمثل هذا، فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا، فإن تحصيل الإفهام في هذا أولى من مراعاة مجرد الأدب) (¬3) وقال الغزالي: (فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقربها ويتعلق بها وقال ابن عباس: (إن الله حي كريم يعفو ويكنو) كنى باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست بفاحشة وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيها وليس يختص هذا بالوقاع بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما فإن هذا أيضا ما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء فلا يقال قالت زوجتك كذا بل يقال قيل في الحجرة أو من وراء الستر أو قالت أم الأولاد فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير بل يقال العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان) (¬4). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4790)، والترمذي (1964)، وأحمد (2/ 394) (9107). قال الترمذي: غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6653). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص 323). (¬3) ((الأذكار)) للنووي (ص376). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 122).

آثار ومضار الفحش والبذاء

آثار ومضار الفحش والبذاء 1 - فاعل الفحش أو قائله يستحق العقوبة من الله في الدنيا والآخرة. 2 - يتحاشاه الناس خوفاً من شر لسانه: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تُرك اتقاء فحشه)) (¬1). 3 - البذاء والفحش من علامات النفاق: قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)) (¬2). 4 - ليس من صفات المؤمن الكامل الإيمان الفحش والبذاء. قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) (¬3). 5 - الفاحش المتفحش يبغضه الله. قال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تَعَالَى يبغض الْفاحِشَ المُتَفَحّشَ)) (¬4). 6 - الفاحش يكون بعيداً من الله ومن الناس. 7 - يشيع الفحش والفحشاء في المجتمع الإسلامي. ¬

(¬1) رواه البخاري (6054). (¬2) رواه الترمذي (2027)، وأحمد (5/ 269) (22366). قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم (1/ 51): صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3866). (¬3) رواه الترمذي (1977)، وابن حبان (1/ 421) (192)، والحاكم (1/ 57). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1010)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7584). (¬4) رواه الترمذي (1977)، وابن حبان (1/ 421) (192)، والحاكم (1/ 57). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1010)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7584).

الوسائل المعينة لترك الفحش والبذاءة

الوسائل المعينة لترك الفحش والبذاءة 1 - أن يكثر من ذكر الله: أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل)) (¬1). وذكر ابن القيم من فوائد الذكر (أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل فإن العبد لا بد له من أن يتكلم فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها ولا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله) (¬2). 2 - أن يلزم الصمت: قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (¬3). وأوصى صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال: ((يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما قال بلى يا رسول الله قال عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)) (¬4). 3 - تعويد اللسان على الكلام الجميل: فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج)) (¬5). 4 - أن يتجنب في عباراته الألفاظ المستقبحة وإن كانت صدقاً ويكني بدلاً عنها: قال الماوردي: (يتجافى هجر القول ومستقبح الكلام، وليعدل إلى الكناية عما يستقبح صريحه ويستهجن فصيحه؛ ليبلغ الغرض ولسانه نزه وأدبه مصون) (¬6). وقال العلاء بن هارون: (كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في منطقه فخرج تحت إبطه خراج فأتيناه نسأله لنرى ما يقول فقلنا من أين خرج فقال من باطن اليد) (¬7). 5 - أن لا يتحدث فيما لا يعنيه: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬8). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((توفي رجل من أصحابه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولا تدري، فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه)) (¬9). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وأحمد (4/ 190) (17734). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده الحاكم. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7700). (¬2) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص 64). (¬3) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47). (¬4) رواه البزار (13/ 359)، وأبو يعلى (6/ 53)، والطبراني في ((الأوسط)) (7/ 140). وجوَّد إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 274)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 22): رجاله ثقات. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 18): هذا إسناد رجاله ثقات. (¬5) رواه الترمذي (2004)، وأحمد (2/ 442) (9694)، وابن حبان (2/ 224). قال الترمذي: صحيح غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2642). (¬6) ((أدب الدنيا والدين)) (ص 284). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 122). (¬8) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وأحمد (1/ 201) (1737). قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8243)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5911). (¬9) رواه الترمذي (2316)، وقال: غريب. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2151).

وكان عبد الله بن عمر يقول: ((دع ما لست منه في شيء، ولا تنطق في ما لا يعنيك، واحرز لسانك كما تخزن ورقك)) (¬1). وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سدت قومك - وأراد عيبه -؟ فقال الأحنف: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما أعناك من أمري ما لا يعنيك (¬2). 6 - أن لا يعتاد لعن الدواب والأماكن: قال صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا)) (¬3). وعن أبي برزة الأسلمي، قال: ((بينما جارية على ناقة، عليها بعض متاع القوم، إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل، اللهم العنها، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة)) (¬4). 7 - التخلق بخلق الحياء: الحياء يمنع من كثير من الفحش والبذاء ويحمل على كثير من أعمال الخير فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما كان الحياء في شيء قط إلا زانه ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه)) (¬5). قال ابن عبد البر: (إن الحياء يمنع من كثير من الفحش والفواحش ويشتمل على كثير من أعمال البر وبهذا صار جزءا وشعبة من الإيمان لأنه وإن كان غريزة مركبة في المرء فإن المستحي يندفع بالحياء عن كثير من المعاصي كما يندفع بالإيمان عنها إذا عصمه الله فكأنه شعبة منه لأنه يعمل عمله فلما صار الحياء والإيمان يعملان عملا واحدا جعلا كالشيء الواحد وإن كان الإيمان اكتسابا والحياء غريزة) (¬6). 8 - مصاحبة ومجالسة الأخيار: فإن من جالس الأخيار أعانوه على طريق الخير، يقومون بتشجيعه إذا أحسن، وينصحوه إذا أخطأ، ويأخذ من هذه الصحبة مدرسة تعينه على التخلق بالخلق الحسن، قال صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬7). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) (¬8). قال الشاعر: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحبِ الأردى فتردى مع الردي وقال الحسن بن علي الخلال: (قال بعض الحكماء: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءة تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تنتج ذكاء القلوب، ومن عرف تقلب الزمان لم يركن إليه) (¬9). ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 29). (¬2) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (3/ 185). (¬3) رواه مسلم (2597). (¬4) رواه مسلم (2596). (¬5) رواه الترمذي (1974)، وابن ماجه (4185)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (601). قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الألباني في صحيح ((الأدب المفرد)) (470). (¬6) ((التمهيد)) لابن عبد البر (9/ 234). (¬7) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (2/ 303) (8015). قال الترمذي: حسن غريب. وقال الذهبي في ((السير)) (8/ 189): غريب عال. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4516). (¬8) رواه أبو داود (4832)، والترمذي (2395). وحسنه الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (13/ 69)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9808). (¬9) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (5/ 153).

الأسباب الدافعة للفحش والبذاءة

الأسباب الدافعة للفحش والبذاءة 1 - الخبث واللؤم: الفساق وأهل الخبث واللؤم من عادتهم السب والكلام الفاحش والبذيء. قال القرطبي: (والبذي اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة) (¬1). وقال الراغب الأصفهاني: (البذاء: الكلام القبيح، ويكون من القوة الشهوية طورًا؛ كالرفث والسخف، ويكون من القوة الغضبية طورًا، فمتى كان معه استعانة بالقوة الفكرة يكون فيه السباب، ومتى كان من مجرد الغضب كان صوتًا مجردًا لا يفيد نطقًا، كما ترى كثيرًا ممن فار غضبه وهاج هائجه) (¬2). 2 - قصد الإيذاء: ربما يكون سبب الكلام الفاحش والبذيء (لردة فعل من تصرف أو قول ضدك فتثور نفسك لتثأر لما سمعته من إيذاء أو قابلته من تصرف مشين. وقد قال صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم: ((وإن امرؤ شتمك أو عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه، ودعه يكون وباله عليه وأجره لك فلا تسبن شيئاً)) (¬3). وما أجمل اللجوء إلى الهدوء لمعالجة هذه القضايا بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، وفي ذلك خزي للشيطان الذي يتربص بالإنسان المؤمن فإذا غضب المؤمن كانت فرصة الشيطان في غرس الشقاق وإذهاب المودة والمحبة بين الإخوان) (¬4). 3 - الاعتياد على مخالطة الفساق: من خالط الفساق وأهل الخبث واللؤم يصبح مثلهم لأن من عادتهم السب والشتم والبذاءة (ولذا يجب على المسلم مجانبة أهل الباطل والفحش وأن يبحث عن أهل الخير ليخالطهم ويستمع إلى الكلمة الطيبة منهم لتصفو بها نفسه. لأن المؤمنين الأتقياء أصحاب الكلمة الطيبة الكريمة الفاضلة يجعلون كلامهم من وراء قلوبهم، يمحصون الكلمة فإن أرضت الله أمضوها على ألسنتهم وإلا استغفروا الله وصمتوا، فهم لا يتكلمون بالكلمة النابية ولا يلعنون ولا يسبون) (¬5). قال الشاعر: فصاحب تقيا عالما تنتفع به ... فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب وإياك والفساق لا تصحبنهم ... فقربهم يعدي وهذا مجرب فإنا رأينا المرء يسرق طبعه ... من الإلف ثم الشر للناس أغلب (¬6) ... ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (3/ 386). (¬2) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 284). (¬3) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1182)، وابن حبان (2/ 279) (521)، والطيالسي (2/ 533). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (98). (¬4) انظر ((آفات اللسان)) لإبراهيم المشوخي (108). (¬5) ((آفات اللسان)) لإبراهيم المشوخي (109). (¬6) ((غذاء الألباب)) للسفاريني (3/ 122) بتصرف.

الشعر في ذم الفحش والبذاءة ..

الشعر في ذم الفحش والبذاءة .. قال الشاعر: وفحش ومكر والبذاء خديعة ... وسخرية والهزو والكذب قيد (¬1) وقال آخر: مِنْ أُناسِ لَيْسَ في أَخْلاَقِهِمْ ... عَاجِلُ الفُحْشِ وَلاَ سُوءُ الجَزَعْ (¬2) وقال طلحة بن عبيد الله: فلا تعجل على أحد بظلم ... فإن الظلم مرتعه وخيم ولا تفحش وإن ملئت غيظا ... على أحد فإن الفحش لوم (¬3) وقال آخر: لسانك خير وحده من قبيلة ... وما عد بعد في الفتى أنت حامله سوى البخل والفحشاء واللؤم والخنا ... أبت ذلكم أخلاقه وشمائله إذا القوم أموا سنة فهو عامد ... لأكبر ما ظنوا به فهو فاعله (¬4) وقال مسكين الدارمي: وإذا الفاحش لاقى فاحشا ... فهناكم وافق الشن الطبق إنما الفحش ومن يعنى به ... كغراب السوء ما شاء نعق أو حمار السوء إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق أو غلام السوء إن جوعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق أو كعذرى رفعت عن ذيلها ... ثم أرخته ضرارا فانمزق أيها السائل عما قد مضى ... هل جديد مثل ملبوس خلق (¬5) وقال آخر: توق من الناس فحش الكلام ... فكل ينال جنى غرسه فمن جرب الذم في عرضه ... كمن جرب السم في نفسه (¬6) وقال الشاعر: أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشر الناس من يهوى السبابا ... ¬

(¬1) ((غذاء الألباب)) للسفاريني (3/ 122). (¬2) ((اللباب في علوم الكتاب)) لعمر بن علي النعماني (2/ 16). (¬3) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص 73). (¬4) ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (ص 73). (¬5) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأحمد بن مروان المالكي (7/ 114). (¬6) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص 399).

القسوة والغلظة والفظاظة

معنى القسوة والغلظة والفظاظة لغة واصطلاحاً: معنى القسوة لغة: قال ابن منظور (القساء مصدر قسا القلب يقسو قساء والقسوة الصلابة في كل شيء .. وقسا قلبه قسوة وقساوة وقساء بالفتح والمد وهو غلظ القلب وشدته وأقساه الذنب ويقال الذنب مقساةٌ للقلب، -وقال- ابن سيده قسا القلب يقسو قسوة اشتد وقسا فهو قاسٍ) (¬1). معنى القسوة اصطلاحاً: قال ابن منظور: (القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه) (¬2). وقال الجاحظ: (القساوة: وهو خلق مركب من البغض والشجاعة والقساوة وهو التهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى) (¬3). وقال القاري: (قساوة للقلب وهي النبو عن سماع الحق والميل إلى مخالطة الخلق وقلة الخشية وعدم الخشوع والبكاء وكثرة الغفلة عن دار البقاء) (¬4). معنى الغلظة لغة واصطلاحاً: معنى الغلظة لغة: قال ابن منظور: (الغلظ ضد الرقة في الخلق والطبع والفعل والمنطق والعيش ونحو ذلك غلظ يغلظ غلظاً صار غليظاً واستغلظ مثله وهو غليظ وغلاظ والأنثى غليظة وجمعها غلاظٌ .. ورجل غليظ فظ فيه غلظة ذو غلظة وفظاظةٍ وقساوة وشدة) (¬5). معنى الغلظة اصطلاحاً: قال الشوكاني (غلظ القلب: قساوته، وقلة إشفاقه، وعدم انفعاله للخير) (¬6). معنى الفظاظة لغة واصطلاحاً: معنى الفظاظة لغة: والفظاظة والغلظة بمعنى واحد قال الصاحب بن عباد: (رجلٌ فظ ذو فظاظةٍ: أي غلظٍ في منطقه وتجهمٍ. والفظاظة والفظظ: خشونة الكلام) (¬7). معنى الفظاظة اصطلاحا: قال الفيروز آبادي: (الفظ: الغليظ الجانب، السيئ الخلق، القاسي الخشن الكلام) (¬8). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 180). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 180). (¬3) انظر ((تهذيب الأخلاق))، للجاحظ (30). (¬4) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح))، للملا علي القاري (4/ 1556). (¬5) ((لسان العرب))، لابن منظور (7/ 449). (¬6) ((فتح القدير))، للشوكاني (1/ 451). (¬7) ((العين)) للخليل بن أحمد (8/ 153). (¬8) ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص697).

الفرق بين الغلظة الفظاظة وبعض الصفات

الفرق بين الغلظة الفظاظة وبعض الصفات الفرق بين الغلظة والفظاظة: يري البعض أنهما بمعنى واحد كما قال العز بن عبد السلام (¬1). ويرى آخرون أنهما يختلفان من وجوه: 1 - أن الفظاظة في القول والغلظة في الفعل كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬2). 2 - الفظ: هو سيئ الخلق، وغليظ القلب: هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء (¬3). 3 - الفظاظة خشونة القلب والغلظة قسوة القلب (¬4). الفرق بين القسوة والصلابة: (الفرق بين القسوة والصلابة: أن القسوة تستعمل فيما لا يقبل العلاج ولهذا يوصف بها القلب وإن لم يكن صلبا) (¬5). الفرق بين القسوة والصبر: قال ابن القيم: (الفرق بين الصبر والقسوة أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي فيحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى والجوارح عما لا ينبغي فعله وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية. وأما القسوة: فيبس في القلب يمنعه من الانفعال وغلظة تمنعه من التأثير بالنوازل فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله) (¬6). - ما يوصف به القاسي: يوصف من ابتلي بالقسوة بعدة أوصاف وهي من المرادفات (قاسي القلب، غليظ الكبد، جافي الطبع، خشن الجانب، فظ الأخلاق، وفيه قسوة، وقساوة، وغلظة، وجفاء، وخشونة، وفظاظة) (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير ابن عبد السلام)) لعز الدين بن عبد السلام (697). (¬2) ((زاد المسير))، لابن الجوزي (ص340). (¬3) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (9/ 407). (¬4) ((طلبة الطلبة)) لنجم الدين النسفي (3/ 316). (¬5) ((معجم الفروق اللغوية)) للعسكري (ص429). (¬6) ((الروح)) لابن القيم (1/ 241). (¬7) ((نجعة الرائد)) لليازجي (1/ 234).

ذم القسوة والغلظة والفظاظة في القرآن والسنة

ذم القسوة والغلظة والفظاظة في القرآن والسنة ذم القسوة والغلظة والفظاظة في القرآن الكريم: - قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74]. قال الشوكاني: (القسوة: الصلابة واليبس، وهي: عبارة عن خلوها من الإنابة، والإذعان لآيات الله، مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة) (¬1). قال السعدي: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم أي: اشتدت وغلظت، فلم تؤثر فيها الموعظة، مِّن بَعْدِ ذَلِكَ أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم، لأن ما شاهدتم، مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها كَالْحِجَارَةِ التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار، ذاب بخلاف الأحجار). وقوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار) (¬2). قال الطبري: فيقوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً يعني فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد قسوة) (¬3). قال الرازي: وقوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه .. - منها- أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره، وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه .. وكأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم .. -و- الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها البتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه) (¬4). - وقوله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43]. قال الألوسي: (ومعنى قَسَتْ الخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة) (¬5). قال ابن كثير: (قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي: ما رقت ولا خشعت وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي: من الشرك والمعاصي) (¬6). قال ابن عاشور: (ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأن قلوبهم لا تتأثر فشبهت بالشيء القاسي - والقسوة: الصلابة - وقد وجد الشيطان من طباعهم عوناً على نفث مراده فيهم فحسن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم) (¬7). - وقال تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53]. ¬

(¬1) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 118). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 55). (¬3) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (2/ 234). (¬4) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (3/ 556). (¬5) ((روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)) للألوسي (4/ 143). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير القرشي (3/ 256). (¬7) ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (7/ 229).

قال السعدي: (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي: الغليظة، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير، ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، جعلوه حجة لهم على باطلهم، وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله) (¬1). قال أبوبكر البقاعي (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ عن فهم الآيات، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية، وهم المصارحون بالعداوة، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين، قد انتقشت فيها الشبه، فصارت أبعد شيء عن الزوال) (¬2). - وقال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]. - قال الشوكاني: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] والمعنى: أنه غلظ قلبه، وجفا عن قبول ذكر الله، يقال: قسا القلب إذا صلب، وقلب قاس، أي: صلب لا يرق، ولا يلين) (¬3). - قال السعدي: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أي: لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها، ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير) (¬4). قال الألوسي: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عز وجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة) (¬5). - وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]. قال ابن كثير: (وقوله: الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة) (¬6). قال الطبري: (وقوله: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الخيرات، واشتدت على السكون إلى معاصي الله) (¬7). - قال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران: 159]. قال العز بن عبد السلام: (فَظًّا الفظ: الجافي، والغليظ: القاسي القلب، معناهما واحد، فجمع بينهما تأكيداً) (¬8). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 542). (¬2) ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) لأبي بكر البقاعي (13/ 72). (¬3) ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 526). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 722). (¬5) ((روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)) للألوسي (12/ 246). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 20) (¬7) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) لابن جرير الطبري (23/ 189). (¬8) ((تفسير ابن عبد السلام)) لعز الدين بن عبد السلام (1/ 290).

وقال ابن كثير: (قال تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ الفظ: الغليظ، (و) (6) المراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: غَلِيظَ الْقَلْبِ أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم) (¬1). وقال السعدي: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا أي: سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ أي: قاسيه، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!) (¬2). ذم القسوة والغلظة والفظاظة من السنة النبوية: - عن أبي مسعود: قال أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمين وقال: ((الإيمان هاهنا - مرتين - ألا وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين - حيث يطلع قرنا الشيطان - ربيعة ومضر)) (¬3). قال الخطابي: (إنما ذم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم عليه عن أمور دينهم وتلهيهم عن أمر الآخرة وتكون منها قساوة القلب) (¬4). - وعن عبد الله بن عمرو قال عن صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، (قال: والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظٍ) (¬5). قال الملا علي القاري: (والمعنى ليس بسيئ الخلق أو القول ولا غليظ أي ضخم كريه الخلق أو سيئ الفعل أو غليظ القلب وهو الأظهر لقوله تعالى وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران: 159]. أي شديده وقاسيه فيناسب حينئذ أن يكون الفظ معناه بذاذة اللسان ففيه إيماء إلى طهارة عضويه الكريمين من دنس الطبع ووسخ هوى النفس الذميمين وقد قال الكلبي فظا في القول غليظ القلب في الفعل) (¬6). وقال المناوي: (ليس بفظ) أي شديداً ولا قاسي القلب على المؤمنين (ولا غليظ) أي سيئ) (¬7). - وعن أبي هريرة، أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه قال: ((إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح برأس اليتيم)) (¬8). قال الملا علي القاري في شرحه للحديث: (أي قساوته وشدته وقلة رقته وعدم إلفته ورحمته قال امسح رأس اليتيم لتتذكر الموت فيغتنم الحياة فإن القسوة منشؤها الغفلة وأطعم المسكين لترى آثار نعمة الله عليك حيث أغناك وأحوج إليك سواك فيرق قلبك ويزول قسوته ولعل وجه تخصيصهما بالذكر أن الرحمة على الصغير والكبير موجبة لرحمة الله تعالى على عبده المتخلق ببعض صفاته فينزل عليه الرحمة ويرتفع عنه القسوة وحاصله أنه لا بد من ارتكاب أسباب تحصيل الأخلاق بالمعالجة العلمية أو بالعملية أو بالمعجون المركب منهما) (¬9). - وعن حارثة بن وهبٍ أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ألا أدلكم على أهل الجنة؟ كل ضعيفٍ متضعفٍ لو أقسم على الله لأبره وقال: أهل النار كل جواظٍ عتل مستكبرٍ)) (¬10). فسر بعض العلماء العتل بأنه الفظ الشديد من كل شيء، والغليظ العنيف والجواظ بالفظ الغليظ، والجعظري بالفظ الغليظ (¬11). وقال ابن عثيمين: (فالعتل الشديد الغليظ الذي لا يلين للحق ولا للخلق) (¬12). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 148)، ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (7/ 341). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 154). (¬3) رواه البخاري (3302)، ومسلم (51). (¬4) ((عمدة القاري)) للعيني (15/ 191). (¬5) رواه البخاري (2125). (¬6) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للملا علي القاري (9/ 3679). (¬7) ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 89). (¬8) رواه أحمد (2/ 263) (7566)، والبيهقي (4/ 60) (7345)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 237). قال المنذري، والدمياطي في ((المتجر الرابح)) (259)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 163)، والرباعي في ((فتح الغفار)) (4/ 2133): رجاله رجال الصحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1410). (¬9) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للملا علي القاري (8/ 3130). (¬10) رواه البخاري (6657). (¬11) أخرجه البخاري ومسلم وثم تفسيرات أخرى فلتراجع انظر ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 663)، ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 87). (¬12) ((كتب ورسائل ابن عثيمين)) مجالس شهر رمضان (ص155).

من أقوال السلف والعلماء في القسوة

من أقوال السلف والعلماء في القسوة - قال مالك بن دينار: (أربع من علم الشقاوة قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا) (¬1). - وقال سهل بن عبدالله: (كل عقوبة طهارة إلا عقوبة القلب فإنها قسوة) (¬2). - وسئل ذا النون: (ما أساس قسوة القلب للمريد فقال ببحثه عن علوم رضي نفسه بتعليمها دون استعمالها والوصول إلى حقائقها) (¬3). - وقال عبد الله الداري: (كان أهل العلم بالله والقبول منه يقولون .. وإن الشبع يقسي القلب ويفتر البدن) (¬4). - وقال أبو عبد الله الساجي: (الذكر لغير ما يوصل إلى الله قسوة في القلب) (¬5). - وقال حذيفة المرعشي: (ما ابتلي أحد بمصيبة أعظم عليه من قسوة قلبه) (¬6). - وقال الأوزاعي: (إن معاني معالي المسائل تحدث قسوة في القلوب وغفلة وإعجابا) (¬7). - وقال ابن القيم: (ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، أبعد القلوب من الله القلب القاسي) (¬8). ¬

(¬1) ((الزهد وصفة الزاهدين)) لابن الأعرابي (1/ 47). (¬2) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، لأبي نعيم (10/ 208). (¬3) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، لأبي نعيم (9/ 361). (¬4) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، لأبي نعيم (6/ 288). (¬5) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، لأبي نعيم (9/ 317). (¬6) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، لأبي نعيم (10/ 168). (¬7) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (3/ 324) لعله يقصد بذلك التعمق والتكلف في البحث عن معاني ربما لا تحتملها النصوص وكذلك تصدر أنصاف المتعلمين لمعالي المسائل أي كبار المسائل التي لا يعلمها ولا يتكلم فيها إلا الراسخون في العلم فإن كلا الأمرين يؤدي لقسوة القلب لانشغاله بما لا يفيد والغفلة عما ينبغي الاهتمام به والإعجاب بالنفس لعلمها بهذه المعاني وتكلمها في معالي المسائل وكبارها. (¬8) الفوائد، ابن القيم (1/ 97).

ما يباح من القسوة والغلظة والفظاظة

ما يباح من القسوة والغلظة والفظاظة (اللين ورقة القلب هي الأصل في الكلام والتعامل حتى مع المخالفين كما قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46]. ولكن قد يعدل عنه إلى غيره حسب ما تقتضيه الحكمة ومقامات الأحوال) (¬1). قال أبو حامد الغزالي: (قال سفيان لأصحابه: تدرون ما الرفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها: الشدة في مواضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه؛ وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق) (¬2). وقال الجاحظ: (القساوة مكروهة من كل أحد إلا من الجند وأصحاب السلاح والمتولين للحروب؛ فإن ذلك غير مكروه منهم إذا كان في موضعه) (¬3). وهذه المواطن التي يباح فيها القسوة والغلظة والفظاظة تخضع لقاعدة مراعاة المصالح والمفاسد. قال فضل إلهي: (ولا يظنن أحد أنه إذا وجدت تلك الأحوال أو بعضه شرع في استخدام الشدة والقسوة في الدعوة من غير النظر إلى العواقب والنتائج .. بل يجب مراعاة ما يتوقع حدوثه عند استخدام الشدة والقسوة فإن تأكد لديه أن لجوءه إلى الشدة سيكون سبب حدوث منكر أعظم من المنكر الذي أراد إزالته أو ترك معروف أهم منه فليس له أن يلجأ إليها آنذاك) (¬4) والكلام وإن كان عن الدعوة فإنه عام في جميع الأحوال. والمواطن التي تباح فيها القسوة والغلظة والفظاظة هي كالتالي: 1 - في الجهاد: جاء في قصة الحديبية حينما قال عروة بن مسعود الثقفي للرسول صلى الله عليه وسلم: ((فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر. قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك)) (¬5). الموقف الثاني: ((تناول عروة بن مسعودٍ الثقفي لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمغيرة بن شعبة واقفٌ على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديد – أي لابس سلاح المقاتل من درع ونحوه - قال: فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل والله لا تصل إليك. قال ويحك ما أفظك وأغلظك)) (¬6). 2 - مجادلة الظالم المتعد من أهل الكتاب: قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت: 46]. 3 - مخاطبة المرأة للأجانب للضرورة: ¬

(¬1) انظر: ((أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (55) بتصرف. (¬2) ((إحياء علوم الدين))، لأبي حامد الغزالي (3/ 186). (¬3) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (30). (¬4) ((من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين)) لفضل إلهي (180). (¬5) رواه البخاري (2731). (¬6) رواه أحمد (4/ 323) (18930). من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما. والحديث أصله في البخاري (2731).

قال النووي: (إذا احتاجت المرأة إلى كلام غير المحارم في بيع أو شراء، أو غير ذلك من المواضع التي يجوز لها كلامه فيها، فينبغي أن تفخم عبارتها وتغلظها ولا تلينها مخافة من طمعه فيها، قال الإمام أبو الحسن الواحدي من أصحابنا في كتابه (البسيط): قال أصحابنا: المرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لان ذلك أبعد من الطمع في الريبة، وكذلك إذا خاطبت محرما عليها بالمصاهرة، ألا ترى أن الله تعالى أوصى أمهات المؤمنين وهن محرمات على التأبيد بهذه الوصية، فقال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]. قلت: هذا الذي ذكره الواحدي من تغليظ صوتها كذا قاله أصحابنا. قال الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا: طريقها في تغليظه أن تأخذ ظهر كفها بفيها وتجيب) (¬1). 4 - عند إقامة الحدود: قال تعالى في حق الزناة: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2]. وعن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) (¬2). 5 - عند ظهور العناد والاستهزاء بالدين. 6 - عند بدور مخالفة الشرع لدى من لا يتوقع منه ذلك (¬3). كما في حديث شفاعة أسامة في المرأة المخزومية التي سرقت: ((فكلم فيها أسامة بن زيدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أتشفع في حد من حدود الله. فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله)) (¬4). ¬

(¬1) ((الأذكار)) للنووي (1/ 280). (¬2) رواه البخاري (6786). (¬3) من رقم (4 - 6) انظر: ((من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين)) لفضل إلهي (180). (¬4) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688) , واللفظ له.

علامات قسوة القلب والغلظة

علامات قسوة القلب والغلظة 1 - عدم التأثر بالقرآن الكريم: قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23]. 2 - جمود العين وقلة دمعها من خشية الله: قال تعالى مادحاً المؤمنين من أهل الكتاب: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83]. قال ابن القيم: (متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي) (¬1). عدم الاعتبار بالموت والضحك عند القبور: قال الغزالي: (الآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه ولا يتفكر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا) (¬2). 3 - الكبر وعدم قبول الحق: كما في حديث حارثة بن وهبٍ وفيه أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أهل النار كل جواظٍ عتل مستكبرٍ)) (¬3). قال المناوي: (إذ القلب القاسي لا يقبل الحق وإن كثرت دلائله) (¬4). 4 - عدم الاهتمام بما يصيب الآخرين من أذى والسعادة بذلك: قال الجاحظ: (والقساوة وهو التهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى) (¬5). ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/ 743). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 484)، ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 482). (¬3) رواه البخاري (6657). (¬4) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 122). (¬5) ((تهذيب الأخلاق) للجاحظ (30).

آثار قسوة القلب والغلظة والفظاظة

آثار قسوة القلب والغلظة والفظاظة قال ابن القيم: (سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا وجعل للقسوة آثارا وللإخبات آثاراً فمن آثار القسوة: 1 - تحريف الكلم عن مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب. 2 - نسيان ما ذكر به وهو ترك ما أمر به علما وعملا) (¬1). قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [المائدة: 13]. 3 - زوال النعم ونزول المصائب والنقم والهلاك. قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44]. 4 - القلب القاسي أضعف القلوب إيمانا, وأسرعها قبولاً للشبهات والوقوع في الفتنة والضلال وقوله تعالي: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج: 53]. 5 - سبب في الضلال واستحقاق لعنة الله وسخطه وعقابه: قال تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 23]. 6 - الفتور عن الطاعة والوقوع في المحرمات وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 7 - الوحشة والخوف الدائم وعبوس الوجه والكآبة. 8 - التنافر بين القلوب وشيوع الكراهية والبغضاء. قال تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]. و (إن الفظاظة تنفر الأصحاب والجلساء وتفرق الجموع والحشم) (¬2). 9 - غلظة القلب من علامة الشقاوة في الدنيا والآخرة. قال أبو سعيد الخادمي: (من كان فيه الرحمة في هذه الدار فسيرحمه الله تعالى في تلك الدار على قدر رحمته فمن سلب منه ذلك بالقسوة والغلظة، وعدم اللطف بضعيفٍ وشفقةٍ بمبتلى فقد شقي حالًا وكان ذلك علامةً على شقوته مآلًا نعوذ بالله تعالى) (¬3). قسوة القلب والغلظة والفظاظة من صفات الظلمة المتكبرين. 10 - قسوة القلب والغلظة والفظاظة سبب في دخول النار. فعن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((أهل النار كل جواظٍ عتل مستكبرٍ)) (¬4). ¬

(¬1) انظر ((شفاء العليل)) لابن قيم الجوزية (1/ 106). (¬2) ((سراج الملوك)) لأبي بكر الطرطوشي (ص50). (¬3) ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية)) لأبي سعيد الخادمي الحنفي (4/ 151). (¬4) رواه البخاري (6657).

أسباب قسوة القلب والغلظة والفظاظة

أسباب قسوة القلب والغلظة والفظاظة 1 - الغفلة عن ذكر الله وتدبر القرآن والتأمل في آياته الكونية: قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 142]. قال أبو السعود في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] أُريدَ به توبيخَ الإنسانِ على قسوةِ قلبهِ وعدم تخشعِهِ عندَ تلاوتِهِ وقلةِ تدبرِهِ فيه. وقال تعالى في الإعراض عن تدبر الآيات الكونية: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. 2 - كثرة المعاصي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14])) (¬1). قال المحاسبي: (اعلم أن الذنوب تورث الغفلة والغفلة تورث القسوة والقسوة تورث البعد من الله والبعد من الله يورث النار، وإنما يتفكر في هذا الأحياء، وأما الأموات فقد أماتوا أنفسهم بحب الدنيا) (¬2). قال الألباني: (وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي) (¬3). قال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها (¬4) 3 - التفريط في الفرائض وانتهاك المحرمات: قال الله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة: 13]. وبين ذلك بقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155]. 4 - الانشغال بالدنيا والانهماك في طلبها والمنافسة عليها: ¬

(¬1) رواه الترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، وأحمد (2/ 297) (7939)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 110) (10251)، وابن حبان (7/ 27) (2787)، والحاكم (1/ 45)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 440) (7203). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال ابن جرير في ((تفسيره)) والحاكم: صحيح، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4192): إسناده صالح، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 449) كما قال في المقدمة، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2070)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (¬2) ((رسالة المسترشدين)) للمحاسبي (ص155)، نقلا عن الموسوعة الكويتية (38/ 211). (¬3) ((جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة))، لمحمد ناصر الدين الألباني (1/ 163). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية))، لابن أبي العز الحنفي (1/ 171).

لحديث أبي مسعود: عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ((وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين - حيث يطلع قرنا الشيطان - ربيعة ومضر)) (¬1) قال الخطابي: (إنما ذمهم لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمر دينهم وذلك يفضي إلى قسوة القلب) (¬2). قال ابن القيم: (متى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها فاعلم أنه قد خسف به) (¬3). وقال في موضع آخر: (شغلوا قلوبهم بالدنيا ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقى من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة .. إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد) (¬4). 5 - طول الأمل والتمني: قال المناوي: (طول الأمل غرور وخداع إذ لا ساعة من ساعات العمر إلا ويمكن فيها انقضاء الأجل فلا معنى لطول الأمل المورث قسوة القلب وتسليط الشيطان وربما جر إلى الطغيان) (¬5). 6 - التوسع المذموم في المباحات: فإن قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة الأكل والنوم والكلام والمخالطة. قال أبو سعيد الخادمي: (وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقسوة القلب، وفي كثرة الطعام - قسوة القلب) (¬6). قال الفضيل: (ثلاث خصال تقسي القلب: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام). قال أبو سليمان الداراني: (إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلبُ) (¬7). 7 - كثرة مخالطة الناس في غير مصلحة: قال العيني: (قوله لما نزل الحجر أي منازل ثمود قوله ويهريقوا أي ويريقوا من الإراقة والهاء زائدة وإنما أمرهم أن لا يشربوا من مائها خوفا أن يورثهم قسوة أو شيئا يضرهم) (¬8). قال المناوي: (مخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات .. إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به) (¬9). 8 - عدم الرحمة بالخلق والإحسان إليهم: عنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ)) (¬10). قال المناوي: (لأن الرحمة تتخطى إلى الإحسان إلى الغير وكل من رحمته رق قلبك له فأحسنت إليه ومن لم يعط حظه من الرحمة غلظ قلبه وصار فظا لا يرق لأحد ولا لنفسه فالشديد يشد على نفسه ويعسر ويضيق فهو من نفسه في تعب والخلق منه في نصب مكدوح الروح مظلم الصدر عابس الوجه منكر الطلعة ذاهبا بنفسه تيها وعظمة سمين الكلام عظيم النفاق قليل الذكر لله وللدار الآخرة فهو أهل لأن يسخط عليه ويغاضبه ليعاقبه) (¬11). ¬

(¬1) رواه البخاري (5303)، ومسلم (51). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 607) (¬3) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/ 743). (¬4) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 98). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 417). (¬6) ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية)) لأبي سعيد الخادمى (4/ 97)، ((إحياء علوم الدين)) لأبي حامد الغزالي. (¬7) ((الجوع)) لابن أبي الدنيا (1/ 188). (¬8) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (15/ 274). (¬9) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 525). (¬10) رواه البخاري (5998). (¬11) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 689).

وفي الحديث ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)) (¬1). قال المناوي: (المراد نفي الإيمان الكامل وذلك لأنه يدل على قسوة قلبه وكثرة شحه وسقوط مروءته وعظيم لؤمه وخبث طويته) (¬2). 9 - الكسل والفتور: وقد استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من الكسل كما في حديث زيد بن أرقم قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)) (¬3). قال المناوي: (الكسل .. والفتور عن القيام بالطاعات الفرضية والنفلية الذي من ثمراته قسوة القلب) (¬4). 10 - التعصب للرأي وكثرة الجدال: قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]. قال الشافعي: (المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغائن) (¬5). قال أبو سعيد الخادمي: (أسبابها أي الفظاظة .. كثرة المجادلة والتعصب، ولزوم الظواهر، والعمل بالعرف دون الشرع) (¬6). 11 – الابتداع في الدين: قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5]. وقال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112]. قال السعدي: (أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه، من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة) (¬7). 12 - ظلم الضعفاء وأكل المال الحرام وعدم التورع عن الشبهات. 13 - كبر النفس واحتقار الآخرين: عن حارثة بن وهب أنه سمع النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول: ((وأهل النار: كل جواظ عتل مستكبر) (¬8). ¬

(¬1) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/ 170)، والطبراني (1/ 259) (751). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن، وقال السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7771): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5505). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 520). (¬3) رواه مسلم (2722)، والبخاري (2823) من طريق أنس بن مالك. (¬4) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 278). (¬5) ((الاعتقاد)) للبيهقي (1/ 239). (¬6) ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية)) لأبي سعيد الخادمى الحنفي (4/ 152). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/ 390). (¬8) رواه البخاري (6657)، ومسلم (2853).

الوسائل المعينة للتخلص من قسوة القلب والغلظة والفظاظة:

الوسائل المعينة للتخلص من قسوة القلب والغلظة والفظاظة: قال ابن القيم: (القلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر ويعري كما يعري الجسم وزينته التقوى ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة) (¬1). ومن هذه الوسائل: 1 - الدعاء: قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]. قال ابن القيم: (قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه (¬2). وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به هو العليم الحكيم وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء وملاك ذلك الصبر) (¬3). حيث كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم التعوذ من جمود العين وعدم خشوع القلب كما في حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وفيه كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ (( ... ومن قلب لا يخشع)) (¬4). 2 - قراءة القرآن وتدبر آياته: قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]. قال السعدي: (الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع،، .. فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير) (¬5) وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. هذه دعوة من الله سبحانه وتعالى لعباده بتدبر القرآن (وإن كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، ولا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق) (¬6). 3 - الإكثار من ذكر الله: قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]. ¬

(¬1) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 98). (¬2) ذكره ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 229). (¬3) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 97). (¬4) جزء من حديث رواه مسلم (2722). (¬5) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 314). (¬6) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 853).

قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي. (قال: أدنه من الذكر) (¬1). 4 - الإكثار من الاستغفار والتوبة: قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]. عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: ((أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك)) (¬2). قال ابن رجب الحنبلي: (والمعنى: ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر. والظاهر أنَّ مرادهُ الاستغفارُ المقرون بعدم الإصرار) (¬3). قال العظيم آبادي: (إن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه وينشرح لذلك الصدر ويقذف النور فيه فإذا لم يكن كذلك كان قاسيا فيجب أن يستعاذ منه قال تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (¬4). 5 - تذكر الموت وزيارة القبور: فعن أنس مرفوعاً ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجرا)) (¬5). عن سعيد بن جبير قال: (لو فارق ذكر الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي) (¬6). كان سفيان الثوري: (لا يَنَامُ إِلَّا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَزِعًا مَرْعُوبًا يُنَادِي: النَّارُ شَغَلَنِي ذِكْرُ النَّارِ عَنِ النَّوْمِ وَالشَّهَوَات) (¬7). قال المناوي: (من أعظم أدوية قسوة القلوب زيارة القبور وتأمل حال المقبور وما بعده من البعث والنشور الباعث على ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات وكذا مشاهدة المحتضرين وتغسيل الموتى والصلاة على الجنائز فإن في ذلك موعظة بليغة) (¬8). 6 - مصاحبة الصالحين ومجالستهم وقراءة سير السلف الصالح: قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 25]. وقال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]. ¬

(¬1) ((اعتلال القلوب)) للخرائطي (ص34). (¬2) رواه مسلم (2758). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (3/ 1165). (¬4) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (4/ 285). (¬5) رواه أحمد (3/ 237) (13512)، وأبو يعلى (6/ 373) (3707)، والحاكم (1/ 532) واللفظ له، والبيهقي (4/ 77) (7449). قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 343): طريقه جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 69): فيه يحيى بن عبد الله الجابر وقد ضعفه الجمهور وقال أحمد لا بأس به، وبقية رجاله ثقات، وحسن إسناده الألباني في ((أحكام الجنائز)) (228). (¬6) رواه أحمد في ((الزهد)) (ص 371)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 279). (¬7) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (6/ 70). (¬8) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 696).

ومصاحبة الصالحين كلها خير يذكرون بالله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعلمون الجاهل وسبب في مغفرة الذنوب كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فضلا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) (¬1). قال ابن الجوزي: (ينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق أن يجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه) (¬2). 7 – الإحسان إلى الضعفاء: قال تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77]. وفي الحديث عن أبي هريرة، أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه قال: ((إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح برأس اليتيم)) (¬3). قال مالك بن دينار: (المؤمن كريم في كل حالة، لا يحب أن يؤذي جاره، ولا يفتقر أحد من أقربائه. وهو والله مع ذلك غني القلب لا يملك من الدنيا شيئا، .. إن أتاه منها شيء فرقه، وإن زوي عنه كل شيء فيها لم يطلبه قال: ثم يبكي ويقول: هذا والله الكرم هذا والله الكرم) (¬4). 8 - زيارة المرضى: عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (¬5). عن ثوبان، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة، قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)) (¬6). قال ابن عثيمين: (في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه بالصحة، لأنه إذا رأى هذا المريض، ورأى ما هو فيه من المرض، ثم رجع إلى نفسه، ورأى ما فيها من الصحة والعافية عرف قدر نعمة الله عليه بهذه العافية؛ لأن الشيء إنما يعرف بضده) (¬7). عن (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِي بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلاَ تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاَءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ) (¬8). 9 - الاعتبار بقصص أهل القسوة والغلظة والفظاظة. 10 - تجنب قراءة كتب أهل البدع والفجور. ¬

(¬1) رواه مسلم (2689). (¬2) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (1/ 426) (¬3) رواه أحمد (2/ 263) (7566)، والبيهقي (4/ 60) (7345)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 237). قال المنذري، والدمياطي في ((المتجر الرابح)) (259)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 163)، والرباعي في ((فتح الغفار)) (4/ 2133): رجاله رجال الصحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1410). (¬4) ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (1/ 32) (¬5) رواه البخاري (5373). (¬6) رواه مسلم (2568). (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/ 48). (¬8) ((موطأ مالك)) (5/ 1436).

قصص في القسوة والغلظة والفظاظة

قصص في القسوة والغلظة والفظاظة - كان السلف رحمهم الله يسعون في علاج قلوبهم إذا قست وفي ذلك نماذج كثيرة منها ما رواه عمرو بن ميمون أن أباه ميمون بن مهران قال للحسن البصري: (يا أبا سعيد قد أنست من قلبي غلظة فاستلن لي منه فقرأ الحسن بسم الله الرحمن الرحيم أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 - 207]، قال فسقط الشيخ فرأيته يفحص برجله كما تفحص الشاة المذبوحة فأقام طويلا ثم أفاق فجاءت الجارية فقالت قد أتعبتم الشيخ قوموا تفرقوا فأخذت بيد أبي فخرجت به ثم قلت يا أبتاه هذا الحسن قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا قال فوكزني في صدري وكزة ثم قال يا بني لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لا بقي لها فيك كلوم) (¬1). - (وكان الربيع بن خثيم إذا وجد في قلبه قسوة أتى منزل صديق له قد مات في الليل فنادى يا فلان بن فلان يا فلان بن فلان ثم يقول: ليت شعري ما فعلت وما فعل بك ثم يبكي حتى تسيل دموعه فيعرف ذاك فيه إلى مثلها) (¬2). - وقال مالك: (كان محمد بن المنكدر سيد القراء وكان كثير البكاء عند الحديث وكنت إذا وجدت من نفسي قسوة آتيه فأنظر إليه فأتعظ به) (¬3). - وقال ابن القيم: (روي عن بعض الأكابر: أنه كان له مملوك سيئ الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه) (¬4). - وكان (أحمد بن أبي خالد، أبو العباس. وزير المأمون ذا رأي وفطنة، إلا أنه كانت له أخلاق وفظاظة، فقال له رجل: والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك فقال قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] وأنت فظ غليظ القلب، ولا ينفضون من حولك) (¬5). - وكتب محمد بن عبد كان عن أحمد بن طولون إلى ابنه العباس بن أحمد حين عصى عليه: قد كتبت إليك يا بني كتاباً يصل بوصول هذه الرقعة، وعظتك فيه بالعظات النوافع، واحتججت عليك فيه بالحجج البوالغ، وذكرتك بالدنيا والدين، وخلطت لك الغلظة باللين: أردت بالغلظة تسكين نفارك، وباللين أن أثني إلي قيادك، فلا تحسب الغلظة يا بني دعتني إليها فظاظة، ولا اللين حملتني عليه ضراعة، وكن على أوثق الثقة وأصح المعرفة بأن قلبي لك سليم وأنك علي كريم.) (¬6). - واستخدم السلف القسوة في جهاد الكفار، قال المغيرة بن زرارة الأسدي ليزدجرد قبل معركة القادسية (اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك فقال أتستقبلني بمثل هذا- الكلام الشديد- فقال ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به فقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم لا شيء لكم عندي) (¬7). ¬

(¬1) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (4/ 83). (¬2) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (7/ 19). (¬3) ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) لابن عبد البر (12/ 222). (¬4) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 353). (¬5) ((المنتظم)) لابن الجوزي (10/ 243). (¬6) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (4/ 120) (¬7) ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (2/ 392)

القسوة والغلظة والفظاظة في واحة الشعر ..

القسوة والغلظة والفظاظة في واحة الشعر .. قال أمية بن أبي الصلت، وهو يعتب على ابنه في عقوقه له: فلمّا بلغتَ السِّنَّ والغايةَ التي ... إليها مَدى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ جعلتَ جزائي غِلْظةً وفظاظةً ... كأنّك أنت المُنْعِمُ المُتَفضِّلُ وقال علي بن الجهم في التعامل مع الأبناء: يا أمنا أفديك من أم أشكو إليك فظاظة الجهم ... أشكو إليك فظاظة الجهم قد سرح الصبيان كلهم ... وبقيت محصوراً بلا جرم (¬1) وقال الشاعر في عدم الشكر على الإحسان والإنعام: ومن لم يشكر النعماء فظ ... غليظ الطبع لم ينفعه وعظ لأن الشكر للأنعام حفظ ... ولم يفت الفتى بالعجز حظ (¬2) وقال العباس بن الأحنف في التهكم والسخرية بالآخرين: وصالكم هجر، وحبكم قلى ... وعطفكم صد، وسلمكم حرب وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكل ذلول من مراكبكم صعب (¬3) وقيل في الفخر والاعتداد بالقبيلة: يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد ... لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ وقال الفرزدق: أَمِسْكِين، أَبْكى الله عَيْنَكَ، إِنَّما ... جَرَى في ضَلاَلٍ دَمْعُها فَتحدَّرَا بَكَيْتَ امْرَأً فَظّاً غَليظاً مُبَغَّضاً ... ككِسْرَى، عَلَى عِدَّائِهِ، أوْ كقَيْصَرَا (¬4) وقيل في ذم الغلظة من الصديق: تنكرت حال الصديق فبعده ... عني ومضحره لدي سواء وبدت علي من الأعادي رقة ... ومن الصديق فظاظة وجفاء وقال ابن الرومي: ويحي إلى كم تصيدُ رقته ... قلبي وقلبٍ كم أشتكي غلظه (¬5) وإذا رأيت من الكريم فظاظةً ... فإليه من أخلاقه أتظلم (¬6) وقال آخر: ذنوبك جمة تترى عظاماً ... ودمعك جامد والقلب قاسي وقال الشاعر: فتى لم يكن جَهْما ولا ذا فَظاظةٍ ... ولا بالقَطوبِ الباخل المتكبّرِ ولكن سَموحاً بالوداد وبالنَّدى ... ومبتسماً في الحادث المتنمِّرِ (¬7) وقال آخر: وليس بفظ في الأداني والأولى ... يؤمون جدواه ولكنه سهل لعلّ التفاتاً منكَ نحوي مُقدّرٌ ... يملْ بكَ من بعد القساوةِ للرُّحمِ وفظ على أعدائه يحذرونه ... فسطوته حتف ونائله جزل وقال آخر: ما كان ضرك لو مننت وربما ... منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق (¬8) وقال سعد بن ناشب: وما بي على من لان لي من فظاظةٍ ... ولكنّني فظٌ أبيٌّ على القسر (¬9) ... ¬

(¬1) ((طبقات الشعراء)) لابن المعتز (ص319). (¬2) ((حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر)) لعبد الرزاق البيطار (ص1291). (¬3) ((يتيمة الدهر)) للثعالبي (ص241). (¬4) ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (2/ 309). (¬5) ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (6/ 193). (¬6) ((الرسائل)) للجاحظ (2/ 41). (¬7) ((خريدة القصر وجريدة العصر)) للعماد الأصبهاني (ص342). (¬8) ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (1/ 314) (¬9) ((الأمالي)) لأبي علي القالي (2/ 174).

الكبر

معنى الكبر لغة واصطلاحاً معنى الكبر لغة: مادة (كبر) تدل على خِلاف الصِّغَر. يقال: هو كَبيرٌ، وكُبَار، وكُبَّار. قال الله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح: 22]. والكِبْرُ: مُعظَم الأمر، قوله عزّ وعلاَ: والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ [النور: 11]، أي مُعظَم أمرِه (¬1). قال الفيومي: (الكبر بالكسر اسم من التكبر وقال ابن القوطية الكبر اسم من كبر الأمر والذنب كبرا إذا عظم والكبر العظمة والكبرياء مثله وكابرته مكابرة غالبته مغالبة وعاندته) (¬2). معنى الكبر اصطلاحاً: معنى الكبر جاء تعريفه في الحديث فقال صلى الله عليه وسلم: الكبر بطر الحق وغمط الناس (¬3). وقال صاحب تاج العروس: الكِبْرُ: حالةٌ يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره (¬4). وقيل الكبر هو: (استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له) (¬5). ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 153). (¬2) ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) (2/ 523). (¬3) رواه مسلم (91). (¬4) ((تاج العروس من جواهر القاموس)) (14/ 8). (¬5) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 32).

الفرق بين الكبر ومرادفاته

الفرق بين الكبر ومرادفاته الفرق بين الكبر والزهو: الفرق بين الكبر والزهو: أن الكبر إظهار عظم الشأن وهو فينا خاصة رفع النفس فوق الاستحقاق، والزهو على ما يقتضيه الاستعمال رفع شيء إياها من مال أو جاه وما أشبه ذلك ألا ترى أنه يقال زها الرجل وهو مزهو كأن شيئا زهاه أي رفع قدره عنده وهو من قولك زهت الريح الشيء إذا رفعته، والزهو التزيد في الكلام (¬1). الفرق بين الكبر والكبرياء: أن الكبر ما ذكرناه والكبرياء هي العز والملك وليست من الكبر في شيء والشاهد قوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:78] " يعني الملك والسلطان والعزة، وأما التكبر فهو إظهار الكبر مثل التشجع إظهار الشجاعة إلا أنه في صفات الله تعالى بمعنى أنه يحق له أن يعتقد أنه الكبير وهو على معنى قولهم تقدس وتعالى، لا على ترفع علينا وتعظيم. وقيل المتكبر في صفاته بمعنى أنه المتكبر عن ظلم عباده (¬2). وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: الكِبْرُ وَالكِبْرِيَاء في اللغة: هو العظمة، يقال منه: كَبُرَ الشيءُ، بضمِّ الباء، أي: عَظُمَ، فهو كبيرٌ وكُبَار، فإذا أفرَطَ قيل: كُبَّار، بالتشديد؛ وعلى هذا يكونُ الكِبْرُ والعظمةُ اسمَيْن لمسمًّى واحد. وقد جاء في الحديث ما يُشْعِر بالفرق بينهما؛ وذلك أنَّ الله تعالى قال: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، والْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَصَمْتُهُ؛ فقد فرَّق بينهما بأنْ عبَّر عن أحدهما بالرداء، وعن الآخر بالإزار، وهما مختلفان، ويَدُلُّ أيضًا على ذلك: قوله تعالى: فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ إذ لو كانا واحدًا، لقال: فمَنْ نازعنيه (¬3). الفرق بين الكبر والتيه: أن الكبر هو إظهار عظم الشأن وهو في صفات الله تعالى مدح لأن شأنه عظيم، وفي صفاتنا ذم لأن شأننا صغير وهو أهل للعظمة ولسنا لها بأهل، والشأن هاهنا معنى صفاته التي هي في أعلى مراتب التعظيم ويستحيل مساواة الأصغر له فيها على وجه من الوجوه، والكبير الشخص والكبير في السن والكبير في الشرف والعلم يمكن مساواة الصغير له، أما في السن فبتضاعف مدة البقاء في الشخص تتضاعف أجزاؤه، وأما بالعلم فباكتساب مثل ذلك العلم. والتيه أصله الحيرة والضلال وإنما سمي المتكبر تائها على وجه التشبيه بالضلال والتحير ولا يوصف الله به، والتيه من الأرض ما يتحير فيه وفي القرآن (يتيهون في الأرض) (1) أي يتحيرون (¬4). الفرق بين الجبروت والجبرية والكبر: الفرق بين الجبرية والجبروت والكبر: أن الجبرية أبلغ من الكبر وكذلك الجبروت ويدل على هذا فخامة لفظها وفخامة اللفظ تدل على فخامة المعنى فيما يجري هذا المجرى، (¬5). الفرق بين العجب والكبر: أن العجب بالشيء شدة السرور به حتى لا يعادله شيء عند صاحبه تقول هو معجب بفلانة إذا كان شديد السرور بها، وهو معجب بنفسه إذا كان مسرورا بخصالها. ولهذا يقال أعجبه كما يقال سر به فليس العجب من الكبر في شيء، وقال علي بن عيسى: العجب عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها وليست هي لها. (¬6) الفرق بين الاستنكاف والاستكبار والتكبر: والاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك وإنما يستعمل الاستكبار حيث لا استخفاف بخلاف التكبر فإنه قد يكون باستخفاف والتكبر هو أن يرى المرء نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكثر ما عنده (¬7) ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) (1/ 445). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 445). (¬3) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (1/ 286). (¬4) ((الفروق اللغوية)) (1/ 444). (¬5) ((الفروق اللغوية)) (1/ 154 - 155). (¬6) ((الفروق اللغوية)) (1/ 352). (¬7) كتاب ((الكليات)) لأبى البقاء الكفوي (1/ 18).

أسماء الكبر والمتكبر

أسماء الكبر والمتكبر أسماء المتكبر: الطاغية, الأشوز, الشمخر, السامد, السمغد, النفاخ, أصيد, أسوس, أصور, أزور, العنجهي, الجفاخ, المطاخ, البلخ, الأزوش, النابخة, المصبوع, الغطرس, الغطريس. أسماء التكبر: التغطرس, التغطرق, التصلف, الزهو, الجمخ, الشمخرة, الغترفة, الغطرفة, الفجس, التفجس, التغترف, التغطرف, البهلكة, التطاول, التبختر هو الشمخ بالأنف, الذيخ, الطرمحانية, الخيلاء, الخيل, الخيلة, المخيلة, الأخيل, العبية, الغطرسة, الصبع, المصبغة. (¬1) ترتيب أوصاف الكِبْرِ: يقال: (رَجُل مُعْجَب, ثُمَّ تائِهٌ, ثُمَّ مَزْهُوٌّ ومَنْخُوٌّ مِنَ الزَّهْوِ والنَّخْوَةِ, ثُمَّ بِاذِخ مِن البَذَخِ, ثُمَّ أَصْيَدُ إذا كَانَ لا يلتَفِتُ يَمْنَةً وَيسْرَةً مِنْ كِبْرِهِ, ثُمَّ مُتَغَطْرِف إذا تَشبَّهَ بالغَطَارِفَةِ كِبْراً, ثُمَّ متَغَطْرِس إِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ). (¬2) ¬

(¬1) ((معجم أسماء الأشياء المسمى اللطائف في اللغة)) (1/ 121). (¬2) ((فقه اللغة)) (ص110).

ذم الكبر والنهي عنه في القرآن والسنة

ذم الكبر والنهي عنه في القرآن والسنة ذم الكِبْرِ والنهي عنه من القرآن الكريم: ورد ذكر الكبر في القرآن في أكثر من موضع كلها تذمه وتذم المتخلقين به, وتمدح تاركيه, وتبين أنه سبب في هلاك الأمم ودمار القرى: - فالكبر يعتبر من أول الذنوب التي عصي الله تبارك وتعالى بها, قال الله تعالى مبيناً سبب امتناع إبليس عن السجود لآدم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: (وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق) (¬1). وقال عوف بن عبد الله للفضل بن المهلب: إني أريد أن أعظك بشيء، إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس، ثم قرأ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة: 34] (¬2). - والكبر سبب رئيس في هلاك الأمم السابقة: فهؤلاء قوم نوح ما منعهم عن قبول الدعوة والاستماع لنداء الفطرة والإيمان إلا الكبر فقد قال الله تعالى على لسان نبيهم نوح عليه السلام: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح: 7]. وهؤلاء قوم عاد ظنوا بسبب تكبرهم أنهم أقوى من في الوجود فقد قال الله عنهم: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 15 – 17]. ويأتي ثمود من بعدهم فينهجون نفس النهج في الاستكبار والتعالي, فيردون دعوة الله عز وجل ويكذبون نبيه عليه السلام: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 75 - 76]. وقال الله تعالى عن قوم نبي الله شعيب عليه السلام: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ [الأعراف: 88]. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) للطبري (1/ 510). (¬2) ((مفاتيح الغيب)) (3/ 645).

- أما فرعون فقد ملأ الدنيا كبراً وعجباً وخيلاء حتى وصل به الحال أن ادعى الربوبية والألوهية: قال الله تبارك وتعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص: 38 – 40]. - والكبر سبب في الإعراض عن آيات الله والصد عنها, قال الله تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية: 7 - 8] - وهو سبب للصرف عن دين الله: قال الله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146]. - وهو سبب لدخول النار والخلود فيها قال الله تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20]. ذم الكِبْرِ والنهي عنه من السنة النبوية: - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّة مِنْ كِبْرٍ! فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً، ونَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: (قد اختلف في تأويله. فذكر الخطابي فيه وجهين: أحدهما: أن المراد التكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه. والثاني: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [الأعراف: 43]. وهذان التأويلان فيهما بعد فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس، واحتقارهم، ودفع الحق، فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب. بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه. وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة إما أولا، وإما ثانيا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها. وقيل: لا يدخل مع المتقين أول وهلة.) (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (91). (¬2) ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 91).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فسر النبي الكبر بضده فقال: الكبر بطر الحق وغمص الناس فبطر الحق: رده وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل وغمص الناس احتقارهم وازدراؤهم ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها) (¬1). - وعن حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف؛ لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) (¬2). - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((احْتَجّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَت النَّارُ: فيَّ الْجَبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ. وقالتِ الجَنَّةُ: فيَّ ضُعفاءُ الناس ومساكينُهُم، فقضى اللهُ بَينهُما: إنكِ الجنّةُ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِك مَنْ أشَاءُ، وَإنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا)) (¬3). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَة، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) (¬4). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛ لاستغنائه عنه وكذلك داعية الكبر في الفقير فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم) (¬5). - وعن سَلَمةَ بنِ الأكْوَعِ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ في الجبَّارِين، فَيُصيبَهُ مَا أصَابَهُمْ)) (¬6). قال المظهر وغيره الباء للتعدية، أي يعلي نفسه ويرفعها ويبعدها عن الناس في المرتبة ويعتقدها عظيمة القدر, أو للمصاحبة أي يرافق نفسه في ذهابها إلى الكبر ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة .. (¬7). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (2/ 318). (¬2) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853). (¬3) رواه مسلم (2846). (¬4) رواه مسلم (107). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 14). (¬6) رواه الترمذي (2000)، والروياني في ((مسنده)) (2/ 258) , وحسنه الترمذي، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1744). (¬7) ((تحفة الأحوذي)) (6/ 117).

أقوال السلف والعلماء في الكبر والمتكبرين

أقوال السلف والعلماء في الكبر والمتكبرين - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّ العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمتهُ وقال له انتعش نعشك الله فهو في نفسه حقير وفي أعين الناس كبير وإذا تكبَّر وعتا وَهَصَهُ الله إلى الأرض وقال له اخسأ خسأكَ اللهُ فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير) (¬1). - وعوتب علي رضي الله عنه في لبوسه فقال: إن لبوسي هذا أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم (¬2). - وقال الحسن: إن أقواما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ما لم تفاقروا (¬3). - وقال وهب لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام على كل متكبر (¬4). - وقال يحيى بن جعدة: من وضع وجهه لله عز وجل ساجدا فقد برئ من الكبر (¬5). - وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: ما ترك أحد شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا (¬6). - وقال الأحنف بن قيس: عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين (¬7). - وقال محمد بن الحسين بن علي: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر (¬8). - وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال: الكبر (¬9). - وقال النعمان بن بشير على المنبر إن للشيطان مصالي وفخوخا وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله (¬10). - وقال سَعد بن أبي وَقّاص لابنه: يا بُني: إيّاك والكِبرَ، ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه: عِلْمُك بالذي منه كنتَ، والذي إليه تَصِير، وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها خُلِقتَ، والرحِم التي منها قُذِفْت، والغِذَاء الذي به غُذِيت (¬11). - ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ: الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته)) (¬12) فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ , وَالْكِبْرِيَاءُ أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ; وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ, كَمَا جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ (¬13). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (7/ 96) (34461)، وأبو داود في ((الزهد)) (ص85)، والبيهقي في ((الشعب)) (10/ 454). (¬2) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 542) (908). (¬3) ((التواضع والخمول)) (ص: 90). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 338). (¬5) ((التواضع والخمول)) (ص: 262). (¬6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 120). (¬7) ((إحياء علوم الدين)) 3/ 338). (¬8) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 339). (¬9) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 339). (¬10) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 339). (¬11) العقد الفريد (2/ 197). (¬12) رواه مسلم (2620) بلفظ مقارب، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وأحمد (2/ 376) (8881) باختلاف يسير أيضا، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬13) ((العبودية)) لابن تيمية (ص99).

حكم الكبر

حكم الكبر وحسب هذه الأنواع المذكورة آنفاً يكون الحكم على هذه الصفة الرديئة والسجية المذمومة, إذ أن هناك من الكبر ما يكون كفراً أكبر مخرجاً من الملة يستحق صاحبه الخلود في النار, وهناك ما يكون صاحبه مرتكباً لكبيرة من الكبائر يستحق العقوبة ومع ذلك هو تحت مشيئة الله تبارك وتعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له, وتفصيل ذلك يتحدث عنه أبو العباس القرطبي رحمه الله فيقول: (لما تقرَّر أنَّ الكِبْرَ يستدعي متكبَّرًا عليه، فالمتكبَّرُ عليه: إنْ كان هو اللهَ تعالى، أو رُسُلَهُ، أو الحَقَّ الذي جاءتْ به رسلُهُ: فذلك الكِبْرُ كُفْر. وإن كان غَيْرَ ذلك: فذلك الكِبْرُ معصيةٌ وكبيرة، يُخَافُ على المتلبِّس بها المُصِرِّ عليها أنْ تُفْضِيَ به إلى الكُفْر، فلا يدخُلُ الجنَّة أبدًا. فإن سَلِمَ مِنْ ذلك، ونفَذَ عليه الوعيد، عوقبَ بالإذلالِ والصَّغَارْ، أو بما شاء اللهُ مِنْ عذابِ النارْ، حتَّى لا يبقى في قلبه مِنْ ذلك الكِبْرِ مثقالُ ذَرَّه، وخَلُصَ من خَبَثِ كِبْره حتى يصيرَ كالذَّرَّهِ؛ فحينئذ يتداركُهُ الله تعالى برحمتِهْ، ويخلِّصُهُ بإيمانِهِ وبركتِهْ. وقد نصَّ على هذا المعنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المحبوسين على الصِّرَاط لما قال: حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، والله تعالى أعلم) (¬1). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (فالذي في قلبه كبر، إما أن يكون كبرا عن الحق وكراهة له، فهذا كافر مخلد في النار ولا يدخل الجنة، لقول الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [محمد:9]، ولا يحبط العمل إلا بالكفر لقوله تعالى: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] وأما إذا كان كبرا على الخلق وتعاظما على الخلق، لكنه لم يستكبر عن عبادة الله فهذا لا يدخل الجنة دخولا كاملا مطلقا لم يسبق بعذاب بل لابد من عذاب على ما حصل من كبره وعلوائه على الخلق ثم إذا طهر دخل الجنة) (¬2). ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (2440). (¬2) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 542).

أقسام الكبر

أقسام الكبر ينقسم الكبر إلى ثلاثة أقسام بعضها أشد من بعض وإن كانت كلها مذمومة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والناس جميعاً, وقد ذكر هذه الأقسام ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر فقال: (الْكِبْرُ: - إمَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ. كَتَكَبُّرِ فِرْعَوْنَ وَنُمْرُودَ حَيْثُ اسْتَنْكَفَا أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ لَهُ تَعَالَى وَادَّعَيَا الرُّبُوبِيَّةَ، قَالَ تَعَالَى: إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] أَيْ صَاغِرِينَ. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ الْآيَةَ [النساء: 172]. - وَإِمَّا عَلَى رَسُولِهِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ تَكَبُّرًا جَهْلًا وَعِنَادًا كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ. - وَإِمَّا عَلَى الْعِبَادِ بِأَنْ يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ وَيَحْتَقِرَ غَيْرَهُ وَيَزْدَرِيَهُ فَيَأْبَى عَلَى الِانْقِيَادِ لَهُ أَوْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ وَيَأْنَفَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ إلَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ إثْمُهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ إنَّمَا يَلِيقَانِ بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ دُونَ الْعَبْدِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ، فَتَكَبُّرُهُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلَّهِ فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ، فَهُوَ كَعَبْدٍ أَخَذَ تَاجَ مَلِكٍ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ فَمَا أَعْظَمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَقْتِ وَأَقْرَبَ اسْتِعْجَالَهُ لِلْخِزْيِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي أَحَادِيثَ: إنَّ مَنْ نَازَعَهُ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَهْلَكَهُ، أَيْ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَعَالَى) (¬1). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) فقال: (1/ 118).

من آثار وأضرار الكبر

من آثار وأضرار الكبر (وللتكبر في الأرض بغير الحق آثار ضارة، منها: 1. الحرمان من النظر والاعتبار: أي أن الأثر الأول الذي يتركه التكبر على العاملين: إنما هو الحرمان من النظر والاعتبار ... ومن حرم النظر والاعتبار، كانت عاقبته البوار والخسران المبين، لأنه سيبقى مقيماً على عيوبه وأخطائه، غارقاً في أوحاله، حتى تنتهي الحياة. 2. القلق والاضطراب النفسي: ذلك أن المتكبر يحب - إشباعاً لرغبة الترفع والتعالي أن يحني الناس رؤوسهم له، وأن يكونوا دوماً في ركابه، ولأن أعزة الناس وكرامهم يأبون ذلك، بل ليسوا مستعدين له أصلاً، فإنه يصاب بخيبة أمل، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي، هذا فضلاً عن أن اشتغال هذا المتكبر بنفسه يجعله في إعراض تام عن معرفة الله وذكره، وذلك له عواقب أدناها في هذه الدنيا القلق والاضطراب النفسي. 3. الملازمة للعيوب والنقائص: وذلك أن المتكبر لظنه أنه بلغ الكمال في كل شيء لا يفتش في نفسه، حتى يعرف أبعادها ومعالمها، فيصلح ما هو في حاجة منها إلى إصلاح، ولا يقبل كذلك نصحاً أو توجيهاً أو إرشاداً من الآخرين، ومثل هذا يبقى غارقاً في عيوبه ونقائصه، ملازماً لها إلى أن تنقضي الحياة، ويدخل النار مع الداخلين. 4. الحرمان من الجنة واستحقاق العذاب في النّار: وذلك أمر بدهي، فإن من يعتدي على مقام الألوهية، ويظل مقيماً على عيوبه ورذائله، ستنتهي به الحياة حتماً وما حصل خيراً يستحق به ثواباً أو مكافأة فيحرم الجنة مؤبداً أو مؤقتاً. 5. قلة كسب الأنصار بل والفرقة والتمزق, والشعور بالعزلة: ذلك أن القلوب جبلت على حب من ألان لها الجانب، وخفض لها الجناح، ونظر إليها من دون لا من علٍ. 6. الحرمان من العون والتأييد الإلهي: ذلك أن الحق سبحانه مضت سنته أنه لا يعطى عونه وتأييده، إلا لمن هضموا نفوسهم حتى استخرجوا حظ الشيطان من نفوسهم بل حظ نفوسهم من نفوسهم، والمتكبرون قوم كبرت نفوسهم، ومن كانت هذه صفته، فلا حق له في عون أو تأييد إلهي (¬1). 7. سبيل إلى غضب الله والتعرض لسخطه. 8. مؤشر على ما تعانيه النفس من دناءة وانحطاط. 9. سبيل إلى البعد عن الله وعن طاعته, كما أنه سبيل إلى البعد عن الناس. 10. فيه هلاك للنفس وحرمانها, كما أنه يذهب ببركة العمر ويحرم من لذة الطاعة وبركة التواضع. ¬

(¬1) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح –بتصرف.

درجات الكبر

درجات الكبر يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: (واعلم أن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاثة درجات: - الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلا أنه قد قطع أغصانها. - الثانية: أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، والإنكار على من يقصر في حقه، فترى العالم يصعر خده للناس، كأنه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه كأنه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، حين قال: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] - الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه، كالدعاوى والمفاخر، وتزكية النفس، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التكبر بالنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا. قال ابن عباس: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى. قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. وكذلك التكبر بالمال، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجار ونحوهم. والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء، ويدعوهن إلى التنقص والغيبة وذكر العيوب. وأما التكبر بالأتباع والأنصار، فيجري بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود، وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين. (¬1) ¬

(¬1) ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص292 - 293).

مظاهر الكبر

مظاهر الكبر هناك مظاهر وسمات تظهر على المتكبر في صفاته وحركاته وسكناته تدل على ما وصل إليه من الكبر والعجب بالنفس والازدراء للآخرين ومن ذلك: - أن يحب قيام الناس له أو بين يديه: وقد قال علي رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام) وقال أنس رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك) (¬1). - أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مشي خلفه) (¬2). وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة. ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال ما يبقي هذا من قلب العبد. - أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا فجاء سفيان فقيل له يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه - أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلا منكم شرا مني. وقال أنس ((كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث تشاء)) (¬3). - أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو الكبر (دخل رجل وعليه جدري قد تقشر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه) (¬4). (وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوما ولا أبرص ولا مبتلى إلا أقعدهم على مائدته). - أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته والتواضع خلافه روي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه فقال ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال أفأنبه الغلام فقال هي أول نومة نامها فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتا فقال الضيف قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين فقال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء وخير الناس من كان عند الله متواضعا. - أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وقال علي رضي الله عنه: (لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله) وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلا له من خشب إلى الحمام. - أن يميز في إجابة الدعوة بين الغني والفقير, فتراه يسارع في إجابة دعوة الغني إذا دعاه ويستنكف من إجابة دعوة الفقير (¬5). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2754)، وأحمد (3/ 132) (12367). قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((تخريج المشكاة)) (4698). (¬2) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 132) (394)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (72/ 276). (¬3) رواه البخاري (6072). (¬4) ((بريقة محمودية)) (2/ 223). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 354) بتصرف.

أسباب الكبر

أسباب الكبر الكبر صفة سيئة لها أسباب عدة تدفع الشخص إلى الاتصاف بها, ولعل مرجع هذه الأسباب كلها اعتقاد الكمال, أيَّن كان هذا الكمال ومهما كان نوعه قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: (وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن كمالاً أمكن أن يتكبر به, حتى الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمر والفجور لظنه أن ذلك كمال) (¬1). بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له: الكبر الظاهر أسبابه ثلاثة: 1. سبب في المتكبر: وهو العجب فهو يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال. 2. وسبب في المتكبر عليه: وهو الحقد والحسد: فأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدا ورسخ في قلبه بغضه فهو لذلك لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقا للتواضع فكم من رذل لا تطاوعه نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بغضه له ويحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه وإن علم أنه لا يستحق ذلك وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه ولا يسأله عما هو جاهل به. وأما الحسد فإنه أيضاً يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد, ويدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه حسدا وبغيا عليه فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه يستحق التواضع بفضل علمه ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه. 3. وسبب فيما يتعلق بغيرهما: وهو الرياء, فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه وليس بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد ولكن يمتنع من قبول الحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة خيفة من أن يقول الناس إنه أفضل منه فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه. وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضاً عند الخلوة به مهما لم يكن معهما ثالث وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذباً وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطنا بأنه لا يستحق ذلك ولا كبر في باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار وهو إن سمي متكبرا فلأجل التشبه بأفعال الكبر فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة العجب والحقد والحسد والرياء (¬2) ¬

(¬1) ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص293). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) بتصرف (3/ 353).

بماذا يكون التكبر

بماذا يكون التكبر قال الإمام الغزالي رحمه الله: (اعلم أنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال , وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار فهذه سبعة أسباب: الأول: العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((آفة العلم الخيلاء)) (¬1). فلا يلبث العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ... هذا فيما يتعلق بالدنيا, أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ... فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا؟ فاعلم أن لذلك سببين: 1. أحدهما: أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما حقيقيا وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن, قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر: 28]. 2. السبب الثاني: أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيئ الأخلاق. الثاني: العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا, أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ ... وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا. الثالث: التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا وعلما وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم. الرابع: التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس الخامس: الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه. السادس: الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف السابع: التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين ... فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده, وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه. (¬2) ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 347). وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 703):المعروف ما رواه مطين في ((مسنده)) من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف ((آفة العلم النسيان وآفة الجمال الخيلاء)). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 347 - 353) بتصرف.

أشر الكبر

أشر الكبر يحدثنا الإمام الذهبي عن أشر أنواعه فيقول: (وأشر الكبر الذي فيه من يتكبر على العباد بعلمه ويتعاظم في نفسه بفضيلته فإن هذا لم ينفعه علمه فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه وخشع قلبه واستكانت نفسه وكان على نفسه بالمرصاد فلا يفتر عنها بل يحاسبها كل وقت ويتفقدها فإن غفل عنها جمحت عن الطريق المستقيم وأهلكته ومن طلب العلم للفخر والرياسة وبطر على المسلمين وتحامق عليهم وازدراهم فهذا من أكبر الكبر ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (¬1). ¬

(¬1) ((الكبائر)) للذهبي (ص78).

الوسائل المعينة على ترك الكبر

الوسائل المعينة على ترك الكبر هذا وعلاج التكبر - بحيث تطهر منه النفس، ولا يعود إليها مرة أخرى - إنما يكون باتباع الأساليب والوسائل التالية: 1. تذكير النفس بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر، سواء كانت عواقب ذاتية أو متصلة بالعمل الإسلامي، وسواء كانت دنيوية أو أخروية على النحو الذي قدمنا، فلعل هذا التذكير يحرك النفس من داخلها، ويحملها على أن تتوب، وتتدارك أمرها قبل ضياع العمر وفوات الأوان. 2. عيادة المرضى، ومشاهدة المحتضرين وأهل البلاء وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، فلعل ذلك أيضاً يحركه من داخله، ويجعله يرجع إلى ربه بالإخبات، والتواضع. 3. الانسلاخ من صحبة المتكبرين، والارتماء في أحضان المتواضعين المخبتين، فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام شعاعها عليه، فيعود له سناؤه، وضياؤه الفطري كما كان عند ولادته. 4. مجالسة ضعاف الناس وفقرائهم، وذوى العاهات منهم، بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم، كما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام، وكثير من السلف، فإن هذا مما يهذب النفس ويجعلها تقلع عن غيها، وتعود إلى رشدها. 5. التفكر في النفس، وفي الكون، بل وفي كل النعم التي تحيط به من أعلاه إلى أدناه، مَن مصدر ذلك كله؟ ومن ممسكه؟ وبأي شيء استحقه العباد؟ وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة فضلاً عن باقي النعم؟؟؟ فإن ذلك التفكر لو كانت معه جدية، يحرك النفس ويجعلها تشعر بخطر ما هي فيه، إن لم تبادر بالتوبة والرجوع إلى ربها. 6. النظر في سير وأخبار المتكبرين، كيف كانوا؟ وإلى أي شيء صاروا؟ من إبليس والنمرود إلى فرعون، إلى هامان، إلى قارون، إلى أبي جهل، إلى أبي بن خلف، إلى سائر الطغاة والجبارين والمجرمين، في كل العصور والبيئات فإن ذلك مما يخوف النفس ويحملها على التوبة والإقلاع، خشية أن تصير إلى نفس المصير، وكتاب الله - عز وجل - وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتب التراجم والتاريخ خير ما يعين على ذلك. 7. حضور مجالس العلم التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون، لاسيما مجالس التذكير والتزكية، فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين وتعود إليها الحياة من جديد. 8. حمل النفس على ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس ممارسة ذاتية ما دامت مشروعة، كأن يقوم هذا المتكبر بشراء طعامه وشرابه وسائر ما يلزمه بنفسه، ويحرص على حمله والمشي به بين الناس، حتى لو كان له خادم، على نحو ما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه والسلف، فإن هذا يساعد كثيراً في تهذيب النفس وتأديبها، والرجوع بها إلى سيرتها الأولى الفطرية، بعيداً عن أي التواء أو اعوجاج. 9. الاعتذار لمن تعالى وتطاول عليهم بسخرية أو استهزاء، بل ووضع الخد على التراب وإلصاقه به، وتمكينه من القصاص على نحو ما صنع أبو ذر مع بلال لما عاب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - تعييره بسواد أمه. 10. إظهار الآخرين بنعمة الله عليهم، وتحدثهم بها - لاسيما أمام المستكبرين - علهم يثوبون إلى رشدهم وصوابهم، ويتوبون ويرجعون إلى ربهم، قبل أن يأتيهم أمر الله. 11. التذكير دوماً بمعايير التفاضل والتقدم في الإسلام: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. ((كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله - تعالى - من الجعلان)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البزار (2938) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال: لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 89): فيه الحسن بن الحسين العرني وهو ضعيف.

12. المواظبة على الطاعات: فإنها إذا واظب عليها، وكانت متقنة لا يراد بها إلا وجه الله، طهرت النفس من كل الرذائل، بل زكتها (¬1). أقوال الأدباء في ذم الكبر والمتكبرين - الكبر قائد البغض. - التعزز بالتكبر ذل. - الكبر فضل حمقٍ، لم يدر صاحبه أين يضعه. - التكبر على الملوك تعرضٌ للحتوف، وعلى الأنذال من ضعة النفس، وعلى الأكفاء جهلٌ عظيمٌ وسخف. - من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه. - الكبر داءٌ يعدي. - الإفراط في الكبر يوجب البغضة، كما أن الإفراط في التواضع يوجب الذلة. - قال ابن المعتز: لما عرف أهل النقص حالهم عندي ذوي الكمال استعانوا بالكبر، ليعظم صغيراً، ويرفع حقيراً وليس بفاعلٍ. - ووصف بليغٌ متكبراً فقال: كأن كسرى حامل غاشيته. وقارون وكيل نفقته، وبلقيس إحدى داياته، وكأن يوسف لم ينظر إلا بمقلته، ولقمان لم ينطق إلا بحكمته. (¬2). - وكان يقال: من عرف حق أخيه دام له إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غر نفسه. - وقيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسيئ الخلق عيش، ولا لمتكبر صديق. (¬3) - وقال بعضهم: من أثبت لنفسه تواضعاً، فهو المتكبر حقاً، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة، فمتى أثبت لنفسك تواضعاً فأنت من المتكبرين (¬4). ¬

(¬1) ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح –بتصرف. (¬2) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:444 - 445). (¬3) ((الكامل في اللغة والأدب)) (2/ 107). (¬4) ((الكشكول)) (2/ 84).

ذم الكبر والمتكبرين في واحة الشعر ..

ذم الكبر والمتكبرين في واحة الشعر .. قال منصور الفقيه: تتيه وجسمك من نطفةٍ ... وأنت وعاءٌ لما تعلم (¬1) وقال آخر: جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأخلاق المماليك (¬2) وقال آخر: وَكم ملكٍ قاسي العقاب مُمَنَّعٍ ... قديرٍ على قبض النُّفُوسِ مُطاعِ أَراهُ فَيَعْديِنِي مِنَ الْكِبْرِ ما بِهِ ... فَأُكْرِمُ عَنْهُ شِيمَتِي وَطِباعِي (¬3) وقال آخر: كم جاهل متواضع ... ستر التوضع جهله ومميز في علمه ... هدم التكبر فضله فدع التكبر ما حييت ... ولا تصاحب أهله فالكبر عيب للفتى ... أبدا يقبح فعله وأنشد ثعلب: ولا تأنفا أن تسألا وتسلما ... فما حشي الإنسان شرا من الكبر (¬4) وقال محمود الوراق: التِّيه مَفسدة للدِّين منقصة ... للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ مَنْع العطاء وبَسْط الوجه أحسنُ من ... بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط (¬5) وقال أيضاً: بِشْرُ البخيلِ يكاد يصْلِح بُخلَه ... والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ ونقيصة تبْقى على أيامه ... ومَسبَّة في الأهل والأولاد (¬6) وقال آخر في الكِبر: مع الأرض يا بنَ الأرض في الطَيران ... أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ فوالله ما أبصرتُ يوماً مُحلِّقاً ... ولو حَلَّ بين الجَدْي والسَّرطان حَمَاهُ مكانُ البُعد مِن أَن تَناله ... بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان (¬7) وقال الحيص بيص: فتى لم يكن جَهْما ولا ذا فَظاظةٍ ... ولا بالقَطوبِ الباخل المتكبّرِ ولكن سَموحاً بالوداد وبالنَّدى ... ومبتسماً في الحادث المتنمِّرِ (¬8) وقال أيضاً: وَيَكْبُرُ قَدْراً أَنْ يُرى مُتَكَبِّراً ... وَيَعْظُمُ مَجْداً أَنْ يِتَيهَ مَعَ الْعُظْمِ وَيَكْرُمُ عَدْلاً أَنْ يميلَ بِه الْهَوى ... وَيَشْرُفُ نَفْساً أنْ يَلَذَّ مَعَ الإثْمِ ... ¬

(¬1) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:445). (¬2) ((التمثيل والمحاضرة)) (ص:445). (¬3) ((أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم)) (ص:166). (¬4) ((المحكم والمحيط الأعظم)) (3/ 446). (¬5) ((العقد الفريد)) (2/ 199). (¬6) ((العقد الفريد)) (2/ 199). (¬7) ((العقد الفريد)) (2/ 200). (¬8) ((خريدة القصر وجريدة العصر)) (ص342).

الكذب

معنى الكذب لغة واصطلاحاً: معنى الكذب لغة: قال ابن منظور: (الكَذِبُ نقيضُ الصِّدْقِ كَذَبَ يَكْذِبُ كَذِباً ... تقول كذَّبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وأكْذَبتُه إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب) (¬1). معنى الكذب اصطلاحاً: هو الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ (¬2). وقال النووي: (الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل) (¬3). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 704) بتصرف. (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 201). (¬3) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 69).

الألفاظ المترادفة للكذب

الألفاظ المترادفة للكذب من الألفاظ المترادفة للكذب: (الميْن، والزُّور، والتَّخرُّص، والإفك، والباطل، والخطل، والفند، والتَّزيَّد، واللفت، والانتحال، والبَهت) (¬1). ¬

(¬1) ((الألفاظ المترادفة)) لأبي الحسن الرماني (ص 61).

الفرق بين الكذب وبعض الألفاظ المترادفة

الفرق بين الكذب وبعض الألفاظ المترادفة الفرق بين الخرص والكذب: (أن الخرص هو الحزر وليس من الكذب في شيء والخرص ما يحزر من الشيء يقال كم خرص نخلك أي كم يجئ من ثمرته وإنما استعمل الخرص في موضع الكذب لأن الخرص يجري على غير تحقيق فشبه بالكذب واستعمل في موضعه. وأما التكذيب فالتصميم على أن الخبر كذب بالقطع عليه ونقيضه التصديق) (¬1). الفرق بين الكذب والافتراء والبهتان: (الكذب: هو عدم مطابقة الخبر للواقع، أو لاعتقاد المخبر لهما على خلاف في ذلك. والافتراء: أخص منه، لأنه الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه، بخلاف الكذب فإنه قد يكون في حق المتكلم نفسه، ولذا يقال لمن قال: (فعلت كذا ولم أفعل كذا) مع عدم صدقه في ذلك: هو كاذب، ولا يقال: هو مفتر، وكذا من مدح أحدا بما ليس فيه، يقال: إنه كاذب في وصفه، ولا يقال: هو مفتر، لأن في ذلك مما يرتضيه المقول فيه غالبا. وقال سبحانه حكاية عن الكفار: افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا [الأنعام: 93] لزعمهم أنه أتاهم بما لا يرتضيه الله سبحانه مع نسبته إليه. وأيضا قد يحسن الكذب على بعض الوجوه، كالكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وعدة الزوجة، كما وردت به الرواية، بخلاف الافتراء. وأما البهتان: فهو الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له) (¬2). الفرق بين الكذب والإفك: (الكذب: اسم موضوع للخبر الذي لا مخبر له على ما هو به، وأصله في العربية التقصير ومنه قولهم كذب عن قرنه في الحرب إذا ترك الحملة عليه وسواء كان الكذب فاحش القبح أو غير فاحش القبح. والإفك: هو الكذب الفاحش القبح مثل الكذب على الله ورسوله أو على القرآن ومثل قذف المحصنة وغير ذلك مما يفحش قبحه وجاء في القرآن على هذا الوجه قال الله تعالى وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7]) (¬3). الفرق بين الخلف والكذب: (الكذب فيما مضى، وهو أن تقول فعلت كذا، ولم تفعله! والخلف لما يستقبل: وهو أن تقول: سأفعل كذا ولا تفعله) (¬4). ¬

(¬1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 214). (¬2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 449). (¬3) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 450). (¬4) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 224).

ذم الكذب في القرآن والسنة

ذم الكذب في القرآن والسنة ذم الكذب والنهي عنه في القرآن الكريم: - قال الله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل: 105]. (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق، الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس) (¬1). - وقال سبحانه: وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7]. (أي: كذاب في مقاله أثيم في فعاله. وأخبر أن له عذابا أليما وأن مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 10] تكفي في عقوبتهم البليغة) (¬2). - وقال عز وجل: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221 - 223]. 7 - وقال سبحانه: لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور: 13]. - وقال في وصف المنافقين: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ [الحشر: 11 - 12]. قال السعدي في قوله: وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 107]: (في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم، ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم الله بقوله، الذي وجد مخبره كما أخبر الله به، ووقع طبق ما قال، فقال: لَئِنْ أُخْرِجُوا من ديارهم جلاء ونفيا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم) (¬3). ذم الكذب والنهي عنه في السنة النبوية: (الكذب رذيلة محضة تنبئ عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها، وعن سلوك ينشئ الشر إنشاء، ويندفع إلى الإثم من غير ضرورة مزعجة، أو طبيعة قاهرة) (¬4). ولقد حذر الإسلام من الكذب ونهى عنه: - فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (¬5). - وعنه أيضاً- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) (¬6). قال ابن الجوزي: (فيه تأويلان أحدها أن يروي ما يعلمه كذبا ولا يبينه فهو أحد الكاذبين والثاني أن يكون المعنى بحسب المرء أن يكذب لأنه ليس كل مسموع يصدق به فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم) (¬7). - وعن صفوان بن سليم أنه قال: ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن جبانا فقال نعم فقيل له أيكون المؤمن بخيلا فقال نعم فقيل له أيكون المؤمن كذابا فقال لا)) (¬8). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 604). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (775). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (851). (¬4) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص 33). (¬5) رواه البخاري (33)، ومسلم (59). (¬6) رواه مسلم (4). (¬7) ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 340). (¬8) رواه مالك (2/ 990) (19)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 456) (4472) مرسلا. قال الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1752): مرسل ضعيف.

- وعن ثابت بن الضحاك- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم)) (¬1). (ومعنى الحديث النهي عن الحلف بما حلف به من ذلك والزجر عنه، وتقدير الكلام: من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذب حقا، لأنه حين حلف بذلك ظن أن إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنه لا حرمة لما حلف به، لكن لما تعمد ترك الصدق في يمينه، وعدل عن الحق في ذلك، لزمه اسم الكذب، وإثم الحلف، فهو كاذب كذبتين: كاذب بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه. فإن ظن ظان أن في هذا الحديث دليل على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقا لاشتراطه في الحديث أن يحلف به كاذبا، قيل له: ليس كما توهمت، لورود نهي النبي، (صلى الله عليه وسلم)، عن الحلف بغير الله نهيا مطلقا، فاستوى في ذلك الكاذب والصادق، وفي النهي عنه) (¬2). - وعن أبي محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) (¬3). قال ابن رجب: (يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة: ((وإن أفتاك الناس وأفتوك)) (¬4) وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق، وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة، فلا تسكن القلوب إليه، بل تنفر منه. ومن هنا كان العقلاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه، عرفوا أنه صادق، وأنه جاء بالحق، وإذا سمعوا كلام مسيلمة، عرفوا أنه كاذب، وأنه جاء بالباطل، وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه: يا وبر يا وبر، لك أذنان وصدر، وإنك لتعلم يا عمرو، فقال: والله إني لأعلم أنك تكذب) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (1363). (¬2) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/ 350). (¬3) رواه الترمذي (2516)، والنسائي (5711)، وأحمد (1/ 200) (1723). وصححه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي. (¬4) رواه أحمد (4/ 228) (18035)، والدارمي (3/ 1649) (2575)، وأبو يعلى (3/ 160) (3/ 160) (1586). وحسن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 351)، وحسنه النووي في ((الأذكار)) (408)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (ص285).

أقوال السلف والعلماء في الكذب

أقوال السلف والعلماء في الكذب - قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: (لأن يضعني الصدق- وقلما يضع- أحب إلي من أن يرفعني الكذب، وقلما يفعل) (¬1). - وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أعظم الخطايا الكذب، ومن يعف يعف الله عنه) (¬2). - وروي عنه أيضاً أنه قال: (الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل) (¬3). - وكان ابن عباس يقول: (الكذب فجور، والنميمة سحرٌ، فمن كذب فقد فجر، ومن نم فقد سحر) (¬4). - وقال ابن عمر: (زعموا زاملة الكذب) (¬5). - وقال الأحنف: (ما خان شريفٌ ولا كذب عاقلٌ ولا اغتاب مؤمنٌ. وكانوا يحلفون فيحنثون ويقولون فلا يكذبون) (¬6). - وقال أيضاً: (اثنان لا يجتمعان أبداً: الكذب والمروءة) (¬7). - وقال ميمون بن ميمون: (من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه) (¬8). - وقال ابن القيم: (إياك والكذب؛ فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس) (¬9). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) (1/ 263). (¬2) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 138). (¬3) رواه أحمد في ((المسند)) (3896). (¬4) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 31). (¬5) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 32). (¬6) رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1128)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/ 343). (¬7) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 32). (¬8) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 33). (¬9) ((الفوائد)) لابن القيم (ص 135).

ما يباح من الكذب

ما يباح من الكذب الأصل في الكذب عدم الجواز لكن هنالك حالات يباح فيها الكذب وهي كالآتي: 1 - (في الحرب؛ لأن الحرب خدعة، ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء، وإيهامهم بأشياء قد لا تكون موجودة، واستعمال أساليب الحرب النفسية ما أمكن، ولكن بصورة ذكية لبقة. 2 - في الصلح بين المتخاصمين؛ حيث إن ذلك يستدعي أحياناً أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق، وأحياناً ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله، وينفي عنه بعض ما قاله؛ وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام. 3 - في الحياة الزوجية؛ حيث يحتاج الأمر أحياناً إلى أن تكذب الزوجة على زوجها، أو يكذب الزوج على زوجته، ويخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين، كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة بينهما، وإن كان ما يقال كذباً؛ لأن هذا الرباط الخطير يستحق أن يهتم به غاية الاهتمام، وأن يبذل الجهد الكافي ليظل قوياً جميلاً مثمراً) (¬1). فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا)). قال ابن شهاب ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. (¬2). ¬

(¬1) ((الرائد دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (3/ 264). (¬2) رواه البخاري (2692)، ومسلم (2605).

آثار ومضار الكذب

آثار ومضار الكذب 1 - الكذب وسيلة لدمار صاحبه أمما وأفرادا. 2 - الكذب سراب يقرب البعيد ويبعد القريب. 3 - الكذب يذهب المروءة والجمال والبهاء. 4 - الكاذب مهان ذليل. 5 - الأمم التي كذبت الرسل لاقت مصيرها من الدمار والهلاك. 6 - يورث فساد الدين والدنيا. 7 - دليل على خسة النفس ودناءتها. 8 - احتقار الناس له وبعدهم عنه (¬1). 9 - (الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما. والحق باطلا، والباطل حقا، والخير شرا والشر خيرا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب) (¬2). 10 - الكذاب لص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك. 11 - الكذب فجور. 12 - الكذاب لا تسكن القلوب إليه بل تنفر منه. 13 - الكذاب لا يفلح أبداً. 14 - الكذب من علامات النفاق. 15 - الكذاب توعده الله بجهنم. ¬

(¬1) من 1 - 8 من كتاب ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (11/ 5430). (¬2) ((الفوائد)) لابن القيم (ص 135).

صور الكذب

صور الكذب للكذب صور كثيرة منها: 1 - الكذب على الله تعالى ورسوله: وهذا أعظم أنواع الكذب، (والكذب على الله نوعان: النوع الأول أن يقول: قال الله كذا، وهو يكذب. والنوع الثاني: أن يفسر كلام الله بغير ما أراد الله، لأن المقصود من الكلام معناه، فإذا قال: أراد الله بكذا كذا وكذا، فهو كاذب على الله، شاهد على الله بما لم يرده الله عز وجل، لكن الثاني إذا كان عن اجتهاد وأخطأ في تفسير الآية فإن الله تعالى يعفو عنه؛ لأن الله قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقال: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] وأما إذا تعمد أن يفسر كلام الله بغير ما أراد الله، اتباعاً لهواه أو إرضاء لمصالح أو ما أشبه ذلك، فإنه كاذب على الله عز وجل) (¬1). وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93]. (يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، ممن كذب على الله. بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله ما هو من أكبر المفاسد. ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه -مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم. ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف) (¬2). قال الله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60]. وقال سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ... [الأعراف: 37]. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (¬3). وقال: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) (¬4). (وأكثر الناس كذبًا على رسول الله هم الرافضة الشيعة، فإنه لا يوجد في طوائف أهل البدع أحد أكثر منهم كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على هذا علماء مصطلح الحديث رحمهم الله، لما تكلموا على الحديث الموضوع قالوا: إن أكثر من يكذب على الرسول هم الرافضة الشيعة، وهذا شيء مشاهد ومعروف لمن تتبع كتبهم) (¬5). 2 - الكذب على الناس: ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 156) بتصرف. (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 264). (¬3) رواه البخاري (110)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم في باب وجوب الرواية عن الثقات، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41)، وأحمد (4/ 255) (18266) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 156 - 157).

(كذب يظهر الإنسان فيه أنه من أهل الخير والصلاح والتقى والإيمان وهو ليس كذلك، بل هو من أهل الكفر والطغيان والعياذ بالله، فهذا هو النفاق، النفاق الأكبر الذين قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] لكنهم يقولون بألسنتهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، وشواهد ذلك في القرآن والسنة كثيرة، إنهم - أعني المنافقين أهل الكذب يكذبون على الناس في دعوى الإيمان وهم كاذبون، وانظر إلى قول الله تعالى في سورة (المنافقون) حيث صدر هذه السورة ببيان كذبهم حيث قال تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 2] أكدوا هذه الجملة بكم مؤكد؟ بثلاثة مؤكدات، (نشهد) (إن) (اللام) ثلاثة مؤكدات، يؤكدون أنهم يشهدون أن محمدًا رسول الله، فقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] في قولهم (نشهد إنك لرسول الله) هذا أيضًا من أنواع الكذب، وهو أشد أنواع الكذب على الناس؛ لأن فاعله والعياذ بالله منافق) (¬1). 3 - الكذب في الحديث بين الناس: (الكذب في الحديث الجاري بين الناس يقول: قلت لفلان كذا وهو لم يقله، قال فلان كذا وهو لم يقله، جاء فلان وهو لم يأت وهكذا، هذا أيضاً محرم ومن علامات النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... )) (¬2)) (¬3). 4 - كذب الحكام على الشعوب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكاذب، والعائل المزهو)) (¬4). 5 - الكذب لإضحاك الناس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له)) (¬5). قال المناوي في شرحه للحديث: (كرره إيذانا بشدة هلكته؛ وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة) (¬6). قال ابن عثيمين: (وهذا يفعله بعض الناس ويسمونها (النكت)، يتكلم بكلام كذب ولكن من أجل أن يضحك الناس، هذا غلط، تكلم بكلام مباح من أجل أن تدخل السرور على قلوبهم، وأما الكلام الكذب فهو حرام) (¬7). (والحكمة من هذا المنع أنه يجر إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم الحديث عنهم، كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في المجتمع الحق بالباطل والباطل بالحق) (¬8). 6 - المبالغة في الإطراء والمدح: ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 157). (¬2) رواه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 158). (¬4) رواه البزار (6/ 493) (2529) من حديث سلمان رضي الله عنه. وجوَّد إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 189)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (6/ 258): رجاله رجال الصحيح غير العباس بن أبي طالب، وهو ثقة. وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2398). (¬5) رواه أبو داود (4990)، والترمذي (2315)، وأحمد (5/ 5) (20067) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 18): له طرق إلى بهز وهو ثابت إليه وبهز حديثه حسن. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9648). (¬6) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 368). (¬7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 117). (¬8) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبدالرحمن الميداني (1/ 495).

(تمدح الناس مدرجة إلى الكذب، والمسلم يجب أن يحاذر حينما يثني على غيره فلا يذكر إلا ما يعلم من خير، ولا يجنح إلى المبالغة في تضخيم المحامد وطيِّ المثالب، ومهما كان الممدوح جديراً بالثناء فإن المبالغة في إطرائه ضرب من الكذب المحرم) (¬1). فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب)) (¬2). قال النووي: (اعلم أن مدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته قد يكون في حضور الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضوره، فلا منع منه إلا أن يجازف المادح ويدخل في الكذب، فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحا، ويستحب هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة ولم يجر إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح فيفتتن به، أو غير ذلك) (¬3). 7 - كذب التاجر في بيان سلعته: فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: أن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف بالله: لقد أعطي بها مالم يعط ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ... [آل عمران: 77]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ... )) (¬4). 8 - الكذب على الأولاد: فكثيرًا ما يكذب الوالدان على أولادهما الصغار؛ رغبةً في التخلص منهم، أو تخويفاً لهم؛ كي يكفُّوا عن العبث واللعب، أو حفزًا لهم كي يجِدّوا في أمر ما، أو غير ذلك (¬5). 9 - شهادة الزور: (الحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فالمسلم لا يبالي إذا قام بشهادة ما أن يقرر الحق ولو على أدنى الناس منه وأحبهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية، ولا تزيغه رغبة أو رهبة. وتزكية المرشحين لمجالس الشورى، أو المناصب العامة، نوع من أنواع الشهادة فمن انتخب المغموط في كفايته وأمانته، فقد كذب وزوَّر، ولم يقم بالقسط) (¬6). فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا قلنا: بلى، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)) (¬7). 10 - المبالغة في المعاريض: لا ريب أن في المعاريض مندوحةً عن الكذب، ولكن هناك من يبالغ في المعاريض، ويتوسع فيها توسعًا يخرجه عن طوره، ويجعله يدخل فيها ما ليس منها، فتجده يقلب الحقائق، وينال من الآخرين، ويُلبس عليهم، ويحصل على مآربه بالمراوغة والمخاتلة، مما يوقعه في الكذب، فَتُفْقَدُ الثقة به، وبحديثه (¬8). 11 - الكذب السياسي: الكذب الذي يقوم على القاعدة الميكافيلية التي تقول: إن الغاية تبرر الوسيلة أو الغاية تسوغ الواسطة. وهذه القاعدة الفاجرة الكافرة يأخذ بها غالبية السياسيين (¬9). ¬

(¬1) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 36). (¬2) رواه الترمذي (2394)، وابن عدي في ((الكامل)) (4/ 375). (¬3) ((الأذكار)) للنووي (ص: 276). (¬4) رواه البخاري (2369) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((الكذب مظاهره - علاجه)) لمحمد الحمد. (¬6) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 37). (¬7) رواه البخاري (5976)، ومسلم (87). (¬8) ((الكذب مظاهره - علاجه)) لمحمد الحمد. (¬9) ((الكذب مظاهره - علاجه)) لمحمد الحمد.

أسباب الوقوع في الكذب

أسباب الوقوع في الكذب (دوافع الكذب كثيرة، منها الخوف من النقد، والخوف من العقاب أو العتاب، ومنها إيثار المصلحة العاجلة، ومنها قلة مراقبة الله والخوفِ منه، ومنها اعتياد الكذب وإلفه، ومنها البيئة والمجتمع، ومنها سوء التربية إلى غير ذلك من دوافع الكذب) (¬1). قال ابن أبي الدنيا: (وأما دواعي الكذب فمنها: - اجتلاب النفع واستدفاع الضر، فيرى أن الكذب أسلم وأغنم فيرخص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطمع. وربما كان الكذب أبعد لما يؤمل وأقرب لما يخاف؛ لأن القبيح لا يكون حسنا والشر لا يصير خيرا. وليس يجنى من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن فيه الهلكة)) (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن يضعني الصدق وقلما يفعل، أحب إلي من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل (¬3). وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته. وقال الجاحظ: الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان فيهن تمام كل دين، وصلاح كل دنيا، وأضدادهن سبب كل فرقة وأصل كل فساد. - ومنها: أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذبا وكلامه مستظرفا، فلا يجد صدقا يعذب ولا حديثا يستظرف، فيستحلي الكذب الذي ليست غرائبه معوزة، ولا ظرائفه معجزة. وهذا النوع أسوأ حالا مما قبل؛ لأنه يصدر عن مهانة النفس ودناءة الهمة. وقد قال الجاحظ: لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده. وقال ابن المقفع: لا تتهاون بإرسال الكذبة من الهزل فإنها تسرع إلى إبطال الحق. - ومنها: أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه. ويرى أن معرة الكذب غنم وأن إرسالها في العدو سهم وسم. وهذا أسوأ حالا من النوعين الأولين؛ لأنه قد جمع بين الكذب المعر والشر المضر. ولذلك ورد الشرع برد شهادة العدو على عدوه. - ومنها: أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتى ألفها، فصار الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة، حتى لو رام مجانبة الكذب عسر عليه؛ لأن العادة طبع ثان. وقد قالت الحكماء: من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه. وقيل في منثور الحكم: لا يلزم الكذاب شيء إلا غلب عليه) (¬4). ¬

(¬1) ((الكذب مظاهره - علاجه)) لمحمد الحمد. (¬2) رواه هناد في ((الزهد)) (2/ 635) من حديث مجمع بن يحيى مرسلا. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3253)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2399). (¬3) أدب ((الدنيا والدين)) (1/ 263). (¬4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص264).

أخطاء شائعة في الكذب

1 - كذبة إبريل: يقوم بعض الناس في الدول الغربية في اليوم الأول من أبريل بإطلاق الأكاذيب، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين، ويُطلقون على من يُصدِّق هذه الأكاذيب اسم ضحية كذبة إبريل. ويقصدون بفعلهم هذا المزاح، ولا شك أن هذا من الكذب الحرام ويضاف إليه أنه من التشبه بالكفار وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين: (أحذر إخواني المسلمين مما يصنعه بعض السفهاء من كذبة إبريل هذه الكذبة التي تلقوها عن اليهود والنصارى والمجوس وأصحاب الكفر فهي مع كونها كذبٌ والكذب محرم شرعاً ففيها تشبه بغير المسلمين والتشبه بغير المسلمين محرم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من تشبه بقومٍ فهو منهم)) (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إسناده جيد وأقل أحواله التحريم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم وهي مع تضمنها لهذين المحظورين فيها إذلالٌ للمسلم أمام عدوه لأن من المعلوم بطبيعة البشر أن المقلد يفخر على من قلده ويرى أنه أقدر منه ولذلك ضعف مقلده حتى قلده فهي فيها إذلالٌ للمؤمن بكونه ذليلاً وتبعاً للكفار، المحظور الرابع: أن غالب هذه الكذبة الخبيثة تتضمن أكلاً للمال بالباطل أو ترويعاً للمسلم فإنه ربما يكذب فيكلم أهل البيت ويقول إن فلاناً يقول: ترى عندنا جماعة اليوم فيطبخون غداءً كثيراً ولحماً وما أشبه ذلك أو ربما يخبرهم بأمرٍ يروعهم كأن يقول قيّمكم دعسته سيارة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تجوز بدون أن تكون بهذه الحال فعلى المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يكون عزيزاً بدينه فخوراً به) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (8/ 179) (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8593)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6149). (¬2) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (8/ 179) (8327) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8593)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6149). (¬3) ((الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين)).

2 - الكذب الأبيض والأسود:

2 - الكذب الأبيض والأسود: يظن بعض الناس أن هناك كذب أبيض وهو حلال، وكذب أسود وهو حرام، والأمر ليس كذلك، فالكذب كله حرام قال ابن عثيمين: (والكذب حرام وكلما كانت آثاره أسوأ كان أشد إثما وليس في الكذب شيء حلالا وأما ما ادعاه بعض العامة حيث يقولون إن الكذب نوعان أسود وأبيض فالحرام هو الأسود والحلال هو الأبيض فجوابه أن الكذب كله أسود ليس فيه شيء أبيض لكن يتضاعف إثمه بحسب ما يترتب عليه فإذا كان يترتب عليه أكل مال المسلم أو غرر على مسلم صار أشد إثما وإذا كان لا يترتب عليه أي شيء من الأضرار فإنه أخف ولكنه حرام) (¬1). ¬

(¬1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 570).

علامات تدل على الكذاب

علامات تدل على الكذاب قال ابن أبي الدنيا: (واعلم أن للكذاب قبل خبرته أمارات دالة عليه. - فمنها: أنك إذا لقنته الحديث تلقنه ولم يكن بين ما لقنته وبين ما أورده فرق عنده. - ومنها: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع فيه، ولولاك ما تخالجه الشك فيه. - ومنها: أنك إذا رددت عليه قوله حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين. ولذلك قال علي بن أبي طالب: الكذاب كالسراب. - ومنها: ما يظهر عليه من ريبة الكذابين وينم عليه من ذلة المتوهمين؛ لأن هذه أمور لا يمكن الإنسان دفعها عن نفسه؛ لما في الطبع من آثارها. ولذلك قالت الحكماء: العينان أنم من اللسان. وقال بعض البلغاء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا. وقال بعض الشعراء: تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدي سرها النظر. وإذا اتسم بالكذب نسبت إليه شوارد الكذب المجهولة، وأضيفت إلى أكاذيبه زيادات مفتعلة حتى يصير الكاذب مكذوبا عليه، فيجمع بين معرة الكذب منه ومضرة الكذب عليه) (¬1). ¬

(¬1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص264 - 265).

ما قيل في المعاريض

ما قيل في المعاريض عن عمران بن حصين أنه قال: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) (¬1). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب) (¬2). (والمعاريض أن يريد الرجل أن يتكلم الرجل بالكلام الذي إن صرح به كان كذبا فيعارضه بكلام آخر يوافق ذلك الكلام في اللفظ ويخالفه في المعنى فيتوهم السامع أنّه أراد ذلك) (¬3). قال النووي: (اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يكثر استعماله وتعم به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله ويعمل به) (¬4). وقال أيضاً: (واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضرب من التغرير والخداع. قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذ حراما، هذا ضابط الباب) (¬5). أمثلة للمعاريض: (لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم، كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف، فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه، ومَن أبَى يَقْتله، فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جُبَير؟ فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر، فَقبِل كلامهما وعفا عنهما؟ وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي، فقال؛ أَصلح الله الأمير، نَبا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واستَحلَسْنا الخوفَ، واكتَحلنا السهرَ، وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال؛ صدقَ والله، ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلّيا عنه. ثم قُدِّم إليه مُطرِّف بن عبد الله، فقال له الحجّاج: أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر؟ قال: إنّ مَن شق العصا، وسَفَك الدماء، ونكث البَيْعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر؟ قال: خليا عنه. ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير، فقال له: أتقِر على نفسك بالكُفر؟ قال: ما كفرتُ بالله مذ آمنت به؟ قال: اضربوا عُنقه) (¬6). وقال النخعي رحمه الله: (إذا بلغ الرجل عنك شيء قلته فقل: الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء، فيتوهم السامع النفي، ومقصودك الله يعلم الذي قلته) (¬7). (وكان النخعي إذا طلبه رجل قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد. وقال غيره: خرج أبي في وقت قبل هذا. وكان الشعبي يخط دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها وقولي: ليس هو هاهنا) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (857)، وابن أبي شيبة (5/ 282) (26096)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (7/ 370) (2924). وصحح وقفه الألباني في صحيح ((الأدب المفرد)) (662). (¬2) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 335) (20841). (¬3) ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/ 287). (¬4) ((الأذكار)) للنووي (ص: 380). (¬5) ((الأذكار)) للنووي (ص: 380). (¬6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 297). (¬7) ((الأذكار)) للنووي (ص: 381). (¬8) ((الأذكار)) للنووي (ص: 381).

الأمثال والحكم في الكذب

الأمثال والحكم في الكذب 1 - (إنَّ الكَذُوب قد يَصْدُق: يقال في الرجل المعروف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحياناً) (¬1). 2 - (جاء بالحظر الرطب: إذا جاء بكثرة الكذب) (¬2). 3 - (عند النوى يكذبك الصادق: قالوا يضرب مثلا للرجل يعرف بالصدق ثم يحتاج إلى الكذب) (¬3). 4 - (أكذب من دب ودرج: أي أكذب الكبار والصغار دب لضعف الكبر ودرج لضعف الصغر وقيل بل معناه أكذب الأحياء والأموات. والدبيب للحي والدروج للميت يقال درج القوم إذا انقرضوا) (¬4). ما قيل في الحكم: - (قيل في منثور الحكم: الكذاب لص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك. - وقال بعض البلغاء: الصادق مصان خليل، والكاذب مهان ذليل) (¬5). - (وقيل لكذوب: أصدقت قط؟ قال: أكره أن أقول لا فأصدق) (¬6). - (ويقال: الأذلاء أربعة: النمام والكذاب والمدين والفقير) (¬7). ¬

(¬1) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص50). (¬2) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 314). (¬3) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/ 35). (¬4) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل الميداني (2/ 167). (¬5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص261). (¬6) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 31). (¬7) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 32).

ذم الكذب في واحة الشعر ..

ذم الكذب في واحة الشعر .. قال الشاعر: لا يكذبُ المرءُ إِلا من مهانتِه ... أو عادةِ السوءِ أو من قلةِ الأدبِ لعضُّ جيفةِ كلبٍ خيرُ رائحةٍ ... من كذبةِ المرءِ في جدٍ وفي لعبِ وقال آخر: لا عُذْرَ للسيدِ حين يكذبُ ... إِذا ليس يرجو أحداً أو يرهبُ وليس معذوراً إِذا ما يغضَبُ ... إِذا العقابُ عندَه لا يصعبُ وقال آخر: الكذبُ عارٌ وخيرُ القول أصدقُهُ ... والحَقَّ ما مسَّه من باطلٍ زهقا وقال آخر: الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ ... والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ ... يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ وقال آخر: الكذب مرديك وإن لم تخف ... والصدق منجيك على كل حال فانطق بما شئت تجد غبه ... لم تبتخس وزنة مثقال وقال آخر: إِن الكريمَ إِذا ما كانَ ذا كذبٍ ... شانَ التكرمَ منه ذلكَ الكذبُ الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلهُ ... لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ وقال آخر: إِذا عرفقَ الكذابُ بالكذبِ لم يزلْ ... لدى الناسِ كذباً وإِن كان صادقاً ومن آفةِ الكذابِ نسيانُ كذبهِ ... وتلقاهُ ذا حَفِظ إِذا كان صادقاً كذبتَ ومن يكذبْ فإِن جزاءَه ... إِذا ما أتى بالصدقِ أن لا يُصَدَّقا وقال آخر: الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ ... والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ ... يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ ...

نقض العهد

معنى نقض العهد لغة واصطلاحاً معنى النقض لغة واصطلاحاً معنى النقض لغة: وفي الصحاح: النَقْضُ: نَقْضُ البناءِ والحَبْلِ والعهدِ (¬1). وقال ابن منظور: نقض: النقض: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء (¬2) وقال ابن فارس: النون والقاف والضاد أصل صحيح يدل على نكث شيء (¬3) معنى النقض اصطلاحاً: قال القرطبيّ: النّقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد (¬4). وقال الرّاغب: النّقض: انتثار العقد من البناء والحبل والعقد، وهو ضدّ الإبرام، ومن نقض الحبل والعقد استعير نقض العهد (¬5). معنى العهد لغة واصطلاحاً: معنى العهد لغة: العهد: الوصية والأمان والموثق والذمة ومنه قيل للحربي يدخل بالأمان ذو عهد ومعاهد (¬6). وقد عَهِدْتُ إليه، أي أوصيته، ومنه اشتُقَّ العَهْدُ الذي يكتب للوُلاةِ (¬7). معنى العهد اصطلاحا: قال الجرجانيّ: العهد: حفظ الشّيء ومراعاته حالا بعد حال. هذا أصله ثمّ استخدم في الموثق الّذي يلزم مراعاته (¬8). ¬

(¬1) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (3/ 1110). (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 242). (¬3) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 470). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 246). (¬5) ((المفردات)) (ص821). (¬6) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 435). (¬7) ((الصحاح)) للجوهري (2/ 515). (¬8) ((التعريفات)) (159).

معاني العهد

معاني العهد ويأتي العهد على عدة معان، وهي (¬1): 1 - العهد: الموثق واليمين يحلف بها الرجل والجمع كالجمع، تقول: علي عهد الله وميثاقه، وقيل: ولي العهد، لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة. 2 - والعهد: الوصية، يقال عهد إلي في كذا: أوصاني. 3 - والعهد: التقدم للمرء في الشيء، ومنه العهد الذي يكتب للولاة، والجمع: عهود، وقد عهد إليه عهداً. 4 - والعهد: الوفاء والحفاظ ورعاية الحرمة. 5 - والعهد: الأمان، قال شمر: العهد الأمان، وكذلك الذمة، تقول: أنا أعهدك من هذا الأمر، أي: أؤمنك منه، ومنه اشتقاق العهدة. 6 - والعهد: الالتقاء، وعهد الشيء عهدا عرفه، وعهدته بمكان كذا أي لقيته وعهدي به قريب. 7 - والعهد: ما عهدته فثافنته، يقال:؛ عهدي بفلان وهو شاب، أي: أدركته فرأيته كذلك. 8 - والعهد: المنزل الذي لا يزال القوم إذا انتأوا عنه رجعوا إليه، ويقال له: المعهد - أيضا- وكذلك المنزل المعهود به الشيء يقال له: العهد، قال ذو الرمة: هل تعرف العهد المحيل رسمه. 9 - والعهد: أول مطر، والولي الذي يليه من الأمطار، وفي الصحاح: العهد: المطر الذي يكون بعد المطر، وقد عهدت الأرض فهي معهودة أي: ممطورة. 10 - والعهد: الزمان، كالعهدان - بالكسر -. 11 - والعهد: التوحيد. 12 - والعهد: الضمان. 13 - والعهد: الذي يحب الولايات والعهود. ¬

(¬1) ((العهد والميثاق في القرآن العظيم)) لناصر العمر (ص17 - 19).

الفرق بين العهد وبعض الكلمات

الفرق بين العهد وبعض الكلمات الفرق بين العهد والوعد: قيل العهد ما يكون من الجانبين وأما ما يكون من جانب فوعد ونقضه خلف وعد (¬1). الفرق بين النّقض والخيانة: أنّ الخيانة تقتضي نقض العهد سرّا، أمّا النّقض فإنّه يكون سرّا وجهرا، ومن ثمّ يكون النّقض أعمّ من الخيانة ويرادفه الغدر، وضدّ الخيانة الأمانة، وضدّ النّقض: الإبرام (¬2). ¬

(¬1) ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (2/ 281). (¬2) ((نضرة النعيم)) لمجموعة باحثين (11/ 5633).

حكم نقض العهد:

حكم نقض العهد: نقض العهد كبيرة من كبائر الذنوب: وقد أمر الله المؤمنين بالوفاء بالعهود وحرم عليهم نقضها فقال: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]. وتوجد الكثير من الأدلة في الكتاب والسنة التي تأمر بوجوب الوفاء بالعهد وتحرم نقضه، ولذلك فقد عد بعض العلماء نقض العهود من الكبائر، ومن هؤلاء العلماء: الإمام ابن عطية رحمه الله قال: وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل (¬1). وكذلك الإمام الذهبي رحمه الله فقد عدها كبيرة من الكبائر حيث قال: الكبيرة الخامسة والأربعون: الغدر وعدم الوفاء بالعهد (¬2). وأيضاً الإمام ابن حجر رحمه الله، فقد عدها أيضاً من الكبائر، وقال: عَدُّ هذا من الكبائر هو ما وقع في كلام غير واحد (¬3). ¬

(¬1) ((المحرر الوجيز)) (1/ 113). (¬2) ((الكبائر)) (ص168). (¬3) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 182).

النهي عن نقض العهد في القرآن والسنة

النهي عن نقض العهد في القرآن والسنة ذم نقض العهد والنهي عنه من الكتاب: - قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التوبة: 12]. قال السدي: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام وطعنوا فيه، فقاتلوهم (¬1). وقال القرطبيُّ: (إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه) (¬2). وقال الرازي: وإن نكثوا أيمانهم أي نقضوا عهودهم (¬3). - وقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [البقرة: 27]. قال الطبري: وما يضل به إلا التاركين طاعة الله، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته. وترك كتمان ذلك لهم ونكثهم ذلك، ونقضهم إياه هو مخالفتهم الله في عهده إليهم فيما وصفت أنه عهد إليهم بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره (¬4). وقال السدي: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه (¬5). وقال السعدي: وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق (¬6). - وقال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155]. قال ابن كثير: وهذه من الذنوب التي ارتكبوها، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم (¬7). قال ابن عباس: (هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه) (¬8). قال الزمخشري: وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك (¬9). قال الخازن: (فبسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا) (¬10). - وقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13]. ¬

(¬1) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (11/ 364). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/ 83). (¬3) ((مفاتيح الغيب)) (15/ 534). (¬4) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (1/ 438). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 211). (¬6) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (1/ 47). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 447). (¬8) رواه الطبري في ((تفسيره)) (10/ 126). (¬9) ((الكشاف)) للزمخشري (1/ 585). (¬10) ((لباب التأويل في معاني التنزيل)) (1/ 443).

قال الطبري: مَعْنَى الْكَلَامِ: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل , فنقضوا الميثاق , فلعنتهم , فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم , فاكتفى بقوله: فبما نقضهم ميثاقهم [النساء: 155] من ذكر فنقضوا (¬1). قال ابن كثير: أي: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى (¬2). - وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [الفتح: 10]. قال ابن كثير: إنما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني عنه (¬3). قال السمرقندي: فمن نكث يعني: نقض العهد، والبيعة فإنما ينكث على نفسه يعني: عقوبته على نفسه (¬4). وقال ابن عطية: أنّ من نكث يعني من نقض هذا العهد فإنّما يجني على نفسه، وإيّاها يهلك، فنكثه عليه لا له (¬5). ذم نقض العهد والنهي عنه من السنة: - عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: ((ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدل)) (¬6). قال النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)) المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمّنه به أحد المسلمين حرُم على غيره التعرُّض له ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة ... وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله)) معناه: من نقض أمانَ مسلم فتعرّض لكافر أمَّنه مسلم، قال أهل اللغة: يقال: أخفرتُ الرجل إذا نقضتُ عهده، وخفرته إذا أمَّنته) (¬7). وقال ابن حجر رحمه الله: (قوله: ((ذمّة المسلمين واحدة)) أي: أمانهم صحيح، فإذا أمَّن الكافرَ واحدٌ منهم حرُم على غيره التعرّض له ... وقوله: ((يسعى بها)) أي: يتولاها ويذهب ويجيء، والمعنى: أن ذمّة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمّن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمّةً لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحرّ والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة ... وقوله: ((فمن أخفر)) بالخاء المعجمة والفاء أي: نقض العهد، يقال: خفرته بغير ألف أمّنته، وأخفرته نقضت عهده) (¬8). قال ابن تيمية: جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك (¬9) ¬

(¬1) ((جامع البيان في تأويل آي القرآن)) للطبري (8/ 248). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 66). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 330). (¬4) ((بحر العلوم)) للسمرقندي (3/ 314). (¬5) ((المحرر الوجيز)) (5/ 129). (¬6) رواه البخاري (1870). (¬7) ((شرح صحيح مسلم)) (9/ 144 - 145). (¬8) ((فتح الباري)) (4/ 86). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 145 - 146).

- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس بخمس، قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا فشا فيهم الموت، ولا طفَّفوا الكيل إلا مُنِعوا النبات وأُخِذوا بالسنين، ولا منعوا الزَّكاة إلا حُبس عنهم المطر)) (¬1). قال المناوي: (ما نقض قوم العهد) أي: ما عاهدوا الله عليه أو ما عاهدوا عليه قوما آخرين (إلا سلط عليهم عدوهم) جزاء بما اجترحوه من نقض العهد المأمور بالوفاء به (¬2). - وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح، فهو في ذمة الله. فلا تخفروا الله في عهده. فمن قتله، طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه)) (¬3). قال المباركفوري: أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد ((فلا تخفروا الله في ذمته)) قال في النهاية: خفرت الرجل أجرته وحفظته وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه) (¬4). وقال السندي: (فهو في ذمة الله) أي: أمانه وعهده، أو أنه تعالى أوجب له الأمان (فلا تخفروا الله) من أخفره إذا نقض عهده (¬5). - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)) (¬6). قال ابن رجب: ((فلا تخفروا الله في ذمته))، أي: لا تغدروا بمن له عهد من الله ورسوله، فلا تفوا له بالضمان، بل أوفوا له بالعهد (¬7). وقال القاري: أي لا تخونوا الله في عهده، ولا تتعرضوا في حقه من ماله، ودمه، وعرضه، أو الضمير للمسلم أي فلا تنقضوا عهد الله (¬8). وقال حمزة محمد قاسم: ((فلا تخفروا الله في ذمته)) أي فلا تنقضوا عهد الله فيه، ولا تخونوه بانتهاك حقوقه، فإن أي اعتداء عليه هو خيانة لله ورسوله، ونقض لعهدهما، وإهدار لكرامة الإسلام (¬9). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الكبير)) (11/ 45) (10992). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1146): سنده قريب من الحسن وله شواهد. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (3/ 68): فيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي، لينه الحاكم، وبقية رجاله موثقون، وفيهم كلام. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3945). (¬2) ((فيض القدير)) (3/ 452). (¬3) رواه ابن ماجه (3945)، والضياء في ((المختارة)) (1/ 151) (64). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 167): إسناده رجاله ثقات إلا أنه منقطع. (¬4) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (2/ 12). (¬5) ((حاشية السندي على سنن ابن ماجة)) (2/ 462). (¬6) رواه البخاري (391). (¬7) ((فتح الباري)) (3/ 58). (¬8) ((فتح الباري)) (3/ 58). (¬9) ((منار القاري)) (2/ 3).

أقوال السلف والعلماء في ذم نقض العهد

أقوال السلف والعلماء في ذم نقض العهد - قال ابن حجر: (كان عاقبة نقض قريش العهد مع خزاعة حلفاء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أن غزاهم المسلمون حتّى فتحوا مكّة واضطرّوا إلى طلب الأمان، وصاروا بعد العزّة والقوّة في غاية الوهن إلى أن دخلوا في الإسلام، وأكثرهم لذلك كاره) (¬1). - وقال أيضاً: (الغدر حرمته غليظة لا سيّما من صاحب الولاية العامّة لأنّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثير، ولأنّه غير مضطرّ إلى الغدر لقدرته على الوفاء) (¬2). - وقال ابن عطيّة- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [الفتح: 10]: فَمَنْ نَكَثَ أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه وإياها يهلك، فنكثه عليه لا له) (¬3). - وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ... [النحل: 92] الآية. شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكما، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه) (¬4). - وقال ابن كثير: (إنّ من صفات المنافقين أنّ أحدهم إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدّث كذب، وإذا ائتمن خان. ولذلك كان حال هؤلاء الأشقياء ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون كما أنّهم اتّصفوا بخلاف صفاتهم في الدّنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل. وهؤلاء ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) (¬5). - وقال محمّد بن كعب القرظيّ- رحمه الله تعالى- (ثلاث خصال من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنّكث، والمكر، وقرأ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23]، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: 10]) (¬6). - وصف أعرابيّ قوما فقال: (أولئك قوم أدّبتهم الحكمة، وأحكمتهم التّجارب، ولم تغررهم السّلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التّسويف الّذي قطع النّاس به مسافة آجالهم، فقالت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال، كان يقال: آفة المروءة خلف الوعد) (¬7). - و (دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال له: عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال: كنت كلما مرضت عاهدت الله على التوبة فيقيلني فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت: قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم مات عن قريب) (¬8). - وتاب بعض من تقدم ثم نقض فهتف به هاتف بالليل: سأترك ما بيني وبينك واقفا ... فإن عدت عدنا والوداد مقيم تواصل قوما لا وفاء لعهدهم ... وتترك مثلي والحفاظ قديم (¬9) - وقال أبو العالية: (ستّ خصال في المنافقين إذا كانت فيهم الظّهرة على النّاس أظهروا هذه الخصال: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظّهرة عليهم أظهروا الخصال الثّلاث: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا) (¬10). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 285). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 284). (¬3) ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (5/ 129). (¬4) ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (3/ 417). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 453). (¬6) ((ذم البغي)) لابن أبي الدنيا (ص88). (¬7) ((المنتقى من كتاب مكارم الأخلاق ومعاليها للخرائطي)) لأبي طاهر الأصبهاني (ص55). (¬8) ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص63). (¬9) ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص63). (¬10) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 211).

آثار نقض العهد

آثار نقض العهد كما أن الوفاء بالعهد والميثاق له آثاره النافعة، فإن نقض العهد والميثاق يترك آثارًا ضارة يقع ضررها على الفرد والمجتمع، ومن هذه المضار: 1 - كفر من نقض عهد الله: قرن الله سبحانه وتعالى بين الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شك بكفر من نقض عهده مع الله وأخلّ بميثاقه الذي أخذه عليه فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 93]. 2 - الخسران: الخسران عاقبة من نكث بعهده ونقض ميثاقه، قال تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 27]. 3 - اللعن وقسوة القلوب والطبع عليها: قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً [المائدة: 13]. 4 - الإغراء بالعداوة والبغضاء: لما نقض النصارى الميثاق والعهود وبدّلوا دينهم، وضيّعوا أمر الله، أورثهم الله العداوة والبغضاء، قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]. 5 - تحريم الطيبات: عندما نقض بنو إسرائيل الميثاق حرم الله عليهم الطيبات، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء:160]. 6 - القتل والتشريد: ونقض المواثيق تؤدي إلى القتل والتشريد، قال تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأنفال: 56، 57]. 7 - الضلال عن سواء السبيل: لما كفر بنو إسرائيل بالله وخانوا مواثيقه أضلهم الله عن الطريق المستقيم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ [المائدة: 12] ثم قال في آخر الآية بعد تفصيل الميثاق: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة: 12]. 8 - الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة: لما ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل ذكر خيانتهم وغدرهم ونكثهم للعهود والمواثيق، ثم هددهم قائلا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة: 85]. 9 - الجناية على النفس: نقض العهود تعود جناتها على النفس، قال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10] فالناقض لعهده يجني على نفسه ويوبقها، وهذه الآثار هو سببها، وهو حطبها ووقودها (¬1). ¬

(¬1) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص214 - 226).

صور نقض العهد

صور نقض العهد من صور نقض العهد (¬1): 9 - نقض العهد الذي وصى الله به خلقه من فعل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال وترك ما لا يحبه الله ولا يرضاه من الأقوال والأفعال، والذي تضمنته كتبه المنزلة وبلغه رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعنى نقض هذا العهد ترك العمل به. 10 - نقض العهد الذي للإمام ونائبه على المسلمين من وجوب الطاعة في المعروف ونصرة دين الله عز وجل دون مبرر شرعي يقتضي ذلك. 11 - نقض العهد الذي أعطاه الشارع الحكيم للكفار غير المحاربين من أهل الذمة والمستأمنين وكذلك المعاهدين دون مبرر شرعي يقتضي ذلك، قال صلى الله عليه وسلم ((ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفاً)) (¬2). 12 - خلف الموعد بأن يعطي موعداً وفي نيته عدم الوفاء أما إذا أعطى موعداً وفي نيته الوفاء ولم يف لأمر خارج عن إرادته فلا يعد ذلك نقضاً لحديث: ((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)) (¬3). 13 - نقض الحكام والولاة عهد الله بعدم تطبيقهم لشرعه والسير على منهجه. ¬

(¬1) انظر ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح (ص80 - 82). بتصرف. (¬2) رواه الترمذي (1403)، وابن ماجه (2687). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3009). (¬3) رواه أبو داود (4995)، والطبراني في ((الكبير)) (5/ 199). وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (894)، والألباني في ((ضعيف الجامع)) (723).

أسباب الوقوع في نقض العهد

أسباب الوقوع في نقض العهد 8 - ضعف الإيمان بالله. 9 - النسيان. 10 - الحرص على المصالح الدنيوية. 11 - طول الأمد قد يتسبب في نقض العهد كما حصل مع قوم موسى. 12 - عدم وفاء الطرف الآخر بالعهد. 13 - خوف الإنسان من غير خالقه، وتعظيمه.

الوسائل المعينة على ترك نقض العهد

الوسائل المعينة على ترك نقض العهد 8 - إخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى وتقويته. 9 - تأمل الآثار السيئة لنقض العهد على الفرد والمجتمع. 10 - تحلي أفراد المجتمع بالوفاء بالعهد. 11 - تأمل الآيات القرآنية التي حذرت من نقض العهد والميثاق. 12 - ترك الطمع واللهث وراء الدنيا. 13 - مجاهدة النفس وتربيتها على التحلي بالوفاء بالعهد.

مسائل متفرقة حول نقض العهد

مسائل متفرقة حول نقض العهد - من أقوال الحكماء: - قالوا: من نقض عهده، ومنع رفده، فلا خير عنده (¬1). - وقالوا: من علامات النفاق، نقض العهد والميثاق (¬2). - وقالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول (¬3). - وفي بعض الكتب المنزّلة: إن مما تعجّل عقوبته من الذنوب ولا يؤخر: الإحسان يكفر، والذّمة تحفر (¬4). - مثل لناقض العهد في القرآن: وَضرب الله فِي نَاقض الْعَهْد مثلا فَقَالَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ وليبينن لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون [النحل: 92] فَقَالَ مثل الَّذِي نقض الْعَهْد كَمثل الْغَزل الَّتِي نقضت تِلْكَ الْمَرْأَة الحمقاء كان لعمرو بن كعب بن سعد بنت تسمى ريطة وكانت إذا غزلت الصوف أو شيئا آخر نقضته لحمقها فقال ولا تنقضوا أي لا تنكثوا العهود بعد توكيدها كما نقضت تلك الحمقاء غزلها من بعد قوة من بعد إبرامه أنكاثا يعني نقضا فلا هو غزل تنتفع به ولا صوف ينتفع به فكذا الذي يعطي العهد ثم ينقضه لا هو وفى بالعهد إذا أعطاه ولا هو ترك العهد فلم يعطه وضرب مثلا آخر لناقض العهد فقال وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا وتذوقوا السوء بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله وَلكم عَذَاب عَظِيم [النحل: 94] أي عهودكم بالمكر والخديعة فتزل قدم بعد ثبوتها يقول إن ناقض العهد يزل في دينه عن الطاعة كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة (¬5). - نار الحلف في الجاهلية: كانوا – في الجاهلية- إذا أرادوا عقد حلف أوقدوا النار وعقدوا الحلف عندها، ويذكرون خيرها، ويدعون بالحرمان من خيرها على من نقض العهد، وحلّ العقد. قال العسكري (وإنما كانوا يخصّون النار بذلك لأن منفعتها تختص بالإنسان، لا يشاركه فيها شيء من الحيوان غيره) (¬6). قال الزمخشري: كانوا يوقدون ناراً عند التحالف، فيدعون الله بحرمان منافعها، وإصابة مضارها على من ينقض العهد، ويخيس بالعقد، ويقولون في الحلف: الدم الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شداً، وطول الليالي إلا مداً، ما بل بحر صوفة، وما أقام رضوى بمكانه (¬7). - نقض العهد عند اليهود: إن تاريخ اليهود مليء بصفحاته السوداء التي تحكي موقفهم من العهود والمواثيق، فكم من مرة نقض اليهود عقوداً عقدوها، ومواثيق أبرموها، فلا يحفظون لأحد عهداً، ولا يرعون له وعداً، والقرآن الكريم سطر لنا الكثير من المواقف التي نقض فيها اليهود، العهود والمواثيق مع الأنبياء والمرسلين، ولم يحترموا عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بل نقضوها وحاولوا قتله أكثر من مرة، كما حاولوا إشعار نار الفتنة بين صفوف المسلمين. قال ابن تيمية: (إن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود وهم: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وكان بنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج وكانت قريظة حلفاء الأوس فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى أنه عاهد اليهود على أن يعينوه إذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة) (¬8). وقال ابن إسحاق: وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنّ بني قينقاع كانوا أوّل يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. قال ابن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: كان من أمر بني قينقاع أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصّائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلمّا قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصّائغ فقتله وكان يهوديّا وشدّ اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشّرّ بينهم وبين بني قينقاع (¬9). ¬

(¬1) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬2) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬3) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬4) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 364). (¬5) ((الأمثال من الكتاب والسنة)) للحكيم الترمذي (ص34 - 35). (¬6) ((صبح الأعشى في صناعة الإنشا)) للقلقشندي (1/ 466). (¬7) ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) (1/ 155). (¬8) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص62). (¬9) ((السيرة النبوية)) لابن هشام (2/ 48).

نقض العهد في واحة الشعر ..

نقض العهد في واحة الشعر .. قال كعب بن زهير: لشتان من يدعو فيوفي بعهده ... ومن هو للعهد المؤكد خالع (¬1) وقال المعري: تجنب الوعد يوماً أن تفوه به ... فإن وعدت فلا يذممك إنجاز واصمت فإن كلام المرء يهلكه ... وإن نطقت فإفصاح وإيجاز وإن عجزت عن الخيرات تفعلها ... فلا يكن دون ترك الشر إعجاز (¬2) وقال الغطفانيّ: أسميّ ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللّواء لنا، بها في مجمع (¬3) وقال كعب بن مالك: فدونَكَ واعلمْ أنّ نقض عهودِنا ... أباه الملا منا الذين تبايعوا أباه البراءُ وابنُ عمروٍ كلاهما ... وأسعدُ يأباه عليكَ ورافعُ (¬4) وقال آخر: نقض العهد خائس بالأمان ... مستحل محارم الرحمن سلبتنا الوفاء والحلم طوعا ... فاعتلينا به بنو مروان ليتني كنت فيهم حسب العي ... ش طليقا أجر حبل الأماني كل عتب تعيرنيه الليالي ... فبسيفي جنيته ولساني (¬5) وقال آخر: النَّاس من الْهوى على أَصْنَاف ... هَذَا نقض الْعَهْد وَهَذَا واف هَيْهَات من الكدور تبغي الصافي ... لَا يصلح للحضرة قلب جَاف (¬6) وقال آخر: يا بني الإسلام من علمكم ... بعد إذ عاهدتم نقض العهود كل شيء في الهوى مستحسن ... ما خلا الغدر وإخلاف الوعود (¬7) ... ¬

(¬1) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص550). (¬2) ((مجمع الحكم والأمثال)) لأحمد قبش (ص550). (¬3) ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء)) للراغب (1/ 354). (¬4) ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (2/ 161). (¬5) ((أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم)) للصولي (ص308). (¬6) ((المدهش)) لابن الجوزي (ص 385). (¬7) ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص 63).

النميمة

معنى النميمة لغة واصطلاحاً معنى النميمة لغة: النَّمُّ: التوريشُ والإغْراءُ ورَفْع الحديثِ على وجه الإشاعةِ والإفْسادِ. وقيل تَزْيينُ الكلام بالكذب. قال أَبو بكر: قال أَبو العباس: النَّمّام معناه في كلام العرب الذي لا يُمْسِك الأَحاديثَ ولم يَحْفَظْها. ويقال للنَّمَّام القَتّاتُ يقال: قَتَّ إذا مشى بالنَّميمة (¬1)، وَنَمَّامٌ مُبَالَغَةٌ وَالِاسْمُ النَّمِيمَةُ (¬2). معنى النميمة اصطلاحاً: النميمة: (نَقْلُ الحديث من قومٍ إلى قوم على جهة الإفْسادِ والشَّرِّ) (¬3). وعرفها الغزالي بقوله: (إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه) (¬4). وقيل هي: (التحريش بين الناس والسعي بينهم بالإفساد) (¬5). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 592). (¬2) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 626). (¬3) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 592)، ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (5/ 256). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156). (¬5) ((فتاوى إسلامية)) لمجموعة من العلماء (4/ 70).

الفرق بين النميمة وبعض الصفات

الفرق بين النميمة وبعض الصفات الفرق بين الغيبة والنميمة قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: (واختُلِفَ في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان: والراجع التغاير وأن بينهما عموماً وخصوصاً وجيهاً. وذلك؛ لأن النميمة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه. والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه فامتازت النميمة بقصد الإفساد ولا يشترط ذلك في الغيبة. وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه واشتركا في ما عدا ذلك. ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً والله أعلم) (¬1). وقال ابن حجر الهيتمي: (كل نميمة غيبة، وليس كل غيبة نميمة، فإن الإنسان قد يذكر عن غيره ما يكرهه، ولا إفساد فيه بينه وبين أحد، وهذا غيبة، وقد يذكر عن غيره ما يكرهه وفيه إفساد، وهذا غيبة، ونميمة معاً) (¬2). الفرق بين القتات والنمام (قال الحافظ القتات والنمام بمعنى واحد. وقيل: النمام الذي يكون مع جماعة يتحدثون حديثا فينم عليهم. والقتات: الذي يتسمع عليهم وهم لا يعلمون ثم ينم) (¬3). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 473). (¬2) ((تطهير العيبة من دنس الغيبة)) لابن حجر الهيتمي (ص45). (¬3) ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (3/ 323).

ذم النميمة والنهي عنها في القرآن والسنة

ذم النميمة والنهي عنها في القرآن والسنة ذم النميمة والنهي عنها من القرآن الكريم: - قال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10 - 13]. نجد بأن الله سبحانه وتعالى أورد عدة صفات للنمام في هذه الآية، وهي كما يلي: 1 - حلاف: أي أن النمام كثير الحلف، وهو يعلم أن الناس لا يثقون به ولا يصدقونه لأنه كاذب، فهو بذلك يكثر الحلف ليدفع عن نفسه الكذب، يستقطب ثقة الناس بها. 2 - مهين: فالنمام هين في نفسه هين عند الآخرين، فلا يحترمه أحد. 3 - هماز: يعيب الناس ويهمزهم بالقول والإشارة. 4 - مشاء بنميم: أي كثير المشي بالنميمة بين الناس، وبما يفسد معيشتهم وقلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب محبتهم لبعضهم. 5 - مناع للخير: كثير المنع للخير عن نفسه وعن الآخرين، بل حتى منع عن نفسه الإيمان فلم يصل إلى قلبه. 6 - معتد: تجاوز العدل والحق. وهو يعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. 7 - أثيم: أي يعمل الآثار ويرتكب الذنوب والمعاصي. 8 - عتل: أي شديد الفضاضة والقسوة، أي أنه شخص كريه من جميع الجوانب. 9 - زنيم: أي أنه مشهور بخبثه ولؤمه وشره. قال ابن حجر: (أي: دعيٍّ، واستنبط منه ابن المبارك أنّ ولد الزّنا لا يكتم الحديث، فعدم كتمه المستلزم للمشي بالنّميمة دليلٌ على أنّ فاعل ذلك ولد زنا) (¬1). - وَقَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1]. (قيل: اللّمزة: النّمّام. عن أبي الجوزاء، قال: قلت لابن عباس: من هؤلاء هم الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون أكبر العيب) (¬2). وقال مقاتل: (فأما «الهمزة» فالذي ينم الكلام إلى الناس وهو النمام) (¬3). - وَقَالَ تَعَالَى: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]. (قيل كانت نمّامةٌ حمّالةٌ للحديث إفسادًا بين النّاس، وسمّيت النّميمة حطبًا؛ لأنّها تنشر العداوة بين النّاس كما أنّ الحطب ينشر النّار. قال مجاهد: يعني حمالة النميمة، تمشي بالنميمة) (¬4). - وَقَالَ تَعَالَى: فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا [التحريم:10]. (أي؛ لأنّ امرأة نوحٍ كانت تقول عنه مجنونٌ، وامرأة لوطٍ كانت تخبر قومها بضيفانه حتّى يقصدوهم لتلك الفاحشة القبيحة الّتي اخترعوها حتّى أهلكتهم بذلك العذاب الفظيع) (¬5). ذم النميمة والنهي عنها من السنة النبوية: - عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة نمام))، وفي رواية ((قتات)) (¬6). وبيّن ابن الملقن المراد بعدم دخول الجنة للنمام بقوله: (وحمل على ما إذا استحل بغير تأويل مع العلم بالتحريم، أو لا يدخلها دخول الفائزين) (¬7). قال ابن بطال: (قال أهل التأويل: الهماز الذي يأكل لحوم الناس، ويقال: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت. والقتات: النمام عند أهل اللغة) (¬8). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر) لابن حجر الهيتمي (2/ 34). (¬2) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (24/ 596). (¬3) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 839). (¬4) ((تفسير مجاهد)) لمجاهد بن جبر (ص759). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 34). (¬6) رواه مسلم (105). (¬7) ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (1/ 531). (¬8) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 249).

- وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: إنّ محمّداً صلى الله عليه وسلّم قال: ((ألا أنبّئكم ما العضة؟ هي النّميمة القالة بين النّاس)). وإنّ محمّداً صلى الله عليه وسلّم قال: ((إنّ الرّجل يصدق حتّى يكتب صدّيقاً، ويكذب حتّى يكتب كذّاباً)) (¬1). قال المناوي: ((القالة بَين النَّاس)): أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بينهما فيما يحكى للبعض عن البعض وقيل القالة بمعنى المقولة وزعم بعضهم أن القالة هنا جمع وهم الذين ينقلون الكلام ويوقعون الخصومة بين الناس) (¬2). وقال ابن عثيمين: (هي النميمة: أن ينقل الإنسان كلام الناس بعضهم في بعض من أجل الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب) (¬3). - وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: ((مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)) (¬4). قال ابن بطال: (ومعنى الحديث: الحض على ترك النميمة) (¬5). وقال ابن دقيق العيد: (فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ النَّمِيمَةِ، وَأَنَّهَا سَبَبُ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّمِيمَةِ الْمُحَرَّمَةِ) (¬6). وقال الشوكاني: (وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ النَّمِيمَةِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ) (¬7). ¬

(¬1) روى مسلم شطره الأول (2606)، ورواه أحمد بتمامه (1/ 437) (4160). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 133). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 147). (¬4) رواه البخاري (6052)، ومسلم (292). (¬5) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/ 346). (¬6) ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/ 104). (¬7) ((نيل الأوطار)) للشوكاني (1/ 121).

أقوال السلف والعلماء في ذم النميمة

أقوال السلف والعلماء في ذم النميمة - قال رجل لعمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: (يا أمير المؤمنين، احذر قاتل الثّلاثة، قال: ويلك، من قاتل الثّلاثة؟ قال: الرّجل يأتي الإمام بالحديث الكذب، فيقتل الإمام ذلك الرّجل بحديث هذا الكذّاب، ليكون قد قتل نفسه، وصاحبه، وإمامه) (¬1). - وقيل لمحمد بن كعب القرظي: أي خصال المؤمن أوضع له؟ فقال: كثرة الكلام، وإفشاء السر، وقبول قول كل أحد (¬2). - وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري، فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت فيّ، وقلت كذا وكذا فقال الرجل ما فعلت ولا قلت فقال سليمان إن الذي أخبرني صادق فقال له الزهري لا يكون النمام صادقاً فقال سليمان صدقت ثم قال للرجل اذهب بسلام. - وقال الحسن: من نم إليك نم عليك) (¬3). - وعن عطاء بن السّائب؛ قال: قدمت من مكّة، فلقيني الشّعبيّ، فقال: يا أبا زيدٍ! أطرفنا ممّا سمعت بمكّة؟ فقلت: سمعت عبد الرّحمن بن سابطٍ يقول: لا يسكن مكّة سافك دمٍ، ولا آكل ربًا، ولا مشّاءٍ بنميمةٍ، فعجبت منه حين عدل النّميمة بسفك الدّم وأكل الرّبا، فقال الشّعبيّ: وما يعجبك من هذا؟! وهل يسفك الدّم وتركب العظائم إلّا بالنّميمة؟! (¬4). - وقال أبو موسى الأشعري: لا يسعى على الناس إلا ولد بغي (¬5). - وسعى رجل إلى بلال بن أبي بردة برجل، وكان أمير البصرة، فقال له: انصرف حتى أكشف عنك، فكشف عنه، فإذا هو لغير رشده، يعني ولد زنا) (¬6). - وعن شبيل بن عوف، قال: كان يقال: (من سمع بفاحشة، فأفشاها فهو كالذي أبداها) (¬7). - وقال قتادة ذكر لنا أنّ عذاب القبر ثلاثة أثلاثٍ: (ثلثٌ من الغيبة، وثلثٌ من البول، وثلثٌ من النّميمة) (¬8). - وقال ابن حزم: (وما في جميع الناس شر من الوشاة، وهم النمامون، وإن النميمة لطبع يدل على نتن الأصل، ورداءة الفرع، وفساد الطبع، وخبث النشأة، ولابد لصاحبه من الكذب؛ والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكل نمام كذاب) (¬9). - وقال السيوطي: (قد ذكر بعضهم السر في تخصيص البول، والنميمة، والغيبة بعذاب القبر وهو أن القبر أول منازل الآخرة، وفيه أنموذج ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب والمعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان: حق لله وحق لعباده، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، وأما البرزخ فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة والوقيعة في الأعراض وهما أيسر أنواع الأذى فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما. انتهى) (¬10). - وقال أبو موسى عمران بن موسى المؤدب: (وفد على أنوشروان حكيم الهند، وفيلسوف الروم، فقال للهندي: تكلم. فقال: يا خير الناس، من ألقى سخياً، وعند الغضب وقوراً، وفي القول متأنياً، وفي الرفعة متواضعاً، وعلى كل ذي رحم مشفقاً. وقام الرومي، فقال: من كان بخيلاً ورث عدوه ماله، ومن قل شكره لم ينل النجاح، وأهل الكذب مذمومون، وأهل النميمة يموتون فقراء، فمن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه) (¬11). - ويقال: (عمل النمام أضر من عمل الشيطان، فإن عمل الشيطان بالوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة) (¬12). - وقيل: (النّميمة من الخصال الذّميمة تدلّ على نفسٍ سقيمةٍ وطبيعةٍ لئيمةٍ مشغوفةٍ بهتك الأستار وكشف الأسرار) (¬13). ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 289) (16677)، والخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (ص107). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 157). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156). (¬4) ((المجالسة وجواهر العلم)) لأبي بكر الدينوري (3/ 63). (¬5) رواه الخرائطي في ((اعتلال القلوب)) (2/ 254)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 53) (6248) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، مرفوعا. (¬6) ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (1/ 547). (¬7) ((ذم الغيبة والنميمة)) لابن أبي الدنيا (ص: 98 - 99) (¬8) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 18). (¬9) ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص173). (¬10) ((الحاوي للفتاوى)) للسيوطي (2/ 181). (¬11) ((مساوئ الأخلاق)) للخرائطي (ص167). (¬12) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 571). (¬13) ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 193).

حكم النميمة

حكم النميمة النميمة محرمة في الكتاب والسنة والإجماع، وهي من كبائر الذنوب. قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) (¬1). وقال العلامة ابن باز: (وهي من الكبائر ومن أسباب البغضاء والشحناء بين المسلمين، فالواجب الحذر منها) (¬2). وقال الشيخ ابن عثيمين: (والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (105) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (¬2) ((فتاوى نور على الدرب لابن باز)) جمع: محمد الشويعر (14/ 125). (¬3) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) جمع وترتيب: فهد السليمان (9/ 524).

أقسام النميمة

أقسام النميمة وللنميمة ثلاثة أقسام وهي كما يلي: 1 - النميمة المحرمة: وهي التي يكون الكلام فيها سلبي يلحق الضرر بالآخرين، وذلك بذكر أسرارهم الخاصة وسرد فضائحهم ومساوئهم. 2 - النميمة الواجبة: وهي التي تكون للتحذير من شر واقع على إنسان ما، فيُخبر بذلك الشر ليحذره. وقال ابن الملقن وهو يتحدث عن النميمة: (أما إذا كان فعلها نصيحة في ترك مفسدة أو دفع ضرر، وإيصال خير يتعلق بالغير لم تكن محرمة ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة أو مستحبة) (¬1). قال النووي: (وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهي مستحبة أو واجبة كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذره منه) (¬2). 3 - النميمة المباحة: قال ابن كثير وهو يتحدث عن النميمة: (فأما إذا كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث: ((ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا)) (¬3)، أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: ((الحرب خدعة)) (¬4)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة) (¬5). قال النّوويّ: (فلو دعت إلى النّميمة حاجةٌ فلا منع منها، كما إذا أخبره أنّ إنسانًا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله، أو أخبر الإمام أو من له ولايةٌ بأنّ فلانًا يسعى بما فيه مفسدةٌ، ويجب على المتولّي الكشف عن ذلك) (¬6). وقسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قسمةً، فقال رجلٌ من الأنصار: والله ما أراد محمّدٌ بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعّر وجهه، وقال: ((رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (¬7). قال ابن بطال: (في هذا الحديث من الفقه أنه يجوز للرجل أن يخبر أهل الفضل والستر من إخوانه بما يقال فيهم مما لايليق بهم، ليعرفهم بذلك من يؤذيهم من الناس وينقصهم، ولا حرج عليه في مقابلته بذلك وتبليغه له. وليس ذلك من باب النميمة؛ لأن ابن مسعود حين أخبر النبي عليه السلام بقول الأنصاري فيه وتجويره له في القسمة، لم يقل له: أتيت بما لايجوز، ونمت الأنصاري والنميمة حرام، بل رضي ذلك عليه السلام، وجاوبه عليه بقوله: ((يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (¬8)، وإنما جاز لابن مسعود نقل ذلك إلى النبي عليه السلام لأن الأنصاري في تجويره للنبي -عليه السلام- استباح إثمًا عظيمًا وركب جرمًا جسيمًا، فلم يكن لحديثه حرمة، ولم يكن نقله من باب النميمة) (¬9). ¬

(¬1) ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (1/ 531). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 473). (¬3) رواه بمعناه البخاري (2692)، ومسلم (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها. (¬4) رواه البخاري (3030)، ومسلم (1739) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 371). (¬6) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 197). (¬7) رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (3405)، ومسلم (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬9) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 252).

أسباب الوقوع في النميمة

أسباب الوقوع في النميمة هناك العديد من الأسباب التي تؤدي بالفرد للوقوع في دنس النميمة ومن هذه الأسباب: 1 - أن ينشأ الفرد في بيئة دأبها النميمة والوقيعة بين الناس، فيحاكيها ويتأثر بها. 2 - الإساءة للآخرين وإيقاع الإيذاء بهم، وهذه شهوة العدوانية في قلوب الأشرار. 3 - التظاهر بمحبة المحكي له وكسب وده. 4 - الخوض في الباطل وفضول الحديث للترويح عن النفس. 5 - إقامة روابط اجتماعية مع الآخرين، لكنها بطريقة سلبية على حساب سمعة الآخرين. 6 - عدم ردع النمام وزجره بل استحسان عمله ومسايرته. 7 - وجود الفراغ في حياة الفرد، فيشغل وقته بالحديث عن الآخرين وذكر مساوئهم. 8 - الغضب للانتقام من شخص ما وتشويه سمعته. 9 - تتبع عورات الناس وحب الاطلاع عليها. 10 - العمل لصالح أفراد أو جهات مشبوهة. 11 - ضعف الإيمان في قلب النمام وعدم الخوف من الله ونسيان عذاب القبر وعذاب النار. 12 - جهل النمام بالعواقب السيئة للنميمة التي تعود على الفرد والمجتمع. 13 - الحسد للآخرين، وعدم حب الخير لهم.

آثار ومضار النميمة

آثار ومضار النميمة للنميمة آثارها السيئة وأضرارها الجسيمة التي تعود على الفرد وتؤثر عليه في دنياه وأخراه، ومن هذه الآثار: 1 - طريق موصّل إلى النّار. 2 - تذكي نار العداوة بين المتآلفين. 3 - تؤذي وتضرّ، وتؤلم، وتجلب الخصام والنّفور. 4 - تدلّ على سوء الخاتمة، وتمسخ حسن الصّورة. 5 - عنوان الدّناءة والجبن والضّعف والدّسّ والكيد والملق والنّفاق. 6 - مزيلة كلّ محبّة ومبعدة كلّ مودّة وتآلف وتآخ (¬1). 7 - عار على قائلها وسامعها. 8 - تحمل على التجسس وتتبع أخبار الآخرين. 9 - تؤدي إلى قطع أرزاق الآخرين. 10 - تفرق وتمزق المجتمعات الملتئمة. 11 - النميمة تأتي بثلاث جنايات: ذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه، فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه؛ فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة، وأتيت بثلاث جنايات: بغضت أخي إليّ، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة (¬2). 12 - النميمة تحلق الدين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) (¬3). 13 - النميمة تمنع نزول القطر من السماء: وروى كعبٌ: أنّه أصاب بني إسرائيل قحطٌ، فاستسقى موسى - صلّى الله وسلّم على نبيّنا وعليه - مرّاتٍ فما أجيب، فأوحى الله - تعالى - إليه أنّي لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمّامٌ، قد أصرّ على النّميمة، فقال موسى: يا ربّ من هو حتّى نخرجه من بيننا؟ فقال يا موسى: أنهاكم عن النّميمة وأكون نمّامًا، فتابوا بأجمعهم فسُقُوا (¬4). 14 - النميمة تجعل صاحبها ذليل وحقير: اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلما قدم عليه قال إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم، أخبرني عن السماء وما أثقل منها؟ وعن الأرض وما أوسع منها؟ وعن الصخر وما أقسى منه؟ وعن النار وما أحر منها؟ وعن الزمهرير وما أبرد منه؟ وعن البحر وما أغنى منه؟ وعن اليتيم وما أذل منه؟ فقال له الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السموات، والحق أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم (¬5). 15 - النمام لا يستريح من عذاب القبر: عن يزيد بن كعب رضي الله عنه قال: (اتقوا النميمة فإن صاحبها لا يستريح من عذاب القبر) (¬6). 16 - النميمة تحرم صاحبها دخول الجنة: حدثنا نصر بن داود، ثنا سعيد بن منصور، ثنا خالد بن عبد الله، عن سليمان التيمي، عن سيار بن سلامة، عن أبي إدريس عائذ الله قال: (من تتبع الأحاديث يحدث بها الناس لم يجد رائحة الجنة). قال خالد: (يعني النميمة) (¬7). 17 - النميمة توجب دخول النار: عن أبي العالية، أو غيره قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني البارحة رجلان فاكتنفاني، فانطلقا بي حتى أتيا بي على رجل في يده كلاب، يدخله في فيّ رجل، فيشق شدقه حتى يبلغ لحييه، فيعود فيأخذ فيه فقلت: من هذا؟ قال: هم الذين يسعون بالنميمة)) (¬8). 18 - النميمة تفسد الدنيا والدين: قال أبو الفرج ابن الجوزي: النميمة تفسد الدين والدنيا، وتغيّر القلوب، وتولّد البغضاء، وسفك الدماء، والشتات (¬9). ¬

(¬1) ((نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)) لعدد من المختصين (11/ 5671). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156). (¬3) رواه أبو داود (4919)، الترمذي (2509) واللفظ له، وأحمد (6/ 444) (27548) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((غاية المرام)) (ص237). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) (1/ 307). (¬5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156). (¬6) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص161)،وابن وهب في ((جامعه)) (ص553) من قول كعب. (¬7) رواه الخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (ص107). (¬8) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص158) من حديث أبي العالية رحمه الله مرسلا. (¬9) ((بحر الدموع)) لابن الجوزي (ص129).

فوائد ترك النميمة

فوائد ترك النميمة لترك النميمة فوائد عديدة نذكر منها: - تارك النميمة من أفضل المسلمين: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬1). - ترك النميمة يدخل الجنة: عن سهل بن سعد: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (11)، مسلم (42). (¬2) رواه البخاري (6474).

علاج النميمة

علاج النميمة وبما أننا وقفنا على دوافع النميمة وأضرارها، وأدركنا عواقب وآثار هذا المرض على الفرد والمجتمع، فمن السهل علينا أن نحدد العلاج له والوقاية منه وذلك بالتالي: 1 - توعية النمام بخطورة النميمة. 2 - استشعار عظمة هذه المعصية وأنها من الكبائر. 3 - حفظ اللسان عن النميمة، وعدم تتبع عورات الآخرين. 4 - تصور خطر المصيبة التي يقترفها بإفساده للقلوب وتفريقه بين الأحبة. 5 - التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكثرة الأعمال الصالحة وتقديم رضاه على رضا المخلوقين. 6 - استشعار الفرد أن حفظ اللسان عن النميمة يكون سبباً في دخوله الجنة. 7 - تقوية الإيمان بالعلم النافع والعمل الصالح. 8 - عدم السماع لكلام النمام الذي ينم به عن الآخرين. 9 - تربية الفرد تربية إسلامية سليمة قائمة على الآداب والتعاليم الإسلامية. 10 - إحراج النمام بأن يطلب منه ذكر محاسن الذي وقعت عليه النميمة. 11 - استغلال وقت الفراغ، بما ينفع الفرد ويقوي إيمانه ويقربه إلى الله سبحانه وتعالى، من طاعات وعبادات وعلم وتعلم. 12 - قناعة الفرد بما رزقه الله، ويقصر أمره في الدنيا، ويعلم أنه منتقل إلى الدار الآخرة. 13 - أن يوقن الفرد أنه بتتبعه عورة الناس يتتبع الله عورته ويفضحه ولو في عقر داره. 14 - كظم الغيظ والصبر على الغضب، كي لا يكونا دافعاً للنميمة. 15 - التأمل في سيرة السلف والاقتداء والتأسي بهم في طريقة مقاومتهم للنميمة والنمامين. 16 - أن يعلم الفرد أن الذين ينم عليهم اليوم هم خصماؤه عند الله يوم القيامة. 17 - أن يتذكر النمام أن قدوته وسلفه في النميمة امرأة نوح وامرأة لوط اللتين حكم الله لهما بالنار، وكذلك الوليد بن المغيرة الذي هو من أكبر عتاولة المشركين الذي مصيره النار. 18 - الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى النميمة. 19 - معاقبة أولي الأمر للنمامين وزجرهم وتخويفهم فإن لم ينتهوا عزروهم. 20 - مقاطعة النمام وعدم مجالسته إن لم يتب من هذا المرض الخطير.

حكم وأمثال في النميمة

حكم وأمثال في النميمة - في المثل: (النّميمة أرثة العداوة) (¬1). - (وقيل في منثور الحكم: النّميمة سيفٌ قاتلٌ. - وقال بعض الأدباء: لم يمش ماشٍ شرٌّ من واشٍ. - وقال بعض الحكماء: السّاعي بين منزلتين قبيحتين: إمّا أن يكون صدق فقد خان الأمانة، وإمّا أن يكون قد كذب فخالف المروءة. - وقال بعض الحكماء: الصّدق يزيّن كلّ أحدٍ إلّا السّعاة، فإنّ السّاعي أذمّ وآثم ما يكون إذا صدق) (¬2). - (وقال بعض الحكماء: احذروا أعداء العقول ولصوص المودات وهم السعاة والنمامون إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات. - وفي المثل السائر: من أطاع الواشي ضيع الصديق وقد تقطع الشجرة فتنبت ويقطع اللحم السيف فيندمل واللسان لا يندمل جرحه) (¬3). ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 93). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص268). (¬3) ((المستطرف)) لشهاب الدين الأبشيهي (1/ 192).

مسائل متفرقة حول النميمة

مسائل متفرقة حول النميمة - موقفنا من سماع النميمة: عندما نسمع أحداً يتكلم في أعراض الناس، وينم عليهم فيجب علينا نصحه وزجره عن ذلك، فإن لم ينته فعلينا عدم الجلوس معه؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. وقوله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬1). ثم احذر النميمة وسماعها، وذلك أن الأشرار يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء فيوهمونهم النصيحة، وينقلون إليهم في عرض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرفة مموهة، حتى إذا تجاسروا عليهم بالحديث المختلق يصرحون لهم، بما يفسد موداتهم ويشوه وجوه أصدقائهم، إلى أن يبغض بعضهم بعضاً (¬2). - ماذا يكون موقف من حملت إليه النميمة؟ قال ابن حجر: (وكل من حملت إليه النميمة وقيل له: إن فلاناً قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا، أو هو يدبر في إفساد أمرك، أو في ممالاة عدوك أو تقبيح حالك، أو ما يجري مجراه؛ فعليه ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه؛ لأن النمام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات: 6]. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له، ويقبح عليه فعله، قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان: 17]. الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس والبحث لتحقق اتباعاً لقول الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]. السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته؛ فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماماً ومغتاباً، وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت) (¬3). (وجاء رجل إلى علي بن الحسين -رضي الله عنهما- فنمَ له عن شخص، فقال: اذهب بنا إليه، فذهب معه، وهو يرى أنه ينتصر لنفسه، فلما وصل إليه قال: يا أخي إن كان ما قلت فيّ حقاً يغفر الله لي، وإن كان ما قلتَ فيّ باطلاً يغفر الله لك) (¬4). (وقال الحسن: من نم لك نم عليك، وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يؤتمن، ولا يوثق بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والقذف والخيانة والغل والحسد والإفساد بين الناس والخديعة؟ وهو ممن سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) (¬5). - قصة نمام: ¬

(¬1) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص175). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156). (¬4) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 571). (¬5) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 573).

قال حماد بن سلمة: باع رجل عبداً، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة قال رضيت فاشتراه، فمكث الغلام أياماً، ثم قال لزوجة مولاه إن سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموس واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات، حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالموس، فظن أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين (¬1). - النميمة تقتل صاحبها: قال صاحب بدائع السلك في طبائع الملك: (كان رجل يغشي بعض الملوك، فيقوم بحذاء الملك، ويقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك، ويقول ما يقول يزعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك، فإذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له الملك: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه، مخافة أن يشتم الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا وقد صدق، وكان الملك لا يكتب بخطه إلا جائزة أو صلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا، فاذبحه، واسلخه، واحش جلده تبنا، وابعث به إليّ، فأخذ الرجل الكتاب، وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه، ومضى إلى العامل، فقال العامل: في كتابك: أن أذبحك، وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه، وسلخه، وحشا جلده تبناً، وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان، فاستوهبني إياه، فوهبته له، فقال الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: كان أطعمني طعاماً فيه ثوم، فكرهت أن تشمه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفاك المسيء مساوئه) (¬2). - خدمٌ في بريد الشيطان: (سعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك، فجمع بينهما للموافقة، فأقبل زياد على الرجل وقال: فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم وقال رجل لعمرو بن عبيد إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر فقال له عمرو يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعلمه أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته فوقع على ظهرها السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أفضل من الربح ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب الميت رحمه الله واليتيم جبره الله والمال ثمره الله والساعي لعنه الله) (¬3). بمثل هذا الأسلوب السامي نقف في وجوه هؤلاء الذين اعتادوا على نقل الكلام، ونشر ما يقال في المجالس، ونحد من نشاطهم، ونقطع الطريق عليهم. - وصية: (قال لقمان لابنه يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك) (¬4). - فائدة: قال بعض العلماء: يُفسدُ النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر، ولترغيب الشارع في الإصلاح بين الناس أباح الكذب فيه، ولزجره على الإفساد حرم الصدق فيه (¬5). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 158). (¬2) ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي (ص533 - 534). (¬3) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 157). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 156 - 157). (¬5) ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (1/ 545).

ذم النميمة في واحة الشعر ..

ذم النميمة في واحة الشعر .. قال أحد الشعراء: تنح عن النميمة واجتنبها ... فإن النمّ يحبط كل أجر يثير أخو النميمة كل شر ... ويكشف للخلائق كل سر ويقتل نفسه وسواه ظلماً ... وليس النم من أفعال حر ولقد أحسن من قال: عجبت لواش ظل يكشف أمرنا ... وما بسوى أخبارنا يتنفس وماذا عليه من عنائي ولوعتي ... أنا آكل الرمان والولد تضرس ورحم الله من قال: وفي النّاس من يغري الورى بلسانه ... وبين البرايا للنّميمة يحمل يرى أنّ في حمل النّميمة مكسبًا ... تراه بها بين الورى يتأكّل وقال آخر: ويحرم بهت واغتيابٌ نميمة ... وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ ورحم الله الحسن البصري حين قال: لا تفش سراً ما استطعت إلى امرئ ... يفشي إليك سرائراً يستودع فكما تراه بسر غيرك صانعاً ... فكذا بسرك لا أباً لك يصنع وقال آخر: لا تقبلن نميمة بُلِّغتها ... وتحفَظَّن من الذي أنبأكها إن الذي أهدى إليك نميمة ... سينم عنك بمثلها قد حاكها ورحم الله من قال: من نم في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسيل بالليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه الويل للعهد منه كيف ينقضه ... والويل للود منه كيف يفنيه وقال آخر: إذا الواشي نعى يوماً صديقاً ... فلا تدع الصديق لقول واشي وقال وضاح اليمن: فاعص الوشاة فإنما ... قول الوشاة هو الفتن إن الوشاة إذا أتوك ... تنصحوا ونهوك عن وقال آخر: يسعى عليك كما يسعى إليك فلا ... تأمن غوائل ذي وجهين كياد وقال صالح بن عبد القدوس رحمه الله تعالى: من يخبرك بشتم عن أخ ... فهو الشاتم لا من شتمك ذاك شيء لم يواجهك به ... إنما اللوم على من أعلمك وقال آخر: إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا ... شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا وقال آخر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ...

وأخيرا:

وأخيراً: إياك أخي أن تكون ممن يعمل في بريد الشيطان، فتزرع العداوة بين الإخوان، وتغضب الرحمن، فتحرم دخول الجنان. وإياك أن تكون ممن يباعد بين حبيبين أو يشعل النار بين صديقين. وإياك إياك أن تقع فريسة للنميمة، فهي لا تترك وحدة إلا فرقتها، ولا مودة إلا أفسدتها، ولا ضغينة إلا أشعلتها، ولا عداوة إلا جددتها. فهلا فهمنا معنى النميمة وعرفناها حق المعرفة؟؟

اليأس والقنوط

معنى اليأس والقنوط لغة واصطلاحاً معنى اليأس لغة واصطلاحاً معنى اليأس لغة: (اليأس: القنوط، وقيل: اليأس نقيض الرجاء أو قطع الأمل، يئس من الشيء ييأس وييئس؛ والمصدر اليأس واليآسة واليأس، وقد استيأس وأيأسته وإنه ليائس ويئس ويؤوس ويؤس، والجمع يؤوس) (¬1) معنى اليأس اصطلاحاً: قال العسكري: (اليأس: انقطاع الطمع من الشيء) (¬2). وقال ابن الجوزي: (اليأس: القطع على أن المطلوب لا يتحصل لتحقيق فواته) (¬3). معنى القنوط لغة واصطلاحاً معنى القنوط لغة: قال ابن منظور: (القُنُوط: اليأْس، وَفِي التَّهْذِيبِ: اليأْس مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: أَشدّ اليأْس مِنَ الشَّيْءِ. والقُنُوط، بِالضَّمِّ، الْمَصْدَرُ. وقَنَط يَقْنِطُ ويَقْنُطُ قُنُوطاً مِثْلَ جلَس يجلِس جُلوساً، وقَنِطَ قَنَطاً وَهُوَ قانِطٌ: يَئِسَ؛ وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: قَنَطَ يَقْنَطُ كأَبى يَأْبَى، وَالصَّحِيحُ مَا بدأْنا بِهِ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ قَنِطَ يَقْنَطُ قَنَطاً، مِثْلَ تعِب يَتْعَب تَعَبًا، وقَناطة، فَهُوَ قَنِطٌ؛ وَقُرِئَ: وَلَا تَكُنْ مِنَ القاَنِطِين) (¬4). معنى القنوط اصطلاحاً: قال المناوي: (القنوط: اليأس من الرحمة) (¬5). وقال الشوكاني: (القنوط: الإياس من الرحمة) (¬6). وقال صاحب (اللباب في علوم الكتاب): (القنوط: شدة اليأس من الخير) (¬7). ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (6/ 259 - 260)، ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (1/ 582)، ((جمهرة اللغة)) لأبي بكر الأزدي (1/ 238) بتصرف يسير. (¬2) ((معجم الفرووق اللغوية)) للعسكري (1/ 436). (¬3) ((نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) لابن الجوزي (1/ 633). (¬4) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 386). (¬5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص: 275). (¬6) ((فتح القدير)) الشوكاني (4/ 260). (¬7) ((اللباب في علوم الكتاب)) ابن عادل (11/ 471)، ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد))، الواحدي (3/ 47).

الفرق بين اليأس والقنوط والخيبة:

الفرق بين اليأس والقنوط والخيبة: الفرق بين اليأس والقنوط: أكثر العلماء على أنهما بمعنى واحد (¬1).ويرى البعض وجود اختلاف بينهما (¬2). الفرق بين اليأس والخيبة: 1 - الخيبة لا تكون إلا بعد أمل لأنها امتناع نيل ما أمل. 2 - اليأس: قد يكون قبل الأمل وقد يكون بعده (¬3). ¬

(¬1) انظر ((جامع البيان في تأويل القرآن)) الطبري (20/ 102)، ((معاني القرآن وإعرابه))، الزجاج (3/ 181) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) ابن عطية (3/ 366). (¬2) انظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) محيى الدين درويش (9/ 5 - 6)، ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) ابن عطية (3/ 366)، ((معاني القرآن)) النحاس (6/ 314)، ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) العيني (19/ 149)، ((نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) ابن الجوزي (1/ 633). (¬3) انظر ((الفروق اللغوية)) العسكري (1/ 245)، ((النكت والعيون)) الماوردي (1/ 422).

ذم اليأس والقنوط في القرآن والسنة

ذم اليأس والقنوط في القرآن والسنة ذم اليأس والقنوط في القرآن الكريم: وقال تعالى: قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 55 – 56]. قال الطبري: (قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بحقّ يقين، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لك غلاما عليما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى، .. - فقال - إبراهيم للضيف: ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطأوا سبيل الصواب وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله، ولا يخيب من رجاه، فضلوا بذلك عن دين الله) (¬1). قال الواحدي: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ: من الآيسين، والقنوط: اليأس من الخير. قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الحجر: 56] .. قال ابن عباس: يريد ومن ييئس من رحمة ربه إلا المكذبون، وهذا يدل على أن إبراهيم لم يكن قانطا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة به قنوطا، فنفى ذلك عن نفسه وأخبر أن القانط من رحمة الله ضال) (¬2). وقال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36]. قال السعدي: (يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة من صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر، لا فرح شكر وتبجح بنعمة الله. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: حال تسوؤهم وذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي. إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه. وهذا جهل منهم وعدم معرفة) (¬3). قال الماوردي: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ فيه وجهان: أحدهما: أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج, قاله الجمهور، الثاني: أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر, قاله الحسن) (¬4). قال البغوي: (إذا هم يقنطون، ييأسون من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن - فإنه يشكر الله عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة) (¬5). وقال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] قال السعدي: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار) (¬6). وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28]. ¬

(¬1) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) الطبري (17/ 113). (¬2) ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد)) الواحدي (3/ 47). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) السعدي (1/ 642). (¬4) ((النكت والعيون)) الماوردي (4/ 315). (¬5) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) البغوي (3/ 579)، ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) ابن عطية (4/ 338). (¬6) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) السعدي (1/ 727).

قال ابن كثير: (وقوله: وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا أي: من بعد إياس الناس من نزول المطر، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله: وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم: 49]. وهو الولي الحميد أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله) (¬1). وقال تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ [فصلت: 49]. قال الطبري: (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ يقول: فإنه ذو يأس من روح الله وفرجه، قنوط من رحمته، ومن أن يكشف ذلك الشرّ النازل به عنه) (¬2). ذم اليأس والقنوط في السنة النبوية: - عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ الله خلق الرّحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة. وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكلّ الّذي عند الله من الرّحمة لم ييأس من الجنّة، ولو يعلم المسلم بكلّ الّذي عند الله من العذاب لم يأمن من النّار)) (¬3). - وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك -أخطأ من شدة الفرح)) (¬4). قال ابن حجر: (المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت فمن الله عليه برد ضالته) (¬5). - وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ رجلا حضره الموت، فلمّا يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا متّ فاجمعوا لي حطبا كثيرا وأوقدوا فيه نارا، حتّى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثمّ انظروا يوما راحا فاذروه في اليمّ، ففعلوا. فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له)) (¬6). - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد)) (¬7). قال بدر الدين العيني: (لم ييأس من الجنة من اليأس وهو القنوط .. - وقوله - (لم ييئس من الجنة) قلت: قيل: المراد أن الكافر لو علم سعة الرحمة لغطى على ما يعلمه من عظيم العذاب فيحصل له الرجاء، وقيل: المراد أن متعلق علمه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يطمعه في الرحمة) (¬8). - وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: ((إن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله)) (¬9). - وعن فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم. وثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله- عز وجل- رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره العزة، ورجل شك في أمر الله، والقنوط من رحمة الله)) (¬10). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) ابن كثير (7/ 206 - 207). (¬2) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) الطبري (21/ 490). (¬3) رواه البخاري (6469). (¬4) رواه مسلم (2747). (¬5) ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) ابن حجر (11/ 108). (¬6) رواه البخاري (3452). (¬7) رواه مسلم (2755). (¬8) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) بدر الدين العيني (23/ 67)، ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) ابن حجر (11/ 302). (¬9) رواه البزار كما في ((كشف الأستار)) (1/ 71) (106)، وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ص1352)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 107): رجاله موثقون. وحسن إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2051). (¬10) رواه أحمد (6/ 19) (23988)، والحاكم (1/ 206) (411)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (590). وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (3522)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3058).

من أقوال السلف والعلماء في ذم اليأس والقنوط

من أقوال السلف والعلماء في ذم اليأس والقنوط - قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه: (الفقيه حقّ الفقيه: من لم يقنّط النّاس من رحمة الله ولم يرخّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمّنهم من عذاب الله) (¬1). - وقال ابن مسعود: (الهلاك في اثنتين، القنوط، والعجب) (¬2). - وقال أيضاً: (الكبائر ثلاث: اليأسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله) (¬3). - وقال محمد بن سيرين: (الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى) (¬4). - وقال أيضاً: (لا تيأس فتقنط فلا تعمل) (¬5). - وقال سفيان بن عيينة: (من ذهب يقنط الناس من رحمة الله، أو يقنط نفسه فقد أخطأ) (¬6). - وقال الطحاوي: (الأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) (¬7). - وقال البغوي: (القنوط من رحمة الله كبيرة كالأمن من مكره) (¬8). ¬

(¬1) رواه الدارمي (1/ 338) (305)، وأبو داود في ((الزهد)) (ص115). (¬2) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121). (¬3) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) الطبري (8/ 246). (¬4) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) البغوي (1/ 217). (¬5) ((العجاب في بيان الأسباب)) ابن حجر العسقلاني (1/ 479). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (7/ 2268) برقم 12406. (¬7) ((العقيدة الطحاوية)) تخريج الألباني (1/ 61). (¬8) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) البغوي (3/ 61)، ((اللباب في علوم الكتاب)) ابن عادل (11/ 471).

حكم اليأس والقنوط

حكم اليأس والقنوط أجمع العلماء على تحريم اليأس والقنوط، ومن اليأس والقنوط ما يخرج من الملة وهو ما انعدم معه الرجاء، ومنه مالا يخرج من الملة وإنما هو من الكبائر. وهما عموماً من أكبر الكبائر بل أشد تحريما من الكبائر الظاهرة كالزنا وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب (¬1). قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله) (¬2). وقال العدوي: (الإياس من الكبائر) (¬3). ما يباح من اليأس: اليأس ليس مذموما في كل الأحوال بل قد يتطلب في بعض المواضع منها: - اليأس مما في أيدي الناس: لحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه واجمع الإياس مما في أيدي الناس)) (¬4). قال الملا علي القاري: (وأجمع الإياس: المعنى اعزم على قطع اليأس أو أجمع خاطرك على قصد اليأس وترك الطمع مما في أيدي الناس أي قناعة بالكفاية المقدرة بالقسمة المحررة المقررة. في قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] إلى أن قال: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 35] وفي الحديث إشارة إلى أن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، وأن الغنى القلبي هو الإياس مما بأيدي الناس) (¬5). قال ابن رجب: (كان عمر- رضي الله عنه- يقول في خطبته على المنبر: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه) (¬6). واليأس مما في أيدي الناس شرط لتحقيق الإخلاص قال ابن القيم: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص) (¬7). - ذكر نصوص الوعيد والعذاب لمن غلب رجاؤه وانهمك في المعاصي: قال البخاري: (كان العلاء بن زياد يذكر النار، فقال رجل لم تقنط الناس، قال: وأنا أقدر أن أقنط الناس، والله عز وجل يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ويقول وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 43] ولكنكم تحبون أن تبشروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم مبشرا بالجنة لمن أطاعه، ومنذرا بالنار من عصاه) (¬8). ¬

(¬1) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (5/ 160)، ((إحسان الظن بالله والتحذير من اليأس والقنوط)) فهد بن سليمان الفهيد (1/ 11 - 114)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) ابن حجر الهيتمي (1/ 149)، ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) ابن قيم الجوزية (1/ 133). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (8/ 243). (¬3) ((حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني)) العدوي (2/ 441). (¬4) رواه ابن ماجه (4171)، وأحمد (5/ 412) (23545). وضعف إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 227)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (802)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (742). (¬5) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) الملا علي القاري (8/ 3270) برقم 5226. (¬6) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 223)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/ 357). (¬7) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 149). (¬8) ((صحيح البخاري)) (6/ 226).

أقسام اليأس من رحمة الله

أقسام اليأس من رحمة الله 1 - اليأس التام: وهذا يخرج من الإسلام إذا لم يوجد الرجاء معه تماما. 2 - يأس ناقص: وهو يأس عصاة المسلمين بسب كثرة المعاصي وهذا لا يخرج من الملة ولكنه من كبائر الذنوب (¬1). ¬

(¬1) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 629)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) لخالد المصلح (14/ 6)، ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر (13/ 386).

آثار ومضار اليأس والقنوط

آثار ومضار اليأس والقنوط 1 - اليأس والقنوط من صفات الكافر: قال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 55 - 56]. وقال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. قال السعدي: (يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط) (¬1). قال ابن عطية: (اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين) (¬2). 2 - اليأس والقنوط ليس من صفات المؤمنين: قال البغوي: (إذا هم يقنطون، ييأسون من رحمة الله، وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر الله عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة) (¬3). قال القاسمي: (الجزع واليأس من الفرج عند مسّ شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان) (¬4). 3 - اليأس والقنوط فيه تكذيب لله ولرسوله: قال ابن عطية: (اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى) (¬5). قال القرطبي: (اليأس من رحمة الله، .. فيه تكذيب القرآن، إذ يقول وقوله الحق: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجر واسعا. هذا إذا كان معتقدا لذلك، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وبعده القنوط، قال الله تعالى: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر: 56]) (¬6). 4 - اليأس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى: قال سيد العفاني: (الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه وجهل بها) (¬7). 5 - سبب في الوقوع في الكفر والهلاك والضلال: قال القاسمي: (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً [الإسراء: 83] إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى. بالإعراض عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مسّ شر قضى عليه) (¬8). قال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني- في تفسير قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 159]-: (الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى) (¬9). 6 - الفتور والكسل عن فعل الطاعات والغفلة عن ذكر الله: قال ابن حجر الهيتمي: (القانط آيس من نفع الأعمال ومن لازم ذلك تركها) (¬10). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (1/ 378). (¬2) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) لابن عطية (3/ 274). (¬3) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن))، للبغوي (3/ 579)، ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز))، لابن عطية (4/ 338). (¬4) ((محاسن التأويل))، للقاسمي (6/ 499). (¬5) ([4984]) ((المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز))، لابن عطية (3/ 274). (¬6) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي بتصرف يسير (5/ 160). (¬7) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 673). (¬8) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (6/ 499). (¬9) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) للبغوي (1/ 217). (¬10) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 122).

قال فخر الدين الرازي: (وإذا مسه الشر كان يؤسا أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوسا شديد اليأس من رحمة الله ... إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله، وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبدا عن ذكر الله) (¬1). 7 - الاستمرار في الذنوب والمعاصي: قال أبو قلابة: (الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]) (¬2). 8 - سبب في الحرمان من رحمة الله ومغفرته: قال المباركفوري: (إن اعتقد أو ظن- الإنسان - أن الله لا يقبلها- أعماله - وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق حديث-: ((أنا عند ظن عبدي بي- فيظن بي عبدي ما شاء))) (¬3). 9 - سبب لفساد القلب: قال ابن القيم وهو يعدد الكبائر: (الكبائر: .. القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله .. ، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن) (¬4). 10 - ذهاب سكينة القلب والشعور الدائم بالحرمان والحزن والهم: قال عبد الله الجربوع: (اليأس من روح الله والقنوط من رحمته؛ يؤدي إلى ترك العمل، إذ لا فائدة منه بزعمه، وهذه طامة من الطوام وكبيرة من كبائر الذنوب، تُخرج القلب عن سكينته وأنسه إلى انزعاجه وقلقه وهمه) (¬5). قال الشوكاني: (إذا مسه- الإنسان - الشر من مرض أو فقر كان يؤسا شديد اليأس من رحمة الله وإن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة) (¬6). ¬

(¬1) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (21/ 391). (¬2) ((معالم التنزيل في تفسير القرآن)) للبغوي (1/ 217). (¬3) رواه الطبراني في ((الكبير)) (22/ 88). (¬4) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن قيم الجوزية (1/ 133). (¬5) ((أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة)) لعبد الله الجربوع (2/ 480) بتصرف يسير. (¬6) ((فتح القدير)) الشوكاني (3/ 301)، ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (4/ 380).

صور اليأس والقنوط

صور اليأس والقنوط مظاهر وصور اليأس والقنوط كثيرة ومن هذه الصور: 1 - اليأس والقنوط من مغفرة الله للذنوب. 2 - اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب. 3 - اليأس من التغيير للأفضل: ويتمثل في يأس الإنسان من تحصيل ما يرجوه في أمر من أمور الدنيا كجاه أو مال أو زوجة أو أولاد وغيرهم. 4 - اليأس من نصر الإسلام وارتفاع الذل والمهانة عن المسلمين. 5 - اليأس والقنوط من توبة العصاة والتخذيل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويكون التخذيل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى عدم وجود تغير ملموس وفائدة، كما قال تعالى حكاية عن بعض الناس وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164]. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك، وأنكرت واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164]؟ أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: نفعل ذلك مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم) (¬1) .. ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 494).

أسباب اليأس والقنوط

أسباب اليأس والقنوط 1 - الجهل بالله سبحانه وتعالى: قال ابن عادل: (القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور: أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادرا عليه. وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالما باحتياج ذلك العبد إليه. وثالثها: أن يجهل كونه تعالى، منزها عن البخل، والحاجة. والجهل بكل هذه الأمور سبب للضلال، والقنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكره) (¬1). وقال ابن القيم: (الكبائر: .. القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله .. وتوابع هذه الأمور إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها) (¬2). 2 - الغلو في الخوف من الله سبحانه وتعالي: قال ابن القيم: (لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط، واليأس من رحمة الله. فإن هذا الخوف مذموم، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله. فما زاد على ذلك: فهو غير محتاج إليه، وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله تعالى، التي سبقت غضبه، وجهل بها) (¬3). ولغلبة هذا الخوف على قلب اليائس أسباب منها: (إدراك قلبه من معاني الأسماء والصفات ما يدل على عظمة الله وجبروته وسرعة عقابه وشدة انتقامه، وحجب قلبه عن الأسماء الدالة على الرحمة واللطف والتوبة والمغفرة ... الخ، فيسيطر على القلب الخوف فيسلمه ذلك إلى اليأس من روح الله والقنوط من رحمته) (¬4). 3 - مصاحبة اليائسين والقانطين والمقنطين: فإن مصاحبة هؤلاء تورث اليأس والقنوط من رحمة الله إما مشابهة أوعقوبة للاختلاط بهم. 4 - التعلق بالأسباب: قال فخر الدين الرازي: (الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس) (¬5). 5 - التشدد في الدين وترك الأخذ بالرخص المشروعة: قال المناوي: (قال الغزالي رحمه الله: هذا قاله – يقصد حديث إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته- تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركوا الميسور من الخير عليهم لعجزهم عن منتهى الدرجات فما أرسل إلا رحمة للعالمين كلهم على اختلاف درجاتهم وأصنافهم) (¬6). 6 - قلة الصبر واستعجال النتائج: إن ضعف النفوس عن تحمل البلاء والصبر عليه واستعجال حصول الخير يؤدي للإصابة باليأس والقنوط لاسيما مع طول الزمن واشتداد البلاء على الإنسان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) (¬7). قال القرطبي: (والقائل قد دعوت فلم أر يستجاب لي ويترك قانطا من رحمة الله وفي صورة الممتن على ربه ثم إنه جاهل بالإجابة فإنه يظنها إسعافه في عين ما طلب فقد يعلم الله تعالى أن في عين ما طلب مفسدة) (¬8). ¬

(¬1) ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (11/ 471). (¬2) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن قيم الجوزية (1/ 133). (¬3) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن قيم الجوزية (2/ 371). (¬4) ((أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة)) لعبد الله الجربوع (2/ 480). (¬5) انظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (17/ 322 - 323) بتصرف يسير. (¬6) ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) لعبد الرؤوف المناوي (2/ 296). (¬7) رواه مسلم (2735). (¬8) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (7/ 63).

وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ لرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) (¬1). وقال ابن القيم: (من استطال الطَّرِيق ضعف مَشْيه وَمَا أَنْت بالمشتاق إِن قلت بَيْننَا ... طوال اللَّيَالِي أَو بعيد المفاوز) (¬2). 7 - تعلق القلب بالدنيا: فمن أسباب اليأس والقنوط الأساسية تعلق القلب بالدنيا والفرح بأخذها والحزن والتأسف على فواتها بكل ما فيها من جاه وسلطان وزوجة وأولاد ومال وعافية قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36]. 8 - دنو الهمة والاستسلام للواقع وضعف الرغبة في التغيير: قال محمد بن إبراهيم الحمد: (اليأس من الإصلاح يقع فيه كثير من الناس فإذا عاين الشرور المتراكمة والمصائب والمحن والفتن ومن الفرقة والتناحر والاختلاف الذي يسري في صفوف المسلمين يأس من الإصلاح .. ومثل ذلك في شأن كثير من الناس ممن يسرف على نفسه بالمعاصي ويتيه في أودية الرذيلة فتجده ييأس من إصلاح حاله والرقي بها إلى الأمثل بل ربما ظن أن التغيير مستحيل .. وهذا كله مظهر من مظاهر دنو الهمة وصغر النفس والعجز عن مواجهة المتاعب والمصاعب) (¬3). 9 - التركيز على جانب الترهيب فقط في الدعوة إلى الله تعالى. ¬

(¬1) رواه البخاري (6943). (¬2) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 78). (¬3) انظر: ((الهمة العالية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (1/ 50).

الوسائل المعينة للتخلص من اليأس والقنوط

الوسائل المعينة للتخلص من اليأس والقنوط 1 - الإيمان بأسماء الله وصفاته: أن العلم والإيمان بأسماء الله وصفاته وخاصة التي تدل على الرحمة والمغفرة والكرم والجود تجعل المسلم لا ييأس من رحمة الله وفضله، قال علوي السقاف: (إذا علم العبد وآمن بصفات الله من الرحمة، والرأفة، والتَّوْب، واللطف، والعفو، والمغفرة، والستر، وإجابة الدعاء؛ فإنه كلما وقع في ذنب؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه، وطمع فيما عند الله من سترٍ ولطفٍ بعباده المؤمنين، فأكسبه هذا رجعة وأوبة إلى الله كلما أذنب، ولا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، كيف ييأس من يؤمن بصفات الصبر، والحلم؟! كيف ييأس من رحمة الله من علم أن الله يتصف بصفة الكرم، والجود، والعطاء) (¬1). 2 - حسن الظن بالله ورجاء رحمته: قال السفاريني: (حال السلف رجاء بلا إهمال، وخوف بلا قنوط. ولابد من حسن الظن بالله تعالى) (¬2). فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬4). قال الشافعي: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي دون عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما فإن تنتقم مني فلست بآيس ... ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما ولولاك لم يغوى بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما وإني لآتي الذنب أعرف قدره ... وأعلم أن الله يعفو ترحما (¬5) 3 - تعلق القلب بالله والثقة به: لا بد على المرء أن يعلق قلبه بالله ويجعل الثقة به سبحانه وتعالى في كل أحواله و (لا يليق بالمسلم أن ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته، ولا يكون نظره مقصوراً على الأمور المادية والأسباب الظاهرة، بل يكون متلفتا في قلبه في كل وقت إلى مسبب الأسباب إلى الكريم الوهاب متحريا للفرج واثقا بأن الله سيجعل بعد العسر يسرا ومن هنا ينبعث للقيام بما يقدر عليه من النصح والإرشاد والدعوة ويقنع باليسير إذا لم يمكن الكثير وبزوال بعض الشر وتخفيفه إذا تعذر غير ذلك) (¬6). 4 - أن يكون بين الخوف والرجاء: قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]. ¬

(¬1) ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السَّقَّاف (1/ 36). (¬2) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 466). (¬3) رواه البخاري (7405)، مسلم (2675) واللفظ له. (¬4) رواه الترمذي (3540)، وأحمد (5/ 167) (21510). قال الترمذي: حسن غريب. وصحح إسناده الضياء في ((المختارة)) (4/ 399)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6065). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 76). (¬6) انظر: ((الهمة العالية)) لمحمد الحمد (1/ 50).

قال السفاريني: (نص الإمام - أحمد – رضي الله عنه: ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدا. فأيهما غلب صاحبه هلك. وهذا هو العدل، ولهذا من غلب عليه حال الخوف أوقعه في نوع من اليأس والقنوط، إما في نفسه، وإما في أمور الناس، ومن غلب عليه حال الرجاء بلا خوف أوقعه في نوع من الأمن لمكر الله، إما في نفسه وإما في الناس) (¬1). 5 - الإيمان بالقضاء والقدر: إذا علم المرء وأيقن أن كل ما حصل له هو بقضاء الله وقدره يستريح قلبه ولم ييأس لفوات شيء قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]. وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11]. قال ابن القيم: (إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد أحدها مشهد التوحيد وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن الثاني مشهد العدل وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه الثالث مشهد الرحمة وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه ورحمته حشوه الرابع مشهد الحكمة وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا الخامس مشهد الحمد وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه السادس مشهد العبودية وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه) (¬2). 6 - الصبر عند حدوث البلاء: وذلك أن الله سبحانه ذم اليائسين من رحمته عند حصول البلاء واستثنى من الذم الصابرين على البلاء وجعل لهم الثواب العظيم. فقال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: 9 - 11]. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت بسبب البلاء فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضرر أصابه. فإن كان لا بد فاعلا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)) (¬3). 7 - الدعاء مع الإيقان بالإجابة: قال تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام لما عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان وانقطاع الأمل وحصول اليأس في رجوعه قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف: 86]. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)) (¬4). ¬

(¬1) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 462). (¬2) ((الفوائد)) لابن القيم (1/ 32). (¬3) رواه البخاري (5671)، ومسلم (5680). واللفظ للبخاري. (¬4) رواه الترمذي (3479)، وأحمد (2/ 177) (6655). قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الحاكم (1/ 670): إسناده مستقيم. وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (6655).

وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)) (¬1). قال القرطبي:- ينبغي - (استدامة الدعاء وترك اليأس من الإجابة وداوم رجائهما واستدامة الإلحاح في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء) (¬2). والمرء مع إلحاحه في الدعاء عليه أن يوقن بأن (النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا) (¬3). 8 - الأخذ بالأسباب: يظهر لنا جلياً في قصة يوسف عليه السلام الأخذ بالأسباب وترك الاستسلام لليأس فقد قال نبي الله يعقوب عليه السلام لأولاده لما أبلغوه فقد ابنه الثاني: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. قال السعدي: (ورد النهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء. فإن في تمني الموت لذلك مفاسد. .. منها: أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل. ويوقع في اليأس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به. وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه .. فيجعل العبد الأمر مفوضا إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه) (¬4). 9 - الزهد في الدنيا: فمن أسباب اليأس والقنوط الأساسية تعلق القلب بالدنيا والفرح بأخذها والحزن والتأسف على فواتها بكل ما فيها من جاه وسلطان وزوجة وأولاد ومال وعافية .. الخ فاعلم أن الله سبحانه يعطي الدنيا لمن لا يحب ومن يحب ولا يعطي الآخرة إلا لمن أحب وقد منع أحب الخلق إليه وأكرمهم عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها فخرج وما ملأ بطنه من خبز البر ثلاث أيام متواليات، وأن المرء لن يأخذ أكثر مما قدر له فلا ييأس ولا يقنط لفوات شيء. ¬

(¬1) رواه مسلم (2735). (¬2) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (7/ 63). (¬3) رواه أحمد (1/ 307) (2803)، والطبراني (11/ 123) (11243)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (147)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (10/ 23) (13). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال البيهقي في ((الاعتقاد)): [له] شواهد عن ابن عباس، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/ 333)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 459): حسن جيد، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327)، وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188): حسن وله شاهد، وحسنه محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (1/ 200)، وقال السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (111): بمجموع أسانيده يصل إلى درجة الحسن، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/ 287). (¬4) انظر ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) للسعدي (1/ 175 - 176) بتصرف يسير.

قصص في اليأس والقنوط

قصص في اليأس والقنوط إذا استحكم اليأس والقنوط من زوال البلاء عجزت النفوس وضاقت السبل وضاعت الحيل حتى تعجز الأقدام عن حمل أصحابها ومن تلك القصص: 1 - قصة نبي الله يعقوب عليه السلام: فقصة نبي الله يعقوب عند فقد ابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام درس عظيم في ترك اليأس وحسن الظن بالله والصبر على البلاء ورجاء الفرج من الله في عدة مواضع منها: - عندما جاءه نعي أحب أولاده إليه يوسف عليه الصلاة والسلام وهذا أعظم المصائب على قلب الأب لم يفقد صوابه وقابل قدر الله النازل بالصبر والاستعانة والحلم والاستكانة بالله سبحانه في رفعه. قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] - ولما عظمت المصيبة بفقد ابنه الثاني ازداد صبره وعظم رجاؤه في الفرج من الله سبحانه فقال لأبنائه قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 83]. - حين عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان وانقطاع الأمل وحصول اليأس في رجوعه قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف: 86]. - وأخذ بالأسباب في السعي والبحث عن يوسف وأخيه فقال لأبنائه: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. - فكانت العاقبة لمن صبر وأمل ورضي ولم يتسخط قال تعالى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ من عند الحبيب مبشراً باللقاء القريب أَلْقَاهُ قميص يوسف عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا فرجع البصر وبلغ الأمل وزال الكرب وحصل الثواب لمن صبر ورضي وأناب قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف: 96]. 2 - ذكر التنوخي بسنده عن: (عبيد الله بن سليمان، يقول في وزارته: قال: لي أبي: كنت يوما في حبس محمد بن عبد الملك الزيات، في خلافة الواثق، آيس ما كنت من الفرج، وأشد محنة وغما، حتى وردت علي رقعة أخي الحسن بن وهب، وفيها شعر له: محن أبا أيوب أنت محلها ... فإذا جزعت من الخطوب فمن لها إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره فيك يحسن حلها فاصبر فإن الله يعقب فرجة ... ولعلها أن تنجلي ولعلها وعسى تكون قريبة من حيث لا ... ترجو وتمحو عن جديدك ذلها قال: فتفاءلت بذلك، وقويت نفسي، فكتبت إليه: صبرتني ووعظتني وأنالها ... وستنجلي بل لا أقول لعلها ويحلها من كان صاحب عقدها ... ثقة به إذ كان يملك حلها قال: فلم أصل العتمة ذلك اليوم، حتى أطلقت، فصليتها في داري، ولم يمض يومي ذاك، حتى فرج الله عني، وأطلقت من حبسي، وروي أن هاتين الرقعتين وقعتا بيد الواثق، الرسالة والجواب، فأمر بإطلاق سليمان، وقال والله، لا تركت في حبسي من يرجو الفرج، ولا سيما من خدمني، فأطلقه على كره من ابن الجراح الزيات لذلك) (¬1). 3 - من يائس من تعلم علم النحو إلى إمام فيه: قال الشيخ ابن عثيمين: (قد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعاماً لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إماماً في النحو، فينبغي أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيراً) (¬2). ¬

(¬1) ((الفرج بعد الشدة)) للتنوخي (1/ 186 - 188). (¬2) ([5023]) انظر: ((كتاب العلم)) لابن عثيمين (26/ 121_ 122) بتصرف يسير.

كلمات في اليأس والقنوط

كلمات في اليأس والقنوط أخي الكريم لا تيأس ولا تقنط فإن: 1 - المؤمن يذنب ويتوب ووعد سبحانه بأنه يغفر لمن تاب. 2 - كتب ربكم على نفسه الرحمة. 3 - يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرت الله غفر لك. 4 - الذي خلقك هو أعلم بما يصلحك. 5 - ليس دوما يبتلى العبد ليعذب بل ليصطفى ويهذب. 6 - إنما يوجد الذهب في بطون الجبال لا في قارعة الطريق فتأمل. 7 - يأس من قبلك فضاع عمره وفسد قلبه وتنكدت حياته فاحذر. 8 - تفاءل بالخير تجده. 9 - لا تنظر للنصف الفارغ من الكوب. 10 - إن مع العسر يسرا ولن يغلب عسرا يسرين. 11 - لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر. 12 - أنعم الله عليك فلا تنكر نعم الله. 13 - ميزك الله بقدرات ليست فيمن حولك فحاول أن تكتشفها. 14 - لا تيأس ولا تقنط؛ فالأذان رفع فوق الكعبة بعد سنين من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. - وكان يقال لو أسلم حمار الخطاب لأسلم عمر، ثم كان الفاروق. - ويتحول الفضيل بن عياض من لص قاطع الطريق إلى إمام في الدين. - ويُرفع الصليب على المسجد الأقصى تسعون سنة ثم يُرفع فيه الأذان. - ويُنصر المسلمون على التتار بعد 41 عاماً من القتل والأسر والتشريد. وهكذا دواليك ...

اليأس والقنوط في واحة الشعر ..

اليأس والقنوط في واحة الشعر .. قال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني: إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب وأوطأت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب (¬1) وقال آخر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج (¬2) وقال ابن القيم: بالله أبلغ ما أسعى وأدركه ... لابي ولا يشفع لي من الناس إذا أيست وكاد اليأس يقطعني ... جاء الرجا مسرعا من جانب اليأس (¬3) وقال النابغة: واليأس مما فات يعقب راحة ... ولرب مطمعة تكون ذباحاً (¬4) وقال القحطاني: ولأحسمن عن الأنام مطامعي ... بحسام يأس لم تشبه بناني (¬5) ... ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 42 - 433). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 42 - 433). (¬3) ((الفوائد)) ابن القيم (1/ 32). (¬4) ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 309). (¬5) ((القصيدة النونية) للقحطاني (1/ 18).

§1/1